رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الرابع والأربعون
الفصل الرابع والأربعون (وعد أخيراً تحقق)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
“حلَمتُ، واليومَ قد جاءَ المنى فرحًا
كأنّ قلبيَ لا يسعى، بل الأملُ”
–
إيليا أبو ماضي
___________
“خلاص يا عم… ثانية، جاي أهو، يعني اللي بيخبط ده فاكرني واقف ورا الباب؟”
وما إن فتح الباب، حتى تجمّد في مكانه، حين رأى محسن واقفًا أمامه، يلهث كما لو كان قد جرى كل الطريق ركضًا، ملامحه باهتة، ووجهه مصفّر، ويداه ترتعشان، كان كمن خرج من مشهد لا يُروى.
ثم قال بصوت متقطع، مرتجف، كأنما يتحدى دموعًا تسبق الكلمات:
“الحقني… يا موسى…”
اقترب منه موسى بخطواتٍ مشوشة، مترددًا بين خوفٍ وهلعٍ:
“مالك يا محسن؟ فيه إيه؟!”
ابتلع محسن ريقه بصعوبة، وأشار بيده المرتجفة نحو السلالم المؤدية للأسفل، وقال وهو يلهث كأن الرئة تخونه:
“تحـ… تحـ… تحت…”
قطّب موسى حاجبيه في ذهول:
“في إيه تحت؟!”
لكن ظل محسن يلتقط أنفاسه، لا يقوى على الكلام، وعيناه لا تزالان معلقتين بذلك الاتجاه المجهول.
دون أن ينتظر موسى أطول من ذلك، اندفع بسرعة نحو الأسفل، وخلفه حاول محسن اللحاق به، وهو يصرخ بصوتٍ مبحوح:
“استنـى يا موسى!”
خرج موسى من باب العمارة، نظر حوله، يتوقع الأسوأ… لكن لم يكن هناك شيء…
كل شيء هادئ…
ثم فجأة، دوّى صوت الطبل، وتبعته أنغام المزمار، وظهرت فرقة موسيقية تسير نحوه بخفةٍ واحتفال، يتوسطها سامي وحسن حسين، يصفّقان وينشدان على نغمةٍ غريبة عن اللحظة.
تجمّد موسى مرة أخرى، عيناه تتسعان، قلبه يخفق سريعًا في حيرةٍ شديدة، لكن ما لبث أن فهم، استوعب الخدعة، تنفّس بعمق وابتسم ابتسامة ساخرة، وضع يديه على خصره، وزفر طويلاً.
في تلك اللحظة، وقف سامي أمامه، عيناه تلمعان بالمكر، وسأله:
“إيه رأيك؟”
ضحك موسى، بخفة هذه المرة، وقال وهو يشير إلى محسن الذي كان قد وصل لتوّه، يكاد يسقط على الأرض:
“برافو… عرفتوا تفاجئوني وتخوّفوني، بس اللي مش فاهمه، إزاي الواد ده قدر يمثل كده؟!”
ضحك سامي بصوتٍ عالٍ، فيما أجاب حسن بنبرة مرحة:
“ده ما كانش بيمثّل، سامي خلاه يجري في الحارة عشر مرات رايح جاي علشان يقنعك إن في مصيبة، وعقاب ليه علشان كان هيكشفنا قدامك ويبوظ المفاجأة!”
رفع موسى حاجبيه بدهشة، نظر إلى محسن الذي جلس على الأرض، يلتقط أنفاسه كمن نجا من معركة، ثم إلى سامي الذي اكتفى بابتسامة واسعة.
ثم قال، بنصف ضحكة ونصف غضب مكسو بالود:
“ده أنت طلعت جاحد… بتنتقم من اللي عملناه فيك زمان، صح؟!”
ضحك سامي مجددًا، واقترب منه وهو يربّت على كتفه:
“أمال هسيب حقي يضيع مثلاً؟!”
ضحك موسى بقوة، ضحكة صافية خرجت من أعماق روحه، ضحكته لم تكن وحدها من ارتفعت… فصوت الطبل والمزمار تصاعد هو الآخر، يملأ المكان بنغمة احتفال حقيقي، نغمة لا تُشبه المزاح، بل تُعلن عن بداية شيء أكبر… شيء لا يُنسى.
وفجأة، تردّد في الأجواء صوتٌ آخر…
صهيل خيل.
كان الصوت آتيًا من جهة اليمين، قويًا، نبيلًا، يحمل في وقعه وعدًا بشيء مختلف.
استدارت الرؤوس، والتفتت الأنظار تبحث عن مصدر الصوت، حتى ظهر من خلف الظلال…
كارم.
كان يمتطي حصانًا
أبيض
لامع، يعلو قامته بثقةٍ وكبرياء، يتقدّم بخطى بطيئة لكنها واثقة، وفي يديه لجام حصانين آخرين يسحبهم خلفه… أحدهما أسود والآخر بُنّي، وكأنهما أُعدّا خصيصًا للعرض.
رُسمت الدهشة على وجه موسى مزيجًا من الذهول والضحك، عيناه تتسعان، يده على فمه، وكأن قلبه لا يعرف كيف يستوعب كل هذا.
اقترب كارم أكثر، ثم توقف أمامه، رفع رأسه بابتسامة واسعة وهو يقول بنبرة عالية يسمعها الجميع:
“جيت أكمّل فرحتك… ودي الخيل ليك وللي تختارها تركبها وترقصّها يابرنس!”
تقدَّم سامي نحو موسى، وضع يده على كتفه بنظرة يفهمها الأصدقاء دون كلمات، ثم أشار بعينه نحو الحصانين الآخرين.
تبادلا ابتسامة قصيرة، قبل أن يتوجّها سويًا بخطى خفيفة صوب الخيل، ويصعدا فوق ظهريهما بخفة، كأن الفرح يمنحهما أجنحة.
ومع كارم في المقدمة، بدأ الثلاثة يتمايلون بخيولهم على أنغام الطبل والمزمار، حركات متناسقة، ممزوجة بالضحك، والعربدة الطفولية التي لا تشيخ أبدًا.
في تلك اللحظة، كان حسن قد اقترب من محسن، ساعده على النهوض من حيث جلس لاهثًا، ثم دفعه للمنتصف، ليبدأ بالعزف على الطبل مع الفرقة كما يحب.
أما حسن، فكان يصفق بحماسة، بينما أجبر حسين _الذي كان يراقب بكسل_ على التصفيق أيضًا، دافعًا إياه في قلب الأجواء دون نقاش.
ارتفع العزف… وارتفع معه صهيل الخيول، حتى بدا وكأن البيوت نفسها تهتز فرحًا.
لم تعد الطبول مجرّد صوت، بل موجة قوية تسري في الجدران، في القلوب، توقظ الفضول، وتحرك الرؤوس نحو النوافذ والشرفات.
وفي شقة بالطابق الأعلى، حيث كانت تقام سهرة الفتيات بقيادة دلال، كانت الموسيقى تعلو وتملأ المكان بهجة، ودلال نفسها تمسك بيدي فيروز وتتمايلان في المنتصف، تحيط بهن صديقاتهن، يصفقن ويزغردن ويضحكن، كأن العالم اختزل في تلك اللحظة.
لكن فجأة، خرق الطبل العالي أذانهن.
صوت واحد… غريب… قريب…
أوقف دلال فجأة وهي تسأل:
“إيه الصوت ده؟!”
تقدمت تينا بخفة، وأغلقت الموسيقى من السماعة، ليظهر الصوت الخارجي أوضح… الطبول، وصهيل الخيول، وصفيرٌ بعيد.
نظرات متبادلة ملأها الدهشة والحماس، قبل أن تسرع كل فتاة نحو حجابها، تلفها على رأسها وتخرج كأن هناك سحرًا ما في الخارج ينتظر أن يُشاهد.
فتحت دلال الشباك أولًا، تلتها فيروز وتينا والباقيات، ليفاجأن بأن الجيران كذلك يقفون في شرفاتهم، رجالًا ونساءً وأطفالًا، الكل يطل على الشارع، يتابع ما يحدث.
وفي الأسفل، كان الاحتفال قد اشتدّ…
الخيل تتمايل، الموسيقى تملأ الأجواء، وموسى في المنتصف يضحك، بينما أصدقاؤه حوله كأنهم يعيدون رسم ذكريات الطفولة بيد الكبار.
أما دلال، فقد اتسعت عيناها وهي ترى إخوتها يخرجون من مدخل العمارة، يصفقون، يضحكون، وأبناؤهم من حولهم يلتفون في الدائرة حول موسى، يشاركون في الاحتفال.
رفعت نظرها للأعلى، وهناك…
في الشرفة أمامها، جلس والدها بهدوء، يرقب كل هذا بصمت، لكنه لم يكن بحاجة إلى كلمات، كانت بسمة خفيفة ترتسم على وجهه، لا تكاد تُرى، لكنها كانت تكفي لتعبر عن سعادته في هذه اللحظة بهذه الأجواء.
وفجأة، ومن حيث لا يتوقع أحد، انطلقت
زغاريد النسوة
في المكان، قوية، متتابعة، كطلقات فرح لا تُقاوم، وكانت البداية من عند “دلال”.
شقّ صوتها الهواء كأغنية بدائية، لا تنتمي لزمن بعينه، بل تتجاوز اللحظة لتعلن بداية شيء أكبر… حضورٌ أنثويّ، دافئ، يعلو من خلف الجدران، ويهبط من الشرفات كضوءٍ مفاجئ.
ارتفعت رؤوس الشباب تلقائيًا جهة الصوت، وكأنهم جميعًا خُلقوا في لحظة واحدة من ذات النداء.
وما إن رفعوا أعينهم، حتى رأوا ما أدهشهم:
كل الشرفات امتلأت.
رجال وأطفال، نساء وفتيات، صغيرات وكبيرات، وجوه مشرقة تطلّ، ضحكات تخالط الزغاريد، أعين تتفرّج، وقلوب تُصفّق في صمت.
ضحك الأصدقاء على هذا المشهد، مشهد يبدو عاديًا، لكنه كان له وقع مختلف… كان طقسًا شعبيًا لا يُكتب، لا يُرتّب، بل يُولد وحده حين يتكثّف الفرح.
أما هو، فثبت فجأة، توقف عن الضحك، وأوقف الحصان، و
ثبتت عيناه عليها فقط.
كل الأصوات تلاشت، كل الزغاريد، كل الوجوه، كل الألوان… لم يبقَ سوى وجهٍ واحد، هي، تلك التي لم ترَ سواه.
كانت تقف هناك، متكئة قليلاً على حافة الشرفة، وثمة ضوء خافت انسكب على وجهها، فزاده رقّة، بينما عيناها معلّقتان به، لا ترمش، لا تتردّد، تحملان من الشوق ما لا يُقال، ومن الذهول ما لا يُخفى.
نظرة مغرمة، هائمة، صافية… كأنها ترى العالم فيه وحده، وكأن كل الضوضاء في الأسفل لا وجود لها.
وهو… كأنه شعر بها قبل أن يراها، كأن قلبه التفت قبل عينيه.
رفع نظره، متجاوزًا كل الضحكات والزغاريد، حتى التقت عيناه بعينيها، وحين التقيا… كنت الدنيا.
تلاشت كل الملامح من حولهما، لم يبقَ شارع، ولا موسيقى، ولا أصدقاء، فقط…
هي وهو.
نظرة منه، ونظرة منها، كأنما بينهما حوار صامت، عميق، لا يحتاج إلى لغة.
وفجأة،وكأن قلبه هو من أمر، شدّ اللجام و
رفع الحصان قائمتيه الأماميتين،
بقوة خاطفة، تشقّ الهواء، و
أطلق صهيلاً عالياً،
صهيلًا حمل معها نغمة ترحيب، واعتراف، ونداء.
دوى الصهيل في المكان، مزّق الضجيج، قطع نهر الزغاريد وسحب إليه الأنظار، لكن رغم العيون الكثيرة، والوجوه المتفرجة، والضحكات الصاخبة…
لم يكن هناك إلا مشهدٌ واحدٌ حقيقي: هو، على حصانه، صامدًا تحت ضوء القمر، وهي، في شرفتها، كأنها زهرة أطلّت من نافذة الحلم.
وفي لحظةٍ، كأنها نُزعت من الزمن،
خرج كلاهما من سحر النظرات
، وعادا إلى العالم الواقعي من حولهما، وكأن خيطًا خفيًّا انقطع بين السماء والأرض.
شعرا معًا بشيءٍ لا يُوصف…
السكون.
الزغاريد خمدت، الموسيقى صمتت، حتى الخيول توقفت عن الحركة، وكأن الكون بأكمله قرر أن يتنفس الصمت.
لكن وسط هذا السكون، كان هناك
شخصٌ واحد يتحرّك
… يتقدّم من بين الجمع بخطى هادئة مه حصانه، بخطى لا تبحث عن ضوء، ولا تصنع جلبة، بل تسير بثقة المحبة.
تقدّم حتى وصل إلى حيث
محسن
، الذي كان لا يزال ممسكًا بالطبلة، يقف وسط الفرقة، أنفاسه شبه منضبطة، لكن عينيه لا تزالان تائهتين في أثر اللحظة السابقة.
رفع محسن عينيه إلى القادم نحوه، وفي عينيه مزيج من الدهشة والترقب، حتى رأى
كارم
، يقترب ممتطيًا حصانه الذي خفت حركته، كأن الحصان نفسه يهب احترامه للمشهد.
وفي يده، كانت طبلة صغيرة، جديدة، لامعة…
تقدّم بها كارم، ووقف أمام محسن، ثم مدّها إليه دون تكلّف، وقال بنبرة ناعمة، تخترق القلب دون أن تطرقه:
“قلت أجيبلك واحدة جديدة… باين إن أفراحنا هتطول المرة دي.”
تأمّل محسن الطبلة، حدّق بها كمن يرى أكثر من مجرد آلة… بل هدية من صديق، كان ولا يزال أخاً، وسنداً له.
ثم قال باندهاش خافت، ولم تزل عيناه على سطح الطبلة:
“بس دي طبلة جديدة.”
أجابه كارم، بنظرة تسبق الكلمات، ثم بجملة، بدت كأنها ختم للمشهد:
“هدية من أخوك ياحبيب أخوك.”
سكت محسن…
لكن سكوته لم يكن خضوعًا للصمت، بل استعدادًا للبوح، بوح لا يأتي بالكلمات، بل بالإيقاع… إيقاع يعرفه كما يعرف أنفاسه، إيقاع تربّى عليه، نضج معه، وأصبح صوته حين يعجز الصوت.
تنفّس بعمق، كمن يستدعي نفسه كلها، ثم مدّ يده وتناول الطبلة… نظر إليها لحظة، ثم بخفة، تقدّم بخطوات هادئة نحو درج العمارة، جلس، وأراح جسده كما يرتاح القلب في وطنه، ضبط جلسته، وأسند الطبلة إلى فخذه بثبات، ثم…
بدأ العزف.
كان عزفًا هادئًا في البداية، متزنًا، متروّيًا، يشبه نبضًا ينتظم بعد طول اضطراب.
أنامله تضرب بمهارةٍ لا تستعرض، بل تسرد… وكأن كل دقّة طبلة تحكي، تحيي، وتستدعي ما كان.
ولأن اللحن
معروف بين
الأصدقاء، محفور في ذاكرتهم الجماعية كأغنية لا تنسى، ما احتاجوا إلى أكثر من
تبادل نظرات صامتة
، نظرة واحدة فقط… وكانت كافية.
فهم موسى الرسالة، دون دعوة، نزل من على ظهر حصانه بخفةٍ لا تليق إلا بمن يعرف كيف يُحتفى به، تقدّم نحو منتصف الدائرة، حيث الأنظار بدأت تتجمع من جديد.
توقف هناك، تنفّس كما فعل محسن، ثم
رفع عينيه نحوها
… نحو تلك التي ما زالت في الشرفة، تتابع كل شيء كأن قلبها هو الجمهور الوحيد.
وبنظرة أخيرة… بدأ
يُغني
.
صوته خرج شغوفًا، مشحونًا بالعاطفة، كأن الكلمات تخرج من أعناق قلبه:
“أقر أنا المذكور أعلاه
الساكن في العنوان إياه
بأن الصبر عليّا صبر
طعم المر في قلبي فضل
يمرر فيه ولا عمره قدر
يغير حبك من جواه…”
كان صوته مزيجًا من صدقٍ لا يُصطنع، وحنينٍ لا يُخفى…
غنى، وكأنه يكتب اعترافًا على الملأ،
غنى، وكأن لا أحد يسمعه سواها،
وهي… كانت تسمعه.
تجمد الوقت من حولهم للحظة،
لحظة
سكون.
..
كأن الكون نفسه حبَس أنفاسه لوهلة، ليستمع.
ثم…
دقّة طبلة
، واحدة أولى، ثم ثانية…
وها هو محسن من جديد، يُعيد النبض إلى المشهد، بإيقاع يعرف تمامًا متى يتسلل إلى القلب، ومتى يُفجّره حماسًا.
عادت الفرقة الموسيقية لتلتحم بلحنه، وكأنها كانت تنتظر إشارته، وانطلق موسى مجددًا بصوته، أقوى هذه المرة،
أصفى، أجرأ، أشدّ قربًا
… وبين كل بيتٍ وآخر، كان يمدّ يده مشيرًا إلى
نفسه تارة، وإلى بيته، ثم إلى شرفتها
، كأن الغناء إعلان… كأن الغناء موقف، وعهد، ورسالة صريحة لا لبس فيها.
وكان صوته
يملأ الحارة
، يتردد بين الجدران، كأنها كلها تحفظه عن ظهر قلب، وكأن لكل حجر فيها ذاكرة تربت على حبه.
ومع صوته، بدأ أصدقاؤه الخمسة يرفعون أصواتهم معه، يُرددون الأبيات بحماسة، ثم رجال عائلته، ثم أولاد الجيران…
شيئًا فشيئًا، كانت الزغاريط ترتفع، والتصفيق يتصاعد،
من أيدٍ كثيرة، من قلوب أكثر، تصفيق لم يكن مجرد احتفاء، بل انخراط عاطفي في قصةٍ يعرفها الجميع، قصةٍ نضجت أمام أعينهم، وحانت لحظة إعلانها الآن.
“أقر أنا المذكور أعلاه
الساكن في العنوان إياه…”
رددها موسى، وكأن كل بيت يُسقط جدارًا بينه وبينها، بين قلبه وقلبها، بين البوح والصمت.
عائلات بأكملها تقف من النوافذ والشرفات، شباب، رجال، نساء، أطفال، وحتى من لا يعرف القصة، عرفها من نبرة صوته، من عينيه، من الطريقة التي يشير بها نحوها، فشاركوا التصفيق.
وفي الشرفة، كانت هي واقفة، محاطة بأخواتها وصديقاتها، بضحكات صغيرة ودهشةٍ كبيرة، لكنها لم تكن ترى شيئًا،
سوى هو
، وصوته الذي كان يتردد في عظامها:
“بأنك مهما هتيجي عليه
يبعد ضلك من حواليه
تدي لغيره اللي بتاخديه
ما يتحملش عليكي الآه
أقر أنا المذكور أعلاه
الساكن في العنوان إياه
بأني سهرت العمر ونس
عشت بكل كياني حرس
وطفت بلادك ناي وجرس
والعاشق بينقط بهواه
”
كل بيت كان اعترافًا، وكانت أنفاسها تتسارع مع كل حرف، والتصفيق من حولها صار نبضًا جديدًا، كأن الحارة كلها تُغني لهما، كأن الماضي كلّه يُغفر الآن، كأن الوقت ينحني لهذه اللحظة.
“أقر أنا المذكور أعلاه
الساكن في العنوان إياه
بأني مشيت على شوك وحجر
ياما شقيت في بعاد وسفر
إن هواكي في روحي قدر
وإن عذابي معاكي حياة
إن هواكي في روحي قَدر
وإن عذابي معاكي حياة.”
كان المشهد قد اكتمل، والإعلان قد تم، والحب لم يعد سرًّا يُهمس به في الزوايا، بل صار قصيدةً علنية، تتردد بين الجدران، وصار اسمهما يُغنّى، دون خجل، دون خوف، دون حاجة للتفسير.
الاحتفال البسيط، الذي بدأ بدعابة، بطبلٍ ومزمار، بضحكة بين أصدقاء، تحوّل شيئًا فشيئًا أمام الأعين المندهشة إلى
مهرجان عام
،
مهرجان لا راعٍ له سوى القلب، ولا جمهور له سوى من يعرف الحب حين يراه.
كل زاوية في الحي كانت تشهد، كل شرفة صارت منصة، كل نافذة صارت شاهدًا على الفرح حين يفيض عن طاقة الاحتمال.
ومن بين الضحكات، والأنغام، والزغاريد… كان هناك شعور خفي، يتسلل بين الحاضرين،
يقول دون كلمات:
“السهرة طويلة… وربما، هذه المرة، لا أحد يريدها أن تنتهي.”
_________________
مرّ الليل سريعًا، كما تمرّ الليالي التي تسبق الفرح الحقيقي… وكأن الزمان ذاته استعجل هذا الصباح، ذلك الذي طالما تخيّله في خياله،
صباحٌ مشحون بالترقّب، متخم بالمشاعر، نابض بشيء لا يُشبه إلا الحلم حين يلامس أرض الواقع.
كان اليوم مختلفًا، ليس لأنه يوم جديد، بل لأنه
يوم ستُحفر تفاصيله على جدران عمره
، يومٌ لا يُشبه ما سبقه من أيام الرماد أو الانتظار أو المراوغة، بل يوم من نور… من يقين.
وقف موسى أمام المرآة الكبيرة في غرفته، يتأمل صورته في صمتٍ عميق وبسمة هادئة تستقر على شفتيه، كأنّه يرى نفسه لأول مرة، أو يرى ذلك الفتى الذي كان يحلم دائمًا أن يصل إلى هذه اللحظة.
كان يرتدي بنطالًا قماشيًّا أسود، وقميصًا أبيض ناصعًا كأملٍ جديد، وتعلو عنقه بيبونة أنيقة، وحذاؤه الأسود اللامع يعكس ضوء الغرفة.
ظل واقفًا هكذا… في لحظةٍ كأنها لوحة، حتى انفتح الباب بخفة، وتقدّمت
دلال
نحوه بخطوات هادئة، وبابتسامة تحمل دفء الأخوة وحنوّ الأمهات معًا، وقالت بنبرتها المعتادة:
“لفلي يالا.”
استدار لها بهدوء، فاقتربت منه لتضبط له “البيبونة” بأصابعها الرفيقة، وكان هو لا يراها فقط، بل
يتأملها
… يتأمل تلك التي كانت دائمًا هناك، في كل تفاصيله، تسانده دون ضجيج، اليوم كانت ترتدي فستانًا أسود أنيقًا، بسيطًا وراقيًا، وحجابًا وحذاءً من نفس اللون، فبدت كأنها خارجة من سطر كلاسيكي في رواية عتيقة.
انتهت من ترتيب البيبونة، ثم مدت يدها والتقطت من فوق المنضدة ساعة أنيقة، جديدة، كانت هديتها له، من رحلتها الأخيرة إلى فرنسا.
ألبسته إيّاها بحنانٍ صامت، ثم نظرت إليه وقالت بمرحٍ دافئ:
“تحفة… طالع قمر.”
ابتسم هو، ولم يحتَج لتفكير… لم يحتج لاختيار كلمات أو تزيين ردّ، فقد كانت الحقيقة أمامه، فقال ببساطةٍ صادقة، وعيناه معلّقتان بها:
“القمر واقف قدامي من ساعتها أهو.”
ضحكت دلال بخفة على غزله العفوي، ثم
ضربته برفق على كتفه
كعادتها كلما بالغ في المزاح، وقالت بنبرة مرحة:
“خلي الغزل ده لمراتك… هتحتاجه بعدين.”
ابتسم موسى بمكر محبب، وردّ وهو يرفع حاجبيه بثقة:
“لا دي مراتي شايلها من الغزل والكلام كل ما لذ وطاب.”
ضحكت مجددًا، لكن هذه المرة كانت ضحكة هادئة ناعمة، تُشبه نسيم صباح دافئ.
أما هو، فظل يحدّق بها، بعينين لا تخفيان شيئًا من الحب…
حبًا أخويًا عتيقًا، مغمورًا بالامتنان.
هي لم تكن فقط عمته…
بل كانت في قلب كل لحظةٍ كُتبت له فيها الحياة من جديد.
اقتربت هي منه قليلًا، ثم
رفعت يدها بلطفٍ شديد، وأمسكت وجنته
كما كانت تفعل وهم أطفال، تداعبها بأناملها، وهي تردّد بصوتٍ خافت يشوبه الحنين:
“كبرت يا بيضة… وهتتجوز.”
خفت بسمته فجأة،
وبدت ملامحه كمن انقطع من سحر اللحظة، ثم رمقها بنظرة ممتعضة قائلاً بنبرة تمثّل الغضب أكثر مما تشعره:
“فصلتيني من اللحظة.”
لم تملك نفسها… فانفجرت ضاحكة بصوتٍ عالٍ، ضحكة حقيقية، خرجت من القلب، وملأت المكان بدفءٍ لا يوصف، ضحكة كتلك التي تسبق دموع الفرح أحيانًا.
ثم توقفت قليلاً، ومسحت دمعة خفيفة تسللت من عينها، وأمسكت بجاكيت بذلته الأبيض الموضوع على الكرسي، وقالت وسط الضحك:
“يلا… علشان تلبس البدلة.”
لكن قبل أن تلبسه إيّاها، دخل
داود
فجأة بخطى ثابتة، عيناه فيهما ذلك الهدوء الصادق، كمن جاء كي يكون حاضرًا في لحظةٍ لا تتكرّر.
اقترب منهم، ومدّ يده نحو الجاكيت وهو ينظر إلى دلال نظرة هادئة، ثم قال بصوته الرزين:
“ممكن آخد شرف ده… وألبسهاله بنفسي؟”
نظر الجميع نحو
داود
بدهشةٍ دافئة، دهشة المحبة، واللحظة التي لم يتوقعها أحد، لكنها حين جاءت، جاءت كأنها كانت تنتظر منذ سنين.
دلال
، و
عبير
التي ولجت خلفه بخطى بطيئة، ثم موسى، ذلك الذي لم يتحرّك من مكانه، لكنّ عينيه فقط، تحرّكت مع أبيه… عينيه امتلأتا بشيء لا يُوصف، مزيجٌ من الترقّب والشوق والتساؤل الصامت.
رأى والده يأخذ الجاكيت من يد دلال، ثم يقترب منه،
خطوة بعد خطوة،
كأن بين كل خطوة وأخرى سنوات من الصمت، وحنينٌ تاه الطريق طويلًا قبل أن يجد اللحظة المناسبة.
وقف داود أمامه، وببطء، بحذرٍ فيه حنوّ الأبوة الذي تأخر كثيرًا، ألبسه الجاكيت، ثم نفض كتفيه بهدوء، وكأنّه يُثبت وجوده فوق جسده، ثم نظر في عينيه مباشرة، وقال بصوتٍ يحمل ارتجافة القلب:
“عمري ما تخيلت أقول الكلام ده… بس كبرت بسرعة أوي، أو يمكن أنا اللي محسّتش بيك وأنت بتكبر، علشان ما كبرتش تحت عنيّا.”
كانت الكلمات تسقط ببطء، كأنها تُستخرج من عمقٍ قديم، كأنها تحمل ندمًا واعترافًا واعتذارًا لا يُقال صراحة:
“أنت اتربّيت مع جدك وستّك، مش وسطنا… ما عشناش اللحظات الحلوة كلها معاك، وما خدتش بالي… أنت كبرت إمتى؟ أنا مش مصدّق… إن ابني، اللي كنت شايله على إيدي امبارح وبفرح بيه وسط العيلة… دلوقتي واقف قدامي… عريس… هيتجوز… وهيكون عيلة.”
سادت لحظة صمتٍ ثقيل، والكل يراه… يسمعه… يتأثر.
أعين امتلأت بالبريق،
ذلك البريق الذي يسبق الدمع بلحظة، ثم تنهد داود، كمن أفرغ صدره، وقال بصوتٍ أهدأ، أصدق، كأنما يسلّم شيئًا أخيرًا:
“مش عارف أنا قلتلك ده قبل كده ولا لأ… بس أنا فخور بيك أوي، فخور إنك ابني، يا موسى.”
لم يكن موسى بحاجة إلى وقت، لم يكن بحاجة لكلمات، فقط… اندفع نحوه،
عانقه بكل ما في قلبه من احتياج قديم، وامتنان حديث، وحنين لا يُقال.
ثم قال بصوتٍ خافت، لكنه خرج من أعمق نقطة في روحه:
“بحبك أوي، يا بابا.”
ابتسم داود، ورفع يده بتلك الطريقة التي لا يُجيدها سوى الآباء، ربّت على ظهره بحنو، وهمس في أذنه:
“وأنا كمان بحبك… بحبك يا أول وآخر فرحتي.”
لحظة دافئة…
حقيقية…
لا تشبه شيئًا آخر، كأن الزمن نفسه وقف ليمنحها حقّها.
ابتسم موسى بعينٍ دامعة، ثم نظر نحو
دلال
، التي كانت تجاهد الدموع كي لا تفسد مكياجها، لكن عينها خانتها، ارتعشت…
ثم نظر إلى
والدته
… كانت تبكي بالفعل، بصمت، تبكي كمن تسمع دعاءً استُجيب بعد سنوات.
ضحك بخفة، رغم كل شيء، ثم
مدّ يده وأشار لها، لتقترب.
فجاءت إليه،
عانقته بصمت،
فاحتضنها هو وأباه،
قلبين، دفعة واحدة… صدران اجتمعا حوله، كما لم يحدث من قبل.
وفي تلك اللحظة… لم يكن موسى مجرّد عريس، كان
طفلًا اكتمل، ورجلًا اكتسب جذوره، وابنًا عاد إليه حضن الزمن.
_________________
بعد دقائق…
انسلّت بهدوء من ضجيج البيت ودفء الوجوه،
هرولت إلى إحدى الغرف الفارغة
في شقة والدها، غرفة مهجورة من الحركة، لكنها امتلأت فورًا
بأنفاسها المتلاحقة
ونبضها الذي لم يعرف السكون منذ الصباح.
وقفت أمام المرآة، نظرت إلى انعكاسها بعينين حمراوين، يدها ترتجف وهي تحاول ضبط
حجابها الذي انفلت قليلًا
، و
مكياجها
الذي لم يصمد طويلًا أمام دموعها العنيدة.
كانت تحاول أن تستعيد هيئة الفرح، أن تلمّع ملامحها لتليق بالمناسبة، لكن ما إن أنزلت بصرها قليلًا، حتى
لمحت الخاتم في إصبعها
، خاتم زواجها… الذي بدا اليوم أثقل من خاتم، وأقرب إلى ندبة صغيرة على الجلد، تحمل حنينًا لا يُنسى.
تلمسته برفق، بأطراف أصابعها،
وكأنّها تلامس ملامحه هو، ثم ابتسمت ابتسامة لم تخلُ من الألم،
حنينٌ وشوق… وحزنٌ صغير، يسكن في زوايا القلب.
FLASHBACK
صوته عبر الهاتف، كان في أذنها، دافئًا، لكنه مكسور، وهو يقول:
“علشان خاطري… ما تعيطيش، أنا قلبي بيوجعني لوحده.”
مسحت دلال دموعها بعنف، كما لو كانت تحاول نزع الغصة من صدرها، ثم ردّت بصوتٍ متهدّج، بين شهقة وشهقة، وهي تجلس في غرفتها وحدها:
“ماعيطش إزاي؟ وأنت مش هتحضر الفرح! مش هتحضر فرح موسى، يا طارق؟
أنت مستوعب؟؟ فعلاً مستوعب؟”
كان صوته أكثر هدوءًا مما تتحمله، هدوء المقهور، الموجوع، الذي لا يملك شيئًا سوى الكلام:
“للأسف… مستوعب، وعلشان كده مقهور، الرحلة كانت المفروض من ساعة… بس لولا العطل المفاجئ، كنت زماني وصلت قبل الظهر وحضرت، وكنت جنبك، وجنب موسى،
بس غصب عني، الرحلة اتأجلت… وأقصى حاجة إني أوصل بكرة الفجر.”
كانت كلماته كالسكاكين، ليس فيها غضب، فقط واقع بارد، لا يلين، لا يتغيّر.
سقطت دموعها رغماً عنها، وهي التي لا تبكي كثيرًا… لكن منذ أن تزوجته، صار البكاء طقسًا تُجيده، كلما سافر، كلما ابتعد، كأنّ شيئًا منها يُسحب معه، كأنها تُترَك معلّقة… لا هنا ولا هناك.
وصوته في الطرف الآخر، كان يكاد يختنق:
“أنا آسف، دلال… آسف أوي.”
BACK
خرجت من ذاكرتها، لكن ظلال صوته ما زالت تهمس في قلبها.
ما زالت تنظر إلى الخاتم، تحدّق فيه، كأنه جسر صغير يربطها به الآن.
رفعته أمام عينيها،
وبللت ابتسامتها دمعة عالقة في زاوية العين، ثم قالت بهمس:
“فرحتي مش كاملة من غيرك… والله، يا طارق.”
شعرت بغصة حادة في صدرها، ورغبة جارفة في البكاء، لكنها
تذكرت وعدها…
وعدها الأخير في نهاية المكالمة: أنها لن تبكي، لن تترك هذا اليوم يُؤخذ منها.
ستفرح… ستفرح
بكل جوارحها،
بتوأم روحها… بـ موسى.
_________________
على جهةٍ أخرى…
في زاويةٍ هادئة من البيت، بعيدًا عن صخب الزغاريد ووقع الأقدام المسرعة، كان
يجلس هو القرفصاء
أمام الصغير، ينظر إليه بعينٍ تفيض حنانًا، بينما يعمل على ترتيب ملابسه الصغيرة بعناية كأنما يُجهّز كنزًا نادرًا.
قميص أبيض، وجيليه أسود، بنطال ناعم، بيبونة صغيرة، وحذاء لامع بنفس اللون…
لو أن الفرح له ملوكٌ صغار، لكان “يزيد” أولهم.
أما سامي، فقد ارتدى السواد كله:
قميص، بنطال، جاكيت، ربطة عنق، وحتى ساعته…
هو وباقي الشباب اتفقوا أن يكونوا بالأسود، كتوقيع صامت على لحظة رسمت بالأناقة والهيبة.
انتهى سامي من ضبط ملابس الصغير، وقف ومدّ يده نحوه برفق، ثم حمله بخفة، وقال وهو يبتسم:
“عسل يا ناس، هتخطف العيون من على العريس كده!”
ضحك يزيد بطفولةٍ لا تعرف الكلفة، بينما سامي
احتضنه بحنان
وقال:
“يلا بينا نشوف ماما وعمته.”
فردّ الصغير بحماسة، وهو يصفق كفّيه الصغيرتين:
“فيروز! وماما! وأنت وأنا هنروح الفـــرح!”
ابتسم سامي، وردّ بحماس يوازيه:
“آه، هنروح الفرح… ونرقص، ونحتفل للصبح سوا.”
وفجأة، أشار يزيد إلى نفسه، ثم إلى سامي، وسأل ببراءةٍ قاتلة:
“أنا أيقص… كمان بابا؟”
كانت كلمة عابرة، بسيطة، قالها الصغير بلهفة وصدق، لكن وقعها في قلب سامي
لم يكن بسيطًا أبدًا
.
“بابا”…
كلمة ما زال صداها محفورًا في ذاكرته، الكلمة التي ناداه بها لأول مرة، الكلمة التي هزّت أعماقه وبدّلت شيئًا بداخله للأبد…
FLASHBACK
كان ذلك قبل أسابيع قليلة…
يحمل يزيد على ذراعه، بينما يساعد ليلى في تحضير الحقائب استعدادًا لعمرة طالما حلموا بها معًا.
“متأكدة إننا مش ناقصنا حاجة؟”
سألها سامي وهو يتابعها بحنان، بينما ردّت ليلى وهي ترتب آخر القطع:
“فاضل هدومي أحطهم في الشنطة، ونبقى خلصنا.”
هزّ رأسه بصمت، ثم نظر إليها، يحرك عيونه حيث تتحرك، والغريب أن الصغير كان يقلده تماماُ، إذا مال برأسه يمينًا، مال، وإذا حرّك عينيه يسارًا، فعل مثله، حتى نظرتهما لها كان متماثلة.
وحين التفتت ليلى ورأت النظرتين المتطابقتين، ضحكت وقالت:
“شكلكم شبه بعض أوي… كأنكم أب وابنه.”
ضحك سامي بدوره، ونظر إلى يزيد وقال بمزاح خفيف:
“يا بختي إن أكون شبه العسل ده… وأبقى باباه.”
وفجأة، جاءت الكلمة منه، بلا تكلّف… بلا تفكير… بصدقٍ طفولي:
“بابا… بابا سامي، بابا.”
تجمّدت ليلى، وبدت سامي عليه الدهشة، نظر لها وسأل بصوت مخنوق:
“هو قال بابا… صح؟”
أومأت وهي تبتسم بسعادة ناعمة:
“٣ مرات كمان.”
حدّق في الصغير للحظة، ثم ابتسم، حمله عاليًا وقال بفرحة صادقة:
“قلب بابا سامي… وروحه، وأغلى ما عنده.”
ومن بعيد، وقفت ليلى تراقب المشهد، تبتسم… تداري دمعة فرحٍ حقيقية، لأن طفلها، من تلقاء نفسه،
أعطى لسامي أعظم لقبٍ ممكن
، أعطاه لمن يستحق.
Back
عاد سامي من شروده، وفي عينيه أثر الذكرى التي لا تنسى.
نظر ليزيد، وربت على رأسه ثم قال:
“آه، وأنت كمان هترقص يا قلب بابا… يلا بينا بقى علشان مانتأخرش؟”
أومأ يزيد بحماسة، فضحك سامي وحمله برفق، ثم
خرج به من الشقة
…
الشقة التي امتلأت بذكريات كبيرة…
صورهم الثلاثة على الجدران،
أيام طويلة من اللعب، الضحك، الطبخ، البكاء، والاحتضان.
ستة أشهر فقط، لكنها صنعت
حياةً كاملة،
حياة معلّقة في إطارات، ومحفورة في القلب…
إلى الأبد.
_________________
مع مرور الوقت…
كان البهو الخاص بجناح التجهيزات يعجّ بالحركة والهمسات، لكنه في قلبه كان ساكنًا تمامًا،سا
كنًا… ومرتجفًا.
وقف موسى في المنتصف، كأن الأرض التي تحت قدميه ليست ثابتة، كل شيء في جسده يرتجف، ليس من الخوف، بل من
الرهبة الجميلة
، تلك اللحظة التي طالما تخيلها، انتظرها، حلم بها طيلة حياته … والآن، ها هي تتحقق.
حولَه كانت
دلال
، و
ليلى
التي رافقت العروس منذ الصباح، ومعهما
يُمنى
و
فريدة
، بنات عمّ موسى، يتبادلن النظرات المتحمّسة والابتسامات المتأثرة، بينما وقف
سامي
بجوار ليلى، هو الوحيد من الشباب الذي أتى لهنا، أما البقية فكانوا قد توجّهوا إلى القاعة لتفقد التجهيزات.
لكن داخل هذا البهو… لم يكن لأحدٍ وجود، سوى موسى، و
قلبه
.
قلبه الذي يدق الآن بطريقة لم يعهدها… كأنه لا يصدّق، كأنه يستعيد كل لحظة انتظر فيها هذه اللحظة،
كل حلم، كل حوار، كل دمعة، كل وعد.
هذه
هي اللحظة…
لحظة رؤيتها بفستان الزفاف،
فستانها له،
لزفافها به… ومعه… ولأجله.
ظلّ على وضعه للحظات، كأن الزمن نفسه تجمّد، حتى انطلقت فجأة
صوت دلال من خلفه
، وهي تدخل ثم تخرج بسرعة:
“غمّض عينك.”
التفت نحوها موسى متوترًا وقال بسرعة:
“أغمّض عينيّ ليه؟ أنا عايز أشوفها!”
ضحكت دلال بخفة، ثم ردّت بثقة:
“هتشوفها… بس غمّض عينيك الأول.”
لم يجادل…
لم يطلب تفسيرًا…
أغمض عينيه فقط، و
تنفّس بعمق،
كمن يغوص في داخله ليستعدّ للغرق في عينيها.
في تلك اللحظة، كانت دلال
تمسك بيد العروس
، التي ترتجف كأنها تعكس ارتجافه، ثم سحبتها برفق، وأدارتها لتقف بظهرها نحوه.
كانت ساكنة، متوترة، لكنها تعلم، أن خلفها
الرجل الذي أحبّها بكل ما فيه،
وينتظر رؤيتها الآن كأنّه ينتظر
عُمرًا يُمنح له مرةً أخرى.
رفعت دلال عينيها إلى موسى، ثم قالت بصوتٍ خافت، لكنه مهيب:
“يلا… افتح عينيك.”
فتح موسى عينيه…
ورآها… كانت أمامه… بظهرها، لكنّ حضوره معها، معها تمامًا، كأن العالم كله تمحى، ولم يتبقَّ سوى
خيط رقيق من الضوء يربط روحيهما.
ثوانٍ…
ظلت كما هي، لا تلتفت، كأنها تمنحه اللحظة كاملة… ليتهيأ.
وأخيرًا…التفتت نحوه.
كأن الزمن توقف للحظة،وكأن الهواء ذاته نسي أن يتحرك.
أطلت عليه بهدوء سماوي، بفستانها الأبيض الذي جمع بين رقة النقاء وفخامة البساطة، فبدت كأنها نُسِجت من ضوء لا قماش، فستان انساب على جسدها بانسيابية مذهلة، يحتضنها دون تكلّف، يبرز أناقتها دون مبالغة.
أما حجابها الأبيض،فقد توّجها كالهالة التي تكلّل وجه القمر في ليلة تمامه،فغمرها بنورٍ صامتٍ زادها وقارًا وجمالًا،لم تكن فقط جميلة…بل كانت مُذهلة، مُلهمة، خاطفة.
وفي تلك اللحظة،سُرِق قلبه مرة أخرى…لا،بل كأن قلبه كله لم يكن سوى ملكًا لها منذ البداية،وكل نظرة منها تعيد اختطافه من جديد.
أما هو…فما إن وقعت عيناه عليها حتى تلاشى توتره كله دفعة واحدة، ارتخت عضلاته بلا وعي،وتجمد في مكانه كأن الزمن نفسه توقف احترامًا لطلّتها.
بقي واقفًا كتمثال يُنحت على مهل،لا يفعل شيئًا سوى أن يحدّق بها، بتلك النظرة التي لا يجيدها إلا العشاق الذين يلتقون بعد اشتياق طويل أو بعد نجاة من حافة فقد، لحظة خرساء لكنها مشحونة بكل ما لا يُقال.
ثم ببطء خجول رفع كفه المرتعشة إلى فمه كأنه يُحاول كبت شهقة تفلت من قلبه لا من صدره، شهقة لم تكن صرخة بل رجفة صامتة،خرجت من أعماق رجل رأى فيها خلاصه، ملاذه، وكل المعاني التي انتظرها طويلاً.
عيناه اللتان كانتا تلمعان قبل قليل،لم تعودا قادرتين على احتواء ما فاض به قلبه…فتحركت يده المرتعشة إلى عينيه،لتلامس دموعًا ساخنة سالت في هدوء،دون خجل، دون مقاومة.
لم يكن يدري…أكانت تلك الدموع من فرحة أخيرًا تحققت،أم من حبٍ أثقل قلبه حتى لم يعد له مفر إلا البكاء؟ أم من كلا الأمرين وقد امتزجا فيه حتى صارا واحدًا لا يمكن فصله؟
وانهار…وبكى.
سقطت عبراته أمام الجميع،وتفتّت الصمت في القاعة، وانقطعت الأنفاس لحظة، وامتزجت النظرات بين اندهاش وتعاطف، بين رهبة وجمال، وكانت هي على رأسهم جميعاً.
تقدمت نحوه بخطوات بطيئة حذرة،والخجل يلون وجنتيها، وعندما باتت على مقربة منه، نادت اسمه بصوتها الدافئ، بصوت يشبه الهمس لكنه اخترق كيانه كما يحدث كل مرة:
“موسى…”
رفعت يدها في هدوءٍ ورفق،كما لو أنها تخشى أن تُفزع طفلًا صغيرًا،وأمسكت بكفه التي كانت تحجب دموعه عن العالم وأبعدتها بلطف عن وجهه كأنها تزيح الستار عن لوحة لا تكتمل إلا بنظراته.
وعندما تلاقت العيون، كان كل شيء حولهما يذوب،لم يبقَ من القاعة إلا صوتهما وصدى النبض في صدريهما.
وبصوت منخفض، محمّل بالقلق والرغبة في الفهم، سألت:
“مالك؟”
رفع موسى يده من جديد ومسح عينيه بسرعة المرتبك ثم قال بصوت باكٍ، متهدّج:
“مش مصدق إني حلمي خلاص اتحقق…حاسس إني بحلم، وإن في لحظة هصحى وألاقي كل ده اختفى.”
لم تكن الجملة أكثر من اعتراف عفوي،لكنه خرج من أعماق قلبه فصادف قلوب الجميع، فعمّ الصمت لحظة، ثم انطلقت ضحكات دافئة من الواقفين،ضحكات مليئة بالحب والتأثر، لم تكن ضحكًا على كلماته بل ضحكًا يليق برجل صدق في شعوره، فصدق الجميع معه.
حتى من بكوا تأثرًا بدموعه،ابتسموا بين الدموع…خاصة دلال،التي لم تستطع كتمان عبراتها،فهي أكثر من يعرف كم تمنى وحلم موسى بهذه اللحظة .
أما فيروز،فقد نظرت إليه وعيناها تشعّان بوميض دموع كادت تنهمر،لكنها قاومتها وابتسمت…ابتسامة من تحمل قلبًا مطمئنًا، قلبًا اختار واطمأن، ثم حرّكت رأسها نفيًا بلطف وقالت:
“لا،مش بتحلم…كل ده حقيقي، أنا هنا وإنت هنا،والناس كلها جايه تفرح معانا الليلة دي…تفرح بينا أنا وإنت.”
كان صوتها كالموسيقى،ونظرتها له تؤكّد ما قالته قبل الكلمات:أنها اختارته،أنها له…أن هذا اليوم ليس حلمًا،بل بداية لحياة كان يتمناها كلٌّ منهما،والآن يعيشانها معًا.
ابتلع ريقه بصعوبة، وكأن الكلمات تختنق في حلقه من شدة ما يشعر،ثم نظر في عينيها بنظرة طفل يسأل أمه عن الأمان، عن الحقيقة، عن الطمأنينة، وهمس بصوت خافت تخلله رجاء:
“يعني أنا…مش بحلم،صح؟”
لم تجب بالكلمات أولًا بل بنظرة،تلك النظرة التي لا يتقنها سوى من يَعد ولا يُخلف، ثم رفعت يدها برقة،ومسحت وجنتيه التي لا تزال عليهما آثار دموعه،ومسحت معها كل خوف وكل شك.
ثم قالت بصوتٍ دافئ،كأن قلبها هو من ينطق لا لسانها:
“لا…مش بتحلم، إحنا خلاص…بقينا لبعض.”
عندها فقط، كأن تلك الكلمات كانت المفتاح الأخير لقلبه،ابتسم…ابتسامة خرجت من أعماق رجل انتظر هذه اللحظة طويلاً.
حدّق بها ثوانٍ ثم لم يستطع مقاومة النداء في داخله،فمدّ ذراعيه وعانقها..عناقًا ليس ككل عناق…عناقًا حمل كل التعب الذي مرّ،وكل الحب الذي انتظره،وكل الطمأنينة التي لم يجدها إلا فيها.
وعانقته هي الأخرى…بلا تردّد،وبلا خجل.
كأنهما خُلقا منذ الأزل ليسيرا_رغم المسافات والسنين_نحو هذه اللحظة بالذات، كأن كل طريق سلكاه وكل وجعٍ مرّا به وكل دعوة خافتة نطقت بها قلوبهما في وحدتها،كان يقودهما صوب هذا العناق.
حين التقيا بين ذراعي بعضهما،لم يكن الأمر مجرد اقتراب جسدين…بل اندماج روحين ظلّتا تفتشان عن بعضهما وسط الزحام، حتى اهتدتا أخيرًا وعادتا إلى موطنهما.
صارت أنفاسهما واحدة،ونبض قلبيهما كأنما يعزف لحنًا واحدًا،لا يعرفه سواهما.
وفي لحظة صادقة لا تُقاس بالزمن،بدا وكأنهما لم يعودا اثنين بل روحًا واحدة الأن استقرت في جسدين متعانقين…قلبًا واحدًا ينبض في صدرين،ونورًا واحدًا لا يُطفأ مهما أظلمت الحياة من حولهما.
وبعد ما يقارب الدقيقتين،حين هدأت الأنفاس وسكنت الرجفة،ابتعدا عن بعضهما قليلًا، لكن نظراتهما بقيت متشابكة كأن لا شيء انفصل.
رفع موسى يده ومسح وجنتها برفق، بإصبعٍ حنون كأنه يخشى أن يخدش شفافية دمعها وقال بصوتٍ خافت تتخلله ابتسامة:
“خلاص…ما تعيطيش.”
رفعت كفيها هي الأخرى ومسحت وجنتيه بلطفٍ يشبه الهمس،وقالت وهي تبتسم وسط دموعها:
“وأنت كمان…ما تعيطش.”
تلاقت الابتسامات في قلبيهما قبل وجهيهما،وكأن الدموع التي بكتها أعينهما ما هي إلا عبور نحو طمأنينة جديدة،ومرح يليق بلحظة خفيفة بعد كل الثقل الذي سبق.
وفي تلك اللحظة،تقدمت دلال نحوهما،وعيناها لا تزال تلمعان بآثار بكاء سريع حاولت إخفاءه، لكنها بددت الجو بمزاحها الخفيف وقالت بنبرة مرحة وهي تضع يدها على خاصرتها:
“أنا من رأيي نقعد نعيط ونلغي الفرح!”
انفجرت ضحكات من في الخلف على جملتها، بينما موسى فقد اعتدل في وقفته سريعاً،وتكلم بنبرة حنق طريف،لم يُخفِ حرارته رغم أنه كان يبكي منذ لحظات:
“فرح إيه اللي يتلغي؟! دا أنا دافع فيه دم قلبي!”
اشتعلت الضحكات مجددًا،أما هو فالتفت بسرعة إلى فيروز، التي كانت تضحك بدورها بخجل ودهشة من تبدل حاله، ثم مد ذراعه فشبكت هي ذراعها به عندما حثّها على ذلك،فقال حينها بصوت مرتفع فيه من الحب بقدر ما فيه من الحماسة:
“يلا يا قلبي.”
نظرت إليه نظرة طويلة،بابتسامة خفيفة تحمل كل شيء: الحب والامتنان واليقين، ثم سارت معه وعيناها لا تزالان تلمعان،لكن ليس من الدموع وحدها…بل من نورٍ داخلي يُضيء حين تشعر الروح بالأمان.
أما هو،فكان يسير كمن يوشك أن يطير من السعادة،يلتفت إليها بين الحين والآخر كأنه يخشى أن تختفي إن غفل عنها،وكأنه لا يُصدق حتى الآن أن تلك التي بجواره هي زوجته،وأن ما ينتظرهما الآن ليس حلمًا،بل حفل زفافهما…أولى خطواتهما معًا في درب اسمه “نحن”.
_________________
مع مرور الوقت…
في غرفة هادئة في الطابق الثاني من القاعة، كانت
فيروز
تجلس وحدها، الصمت حولها لا يشبه الفراغ، بل يشبه
التأمل الثقيل قبل لحظة عظيمة
.
منذ لحظات فقط، كانت محاطة بصديقاتها، بالضحكات، بالتحضيرات، لكن الآن… الجميع غادر للأسفل، ليتركوا لها
دقائقها الأخيرة
قبل أن تبدأ فصلاً جديدًا من حياتها.
جلست على طرف الأريكة، كفّاها متشابكان في حجرها، وعيناها معلّقتان في نقطة لا تراها…
سعيدة؟
نعم… بل غارقة في الفرح، لكن التوتر ينسج خيوطه في صدرها كنسمة خفيفة تسبق المطر.
فجأة… طرقٌ خافت على الباب،
ثم فُتح ببطء، لتقع عيناها على
وجه والدها
.
ابتسم… فابتسمت، ابتسامة خجولة، ممتنة، دافئة.
دخل يحيى بخطوات هادئة، واثقة،
وتقدّم منها، نهضت فورًا، فأمال رأسه ولثم جبينها بحنانٍ فاض من القلب.
ثم نظر إليها، نظرة لا تليق إلا بأب يرى ابنته في فستان الزفاف للمرة الأولى،
وقال بصوت أبويّ يقطر دفئًا:
“ألف مبروك يا حبيبة قلب بابا…”
ردّت عليه بصوتٍ فيه رجفة شعور عميق:
“أنت مبسوط؟”
ضحك، ضحكته الصادقة التي تشبهه، ثم قال:
“عمري ما كنت مبسوط كده في حياتي، مش هبقى مبسوط إزاي… وأميرتي الصغيرة بتتجوز من حبيب عمرها، اللي فضح الدنيا علشان يتجوزها.”
ضحكت
فيروز
بخفة، ضحكة قصيرة، لكنها حقيقية، هو الآخر ضحك، ثم أضاف بنبرة عميقة:
“موسى يستاهلك، الحقيقة؟ مافيش حد يستاهلك غيره.”
نظرت إليه، نظرة ممتنة، محمّلة بكل الحب، لكن شيئًا في عينيها تغيّر… اختفت الابتسامة شيئًا فشيئًا، وسألت بصوت خافت، حذرٍ، كأنها تُجاهد الكلمات:
“أنا… عرفت إن والد خالد عملك مشاكل كتير في الشغل.”
تنهّد، بعمقٍ، ثم هزّ رأسه ببطء وهو يقول:
“شوية… أول ما رجعت، كان فاكر إننا ظالمين ابنه، وافترينا عليه… حاولت أشرحله، بس هو فضّل يصدق رواية ابنه، بس دلوقتي… بعد ما المحكمة حكمت علي ابنه بـ١٥ سنة انسحب من الصورة تمامًا، أعتقد صدق بقا.”
سكت لبرهة، ثم
وضع كفيه على وجهها برفق،
وقال بحسم أبويّ، لكنه مملوء بالعاطفة:
“المهم، أنا مش عايزك تفكّري في كل ده، انسِ يا فيروز، انسِ كل اللي حصل، وفكّري بس… في الحياة الحلوة اللي مستنياكي مع حب عمرك.”
هزّت رأسها بخفوت، بعينين تترقرق فيهما دمعة امتنعت عن السقوط، بينما هو، ابتسم لها، ثم عدّل وقفته، ومدّ ذراعه وقال مازحًا بجديّة:
“يلا… نزفّك لعريسك.”
ضحكت هذه المرة بصدق، دمعة صغيرة أفلتت، لكنها لم تُفسد شيئًا، بل زادت اللحظة بهاءً.
وضعت يدها داخل ذراعه،
وسارت إلى الخارج بخطوات ثابتة، كأنّها تعرف إلى أين تمضي، وكأنّ كل الطرق لم تكن إلا لتقودها إليه…
إلى موسى…
الذي
ينتظرها في الأسفل،
على أحرّ من الجمر،
ليبدأ بها حياته، ويختم بها كل انتظاراته.
توقف بها
على أعلى الدرج
، لتسقط أنوار القاعة عليهما كما لو كانت الدنيا بأسرها قد أزاحت ستارها لتُعلن هذه اللحظة.
كل الأعين انتبهت، لكن
عينًا واحدة فقط… ارتجف فيها العالم كله.
كانت عين
موسى
، الذي وقف أسفل الدرج، ينتظر… بقلبه، بروحه، بكل ذرة فيه، ينتظر أن تمسك
ذراعه
وتقول له، دون كلمات: “أنا هنا، أخيرًا.”
بدأ
يحيى
في الترجل معها بخطوات واثقة، حذرة، يده تسندها، ونظراته لا تفارق وجهها، وفي قلبه… دعاء طويل، أن لا يُكسر هذا النور أبدًا.
لكن في منتصف الطريق…
توقّف.
توقف مفاجئ… دون سابق إنذار،
فجمدت اللحظة، وتشوّشت الأنفاس، وتعلّقت الأنظار.
القاعة كلها تساءلت في صمت متوجّس:
“ماذا حدث؟”
لكن الترقب لم يدم طويلًا… إذ
أدار يحيى رأسه ببطء نحو اليمين،
ونظر مباشرة إلى
سامي
.
ثبتت عينا الأب عليه، ثم
أشار برأسه له أن يتقدّم
، وسامي، الذي بدا عليه التوتر والدهشة، نظر حوله ليتأكد أن الإشارة له فعلًا… ثم، حين أيقن،
تقدّم بخطوات هادئة، بطيئة، كما لو كان يسير داخل قلبه.
صعد الدرج، حتى بلغ حيث يقف الاثنان، وما إن اقترب، حتى
أمسك يحيى بيد فيروز بلطف،
ثم التفت إلى سامي، ومدّ له يدها، وقال بصوت منخفض لكنه ممتلئ بالمعنى:
“سلّمها لعريسها… أنت الأحق مني.”
لم تكن كلماته فقط تسليم يد، بل كانت تسليم
ثقة، ومحبة، وامتنان
، كانت اعترافًا ضمنيًا، بأنه الأحق في هذا، فهو كان الداعم لهذه العلاقة منذ البداية.
وسامي لم ينطق، لكن عينيه قالتا كل شيء، ويده المرتجفة حين أمسكت بيدها، كانت ترتجف حبًا… وامتنانًا… وشرفًا لم يتوقّعه.
ترجّل
يحيى
بهدوء، واندمج مع الحاضرين في القاعة، لكن لم يكن كأيّ حاضر… كان أبًا خرج للتوّ من لحظة لا تتكرر في العمر سوى مرة، لحظة تسليم قلبه لقلبٍ آخر.
وقف وسطهم، بين الزغاريد والأنغام، لكنه
كان غارقًا في صمتٍ خاص
، رفع يده ومسح
دمعة متمردة
، دمعة لم تكن حزنًا، بل مزيجًا من
الامتنان، الفرح، والحنين.
وما إن فعل ذلك، حتى أحسّ بيدٍ قوية، صادقة، تربت على كتفه، التفت فوجد
داوود
يقف إلى جواره، بعينين تفهمان تمامًا ما يعنيه أن تُسلّم ابنتك لرجلٍ آخر… رجلٍ اختارته، ورأيته يستحق، شعور قد عاشه داود عندما سلم دلال لطارق.
ابتسم له داوود، فابتسم له يحيى…
نظرة بين صديقين، بين أبوين، تشبه التصفيق الصامت على نهاية فصلٍ جميل.
ثم، دون كلام، التفتا سويًّا حيث ينظر الجميع…
نحو السلالم.
كان هناك
سامي،
واقفًا إلى جانب
شقيقته، فيروز،
عينيه تلمعان
بعبَرات الفرح
، لكن في داخله… كان هناك شيء يشبه
الوداع.
ثم، بخفة خاشعة،
نزلا معًا على السلالم، خطوة بخطوة،
كأن كل خطوة تنقش لحظة في القلب، حتى بلغ بها موسى،
وأنزل يدها إليه، وسلّمها له.
لكن لم يكتفِ ساني بذلك… بل
توقّف، دار بعينه عليهما،
ثم قال بصوتٍ مبحوح، لكن مملوء بكل ما يحمله الأخ لأخته:
“طبعًا أنت عارف غلاوتها عندي قد إيه… وعارف إنّي ما لحقتش أشبع منها، فـ خد بالك منها يا موسى… إنت خدت حتة من روحي… إذا ماكنتش خدت روحي كلها.”
كانت كلماته كأنها تُقال من الأعماق، من مكانٍ في القلب لا يُقال منه الكلام كثيرًا… لكن حين يُقال… لا يُنسى أبدًا.
اقترب أكثر، رفع يده وربت على كتف موسى،
ثم أكمل بنبرة أعمق:
“خد بالك منها يا صاحبي… وغلاوتي عندك.”
نظر إليه موسى، ورأى
الدمعة تقاوم في عينه،
ولم يحتمل… لم يستطع أن يُبقي المسافة بينهما.
احتضنه
، واحتواه كأنما يحتضن وعدًا، وهمس في أذنه
بوعد صادق، من رجل لرجل… ومن قلب لقلب:
“وغلاوتك عندي… وغلاوتها عندي… في عينيّا يا صاحبي، زي ما كانت… ولسّه في قلبي.”
وفي تلك اللحظة… لم تكن العروس فقط من سُلّمت، بل سُلّمت معها
الثقة، والطمأنينة، والود، وسلّمت الأخوّة من قلبٍ لقلب، بلا ضجيج… لكن بأثرٍ خالد.
ابتعدا عن بعضهما في هدوء، لكن القرب الحقيقي كان قد بدأ لتوّه…
فالقلبان أصبحا يدًا بيد.
مد موسى يده نحوها،
وأمسك بيدها برفق، كأنّه لا يلمس كفًّا، بل يلمس عمرًا كاملاً انتظره، وشوقًا اختُزل في لمسة.
تلاقت أنظارهما،
فابتسمت له، وابتسم لها… ثم
قادها بخطواتٍ بطيئة نحو المنصة،
كأن كل خطوة تُكمل فصلاً في حكاية بدأت منذ زمن.
وفجأة…
خفّ ضوء القاعة أكثر،
انسحب من الأطراف… وتجمّع كله عليهما، كأنّ كل العيون تنظر، لكن لا أحد يُرى سواهما.
الأضواء احتشدت، والوقت توقّف…
وفي تلك اللحظة،
انطلقت الأغنية
، بصوتٍ دافئ، حنون، عميق:
–
حكايتنا كملت وكان في وعد نفذته
وشيلتك في عنيا
اسمك واسمي جنب بعض
ولآخر عمري شريك فيا
أدي كل أصحابنا ومعارفنا جم
يتبسطوا معانا الليلة دي
قلبي من الفرحة عمال يضم
حضنك يا حبيبي بحنية
دا كأني في حلم وبقول يا سلام
معقول يا قلبي بقينا ليه
وهدينا يا دنيتنا بأحلى أيام
الفرح ده إحنا أولى بيه
أنا هفضل جنبك
وهعيش سنيني معاك يا حبيبي كلها
وهطمن قلبك وهملي عيني
بأحلى دنيا أنا شوفتها
أنا في عينيك الحلوين سرحت
من امتى ونفسي تكون ليا
من أول ما شوفتك أنا اتصالحت
مع نفسي وأيامي الجاية
أول مقابلة لو عدّى عمر
أنا هفضل فاكر تأثيرها
مهما السنين تفوت تمر
صورة مافيش حد يبدلها
لم تكن أغنية فقط، بل كانت
اعترافًا مسموعًا، وعدًا معلنًا، وتتويجًا لحبٍ لم يخفت يومًا،
بل نضج بصبرٍ، وتطهّر بتحدياتٍ، حتى وصل هنا… في حضرة النور، والشهود، ليقول بصوتهما:
“حكايتنا كملت… وأخيرًا.”
تراقصا بخفةٍ ساحرة على أنغام الأغنية، أنغامٌ لم تكن تخرج من مكبّرات الصوت فحسب، بل من نبضهما المتناغم، كأن روحيهما تؤلف لحنًا خاصًا لا يُسمع إلا لهما.
كان
موسى
يردد كلمات الأغنية بحماسة عاشقٍ يعرف تمامًا ما يقول، أما هي، فكانت
تضحك بخجلٍ دافئ،
تارة تردد معه، وتارة تخفض عينيها في خجلٍ جميل، لكن عينها كانت تعود له دائمًا، كأن قلبها يأبى أن يبتعد عنه ولو بنظرة.
ثم، بلحظةٍ هادئة،
أسند موسى جبينه على جبينها،
وثبت عينيه في عينيها، وهمس بصوتٍ شاعري ناعم كنسيم الليل:
”
ماذا فعلتِ بقلبي ليهواكِ؟! كيف سحرتِه حتى صارت دقاته تنطق باسمكِ؟! ماذا صنعتِ به ليجد في عينيكِ موطنه، وفي حضوركِ حريته رغم أسره؟! أخبريني، أي سحرٍ هذا الذي جعل روحي لا ترى في الوجود سواكِ، فتاهت بكِ، وعشقتكِ، وتيمت بحبكِ؟!
”
كانت كلماته كأنها
نسج من قلبه مباشرة، لا من لسانه
، وحين أنهى، لم تحتج للحظات تفكير، فقط ابتسمت بعفوية عذبة، وهمست:
”
خطفته.
”
ضحك موسى من أعماقه،
ضحكة حقيقية، نقية، كأنها خرجت من عمق قلبه،
ثم تراجع قليلاً وقال بمزاحٍ طفوليّ:
“ده احنا ما بقيناش نتكسف أهو!”
ردّت بخفةٍ وهي تضحك:
“اكتسبت مناعة.”
ضحك… وضحكت، وضحك العالم من حولهما، وفي اللحظة نفسها،
انتهت الأغنية الهادئة،
وحلّت محلها أنغامٌ أكثر حماسًا.
وفجأة…
وجدوا أنفسهم محاطين بدائرة من الأصدقاء،
كلٌّ يعبر عن سعادته بطريقته: منهم من بدأ يرقص، منهم من كان يصفق بحماسة، منهم من أطلق الزغاريد، وآخرون يضحكون ويلتقطون الصور.
كانت
الفرحة معدية،
والحب متوهجًا كأن الضوء ينبعث من العروسين أنفسهما، ثم جاء من يسحبه من يد، ومن يسحبها من يد، كأن هذا الحب، لم يعُد ملكهما فقط، بل صار
فرحًا عامًا… لا أحد يريد أن يفوّت لحظة منه.
وسط بهجة الأضواء وضجيج الفرح وأصوات الضحك المتناثر كحبات السكر في الهواء،
انسحب جسدٌ واحد بخفةٍ محسوبة،
كأن شيئًا ما يناديه من خارج الدائرة الراقصة.
كارم
… بابتسامته الهادئة المعهودة، ابتعد قليلًا عن الصخب واتجه إلى ركنٍ هادئ من القاعة، رفع هاتفه ووضعه على أذنه، وصوته جاء منخفضًا، يحمل نبرة انتظارٍ ولهفة:
“آه، هتلاقي القاعة على إيدك اليمين… متأكدة هتعرفي تدخلي لوحدك ولا أجي أخدك؟
تمام، ماشي… هستناكي جوه… باي.”
أنهى المكالمة ببسمة جانبية، تلك التي لا يراها سواه… ولا يعني بها أحدًا سواها.
أغلق الهاتف، ثم أدار عينيه في القاعة، يبحث
عن وجه محدد، وجه يعرفه جيدًا
، وحين وقعت عينه عليها، تقدّم نحوها بثبات، كمن يعرف طريقه حتى وسط الزحام.
وقف بعيدا عنها ببضع خطواط، وقال بنبرة فيها شيء من التودد والرجاء:
“دلال…”
رفعت رأسها وانتبهت له، فأشار بلطف:
“ممكن ثانية؟”
أومأت برأسها وخرجت من بين الفتيات، اقتربت منه، منتظرة الحديث، فقال:
“كنت عايز منك خدمة صغيرة.”
رفعت حاجبها باهتمام:
“اتفضل.”
تنفس قليلًا، ثم قال بصوت خافت قليلًا:
“في واحدة… تبعي، زميلتي في الشغل، لنا عزمتها على الفرح، وهي قربت توصل، كنت عايزك تاخدي بالك منها شوية، تفكّيها، تعرفيها على البنات، يعني تكسري حواجز الخف والتوتر.. أنا عارف إنك إنتِ الBoss هنا، ومحدش غيرك يعرف يعمل كده… أقدر أعتمد عليكِ؟”
نظرت له دلال للحظة، لكنها لم ترد فورًا،
رسمت على وجهها ابتسامة ماكرة، ثم قالت بنبرة خفيفة تحمل كثيرًا من المعاني:
“قلتلي زميلتك في الشغل؟”
“آه.”
رفعت حاجبها، واقتربت بخبث طفولي وقالت:
“زميلتك بس؟”
تردّد للحظة، ثم كرر بإصرار مرتبك:
“آه، زميلتي بس.”
نظرت له مطوّلًا، كأنها تقرأ ما بين سطور وجهه، ثم تنهدت وقالت باستسلام تمثيلي:
“ماشي، عرفني عليها لما توصل… وسيب الباقي عليّا.”
ابتسم بامتنان وقال:
“تمام، عموماً إنتي هتاخدي بالك منها… هي مميزة كده، وحضورها مميز.”
ضحكت دلال بخفة وهزّت رأسها وهي تتمتم بسخريةٍ حنونة:
“واضح… إنها زميلتك بس.”
وابتعدت بعدها، تاركة وراءها ذيلًا من الشك اللطيف… بينما ظلّ هو واقفًا، ينظر في الهاتف، وينتظر،
لعلّ القادم… أهم من كل ما
مضى، وخاصة بحضورها.
_________________
كتابة/أمل بشر.
أنا قعدت مترددة شوية، أنزله ولا لأ، وكنت ناوية آجله لبكره علشان كان المفروض يبقى القفلة حاجة تانية، بس ماحبتش أتأخر عليكم أكتر من كده.
فبعتذر لو الفصل أحداثه بسيطة، ولو حاسيين إن في تمطيط، بس حقيقي كل مشهد مهم، يا بيدعم حاجة حصلت، يا بيدعم حاجة لسه هتحصل.
وأخيراً، أتمنى يكون عجبكم، وتقولولي رأيكم وأكتر مشهدكم حبتوه…
دمتم بخير… سلام.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.