رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخامس والأربعون
الفصل الخامس والأربعون (مسألة وقت)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية
.
نبدأ بسم الله…
________
–
وما إن رَآها القلبُ حتى هوى بها
كأنَّ لم يُحبَّ القلبُ قبلَ اللقاها
“مقتبس”
_________________
وقف
بجوار باب القاعة،
ينتظر… وكأن الوقت يتمادى في بطئه عن قصد
،
ينظر إلى ساعة يده بين الحين والآخر،
ثم يرفع عينيه نحو المدخل،
يتفقد المدعوين،
كأن
عينه تبحث عن حضورٍ يعرفه قبل أن يراه.
وفجأة…
رآها.
كأن النجوم انفرطت لتصنع منها حضورًا،
كأنها
نجمة انسلت من السماء وقررت أن تمشي على الأرض.
كانت ترتدي
فستانًا أزرق قاتم، أنيقٌ وبسيط، يغطي جسدها بالكامل ما عدا عنقها،
الذي زيّنه عقد رقيق، كما زُيّن الفستان شريطة حريرية عند الخصر،
تزيدها أنوثةً ورقّة.
خصلات شعرها جمّعتها أعلى رأسها على هيئة “كحكة” أنيقة،
وتركت منها خصلة متمردة سقطت برقة على جانب وجهها…
فاكتملت اللوحة.
خُطفت أنفاسه قبل أن يبتسم.
كان ينظر إليها بذهول لا يحاول إخفاءه،
وكأنها
أجابت عن كل الأسئلة التي لم يطرحها قلبه بعد.
اقتربت بخطى واثقة،
وفي صوتها كان هناك حنو لا يُصطنع، وقالت برقة:
“أهلاً.”
نظر إليها،
وتنهد كمن وجد شيئًا كان يفتّش عنه في الزحام،
ثم همس دون أن يخطط:
”
قمر… طالعة زي القمر النهاردة.
”
ابتسمت بخجل،
ورفعت يدها تعيد الخصلة خلف أذنها،
كأنها تحاول أن تُخفي الارتباك،
لكن ملامحها كانت تشعّ
،
ثم ردّت بهدوء:
“شكرًا… وأنت كمان طالع أنيق أوي، الأسود طالع يجنن عليك.”
خفض عينيه للحظة، نظر إلى بذلته السوداء البسيطة:
بنطال، قميص، جاكيت، وحذاء لامع…
ثم
أعاد النظر إليها وقال ببساطة صادقة:
”
ماجيش جنبك حاجة…
الحقيقة، محدش ييجي جنبك حاجة.
”
وساد بينهما لحظة صمت،
لكنها لم تكن ثقيلة، بل محمّلة بشيء دافئ،
لحظة صامتة جميلةٍ، كان فيها
الصوت الوحيد هو الابتسامة
، ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيهما،
ممتلئة بكل ما لا يُقال.
لكن كارم، الذي أفاق من ذهوله شيئًا فشيئًا، ابتسم لها بهدوء وقال بنبرة دافئة، فيها من الدعوة ما فيها من اهتمام:
“تعالي يلا، ندخل علشان أعرّفك على الكل.”
أومأت بخجل خفيف، وتقدّمت بجواره،
يمشيان جنبًا إلى جنب،
حتى اقتربت منهما
دلال
… وكأنها كانت تراقب المشهد من البداية، الخبيثة اللطيفة، تلك التي لا يفوتها شيء.
اقتربت، وابتسامتها تتسع بدهاء لذيذ، وقالت وهي تطيل النظر في
ميرنا
:
“بسم الله ما شاء الله… إيه العسل ده؟ دي زميلتك يا كارم؟؟”
رمقها كارم بنظرة جانبية ممتعضة وقال بضيقٍ مصطنع:
“آه هي يا دلال.”
ثم نظر إلى ميرنا وعرّفها قائلاً:
“دي دلال يا ميرنا، عمة العريس… هتعرفك على كل اللي هنا أحسن مني.”
ابتسمت دلال واقتربت تعانق ميرنا بذوقٍ واضح وحنوٍ وقالت:
“أهلاً وسهلاً، مبسوطة إني اتعرّفت عليكِ.”
ردّت ميرنا بخجل واضح، وابتسامة فيها لمحة ارتباك:
“وأنا كمان مبسوطة… بس شكلك صغير أوي على إنك تكوني عمة العريس.”
ضحكت دلال برقة، وهي ترفع حاجبيها وتقول:
“آه، قصة طويلة ومعقدة شوية… تعالي أقولك وأنا بعرّفك على باقي الشلة، وأشرحلك شجرة عيلتنا.”
سحبتها من يدها بخفة،
وانطلقت بها نحو داخل القاعة، لكنها قبل أن ترحل، نظرت إلى كارم وقالت بغمزة مفعمة بالدهاء:
“ماتقلقش… زميلتك في عينيّا.”
شدّدت على الجملة الأخيرة بخبث واضح، وغادرت وهي تضحك بخفة، تاركة كارم واقفًا يحرك رأسه بيأس وهو يهمس لنفسه:
“هو أنا مفضوح أوي كده؟”
وقبل أن يلتقط أنفاسه… جاءه صوت قريب،
صوت يعرفه جيدًا:
“أوي أوي.”
التفت سريعًا، ليجد
والدته
بجواره، تحدّق فيه، ثم أضافت بنبرة لا تخلُ من الحنية والسخرية:
“ده أنت مفضوح أوي… واقع أوي أوي يا نن عين أمك.”
ضحك كارم بخفة، ثم أدار عينيه مجددًا نحو ميرنا، يتابع خطواتها برفقة دلال، قبل أن يقول بنبرة هادئة، ملأها اليقين:
“صح… وقعت، وما حدش سمّى عليّا.”
رمقته والدته نظرة مشجعة وقالت:
“خلاص… اتلحلح بقى وخد خطوة.”
لم يرد مباشرة، سكت قليلًا وهو لا يزال يحدّق في ميرنا، ثم رد بنبرة خافتة، لكنها مليئة بالنية والعزم:
“هاخد… وقريب أوي.”
.
.
.
.
وعند ميرنا…
كانت دلال قد وصلت بها إلى حيث تقف باقي الفتيات، وقالت بنبرة خفيفة، لكنها تحمل الكثير بين طيّاتها:
“أعرّفكم يا بنات… ميرنا، زميلة كارم في الشغل.”
فهمن جميعًا، من نظرة دلال، ومن ابتسامتها، أن
هناك قصة تُكتب…
تبادلن النظرات الخاطفة، النظرات التي لا تُخطئ الهدف، ثم
ابتسمن بإبهام.
وقالت
يمنى
بنبرة ذات مغزى وهي ترفع حاجبيها:
“يعني خلاص؟… هتبقى واحدة من الشلة؟”
لم تفهم ميرنا المعنى الخفي تمامًا، فتجهّزت للسؤال، لكن لم تُمهلها البنات فرصة،
أحطنها بحرارة واهتمام ومرح،
بحفاوة لم تليق أبدًا بكونها “زميلة عمل فقط”. بل…
كأنها أصبحت واحدة منهن
.
_________________
بعيدًا عن صخب وضحكات الشباب ورقص الأقدام…
وعلى بُعد خطواتٍ قليلة من قلب القاعة، كان هو يجلس في الركن المخصص للرجال، يتوسّط والده وإخوته، يشاركهم لحظات من الفرح الصامت، يبتسم وهو يتابع الشباب يرقصون.
وفجأة، اخترق صوته صوتٌ قريب، مألوف النبرة، مألوف الحضور:
“أستاذ مصطفى!”
رفع رأسه بسرعة، نظر نحو مصدر الصوت،
ليجد وجهًا لم يره منذ زمن…
نهض مصطفى على الفور، نصف مفاجأ، ونصف مسرور، وهو يقول:
“أدهم!.. إزيك؟”
صافحه أدهم بحرارة وقال بصدق:
“الحمد لله، حضرتك عامل إيه؟”
ردّ مصطفى بابتسامة خافتة ونبرة هادئة:
“بخير، الحمد لله.”
“ألف مبروك…”
رد مصطفى بنفس النبرة، وابتسامته الهادئة لاتزال ثغره:
“الله يبارك فيك… عقبالك.”
“الله يخليك… حضرتك رجعت من الكويت إمتى؟”
سكت مصطفى للحظة…
ألقى
نظرة سريعة إلى الفراغ، وكأنّه يسترجع شيئًا ما،
ثم قال بنبرة صريحة لكنها خافتة:
“أنا ما سافرتش أصلاً من يوم ما كنت معاك…
سافرت مرة واحدة بس، علشان أجيب حاجتي من هناك.”
اتسعت عينا أدهم بدهشة لم يستطع إخفاءها، وسأل:
“ليه؟ حضرتك سيبت الشغل؟”
أومأ مصطفى برأسه بخفوت وقال بصوته الرخيم:
“آه، استقلت… وخلاص استقريت هنا.”
تغيّرت نبرة أدهم، وصارت أكثر هدوءًا وهو يقول:
“ما كنتش أعرف…
أنا بصراحة مش بنزل الشارع كتير، ولما بنزل ما بشوفكش خالص.”
ابتسم مصطفى بخفة، وقال وهو يُلقي نظرة على الجمع حوله:
“أنا في الغالب يا إما عند الحج…
يا إما قاعد في شقتي.”
أومأ أدهم بتفهمٍ، ثم قال بنبرة هادئة، محمّلة بودٍّ صادق:
“أتمنى أشوفك أكتر في الفترة الجاية.”
ابتسم مصطفى بخفة، بعينٍ فيها شيء من الامتنان وكثير من الهدوء، وأجاب:
“إن شاء الله.”
وفي تلك اللحظة، صدح صوتٌ مألوف، يحمل من الدعابة أكثر مما يحمل من العتاب:
“إيه يا عم أدهم، مش هتسلّم علينا ولا إيه؟”
كان صوت
محمود
، وعلى الفور حرّك أدهم عينيه نحوه، ثم نحو بقيّة الرجال، وفرك رقبته في خجل خفيف وقال:
“لمؤاخذة.”
ثم تحرك بخطوات سريعة نحوهم، وبدأ يُصافحهم واحدًا تلو الآخر، ضاحكًا ومبتسمًا، يعانق البعض ويتبادل الدعابة مع آخرين، فيما
مصطفى
بقي في مكانه، لا يزال واقفًا،
لكن عينيه… كانت قد تحركت دون وعي، تخطت الرجال والمقاعد، وتسللت بخفة نحو الجهة المقابلة… نحو
ركن النساء
.
بحث عنها كمن يعرف تمامًا وجهته، وكأنّ عينيه تحفظ الطريق رغم الزحام، وبالفعل، وجدها…
تجلس هناك، إلى جوار ابنتها،
برفقة زوجات شقيقه محمود،
تصفق وتبتسم…
تلك الابتسامة…
كم اشتاق لرؤيتها، كم افتقدها في الليالي التي كانت فارغة من كل شيء… إلا الحنين.
رأى وجهها بوضوح،
ذلك الوجه الذي لطالما حمل له كل ما يشتهيه من السكينة والحب، وجهٌ يعرفه كما يعرف اسمه، وجهٌ كلّما حاول أن يبتعد عنه، عاد إليه الشوق
أضعافًا.
لكن ما أعزّ عليه الآن، هو أن تكون بهذه القُرب، ومع ذلك… هو لا يستطيع الوصول.
لم يكن بينهما سوى خطوات،
لكن بين الخطوة والخطوة… كان هناك
عُمر من الوجع، والاختيارات، والغياب.
حدّق فيها لثوانٍ، ثم سرق بصره بعيدًا، كأنّه يخاف أن تُفضحه العين، أو أن يرى أحدهم ما لم يُقال… وما لن يُقال.
_________________
ومع مرور الوقت، كانت الأجواء تشتعل شيئًا فشيئًا، حرارة المشاعر تعلو، والقلوب تُطرق كما الطبول بين الضلوع، بين الحماسة والفرح، بين الأغاني والضحكات. كانت القاعة بأكملها تغلي بحالة احتفال لا تُشبه سواها.
وفي وسط الدائرة، كان
هو
…
العاشق الذي لا يرى إلا
هي
، يتراقص أمامها، يلوّح بذراعيه بإيقاع الأغنية، يردد كلماتها من قلبه، من عمق صدقه، بينما أصدقاؤه يحيطون بهما، يصفقون ويشاركونه اللحظة.
–
حلم سنين، حلم سنين
عيشنا وشوفناه اليوم اللي اشتقناله
أحضني قصاد الناس يا حبيبي وماله
ما بقينا لبعض خلاص
زادوا العشاق اتنين، اكتب أسامينا
كان حلم سنين وسنين نبقى لبعضينا
الله على ده إحساس…
كان يُنشدها وكأنه يصرح عما في داخله، ظل يردها حتى النهاية، وبدأت أنغام أغنية أخرى، جديدة، لكنها لم يلحظ ، فهو ما زال في نفس اللحظة، يرقص، ينظر إليها، يبتسم.
لكن، فجأة…
ظهر أمامه سامي
، بتلك الطلة التي يعرفها جيدًا، بنصف ابتسامة ونصف جدية، اقترب منه، مال برأسه على كتفه وقال بنبرة واضحة، لا تخلو من المزاح:
“الفقرة دي بتاعتي أنا وهي.”
تفاجأ موسى، وبينما لا يزال يلتقط دهشته، كان سامي قد مدّ يده وسحب
فيروز
منه بخفة، بخطوة يعرفها جيدًا، وتقدّم بها نحو المنصة… .
تركه واقفًا، حائرًا، مذهولًا، لا يجد ما يقول، سوى أن رمق ظهره وهو يبتعد، وهتف بنبرة مرتفعة:
“يعني أنت الوحيد اللي عندك إخوات؟ أنا عندي تمانية!”
لكن سامي لم يلتفت…
لم يُجب
، فقط مضى، ويده في يد شقيقته، خطواته هادئة واثقة، يرافقها حبٌ قديم، حب الأخ الذي عرفها قبل أن يعرف العالم، حبٌ لا يُنافس، ولا يُقاس.
ضحكت
فيروز
من جملة موسى، ضحكت من محبّته، ومن تلك الغيرة الطفولية التي لا تفارقه أبدًا، وهي تتابعه بعينيها، تراه كيف التفت بخفة، واقترب من
دلال
فجأة، دون مقدّمات، سحب يدها كأنها جزء منه، كأن لا حاجة للشرح أو الاستئذان.
تفاجأت دلال، حدقت فيه باندهاش وارتباك، تحركت معه رغمًا عنها، وهي تسأله بعينيها قبل شفتيها:
“إيه ده؟ بتعمل إيه؟”
لكنه لم يجب، فقط مضى بها نحو
المنصّة
، تلك التي كان يقف عليها
سامي
مع فيروز، يتمايلان بهدوء على أنغام الموسيقى وسط أضواء خافتة، والمشهد يزداد دفئًا وروعة.
وقف موسى بجانبهم، ثبت قدميه أمام دلال، نظر في عينيها مباشرة، وأطلق جملته وهو يشد على يدها بلطف:
“هرقص معاكي.”
رفعت حاجبيها بدهشة وسألت بنبرة تميل للسخرية:
“اشمعنا أنا يعني؟!”
ابتسم موسى، ثم أغمض إحدى عينيه في
غمزة مشاكسة
وقال بخفة دم:
“علشان إنتِ أختي… يا سُكّر.”
لم تستطع دلال أن تقاوم، ضحكت، ضحكت بصدق، ثم فجأة، وكأن روحهما التقت على الإيقاع ذاته،
اندمجت معه
، ورقصا كما لم يرقصا من قبل، رقصة لا تشبه سوى
الأُخوّة
، والونس، والحب الذي لا يُطلب، لا يُقال، بل
يُعاش
.
–
الفرحة اللي أنا حاسس بيها
لا أنا قادر أقولها ولا أحكيها
أختي حبيبتي وضي عيوني
لعريسها بإيدي هوديها
من يوم ما وعينا على الدنيا
ما فارقنا بعضنا لو ثانية
على عيني إنك تبعدي عني
دمعتي مش قادر أخبيها
والفرحة اللي أنا حاسس بيها
لا أنا قادر أقولها ولا أحكيها
أختي حبيبتي وضي عيوني
لعريسها بإيدي هوديها
من يوم ما وعينا على الدنيا
ما فارقنا بعضنا لو ثانية
على عيني إنك تبعدي عني
دمعتي مش قادر أخبيها
غصّ المشهد بالمشاعر، بالحبّ الصامت حينًا، والبوح الصادق حينًا آخر.
على أحد جانبي المنصة، كان
سامي
يحاول أن يخفي دمعة سقطت على وجنته… لكن فيروز لمحَتها، ولم تمهله، فمسحتها بأناملها الرقيقة وسألته بهمسة قلقة:
“بتعيط ليه؟”
لم يجب مباشرة، بل ابتلع غصته، حاول أن يبتلع معها كل الذكريات التي داهمته دفعة واحدة… ثم قال بصوتٍ باكٍ منخفض، كأنما يُحدّث نفسه:
“علشان مش مستوعب إنك كبرتي… وبتتجوزي… مش مصدق إني واقف دلوقتي في فرحك
،
الوقت جري يا فيروز، جري مننا، ومالحقتش أشبع منك…
نفسي آخدك من هنا وأرجعك البيت… ينفع؟”
لمعت العبرات في عينيها تأثرًا بكلماته، حدّقَت فيه للحظة طويلة، ثم رفعت يدها تمسح دمعتها قبل أن تهتف بعتاب طفولي حنون:
“ليه كلكم النهاردة عايزين تعيطوني؟”
ضحك من قلبه، تلك الضحكة التي خرجت من بين شقوق الحنين،
ثم رفع يده يربّت على وجنتها برفق،
وقبّل جبينها ببطء، كما يفعل الكبار حين يودّعون طفولتهم دون أن يدروا،
ثم قال بصوت مغمور بالمحبة:
“أنتِ عارفة إنّي بحبك، صح؟
وعارفة إني ماكنتش هوافق تتجوزي،
إلا لو كنت واثق إن موسى
هيحافظ عليكِ ويسلك في عينيه
،
بس أوعى تنسيني يا فيروز…
أوعى تنسي إن أول حب ليكِ… كان أنا
،
مش إنتِ كنتِ بتقوليلي كده وإحنا صغيرين؟
نسيتي؟”
هزّت رأسها سريعًا، ودمعة تسللت هذه المرة دون استئذان، وقالت بصوتٍ متماسك:
“مانسيتش، ومستحيل أنسى
،
وهتفضل أول حب ليا…
أخويا اللي بحبه قد الدنيا كلها.”
نظر إليها طويلًا، في عينيه لمعان لم تعرف كيف تسميه: حنين؟ فخر؟ ألم؟ امتنان؟ كلهم معًا
، ثم
أمسك بيدها وطبع عليها قبلة طويلة، كأنها
عهد، وهو يقول:
“وأخوكي بيحبك قد الكون كله.”
لم تحتمل أكثر، ارتمت في حضنه بعفوية موجعة،
فاحتضنها سامي بصدرٍ رحب، شد عليها وكأنه لا يريد أن يُفلتها،
قبّل رأسها كأنها كنزه… كأنها روحه التي تقف أمامه في ثوب زفاف أبيض.
وعلى الجانب الآخر من القاعة…
لم يكن
موسى ودلال
أقلّ حبًا أو صدقًا،
لكنهم من طينةٍ أخرى، لا يُجيدون البوح،
يتركون للعيون أن تتكلم،
للنظرات أن تشرح،
وللصمت أن يروي ما يعجز اللسان عنه.
كانا يتمايلان معًا بخفة، يضحكان، يتجاهلان ذلك الخيط العاطفي المشدود بينهما… حتى قطعه موسى بنبرة ماكرة:
“ها… عايزة تقولي إيه؟”
رمقته بنصف ابتسامة ثم ردت متحدية:
“لا، قول أنت الأول… عايز تقول إيه؟”
هزّ كتفيه كأن لا شيء يستحق أن يُقال:
“مش عايز أقول حاجة.”
ردت ببرود مصطنع، وهي تُبعد نظراتها عنه:
“ولا أنا.”
لكنه ما لبث أن همس:
“دلال…”
نظرت له… تلك النظرة وحدها، كانت كافية لتجعلها تنهار
، ثم
تنهدت، وقالت بصوتٍ أشبه بالبوح:
“كان نفسي أعيش اللحظة دي معاك في فرحي.
..
نرقص، نضحك، تتصور معايا، تضحكلي، أضحكلك…
كنت عايزة أبص عليك وأفرح… إنك فرحان ليا
،
كنت عايزة اللحظة دي… تبقى ليا… وإنت معايا.”
استمع لها موسى، ولم يقاطعها، لم يعلّق، فقط نظر إليها بعينين امتلأتا بشيء يشبه الندم… أو الوجع… أو الحب الذي
أخافه لوقتٍ طويل.
لكنها لم تكن تلومه، لم تعاتبه، كانت فقط تبوح…
تُسلم قلبها للحظة، ثم تبتسم.
أخفضت رأسها بخجلٍ صامت، وعيونها انسدلت معها، كأنها تحاول أن تخبئ ما يفيض بداخلها من مشاعر، لكنّه لم يسمح لها أن تبقى هناك… في الظل، في الحزن، في العتاب الصامت.
رفع يده بلطفٍ، وراح يُمسك بذقنها بأطراف أصابعه، رفع وجهها برقةٍ لا تحتمل، ليجعل عينيها تصطدمان بعينيه… مباشرة، بلا حواجز.
قال بصوتٍ أقرب للهمس، محمّل بالصدق والرجاء:
“أنا آسف… والله آسف، تسمحيلي… أعوّضك دلوقتي؟”
حدّقت فيه للحظة، لحظة طويلة لكنها تكفي أن تغفر وتنسى، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، هادئة، وامتلأت عينيها ببريقٍ يشبه العفو، يشبه الحنين… ويشبه الحب.
أومأت بالإيجاب، ولم يحتج أكثر من ذلك… ابتسم، تلك الابتسامة التي لا يعرفها سواها، ثم مد يده وأمسك بيدها، دار بها حول نفسها بخفة، كأنها راقصة في مسرح حلم…هي تضحك، وهو يضحك، وهي تدور، وهو يتأملها كأنها لوحة خرجت لتوها من متحف الزمن الجميل.
في تلك اللحظة…
نسيت العتاب، ونسِي الندم، ونسِي الناس.
وفي تلك اللحظة…
نظر الجميع إليهما، مأخوذين، مشدوهين، كأنهما خرجا من لوحةٍ ثمينة، لوحة مرسومة بأنامل فنانٍ يحبّ، يفهم الجمال، ويقدّس الحضور، أو ربما… خرجا من زمنٍ قديم، زمن يعرف كيف يُحب بأناقة، زمن لا يعرف إلا أن يكون… صادقًا، وجذابًا، وأنيقًا.
وأخيرًا… توقّفا.
وقفت أمامه، تتنفس السعادة كأنها هواءٌ نقيّ لم تذقه منذ
مدة
، بينما هو يرمقها بنظرة مشاكسة، ويغمز قائلاً بخفة عاشق:
“إيه رأيك يا سُكر؟”
ضحكت ضحكة طفولية صافية، ثم ردّت بحماسة:
“لفّني كمان مرة!”
ضحك من قلبه…
ضحك كما لم يفعل منذ زمن، ثم اقترب منها هامسًا:
“طب إيه رأيك تغمضي عنيكِ؟”
رمشت بدهشة، وقالت مستنكرة:
“ليه؟”
اقترب أكثر، وهمس بإصرار مُدلّل:
“اسمعي الكلام بس… وغمّضي عينيكِ.”
زفرت بافتعال الضيق، ثم أغلقت عينيها، تارة بتذمّر خفيف، وتارةً بيقينٍ أن ما بعدها جميل.
هو… رفع عينيه نحو مسؤول الموسيقى،
أشار له إشارة صغيرة مفهومة، فعمّ الصمت فجأة، وكأن الزمان نفسه خفَت أنفاسه.
عاد إليها، وهمس:
“لفّي كده الناحية التانية.”
سألته من جديد:
“ليه؟”
“لفّي وانتي ساكتة.”
ضحكات خافتة بدأت تنتشر بين من يسترقون السمع…
وهي، كما المعتاد، زفرت مجددًا، ثم لفت وجهها في الاتجاه الذي طلبه،
وفي اللحظة التي فعلت فيها ذلك…
قال بصوته الحنون:
“يلا افتحي عينيكِ.”
فتحتها ببطء…
ببراءة…
وبشيءٍ من الترقب.
لكن… ما إن رأته_هو لاغيره_ حتى اتسعت عيناها،
خفق قلبها كما لم يخفق من قبل،
وشهقت باسمه، كما لو أنها كانت تختزنه منذ ألف غياب:
“طارق.”
نطقت بها لا كاسم، بل كحنين… كفرحة… كنبضٍ عائد من السفر.
وهو؟
هو ابتسم، ابتسامة رجلٍ لا يريد من العالم شيئًا سوى أن يراها أمامه هكذا…
كان يقف أمامها، بزيّه الرسمي الذي خلع عنه قبعته فور رؤيتها،
فتح ذراعيه، وبمجرد أن تقدمت نحوه بخطوات تلهث بالشوق،
لم يتردد لحظة…
ضمها.
ضمّها وكأنها وطنه، وكأن الغربة كانت غيابها،
ضمّها وكأن كل دقّة قلبٍ ضاعت، وجدت موطنها أخيرًا.
في حضنه… هدأت.
وفي صدره… عادت.
وفي لحظتها… اكتملت.
طال العناق… طال بمقدار الشوق، كأن الجسدين يرفضان الانفصال بعد أن تعانقا أخيرًا، بعد أن طوى الحنين آخر صفحات البعد.
لكن اللحظة التي ذابت فيها الأرواح لم تدم طويلًا، إذ انطلق صوتٌ موسى، مرح كعادته، ساخر بنبرته الحانية:
“الفرح هيخلص وأنتم لسه حاضنين بعض؟؟”
ضحكات من هنا وهناك، فُتحت بها الأبواب للفرحة أن تتسلل أكثر، ضحك الجميع… إلا اثنان.
طارق… ودلال.
فورًا ابتعدت عنه بخجلٍ فاض من وجنتيها، لكنه لم يدع المسافة تكتمل، اقترب واحتضن وجهها بين كفيه، وقال بشوق لا يشبهه سوى الصدق:
“لقد اشتاق كلي… لكلك.”
رعشة اجتاحت ملامحها، تورد خديها لم يكن بفعل الحرارة ولا الخجل، بل بالحب
، ثم
سألته بصوت دامع لا يصدق:
“أنت هنا بجد؟؟”
أومأ بخفوت، بابتسامته التي حفظتها عن ظهر قلب،
لكن عقلها ما زال عالقًا في الصدمة، فتمتمت من جديد:
“بس إزاي؟؟… أنت قلت إن في عطل في الطيارة وإنك مش هتوصل غير بكره الفجر؟”
ابتسم طارق، لكنه لم يجب… بل رفع عينيه نحو من يقف خلفها بصمت.
استدارت دلال بنظراتها، لتجده… موسى.
يبتسم… لا، يتباهى… يتباهى كمن فاز بخدعة لطيفة أثمرت فرحة عظيمة.
ثم
عادت إلى طارق، الذي قال بلطف:
“لما كنت بكلمه الصبح عشان أقوله اللي حصل، وإني مش هعرف أحضر الفرح، فجأة جه مسؤول وأبلغني إن العطل ماكانش كبير زي ما اتوقعوا، وإن الطيارة هتقلع بعد ساعات بسيطة… قلت أبلغك، لكن موسى رفض.”
رفعت حاجبيها بدهشة، فتابع:
“قاللي: ما تقولهاش، عندي فكرة… نبهرها بيها ونفرّح قلبها أكتر.”
سكت لثانية، كأنما يستمتع بردة فعلها، بينما عيناها تبحثان عن موسى الذي بدأ يصفّر في الهواء، يتظاهر بأنه غير معنيّ بأي شيء.
نظرت إليه أخيرًا، ثم قالت بنبرة تحمل الوعيد:
“قولي أعمل فيك إيه؟؟”
نظر موسى إليها بسرعة، ثم تظاهر بأنه لم يسمع شيئًا، وجعل وجهه نحو طارق:
“اطلع غيّر يا خالو، هتلاقي بدلتك في أول أوضة على اليمين، ونفس درجة لون فستان دلال بالظبط زي ما طلبت.”
استدار لمحسن، الذي اقترب في اللحظة ذاتها، فقال:
“معلش يا محسن، تعالى وصل خالو.”
أومأ محسن مبتسمًا:
“يلا يا كابتن.”
ومضى طارق خلفه، لكن دلال لم تزل مكانها، يشتعل في عينيها الغضب المغلف بالحب،
أما موسى… فاستدار نحوها مجددًا وابتسم بتلك السذاجة التي تعرفها منذ الطفولة وقال:
“تعالي ألفك تاني؟؟”
كانت تعلم أنه لا يُقاوم، وكان يعلم أن حبها له يمنعها من المقاومة
،
وفي عينيها اجتمعت كل مشاعر الشكر والعتاب والحب… لكن صوت ضحكتها، حين تحرر أخيرًا، قال كل شيء دون حاجة لكلمات.
_________________
بعد دقائق…
ترجل من على الدرج بخطى واثقة، مرتدياً بدلته السوداء الأنيقة، نفس تصميم بدلة سامي، لكن بتفصيلة واحدة ميّزته: لا ربطة عنق، بل دبوس فضي صغير عند العنق أضاف لمظهره هدوءًا ووقارًا يشبه شخصيته.
تجول بعينيه بين الوجوه والضحكات، يبحث عنها… حتى وجدها، كانت تقف بجوار المنصة، تصفق بمرح مع الفتيات، تبتسم بنعومة وسعادة، وعيناها تلمعان كأن داخلهما عيد.
اقترب منها بخطوات ثابتة حتى وقف بجوارها، وهمس بصوته الرخيم، كأنه موسيقى لا يسمعها سواها:
“اتأخرت؟”
رفعت رأسها، فوجدت وجهه… يبتسم لها، فابتسمت، ثم قالت ببساطة فيها حبّ ودفء:
“آه، بس أن تصل متأخراً… خيرٌ من ألا تصل أبداً.”
ضحك بخفوت، وفهم أنها تقصد حضوره المتأخر إلى القاعة… لكن ما يهم أنها تبتسم له الآن، وما يهم أكثر… أنه هنا.
نظر إليها بعمق، ثم قال:
“نسيت أقولك إنك طالعة زي القمر النهاردة.”
ابتسمت، وداخلها أزهرت وردة لا تراها إلا هي، وهو حين هبطت عيناه على حذائها، لاحظ شيئاً صغيراً… بسيطًا، لكنه لا يفوته:
“الهيلز مفكوك.”
نظرت إليه فورًا، وحين همّت أن تنحني لتربطه، كان هو قد سبقها، جثى على ركبته بخفة، وراح يحاول ربطه… لكن بدا أنه لا يتقن الأمر.
فقالت وهي تضحك بخجل:
“هاعمله أنا وخلاص، ياطارق.”
رفع رأسه وهو يرد بنبرة قاطعة:
“لأ.”
“ليه؟”
عاد يربط بهدوء، بينما يجيبها بنبرة صادقة تشبه قسم العاشق:
“علشان أنا عايز أربط جزمة مراتي… عندك مانع؟”
هزّت رأسها بدهشة ناعمة:
“أنا معنديش مانع، بس عايزة أعرف… ليه؟”
اعتدل واقفًا بعد أن أنهى عقدة الرباط، ونظر إليها من أعلى، يفيض في عينيه صدق، ثم أجابها بهدوءٍ عميق، يشبه رجلاً اختار قلبًا واحدًا ليرتاح فيه عمره كله:
“عايز أتعلم علشان أبقى زوج مثالي… عايز أساعدك في كل حاجة، في شغل البيت، في الطبخ، في الصيدلية كمان في أيام أجازتي… عايز أسرّحلك شعرك، وأربطلك جزمك بكل أنواعها… عايز أبقى شريك حقيقي في كل تفاصيلك، في الحاجات الصغيرة قبل الكبيرة… علشان أنتِ مش بس مهمة في حياتي… أنتِ حياتي نفسها.”
تأملت وجهه لثوانٍ، ثم احتضنت وجهه بكفيها، وقالت في صوتٍ مليء بالدفء:
“ما أنت كمان حياتي يا طارق… أنت كل كلّي.”
احمرّ وجهه خجلًا، لكنه لم ينزل عينيه، ظل ينظر إليها وكأنها صارت حلمًا تحقق، بينما تابعت هي كلامها بشغف، وهي تمسك برقبته، وتشبك يديها خلفها:
“أنا مبسوطة من اللي سمعته… لكن إيه اللي خلاك تقول كده دلوقتي؟”
مرر عينيه في القاعة، في وجوه الناس، في تفاصيل اللحظة، ثم عاد إلى عينيها:
“علشان بحبك… بحبك لدرجة إني عايز أشاركك أصغر حاجة في حياتك، حتى لو كانت رباط جزمة، وبما إني ماقدرش أكون معاكي طول الوقت بسبب شغلي، فعايز لما أكون موجود، أكون فعلًا موجود… أشاركك حتى التفاصيل الصغيرة، اللي تقولك كل يوم إني هنا، وإني مهتم.”
فهمست بخفة:
“زي ماربط الهيلز من شوية؟”
أومأ برأسه، وقال بمزاح رقيق:
“بالضبط… وأنا متأكد إنها أثرت فيكي، معايا حق؟”
“معاك كل الحق.”
ابتسم بنشوة رجل فاز بقلبها مرة أخرى:
“هعتبر دي تذكرة قبول إني أبقى معاكي في رحلتك… جنبك، وبشاركك كل شيء.”
هزّت رأسها برفق وهي ترفع سبابتها:
“خليني أصححلك حاجة… أولاً، دي رحلتنا مش رحلتي، وحياتنا مش حياتي بس… إحنا من يوم ما كتبنا الكتاب بقينا واحد، يعني كل حاجة من هنا ورايح تخصنا إحنا… مش واحد بس، اتفقنا؟”
تأملها في صمت، ثم قال بإعجابٍ عميق:
“اتفقنا… ومن لا يتفق مع وطن روحه؟… فروحي قد سكنت روحِك من زمان.”
ضمته من جديد، ثم همست بمشاكسة:
“وعلى كده بقى، مأمن لروحك عندي… مش خايف أسرقها منك؟”
ابتسم، وضغط على عناقها بقوة، وقال في أذنها:
“هتسرقيها إزاي وهي بقت ملكك خلاص؟… أنا سلمتها ليكي من زمان، ولو على الأمان، فأنا عمري ما حسيت بالأمان غير معاكي يا وطني الآمن… بحبك.”
ضحكت وهي تدفن وجهها في صدره، ووسط الضجيج، لم يكن هناك غير صمتهما… صمت لا يُكسر، لأنه ليس صمتًا، بل صوت قلبين نبضا على ذات النغمة
:
“وأنا كمان بحبك… بموت فيك.”
شدّ عناقه لها، وكأنما يخشى أن تفلت من بين يديه، بينما بادلت هي عناقه بنفس الشغف، متشبثة به كما لو أنه طوق نجاتها في بحر متلاطم.
بدا الاثنان كلوحة فنية نابضة بالحياة، خطوطها مشبعة بالمشاعر،ألوانها تنبض بالدفء والارتباط. .
في تلك اللحظة،لم يكونا مجرد شخصين،بل روحين اندمجتا في وحدة متناغمة.
هو الذي أصبح رفيق رحلتها، ويده التي تمسك بها في كل منعطف…. وهي التي تحولت إلى وطنه الآمن، حيث تستريح روحه المرهقة، وسكنه الذي لا يريد أن يغادره أبدًا.
_________________
على جهةٍ أخرى من القاعة…
وقف سامي يحمل الصغير على ذراعه، ذلك الصغير الذي لم يتوقف عن التصفيق بسعادة طفولية خالصة، عيناه تلمعان كأنه جزء من العرس… جزء من الفرح.
وبجانبه، وقفت ليلى، التي كانت تنظر إليه… إلى ملامحه الدافئة التي تتأمل المنصة بعينين لا تخفيان حبًا وألمًا معًا.
كانت نظراته معلّقة على شقيقته… وكأن شيئًا بداخله ما زال لم يستوعب أن اللحظة قد حدثت، وأنها هناك، بجوار زوجها، ولم تعد ملكه وحده.
رفعت ليلى يدها ببطء وربتت على كتفه بحنان، وقالت بصوتٍ خافت يشبه الهمس:
“حاساك عايز تخطفها وتمشي دلوقتي، مش كده؟”
ابتسم سامي ابتسامة باهتة، ونظر مجددًا نحو شقيقته، حدّق طويلًا كأن عينيه تلتقط منها آخر لحظة طفولة، ثم نظر إلى ليلى وهمس:
“آه… نفسي أعمل كده بجد، مش مصدق إن اللي كنت فرحان بيها امبارح… سلّمتها النهاردة بإيديا لعريسها، شعور حلو بس…”
توقّف، غصّة قطعته، وبدت عيناه على وشك الانكسار، فقالت ليلى، بلطف:
“عايز تعيط؟”
أدار وجهه نحوها، وابتسم بعين دامعة، ثم بلّل شفتيه وقال:
“بحاول ما أعيطش… بس مش قادر.”
وسقطت الدمعة رغمًا عنه، كأن القلب لم يعد يحتمل أكثر، لكن قبل أن تمدّ ليلى يدها لتواسيه، كان الصغير قد سبقها… مدّ يده الصغيرة، ومسح دمعة سامي بكفه البريء وهو يقول بصوته الطفولي العذب:
“بابا عيّط؟… لأ.”
نظر كلاهما إليه بدهشة ممزوجة بالعذوبة، ثم ضحك سامي، ضحكة فيها وجع وامتنان، وضم الصغير إليه بقوة وقال:
“حاضر يا سيدي، مش هعيط… هسمع كلامك.”
ضحكت ليلى بخفة على ردّه، لكن قلبها كان يرقص… من هذا الحنان الغامر الذي يملأ ملامحه.
وبينما كانت تضحك، التفت إليها هو، وتأمل ملامحها… ضحكتها التي تسرّب منها الفرح بصوت ناعم، شعرها الذي تمايل برقة، وعينيها التي تلتمعان ببريق صادق.
وحين خفتت ضحكتها، نظر إليها بشجنٍ هادئ، وهمس بصوت يخرج من عمق روحه:
“ازهري أكثر… فكلما أزهرتِ، تفتّحت لي الحياة بحبها… وجمالها.”
ابتسمت على كلماته اللطيفة، تلك التي نثرت دفئها داخلها كما تفعل أشعة الشمس حين تداعب صفحة الماء في الصباح الباكر.
نظرت إليه بعينين تلمعان بحنوّ، ثم قالت بنبرة رقيقة، يختلط فيها الود والاهتمام:
“وأنت كمان… اضحك، ضحكتك دي لازم ما تروحش عن وشك… خصوصًا في يوم زي ده.”
توقفت للحظة تراقب ملامحه، كأنها ترجوه دون كلمات ألا يسمح لأي شيئ أن يسرق منه فرحة الحاضر؛ فابتسم هو، بتلك الابتسامة التي تُشبهه… هادئة، نقية، لا تتصنع.
نظر إلى عينيها طويلًا، ثم تنهد قائلاً:
“طالما أنتِ جنبي… الضحكة عمرها ما هتغيب.”
لم ترد… فقط نظرت إليه نظرة طويلة، كأنها تخبّئها في قلبها، تحفظها في صندوقٍ من حرير.
تبادلا النظرات طويلاً، وكأن العالم اختصر في تلك اللحظة بين عينيهما، وعلى ثغريهما ارتسمت ابتسامات دافئة، لا تطلب شرحًا ولا تحتاج إلى كلمات.
لكن تلك اللحظة الهادئة لم تدم طويلًا، إذ شعر سامي باقتراب أحدهم. التفت ليجد صديقه محسن يقترب بخطى هادئة وبابتسامة يعرفها جيدًا، وقال:
“يلا؟”
أومأ له سامي دون تردد وهو يردد بهدوء:
“يلا.”
ثم التفت إلى ليلى، وحدّق فيها لثانية إضافية، وكأن عينيه تهمسان لها بشيء خفيّ، ثم ناولها الصغير برفق وهو يقول بصوت منخفض:
“مش هتأخر.”
أومأت له ليلى برأسها بصمت، ابتسامة هادئة لا تزال تلازم وجهها، بينما غادر هو برفقة محسن، بخطاه الثابتة المعتادة، بينما رافقته هي بنظراتها الشغوفة.
ولم تمر سوى دقائق على مغادرته، وكانت لاتزال القاعة في قلب الاحتفال النابض بالفرح والضجيج…
لكن فجأة… سكن.
خمدت الموسيقى، وانطفأت أضواء القاعة بأكملها، لتغرق في ظلام مفاجئ كأنها تشهق قبل لحظة ميلاد جديدة. تعالت همهمات خفيفة بين المدعوين، تعبيرات متباينة من الدهشة والتساؤل، أعين تتلاقى في حيرة، وأيادٍ توقفت في الهواء لا تعرف إن كانت ستصفق أم تتراجع.
ثم…
بدأ ضوء خافت، دافئ، يتسلل من زاوية بعيدة، يشق الظلام رويدًا كخيط فجرٍ يتسلل بين ستائر الليل… الضوء يأتي من جهة الباب الرئيسي للقاعة، ومعه همسة موسيقى شرقية عتيقة، تبدأ في التصاعد ببطء، كأنها تهمس للعالم أن يستعد لما هو قادم.
وفجأة…
فُتح الباب، واندفع منه الشباب جميعًا، في مشهد خُطط له بحبّ، لا مبالغة فيه ولا زينة مفرطة، بل رهبة وبهجة خالصة. موسى، طارق، سامي، كارم، حسن، حسين، محسن، أبناء عمومة موسى، ورؤوف زوج ابنة عمه… اثنا عشر رجلاً في صفين متوازيين.
كلهم ارتدوا عباءات سوداء أو بيضاء أنيقة، فتبدّوا كالرجال في أبهى صورهم، بعضهم يحمل عصيًّا مزيّنة برؤوس فضية، والبعض يصفق بخفة وانسجام مع إيقاع الموسيقى، خطواتهم بطيئة، واثقة، كأنهم يؤدون طقسًا مقدسًا… طقس الحب، والرجولة، والاحتفال.
أعين الجميع تشخص إليهم…
النساء يبتسمن بدهشة، الفتيات يتهامسن بإعجاب، والرجال يتابعون بوقار.
كلّ شيء كان محسوبًا… متقنًا، كأنهم خرجوا للتوّ من ملحمة تراثية، يحملون على أكتافهم بهجة لا تُنسى.
وكان هو _موسى_ في مقدمتهم، يتقدّم بخطى ثابتة، يحمل في عينيه تلك النظرة الواثقة، المليئة بالحب، النظرة التي لم تخطئها فيروز، التي كانت في تلك اللحظة في ذروة سعادتها واندهاشها، تتأمل المشهد كما لو كان حلماً يُنسج أمام عينيها، حلماً لا يُشبه غيره.
في الخلف، كان طارق يتبادل النظرات مع دلال، نظرات خفيّة لا يسمعها أحد لكنّها تحكي فصولاً من الحب والشوق، بينما سامي أطلق غمزة خفيفة إلى ليلى التي بادلت الغمزة بابتسامة غير متوقعة، أما كارم، كعادته، لم يفوّت اللحظة، فأطلق غمزة مشاكسة لوجه يعرفه جيداً، وجه ميرنا جعلتها تبتسم وتخفض نظراتها بخجل.
أما محسن، فمال برأسه إلى شقيقه حسن، وهمس له بنبرة فيها من الفخر والفرحة ما يكفي لإشعال ليلتين:
“الفرح ابتدى بجد.”
وهنا _كأنّها إشارة البداية_ دوّت الزغرودة الأولى، أطلقتها دلال بحماسٍ نابع من القلب، زغرودة اخترقت المكان، فاشتعلت القاعة على الفور، وضجّت بالتصفيق والصفير والضحك.
ومع تقدم الشباب نحو المنصة بخطواتهم الإيقاعية، اتسعت الدائرة لتشمل الكبار أيضاً، حيث وقف داود وبجانبه الرجال الكبار من العائلة، تقدّموا جميعاً لاستقبال موكب الرجولة والفرح، بعضهم رقص ببساطة وروح شبابية مثل داود ومحمود، يداهما مرفوعتان في الهواء، يتحركان بخفة كأنّهما لم يثقل كاهلهما الزمن، والآخرون اكتفوا بالتصفيق، أو بتحريك أذرعهم في الهواء، يشاركون بروحهم.
ظلّت الأجواء مشتعلة أكثر فأكثر، الطبول تدقّ في القلوب قبل الآذان، وصفوف الشباب تهتز على إيقاع الفرح، حتى إذا انتهت الأغنية وتوقفت الأنغام لحظة استعداد للأغنية التالية… فُوجئ الجميع بمشهدٍ لم يكن في الحسبان.
توقف الشباب فجأة، كأنّ صوتًا خفيًّا أمرهم بالتجمّد، ووقعت الأبصار على رجلٍ يترك مكانه بين الصفوف… محمد.
اقترب بخطاه المتزنة، بهيبته وسكونه، لم يلتفت لأحد، بل توجه مباشرة نحو موسى، الذي التفت نحوه بدهشة، وهو يقول بحماس متداخل بالاحترام:
“جدي…”
وفي الجانب الآخر، مال مصطفى على كتف شقيقه أحمد وهمس بإعجاب خافت:
“أبوك أول مرة يطلع على المسرح… دي ماعملهاش مع حد فينا.”
ابتسم أحمد بنظرة لا تخلو من الامتنان ثم قال:
“واضح إن موسى… حبيب جده.”
وعند موسى… كان محمد قد اقترب كفاية ليقف أمامه تمامًا، تطل من عينيه نظرات فخرٍ لا تحتمل التأويل، تلك النظرات التي لا يمنحها إلا الجد لحفيده حين يراه رجلاً، رجلاً على مقاس قلبه.
مد له محمد يده، يناوله عكازه العتيق، ذاك الذي لم يفارقه يومًا، وقال بصوته الرصين المليء بالهيبة:
“خد… ارقص بيه.”
نظر موسى إلى العكاز في ذهول، يداه لم تتحركا بعد، فتمتم في حيرة:
“بس…!”
قاطعه محمد بنبرة ثابتة حاسمة، لكن دافئة:
“خُده… أنا ليه فاكر يوم فرح سامي، لما كارم طلب العكاز علشان، وكنت رافض… وقتها ماكنتش شايف إنك تستاهل يشيله، ماكنتش واثق فيك… لكن النهاردة، أنا بديهولك.”
توقف لبرهة، ثم أكمل بنبرة غلبت عليها العاطفة رغم صلابتها:
“علشان أنا فخور بيك… فخور إنك حفيدي.”
لمعت عينا موسى بتأثرٍ لا حاجة له بأن يُخفيه، فهذه لحظة لا تستحق التجمُّل، لحظة انتظرها قلبه قبل أن يتوقّعها، لحظة الاعتراف الخالص من أكثر من أحبّهم وهابه.
انحنى في انسيابٍ نحو يد جده، وطبع قبلة طويلة عليها، قبلة ملأت فراغات بين الجد والحفيد، وأطفأت ظمأ السنين في قلب ذلك الشاب الذي ظلّ يسعى ليكون على قدر اسمه في العائلة.
ابتسم محمد وربت على كتف حفيده برفق، رِفقٍ لا يُجيده إلا من خبِر الدنيا، ثم ما إن استقام موسى في وقفته حتى أشار له
جده
بعينيه نحو العكاز، تلك الإشارة الصامتة، التي لم تكن مجرّد أمر، بل وصيّة محبة ووسام فخر.
فهم موسى دون كلمة، التقط العكاز وكأنه يحمل تاريخ العائلة كله، ثم رفع رأسه ونظر إلى جده نظرة ممتنّة، صادقة، فيها من الحبّ ما لا تستطيع اللغة حمله، وفيها من الاعتزاز ما يكفي أن يُخلّد في صورة.
لم يتمالك نفسه أكثر، ففتح ذراعيه وعانق
محمد
، عناقًا احتضن كل ما بينهما من صمت وفخر ووداد، وضمّ
محمد
حفيده إلى صدره، يُربّت على ظهره بحنان جليل، قبل أن يهمس في أذنه بكلماته الأثمن:
“ألف مبروك يا حبيب جدك.”
ترددت الكلمة في أذن موسى كأنها نشيد… نشيد رجل أصبح، أخيرًا، رجلاً يُشار إليه بكل الفخر.
لحظة خالدة…
لم تكن مجرّد مشهد عابر في زفاف، بل نقشة عميقة في ذاكرة العائلة، لحظة تشهد أن الفخر لا يُصطنع، وأن الرجولة حين تكتمل تُورث، وأن الدموع حين تتقاطع مع الكبرياء… تُنجب المجد.
وقف
محمد
هناك، بعينيه التي لمعت بأثر الموقف، ثم استدار على البقية، صوته يحمل نبرة القائد القديم الذي لا يزال النبض ينبض فيه، وقال بثقة وهو يشير لهم:
“يلا كملوا… مستنين إيه؟”
كأن صوته كان شارة البدء من جديد…
فورًا، انطلقت الموسيقى في الأرجاء، وارتفعت طبول الفرح كأنها تدق في قلب كل حاضر… وكان أول من صفق… هو
محمد
،
نعم، بيده التي شاخت من حمل الأجيال، عاد ليصفق لهم اليوم، ليبارك بيديه تلك السعادة التي نضجت أمامه.
وكأن تصفيقه هو الضوء الأخضر للجميع، اشتعلت الأجواء من جديد، ولكن هذه المرة… اشتعلت بصدقٍ أشد، وبهجة أعمق.
الشباب يتراقصون كأنهم يُحملون الفرح على أكتافهم، والفتيات حولهم يزغردن ويصفقن، الأمهات والعجائز والجدات، الكل… الكل يشارك.
وفي قلب الزحام والفرح…
كانت فيروز، بفستانها الأبيض، تقف هناك، لا ترى في الزحام إلا
موسى
… تراقبه بعين العاشقة التي تعرف تفاصيله، تحدّق فيه وهو يرقص بخفةٍ، بنشوةِ رجلٍ فخور، بنبرة خطوة تشبه نبض قلبها.
وفجأة…
رفعه أصدقاؤه على أكتافهم، صار في الأعلى، والجميع من حوله يضحك ويهتف ويغني، أما هو… فقد فتح ذراعيه كأنه طائر حُرّ، يحلّق في سماء الحب والفرح والمجد.
كان يعلو والجميع يصيح، وفيروز تنظر له بعينين دامعتين… فرحًا، كأنها تراه طفلًا لم يكبر، وكأنها تراه رجلًا لا يُقهر، وكأنها تراه وطنًا… وطنها الذي تحتمي فيه وتفرح له وتعيش لأجله.
مشهد لا يُنسى…
بل مشهد يُروى… كلما اشتاقت العائلة لذكرى تُشبه المعجزة.
_________________
مع مرور الوقت، انقضى حفل الزفاف وهدأت الضوضاء من حولهم، لكن لم تهدأ مشاعرهم، ولم تنتهِ ليلتهم بعد… بل كانت لتوّها تبدأ، تبدأ على طريقتهم… حيث لا جمهور، لا زغاريد، لا موسيقى صاخبة، فقط هم… وحلم طال انتظاره.
كانا يقفان أمام باب شقتهما الجديدة… شقة العمر.
هو يقف خلفها، يضع كفيه برقة على عينيها، كأنما يريد أن يؤجل لحظة الرؤية، ليصنع لها مشهداً لا يُنسى، وكأنّ المفاجآت في هذا اليوم لا يكفيها الزمن.
سألت بصوت يحمل من الطفولة قدرًا، ومن الحماسة أكثر:
“لسه موصلناش؟”
رد بخفة، لكن صوته يحمل نبرة محب يعرف لذّة التفاصيل:
“وصلنا، هشيل إيدي من على عينيك، وإياكي تفتحيهم قبل ما أقولك… اتفقنا؟”
“اتفقنا.”
رفَع كفيه عن عينيها، بينما هي تبقّت عينيها مغمضتين، كما وعدت، ثم تحرك هو بخفة نحو الباب، ولم يفتحه بمفتاح تقليدي، بل ببصمة إصبعه، كأنما يفتح لها بوابة الحلم التي طالما تخيّلها في خيالات الليل الطويلة.
وما إن فُتح الباب، حتى استدار نحوها، وابتسامته تغمرها بحنانه، ثم قال بنبرة مُحب مزّجت بين الجد والدعابة:
“يلا برجلك اليمين يا عروسة… وخليكي قافلة عنيكي.”
ابتسمت بخجل وامتنان، تقدمت بخطوةٍ واثقة من قلبها قبل قدميها، دخلت… تبعها هو، ثم أشعل الأنوار.
وقبل أن تنطق، وقف أمامها… فتح ذراعيه كأنما يحتضن بها كل العالم، وقال بصوته الذي يضمها:
“افتحي… يلا.”
فتحت عينيها ببطء، كأنها تخشى أن تستيقظ من حلم جميل… رمشت مرتين، ثبتت نظرها عليه للحظة، تتأمل ملامحه أولاً، وكأنها تتأكد أن كل هذا واقع لا خيال، ثم حركت رأسها ببطء في أرجاء الشقة، عيناها تتنقلان بين الجدران، الألوان، التفاصيل الصغيرة… الأثاث، الإضاءة، كل شيء بدا مألوفًا وغريبًا في آنٍ واحد.
لم تصدق أنها نفس الشقة التي رأتها قبل أشهر قليلة… لا لون الجدران بقي، ولا ترتيب المساحات، ولا حتى النوافذ شعرت بها كما كانت… وكأن الشقة وُلدت من جديد.
تذكّرت أنه منعها من القدوم منذ اللحظة التي بدأ فيها تجهيزها، كان يتهرّب كلما طلبت أن تراها، يتحجج تارة ويغلق الموضوع تارةً أخرى، فقط لأجل هذه اللحظة… أن تتفاجأ، أن ينبض قلبها من الدهشة، أن تعيش لحظة الانبهار، بكل تفاصيلها.
استدارت إليه أخيرًا، وعيناها لا تزالان تجولان بينه وبين المكان، وسألته بذهول يشبه همس الأطفال حين يرون شيئًا سحريًّا لأول مرة:
“أنت عملت إيه في الشقة؟! دي ولا كأني دخلت واحدة غيرها!”
ابتسم بثقة هادئة، تلك التي يملكها من يخطط بإخلاص، ويحب بعمق، ثم قال بفخر لا يخلو من الدلال:
“جوزك مش أي حد… واللي إنتِ شايفاه ده؟ ده جزء بسيط من اللي مستنيك.”
رفعت حاجبيها بدهشة خافتة وسألت:
“هو في لسه كمان؟!”
ضحك وهو يهز رأسه مؤكدًا:
“أُمال!”
اقترب منها، سحب يدها برفق، كأنما يقودها في رقصة هادئة نحو مفاجأة جديدة، وقال بصوته الذي بات يشبه وطنًا:
“تعالي معايا…”
وخطت معه خطواتٍ هادئة، متعلقة بذراعه كمن يسير على حافة حلم، حتى وصلا إلى غرفة المعيشة… المساحة كانت تبث دفئًا من نوع خاص، الألوان منسجمة كأنها لحن بصري، الأثاث مُختار بعناية لا تغفل الراحة ولا الجمال، والضوء يتسلل بهدوء فوق كل شيء.
ترك يدها بهدوء، وابتعد عنها خطوات، ثم عاد وفي يده “ريموت” صغير الحجم، لكن غريب التصميم، مليء بالأزرار الصغيرة المتراصة.
مدّه نحوها وقال بابتسامة صغيرة، كأنما يوشك أن يبهرك بعرضٍ مسرحي:
“ركزي معايا…”
ثم ضغط على أول زر.
فجأة، انطفأت أنوار الشقة بالكامل، فابتلعت العتمة تفاصيل المكان، وارتفع حاجباها بدهشة طفولية، قبل أن يضغط الزر الثاني… فاشتعلت الأنوار من جديد، تمامًا كما كانت.
ابتسم، وضغط على زر ثالث…
فانغلقت الستائر الثقيلة برقة، كما لو كانت تُسدل على نهاية فصل مسرحي.
ثم ضغط رابعاً، فصدر صوت خافت لباب الشقة وهو يُفتح تلقائيًا، فضحكت بدهشة ممزوجة بإعجاب.
ضغط الخامس… فعمل المكيف وانطلقت نسمة باردة في الأجواء.
كان في كل مرة ينظر إليها، لا إلى الأزرار، وكأنه ينتظر منها رد الفعل أكثر من النتيجة، وكانت عيناها الواسعتان تتنقلان بين يده والمكان… وكل مرة، كانت الدهشة على ملامحها تزداد.
لكنه لم يتوقف، بل اقترب منها خطوة وأكمل بفخر:
“ولسه، الريموت ده بيتحكم في كل الأجهزة الكهربائية هنا، سواء تكييف، تلفزيون، مروحة… كأنك شايلة بيتك كله في إيدك… كمان أنا مركب كاميرتين، واحدة عند باب الشقة من بره، والتانية على باب الأوضة… الاتنين متوصلين بالريموت ده و تليفوناتنا، تقدروا تشوفوا أي حد بييجي أو يخرج في أي وقت، وباب الشقة بيشتغل بالبصمة… يعني الأمان، والراحة والخصوصية.. وكل حاجة.”
ظلت تنظر إليه في صمت، تنظر إليه، إلى الجهد، إلى الفكرة، إلى الحُب الكامن في كل زر، في كل تفصيلة فكر فيها، ولم يخبرها بها إلا في اللحظة المناسبة.
رمشت بعينيها عدة مرات كأنها تحاول استيعاب ما رأت للتو، ثم تمتمت بدهشة عفوية:
“أنت عملت كل ده… إزاي؟”
ضحك بخفة ثم قال بثقة مازحة:
“قلتلك، جوزك مش أي حد.”
ورغم محاولتها للتماسك، كانت الدهشة تفيض من عينيها، تتنقل بين تفاصيل المكان وبين وجهه، كأنها تعيش حلمًا تخاف أن تستفيق منه.
لكنها لم تحظَ بوقت كافٍ لالتقاط أنفاسها، إذ ألقى “الريموت” على الأريكة بخفة، ثم أمسك يدها مجددًا وقال بحماس طفولي:
“لسه فاضل مفاجأة.”
اقتادها إلى باب صغير مغلق في أحد أركان الشقة، لم تكن قد لاحظته من قبل، وكأنه وضع هنا حديثاً.
وضع يده على المقبض وفتحه ببطء، كما لو كان يزيح الستار عن مشهد مسرحي جديد، مشهد كتبه وحده لأجلها فقط.
ولج بها إلى الداخل…
كانت الغرفة صغيرة جدًا، بحجم ركن منسي أو مساحة تكاد لا تكفي لأكثر من شخصين، لكنها لم تكن عادية… كان هناك مكتب خشبي صغير، بسيط لكن أنيق، وُضع عليه مصحفان مزيّنان بعناية، بجانبهما أعواد مسك ومبخرة صغيرة، تنبعث منها رائحة دافئة تملأ الأجواء بطمأنينة خفية.
وفي زاوية أخرى، وُضعت زهرية تضم ورودًا بيضاء طبيعية، لا يخفى عليها الاهتمام الذي بُذل في ترتيبها، كأن كل وردة فيها وُضعت بقلب.
لكن المفاجأة الأكبر… كانت فوقها.
رفعت بصرها دون وعي، فتفاجأت بسقف زجاجي شفاف… يظهر من خلاله الليل، بكل هدوئه وسحره. قمرٌ مكتمل ينسكب ضوءه على وجهها، والنجوم تتناثر فوق السقف كأنها تهنئها هي وحدها.
شهقت بصوت خافت، ووضعت يدها على صدرها دون أن تشعر، كأن قلبها ضاق بكل هذا الجمال ولم يعد قادرًا على استيعابه.
همست دون أن ترفع عينيها عن السماء:
“ده… ده حقيقي؟”
اقترب منها أكثر، مال نحو أذنها وهمس بصوت خفيض يقطر دفئًا وصدقًا:
“حقيقي… ده ركننا، نصلي، وندعي، ونقرا قرآن، ونتأمل السما والنجوم، ونشوف المطر وهو بينزل علينا.. بس مش هيلمسنا… ايه رأيك؟”
كان صوته كالدعاء، وكلامه كالوعد…
نقلت عينيها في أرجاء الغرفة، كأنها تحاول تثبيت لحظة لن تتكرر… بين زهور بيضاء، ورائحة مسك تعبق بالروح، وسقف مفتوح على السماء نفسها.
“رأيي؟”
ردّت وعيناها تتحرك ببطء في كل ركن، كل تفصيلة، ثم نظرت إليه، بثبات هذه المرة، كأنها تراه للمرة الأولى رغم كل ما كان.
وقفت أمامه، بثبات قلب ممتن، ثم قالت بصوت خافت لكنه مفعم باليقين:
“أنا… مش عارفة أنبهر بإيه ولا بإيه… بس الشئ الأكيد، إني مبهورة بيك… بيك إنت.”
ابتسم، ولم يقل شيئًا…
فقط أنزل رأسه قليلًا وهو يغلق عينيه، كأن كلماتها وقعت على قلبه لا أذنه، كأنها كانت الدعاء الذي انتظره طويلًا… فاستُجيب.
اقتربت منه، وعيناها لا تزال تحملان آثار الانبهار والامتنان والحب… ثم دون كلمة، مدت ذراعيها نحوه وعانقته… عانقته بقوة من يعرف أنه وجد وطنه، فبادلها العناق بصدر مفتوح وقلب ممتلئ، ضمها إليه كأنها قطعة من روحه عادت لمكانها.
ثم… دون أن يفكر، رفعها عن الأرض بذراعيه، كأنها لا تزن شيئًا سوى فرحته، ودار بها في أرجاء الغرفة الصغيرة، كأنهما يرقصان بلا موسيقى، فالمشاعر كانت كافية لتملأ المكان بكل نغمة ممكنة.
ضحكت بخفة وهي تدور بين ذراعيه، وتعلّقت به أكثر، أما هو فكان ينظر إليها كما ينظر العاشق لأول حلم تحقق… حلم يُحمل بين الذراعين، وتدور به الأرض، ولا يريد أن يتوقف.
أنزلها بهدوء وكأنها شيء ثمين يخشى عليه من أقلّ اصطدام، ثم بقي لحظة يحدق في ملامحها كأنما يحاول أن يحفظها في ذاكرته للأبد.
كانت نظراته عميقة، مشحونة بالمحبة والدهشة، ثم فجأة ارتفع حاجباه قليلًا وكأنه تذكّر شيئًا، وقال بنبرة تجمع بين الحماسة والمرح:
“ثانية واحدة… هعمل حاجة وأرجعلك.”
ولم ينتظر ردّها… استدار وغادر الغرفة بخطى خفيفة سريعة نحو الباب الخارجي، وعيناه تبحثان عن شيء محدد.
وصل إلى منضدة صغيرة قريبة من الباب، فتح أحد أدراجها، أخرج ورقة مطوية بعناية وكأنه أعدّها مسبقًا لهذا التوقيت تحديدًا.
علقها على الباب من الخارج، نظر إليها لثوانٍ وهو يبتسم، ثم التفت إلى الداخل، غمز لها وقال بصوتٍ مشاغب:
“كده كله تمام.”
أغلق الباب خلفه… لتظهر تلك الجملة المكتوبة بخط يده على الورقة:
“أوعى تخبّط إلا تتظبط”
ويجاورها
إيموجي سكينة
و
غمزة
.
كانت الجملة تحمل في ظاهرها دعابة، لكن في معناها العميق كانت وعدًا صادقًا… وعد قطعه لصديقه ذات يوم وهو يضحك، لكنه عاد ليحققه بصدق… كما حقق حلمه القديم، وأمله الذي تمسّك به، رغم كل شيء.
كانت فيروز…
حلمه الأول، وحبّه الأخير، وكان هذا البيت… بدايتهما الحقيقية.
_________________
بعد شهر…
خرج من غرفته بخطوات متسارعة، يحاول عبثًا أن يسيطر على ربطة عنقه التي استعصت عليه كأنها تتمرد هي الأخرى على مزاجه الصباحي المتقلب.
وراءه، كانت تسير بخفة وهي تحمل حقيبته، تحاول اللحاق به بخطواتها الصغيرة مقارنة بغضبه المتسارع.
توقف فجأة واستدار نحوها، وعلى وجهه تعبير يراوح بين الامتعاض والتعب، وهو يعبث بعناده مع تلك الربطة، ثم تمتم بامتعاضٍ واضح:
“بقول للأستاذ إن شهر العسل خلص بقاله ٣ أيام، يرد عليا بمنتهى الثقة: هو علشان اسمه شهر عسل يبقى لازم يكون تلاتين يوم؟!”
كادت أن تضحك، لكنها كتمت ضحكتها بين شفتيها، واقتربت منه لتتولى بنفسها مهمة تهدئة تلك الربطة العنيدة، وربما تهدئته هو أيضًا.
وهو لا يزال غارقًا في شكواه، تابع بصوت متهكم:
“لا وخدي الكبيرة بقا… لما كلمت فيروز بقولها: عاجبك اللي بيقوله جوزك؟ لقيتها بمنتهى البرود بتقولي: جوزي مابيقولش حاجة غلط… قوليلي أعمل في الاتنين دول إيه؟ أسافر أجيبهم من شعرهم؟ المشكلة مش عارف هما فين أصلاً! كل يومين في بلد شكل! دول عيالة تعبانة في دماغها!”
أنهت ربط العنق بإتقان ومررت يدها على كتفه كأنها تمسح بعضًا من انفعاله، ثم قالت بنبرة هادئة ومتصالحة:
“اهدأ شوية… دول لسه عرسان جداد.”
رفع حاجبه بنفاد صبر، وقال:
“ده بقالهم أكتر من شهر متجوزين!”
ضحكت برقة وقالت:
“بس لسه برضه… عرسان جداد.”
انحنى ليلتقط حقيبته، ثم رفع رأسه وهو يتنهد:
“مش عارف هيفضلوا عرسان جداد لحد إمتى؟!”
ابتسمت وربتت على ذراعه مرة أخرى:
“سيبهم يعيشوا لحظتهم… مسيرهم يرجعوا، مش هيفضلوا على جناحات العسل دي على طول.”
هز رأسه وقال بنصف ضحكة:
“يفضلوا؟! والله يفضلوا… دول مجانين بقولك!… صدق اللي قال: حلة ولقت غطاها.”
ضحكت هذه المرة بصوت مسموع، ثم حاولت أن تخفي ضحكتها بكفها كي لا تزيد من تهكمه، لكنه ابتسم بدوره وقال بنبرة خفيفة لكن دافئة:
“اضحكي براحتك… اضحكي.”
ضحكت بنعومة، حتى انتهت؛ فيتأملها للحظات ثم مال عليها وقبّل جبينها بلطف، وهمس:
“عايزة حاجة أجبها وإنا راجع؟”
“لأ، لو احتجت حاجة هكلمك”
“ماشي، بس ماتنساش تبوسلي يزيد لما يصحى… وخليه يكلمني.”
هزت رأسه موافقًا،مع ابتسامة دافئة:
“حاضر.”
تحرك نحو الباب، ولوّحت له بيدها:
“يلا مع السلامة.”
“مع السلامة، وخلي بالكم من نفسكم.”
ثم خرج، وبقيت هي تراقب الباب لحظات… تبتسم، وقد اختلطت في داخلها سخرية ناعمة من غضبه، وامتنان خفي لكل ما في هذا البيت من دفء… وحتى شتاتُه الصباحي كان جميلًا.
ترجّل سامي من على الدرج بخطوات متسارعة تقترب من الركض، يكاد جسده يسبق عقله، ممسكًا بهاتفه على أذنه، وصوته يتقطع من اللهاث والانفعال:
“أيوه يا محسن… أنت طلعت؟”
جاءه صوت محسن من الطرف الآخر، ممزوجًا بأصوات حركة ووقع خطوات:
“لسه… خارج اهو من البيت.”
تنفّس سامي الصعداء وقال بسرعة:
“طب حلو، تعالى عدي عليا خدني معاك على المكنة، لحسن أتأخر على الشغل، أنا بقالي ساعة بكلم كارم علشان أروح معاه بس تليفونه مقفول، مش فاهم هو فين!”
ساد لحظة صمت قصيرة من الجهة الأخرى، ثم قال محسن بنبرة شبه عادية لكن تحمل ما يشبه التلميح:
“كارم مش هنا أصلًا.”
توقف سامي فجأة عند مدخل البيت، وكأن قدميه تجمدتا، عبس حاجباه بانتباه، ورد بنبرة مشوشة:
“مش هنا؟ ليه راح فين؟”
رد محسن ببساطة وهو يصعد على دراجته النارية، كأن الأمر لا يحتاج إلى تمهيد:
“نزل البلد… عند عمته.”
“ليه؟ ايه المناسبة؟.. وليه ما قالناش؟ كنا نروح معاه آخر الأسبوع بدل ما يروح لوحده كده.”
جاءه الرد، هذه المرة بحذر أخف:
“ما هو… مارحش لوحده.”
توسعت عينا سامي فجأة، وحدّق أمامه لا يرى شيئًا سوى الصورة التي بدأت تتكون في رأسه، وتمتم ببطء مذهول:
“ليكون… هيعملها؟”
ابتسم محسن، وجاءه صوته مشبع باليقين ومذاق الأسرار المنكشفة:
“هيعملها.”
ظل سامي للحظة واقفًا مكانه، وعيناه مليئتان بالدهشة والضحك الصامت، وكأن جزءًا منه لم يصدق، والآخر كان يعرف منذ البداية أنها مسألة وقت.
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.