رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثالث والأربعون
الفصل الثالث والأربعون (ما قبل الزفاف)
طالَ انتظاري فهلا جاءَ مبتهجاً؟
ما أروعَ الفرحَ الموعودَ إن حضرا!
“مقتبس”
___________
وقف في منتصف شقته الجديدة، تلك التي تعب لأشهر في تجهيزها لتصبح “منزل الأحلام”.
بدا المكان بسيطًا في ألوانه، هادئًا في هيئته، وربما عادياً في أعين الغرباء، لكنه بالنسبة له لم يكن كذلك أبدًا… هنا، سيبدأ فصلاً جديدًا من حياته، برفقة من اختارها قلبه دون رجعة_فيروز_ الحبيبة، الغالية، وشريكة الحلم الطويل.
راح يُمرر عينيه في زوايا المكان، يتأمله بخشوع من نوعٍ خاص، كأنما يحتضن جدرانه بعينيه، لم يكن في البيت أثاث بعد، لكنه كان يراه مكتملًا… يراه حيًّا.
كان يتخيل صوتها في المطبخ، خطواتها في الممر، ضحكتها وهي تزيّن الرفوف، تخيّل صوتهما سويًا، يتجادلان بمحبة، يتشاركان الغروب، ويتقاسمان الصباحات الهادئة.
هنا، ستولد الذكريات، وتُزرع الضحكات، وتُكتَب الحكاية كما أراد لها دومًا أن تُكتب.
قاطع شروده صوت ابن عمه “فادي” وهو يدخل بعد أن أوصل العمال إلى الخارج، اقترب منه قائلاً بابتسامة فخور:
“كده كل حاجة تمام يا برنس… أتمنى نكون وصلنا للصورة اللي في خيالك.”
ابتسم موسى بخفة وهو ينظر له:
“وصلنا… بالظبط.”
“طب عال العال.”
أومأ موسى، ثم مدّ يده إلى جيب بنطاله، أخرج مبلغًا من المال وقدّمه لفادي، واضعًا إياه في كفّه قائلاً:
“علشان ما أنساش… ده حقك.”
نظر له فادي باستغراب، ثم قال باستنكار واضح:
“إيه ده؟!”
“فلوسك يا عم، حقك معايا عن كل اللي عملته الفترة دي.”
مدّ فادي يده ليعيد المبلغ:
“بلاش الهري ده يا موسى… خد فلوسك.”
أوقفه موسى بلطف، وصوت لا يخلو من الامتنان:
“دي فلوسك أنت… أنت تعبت معايا بجد، وده حقك.”
“حق إيه بس؟! أنت ابن عمي، معقول آخد منك فلوس؟! وبعدين مش كنت بتقول إنك هتخلي كل واحد يعملك حاجة بلاش؟”
ضحك موسى، وهو يرد بصوته الرخيم، الذي لم يخلو من لمسة مرح:
“ده كان هزار يا عم، أنا بخيل آه، بس مش لدرجة إني أعمل كده بجد! كل واحد خد حقه… عمي محمود، وبلال، الكل، ما عدا بابا، لأنه رفض… فخدهم يا فادي، علشان ما تزعلنيش.”
رد فادي بمحبة أخوية:
“أنا اللي هزعل منك كده؟!”
قبض موسى على كفّه بمرح ودفء:
“لا، ما تزعلش… يلا خدهم بقى، يا بشمهندس.”
تنهد فادي بيأس المستسلم، وأخذ المال بعد أن استشعر صدق نية ابن عمه، فربت موسى على كتفه امتنانًا، ليبادله فادي الابتسامة، ثم قال:
“يلا، خلينا ننزل.”
“لا، اسبقني انت… هعمل حاجة كده وهحصلك.”
“ماشي.”
غادر فادي، وترك الأخير وحده في تلك الشقة الفارغة… الفارغة من كل شيء، عدا الأمل، دار ببصره مرة أخرى، يتأمل الجدران، الأبواب المفتوحة، والغرف التي تنتظر أن تُنار بالحياة.
تنفّس بعمق، ووضع يده على صدره، حيث يدق قلبه بخوفٍ وحنين، ثم همس لنفسه:
“اصبر يا قلبي… فاضل على حلم العمر تكة.”
نعم… لم يبقَ على الحلم سوى خطوة… وخطوة واحدة فقط، كفيلة بأن تُنبت للحياة جناحين.
_________________
في صباح اليوم التالي…
وبعد أن استقر قرص الشمس في كبد السماء، حيث بدا النهار وقد بلغ ذروته، وبعد صلاة الظهر مباشرة، بدأت حركة غير معتادة تدبّ في قلب الحارة.
تجمّع رجال العائلتين، الشافعي وعمران، يحيط بهم الجيران وأطفال الحارة وصغارها الذين توهجت أعينهم بالفضول، استعدادًا لنقل
جهاز العروسين
إلى بيتهما الجديد، ولأن المسافة بين البيت القديم والجديد لا تتجاوز ثلاث دقائق سيرًا على الأقدام، لم يكن هناك داعٍ لسيارات أو استئجار نقل، فآثروا أن تكون النقلة… على الأقدام، وعلى الطريقة التي يحبها الناس، مليئة بالحياة.
وما أجملها من طريقة!
تشكل طابورٌ طويل امتد من بيت الشافعي حتى بوابة البيت الجديد، طابور يختلط فيه الصغار بالكبار، الرجال بالنساء، كلٌّ يحمل ما يستطيع حمله، من مرآة مغلفة بالقماش، إلى وسادة مطرّزة بعناية، إلى أدوات مطبخ ملفوفة جيدًا، أو حتى أجهزة كهربية ثقيل الحجم.
كان الجو حارًّا، والعرق يتسلل على الجباه، لكن لم يكن ذلك كافيًا ليخفت البهجة، فمع كل خطوة كانت الموسيقى الشعبية تملأ الأجواء، يتخللها أحيانًا صوت الزغاريد المتكررة من النساء الواقفات في شرفات منازلهن، يتفرجن على المشهد وكأنّه طقس مقدّس، عادة لا تُملّ.
ومن بين هذه الشرفات… كانت هي هناك.
واقفة في شرفة بيتها، وعلى جانبيها والدتها، وزوجة أخيها، وصديقتاها
ضحى ودلال
، وبنات عم موسى اللواتي تحوّلن اليوم، وبكل فخر، إلى جمهورها الخاص.
اليوم… كله لها.
كانت تبتسم بصمت، نظراتها تتبع الطابور المتحرك، تبحث عن وجهه بين الحشود، تشاهد الفرحة تمشي على أقدام الناس، تحملها الأيدي بحبّ، وكأن كل قطعة تُنقل الآن، هي جزء من هذا الحلم الذي طالما انتظرته.
صوت الزغاريد يتصاعد من كل مكان، تردده الجدران وتلتقطه القلوب، بينما صوت
داوود
، المشرف على نقل الأثاث، يعلو فوق الضجة بين الحين والآخر وهو يصرخ بحذر:
“على مهلك يا تامر… دي مراية، خف شوية!”
“شيل التلاجة دلوقتي وسيبك من الشاشة… بالراحة يا جماعة!”
ضحكات الرجال، قفزات الأطفال، خطوات الأقدام المتناغمة على الأرض، كلها كانت تعزف لحنًا واحدًا… لحن
الفرح الشعبي الصادق
.
كانت لحظة عادية… لكنها لهم كانت بداية عمر.
وسط الزحام والحركة، كان هو يقف، لا يميّزه شيء عن سواه سوى تلك اللمعة الخفية في عينيه.
يرفع هذا الكرسي، يناول ذاك صندوقًا، يصيح بحذر، يضحك على تعليقات البعض، ويتصبب عرقًا دون تذمّر، كل شيء كان يبدو عاديًّا حتى تلك اللحظة… لحظة التفت فيها بعفوية… ووقعت عيناه عليها.
كانت واقفة في شرفتها، يلفها الضوء كأن الشمس قد اختارتها دون غيرها لتغمرها، عيناها اللامعتان، وابتسامتها المرسومة على وجهها، لم تكن تحمل سوى معنى واحد:
الفرح الحقيقي
.
نظر إليها طويلاً… نظرة لا تليق إلا بالعشاق الذين لم يتعبهم الانتظار، بل جعلهم أكثر توقًا، نظرة عاشق لا يعرف الاكتفاء منها، وكأنها وطنه الذي لا يملّ التحديق في ملامحه، وهي برغم ازدحام الشرفة بمن حولها، لم ترَ سواه.
لكن اللحظة لم تطُل، فقد شقّ صوت دلال المشهد قائلة بخفة دمها المعتادة:
“ماتنّحش، وروح شيل معاهم… مش ده عزالك؟”
ضحك الواقفون، ونظر إليها موسى من بين الجمع بنصف عين، وقال بنبرة غاضبة ساخره:
“هاجي أشيلك دلوقتي وأرميكِ من عندك!”
انطلقت ضحكات من سمع، حتى دلال نفسها ضحكت، رغم النظرة النارية التي رمته بها، لكنها سرعان ما تلاشت حين غمز لها مبتسمًا.
عاد هو إلى العمل، يقاوم الحر بالإصرار، واستمر المشهد حتى بدأت الشمس تميل نحو الغروب، ومع آخر ضوء ذهبي، كان كل شيء قد اكتمل، الشقة تزيّنت بكل التفاصيل، كأنها كانت تنتظرهم لتُولد على يديهم.
في الطابق الثاني في بيت آل عُمران، تجمعت نساء العائلتين، يتبادلن الضحك وأحاديث الحماسة، بينما احتل الرجال والأطفال الطابق الأرضي في بيت يحيى_الذي عاد ليلة أمس_ وواجهة البيت، وبعضهم جلس أمام ورشة النجارة، حيث الهواء أخف، والمكان أقرب للظل.
وموسى كان هناك، يهبط من الطابق الأعلى، يحمل صينية فضية يعلوها أطباق الحلوى، التي بمجرّد أن وقعت عينا
حسين
على الصينية، نهض من مكانه بسرعة كطفل رأى لعبته المفضّلة:
“رز بلبن!”
انقضّ على طبقين دفعة واحدة، وكأنما خشي أن يختفيا، فانهالت ضحكات أصدقائه عليه، بينما كان موسى يوزّع الأطباق على البقية، كما فعل أولاد عمومته مع الرجال قبل قليل.
وما إن أنهى موسى التوزيع، حتى وضع الصينية جانبًا وجلس بينهم، يتناول طبقه بهدوء، حتى سأله
محسن
بتأمل:
“نفسي أعرف… ليه دايمًا بتوزعوا رز بلبن في أفراحكم؟”
ابتلع موسى ما في فمه، ثم هز كتفيه قائلاً:
“ولا أعرف… أنا وعيت لقيتهم بيعملوا كده، بس أعتقد جدي هو السبب.”
أومأ محسن بتفهم، وعاد ليكمل طبقه، بينما علّق
سامي
وهو يلوّح بملعقته:
“بس والله… تسلم إيدين اللي عمله، أهو حاجة تدي power في الحر ده.”
أيّده حسين بحماسة:
“آه والله، كنت هِموت من الحر ياجدع… اشتغلت لحد ما كتافي اتخلعت!”
رفع كارم حاجبه وقال ببرود غلفه السخرية:
“بلاش تحوير يا سحس، ده أنت أتقل حاجة شلتها كانت تربيزة المطبخ، وعم مصطفى أخدها منك في نص الطريق.”
انفجرت ضحكات الجميع على تعليقه، بينما رماه حسين بنظرة غيظ لم تؤذِ أحدًا، ثم أكمل طعامه بصمت مصطنع.
وبعد أن هدأت الضحكات قليلًا، قال
محسن
بنبرة متأملة، وهو ينظر حوله:
“بس تصدقوا؟ أنا بحب أفراح عيلتكم ياموسى، بسيطة وسهلة كده، مفيهاش تعقيد، كلكم ماشين بمبدأ طالعة من بيت أبوها… داخلة بيت الجيران.”
تعالت الضحكات مجددًا بعدما أنهى محسن عبارته، فيما انتظر موسى أن تهدأ الضجة قليلاً، ثم قال بابتسامة ملؤها الاعتراف:
“إحنا عيلة تعشق جواز القرايب… تقريبًا ما سمعناش عن أضراره!”
انفجرت موجة أخرى من الضحك، ثم علق محسن وهو يومئ برأسه بتأملٍ يشبه الاستيعاب المتأخر:
“تصدق؟ آه والله… الوحيد اللي اتجوز من برّه العيلة هو فادي، حتى مريم، بنت عمك، متجوزة ابن خالها.”
رفع موسى حاجبيه وهو يتناول ملعقة من طبقه، وقال ساخرًا:
“لسّه واخد بالك؟”
هز محسن رأسه وأجاب بهدوء لا يخلو من دهشة:
“آه.”
ضحك موسى بخفة، قبل أن يقطعه صوت مفاجئ، صوت
حسين
الذي نهض فجأة بحدة وهو يقول بانفعال مباغت:
“كُل زلط! دول بتوعي!”
التفتت العيون نحوه دفعة واحدة، فيما رفع حسن حاجبيه متسائلًا بقلق:
“مالك يا حسين؟!”
أشار حسين بملعقته نحو شقيقه كارم، ثم قال بعينين ضيقتين غاضبتين:
“بيحاول يشاركني في طبقي!”
ساد لحظة من الصمت الثقيل، قبل أن ينفجر الجميع بالضحك من جديد، وقد انقلب الموقف إلى نكتة فوريّة.
أما كارم، فقط كان جالسًا بينهم، يحاول جاهدًا كتم ضحكاته، يعضّ على شفته السفلى، بينما يهتزّ كتفاه من كثرة الكتمان.
رمقه حسين بنظرة لاذعة، ثم نفض عن نفسه ما تبقى من جدال، واتجه إلى درج مدخل البيت، وجلس هناك وحده، يحتضن طبقه المُتبقي كما لو كان كنزًا، ويأكل منه براحة بالغة، بعيدًا عن الطامعين.
عاد الجميع بنظراتهم إلى كارم، الذي ما لبث أن قال متلعثمًا، والضحك يوشك أن يفلت من فمه:
“أنا كنت… بنكشه بس.”
لم يحتج الأمر لأكثر من تلك الجملة، حتى عادت الضحكات ترتفع من جديد، ببهجتها الصافية، كأنهم لا يعرفون في هذا اليوم سوى الفرح، ولا يحتفلون فقط بزواج موسى… بل يحتفلون بالحياة كما يحبّونها:
بسيطة، عفوية، ومليئة بالضحك الصادق.
وهناك، على درج المدخل حيث جلس حسين يحتضن طبقه وكأنما يخبّئ فيه سعادته الصغيرة، يأكل في هدوء تام بعيدًا عن عبث صديقه وثرثرة الجالسين، كان الزمن بالنسبة له قد توقف… حتى وقعت الكارثة.
من أعلى الدرج، كانت
هي
تترجل بخفة، تحمل في يديها بعض العبوات التي لم تُغلق بإحكام، تتأمل إحداها دون أن ترفع عينيها عن الغلاف، منشغلة في فرز الألوان التي بداخلها، ولم تلحظ ذلك الجالس في الأسفل، لم ترَ كيف يحتضن طبقه وكأنه يحرسه من العالم، ولم تنتبه لخطواتها…
تعثّرت قدمها فجأة، وتمايل جسدها إلى الأمام، وفي محاولة للاتّزان أفلتت إحدى العبوات من يدها، لتسقط بانسياب غادر… على رأس حسين وطبقه مباشرة.
كانت عبوة ألوان مائية_ تستخدمها في رسم لوحاتها_ وانسكب اللون بكامل حريته، على قميصه الأبيض أولًا، ثم على رز بلبنه العزيز!
تجمّد حسين في مكانه، لم يتحرك، لم يصرخ، لم يلتفت… فقط ظلّ يحدّق في طبقه، كأنّه يرفض تصديق ما يراه.
اللون الأحمر الداكن اختلط بالحلوى البيضاء، كأنّ أحدهم قرر أن يحوّلها إلى لوحة فنية لا معنى لها.
رفعت الفتاة نظرها ببطء، وصُدمت برؤية الكارثة التي تسببت فيها، وضعت يدها على فمها فورًا، وعيناها تملأهما الذهول:
“أ… أنا آسفة جداً! والله ما شفتك…”
رمقها حسين بنظرة ثقيلة، مزيج بين الغضب، والحسرة، والخذلان، كما لو أنها أراقت روحه مع ما أراقت، ثم قال ببطء:
“ليه كده؟… يعني ليه؟!”
اقتربت منه بخطى مترددة، وجهها تغمره الصدمة، وضعت إحدى يديها على فمها، وفي صوت مرتبك، خرجت منها الكلمة الأولى:
“قميصك!”
رفع عينيه إليها للحظة خاطفة، ثم أعاد نظره إلى طبقه كمن يحمل مصيبة لا يريد مواجهتها، وقال بصوت غارق في الأسى:
“يغور القميص… الرز بلبن؟ هو كان ناقص يتحطله كاتشب يعني!”
نظرت إلى الطبق، ثم إلى وجهه، كأنها بدأت تكتشف تدريجيًا حجم الفاجعة في عينيه لا على قميصه، لم تكن ملامحه ساخطة بقدر ما كانت مجروحة، كأنما فقَد شيئًا عزيزًا لا يعوَّض.
همست بصدمة لم تستطع أن تخفيها:
“يعني… انت زعلان علشان الرز بلبن؟ مش علشان القميص؟”
نظر لها هذه المرة مطولًا، عينيه تنطقان باليقين، وقال بنبرة جدية عبثية:
“يحرق القميص… هو أنا هاكله؟ الأهم الرز بلبن.”
ظلّت تحدّق فيه، ذاهلة، لا تصدق ما تسمعه، كانت تتوقع نوبة غضب، ربما تأنيبًا، أو على الأقل انزعاجًا من الفوضى التي تسببت بها.
لكن ها هو… لا يأبه لقميصه الملطخ، ولا لوجهه الذي تزينت إحدى وجنتيه ببقعة لون، ولا حتى لشعره الذي بدا وكأنه خرج لتوه من معركة طلاء.
كل ما يشغله… طبق الرز بلبن.
شعرت بأنها دخلت عالمًا غريبًا، وأن هذا الرجل أمامها طفلاً، والله بملامحه هذه يبدو كالطفل الذي فقط لعبته المفضلة.
رمقته بتعجب، ثم انفلت منها ضحكة خفيفة، خافتة، وهي تغطي فمها مجددًا، هذه المرة ليس خجلًا… بل كي لا يُقال إنها تضحك على ألم رجل فقد أعزّ ما يملك.
أما هو، فتنهد بأسى وقال دون أن يرفع عينيه عن الكارثة في طبقه:
“كان طعمه حلو… وكان فيه لوز.”
كتمت ضحكاتها بصعوبة، كانت تحاول أن تُبقي الجدية على وجهها احترامًا لخيبة أمله، لكن ملامحه البائسة لم تترك لها مجالًا إلا لتبتسم بخفة، ثم قالت بنبرة معتذرة ممزوجة بالخجل:
“أنا آسفة والله… أنا كنت نازلة علشان أشتري علبة زيها، وماشفتكش، ورجلي فجـــ…”
توقفت فجأة، ليس لأنها نسيت ما كانت ستقوله، بل لأنها انتبهت أنه لم يكن يُنصت من الأصل.
كان شارده كله منحصرًا في ما بين يديه… ينظر إلى طبقه كمن يقرأ عليه الفاتحة، أو كأنما يودّعه إلى الأبد.
شعرت بوخز خفيف في ضميرها، لا تدري لماذا، فالوضع كله، رغم طرافته، جعل قلبها يرقّ للحزن المرسوم على ملامحه، وكأنها سلبت منه لحظة كان ينتظرها منذ بداية النهار.
قالت برقة صادقة، كمن يعرض الصلح بعد خطأ غير مقصود:
“خلاص… ماتزعلش، هجيبلك طبق غيره.”
وما إن أنهت جملتها، حتى لمحَت طفلًا يمر أمامها بسرعة، فنادت عليه على الفور:
“زيزو! زياد!”
توقف زياد والتفت إليها، فأشارت له أن يقترب، وحين وصل قالت برجاء:
“معلش يا زياد، ممكن تطلع فوق تجيبلي طبق رز بلبن بسرعة؟”
لكن الرد جاء كطلقة مفاجئة:
“الرز بلبن خلص.”
اتسعت عيناها بصدمة، كأنها تلقت خبرًا مأساويًا، والتفتت فورًا نحو حسين لتطالعه، فقط لتجد وجهه وقد ازداد انطفاءً، كأن هذه الجملة تحديدًا كانت القاضية.
همست لنفسها بغير تصديق:
“خلص؟!”
أومأ زياد بجديّة وهو يشرح وكأنه يُبلغ عن خبر عاجل:
“آه… آخر طبق أخده منذر من شوية.”
ضمّت شفتيها بأسى، ثم أومأت للصغير برقة:
“طب خلاص، روح إنت يا زيزو، شكراً.”
انطلق الطفل مبتعدًا، بينما هي زفرت تنهيدة ثقيلة وكأنها تحمل ذنبًا لا تدري كيف تكفّره، ثم عادت بعينيها نحو ذلك الجالس المنهار على الدرج، يائسًا، يحتضن الطبق كما يحتضن الناس الذكريات الجميلة بعد ضياعها.
راقبته لحظة بصمت، قبل أن تلمع في عينيها فكرة… شيء شبيه بالتصميم؛ فقالت بنبرة خفيفة فيها شيء من الأمل:
“أنا هطلع أعملك طبق بسرعة.”
رفع رأسه إليها فجأة، كأن الحياة عادت له للحظة، ثم قال بتعب:
“لا… مفيش داعــ…”
لكنها لم تكن تنتظر إذنًا، ولا حتى رفضًا، كانت قد اختفت بالفعل، صعدت الدرج بخفة، كما لو أنها تحاول اللحاق بلحظة لا يجب أن تُفلت منها، تحمل في ذهنها صورة لرزٍ بلبن قد لا يكون كالأول، لكنه على الأقل… سيُهدي هذا الوجه الحزين شيئًا من الرضا.
وغاب صوت خطواتها، تاركةً خلفها صمتًا مفاجئًا، وطبقًا منكوبًا، وقلبًا ينتظر… ولو ملعقة تعوّض الخسارة.
_________________
مرّت قرابة نصف ساعة…
كل شيء بقي على حاله تقريبًا، الرجال ما زالوا متجمّعين في زوايا متفرقة، يتبادلون النكات والضحكات، والزغاريد تتسلل من حين إلى آخر كنبضات فرح خافتة، تمتزج بأصوات الموسيقى الشعبية، وصخب الأطفال وهم يركضون في الأزقة، يحملون بين ضحكاتهم براءة المساء.
أما هو، فظلّ في مكانه، فقط غاب لدقائق ليغسل وجهه وشعره من أثر “النكبة”، ثم عاد وجلس على مقعد خشبي جانبي، بعيدًا عن الضوضاء، باحثًا عن هدوء يرمم به مزاجه المشروخ… وربما_إن لم يكن أكيد_ لينام قليلًا.
لكن شيئًا ما قطع خدر النعاس عن عينيه… شعور خفيف بأن شيئًا ما يحجب نور المصباح الصغير فوقه.
فتح عينيه ببطء، ليجدها أمامه، كانت تقف بخجلٍ مزيّنٍ بالاعتذار، تمدّ يديها نحو طبقه الجديد… ذلك الذي وعدته به، ثم قالت برقة، بصوت منخفضٍ بالكاد يعلو على الضجيج المحيط:
“اتفضل.”
نظر لها، ثم إلى الطبق، كأنما يراجع إن كان يحلم، وسرعان ما اعتدل في جلسته، وأخذه منها بعفوية، ثم سأل، بنبرة جدية لا تشي بأي امتنان ظاهر:
“مفيش معلقة؟”
نظرت إليه للحظة، كأنها لم تصدّق ما سمعته، كانت تنتظر كلمة شكر، أو حتى ابتسامة اعتراف بالجميل، لكنه ببساطة… يسأل عن الملعقة!
أخفت انزعاجها بابتسامة باهتة، ثم مدّت يدها بملعقة بلاستيكية وهي تردد:
“اتفضـ…”
لكنها لم تكمل، لأنه ببساطة كان قد خطف الملعقة من يدها قبل أن تتم الكلمة، وبدأ يأكل بشغف واضح.
رمقته بنظرة ضيق، ثم قالت بنبرة خافتة:
“بألف هنا.”
فجأة توقف، ورفع عينيه ببطء نحوها، وسأل بهدوء:
“هو أنتِ اللي عاملاه؟”
توترت قليلًا، ثم ابتسمت وأومأت برأسها، وقالت:
“آه… أنا اللي عملاه.”
تسللت بسمة تدريجية إلى وجهه، بسمة بدت في عينيها طفولية، بسيطة… لكنها صادقة، ثم قال:
“تحفة أوي… تسلم إيدك.”
أنهى الجملة وعاد إلى طبقه، يأكل منه بنهم وسعادة لم يعد يخفيها، بينما هي وقفت في صمت، تنظر إليه باستغراب لا يخلو من الدفء.
وبعد لحظة زفرت بهدوء، وقالت:
“طب، أنا همشي بقى.”
استدارت لتغادر، لكن أوقفها صوته، وهو ينادي بهدوء:
“استني.”
توقفت، التفتت إليه من جديد، فوجدته قد نهض من مكانه، يحمل الطبق بيد والمعلقة بالأخرى، يبتسم وهو يقول:
“شكراً.”
ردت بابتسامة خفيفة، وأومأت برأسها:
“العفو.”
لكن وقبل أن تستدير من جديد، وجدته يضيّق عينيه قليلاً وهو يتأمل وجهها، ثم قال بعفويةٍ غريبة:
“عينيكِ.”
تجمدت ابتسامتها، ورفعت يدها بسرعة تتحسس عينيها بخوف:
“مالها؟؟”
ابتسم على اتساع وجهه، ثم قال بعفوية خالصة:
“بتخليني أجوع… علشان بتفكرني بالملوخية.”
صمتت لثانيتين، عيناها تحدّقان فيه، كأنها تحاول أن تستوعب ما سمعته للتو، رمشت ببطء، ثم مالت برأسها قليلاً للجانب، وقالت ببرود خافت:
“بألف هنا.”
لم تضف شيئًا آخر، استدارت وغادرت بخطى هادئة، تقلب عينيها بضيق واضح، وكأن حديثه الأخير لم يرق لها ألبتة.
راقبها وهو تبتعد. لم يتوقع رد فعلها بذلك البرود، ظلّ يتبع خطواتها بنظره حتى اختفت، ثم قال لنفسه، بنبرة مستنكرة خفيفة:
“هو أنا قلت حاجة غلط؟”
هزّ كتفيه ببساطة، كمن تعوّد ألّا يُجهد نفسه في فك طلاسم البنات، ثم أعاد ظهره إلى الوراء، وجلس من جديد على الكرسي الخشبي، ورفع ملعقته نحو الطبق كأن شيئًا لم يحدث.
تذوّق ملعقة جديدة، وأغمض عينيه للحظة، كمن يستعيد لذّة دفينة، ثم قال وهو يبتسم:
“طعمه حلو أوي… باين عليها نفسها حلو في الأكل.”
لم ينتظر ثانية، التهم ملعقة أخرى، وقبل أن ينهيها، التفت بجسده نصف التفاتة، ونادى بصوت مسموع وسط الجموع:
“موسى!”
انتبه موسى للصوت، وكذلك أصدقائه، رفع رأسه وناداه من بعيد:
“نعم يا سحس؟”
رد حسين وهو يرفع صوته قليلاً:
“هي بنت عمّك اسمها إيه؟”
“أي واحدة فيهم؟”
هتف حسين على الفور، بصوته المألوف البارد:
“اللي عينها خضرا… شبه القطط.”
ساد لحظة من الصمت، قبل أن يجيب موسى، وقد علت نبرته بمزيج من الدهشة وخفة الدم:
“أولًا… دي بنت عمّتي مش بنت عمّي، واسمها
مِسك…
بتسأل ليه؟”
ردّ حسين وهو يلوّح بيده كأنما يدفع الفضول بعيدًا:
“ولا حاجة… ما تاخدش في بالك.”
أنهى كلمته، ثم استدار مجددًا إلى طبقه، وكأن كل ما قيل للتو لا يعني شيئًا، لكن البقية ظلّوا يرمقونه في صمت، بينما التفت موسى نحو من حوله، يهمس ساخرًا:
“الواد ده ناوي ع الشر ولا ايه؟؟.”
أما حسين، فقد انشغل مجددًا بملعقته، ابتسم وهو يغمسها في الطبق، ثم قال بهمس، لا يسمعه إلا طبقه وربما قلبه:
“مِسك! اسم خفيف ودلوع زي صاحبته.’
قالها وهو يبتسم بخفة، ثم أغمض عينيه مجددًا وهو يتذوق الحلوى… كأن الطعم أصبح أطيب، والاسم… أطيب.
_________________
مع مرور الوقت،..
حين بدأت خيوط الفجر الأولى تتسلل برفق إلى الأرصفة والنوافذ، تهمس بأن يومًا جديدًا قد بدأ، كان هو واقفًا عند الباب، يمسك بحقيبة سفره بيدٍ، وبعينه ألف رغبة في البقاء.
أما هي… فكانت تقف أمامه، لا تقول شيئًا، عيناها وحدهما كانت تتكلم، تلمعان بدموع خرساء، تقاوم الانسكاب.
نظر إليها بأسى، ثم وضع الحقيبة جانبًا، واقترب منها، احتضن وجهها بكفيه، وكأنما يحاول أن يختزن ملامحها في قلبه قبل الرحيل.
ثم قال بصوت حاول أن يكون مطمئنًا، رغم الرقة التي خنقته:
“خلاص بقى يا قلب طارق… وحياتك ما تعيّطيش.”
لم تنجح دموعها في التراجع، لكنها مسحتها على عجل، وهمست بصوت متهدّج:
“ما كنتش عايزاك تسافر… كنت عايزاك تحضر معانا كل حاجة، أجواء الفرح واللمة والضحك.”
أومأ بحزن، وقال وهو ينظر في عينيها:
“والله وأنا كمان، ده ابن أختي، وكنت عايز أفرح معاه لحظة بلحظة… بس ده شغلي، وغصب عني.”
مرّر إبهامه على وجنتها بلطف، كما لو أنه يهدئ بها قلبها لا دموعها فقط، وقال بابتسامة حنونة:
“بس إن شاء الله، أرجع يوم الفرح الصبح، وأفرح معاكم… ومعاكِ يا قلبي.”
أومأت برأسها بصمت، ثم قالت بخفوت:
“تروح وترجع بالسلامة… خلى بالك من نفسك.”
ابتسم، ومال بوجهه نحو رأسها، وطبع قبلة هادئة فوق جبينها، قبلة تشبه العهد، ثم تراجع وهو يقول:
“وإنتِ كمان خلي بالك من نفسك… ومتنسيش، صوريلي الاحتفالات كلها… علشان مايفوتنيش حاجات كتير.”
“حاضر…”
همست بها، محاولة أن تستقر ابتسامتها في وجهها المرتبك، بينما هو؛ فتأملها لثوانٍ كأنها وطنه الذي لا يريد مغادرته، ثم مسح على خدها برفق، وهمس:
“يلا… أنا همشي بقى، علشان ما أتأخرش، أشوف وشك بخير… يا وطني.”
ابتسمت رغماً عنها…
ذاك اللقب، “يا وطني”، صار يُناديها به كثيرًا في الآونة الأخيرة، تكرهه حين يرحل، وتعشقه حين يهمس به.
راقبته وهو يلتقط حقيبته من جديد، تلاحقه بنظراتها، كأن عينيها تربطانه بخيوط غير مرئية… تمنعه من الرحيل، ولو للحظة إضافية.
كان يمشي بثقلٍ، لا من الحقيبة التي يحملها، بل من فكرة أنه يترك خلفه قلبًا يعرف كم يشتاق، حتى قبل أن يغيب.
كانت خطواته على الدرج هادئة، مترددة، وكأن كل درجة ينزلها تُبعده عنها أكثر مما يتحمّل.
في يده حقيبته، وفي الأخرى رفعها يضبط بها قبعته على رأسه، لكنه ما إن رفع وجهه حتى توقّف فجأة.
أبصره… واقفًا هناك، يسند ظهره إلى السيارة، ذراعيه مطويتان على صدره، وعيناه تراقبانه وكأنهما كانتا تنتظران هذه اللحظة تحديدًا.
اتسعت عينا طارق، وغمرت الدهشة ملامحه، وهمس بغير تصديق:
“موسى؟! إيه اللي جابك؟! وإيه اللي مصحيك دلوقتي أصلاً؟!”
تقدّم موسى نحوه بخطوات واثقة، يضبط قبعته في حركة تلقائية كعادته، ثم قال بنبرة هادئة لا تخلو من الحنو:
“جيت علشان أوصلك.”
_________________
بعد أن قطعا الطريق في صمتٍ دافئ، توقفت السيارة أخيرًا أمام بوابة المطار، انطفأ صوت المحرك، وانطلقت لحظة الصمت الكبرى.
ترجل كلاهما، ودار طارق بخطى معتادة نحو صندوق السيارة، فتحه، أخرج الحقيبة، ثم أغلقه بهدوء وكأن صوت الصدمة الأخيرة على الصفيح ختم وداعًا غير مُعلن.
اقترب من موسى، الذي ظل واقفًا إلى جوار باب سيارته، يتابعه بنظرات لا تقول الكثير، لكنها تحمل أكثر مما يُقال.
ثم قال طارق وهو يناوله نظرة امتنان صافية:
“شكرًا على التوصيلة.”
رد موسى بإيماءة خفيفة، وصوت خفيض بالكاد يُسمع:
“العفو.”
رفع طارق يده يشير له بود، وقال بنبرة خفيفة فيها من المحبة أكثر مما فيها من الرحيل:
“سلام.”
أومأ له موسى مرة أخرى، لم يُزح عينيه عنه، فقط تابعه وهو يتجه نحو مدخل المطار، لخطوات ثابتة، لكنها بطيئة… وكأن قلبه يقاوم كل خطوة.
لكنه مضى…
مضى حتى توقف فجأة على صوتٍ تسرّب من خلفه، حادًّا، عميقًا، صادقًا:
“خالو!”
استدار طارق بسرعة، ليراه يتقدّم نحوه، لم يتكلم، لم يبتسم، لم ينتظر، فتح فقط ذراعيه على وسعهما، فكان العناق هو كل اللغة، ضمّه موسى إلى صدره، كما لو أنه يحاول أن يُخبئه داخله، كما لو أن لحظة كهذه، مهما كانت قصيرة، قد تحفظه من الغياب.
ابتسم طارق رغم كل شيء، وترك الحقيبة لتقع أرضًا دون اكتراث، وعانقه بالمثل… كمن يعلم أن القلب لا يوزن بالأميال، بل بالمكانة.
همس موسى وهو ما يزال ممسكًا به:
“غيابك هيأثر… فرحي مش هيبقى ليه طعم من غيرك، أوعى تغيب… اتفقنا؟”
ظلّ طارق صامتًا للحظة، لكنه شدّد العناق أكثر، كمن يطبع وعده بصدره لا بصوته، ثم تراجع قليلًا، نظر إلى وجه موسى الذي بدأ يلمع بعينين لا تعرفان التظاهر.
ربت على كتفه وقال بنبرة دافئة:
“مش هغيب… وهفرح بفرحتك إن شاء الله.”
ابتسم موسى، وابتسم معه الفجر في الأفق… وغادر طارق، حاملاً وعدًا، وترك خلفه قلوباً تنتظره دون ضجر.
_________________
في اليوم التالي، وتحديدًا في اليوم الذي يسبق ليلة الزفاف المنتظرة، كان موسى يجلس وسط أصدقائه في السيبر كالمعتاد، حيث قضوا سنوات الطفولة والمراهقة، وحيث بقيت لهم زوايا تشهد على ضحكهم، شجاراتهم الصغيرة، وكل ذكريات “العزوبية” التي توشك على الانتهاء.
ضحك متواصل، أصوات مرتفعة، جدالات تافهة لكنها لذيذة، وصوت حسين الصاخب الذي يعلو الآن بينما يتعارك مع كارم بسبب… تفاحة.
“أنت أخدتها مني!”
“ما أخدتهاش، كانت على التربيزة، واللي يلاقي حاجة تبقى بتاعته!”
“دي بتاعتي يا عم!”
“بتاعتك إيه؟ مكتوب عليها اسمك؟!”
ووسط موجة الضحك التي فجّرها هذا الجدال السخيف، شعر موسى باهتزاز خفيف في جيب بنطاله.
أخرج الهاتف، نظر إلى الاسم الذي يضيء الشاشة، فابتسم تلقائيًا، ثم أجاب:
“ألو يا جدي.”
جاءه صوته جده الرتيب:
“أيوه يا موسى، تعالى على البيت.”
تغيّرت ملامح موسى قليلًا، وانعكست على نبرة صوته التي بدت قلقة بعض الشيء، فالتفت نحوه أصدقاؤه دون قصد، يراقبون رد فعله.
“ليه؟ في حاجة؟”
رد محمد ببساطة، دون تفاصيل:
“لأ، بس عايزك في كلمتين.”
أومأ موسى وهو يقول باهتمام:
“تمام… ماشي، أنا في السيبر، مسافة السكة.”
أغلق الهاتف، وأعاد الجهاز إلى جيبه، ثم نهض من مكانه وهو يربّت على كتف سامي:
“عن إذنكم يا شباب، مضطر أمشي، جدي عايزني.”
هزّوا رؤوسهم بالإيجاب، لكن محسن قال بنبرة مرحة:
“ولا يهمك… خد راحتك يا برنس.”
وهنا، كأن شيئًا خفيًا في الجملة أثار انتباه الثلاثة الآخرين، التفتوا إلى موسى بنظرات مشككة، ممتزجة بفضول لم يُخفَ، وسأل ببساطة:
“آخد راحتي في إيه؟!”
ضحك محسن بخبث، وقال بنفس النغمة المريبة:
“خد راحتك… وإحنا هنستناك.”
تأملهم موسى لحظة، ثم هزّ رأسه ساخرًا:
“آه… ماشي يا سيدي.”
التقط مفاتيحه من الطاولة، واتجه نحو الباب، قال وهو يلوّح بيده:
“يلا، عن إذنكم.”
غادر موسى، تاركاً العيون ترافق خطواته حتى ابتلعته الزاوية.
وبمجرد أن غاب،انقلبت الأجواء، فالتفتت الأنظار، دفعة واحدة، إلى محسن، نظرات غاضبة، حانقة ،ومتواطئة، لم تنطق لكنها قالت كل شيء.
شعر محسن بالحرج يشتعل في عنقه، مرّر يده عليه بتوتر، ثم حاول أن يذرّ الرماد على النار بضحكة باهتة:
“إيه يا جدعان… ما تبصوش كده، هو ماخدش باله من حاجة.”
وهنا، نهض سامي فجأة، بحركة هادئة… لكنها مشبعة بالقرار، ثم قال بصوت منخفض، لكنه قاطع:
“يلا… نبدأ نجهّز كل حاجة قبل ما يرجع.”
نظرة واحدة تبادلوها، ثم بدأت الأجساد تتحرك، جذب كارم حسين من الأريكة بشدة، حتى كاد الأخير أن يسقط من غفلة الرد، فصرخ:
“إيه يا بني آدم؟!”
رد كارم بابتسامة مستفزة:
“يلا بقى يا سحس، قوم بدل ما أقعد فوقيك.”
تنهّد حسين، لكنه وقف، كأنه يعرف أن لا مجال للكسل الآن.
تجمّعوا جميعًا، لا أحد يشرح، لا أحد يطلب شيئًا، كلٌ منهم يعرف دوره، يعرف ماذا عليه أن يفعل.
ففي قلب كل صداقة صادقة، ثمة مفاجأة تُنسَج بصمت، لحظة يُعدّ لها خلف ظهر من يحبونه، لا ليخدعوه، بل ليُبهروه.
هكذا بدأوا… يُجهّزون لما لا يعرفه موسى، ولكنه، دون شك، لن ينساه.
_________________
وصل موسى إلى وجهته، وقف أمام الباب… رفعه حاجبيه بدهشة، فالباب_على غير العادة_كان مغلقًا، والصمت حوله لا يُشبه بيت جده الذي يعرفه منذ الطفولة.
مدّ يده وطرق الباب بخطوات ثابتة، صوت الطرق لم يكن مرتفعًا، لكنه كان يحمل سؤالًا صامتًا في داخله:
“هو في إيه؟”
ثوانٍ فقط… ثم انفتح الباب، ولم يسمع كلمة، لم يلمح وجهًا واضحًا… بل دخل على عتبة بيت يعرف تفاصيله، لكنه الآن… غارق في عتمة غريبة.
الظلام عمّ المكان كستارٍ يُخفي شيئًا ما.
كاد يسأل، كاد ينطق…
لكن فجأة.. ا
لأنوار أضاءت دفعة واحدة.
وانفجر الضوء في أرجاء المكان، لتنكشف الأجساد التي كانت مخفية، والضحكات التي كانت تنتظر، وصوت الأغنية الذي دوّى في كل ركن، كأن الحوائط نفسها ترقص.
وجدهم جميعًا… بنات عائلتخ، الوجوه التي يعرفها، والأهم…
هي.
كانت تقف بينهم، تبتسم بخجل وفرحة، كمن حُمّلت بنبأ سار وكأنها على وشك الطيران.
كادت تتراجع، لكن “دلال” دفعتها برقة لتتقدّم وتقف بجواره، وما إن فعلت، حتى بدأت الحركة… الحركة التي بدت وكأنها مخطط لها منذ زمن.
تحرّكن الفتيات من حولهم، يتحركن بخفة، يردّدن كلمات الأغنية، وجميع العيون عليه.
ارتفع الصوت، وبدأ الموكب الغنائي:
“زينة شباب العيلة الحيلة
الحلوة دي جابت رجليه
من ناحية إنها بنت جميلة
دي جميلة طبعًا، هنقول إيه”
ضحك موسى بذهول، نظر يمينًا ويسارًا، ثم إليها… ليجد فيروز تضحك بقلبها لا بفمها فقط.
عادت الفتيات، بقيادة دلال، وقفن بجوارها، وهتفن بمرح:
“دي بنتنا المحروسة عروسة
أدب ورقة وأخلاق إيه
والحب ورطة وحيرة وحوسة
خطفها منّا سعادة البيه”
ثم التفتن للجهته وتابعن:
“دي بنتكم المحروسة عروسة
أدب ورقة وأخلاق إيه
والحب ورطة وحيرة وحوسة
خطفها منكم سعادة البيه”
ضربت الدهشة والضحك وجهه دفعة واحدة، وضاعت ملامحه بين ابتسامة واسعة وصوت يعلو بالضحك الخالص.
شدوهما إلى الوسط، هو وهي، وباتوا يدورون حولهما في حلقةٍ من الفرح، يرددون بصوت واحد، بانسجامٍ مذهل:
“باركوا وغنوا وهنّوا، اتمنّوا
الخير للحلوين
والعُزّال يهبطوا ويكنّوا
ويحرسهم من العين”
“أحلى عروسة وأحلى عريس
سيبوا الحري للناس متاعيس
وافرحوا بالعروسين”
في تلك اللحظة، لم يكن موسى وسط عائلته، ولا محاطًا بأحبابه فحسب، بل كان في قلب احتفالٍ لا يُشبه سواه… احتفال صُنع له وحدهما، بأيدي من يحبّونهما، وفي عيون من أحبّها حتى آخر مداه.
تلك التي كانت تقف أمامه، لا تبتسم فقط، بل تنبض… نعم، كانت كلّها تبتسم: ملامحها، عيونها، وحتى حضورها.
عيناها الآن، في تلك اللحظة بالتحديد، تحكي له قصة حبٍّ لم تُكتب بالحروف، بل بنبضٍ صادق.
نظراتها كانت دعاءً خفياً، ووعدًا عميقًا، ورسالة لا تصلح إلا له.
أما هو… فكان العاشق الحالم، الذي سار سنواته كلها على أمل أن تمشي هي بجواره في ما تبقى منها.
الذي تخيل ضحكتها في كل صباح، وصوتها في كل مساء، وحكاياتها في المطبخ، وهمساتها على الأريكة، ومواقفها الصغيرة التي ستملأ البيت بالحياة.
وها هو الآن، يقف أمامها، وفي قلبه يقين واحد:
“أن الله حين وهبها له… فقد أنصف قلبه أخيرًا.”
كان المشهد أكبر من مجرد مفاجأة، وأعمق من تجمع، وأجمل من كل الزينة والضحكات، فالحلم_ذلك الذي تمنا دوماً_ بات اليوم
قريبًا جدًا،
بين
قوسين أو أدنى…
خرجا من تلك اللحظة التي كبّلهما فيها الزمن… لحظة كانت كأنها مقتطعة من حلم، على صوت دلال، وهي تصفق بيدها في الهواء، وتقول بنبرة حاسمة، مرحة:
“يلا بنات، خلّصنا هنا… تعالوا نكمّل هناك.”
ضحكت فيروز، ضحكة خفيفة اختلط فيها الخجل بالفرح، ثم استدارت لتنسحب مع الفتيات، جذبنها كما يجذب النهر قطرة ماء تعود لمجراه.
أما موسى، فبقي في مكانه… كأن قدميه رفضتا الحراك، وعيناه لا تزال معلّقتين في أثرها، يتابع خطواتهن المندفعة خارج المكان، وفمه مفتوح قليلًا، كما لو نسي كيف يُغلق.
مرّت دلال، آخر الخارجين، ولوّحت له بمرح وهي تضحك وتقول:
“باي يا عريس.”
رمش موسى ببطء، كأن الحياة تحاول استيعابه بعد أن جرّدت اللحظة من المنطق، ثم تابعها بعينين ممتلئتين بالذهول، حتى أغلقت الباب خلفها برقة، تاركة وراءها صمتًا مفاجئًا.
أدار موسى رأسه، تأمل المكان الخالي، كل شيء فيه لا يزال ينبض ببقايا ضحكاتهم،
برائحة الورد التي ألقوه عليهما، بأصداء الأغنية التي لا تزال تتردد في ذهنه.
ثم فجأة…
صفّق بكفّه على الأخرى، وهو يهمس لنفسه بنبرة مدهوشة:
“لاحول ولا قوة إلا بالله… أنا ما بقيتش فاهم حاجة.”
قالها وهو يجلس على أحد المقاعد، ينظر إلى الفراغ من حوله كأن المكان نفسه لا يصدق ما حدث، كأن الضحكات التي ملأت الأرجاء منذ لحظات… كانت حلمًا.
مرّر كفه على وجهه، تنفّس بعمق، ثم وقعت عيناه على باب الشرفة، نصف موارب، يتسلل منه ضوء هادئ ونسيم خفيف.
نهض بخفة، كأن شيئًا ما هناك يناديه، اقترب، فتح الباب، وخطا إلى الخارج، لكن قبل أن يستنشق الهواء كاملًا، جاءه صوت ساكن، قريب، لا تخطئه أذنه:
“خلصتوا؟”
تجمّدت خطواته، واتسعت حدقتاه بدهشة مفاجئة أدار رأسه ببطء، وإذا بجده، يجلس على الكرسي الخشبي عند الركن، بهدوئه المعتاد.
تراجع موسى خطوة وهو يقول بفزع خافت:
“بسم الله الرحمن الرحيم… حضرتك هنا من بدري؟!”
أجابه محمد وهو يعدّل جلسته قليلًا:
“من بدري أوي.”
ابتسم موسى، وقد هدأ قلبه بعد الصدمة، تقدم وجذب مقعدًا آخر، وجلس إلى جواره، ثم قال ضاحكًا:
“أكيد من بدري… ماحضرتك كنت متفق معاهم.”
هزّ محمد رأسه بهدوء، ثم قال بصوته الرتيب الذي يحمل الوقار والحكمة معًا:
“دلال هي اللي طلبت مني، وأنت عارف… مستحيل أرفض لها طلب.”
ابتسم موسى وهو ينظر أمامه، يردد بمرحٍ:
“طبعًا… ما هي حبيبة أبوها بقى.”
صمت بسيط تلا جملته، صمت كان من النوع الذي لا يثقله الكلام… لكنه انكسر فجأة، بصرخة فرح حادة، زغرودة عالية صدحت من الجهة الأخرى، ارتدت أصداؤها كأنها تبارك اللحظة ذاتها.
ضحك موسى، تلك الضحكة الطفولية التي لا تقاوم، ثم هز رأسه قائلاً بمرح، ونظره لا يزال مشدودًا إلى ما لا يُرى:
“أهي دي زغروطة حبيبة أبوها.”
ابتسم محمد، لكنه لم يكن يشارك فقط ضحكته، بل كان يراقب حفيده… يراقب كيف يشعّ النور من عينيه كلما نظر إلى تلك الجهة، وكأن روحه سبقت جسده إلى حيث تسكن محبوبته.
كان يرى فيه حبًا لا يُصطنع، حبًا نقيًّا، متينًا، وهادئًا… كأنه امتداد لشيء أزلي.
ثم، دون أن يقطع تلك النظرة التي تستوطن وجه موسى، قال بنبرة دافئة، خافتة، تحمل من الإدراك ما لا يُقال:
“حبك ليها… بيزيد كل ثانية.”
رد موسى دون تردد، بصوت منخفض لكنه يفيض يقينًا، ودون أن يلتفت، كأنه يتحدث من نقطة أعمق من الكلام:
“لأ، مع كل دقة… من قلبي.”
سكنت العبارة في الهواء، كأنها توقفت لتُكتَب، لا لتمر.
ومعها، ظل محمد ينظر إليه، عيناه تغرورقان بشيء بين الفخر والطمأنينة.
ربت على كتف حفيده، وقال بخفوت:
“ربنا يديمك ليها، ويديمها ليك، وتكونوا سند لبعض العمر كله.”
همس موسى وكأنه يرد على دعاء سري:
“آمين يا جدي… آمين.”
عادت نظراته تنسحب بهدوء نحو تلك الشرفة، كأنها تعود إلى بيتها… إلى مينائها الأخير.
حتى التفت فجأة إلى جده، وقال بنبرة خفيفة، ينسل منها دفء الحميمية:
“تشرب شاي؟ واضح إن قعدتنا هتطول.”
ابتسم محمد ابتسامة صغيرة، من تلك التي تقول الكثير دون أن تنطق، ثم أومأ برأسه وقال بنبرته الواثقة الهادئة:
“وماله.”
_________________
بعد دقائق…
جلس كلاهما على المقاعد في الشرفة، كوب الشاي في يد كل منهما، يتصاعد منه البخار كأنّه يهمس بالحكايات، والصمت يتوسّد بينهما، لا يقطعه إلا صوت بعيد لضحكة من الحارة أو خرير عربة تمر في الشارع.
كان موسى يراقب الشرفة المقابلة، وهو يحتسي رشفة تلو الأخرى ببطء، بينما عينا محمد تتنقلان بين الطريق ووجه حفيده، كأنّه يقرأ ما يدور بداخله دون أن يسأل.
لكن قطع موسى الصمت أخيرًا، تنهد بعمق، ثم استدار إليه وسأله برغبة صافية، تشبه الأطفال:
“جدي…”
“نعم ؟”
“هو… إنت اتعرفت على تيتا إزاي؟”
رفع محمد حاجبيه بدهشة خفيفة، وقال وهو يبتسم بمكرٍ هادئ:
“إيه مناسبة السؤال؟”
هز موسى كتفيه، ثم قال وهو ينظر لكوبه:
“فضول… عايز أعرف… حبيتها إزاي؟”
أشاح الجد بوجهه وهو يقول بنبرة من يهرب من الذاكرة:
“قصة طويلة…”
لكن موسى، بعفويته المُحبة، ضغط بابتسامة:
“ما احنا قاعدين فاضيين أهو… مش ورانا حاجة، يلا احكيلي… قابلتها إزاي؟ لا، استنى، احكيلي من الأول خالص… من أول ما نقلتوا القاهرة.”
ضحك محمد وقال ساخرًا:
“كمان؟ ده انت طماع أوي.”
ردّ موسى بنصف غمزة:
“وفاضي أوي… يلا.”
تأمله محمد لثوانٍ بصمت، ثم تنهد ببطء، ذاك النوع من التنهيدات التي تفتح أبوابًا في الذاكرة أغلقها الزمن بحذر:
“أنا ماكنتش عايش هنا أصلاً… جيت القاهرة وأنا عندي عشر سنين، مع أمي وأبويا، بعد ما سبنا البلد… أصلنا من المنيا، زي ما انت عارف.”
أومأ له موسى مؤيدًا، فتابع محمد، ونبرة صوته تهدأ أكثر… تدخل في نغمة الحكي:
“اشترينا بيت صغير على قد حالنا في مصر القديمة، أبويا، جدك يعني فتح ورشة نجارة مع شريك من معارفه، الأمور كانت ماشية، سنة ورا سنة، بدأنا نتحسّن، كنا حتى بنفكر ننقل على بيت أوسع وأريح.”
صمت، كأنّه يستعد لهبوط الذكرى التالية، حتى تغيرت نبرته قليلًا، ومالت إلى الحزن:
“بس فجأة… أمي تعبت، والمرض كان صعب… صعب أوي، كل اللي يشوفها يقول دي خلاص… أيامها معدودة، إحنا نفسنا صدقنا، وأبويا بدأ يحضّر كل حاجة للجنازة ودموعه ما كانتش بتفارق عينه.”
كان موسى ينصت بتركيزٍ كبير، حتى أتاه الخبر التالي كصفعة:
“بس يشاء ربنا… إن هو اللي يسبقها.”
شهق موسى بدهشة، وردّ بعفوية متأثرة:
“مات؟!”
أومأ محمد برأسه بثقل وقال:
“آه… كان رايح مشوار شغل، وفجأة جاتله جلطة… ومات في ساعتها… لم كلمونا علشان يبلغونا، أنا اللي رديت على المكالمة… قالولي ‘أهل الأستاذ إبراهيم عمران؟’، قلت ‘آه… أنا ابنه’، قالولي ‘البقاء لله… والدك توفى، تعالى استلمه من مستشفى ***’
.”
توقف محمد لثوانٍ، كأنّه يُعيد ترتيب تفاصيل تلك اللحظة في عقله، ثم أردف بصوت أهدأ… أقرب للهمس:
“ودي… كانت أول كسرة في حياتي، وبعدها بشهر بالظبط، الكسر اتضاعفت… لما أمي توفت.”
انكمش وجه موسى بحزن عميق، ولم تكن ملامحه إلا مرآة لتلك المشاعر الثقيلة التي بثّها جده، فمن كان يظنه حائطًا من الصبر والصلابة، هو في الحقيقة رجلٌ يحمل على كتفيه ماضٍ ثقيل، حكاية لم تزل تنبض تحت جلده رغم مضيّ السنوات.
أما محمد، فقد كان صوته خافتًا، مشوبًا بذلك الصدق الحزين الذي لا يتجمل، نبرة من خَبِرَ الفقد، وظل يتعامل معه كندٍّ لا يغيب.
ثم قال، وعيناه تسبحان في الماضي:
“كنت لسه صغير… يعني ١٥ سنة، أبويا وأمي ماتوا، فماكانش قدامي غير إني أسيب المدرسة، وأنزل أشتغل مكانه في الورشة.”
سكت لحظة كأنه يستعيد ملمس الخشب الأول بين يديه، ثم أكمل:
“اشتغلت، واشتغلت كتير… اتعلمت الصنعة على أصولها، يوم ورا يوم، لحد ما بقيت أعرف فيها كل تفصيلة، وبعد أربع سنين، قررت أبدأ من جديد، فكّيت الشراكة وخدت نصيبي، سيبت الحتة اللي كنا ساكنين فيها، وجيت هنا… كان وقتها المكان فاضي تقريبًا، لسه العمارات ده كلها ما تبنتش، واشتريت بيت قديم من اللي كانوا هنا بفلوسي، والفلوس اللي كان أبويا سايبها لي، الله يرحمه.”
هنا رفع موسى عينيه نحوه بإعجاب دون أن يتكلم، فابتسم الجد برفق وتابع:
“فتحت الورشة هنا، واشتغلت، كنت النجار الوحيد في المنطقة، والشغل، الحمد لله، كان ماشي… وربنا كان بيرزق.”
تغيرت ملامحه فجأة، واستقرت ابتسامة مختلفة على وجهه، فيها شيء من الحنين والدفء والدهشة القديمة، وقال:
“وفي يوم، كنت رايح أشتغل في بيت ناس في الحارة اللي ورانا… فشُفتها.”
نظر موسى إليه بفضول أكبر، فأكمل الجد:
“كانت واقفة بتنشر الغسيل في البلكونة… وبصراحة، حسّيت إني شوفت قمر نازل من السما واقف قدامي، خطفتني، سحر حلال يا ابني… من أول نظرة.”
ضحك موسى وقال بعفوية:
“ده أنت كنت عاشق بجد!”
ضحك الجد وهو يومئ برأسه، وقال:
“أمال إيه، جدك ده كان رومانسي آخر حاجة… أقسم لك، فضلت أسبوع بعدها مش قادر أنام، أصحى في نص الليل وأروح أقف تحت بلكونتها… أنادي عليها جوايا… وأستناها تطل، ماطلّتش طبعًا، بس أنا كنت باكتفي حتى بالضوء اللي بينور شباكها.”
ضحك موسى أكثر، بينما الجد استأنف بلهجة متأملة:
“بعد فترة قررت أتقدم، دخلت على أبوها بكل رجولة، وقُلت له: أنا بحب بنتك، وعايز آخدها بالحلال.”
صمت لحظة، ثم مال برأسه وهو يقول ببطء:
“لكن اترفضت.”
شهق موسى:
“إيه؟!”
“اترفضت، ومش مرة، لأ… أربع مرات، كان شايفني صغير، كنت عشرين سنة بقا، وقال لي: أنت ماعندكش أهل، ولو يوم غلطت في بنتي هجيب حقها منين؟ هو ماكانش شايفني كفاية، بس أنا مااستسلمتش.”
ارتفعت نبرة الجد بحماس ذكوري هادئ:
“كنت بطلّع له في كل شارع، وفكل مكان بيروحه، وأقف تحت بيتهم وأنده عليه، وأقول له: جَوِّزني بنتك يا عم الحاج… عايزها بالحلال، مش أكتر… وأنا مش ناوي أسيبك.”
قهقه موسى ضاحكًا، وهو يسأل:
“يعني فضحتهم؟”
هز الجد كتفيه وهو يضحك:
“يعني مثلًا! بس الراجل في الآخر استسلم، وقال لي: هاتلي حد يضمنك… عايز أعرف أجيب حق بنتي من مين لو حصل حاجة… قلت له: من عيوني.”
اتسعت ابتسامة محمد وهو يكمل:
“رحت لشريك أبويا القديم، راجل كان بيحبني وبيشوفني زي ابنه، قلت له: تعال معايا، أنا بحب بنت الناس دي وعايز أتجوزها، فوافق… وراح معايا، وضَمِنّي.”
تنهد، وقال بصوت متهدج قليلاً:
“واتجوزتها…”
ابتسم موسى بخفة، كأنه يرتشف من حكاية قديمة نكهتها الزمن، ثم سأل بعفوية تحمل في طياتها رغبة دفينة للفهم:
“طب… وهي؟”
رفع محمد حاجبيه، وقد بدا أن السؤال أعاده لحظة إلى الوراء قبل أن يرد باستغراب بسيط:
“هي إيه؟”
قال موسى بنفس النبرة المستطلعة:
“هي كانت بتحبك؟ ولا اتجوزتك كده وخلاص؟”
ضحك محمد ضحكة دافئة، فيها شيء من الحنين، وشيء من الفخر، ثم مال برأسه للوراء وأخذ نفسًا كمن يغوص في ذكرى طازجة رغم بُعدها، وقال بصوته الخافت:
“يعني إيه كانت اتجوزتني كده وخلاص؟ كانت بتحبني طبعًا… بتحبني موت.”
صمت لحظة، ثم أضاف وهو يحدق في كوب الشاي بين يديه:
“وقتها كانت لسه صغيرة… ماكملتش السبعتاشر.. شافت راجل قدامها بيجري وراها، بيحارب الدنيا علشان يوصلها، راجل ماكانش بيستسلم ولا بيخاف… وده خلى قلبها يميل، طبيعي تميل، انجذبت ليا، وعجبتها شخصيتي، طريقتي، ضحكتي، حتى لما كنت بتكلم بعصبية… وهي من النوع اللي بيتعلق من أول لمحة صدق.”
تابع بنبرة خافتة تتسلل شيئًا فشيئًا من الحنين إلى الشجن:
“كنت لما أتكلم معاها تحمر خدودها وتبص للأرض… بس لما كنت أمشي… كنت أسمع صوت باب البلكونة بيتفتح، وأعرف إنها بتطّمن عليا من بعيد.”
ضحك بخفة وقال:
“كنت ساعات، قبل مانتجوز، أقعد على الرصيف تحت بيتهم وأتكلم مع نفسي بصوت عالي… علشان تسمعني، وأقول كلام أعرف إنه هيوصل ليها، حتى لو ماكنتش بترد.”
ضحك موسى متأثرًا، وقال وهو يومئ برأسه:
“ياااه… ده أنت كنت واقع أوي..”
أما محمد، فقد كان يتحدث بصوتٍ يبدو ثابتًا من الخارج، لكن كل نبرة كانت تنزف من داخله، كأن الحكاية تُروى للمرة الأولى رغم مرور السنوات:
“أومال إيه، سعيدة كانت حبي الأول… أول دقة قلب حقيقية، كانت البنت اللي اخترتها علشان أعمل معاها العيلة اللي بحلم بيها، علشان أقضي بيها على الوحدة اللي كانت مالياني… أنا اتربيت يتيم تقريبًا، لا أب ولا أم ولا إخوات، أمي تعبت بعد ما خلفتني، زي أمك بالظبط، جالها مشكلة في الرحم، ومعرفتش تخلف تاني… فكنت أنا الوحدة… الونس والعبء في نفس الوقت.”
زفر محمد، ثم أخذ رشفة شاي كأنها تطفئ شيئًا حارقًا في حلقه، وتابع بنبرة أهدأ:
“كنت كل حلمي أكون وسط عيلة… عيلة فيها دوشة، فيها ضحك، فيها قعدة سفرة كبيرة حوالين طبق رز بلبن باللي أبويا كان بيعشقه… فلما جبت عمك أحمد، كنت هطير من الفرحة، جبت فرقة كبل بلدي تقعد تعزف قدام البيت لحد الفجر، ورقصت… رقصت من قلبي، كنت فاكر إن السعادة أخيرًا قررت تبات عندي.”
صمت…
وأصبحت نظراته أكثر ضبابية، صوته أكثر تهدجًا، وابتلع ريقه قبل أن يتابع:
“وبعد أحمد، جالنا محمود… بس زي ماربنا هداني روح، خد مني روح، أخد مني سعيدة… ماتت وهي بتولده، ماتت… وسابتني لوحدي للمرة التانية، بس المرة دي وأنا شايل طفلين… واحد لسه ما كملش سنتين، والتاني ما لحقش حتى يفتح عينه على الدنيا.”
تحشرج صوته في النهاية، فسكت، فقط حدّق أمامه في صمتٍ، كأن الزمن توقف هناك، في غرفة ولادة، على صرخة اختنقت ووداع لم يُقل.
أطرق موسى رأسه قليلاً، يزن كل كلمة سمعها وكأنها خرجت من صفحة قديمة صفراء انطوت سنينها، بينما محمد تنهد تنهيدة ثقيلة، كأنها نزعت من صدره حملًا ظل ساكنًا فيه لسنوات.
ثم قال بصوت هادئ، لكنه مثقل بما كان:
“بعد ما… ماتت، ضعت.”
توقف لحظة، ثم تابع بصدقٍ خالص:
“مش ضياع إنك تتهت في شارع، ولا تنسى نفسك… لا، أنا كنت بصحى مش عايز أعيش… كل حاجة حواليا كانت سودة، ولادي نفسهم… كانوا قدامي ومش شايفهم، كأني واقف في حفرة غويطة مش عارف أخرج منها، وبدأت أخاف… خفت أظلمهم… خفت أكبرهم يتوهوا، فقررت أبعِد… وديتهم عند جدتهم، علشان تاخد بالها منهم.”
بلل شفتيه، ومسح على وجهه بكفه كما لو أنه يزيح تعب السنوات، ثم أكمل:
“شهر ورا التاني، بدأت أوقف على رجلي، وقلت أرجعهم تاني لحضني… بس لما رجعوا… لقيت نفسي بعافر، مش عارف أوازن، لا بين شغل، ولا تربية، ولا حتى نوم، كنت شاب…بس الروح كانت عجوزة، وانت عارف الناس، دايمًا جاهزين بالنصيحة، كل اللي حواليا بدأ يقولّي: لازم تتجوز، مش علشانك، علشان العيال. حتى أمها… أم سعيدة، قالتلي:
‘اتجوز يا محمد، العيال محتاجين ستّ تحضنهم، وتربيهم، بدل ما يطلعوا تايهين’.”
حرك رأسه قليلًا بأسى وهو يقول:
“ولقيت نفسي بعد ضغط كتير، بوافق… مش علشان عايز، علشان مجبر… عايز أنقذهم بأي طريقة… مها هي اللي لقتلي العروسة… قالتلي ‘لقيت بنت مناسبة، صغيرة صحيح… عندها ١٦ سنة، بس واعية، ومتربية، وعاقلة. يتيمة… عايشة مع عمها، ومالهاش حد’، قلت أشوفها… وشوفتها.”
سكت، ثم رمش كأن مشهدًا ما مرّ في باله، وقال:
“وبعد أسبوع… كنت متجوزها.”
صمت خيّم مجددًا، والمكان لم يعد فيه سوى المارة والعربات، وأنفاس رجلين… أحدهما يستمع بعين وقلب، والآخر… يخرج من صدره تاريخًا طويلًا، ما زال حيًّا.
نظر موسى إليه بهدوء، بعينٍ فيها امتنان، وسأله:
“وحبيتها؟”
ابتسم محمد، ابتسامة صغيرة لكنها صادقة، وقال:
“بطريقتها… آه، مش زي سعيدة، بس… حبيتها.”
سأله موسى بصوت مائل للدهشة، تخالطه نغمة فضول:
“إزاي يعني؟”
تنهد محمد، كأنما استحضر عمرًا مضى في لحظة، وقال بصوت تغلفه مسحة حنين:
“كل تفصيلة فيها شدتني، طيبتها… اهتمامها… حتى نظرة عنيها، كانت فيها حاجة نقية، عاملة زي الملاك فعلاً… كانت شايلة البيت على كفوف الرحمة، بتخاف على الولاد أكتر ما أنا كنت بخاف، وتهتم بيا أنا شخصيًا، كأني مش بس جوزها، لأ، كأني طفلها التالت… كانت أم وزوجة بمعنى الكلمة… طيبتها دي كانت سحر، خلتني أحبها من غير ما أخطط، من غير ما أقاوم.”
سكت لحظة، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة كأنها مشوبة بالدهشة من نفسه:
“تصدق؟ وشها كان حلو عليا… بعد الجوازة بكام يوم، جالي شغل عمري ما كنت أتخيل أقبض زيه، مبلغ غير حياتنا… حسّيت إن ربنا بيباركلي بيها، يومها خدت قرار، قررت أهد البيت اللي إحنا عايشين فيه وأبني من جديد، وفعلاً… بنيت أول دورين، واحد للورشة، والتاني سكنا فيه.”
كان موسى يصغي بصمت لم يعهده في نفسه، بينما تابع محمد صوته وقد خفت:
“ولما ربنا رزقنا بمصطفى، بنيت فوقهم تلات شقق، وبعدين لما عرفت إنها حامل في أبوك، بنيت الرابعة… وفضل الحلم يكبر… سامية، وبعدين سهير… وبقت عيلتنا شبه الصورة اللي كنت دايمًا بشوفها جوا دماغي.”
ابتسم وهو يهز رأسه كأنه يراجع شريطًا قديمًا:
“وقلنا خلاص، كفاية… دستة عيال تمام قوي، بس شاء ربنا إن تيجي دلال… آخر العنقود، ودلوعتي الصغيرة.”
ضحك موسى ضحكة خفيفة حاول أن يُخفي وراءها شيئًا، ثم قال بنبرة مصطنعة تحمل غيظًا مرحًا:
“آه… الدلع كله راح ليها!”
ابتسم محمد بنظرة فيها من الحنان ما يذيب الحجر:
“بالعكس، ولادة دلال وانت معاها خلتك أغلى عندنا، وبالذات عند جدتك… كانت بتحبك حب من نوع تاني، حب مش مفهوم، حب يخليها تسيب وصية مخصوص ليك.”
رفع موسى حاجبيه بدهشة حقيقية هذه المرة، وقال:
“جدتي؟ أنا؟ مستحيل!”
أومأ محمد بثبات:
“والله، قبل ما تموت قالتلي ‘خلي بالك من موسى، ده غالى عندي’ وقتها ماكنتش فاهم ليه، ليه انت بالذات؟ وسألت نفسي كتير… بس الإجابة جتني لوحدها.”
نظر إليه موسى باستفهام صامت، فعاد محمد يكمل بصوت خفيض، كأنما يهمس بسر:
“بس عرفت لما سكنت معايا في الشهور الأخيرة، لما راقبتك، لما شوفت تصرفاتك، طريقة كلامك… ردود أفعالك، فجأة… شفتني… شفت نفسي فيك يا موسى.”
شهق موسى بدهشة غير معلنة، بينما أردف محمد بنبرة فيها امتنان خفي:
“أنا كنت فاكر إني مخلّفتش حد يشبهي في الطباع… لا في عيالي ولا حتى في أحفادي، لكن انت… كنت النسخة الأقرب ليّ، في التفكير، و في سكوتك اللي بيخبّي جواه ألف كلمة، حتى في طريقة الحب، وجدتك كانت شايفة ده من بدري… من قبل ما أنا أشوفه.”
ساد صمت لحظات، لم يقطعه سوى أنفاس ثقيلة تعبق فيها مشاعر متشابكة… دهشة وامتنان واعتراف متأخر، لكن صادق.
رفع موسى يده لينزع قبعته ببطء، وكأنما يزيح بها عن رأسه أفكارًا ثقيلة تراكمت فجأة، ثم مرّر كفّه في شعره بخفة وهو يبتسم ابتسامة عفوية، فيها مزيج من الدهشة والرضا، وقال بنبرة أقرب للهمس:
“أنا بجد مش قادر أستوعب… بس مبسوط، مبسوط أوي باللي سمعته، وفرحان إن طلعلت شبهك.”
لم يردّ محمد مباشرة، بل أشاح بنظره بعيدًا عنه، كأنه يهرب من ثقل اللحظة، ثم تناول كوب الشاي الذي أصبح باردًا منذ وقت، وقال بنبرة فيها شيء من التمثيل الساخر:
“وأنا بقى مش فرحان يالا.”
ضحك موسى بصوت واضح، ضحكة لم تكن فقط لأن الجملة طريفة، بل لأنه يعرف تمامًا أن جده يختبئ خلف الكلمات، وأن الحنق في صوته ليس إلا حنّية متخفية.
تقدم نحوه بخطوات هادئة، ثم انحنى وعانقه بقوة، وهمس بجانب أذنه:
“بحبك أوي يا جدي.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجه محمد، لكنها سرعان ما تلاشت مع صوت طرق الباب الذي قطع لحظة الصفاء تلك، فزمّ شفتيه بضيق مصطنع وقال بصوت يحمل التمثيل أكثر مما يحمل الغضب:
“طب يلا بقى يا عم اللزقة، قوم افتح… وسيبني أشرب الشاي.”
ابتعد موسى وهو يضحك قائلاً بمرح خفيف:
“الشاي برد من ساعة ما ابتديت تحكي.”
رد محمد وهو يرفع الكوب بنوع من العناد الطفولي:
“أنا بحب أشربه بارد.”
ابتسم موسى لنبرته، لكنه لم يرد، فقط اتجه نحو الباب… يحمل في قلبه شيئًا دافئًا للغاية، شيئًا لم يعرف اسمه، لكنه يشبه الطمأنينة.
ومع اقترابه من الباب، علا الطرق من جديد، ثم تبعه صوت الجرس وهو يرن بإلحاح، كأن من بالخارج لا يطيق الانتظار.
تمتم موسى بتذمر خافت وهو يدنو من الباب:
“خلاص يا عم… ثانية، جاي أهو، يعني اللي بيخبط ده فاكرني واقف ورا الباب؟”
وما إن فتح الباب، حتى تجمّد في مكانه، حين رأى محسن واقفًا أمامه، يلهث كما لو كان قد جرى كل الطريق ركضًا، ملامحه باهتة، ووجهه مصفّر، ويداه ترتعشان، كان كمن خرج من مشهد لا يُروى.
ثم قال بصوت متقطع، مرتجف، كأنما يتحدى دموعًا تسبق الكلمات:
“الحقني… يا موسى…”
#يتبع….
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.