رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الحادي والأربعون
الفصل الحادي والأربعون (باب جديد)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
–
وإذا الصديقُ رأى صديقهُ في كُربةٍ
فكأنّما هو قد أصيبَ وأوجعا
”
البحتري
”
____________
كان يسير بخطًى هادئة، يلفّه سكون اليوم، وشيء من التعب اللطيف بعد يوم طويل قضاه بين جدران المسجد، يلقّن الأطفال آيات الله بطمأنينة المحبّ لما يفعل.
في يده اليمنى كانت سبّحته تتدلّى، تتهتز مع خطواته الوئيدة، بينما عينيه لا تفارقان الأرض كالمعتاد… لكن فجأة اخترق أذانه صوتٌ حاد، لصافرة مألوفة، مزّقت هدوء
اللحظة.
توقف، رفع رأسه ببطء، وفي عينيه ارتباك، وهناك، على بعد خطوات، رأى سيارة إسعاف متوقفة أمام باب بيته تمامًا.
اتسعت عيناه كأن الزمن اتسع بداخله فجأة، وتجمّدت قدماه في الأرض كأنهما التصقتا بها. ظل هكذا، متيبسًا كجذع شجرة ضربه البرق، لا حركة، لا صوت، فقط عينيه تتابعان المشهد أمامه بذهول.
لم يدم هذا السكون سوى لحظة، قبل أن تندفع فيه الحياة فجأة، فانتفض جسده كمن استفاق من كابوس، وانطلق يهرول بخطوات مشوشة، أقرب إلى الركض منها إلى السير.
لكن ما هي إلا خطوتين حتى شُلّت قدماه مجددًا، توقّف وقد خارت ركبتاه، حين رأى المسعفين يركضون بجسد مستلقٍ على الحمالة، تغمره البطانية البيضاء.
وخلفهم، كان صديقه يركض بلهفة، وجهه مشوّه بالقلق، حتى توقف فجأة واستدار نحو والدته وشقيقته، يهتف بصوت متهدّج، تكسّرت فيه كلماته على صخور الارتباك:
“خدي أمك واطلعي يا ضحى… وأنا هبقى أطمنكم.”
تقدّمت ضحى خطوة، بعينين دامعتين ورفضٍ صامت يتصاعد من قلبها، وردّدت بحدة، تقاوم الانهيار:
“لا… إحنا هنيجي معاك.”
هزّ رأسه، والدموع تختنق في صوته وهو يصرّ:
“ماينفعش تيجي معايا… مش شايفة أمك عاملة إزاي؟ خديها واطلعي فوق، ياضحى.”
أمسك بكتفها، وعيناه ترجوانها أكثر مما يأمران:
“والله هبقى أطمنكم، وهفضل على تواصل معاكم… أبوس إيدكِ، اسمعي الكلام.”
أنهى كارم جملته، ثم أشار برأسه نحو والدته، إشارة خافتة لكنها تحمل كل ما يعجز اللسان عن قوله.
كانت تقف هناك على بُعد خطوات، متهالكة، تتشبّث بصرختها كأنها آخر ما تبقى لها من توازن، وهي ترى زوجها يُحمل من جديد، للمرة الثانية، في ذات المشهد الذي ظنّت أنها تجاوزته منذ زمن. صوتها كان ممزوجًا بالذهول، والوجع الذي لا يجد مخرجًا سوى في صراخ حادّ يخترق سكون المكان كالسهم.
ابتلعت ضحى ريقها، ومضت بعينيها إلى عيني شقيقها، لتجد فيهما تلك الرجفة العارية… لا رجفة خوف فحسب، بل انكسار مرّ، عجز موجع، ورجاء خافت… كأنه يقول لها دون صوت: “ساعديني.”
نظرت إليه بعمق، ثم أومأت برأسها ببطء، وأعقبت ذلك بحركة رقيقة من يدها وهي تمسح دموع أمها، كأنها تخبره: “اتركها لي… أنا هنا.”
عندها فقط، التفت كارم نحو سيارة الإسعاف، وتحرك بخطوات سريعة، كأن كل ثانية تأخر فيها كانت تنزع من قلبه شيئًا، وما إن همّ بالصعود حتى قُطع المشهد بصوت قوي اندفع من الخلف:
“استنّى يا كارم!”
كان الصوت صوت حسن، خرج في اللحظة نفسها التي اندفع فيها محسن وحسين من باب البيت العلوي، بعد أن سمعوا صافرة السيارة، ورأوا ما حدث من الشرفة، وبالطبع حين وقعت أعينهم عن المشهد تحركت أجسادهم فوراً.
توقف كارم، وأدار رأسه نصف التفاتة، وعيناه معلقتان بصاحبه دون أن ينبس بكلمة، بينما اقترب حسن منه حتى وقف أمامه تمامًا، ونظر في عينيه بثبات وقال:
“أنا جاي معاك.”
صعد إلى السيارة بخفة وإصرار، واستدار نحو كارم الذي ما زال مترددًا، فحثّه بنبرة لا تحتمل نقاشًا:
“يلا… اركب.”
صعد كارم دون أن يتكلم، وجلَس بجواره، وعيناه لا تفارقان حسن، الذي استدار نحو الباب المفتوح، حيث وقف اخوته في ذهول، ثم قال بسرعة قبل أن تُغلق الأبواب:
“واحد فيكم يبلّغ سامي وموسى… وحصّلونا بسرعة… يلا!”
انطلقت سيارة الإسعاف تشق طريقها في الشارع، تبتعد شيئًا فشيئًا، تاركة خلفها أثرًا ثقيلًا في الصدر، وقلوبًا خائفة تتأرجح بين الدعاء والقلق، وبين أملٍ ضعيف لا يكاد يقف على قدميه.
وقف محسن في مكانه، يتابع الأضواء الحمراء الباهتة وهي تتلاشى في عمق الطريق، ثم التفت نحو شقيقه حسين.
تبادلا نظرات صامتة، فيها من الفهم ما يغني عن الكلام، إلى أن كسر محسن الصمت بنبرة حازمة تخنقها العجلة:
“رن عليهم يلا.”
أومأ حسين دون كلمة، وأخرج هاتفه على الفور، بدأ بالاتصال بكلٍ من سامي وموسى، في اللحظة، التي اتجه محسن فيها نحو ضحى بخطوات سريعة، التي وقفت متماسكة على عتبة بيتها، رغم ارتعاش في يدها لا يمكن إخفاؤه.
قال وهو يقترب:
“خدي خالتي واطلعي… وارميلي مفتاح مكنة كارم بسرعة.”
أومأت سريعًا دون كلمة، ثم اقتربت من والدتها، ضمّتها بذراعيها بشيء من الحنان والقوة في آن، ثم صعدت بها بخطوات ثابتة، صامتة، بينما عينا محسن تراقبان المشهد، ويقلبه مشهد سيارة الإسعاف وهي تبتعد.
أخرج زفرة طويلة من صدره، كأنها تحمل ثقل اللحظة كلها، ثم رفع بصره إلى السماء، وقال بصوت خافت، كأنه يناجي الله لا الناس:
“يا رب… استر.”
_________________
بعد دقائق مرت كأنها دهر…
كان وقع الأقدام في ممر المستشفى صاخبًا رغم الصمت، خطوات ثقيلة سريعة، تحمل في جريانها جدية الموقف وهلع القلوب.
كان الأربعة يسيرون بخطوات متوترة، أقرب إلى الركض منها إلى المشي، يتقاسمون القلق في النظرات والأنفاس المتقطعة.
توقفوا دفعة واحدة عندما أبصروا كارم يدفع السرير المتحرك الذي يستلقي عليه والده، لم يكن يلتفت يمينًا ولا يسارًا، فقط عينيه ثابتتان على الجسد المغطى، كأنهما تتوسلان إليه ألا يخذله هذه المرة.
اندفع السرير نحو إحدى الغرف، وتبعه الطاقم الطبي بخفة مدرّبة، حتى انغلق الباب فجأة، تاركًا خلفه كارم في المنتصف، واقفًا كمن انتُزع منه شيء لم يكن مستعدًا لتوديعه بعد.
ظل يحدّق في الباب، ونظراته شاردة ومضطربة، كأن عينيه ما زالتا عالقتين بالسرير، تتوسلان معرفة ما سيحدث خلف الجدار الأبيض.
عاد بضع خطوات إلى الوراء ببطء، حتى استند بجسده المنهك إلى الجدار، كأن الأرض لم تعد قادرة على حمله، أو كأن شيئًا داخله انهار ولم يجد غير الحائط يسنده.
أما حسن فكان يقف على بعد خطوات، يراقبه بصمت، وفي اللحظة التي كان سيقترب منه، توقف الأربعة أمامهما، تتقدّمهم اللهفة، ويشدّهم القلق، ثم قال سامي بصوت متسرع يخنقه التوتر:
“إيه اللي حصل يا كارم؟… عمي عبد الله ماله؟”
رفع كارم عينيه نحو سامي، نظرة تغلي بالغضب والقهر، قبل أن يمرر يده بعنف بين خصلات شعره السوداء، كأنما يحاول نزع الفوضى من رأسه، ثم انفجر صوته محمّلاً بكل ما عجز قلبه عن احتماله:
“عمي رجب… هو السبب، هو اللي عمل كده!”
هتف بها بحرقة، كأنها طعنة خرجت من صدره.
“اتصل بيه وقاله يجيب عمتي علشان يِمضّوا على أوراق التنازل… أبويا اتضايق، وابتدى يشد معاه، صوته علي، وأنا طلعت بسرعة علشان أفهم في إيه… لقيت أبويا واقع على الأرض، حاطط إيده على صدره، وبيتألم…!”
سكت لحظة، كأن الصورة ما تزال تحاصره، ثم أغلق عينيه بقوة، وأسند رأسه للحائط من جديد.
عمّ الصمت لثوانٍ، قبل أن يقطعه موسى وقد انفلتت منه الكلمات بدهشة ووجع:
“لا حول ولا قوة إلا بالله… هو عمّك ده إيه؟ مش كفاية أكل حق أبوك وعمتك؟ لسه عايز إيه؟!”
ردّ كارم بصوتٍ مشبع بالحنق:
“عايز يضمن إن مافيش حد منهم يرجع يطالبه بحقه، ولا أنا ولا أختي كمان نرجع نقوله فين نصيب أبونا؟ لا دلوقتي، ولا بعد سنين، هو عايز ينهي الموضوع دي للأبد.”
زمّ موسى شفتيه، وقال بحدّة:
“عمّك ده عايز الحرق.”
فاجأهم صوت كارم، أكثر حدة ومرارة، يكاد ينفجر من صدره:
“بجاز وسخ! والله العظيم بجاز وسخ! أقسم بالله، لولا إن أبويا محلفني ما أقرّب له ولا أكلّمه، لكنت رُحت له و ولعت فيه، بس والله… والله، لو أبويا جراله حاجة، ما هرحمه، هكون دفنته قبل ما أدفن أخوه.”
تجمّدت الأنفاس في اللحظة، وصمت الجميع، كأن الغضب الذي خرج من فم كارم كان أكبر من قدرة المكان على احتماله…
لكن قبل أن تكتمل لحظة الانفجار، انفتح الباب فجأة وخرج منه الطبيب. تسارعت الأجساد نحوه في لحظة واحدة، كما لو أن قلوبهم قُذفت إليه، كأن كل واحد منهم كان يمسك بأنفاسه منتظرًا خروجه.
تقدم كارم أولهم، وصوته يسبق خطاه، محمّل برجفة واضحة، لم يحاول إخفاءها:
“طمني يا دكتور… أبويا عامل إيه؟!”
توقف الطبيب أمامهم، وتنهّد بصوت قصير، قبل أن ينطق بكلمات ثقيلة سقطت على آذانهم كالرصاص:
“للأسف… جلطة.”
تجمدت الملامح، ونظر الطبيب إلى كارم تحديدًا، ثم تابع بنبرة جادة:
“والدك حصل له انسداد في الدعامة اللي ركبناها له قبل كده… والوضع محتاج تدخل جراحي فوري، لازم عملية… حالًا.”
سقطت الكلمات على كارم كأنها صفعة، اتسعت عيناه، وارتخى جسده، بينما ابتلع الباقون الصدمة في صمت.
أما الطبيب، فتابع حديثه بعملية:
“إحنا بنجهزه حاليًا للعمليات… يستحسن حضرتك تبدأ في الإجراءات فورًا، الممرضة هنا هتساعدك، وهتقولك تعمل إيه خطوة بخطوة… عن إذنكم.”
انصرف تاركاً خلفه ثقل الخبر معلّقًا في الهواء، يرزح فوق الصدور.
وخاصة كارم، الذي ظل واقفًا في مكانه كمن يحمل جبالًا على ظهره، أغمض عينيه بقوة كأنه يحاول إغلاق العالم للحظة، ثم زفر زفرة طويلة مريرة خرجت من الأعماق، لا تُسكِت الوجع لكنها تؤجله قليلاً.
شعر بيدٍ تُوضع على كتفه، فتحت عينيه على وقع لمسة هادئة كانت كل ما يحتاجه في تلك اللحظة، ليجد موسى أمامه، وجهه ممتلئ بالجدية والرفق معًا، يقول بهدوء:
“يلا… علشان نخلص الإجراءات.”
أومأ كارم بصمت، دون كلمة، كأنه لا يملك طاقة الحديث، فقط زفر مجددًا ومشى بجانب موسى، يتبعهما خطوات الممرضة التي بدأت تشرح لهما ما يجب فعله.
أما الآخرون، فقد وقفوا مكانهم، تبادلوا النظرات فيما بينهم، ثم ثبتوها على ظهر صديقهم المغلوب على أمره، كأنهم يحمّلونه دعواتهم وهمسهُم، ويرجون في صمت ألا يتعثر بأي شيء… سوى رحمة الله.
_________________
مع مرور الوقت…
كان الصمت سيد اللحظة، لا يقطعه سوى صوت خافت لمكيف الهواء ووقع أنفاس متباينة، نصفها تعب، ونصفها قلق، فيما ظلت عقارب الساعة في الأعلى تتحرك بثقل، كأنها تعاندهم في المرور.
في زاوية غرفة الانتظار أمام العمليات، جلس الستة كمن علّقت أرواحهم بين الحياة واللا حياة.
كان
كارم
يجلس على المقعد الحديدي، متخشبًا في مكانه، يضم يديه إلى بعضهما أمام وجهه، وكتفاه يهتزان بخفة مع كل نفس، كأن جسده بأكمله يعيش ارتباكًا داخليًا لا يهدأ، ونظراته كانت غارقة في الأرض، لا ترى من حولها شيئًا.
بجواره جلس
حسن
، بصمت ثقيل، يفصل بينهما مقعد شاغر بدا كأنّه يُجسّد المسافة بين الألم والكلمات التي لم تُقال، عيناه تلتفتان بين الحين والآخر نحو كارم، ثم تعودان للأمام، كأنهما تراقبان ثقلًا لا يقدر على حمله.
إلى الجانب الآخر، جلس
حسين
، رأسه مائل، وقد غلبه النعاس فاستند على كتف حسن، أنفاسه هادئة لكن ملامحه مشدودة، كأن القلق لم يغادره حتى وهو نائم.
أمامهم، كان
سامي
يجلس، ذراعه تتشابك أمام صدره، ونظرته ثابتة نحو الأرض، وبجواره وقف
محسن
، يتحرك في مكانه من حين لآخر، تارة يرفع يده ليمررها في شعره بملل وقلق، وتارة أخرى ينظر نحو الباب المغلق كمن ينتظر فرجًا لا يأتي.
أما
موسى
، فكان واقفًا عند الجدار، عيناه تتنقّلان بين الوجوه، يتأملهم واحدًا تلو الآخر في صمت.
مرت ثوانٍ أخرى، ثقيلة ومتكررة، كأنها لا تحمل في جوفها إلا الانتظار ذاته، حتى تحرك
موسى
فجأة، كمن اتخذ قرارًا داخليًا.
تقدم نحو
حسين
، الذي كان ما يزال مستندًا برأسه على كتف حسن، وهمس بصوت خافت:
“قوم يا سحس معايا.”
انتفض جسد حسين بعفوية، وقد خرج صوته مشوبًا بالذعر والغفلة:
“إيه؟! في إيه؟!”
ربت موسى على كتفه بنظرة مطمئنة، وقال وهو يرسم على وجهه نصف ابتسامة مصطنعة:
“قوم نروح نجيب ماية من الماركت… يلا.”
رمقه حسين بنظرة نصف نائمة، ثم أشاح بيده بضيق، وقال وهو يتأفف:
“ما تروح لوحدك يا برنس… وابقى اعمل حسابي في حاجة تتاكل، علشان أنا جوعت بصراحة.”
كان الرد الساخر غطاءً واضحًا للضيق، فعضّ موسى على شفته السفلية، كأن شيئًا في داخله يغلي، ثم مدّ يده بقوة ليمسك بكتف صديقه، شدّها بخفة لكن بحزم، وهمس له من بين أسنانه، بصوت خافت لا يسمعه سواهما:
“قوم وإنت ساكت… ياحسين.”
رمقه حسين بنظرة متبرّمة، وفتح فمه ليعترض، لكنه التقط في عيني موسى مايرمى إليه من فعل هذا، فتنهد بتأفف مستسلم، ونهض من مجلسه بكسل ظاهر، دون أن ينبس بكلمة أخرى.
سارا معًا نحو الباب، بخطوات بطيئة متثاقلة، فيما تعمّد موسى أن يترك البقية خلفه، لعل في الصمت الذي يخلفه ابتعادهم، تتفتح نافذة للحوار…
ظل كل شيء ساكنًا، كأن الهواء نفسه توقف احترامًا لثقل اللحظة، لم يتحرك أحد، ولم يُسمع صوت، سوى ذلك الصمت الذي امتلأ به الممر حتى ضاقت به الأرواح.
لكن بعد دقائق من الثبات، تحرّك
محسن
بهدوء، وترك مكانه ليجلس بجوار
سامي
، جلس بمحاذاته، ونكس رأسه، وضمّ يديه أمامه، لا يقول شيئًا… فقط صمته كان أبلغ من أي اعتراف.
ألقى
سامي
عليه نظرة سريعة، تأمل ملامحه للحظة، ثم حرّك بصره نحو
حسن
الجالس غير بعيد، وقال بصوت خفيض، بالكاد سُمع، وكأنه لا يريد سوى أن تصل كلماته لأذنين فقط:
“ما اتكلمتوش من يومها… صح؟”
رفع محسن نظره إليه باستغراب خفيف، لم يطل، ثم أعاد نظره نحو
حسن
، الذي بدا أبعد من أن يُلمس:
“آه…”
نطق بها كأنها كانت محبوسة في صدره منذ أيام؛ فسأل سامي من جديد، لكن هذه المرة بنبرة أقل حذرًا، وأكثر اهتمامًا:
“طب والشيخ سالم؟ عرف حاجة؟”
هزّ محسن رأسه ببطء وهو يرد:
“لأ… لسه ما رجعش من عند عمي، ومش عارف بقى حسن هيقوله ولا لأ.”
سكت سامي لحظة، يزن ما سمعه، ثم نظر إليه بعين جادة، وسأله بصوت أشد وضوحًا:
“طب… إنت عايزه يقوله؟”
ارتبك محسن قليلًا، ابتلع ريقه، ثم تنهد وقال بصوت يشوبه التردد:
“يقول… أو ما يقولش… هو حر.”
لكن سامي لم يتركه كلماته تمرّ، فسأله بنظرة أعمق:
“وأنت مش خايف من رد فعل أبوك لما يعرف؟”
ساد الصمت مرة أخرى، لكن هذه المرة كان أكثر ثقلاً… لم يرد محسن، فقط أطرق رأسه ولم ينبس بحرف.
أومأ سامي برأسه ببطء حينئذ، ثم تنهد وقال بخفوت:
“إنت عارف إنك غلطان يا محسن، عارف ومتأكد إن اللي عملته مش صح… صح؟ معايا حق؟”
لم يستطع محسن إنكار الحقيقة، أومأ رأسه باستحياء، اعتراف صامت محفوف بالندم؛ فابتسم سامي بخفة، ومسح على لحيته القصيرة بلطف، ثم وضع يده على ركبة محسن وقال بصوت رقيق:
“يبقى تعتذر لأخوك يا محسن، تتأسف له، وتحلف له على المصحف إنك مش هتكرر اللي حصل، وتقوله يديك فرصة أخيرة، وإنت مش هتخذله… مش هتخذله، صح؟”
التفت محسن إليه فجأة، كأن الكلمات أيقظت فيه شيئًا ظلّ مكبوتًا، وقال بانفعال لم يحاول كبحه:
“أقسم بالله، ما هعمل كده تاني! ولو عايزني أقفل صفحاتي على النت كلها… معنديش مانع.، الله العظيم يا سامي، أنا اتعلمت الدرس… كفاية العلقة اللي خدتُها يومها… وكفاية خصام حسن ليا اليومين اللي فاتوا.”
توقّف لثانية، كأن العبرة تخنقه، ثم تابع بنبرة مكسورة:
“تخيل… ما بصّش في وشي حتى بالغلط من يومها… غير لما قالي اتصل بيكم علشان نيجي المستشفى… أنا زعلان من نفسي زي ما هو زعلان مني… ولو هيسامحني لما أبوس إيده، أنا مستعد.”
سكت، وابتلع أنفاسه المثقلة، وعيناه تلمعان بما يشبه الدموع، لكنها ما نزلت… كأنها تنتظر إذنًا من حسن… إذن بالصفح، أو حتى نظرة عابرة، تُعيد ما انكسر.
ربت
سامي
بلطف على ركبة
محسن
، لمسة خفيفة لكنها حملت طمأنينة كبيرة؛ فرفع محسن عينيه إليه، ونظراته ضبابية، غائمة بالدموع، فيها شيء من الندم، وشيء آخر من الرجاء.
قال سامي بنبرة هادئة تشبه نسمة في عز الليل:
“خلاص يا محسن… روح اعتذر له، قوله إنك ندمت، وإنك اتعلمت الدرس، وإنك مش هتعمل كده تاني.”
سأل محسن بصوت خافت، كأن قلبه هو من نطق:
“تفتكر… هيسامحني؟”
ابتسم سامي بثقة، ونظر إليه بعينين دافئتين:
“هيسامحك… مفيش أطيب من قلب أخوك، أنت عارف.”
تنهد محسن ومسح دموعه بطرف كمه، ثم ابتسم، ابتسامة صغيرة لكنها حقيقية، متشبعة بالأمل، ووجهه ما زال يحمل بقايا انكسار.
نظر إلى سامي، وقال بحنان:
“طب… وأنت؟ ما بقيتش زعلان مننا… صح؟”
ابتسم سامي مرة أخرى، ابتسامة فيها شيء من العتب النقي، وقال:
“أنا زعلت منكم… علشان زعلتوا من بعض، أنتم إخواتي، يا محسن… ومحدش بيحب يشوف إخواته متخانقين.”
ساد لحظة من الصمت بينهما، لكنها لم تكن ثقيلة، بل دافئة.
ابتسم محسن بحنو، ثم مدّ ذراعيه وعانق سامي بشوق الأخوة، وهو يقول:
“ربنا يخليك لينا يا سامي.”
فردّ عليه سامي، وهو يربت على ظهره بمحبة:
“ويخليكم ليا… يا حبيب أخوك سامي.”
كان العناق بسيطًا… لكنه كان كافيًا لترميم صدع صغير في قلب كل منهما.
كل ذلك دار أمام أعين
كارم
و
حسن
، دون أن يتبادلا كلمة.
كانا يراقبان من بعيد، كأنهما يعيشان المشهد دون أن يشاركوا فيه، لكن كل كلمة قيلت، وكل دمعة نزلت، وكل نظرة واعتذار، لامس شيئًا خفيًا في قلبيهما.
رأيا الندم في وجه محسن، والاحتواء في عينَي سامي، ورأيا الأخوة حين تُرمّم، لا بالصوت العالي، بل بالكلمة الهادئة والعناق الصادق.
وفجأة… وفي لحظة لا شعورية، تنفّس الاثنان بعمق في آنٍ واحد، كأن ثقلًا ما كان على صدريهما قد زال.
تنهد كل منهما بصوت خافت
، لا يسمعه سواهما، ثم طأطآ رأسيهما في ذات اللحظة، وراحا يُطالعان الأرض… لا لشيء، سوى أن المشهد الذي أمامهما كان أكبر من أن يُعبَّر عنه بكلام.
ربما كان في صمت الأرض، ما يواسي قلوب الرجال حين لا يجدون ما يقولونه، وربما، كان ذلك التنهد المتزامن… بداية لشفاءٍ ما.
ظل الاثنان على حالهما، رأساهما منحنيان نحو الأرض، كأنهما يتحاشيان النظر في أعين بعضهما خوفًا من انكشاف ما يُخفيه كل قلب.
صمتٌ مشبع، لا يقطعه إلا صوت الأناس البعيد، وأنفاس ثقيلة تختلط بوجع الانتظار، لكن فجأة، صدح صوت
حسن
، رتيبًا، خافتًا، كأنه يتسلل من عمق زمنٍ نائم:
“فاكر أول مقابلة بيني وبينك؟”
رفع
كارم
رأسه ببطء، وعلى وجهه شيء من الحيرة، ثم التفت حوله كمن يظن أن الحديث ليس موجّهًا له، لكن نظرة
حسن
كانت ثابتة عليه، مباشرة، خالية من المواربة.
حينها فقط، فهم كارم أنه هو المقصود؛ فتنهد تنهدًا ثقيلاً، ثم أعاد نظره إلى الأرض، ورد بصوت خافت يشوبه تعب داخلي:
“يوم ما أمي جات تتعرف عليكم…”
لكن حسن هز رأسه بنفي بطيء، وعيناه ما زالتا معلّقتين بكارم، وقال بجديّة لم تكن متوقعة:
“لأ… دي ما كانتش أول مرة… أنا شوفتك قبلها.”
تجمّد كارم لوهلة، ونظر إليه مجددًا، كأن الذكرى لم تطرق بابه من قبل، أو أنه نسي رغماً عنه، أما في نظرة حسن، كان هناك شيء لم يقله بعد… شيء سيُقال أخيرًا، بعد صمتٍ طويل.
تنهد
حسن
بعمق، كمن يغوص في بئر قديم من الذكريات، ثم قال بنبرة هادئة، لكنها تحمل وقعًا أثقل مما تبدو عليه:
“أول مرة شفتك فيها… كانت يوم ما نقلنا للحارة، كنت نازل أجيب طلب لأمي، وعدّيت من شارع جانبي كده… وسمعت صوت غريب، صوت خناقة… الفضول خدني، وبصّيت.”
توقف لحظة، كأن المشهد عاد حيًا في ذاكرته، ثم أكمل بابتسامة باهتة:
“لقيت عيل صغير… كان واقف ماسك في ولدين من سنه، وشغّال فيهم ضرب، كل ما حد فيهم يمد إيده عليه… يردها بعشرة.”
ضحك
حسن
ضحكة قصيرة، لكنها كانت خاوية من البهجة، أشبه بابتسامة شاردة خرجت من ماضٍ ما زال عالقًا في ذهنه، ثم قال بصوت يحمل مزيجًا من الذكرى والاستغراب:
“كان صغير… بس طريقته في الضرب كانت زي واحد بيحارب في حلبة ملاكمة، مارمش ولا بص حوليه، كان كل تركيزه على خصومه بس، اللي وقعوا تحت رجله وقتها، فراح بكل بساطة تافف عليهم وقايلهم اللي هيجيب سيرة أبويا تاني على لسانه، مش هيعرف يقف على رجله تاني.”
ساد صمتٌ قصير، لكن كلماته ظلّت تتردد في الهواء، كأنها تستعيد صوت الطفل القديم الذي صار شابًا أمامه.
ثم التفت إلى
كارم
ونظر إليه نظرة طويلة، نظرة مَن يربط الحاضر بالماضي، وقال بنبرة أهدأ:
“وأنا واقف وقتها بتفرّج ومندهش… لحد مالقيتك مشيت، فمشيت أنا كمان، بس المشهد فضِل في بالي، وفضِلت أقول: ده عيل قليل الأدب، أهله ما عرفوش يربّوه، هيطلع بلطجي وهيجيب آخر أهله، دعيت ربنا يبعده عننا، وما ييجي في سكتي أنا وأخواتي أبدًا.”
تنهد تنهيدة قصيرة، وأكمل:
“بس يشاء ربك… إن أول ما أروح ، وأول ما جيت أقعد ويدوب هاخد نفسي،
ألاقيه داخل عليّا… هو وأمه، وبيقدّموا نفسهم… إنهم جيرانّا، الباب جنب الباب، يعني وشه… هيكون في وشي طول اليوم، غصب عني.”
قالها
حسن
بنبرةٍ تمزج بين السخرية والدهشة، بنبرة من جرّب أن يُحكم على الآخرين من خلف زجاجٍ ضبابي، ثم أجبرته الحياة أن يقترب، أن يرى، أن يُعيد ترتيب يقينه القديم.
وكأن الحياة كانت تبتسم له بسخرية، حين جعل من الطفل الذي تمنى ألا يلتقيه يومًا، جاره… ثم شيئًا أكبر.
كان صوته، في تلك اللحظة، صدى لحكمة التجربة، لا لحكم العادة، كأن الحياة تُجيد دومًا صناعة المفارقات التي تعيد تشكيل أحكامنا، وتضعنا وجهًا لوجه مع من ظننا يومًا أننا سنفرّ منهم… لنكتشف أنهم، أحيانًا، ليسوا فقط جزءًا من حاضرنا، بل من مستقبلنا أيضًا.
ابتسم
حسن
ابتسامة هادئة، صافية، كأنها ولدت بعد عناء، ثم قال وهو ينظر إلى كارم:
“مش عايز تسألني… فكرتي اتغيّرت عنك ولا لأ؟”
لم يرد كارم على الفور، فقط طالعه في صمت، كمن لم يكن ينتظر هذا السؤال، أو كمن يعرف الإجابة لكنه يخشى سماعها.
ثم، بصوت خفيض يشوبه شيء من الحذر، قال:
“ما أنا… أخدت الجواب منك يوم ما اتخانقنا.”
هز حسن رأسه بلين، وعيناه تنطقان بما هو أكثر:
“ده مش الجواب الكامل يا كارم… لسه فاضل نصه.”
كانت كلمات
حسن
كالطرق الخفيف على باب قلب
كارم
، لا تُحدث ضجيجًا، لكنها توقظ شيئًا نائمًا في العمق… شيئًا اعتاد الانكماش كلما اقترب أحد.
لكن ما تبقّى من الجواب…
لم يكن في صمت العيون، بل في ما نطق به
حسن
أخيرًا، بعد أن رسم تلك الابتسامة الهادئة التي لا تحمل عتابًا، بل ودًّا خالصًا:
“خليني أقول الحق… إنتَ فيك عيوب كتير يا كارم… أنا، وإنت، وكلنا عارفينها… بس فيك مميزات كمان، بس المشكلة إنك مش شايفها… أو يمكن شايفها بس مش عايز تُظهرها، فاكر إن لو ظهرت، الناس هتشوفك ضعيف، مع إن الحقيقة بقى…
إن مميزاتك دي هي اللي مخلياك أقوى في عنينا، مش عيوبك خالص، يا كارم.”
كانت كلماته صادقة، منزوعة من التجميل، لكنها مغموسة بحب لا يُطلب، ولا يُساوَم عليه.
ثم التفت
حسن
بجسده ناحية كارم، ونظراته هذه المرة كانت أكثر ثباتًا، أكثر دفئًا، كأنه أراد أن يرى صدق أثر كلماته في عينَي من يخاطبه:
“إنت قوي… بجدعنتك مع الناس، إنت قوي… بحنيّتك على أهلك، أبوك وأمك… اللي شايلهم على كفوف قلبك، إنت قوي… لأنك دايمًا قدّام، درع لينا، لو واحد فينا وقع، سامي بيقومه… بس إنت اللي بتجبّله حقه من اللي وقعّه.”
توقف لحظة، ثم أضاف بصوت فيه رجفة مودة:
“إنت أجدع صاحب… وأحن أخ ممكن حد يعرفه في عمره كله، ويشهد ربّي… من يوم ما شُفتك بقلبي يا كارم، وإنت بقيت أخويا الكبير… اللي بفتخر بيه، وبحتمي فيه.”
تلك الكلمات لم تكن مجرّد رأي…
بل كانت مرآة صادقة، عاكسة لما لا يراه
كارم
في نفسه، مرآة لا تُخيف، بل تُربّت على الوجع، وتُعيد الإنسان إلى مكانه الذي يستحقه… في القلب.
نكس
حسن
رأسه باستحياء، كأن الكلمات التي يحملها ثقيلة على لسانه، لكنها أثقل على قلبه إن بقيت حبيسة.
ظل لحظة يهرب بعينيه نحو الأرض، كأنها تشهد على لحظة لم يعشها من قبل… لحظة مواجهة حقيقية مع نفسه قبل أن تكون مع صديقه.
رفع نظره إلى
كارم
ببطء، وفي عينيه ندم صادق، وقال بصوت مكسور، لكنه شجاع:
“حقك عليّا يا كارم… وآسف لو زعلتك مني من غير ما أقصد، بس أنا… أنا اتعصبت من قهرتي على أخويا، ومن اللي عمله، ومن اللي كنت شايفه بيضيع قدامي… اتصرفت بغضب، مش بعقل، بس حقك عليّا… يا أخويا.”
كان اعتذاره بسيطًا، لكنه نابع من قلب امتلأ بضجيج الندم، وقرر أن يهدأ أخيرًا عند عتبة المحبة.
لم يكن يبحث عن عفوٍ سريع، ولا عن ردٍّ يُطمئنه… كان فقط يريد أن يُعيد الأمور إلى مكانها الصحيح، أن يُعيد العلاقة التي شُوّهت لحظة… إلى ما كانت عليه: أخوّة… لا يُكسرها شيء.
عمّ الصمت المكان…
صمتٌ لم يكن خاوٍ، بل مكتظٌ بالنظرات التي تقال بدل الحروف، وبالأنفاس التي تحمل أكثر مما يُقال.
تبادلت العيون حديثًا بلا صوت…
نظرات
كارم
و
حسن
، كانت كأنها تتلمّس خيطًا أخيرًا من الثقة، فيما
سامي
و
محسن
ظلا يراقبان بصمت، يترقبان ما سيُبنى على لحظة الاعتراف.
وفجأة…
وكأن شيئًا انفجر من الداخل، نهض
كارم
من مكانه باندفاعة مباغتة، جسده انتفض كمن تحرر من قيد قديم، وفي ذات اللحظة، انتفض جسد
حسن
أيضًا، كأن روحيهما تحركتا معًا، دون تنسيق… بل بنداءٍ داخلي لا يُسمع.
اقتربا…
بلا كلمات، بلا تردد…
الأجساد تلاقت، والقلوب سبقتها.
تعانقا…
كان العناق طويلًا… دافئًا…
كأنهما يسترجعان فيه كل لحظة خصام، وكل كلمة وجع، وكل لحظة ضعف مرّت بينهما، ويغسلانها بهذا الاحتضان الصامت.
لم يكن مجرد عناق…
كان اعتذارًا لم يُكمل، وصفحًا لم يُطلب، ووفاءً لم ينقطع رغم كل شيء.
وفي عيون سامي ومحسن، التي ظلّت معلّقة عليهما، كانت نظرة رضا، كأن الدنيا وإن ضاقت… ما زال فيها ما يستحق أن يُحتضن.
ابتعدت الأجساد شيئًا فشيئًا، كأن لحظة العناق اكتفت بما فيها من دفء، وسمحت للقلوب أن تعود إلى النبض بهدوء.
مدّ
حسن
يده، وعلى وجهه ابتسامة مازحة، وهو يقلّد نبرة
كارم
الشهيرة، محاولًا تقليده بطريقة مرحة:
“صافي يا لبن.”
ضحك
كارم
، لكنه لم يفوّت الفرصة، صافح صديقه وهو يردّ بنبرة لا تخلو من سخرية محبّة:
“حليب يا قشطة… بس أنا مش بتكلم كده يا شيخنا.”
ضحك كلاهما، ضحكة حقيقية، خرجت من قلبٍ تخلّى عن حمله… ضحكة أعادت لهما ما ظنّا أنه فُقد.
وفي لحظة عفوية، تحركت أعينهما في نفس الوقت، كأن بينهما اتفاقًا غير معلن، لتقع على
سامي
… الذي كان قد وقف فجأة، جسده يتقدّم، ووجهه ما زال يراقب، لكن هذه المرة بابتسامة خفية.
فبادره
كارم
، بصوتٍ خافت يمزج المزاح بالمرح، دون أن يخفي لهجته الساخرة المحببة:
“ها؟… إنت كمان صافي يا لبن؟ ولا لسه هنعوز نحلب الجاموسة الأول؟”
ضحكة بهجة صافية خرجت من
سامي
، كانت ضحكته صادقة، دافئة، فضحك
كارم
و
حسن
أيضًا، كأنّ شيئًا في قلوبهم انكسر أخيرًا… لا بالحزن، بل بالفرح.
وفي خضم تلك اللحظة، ارتفعت ضحكة
محسن
من الخلف، خفيفة، لكنها لم تدم طويلًا، فما إن التفتت إليهم العيون، حتى تلاشت من على وجهه، وبدت نظراته مرتبكة، متوترة، هربت إلى الأرض خجلًا… خصوصًا حين التقت بعيني
شقيقه حسن
.
لكن، وبهدوء، اخترق صوت
حسن
هذا الحرج وقال بابتسامة دافئة:
“محسن.”
رفع محسن عينيه بسرعة، كانت نظرته قلقة، فوجد أخاه يشير له بالاقتراب.
وكأن قلبه سبق قدميه، فتحرك إليه تلقائيًا… ثم، دون مقدمات، ارتمى في حضنه كطفلٍ طال شوقه للأمان، وردد بصوت باكٍ يختلط فيه الرجاء بالندم:
“أنا آسف والله يا حسن، والله العظيم ما هكرر اللي عملته تاني… أوعى تزعل مني وتخاصمني تاني، علشان خاطري… سامحني المرة دي بس، يا أخويا.”
ضمّه
حسن
للحظة، ثم أمسكه من كتفيه بلطف، وأبعده قليلًا، ينظر إليه بعيني أخ كبير يحمل الحزم والحنان معًا، ثم وضع كفيه على وجهه كأنه يُثبّت فيه الرجولة التي انتظرها طويلًا، وقال بنبرة جادة لكنها مشبعة بالدفء:
“أنا خدت منك وعد رجّالة قبل كده… وإنت خلفته، والمفروض دلوقتي… ما أثقش لا في كلامك، ولا في وعودك تاني.”
توقّف لحظة، ونظر في عينيه نظرة حاسمة، قبل أن يكمل بنبرة أهدأ:
“بس أنا مش جاحد يا محسن… وماينفعش أكون أخوك، وأكون قاسي معاك للدرجة دي، علشان كده… هديك فرصة تانية، فرصة تثبتلي فيها… إنك اتغيّرت، وإنك رجعت محسن… أخويا اللي بفتخر بيه، وبطلت تلعب بديلك يا شقي.”
كانت الكلمات كمرآة أمام محسن، تُريه من يكون، ومن يُمكن أن يكون؛ فأومأ برأسه مرارًا، والدموع ما زالت تبلل عينيه، لكن هذه المرة، لم تكن دموع خجل… بل دموع ولادة جديدة، تبدأ من حضن أخ.
وفي خضم لحظة الصفا تلك، حين كانت القلوب ما تزال تتذوق طعم الصفح، صدح صوت مألوف، عذب بنبرته المرحة، يحمل فرحة لا تخفى:
“قلتلك هيتصالحوا يا سحس!”
اتجهت الأنظار دفعة واحدة نحو مصدر الصوت، فوجدوا
موسى
يقترب بخطى واسعة، وعلى وجهه ابتسامة ممتدة من القلب، إلى جواره كان
حسين
، يسير بهدوء معتاد، يحمل في ملامحه تلك اللامبالاة التي يعرفها الجميع، لكنها كانت تخفي في عمقها ابتسامة صغيرة… لا تُعلن عن نفسها.
توقفا أمامهم، وبدت البهجة تُنثر في المكان كضوءٍ ناعم؛ فبادرهم
سامي
بمرح ناعم وهو ينظر إلى حسين:
“روح احضن أخوك أنت كمان يا سحس.”
رفع
حسين
حاجبه بلا اكتراث، ثم تحرك ببطء نحو أقرب مقعد، ألقى بجسده عليه وكأنه أثقل مما يحتمل، وهو يقول ببرود لا يخلو من سخرية هادئة:
“ما بحبّش أُحضن غير المخدة بتاعتي.”
ضحك الجميع، تلك الضحكة التي تُولد بعد ضغط، فتأتي عميقة، دافئة، ضحكة تجعل كل شيء يبدو… طبيعيًا من جديد.
أما
سامي
، فربّت على كتف
موسى
برفق، ثم قال مبتسمًا، وهو يشير بطرف ذقنه نحو الأكياس البلاستيكية التي تتدلى من يد موسى:
“ماتقولش… إنت اللي دافع تمن الحاجات دي؟”
نظر
موسى
إلى الأكياس كأنها تفاجأ بوجودها في يده، ثم رفع رأسه إليهم ببطء، ووزع نظراته على الوجوه واحدًا تلو الآخر
،
لم تكن نظراته حادة، بل مزيج من جدٍّ ساخر، ومرح متقن، ثم قال بنبرة تمثّل الجدية أكثر مما تقصدها:
“آه، بس هاخد حقها منكم دلوقتي.”
ساد صمتٌ قصير بعد كلمات
موسى
، ذلك الصمت الذي يسبق الانفجار… انفجار الضحك، حين يلامس الكلام شيئًا دافئًا في القلب.
وفعلًا، ما إن التقطت القلوب صدق عبارته، حتى انطلقت
ضحكاتهم
الدافئة… ضحكات خرجت بحرية، كأنها وجدت أخيرًا متّسعًا للفرح بعد ضيق.
ضحكوا كما لم يفعلوا منذ أيام، كأن الكلمات التي قيلت سابقًا كانت كافية لتعيدهم إلى أنفسهم… وإلى بعضهم.
أما
سامي
، فكان يبتسم وحده، بنظرة فيها من المودة أكثر مما فيها من الكلمات، ثم راح يضرب كفًّا بكفٍّ، ببطء، وهو ينظر إلي موسى بنصف ابتسامة جانبية، كأنما يقول:
“لا فائدة”
.
لكن في الحقيقة، لم يكن في وجهه استنكار… بل راحة، ورضا، وكأن الضحك الذي يسمعه الآن هو أفضل ما يمكن أن تثمره تلك الليلة… ضحكٌ يجمع ولا يفرق، ضحكٌ يعيد للحياة صوتها بعد أن صمتت طويلًا.
وكأن الرحمة أرادت أن تكتمل تلك الليلة، وأن تُغلق دوائر التوتر والانتظار بصوت يُشبه بشارة الخلاص، فُتح باب غرفة العمليات بهدوء، واخترق الضوء الخافت الخارج منه جدار قلقهم، وخرج الطبيب.
لم يكن في وجهه استعجال، ولا في خطواته تردد… بل طمأنينة الطبيب الذي يحمل بين يديه بشرى.
انتبهوا جميعًا، توقف الضحك، واعتدلت الأجساد في وقفتها كأنها تستعد لاستقبال قدرٍ جديد.
اقتربوا منه، وفي مقدمتهم كان
سامي
، الذي بادره بنبرة فيها من الرجاء بقدر ما فيها من الحذر:
“إيه الأخبار يا دكتور؟”
ابتسم الطبيب ابتسامة هادئة، لا استعراضية، بل من تلك التي يعرف أصحابها قيمة الكلمة حين تُنقذ قلبًا، ثم قال بنغمة مطمئنة:
“اطمنوا… الحمد لله، العملية عدت على خير، والوالد دلوقتي في الإفاقة، وبإذن الله بكرة الصبح هيكون فايق، وهنطمن عليه أكتر.”
ما إن أنهى الطبيب كلماته، حتى شعروا جميعًا وكأن صدر اليوم نفسه قد تنفس للمرة الأولى.
لحظة قصيرة…
لكنها كفيلة أن تمسح أثر ساعات طويلة من الترقب والدعاء،
تهللت الوجوه، وخفّ الثقل من الأكتاف، وكانت العيون وحدها، في تلك اللحظة، هي من تتكلم… بعرفان، وارتياح، وشكر وحمد لله.
تقدّم
سامي
خطوة، وبعينين يغمرهما الامتنان، وقال للطبيب بصوت خفيض لكنه مليء بالشكر الحقيقي:
“ألف شكر يا دكتور… بجد، شكرًا.”
ابتسم الطبيب بتواضع، ثم ردّ بهدوء:
“العفو… ده واجبي، ألف حمد الله على سلامته… عن إذنكم.”
ثم انصرف، تاركًا خلفه أثرًا لا يُرى… لكن يُحس.
ومع انغلاق الباب خلفه، كأن قلوبهم فُتحت على الراحة، الراحة التي لا تُقال، بل تُتنفس.
اقترب الجميع من
كارم
، وكان
حسن
أول من تحدّث، صوته مزيج من الدعاء والفرح:
“حمد الله على سلامته يا صاحبي، ربنا يطوّل في عمره… ويخليه ليكم.”
ابتسم
كارم
في وجهه، تلك الابتسامة التي تحمل في طيّها شكرًا لا يكفيه الكلام، ثم التفت نحو
سامي
الذي قال بتلقائية:
“اتصل يلا بالجماعة في البيت وطمنهم، زمانهم ميتين من القلق دلوقتي.”
أومأ له كارم بسرعة، وأخرج هاتفه، بينما كان
حسن
قد فعل الأمر نفسه وهو يقول:
“وأنا كمان هكلم الحاج أطمنه.”
أومأ الجميع بتأييد، وقبل أن يخترق صوتهم لحظة السكون، صدح رنين هاتف
موسى
،
نظر إلى الشاشة، وبمجرد أن قرأ الاسم، رفع حاجبه وقال:
“ده أبويا… واضح إن الخبر وصله.”
فبادره
سامي
على الفور:
“طب رد عليه بسرعة وطمنه.”
هزّ موسى رأسه بالإيجاب، وسحب إصبعه على الشاشة… ليبدأ المكالمة.
وبعد دقائق، عاد الثلاثة تباعًا، خطواتهم هادئة، أنفاسهم مستقرة، وملامحهم أخفّ من ذي قبل.
لكن قبل أن يتحدث أحدهم، صدح في الأرجاء صوت
أذان العشاء
، هادئًا… ممدودًا.
فقال
موسى
بسرعة، وكأن الأذان أيقظ فيهم نداءًا آخر:
“تعالوا يلا نصلّي يا شباب، وبعدين نبقى نرجع نطمن على عمي، حسن وكارم هيفضلوا معاه، وإحنا نبات في العربية… اتفقنا؟”
تبادلوا النظرات لحظة، ثم أجابوه معًا، بنبرة واحدة… صادقة، بسيطة، لكنها مشبعة بروح الجماعة:
“اتفقنا.”
وهكذا، كما يبدأ الليل بقلقٍ يشبه الزحف البطيء على الصدر، قد ينتهي بخشوعٍ يهبط على القلوب كالمطر، وبراحةٍ لا يعرف سرها إلا من ذاق مرارة الانتظار، وسكونٍ يشبه حضن أم بعد بكاء طويل.
_________________
وصلوا إلى الجامع القريب من المستشفى، وكانت أصوات الناس الخارجين من الصلاة ما تزال تتردد بين الأعمدة، وهم يتهامسون ويغادرون بهدوء.
اتجهوا مباشرة إلى موضع الوضوء، غسلت أيديهم ما علق بها من توتر، ومرّت المياه الباردة على وجوههم كأنها تُطهّرهم من قلق الساعات السابقة، ثم عادوا إلى صحن الجامع وقد خف الزحام وهدأت الأصوات، واصطفوا بخفة… كأنهم يبحثون عن ترتيبٍ روحي بعد فوضى المشاعر.
وضع
كارم
يده على كتف
حسن
وقال بصوت خفيض لكنه حازم، يحمل الاحترام والثقة:
“يلا يا شيخ حسن، صَلّي بينا.”
نظر
حسن
إليه بدهشة قصيرة، وكأن الأمر لم يكن في حسبانه، ثم مرّر نظراته إلى الوجوه التي أحاطت به… أصداقائه الأربعة، كلهم كانوا ينظرون إليه بنفس الثقة، بنفس التوق.
تنفّس حسن بعمق، ثم أومأ، وتقدم بخطوات بطيئة نحو الإمام، ووقف هناك… ليس كإمام عادي، بل كأخٍ تعلّم من الليل كيف يكون الصبر، ومن الصداقة كيف يكون العطاء.
وقفوا هم خلفه، كتفًا بكتف، صفّ واحد، ثم رفع
حسن
صوته بالتكبير… فخشعت القلوب، وتركوا وراءهم كل شيء، ليبدأوا من جديد… بـ
الله أكبر
.
FLASHBACK (قبل خمسة عشر عاماً)
كانت الشمس تميل إلى المغيب، ترسم ظلالًا طويلة على الأرض الترابية أمام البيوت،
ووقف فتيان متقاربان في الطول، أحدهما أكبر عمرًا، لكن الطفولة كانت لا تزال تكسو ملامحهما معًا.
رفع أحدهما يده لينزع قبعته بضجر، فزفرت خصلات شعره إلى الخلف، ثم قال بنفاد صبر:
“هو اتأخر كده ليه؟”
أومأ الآخر نافيًا وهو يضم يديه:
“معرفش يا موسى، هو قاللي استنّوني هنا بعد الأذان علشان نلعب ماتش، وقال هيجيب كمالة للفريقين.”
قطّب
موسى
حاجبيه وقال بنبرة خفيفة تمزج المزاح بالضيق:
“الواد كارم ده يومه بسنة، أقسم بالله.”
لكن قبل أن يطول الانتظار، لمح
سامي
جسدًا مألوفًا يقترب من آخر الشارع، فهتف بسرعة:
“أهو جه أهو!”
اقترب
كارم
بخطوات واثقة، وبصحبته
ثلاثة فتيان
يشبه بعضهم بعضًا لدرجة أربكت نظراتهم.
كانوا يحملون ذات التقاسيم، لكن شيئًا في الملامح يميّز كل واحد عن الآخر، تساءل موسى وهو يحدّق فيهم بفضول:
“مين دول يا سيمو؟”
أجابه
سامي
دون أن يرفع عينيه عن القادمين:
“هنعرف منه دلوقتي.”
توقف
كارم
أمامهما وقال وهو يلتقط أنفاسه:
“لامؤاخذة على التأخير يا جدعان، بس مش كنتم عايزين كمالة للفريقين؟ أهو جبتلكم تلاتة تمام… أعرفكم، حسن، حسين، ومحسن… جيراني الجداد.”
مرر
موسى
و
سامي
نظراتهما على الثلاثة، كأنهم يحاولون تمييزهم، فقال موسى بعفوية:
“هما توأم؟!”
هز
كارم
رأسه قائلاً ببساطة:
“آه، مش شايف الشبه؟”
ابتسم
موسى
، كأن اكتشاف الشبه أسعده أكثر مما أربكه، ثم تقدم وصافح أولهم قائلًا:
“أنا موسى… موسى عمران.”
صافحه الفتى بابتسامة هادئة وصوت خفيض:
“وأنا حسن.”
قال موسى مداعبًا:
“نعلّمك بملامحك الهادية دي.”
انتقل إلى الثاني وقال:
“وأنت حسين؟”
ردّ الآخر بهدوء وخجل واضح:
“لا… محسن.”
ضحك موسى وقال:
“ماشي يا محسن… نعلّمك بشعرك المنكوش ده.”
وقف أمام الثالث، لكن هذا سبقه بالكلام بنبرة كسولة محببة:
“حسين… هتلاقيني مكسّل أتكلم، مش محتاج تعلّمني، صدقني.”
انفجر
موسى
ضاحكًا من ردّه الفجائي، لكن فجأة شعر بيد تُمسك بياقة قميصه، كانت يد
سامي
الذي جذبه جانبًا وهو يقول بنبرة فيها توبيخ خفيف:
“هو إنت بتعلّمهم… ولا بتتعرّف عليهم؟!”
ضحك موسى بخجل، ورفع يده ليفرك رقبته بينما يبتسم بمرحٍ لا ينضب.
اقترب
سامي
من الثلاثة وصافحهم جميعًا واحدًا تلو الآخر، ثم قال بابتسامة صادقة:
“نورتوا حارتنا يا شباب… أنا سامي، سامي يحيى، جاركم برضه، ده بيتي… واللي هناك بيت موسى.”
كلمات بسيطة… لكنها كانت الشرارة الأولى لصداقة عمر، ستكبر معهم، وتتجذّر في القلوب، تمامًا كما تتجذّر الأشجار في الأرض حين تُروى أول مرة.
_________________
بعد ثلاثة أيام…
في غرفة الضيوف التي تعبق برائحة الراحة بعد الغياب، كانوا
الستة
مجتمعين حول
عبدالله
، الذي جلس وقد استعادت ملامحه شيئًا من لونها، بعد أن عاد بالأمس من المستشفى.
جلسوا معه، لا كضيوف، بل كأبناء عادوا ليتأكدوا أن النعمة لا تزال في مكانها… أن الأب الذي يجمعهم بكلمة ويدٍ حانية ما زال حاضرًا بينهم.
قال
عبدالله
بصوته المتأني وقد غلب عليه الامتنان:
“والله ما عارف أشكركم إزاي على وقفتكم جنب كارم في الأيام اللي فاتت.”
ردّ عليه
سامي
برتابة ناعمة، لكن قلبه كان يسبق كلماته:
“ماتقولش كده يا عمي… تشكرنا على إيه؟ كارم ده أخونا، وحضرتك زي أبونا، ربنا يحفظك ويخليك لينا، وما يوجع قلوبنا عليك تاني أبدًا.”
أومأ
عبدالله
برأسه وهو يرد بحنوّ:
“الله يحفظك يا سامي… ربنا يبارك فيكم، ويخليكم لبعض.”
تبادل الستة نظراتٍ فيها طمأنينة غير منطوقة، وابتسامات هادئة تُشبه ضوء الغروب حين يمرّ على وجه بحرٍ ساكن.
وفجأة، دخلت
فاطمة
حاملة صينية الضيافة، بصوتها الدافئ المعتاد:
“اتفضلوا يا ولاد.”
ردّ
سامي
بهدوء:
“مكانش ليه لزوم التعب يا خالتي.”
ابتسمت وهي تضع الأكواب:
“ولا تعب ولا حاجة… بألف هنا، عقبال ما نشرب شرباتكم كده قريب.”
نظر
سامي
نحو رفاقه بضحكة ماكرة وقال:
“الكلام ليكم يا شباب.”
رد
كارم
بهدوء ساخر:
“أنت بتغيظنا علشان اتجوزت ولا إيه؟ ما تخافش… مسيرنا نحصّلك يا صاحبي.”
ضحك
سامي
وقال:
“يا سيدي، أنا قلت حاجة؟ يلا اتجدعن… ودور على بنت الحلال اللي تسحمّلك.”
لم يفوّت
موسى
الفرصة، فأطلق تعليقًا سريعًا:
“بلاش اللي تستحمله دي، كده مش هيتجوز خالص… محدّش يقدر يستحمل كارم، ده البنات بتخاف منه يا جدع!”
انفجر الجميع ضاحكين، حتى
كارم
نفسه، وفي لحظة دافئة، ضربته
فاطمة
بخفة على كتفه وهي تقول:
“على أساس إن في واحدة كانت هتستحمل طبعك يا وَلَا، والله مافي غير
فيروز
اللي تقدر تتحملك.”
ردّ
موسى
مبتسمًا ببساطة:
“وعلشان كده اتجوزتها، ادعيلي ربنا يسهل ونِعمل فرحنا قريب، علشان تشربوا الشربات… مش أنتو عايزين شربات؟”
تعالت الضحكات مرة أخرى، ضحكات دافئة لا تُصطنع، ضحكات تشبه جلسات ما قبل الغروب في البيوت العامرة بالألفة.
لكن فجأة… توقفت الضحكات كأن أحدهم نزع منها الصوت، حين دخلت
ضحى
إلى الغرفة، وقالت:
“كارم!”
التفت والديها إليها، ونظر
كارم
نحوها باستفهامٍ هادئ، فأضافت:
“في حدّ عايزك برّه.”
خيّم الصمت على الغرفة لثوانٍ، ثم أومأ
كارم
لشقيقته، ونهض من مجلسه قائلًا بلطف:
“عن إذنكم يا جماعة، ثواني وراجعلكم.”
نهض بخطوات هادئة… لكنها لم تخلُ من تساؤلٍ يزحف في داخله، رافق
ضحى
إلى باب البيت، وما إن اقترب منه حتى وجدها… تقف هناك، باهية الحضور، تحمل
باقة زهور
تخجل ألوانها أمام نعومة ملامحها، كأنها جلبت الربيع في يديها إلى بيته، وقلبه.
انعقدت الابتسامة تلقائيًا على شفتيه، ومعها خرج صوته هامسًا، نصفه دهشة ونصفه حنين:
“ميرنا!”
قالها وكأن الاسم لم يُنطق منذ دهر، وكأن رؤيتها أعادت له دفقة دفء كان يفتقدها في زحام الأيام الأخيرة… أما هي، فرفّت عيناها بلطافة، ثم قالت بصوت هادئ يشبه نسمة خفيفة:
“حمد الله على سلامة أستاذ عبد الله.”
تسربت كلماتها إلى صدره بخفة، لكنها حركت داخله ألف سؤال، فسأل باندهاش حقيقي:
“إنتِ عرفتي إزاي؟”
وقبل أن تجيب، جاء صوت
ضحى
من جانبه، ليكشف السر ببساطة:
“اتصلت بيا الصبح… وأنا قلتلها.”
التفت إليها
كارم
ببطء، ثم أعاد نظره إلى
ميرنا
، ليكمل تساؤله:
“وإنتي… جبتي رقمها إزاي؟”
أجابت بهدوء ممزوج ببعض الحذر:
“إحنا أخدنا أرقام بعض آخر مرة كنت فيها هنا… هو أنت مش مبسوط إني جيت؟”
هز رأسه بسرعة كمن ينفي تهمة لا يتحملها، وردّ بنبرة صادقة سريعة:
“لا طبعًا… أنا بس متفاجئ إنك عرفتي، بالعكس، أنا مبسوط إني شوفتك… أقصد، إنك جيتي.”
ابتسم وتراجع بجسده قليلًا إلى الخلف وهو يشير نحو الداخل:
“اتفضلي، اتفضلي ادخلي.”
خطوة صغيرة للخلف منه، وخطوة للأمام منها، لتبدأ لحظة جديدة، لا تُشبه أي شيء سبقها، لكنها تُشبه كل ما اشتهاه قلبه، دون أن يعترف…
لحظة لقائه بها.
دخل
كارم
وخطوات
ميرنا
تتبعه بهدوء وحياء، بينما ضوء النهار المتسلل من النوافذ لامس أطراف الباقة في يدها، فزاد حضورها رقّة ووقارًا.
تقدم قليلاً نحو الداخل، حيث كان الجمع لا يزال مجتمعًا،
تنحنح بخفة،
تنبيهًا لا يخلو من التوتر.
رفع الجالسون رؤوسهم تلقائيًا،
وما إن وقعت أعينهم على ميرنا،
حتى خفضوها في لحظة واحدة، كأن الحياء قد مرّ بينهم كنَسَمة،
ونهضوا جميعًا من أماكنهم
دون اتفاق، لكن باتساق عجيب…
في اللحظة التي خطت فيها
ميرنا
عتبة الغرفة، كانت
فاطمة
أول من اقترب منها، ارتسما ابتسامة دافئة على وجهها، كأنها تستقبل ابنتها، وقالت بترحيبٍ يقطر حنانًا:
“أهلًا وسهلًا… وأنا بقول البيت منوّر ليه، إزيك يا حبيبتي؟”
بادلتها
ميرنا
العناق برقة، وقد بدا الخجل واضحًا في صوتها وهي تهمس:
“الحمد لله.”
وبينما كانت تهم بالابتعاد، مدّت يدها وقدّمت
باقة الورد
التي كانت تحملها، وقالت بلطافةٍ خجولة:
“ألف سلامة على أستاذ عبد الله.”
لكن
فاطمة
التقطت الإشارة بلطفٍ الأم، وقالت وهي تشير لها بالتقدم:
“تعالي، اديهوله بنفسك.”
اقتادتها بخفة نحو حيث يجلس
عبد الله
، الذي شرع ينهض احترامًا، لكن
ميرنا
استوقفته سريعًا بصوت حريص:
“لا، خليك مرتاح.”
أطاعها الرجل بابتسامة، وبقي جالسًا وهو يمد يده لتلقّي الورد، لتنحني نحوه
ميرنا
وتقول بنبرة ناعمة:
“ألف حمد لله على سلامتك.”
أخذ منها الباقة، وأجابها بعينين يغمرهما الامتنان:
“الله يسلمك يا بنتي.”
وفي تلك اللحظة، اقترب
كارم
قليلًا وقال باعتزاز خافت:
“دي ميرنا يا بابا… زميلتي في الشغل، لما عرفت اللي حصل، حبت تيجي وتسلم عليك.”
هزّ
عبد الله
رأسه، وحدّق في الورد بين يديه، ثم قال بنبرة صادقة:
“فيها الخير يا ابني… بس ماكانش ليه لزوم، يا بنتي.”
ابتسمت له
ميرنا
بودّ حقيقي، وردّت بلطافة:
“ده شيء بسيط يا أونكل.”
وبينما الكلمات تنساب برقة، كانت أنظار الستة معلّقة على الأرض، لكن أذانهم تستمع لما يحدث، وفي تلك اللحظة، توقف الزمن، وتجمّد
محسن
قليلًا، ثم مال على كتف
موسى
وهمس:
“دي بتقول يا أونكل… هو كارم يعرف الناس النضيفة دي منين؟”
ردّ
موسى
بنفس النبرة، بعينين مازحتين:
“معرفش… الواد طلع سُهُونة!”
لكن فقرة الهمسات انقطعت فجأة، عندما ارتفع صوت
كارم
:
“تعالي أعرّفك على الشباب… صحابي.”
قالها بنبرة تحمل شيئًا من الفخر، كأنها المرة الأولى التي يرى فيها ملامح حياته تتقاطع أمامه
بين أهله، وأصحابه، وبينها.
تقدّم كارم برفقتها نحوهم، كانت خطواته هذه المرة أكثر رسوخًا، وكأن ما بيده كنز يستحق أن يقدّمه بعناية.
وبعينٍ تملؤها المودة والامتنان، بدأ يُعرّفها بهم، واحدًا تلو الآخر، كأنما يقدم لها ملامح قلبه، لا مجرد أسماء:
“دول صحابي… وإخواتي اللي أمي ماخلفتهمش…”
أشار للأول، وقال بصوتٍ يفيض بالاحترام:
“أعرفك سامي… الكبير بتاعنا، الملاذ اللي بنرجعله وقت الضيقة.”
أومأ
سامي
بخفة، ولم يرفع عينيه عن الأرض، لكن في صمته دفء،
ابتسمت ميرنا بخجلٍ مهذب،
ثم تابعت حيث وجّهها
كارم
، الذي قال بنبرة أقرب للمزاح:
“وده موسى… البرنس بتاعنا، برنس في كل حاجة، حتى دماغه!”
ردّ
موسى
بابتسامة خافتة، وقال بهدوء:
“أهلًا.”
أومأت له بخجل،
وعينيها تلمعان من أثر الدفء في الحضور، ثم تابع
كارم
وهو يشير للثالث:
“الشيخ حسن، أصغر مني، بس أعقل مني… وأعقل مننا كلنا والله.”
ضحكت ميرنا بخفة،
وقد راقها الوصف، أما
حسن
فاكتفى بإيماءة هادئة، تعكس حياءه المعتاد.
ثم جاء الدور على الرابع، فابتسم
كارم
وقال بلهجة مازحة:
“وده حسين… دوره في الشلة يرفع ضغطي، ودوره في الحياة الأكل والنوم… الكولا اللي مربيناه وسطنا.”
ضحكت ميرنا على كلماته،
ضحكة قصيرة لكنها صادقة، أما
حسين
فحرّك كتفيه بلا اكتراث.
أما كارم، فأشار لآخر من في الدائرة، وقال بنبرة اختلفت… نبرة فيها دفء خاص:
“وأخيرًا… محسن، صاحبي، وأخويا الصغير، وتقدري تقولي ابني، أنا اللي مربيه… حبيب أخوه ده.”
ابتسم
محسن
ابتسامة صغيرة، وقال بخجلٍ لم يُخفه، وهو يتحاشى النظر إليها:
“أهلًا وسهلًا.”
أومأت له بلطف،
وملامحها يكسوها التقدير للجميع، أما
كارم
، فأنهى تقديمه بكلمات بدت كأنها خرجت من القلب مباشرة:
“وبس… دول صحابي، يا ستي، شلتي، وعزوتي، واللي طلعت بيهم من الدنيا.”
كانت تلك اللحظة،
أشبه بعناقٍ صامت بين عالمين: عالمها، وعالمه…
وبينهما، كان “هو”، الجسر، والرابط، والدعوة الدافئة.
_________________
بعد دقائق….
كانت اللحظة هادئة، تشبه نَفَسًا عميقًا بعد عاصفة…
هو يقف بجانبها،
وعلى الرغم من أن المسافة بينهما تُقاس بخطوات، إلا أن
القرب الحقيقي
كان في تلك الطمأنينة التي تشاركها الصمت والكلمات معًا.
قالت وهي تنظر إلى فنجان القهوة بين يديها،
كمن يخفي شيئًا خلف صوتٍ ساكن:
“لما ماجتش الشغل النهاردة، قلقت عليك… اتصلت، بس لقيت تلفونك مغلق، فاتصلت بضحى… وقالتلي اللي حصل.”
أجاب بهدوء، وهو يطالع الشارع كمن يطالع أيامه القليلة الماضية:
“تلفوني اليومين دول بيفصل شحن بسرعة… وانشغلت، ومعرفتش أكلمك.”
هزّت رأسها بتفهّم،
وقالت بنبرة دافئة لم تخلُ من لطف المواساة:
“عادي… أكيد كنت مضغوط في الأيام اللي فاتت.”
ابتسم ابتسامة خفيفة، خالية من التكلّف، وقال:
“آه… بس الحمد لله عدت.”
صمتت لوهلة،
وكأنها تشارك في حمل ذلك الثقل الذي يتحدث عنه، ثم
نظرت إليه، وقالت بصوت ناعم:
“الحمد لله.”
كلمتان بسيطتان… لكن وقعهما في قلبه كان
أعمق من كل ما قيل
، خاصةً حين خرجتا من بين شفتيها بنبرة
ناعمة كنسيمٍ دافئ
في مساءٍ شتويٍ طويل، و
ابتسامتها الرقيقة
لم تكن مجرد تعبير وجه، بل كانت كالشمس حين تشرق وتذيب الجليد بعد العواصف.
وعيناها…
يا الله، عيناها…
لم تكن مجرّد نظرات، بل
مرفأ
يغرق فيه دون مقاومة، دون أن يحاول النجاة، وكأنه
وجد في الغرق بها حياة.
في لحظةٍ قصيرة… انكمش العالم حوله، لم يبقَ إلا صوتها، ونظرتها، وفنجان القهوة الذي بدأ يبرد… بعكس قلبه، الذي
بدأ يدفأ من جديد
.
قلبه…
الذي بدأ
يشتعل دفئاً، نبضاً، حياةً.
قلبه…
ذاك الذي طالما ظنّه عصياً، محصناً، صلباً…
أقسم في كل لحظة، تلتقي فيها عيناه بعينيها، أنه
لم يعد له…
أنه صار
لها،
ملكها وحدها، بلا شرط، ولا تردد، ولا بقايا من الأمس.
صار لها…
كما لو كان خلق هكذا منذ البداية، وكأن كل الطرق التي مشاها، وكل الألم الذي عبره، كان فقط ليصل إلى تلك اللحظة… وإليها.
خرج من شروده على صوتها، رقيقًا كنسمة، صادقًا كسؤالٍ يحمل أكثر مما يبدو:
“هتيجي الشغل بكره؟”
رمش بعينيه سريعًا، كمن عاد من حلمٍ جميل، ثم قال متلعثمًا وهو يعدّل جلسته:
“إيه؟ آه… آه إن شاء الله هاجي، الحاج خلاص بقى كويس… إن شاء الله هاجي بكره.”
أومأت له بخفوت،
تبتسم بلطفٍ لا تعرف أنه يسرق منه اتزانه
، وفي اللحظة التي قابل فيها نظرتها،
كان كمن طالع السماء ورأى أول قطرة مطر بعد صيفٍ جاف.
نظراته إليها…
كانت نظرات عاشقٍ للشتاء، يتأمل المطر لا ليستمتع به فحسب، بل ليؤمن أنه لايزال سيُمنح جديدًا أجمل مما مضى.
ثم أدار وجهه عنها قليلًا،
وأخفض بصره، ليتمتم بصوتٍ خافت بالكاد سمعه هو نفسه، لكنه صادق كقسم قلب:
“والله ووقعت يا كارم… ولمين؟ للبسكوتاية ذات نفسها.”
وضع يده على صدره، حيث استقر النبض الجديد، ثم مال برأسه قليلاً كأنه يصغي لنداء داخلي لا يسمعه سواه، وقال هامسًا،
بصدقٍ لم يعرفه في نفسه من قبل
:
“مبارك يا قلبي…”
قالها كمن يُعلن ميلاد شيءٍ نقي، كمن
يبارك لحلمه الأول الذي لم يُكذب هذه المرة،
كمن عرف أخيرًا أن الطمأنينة قد تأخذ هيئة إنسان… وابتسامة.
مبارك يا قلبه، لأنك
وجدت الطمأنينة والأمان.
_________________
مع مرور الوقت، وتحديدًا بعد أن خيّم المغرب بنوره الخافت وظلاله الممدودة، اجتمع الستة كما اعتادوا في السيبر القديم.
جلس الخمسة موزعين على الكراسي القديمة، بطريقة عشوائية، أما موسى، فظل واقفًا في المنتصف.
الأنفاس متوترة، وكل منهم يحمل تساؤله في صمت، حتى قطعه صوت سامي، بصبرٍ بدأ ينفد:
“ماتخلص يابني وتقول جمعتنا ليه؟ أنا بقيت أتشائم من المكان ده بسببك، وبوقفتك دي.”
ابتسم موسى ابتسامة صغيرة، أقرب للارتباك، ورد وهو يمرر يده على قبعته من الخلف:
“يا عم هقول، بس استهدوا بالله… بحاول أرتب أفكاري.”
قال كارم، بصوته المتذمر كالعادة، وبسخرية واضحة:
“ليه كل الوقت ده؟ هي شقة بترتبها؟ أنجز وقول، ومصر تقول اللي عايز تقوله لينا كلنا مع بعض ليه؟”
رد موسى بهدوء خافت:
“علشان الموضوع مهم أوي…”
هتف محسن بسرعة، كمن يحاول سحب الغموض من الهواء:
“أيوه إيه هو الموضوع المهم ده بقى؟”
تجوّل موسى بنظره في وجوههم، واحدة تلو الأخرى، كأنه يُشاهدهم للمرة الأخيرة في لحظة براءة، ثم بلل شفتيه وقال بنبرة لم يألفوها منه:
“بصوا… طبعًا أنتم عارفين إن المفروض كنت هشتغل في شركة، والمفروض كنت مضيت معاهم وكل حاجة…”
ارتفعت الحواجب، وتجمّدت النظرات، كأن الجميع شمّ رائحة قرار ما، بينما قطب سامي حاجبيه وسأله مستنكرًا:
“المفروض؟!”
تنهد موسى وقال:
“آه… أنا ما مضيتش، وعلى فكرة في سبب وجيه… هما كانوا عايزني أقفل كل صفحاتي على السوشيال، وأمضي على شرط جزائي، وكمان ممنوع أشتغل شغل جانبي.”
سأله حسن بنبرة متماسكة:
“ليه ما قولتلناش قبل كده؟”
أومأ موسى ببطء كأنه يعترف بالذنب:
“كنت هقول، والله العظيم… يوم ما جمعتكم، بس حصلت حكاية محسن، وبعدين الخناقة، وبعدين عمي عبد الله دخل المستشفى، فكل حاجة اتلخبطت… لكن برضو، مش ده الموضوع اللي جمعتكم عشانه.”
كان الصمت في الغرفة قد بلغ ذروته، حتى إن أنفاسهم أصبحت تُسمع، فسأل سامي، بنبرة جمعت بين الدعابة والريبة:
“يارب استر… إيه؟ في مصيبة؟ صح؟”
ساد الصمت فجأة، كأن الغرفة حُبست فيها الأنفاس، العيون كلها ترقب موسى… بين من يحدّق فيه في ترقب، ومن بدأ يجلس على حافة المقعد استعدادًا لخبرٍ ثقيل.
أما موسى، فمرّر كفّه فوق وجهه، تنفّس بعمق، ثم قال بنبرة جمعت بين الجدية والتردد:
“هي مش مصيبة… هو قرار.”
سأله سامي وهو يحاول الحفاظ على هدوئه، رغم النبض المتسارع في قلبه، وكأنه يشعر بأن القادم ليس بالأمر العادي:
“قرار إيه بقى؟”
نظر موسى إليه، ثم إلى بقية الوجوه، واحدًا تلو الآخر، ثم قال أخيرًا، بنبرة تحمل يقينًا نادرًا، كأن الكلمات كانت تنتظر منذ زمن أن تُقال:
“أنا عايز أفتح شركة… ”
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.