رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السادس والأربعون
الفصل السادس والأربعون(لحظة عجز)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخواتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
–
كنتُ القاسيَ لا قلبَ يلينُ… حتى هواكِ فأذعنَ الحنينُ
.
”
نزار قباني
”
_____________
امتدت الأرض أمامهما، خضراء مترامية، تحت سماءٍ صافيةٍ تتراقص فيها الغيوم على استحياء، النسيم يهمس بين الأشجار، يمر برفق كمن يخشى إزعاج سكون اللحظة، بينما كانت خطواتهما بطيئة، هادئة، كأنهما يسيران داخل حلم لا يريدان أن ينتهي.
دخلا معًا إلى الاسطبل، هو بجانبها، لا يسبقها بخطوة، ولا يتأخر… يشرح، يشير، يرافقها، وكأن الخيول التي يراها دائماً تكتسب اليوم روحًا جديدة بمجرد أن انعكست في عينيها.
توقف عند العتبة، نظر إليها وابتسم، ثم قال وهو يشير إلى الجانبين:
“وده هو الاسطبل… يا قمر.”
لم يحتج لوصف أكثر… وحدها تلك الجملة كانت كفيلة بأن تجعل عينيها تلمعان، نظرت حولها بانبهار طفل يدخل عالَمًا سحريًا.
لم تُخفِ فرحتها، ولم يُخفِ هو ابتسامته؛ تلك التي بدأت صغيرة، ثم اتسعت وهو يراها تتحرك بخفة بين الخيول، تتأملها كأنها تُنصت لحديثٍ لا يُقال.
توقفت عند مجموعة من الخيول، التفتت إليه بعينين دافئتين وسؤالٍ ناعم:
“ليه دول لوحدهم؟”
اقترب منها كارم، ووقف بجانبها تمامًا، على مسافة لا تلامسها، لكنها تحيط بها بالطمأنينة، وقال بصوت منخفض يشبه وقع خطى الخيول:
“دول خيولي أنا وصحابي.”
أشار نحو أول حصان، لونه أسود قاتم، يقف بشموخ وسكون كأنه قطعة من الليل: “الأسود ده حصان موسى… واسمه فَجر.”
نظرت إليه بانتباه، ثم تبعت إصبعه نحو الحصان التالي، كان بنيًّا مائلًا إلى الحمرة، بجبهةٍ تتوسطها علامة بيضاء أشبه بنجمة صغيرة:
“والبني ده… حصان سامي، واسمه تاج.”
أشار إلى الحصان الثالث، لونه يتدرج بين الأبيض والرمادي، يمتزج في معطفه الضوء والظلال، وشعره الرمادي يتماوج بخفة وكأنه بحرٌ صغير يتمرد على السكون.
ثم قال بصوتٍ هادئ:
“ده حصان حسن… اسمه سابح.”
قطبت حاجبيها قليلاً، ثم نظرت إليه وكأن وقع الكلمة غريب عليها، وقالت بنبرة فيها رقة حقيقية وفضول بريء:
“سابح؟… معناه إيه؟”
ابتسم كارم، ثم قال وهو يرفع كتفيه بخفةٍ:
“معرفش… حسن مُعلّم لغة عربية، تقريبًا مافيش غيره يعرف معناه… علشان كلنا ساقطين عربي.”
ضحكت… ضحكة خفيفة ناعمة، خرجت من بين شفتيها كنسمة هاربة من بين أوراق الشجر، لا تُفتعل ولا تُقصد، بل تأتي حين ترتخي الروح وتطمئن.
ضحكة لا تملأ المكان بصوتها، بل تملأ القلب بسكونها، وكعادتها… سرقت قلبه، هو لا يعرف كيف تفعل ذلك، ولا متى، لكنه يعرف أنها تفعل، في كل مرة، بنفس القدر، وربما أكثر.
شرد فيها لثوانٍ…
نسِي الخيول، ونسِي الأسماء، ونسِي كل ما حوله إلا ملامحها حين تضحك… تلك اللحظة التي لا يسبقها شيء ولا يليها شيء.
قطع شروده صوتها وهي تشير على الحصان الرابع، لونه بني يميل إلى الشوكولاتة، تتخلله لطخات بيضاء كأن أحدهم رَشَّ عليه الحليب بعفوية:
“وده حصان مين؟”
رمش بعينيه ليعود إلى اللحظة، ثم قال وهو يمرر يده في شعره كأنما يعاقب نفسه على التيه:
“إيه؟ آه… ده حصان حسين، واسمه برقوق.”
نظرت إليه بدهشة خفيفة، وكررت:
“برقوق؟!”
ابتسم بخبث بسيط، وهز رأسه وهو يقول:
“آه، على الأقل أحسن من الاسم الأولاني اللي فضلنا فترة بنتحايل عليه يغيره.”
رفعت حاجبها بفضول متزايد، وسألته وهي تكتم ضحكة تتشكل:
“وايه الاسم الأولاني؟”
ابتسم كارم ابتسامة واسعة، ثم قال بنبرة أقرب للهمس لكنه لم يمنع ضحكته من أن تتسلل:
“بشاميل.”
لحظة صمت…
ثم انفجرت هي بضحكٍ رقيق، صافٍ كجداول الماء حين تُداعب الحصى، ينساب من بين شفتيها فيجعل الهواء من حولها أخف، وأجمل.
ضحكت، وشاركه هو الضحك، ثم قال من بين نوبات ضحك قصيرة، كأن الذكرى ما زالت تضحكه كلما استعادها:
“والله العظيم كان مسمّيه بشاميل! ولما سألناه على السبب… قالنا: علشان شكله شبه وش صينية المكرونة بالبشاميل وهي طالعة من الفرن.”
ضحكت أكثر، ثم رفعت يدها أمام فمها بخجلٍ لا تخفيه، وقالت من بين ضحكاتها المكبوتة:
“واضح إنه بيحب الأكل أوي!”
هز كارم رأسه وابتسم ابتسامة فيها بعض السخرية والكثير من المعرفة، وقال:
“ده مستعد يبيعنا كلنا علشان ساندوتش شاورما.”
ضحكت مجددًا، وضحك هو أيضًا، لكن بين ضحكاته كان يراقبها…
يحدّق فيها كما يحدّق المحب بالقمر حين يكتمل… ليس لأنه يجهله، بل لأنه لا يشبع من رؤيته، ولأنه، في تلك اللحظة، لا يريد أن ينقضي الليل.
وحين هدأت ضحكتها تدريجيًا واستعادت بعضًا من ثباتها، التفتت إلى الحصان الخامس، كان يقف بهدوء، لونه “كافيه” أقرب إلى الشاي بالحليب، إلى أن وجه قسمه خط أبيض، وخصلاته تنسدل بلطفٍ كأنها استجابت للنسيم.
أشارت إليه وقالت بابتسامة:
“وده؟ ده حصانك؟”
هز رأسه نفيًا وقال:
“لأ، ده حصان محسن… اسمه منير.”
رمشت مرتين كمن لم تستوعب الاسم فورًا، ثم رددت بدهشة خفيفة:
“منير؟”
“آه، علشان بيحب محمد منير.”
لم تتمالك نفسها، فضحكت مجددًا وهي تضع يدها على فمها، بينما أضاف هو بمرح: “صحابي مجانين… وأنا مش أقل منهم في الجنون.”
هزّت رأسها مبتسمة، ثم شيئًا فشيئًا خفت الضحك، وعاد السكون الدافئ ليسكن المكان.
نظرت إلى الحصان الأخير، كان يقف في نهاية الصف، ناصع البياض، تحيطه هالة من الهدوء والهيبة.
أشارت إليه بعينيها، وقالت بصوت هادئ، خجول:
“ده بقى… أكيد حصانك.”
اقترب كارم منه بخطى ثابتة، كمن يقترب من صديق يعرفه جيدًا، ويمدّ يده نحو رقبته بحنوٍ غير متكلف، ربت عليه برفق، ثم نظر إليها وقال بنبرة يملؤها الفخر والصدق:
“آه… ده حصاني، وصديقي… موج.”
وكان وقع الاسم جميلًا على أذنها… “موج.”
كلمة خفيفة، لكنها تحمل اتساع البحر، وتناقضه: هدوءه وثورته، عمقه وغموضه.
تعلّقت نظراتها بالحصان، حدّقت فيه كأنها ترى فيه شيئًا لا يُرى، شيئًا يُحسّ ولا يُقال.
لاحظ كارم ذلك، نظر لها، لمح بريقًا في عينيها لم يكن موجودًا قبل لحظات، فقال بصوته الخفيض، الدافئ:
“تعالي… قربي، ما تخافيش.”
أفسح لها الطريق بجانبه؛ فتقدمت بخطوة مترددة، ثم خطوة أخرى أكثر ثباتًا.
مدّت يدها بحذر، كأنها تلامس قطعة من حلمٍ هشّ، ولامست وجه الحصان برفقٍ بالغ،
كأنها تخشى أن تخيفه او تجرحه بلمسةٍ.
ابتسمت… ابتسامة رقيقة، صغيرة، بينما كان كارم يراقبها، وفي عينيه شيء يشبه العشق، ليس فقط بها، بل بتلك اللحظة التي جمعت بين هدوئها ولمسة يدها، وبين الحصان الذي يقف ساكنًا كأنما يبادلها الإحساس.
التفتت إليه، لا تزال تلمس وجه الحصان، وقالت بنبرة خافتة تكاد تكون همسًا:
“اسمه… وشكله جميل أوي… ليه سميته موج؟”
نظر كارم إلى حصانه لثوانٍ… لم تكن نظرة عابرة، بل كأن عينيه تبحثان عن شيء فيه، أو ربما تسترجعان ما لا يُقال.
تنفّس بعمق، كأن كل ما سيقوله يحتاج أن يُستدعى من داخله، من طبقةٍ دفينة، لا يصلها الضوء كثيرًا، ثم قال بنبرة هادئة، صادقة، خالية من الزخرفة، تمامًا كما يقول الإنسان الحقيقة لأول مرة دون خوف:
“علشان الموج… الموج مالوش صاحب، يجي ويمشي على كيفه… يخبط، يبعد، يرجع، يثور، يسكت، بس في الآخر… عمره ما كان بتاع حد.”
كان يتكلم ببطء، وبصدقٍ، ثم أكمل بصوت ينخفض أكثر، لكنه يزداد وضوحًا في المعنى: “وأنا… أنا وصاحبي شبه الموج، بنحب الحرية… ما بنحبش حد يمسكنا، زيّه تمام.”
نظر إليها في النهاية…
عينيه، المشاكستين طوال الوقت، كانتا الآن هادئتين، لامعتين، لا من الضوء، بل من شيء أعمق… شيء يشبه الطمأنينة حين يجد القلب أخيرًا من يفهمه دون أن يشرح.
أما هي، فكانت تراقبه بانبهارٍ واضح، لكنه لم يكن ذلك الانبهار الساذج الذي يأتي من الكلمات… بل انبهار بمن وراء الكلمات، وبين ضلوعها… شيء آخر لا تزال تخجل من الاعتراف به، حتى لنفسها.
لحظة صمت رقيقة جمعتهما، ثم كسرها صوته، خفيفًا، كمن يعيدها إلى سطح الحياة بلطف:
“إيه رأيك بقى في صاحبي؟”
أجابته دون تفكير، بكلمة خرجت من قلبها قبل لسانها، بعفوية كاملة:
“So amazing.”
مذهل أوي
ابتسم هو… تلك الابتسامة التي تحمل المزاح والصدق في آنٍ واحد، ثم نظر إليها نظرة أقرب لهمسة، وقال بنبرة منخفضة، مشاكسة، وكأنها موجهة لها وحدها:
“Not as amazing as you though.””بس… مش قدّك إنتِ.”
سكتت…
لا ردّ، لا كلمة، لا ضحكة… فقط نظرة طويلة ثبتت فيها عينيها عليه، نظرة فيها كل شيء كانت تحاول الهروب منه… وها هو الآن أمامها، واضح، مباشر، وبلا تكلّف.
كانت تلك الجملة البسيطة، الملقاة بين المزاح والصدق، كافية لتُربك قلبها.
نظرت بعيدًا لحظة، تبتسم بخجل، وداخلها شيء يتحرك ببطء… شيء يشبه الجرأة حين تُولد على استحياء.
ثم، وبعد تردد ناعم، استجمعت شجاعتها وقالت بصوت خافت كأنها تخشى أن تنكسر اللحظة:
“ممكن… تعلّمني ركوب الخيل؟”
نظر إليها، وابتسامته تتسلل ببطء إلى وجهه، تلك الابتسامة التي تبدأ من عينيه قبل أن تصل إلى شفتيه، ثم قال بهدوء:
“ممكن؟ طبعًا ممكن… يلا بينا.”
اتجه نحو الباب الخشبي الكبير للأسطبل، ودون استعجال، فتحه، فصدر صرير خفيف كأن الخشب نفسه يعرف أن لحظة جديدة توشك أن تبدأ.
خرج “موج” من الداخل، بخطاه الهادئة، وكأنه يعرف أنه بصدد شيء مختلف هذا اليوم.
سارت هي بجانبه، تراقب تحركاته بتوتر خفيف، بينما هو يحافظ على هدوءه المعتاد، دخلا معًا إلى السياج الخشبي الواسع، حيث تُدرّب الخيول، والهواء كان أصفى، والضوء يتسلل بنعومة من بين الغيوم.
أخذ كارم السرج ووضعه على ظهر “موج”، يشرح لها بهدوء، يلمس الحصان بثقة وروية، وكأن بينهما لغة لا تُنطق:
“تحطيه كده… وتشدي بالشكل ده، علشان ما تقعيش.”
التفت نحوها، بعين فيها دعابة خفيفة، وقال:
“يلا اركبي… ولا استني.”
هرول مبتعدًا لبضع ثوانٍ، وعاد وهو يحمل قطعة خشب مرتفعة قليلًا، وضعها بالقرب من الحصان، ونظر لها قائلاً بابتسامة تشجّعها دون ضغط:
“يلا، اركبي.”
صعدت على الخشبة، ترددت لحظة، ثم خطت نحو الحصان، فمدّ يده لها دون أن يطلب، ممسكًا بها بثبات، يسندها كما يسند أحدهم ظلًا خائفًا من الريح.
جلست على السرج، وأعطاها الليجام، وشرح لها كيف تمسكه، كيف توازن بين الشد واللين، كما لو أنه يعلمها شيئًا أبعد من مجرد ركوب… يعلمها أن تثق.
ثم بدأ يقود “موج” بحركات خفيفة، يوجهه للدوران في دائرة هادئة، صوته ينساب كنسيم ما بعد المطر:
“بالراحة يا موج… على مهلك.”
التفت إليها، عينيه تلتقطان ملامح وجهها المزيج بين التركيز والانبهار، فابتسم، وقال بنبرة لا تُنسى:
“وإنتِ كمان… على مهلك يا قمر، برافو عليكِ.”
ابتسمت… ابتسامة خجولة، لكن لا تخفى؛ فابتسم هو أيضًا… تلك الابتسامة التي لا تحتاج إلى شرح، ابتسامة رجل يرى في عينيها شيئًا لا يريد أن ينتهي.
استمر في إرشادها، صوته ناعم ومنتبه، يوازن بين الجدية والملاطفة، بينما هي… لم تكن تتابع كلماته بقدر ما كانت تتابع عينيه.
عينيه العسليتين…
تحت ضوء الشمس المنعكس عليهما، اكتسبتا لونًا أدفأ، كأنهما تشربتا من الذهب السائل، فصارت لا تملك إلا أن تحدّق.
كانت ترى فيهما أكثر من اللون… ترى الطمأنينة، الصدق، وربما الأمان الذي لم تعرفه من قبل.
وفي مكان ليس ببعيد، هناك من كان يراقب بصمت.
كانت “فاتن”… عمته، تحمل صينية صغيرة عليها فناجين القهوة وبعض الحلوى.
كانت تنوي أن تأتي لتقدم الضيافة كما اعتادت، لكنها توقفت عند طرف السياج، دون أن تصدر صوتًا.
رأت المشهد كله…
ميرنا على ظهر “موج”، تبتسم كأنها تتعلم الحياة لا الفروسية، و كارم بجوارها، ينظر إليها كما ينظر المرء إلى شيء يخشى أن يوقظه من جماله.
ابتسمت “فاطمة”، ولكن على طريقتها… ابتسامة فيها شيء من الخبث المحبب، تلك النغزة الخفيفة التي لا تُقال، لكنها تُفهم، ثم تراجعت خطوة، وبدلاً من أن تقترب وتقطع ما يجري، قررت _بحكمة لا تعلن عن نفسها_ أن تترك اللحظة تمضي كما هي: أسيرة… نقيّة… تنمو وحدها دون تدخل.
استدارت وغادرت بهدوء، والصينية لا تزال في يدها، بينما تركت خلفها لحظة لا يعرف اثنان أنها صارت الآن أكثر من مجرد تدريب… صارت بداية لشيء قد لايكون له نهاية.
مرّت الدقائق ببطءٍ جميل…
لم يتحدثا كثيرًا، ولم يكن الأمر بحاجة إلى كلمات؛ فصوت خطوات الحصان على الأرض، حفيف الهواء، ونظرات متقطعة بين الحين والآخر، كانت كافية لملء اللحظة.
كأن الزمن نسي أن يمر، أو ربما قرر أن يمنحهما استراحة قصيرة من كل شيء.
وأخيرًا، توقّف “موج”، بإشارة كارم الذي رفع يديه في الهواء، وابتسامة الرضا تتسع على وجهه:
“عال العال… ممتاز كأول مرة.”
كانت ابتسامته صادقة، فخورة بها أكثر مما هي فخورة بنفسها، نظر إليها نظرة تشجيع حقيقية، ثم أردف، بعفويته المعتادة، وبصوت فيه لمعة من الحماس:
“إيه رأيك… تسابقيني؟”
فتحت عينيها بدهشة، وكأن الكلمة نفسها كانت بعيدة تمامًا عن توقعاتها:
“أنا؟… دلوقتي؟!”
ضحك بخفة، وهز رأسه، شعره يتحرك مع النسيم كأنّه يشارك في التحدي أيضًا، وقال بنبرة واثقة:
“آه، أنتِ… ودلوقتي، قلتِ إيه؟”
كان التحدي في صوته لا يضغط، بل يغري، وفي عينيه دعوة للجنون اللطيف… ذلك الجنون الذي لا يُكسر فيه شيء، سوى رتابة القلب.
أومأت بخفوت…
إيماءة صغيرة، خجولة، لكن مليئة بما يكفي من الجرأة لتبدأ مغامرة.
وبعد لحظات، كان كلاهما على خط البداية….
هي على “موج”، تمسك اللجام وقد تسلّل بعض التوتر إلى أطراف أصابعها، لكن ملامحها كانت تلمع بالحماس.
وهو… على حصان آخر، يقف بثبات، كتفه بمحاذاة كتفها، لكنه كان ينظر إليها، لا إلى المسار.
نظرا لبعضهما، تلك النظرة القصيرة التي تختصر كل ما لا يُقال: الثقة، الفضول، والفرح الطفولي النادر حين يتحول القلب فجأةً إلى ملعب.
ثم نطق هو أولًا، صوته يسبق الريح:
“واحد…”
تابعته هي فورًا، وعيناها تضيئان:
“اتنين…”
ثم، بنبرة واحدة، وبنظرة للأمام، قالا معًا:
“تلاتة!”
وانطلقا…
كأن الأرض نفسها أفلتت من تحت حوافر الخيول، كأن الريح انحنت لتفسح لهما الطريق، كأن الزمن قرر أن يجري معهما… لا ضدهما.
انطلق
“موج” كالسهم، خفيفًا، رشيقًا، كأنّه يفرح لفرحها، وصوت ضحكتها… تلك الضحكة النادرة التي تأتي من القلب لا من الشفاه… كان يتناثر خلفها في الهواء.
وكارم، يركض بجوارها، لم يكن يطارد الفوز… كان يطارد تلك اللحظة فقط، التي شعرت فيها أنها حرة… وأنه معها.
جولة تلو الأخرى…
الضحكات تتعالى، والغبار يرتفع خلف خطى الحصانين، والتعادل بينهما لا يزال سيد الموقف.. كأن الخيول تعرف أن اللعبة لا تُحسم، بل تُعاش.
عيناها مشعتان بالحماسة، و”موج” يتجاوب معها كأنه خُلِق ليحملها، أما كارم، فكان يراقبها من طرف عينه… لا لينتصر، بل ليتأكد أن تلك اللحظة تُكتب جيدًا في ذاكرتها.
وفجأة، وعلى غير توقّع، ارتسمت على وجهه بسمة جانبية، خفية، ماكرة… ثم بدأ يُبطئ خطوات حصانه تدريجيًا، حتى خفّ إيقاع الركض، ثم توقف تمامًا.
لاحظت تباطؤه، فأبطأت بدورها، التفَتت إليه بقلق، تبحث عن تفسير، رأته ينزل من على حصانه بخفة، بحركة فيها الكثير من الهدوء، لا العجلة.
توقفت هي كذلك، وترجّلت عن “موج” بسهولة، تتقدّم نحوه بخطوات سريعة ونبرة فيها شيء من القلق الطيّب:
“ليه وقفت؟”
اقترب خطوة، ثم قال، بابتسامة هادئة، صوته كمن يطرح سؤالًا يحمل أكثر من معناه:
“بتمارسي فروسية من إمتى؟”
توتّرت… وكيف لا؟
قد كُشف سرها أسرع مما توقّعت.
رفعت يدها بتوتر خفيف تعيد خصلة متمردة من شعرها خلف أذنها، تحاول أن تختبئ في الحركة، في الصمت، في أي شيء، ثم سألته بصوتٍ خفيض، كأنها تعترف دون أن تعترف:
“عرفت إزاي؟”
أجاب ببساطة مدهشة، كأن الأمر لم يحتَج منه جهدًا:
“أنا بقالي أكتر من ١٢ سنة في الفروسية… يعني أقدر أميز بسهولة بين هاوي لسه في البداية، وبين محترف فاهم الدنيا كويس… زيك يا قمر.”
ابتسم، وغمز لها في نهاية جملته، لكن عينيه بقيت جادة، ثم تنهد، وأكمل بنبرة أكثر ثباتًا:
“ما شفتش أيّ خوف في عينيك لما ركبتي الحصان، رغم إنها رسميًا أول مرة ليكِ، طريقة مسكك لليجام، تحكمك في خطواته وسرعته… مش أسلوب حد بيتعلم، ده أسلوب حد راكب حصان قبل كده كتير، حتى نزولك… كان احترافي.”
أخفضت عينيها، شعور بالخجل الثقيل غمرها، لكنها لم تهرب، فقط تمتمت:
“يعني كاشفني من الأول…”
هزّ كتفيه وهو يضم شفتيه، كأن الأمر لم يكن اكتشافًا بقدر ما كان ملاحظة محبّ لا أكثر.
رفعت عينيها له مجددًا، نظرة ارتباك خفيفة تكسوها، ثم قالت بهدوء وكأنها تعتذر:
“أنا بس…”
لكنه قاطعها بلطف، صوته أكثر رقة من النسيم:
“مش عايز أعرف عملتي كده ليه.”
توقّفت عن الكلام، نظرت إليه بترقب، تنتظر بقية ما سيقوله، وكان سريعًا في استكماله، كأن الجملة الثانية كانت تنتظِر قلبها لا أذنها:
“أنا عايز نتسابق… بس المرة دي بجد، كل واحد بمهارته الحقيقية.”
غمز مجددًا، لكن هذه المرة بطرافة لا تُخفي الحماسة في عينيه.
ضحكت، برقة وخجل وفرح، فابتسم بدوره، ثم قال بنبرة تتحدّى وتلاعب:
“ها؟ نتسابق؟”
أومأت بخفوت، ثم رفعت رقبتها قليلاً، نظرتها استقرت في عينيه بثبات، وقالت:
“نتسابق.”
_________________
في جهةٍ أخرى…
وتحديدًا على ضفاف البحر الأحمر، في إحدى المقاهي الهادئة المطلة على شاطئ “شرم الشيخ”، كان النسيم يلاعب أطراف الطاولات، ورائحة الملح تعانق الأفق، بينما هو يتقدّم بخطوات ثابتة، يحمل بين يديه كوبين من العصير المثلج، وابتسامته الدافئة تسبقه نحوها.
دار حول الطاولة بخفة الجسد المُعتاد على وجودها، وجلس أمامها وهو يسأل، بصوته المألوف الحنون:
“بتعملي إيه؟”
رفعت عينيها عن شاشة هاتفها، والتقت نظرته بلطف، ثم ابتسمت وهي تتناول منه كوب العصير:
“بكلم البنات شات.”
رفع حاجبيه بدهشة خفيفة، قبل أن يميل برأسه قليلًا قائلاً:
“البنات كلهم؟ ليه؟ عملتوا جروب؟”
أومأت بهدوء وهي تُغلق هاتفها وتضعه على الطاولة:
“آه، عملناه بعد ما رجعت بفترة.”
شرب من كوبه رشفة، وسأل بفضول دافئ:
“وياترى كانت فكرة مين؟”
ابتسمت، وأجابت بلهجة تعرف أنه سيخمن الإجابة فورًا:
“تفتكر مين يعني؟ دلال طبعًا.”
ضحك وهو يقول، كأنه يؤكد حقيقة لا جدال فيها:
“أكيد، هيكون مين غيرها؟ وعلى كده هي الأدمن، صح؟”
“صح، هي اللي جمّعتنا كلنا فيه… حتى دخلت ميرنا من قريب.”
تغيّرت ملامحه قليلاً، وسأل بانكماش حاجبيه:
“ميرنا مين؟”
“ميرنا زميلة كارم في الشغل، اللي جات فرحنا.”
سكت للحظة، ثم قال بتذكر:
“آه افتكرتها… بس هي كانت في الفرح فعلاً؟”
أومأت وهي تقول بهدوء:
“آه، حتى دلال هي اللي عرفتنا عليها، واضح إن كارم هو اللي عزّمها.”
نظر بعيدًا، ثم قال بنبرة خفيفة، تحمل شيئًا من الاستغراب:
“من إمتى وهو بيعزم صحابه في الشغل على مناسبات خاصة كده؟”
أمالت فيروز رأسها بخفة على كتفها، وقالت بخبثٍ لطيف:
“إلا لو ماكانتش مجرد زميلة شغل.”
نظر إليها للحظة، كأنه يحاول تحليل ما وراء كلماتها، ثم ابتسم بإدراك وقال:
“تصدقي… بس كارم مايعرفش يتعامل مع البنات أصلاً! ده حتى أخته بيعاملها كأنها واحد صاحبه في القهوة، ولما حد يقول له البنات كائنات لطيفة، يقلب وشه ويقول: لطيفة دي تبقى أمك.”
ضحكت بشدة على طريقته، فابتسم هو أيضًا وهو يتابع:
“والله زي ما بقولك… كارم ده دايمًا شايف البنات مفتريين، لا لطافة ولا يحزنون.”
هزّت كتفيها وقالت، وكأنها تسحب ورقة الشك الأخيرة:
“جايز شاف ميرنا كائن لطيف.”
“تقصدِ إنه… حبها؟!”
أومأت بسرعة، بعفوية، فأخذ هو خطوة للوراء وهو يقول باندهاش:
“لا بقى… كارم وحُب في نفس الجملة؟ دي نكتة دي ولا إيه؟!”
ضحكت من ردّه، لكنها قالت بإصرار هادئ:
“ولا نكتة ولا حاجة… مفيش حاجة مستحيلة.”
نظر إليها طويلًا، كأنّه يفكر في كلماتها بجدية، ثم همس، وكأنه يُسلّم لفكرة بدت له مستبعدة سابقًا:
“جايز…”
ثم هز رأسه سريعًا يمينًا ويسارًا، كمن ينفض الفكرة من رأسه، وقال بخفة:
“سيبك من الموضوع ده بقى… هنقضي شهر العسل نحكي عن الناس؟ يا عسل.”
ضحكت من مزاحه، فشاركها الضحكة، ثم قال بنبرةٍ أكثر دفئًا:
“تيجي نتمشى على البحر؟”
“موافقة.”
وقاما معًا، وكأن خطاهما على الرمل موعدٌ مُنتظر…
سارت هي إلى جواره تمسك بكتفه، وكلاهما يحمل كوب عصيره، يسيران بمحاذاة البحر، على الرمال الذهبية التي تعانقها الأمواج برفق، كانت خطواتهما متناغمة، كما قلبيهما، تتبادل نظرات العشق كما تتبادل الأمواج والرمال قبلات الغروب.
_________________
ركضت الخيول فوق الأرض كأنها تعزف طبولاً لا تُسمع إلا للقلوب المتلهفة، والغبار المتناثر خلفها بدا وكأنه توقيع على لحظة لا تُنسى.
في ساحةٍ تحفّها الريح، ويمتد أمامها الأفق بلا نهاية، كانا هما… يتسابقان، لكنه لم يكن سباقًا عاديًا، بل رقصة خفية بين الفرح والحب، بين السرعة ودقّات القلب.
هو على “موج” حصانه الأثير، وهي على حصان آخر انتقته بعناية، وكأنها اختارته ليكون رفيق درب اللحظة، لا مجرد وسيلة للسباق، كان جريهما أشبه بتحدٍ للزمن، وكل التفاتة منهما نحو الآخر كانت تسرق من السباق شيئًا وتمنحه للنبض، للانبهار، للود الصامت.
جولة تلو الأخرى، والتعادل يشبههما؛ لا أحد يريد أن يسبق، ولا أحد يقبل أن يتأخر، كل منهما يركض بنفسه، وبقلبه أيضًا.
حتى جاءت الجولة الأخيرة… وكان كل شيء على المحك.
نظرت له فجأة، ابتسمت، ابتسامة لم تكن بريئة تمامًا، كانت مثل سهم في صدره، فتباطأ دون أن يشعر، ولم يملك إلا أن يهمس لحصانه بصوت خافت لا يخلو من الحب:
“خليك على وضعك يا موج… مكسبها أكبر مكسب ليا.”
ورآها تبتعد، تخترق خط النهاية قبله بثوانٍ، بينما هو، فارس التحديات، وقف هذه المرة طواعيةً على حدود الخسارة… فقط ليمنحها انتصارًا تستحقه وذكرى لا تُنسى.
لم ينتظر، ترجل من حصانه قبل أن يهدأ نبضه، وركض نحوها كمن يركض نحو قدره، أمسك يدها قبل أن تنزل، فرفعت نظراتها إليه، لتجده يتأمل عينيها كما لو كان يحاول قراءة شيء لم يُكتب بعد.
ثم همس بصوت صادق، هادئ، يمتلئ باليقين:
“مبروك الفوز.”
ضحكت برقة، ثم قالت بنبرة مزيجة بالدهشة:
“بس مش مستحق، أنت سبتني أكسب.”
ضحك هو الآخر، ثم رد وهو يغمض عينيه بشيء من الخجل:
“عرفتي؟”
هزت رأسها، فقال بنبرة منخفضة:
“تسمحيلي أكسب حاجة أكبر؟”
نظرت إليه باستغراب، فشد على يدها برقة، ونظر نحوها نظرة لم تحتملها عيناها من عمقها، ثم قال وهو يخرج من جيب بنطاله خاتمًا صغيرًا لكنه نقيٌّ كنيّته:
“مش عيب تكون الإيد دي فاضية؟”
لم تجب، كانت عيناها أبلغ، وكان هو يعرف أن الصمت في مثل هذه اللحظات ليس ترددًا… بل ذهول.
اقترب أكثر، وضع الخاتم في يدها دون أن ينتظر إذنًا، ثم همس بنبرة لا تخطئها الأذن ولا القلب:
“تتجوزيني؟”
سكتت، صدمة عذبة جمّدت حروفها، فعاد يسأل بابتسامة شبه خائبة:
“الإرسال بطّيء عندك ولا إيه؟ تتجوزيني يا ميرنا؟”
ولمّا لم تأتِ الإجابة مجدداً، أخذ نفسًا عميقًا، ثم صاح بصوته القوي كأنه يطلب موافقة الكون كله:
“تـتـجـوزيـنـي يــا مــيــرنــا؟!”
وأخيرًا…
جاء الجواب من بين شفتيها المرتجفتين همسًا:
“موافقة.”
ابتسم من قلبه، ابتسامة لم تكن مجرد رد فعل، بل كانت ارتياحًا عميقًا، كأنه انتصر أخيرًا في معركة دامت طويلاً داخل قلبه، ثم انفجر ضاحكًا، ضحكة صافية دافئة، وهو يقول بسخرية محببة:
“ماكان لسه بدري.”
ضحكت هي الأخرى، ضحكة تحمل في طيّاتها اندهاش الطفلة وفرح الأنثى، بينما عيناها كانتا تلمعان، لا من الشمس وحدها، بل من تلك الدموع الصغيرة التي لم تجد طريقها للسقوط، فظلت هناك… شاهدة على لحظة لا تُنسى.
نظر إليها، إلى تلك العينين تحديدًا، فراعه كم يمكن للحب أن يكون مرئيًّا… عارٍ بلا أقنعة، فقال بصوت خافت، محمّل بكل صدق العشق:
“خيّال لعينيكِ الحلوة ميّال… أقسم بالله.”
لامستها كلماته كما لو كانت نسمة في يوم قائظ، أو كموجة دافئة تغمر روحًا كانت ترتجف منذ زمن، فابتسمت… ثم ضحكت، ضحكة حقيقية لا تشبه شيئًا سوى ولادة الفرح من قلب خاف أن يفرح.
ضحكت وهي تطالعه، تطالع ملامحه التي باتت مألوفة لقلبها أكثر من ملامحها، تطالع عينيه التي لا تنطق بحرف، لكنها تقول كل شيء.
كان هو في تلك اللحظة، قد مد يده بهدوء وساعدها في النزول عن الحصان، دون كلمات، فقط لمسة تحمل من الأمان والاهتمام ما يجعل الأرض تحت قدميها أكثر ثباتًا.
وقفت أمامه، وجهيهما لا يفصل بينهما شيء سوى الهواء العليل، وخلفهما… السهول الممتدة، الخضرة التي لا تنتهي، السماء التي اتسعت أكثر وكأنها تحتضنهما.
خصلات شعرها تتراقص مع الرياح كأنها تشاركهما تلك اللحظة، وخصلاته هو أيضًا تمايلت بخفة، لكن عيناه ظلت ثابتتين، تلتهمان وجهها وكأن لا شيء سواه يستحق النظر.
وقفت هناك، في قلب ذلك الحقل، لا بشر حولهما، لا أصوات سوى همسات الطبيعة، ولا حضور إلا حضورهما.
كان قلباهما يتنفسان أخيرًا… براحة، بحرية، وكأنهما عاشا عمرًا كاملًا ينتظران تلك اللحظة تحديدًا.
وكانت عيونهما… تلمع.
تلمع بفرحة نقية، بسيطة، لكنها لا تُقاس، لأنها نابعة من يقين واحد: أ
نهما وجدا ما هو أعمق من الحب… السَكن.
_________________
مع انزلاق الشمس خلف الأفق، وتسلل زرقة الليل الهادئة شيئًا فشيئًا، كانت هي تعود إلى ذلك المنزل الكبير… الفيلا الرحبة التي بدت، في تلك اللحظة، كأنها تحتضن فرحتها المرتبكة بين جدرانها.
لم تكن خطواتها ككل مرة، بل كانت تخطو بخفة، كأنها تطير، تسبقها ابتسامة مُشرقة تحكي أكثر مما يمكن للكلمات أن تقول.
ما إن دخلت المطبخ حتى أبصرت السيدة “زيزي” _تلك المرأة الحكيمة ذات القلب الحاني التي تجاوزت منتصف الخمسينات_ منشغلة في ترتيب بعض الأغراض.
دون مقدمات، اقتربت منها بخفة العصافير، ثم طوّقتها من الخلف بذراعيها وهي تهتف بفرحة صافية تفيض من صوتها كالماء العذب:
“زيــزي… قــالهالي! قالهالي يازيزي!”
استدارت زينب بسرعة وقد تلاقت عيناها بعينيها اللامعتين، سألتها بلهفة أم تُشارك ابنتها كل المشاعر:
“بجد؟! قالك إنه بيحبك؟!”
هزّت رأسها نفيًا، وعيناها تفيض بالسعادة:
“أكتر من كده… قالي إنه عايز يتجوزني! تخيّلي، أنا لسه مش مصدقة، حاسة إني هطير من الفرحة!”
ضحكت وهي تمسك بيدي زينب وتدور بها في المطبخ كطفلة وجدت أخيرًا حلمها في يدها، حتى توقفت، فسألتها زيزي بنبرة ممتزجة بالفرح والفضول:
“طب احكيلي، حصل إيه؟ من الأول كده!”
تنهدت بسعادة، وأزاحت خصلة من شعرها خلف أذنها كما اعتادت أن تفعل حين يغلبها التوتر، ثم بدأت الحكاية:
“أخدني على مزرعة جوز عمته… مزرعة خيول جميلة جدًا… أول ما وصلنا، عمته وجوزها رحّبوا بيا كأني فرد من العيلة، وبعدها خدني على الإسطبل، ووراني كل الخيول اللي هناك.”
توقفت لثانية، وابتسامة ناعمة ترتسم على شفتيها، ثم تابعت بصوت هادئ:
“كدبت عليه وقلتله إني معرفش أركب خيل، وطلبت منه يعلمني… وهو صدق، أو كان بيعمل نفسه، وساعدني أركب على حصانه هو… اسمه ‘موج’، بس طلع واخد باله إني بعرف أركب من أولها، بس سابني أكمل التمثيلية.”
ضحكت خجلاً ثم تابعت:
“بعدها قالي نتسابق، وفعلاً اتسابقنا، وسابني أكسب، ولما قولتله إنك خسرت عن قصد، ضحك وقال: ‘تسمحيلي أفوز بحاجة أكبر؟’… وساعتها مد إيده في جيبه، وطلّع خاتم صغير… ولبسهولي، وقالي: ‘تتجوزيني؟'”
وهنا، رفعت يدها في الهواء، متباهية بالخاتم الذي لمع تحت ضوء المطبخ، كأنه شهادة حب مرسومة من نور.
نظرت زينب إلى يدها ثم إلى عينيها، وسألت بنبرة شغوفة:
“وإنتي؟! قلتي إيه؟!”
ضحكت من قلبها وقالت:
“كنت مصدومة… فضلت شوية مش مستوعبة، بس بعدين… قلتله موافقة، طبعًا! وبعدها اتغدينا سوا مع عمته وجوزها، واتمشينا حوالين المزرعة ورجعنا.”
ثم سكتت للحظة، وأغمضت عينيها كأنها تسترجع كل لحظة… كل همسة وكل نبضة، قبل أن تهمس:
“يوم مش هنساه… عمره ما هيتكرر، ومش مصدقة لحد دلوقتي إنه حقيقي، حاسه إني بحلم.”
اقتربت زينب بخطاها الهادئة، وكأنها تخشى أن تكسر شيئًا هشًا في قلب ميرنا، ثم جلست قبالتها، وأمسكت وجهها بين كفيها برفق أمٍ تخاف على ابنتها من نسمة الهواء، وهمست بعينين تمتلئان حبًا وطمأنينة:
“لا، مش بتحلمي يا حبيبة قلبي… ده حقيقي، واقع حلو بتعيشيه، وأخيرًا ربنا كتبلك لحظة فرح بعد كل اللي عدّى.”
في اللحظة نفسها، كانت الابتسامة تموت شيئًا فشيئًا على وجه ميرنا… كما لو أن كلمات زينب، وبالأخص كلماتها الأخيرة، كانت المفتاح لصندوقٍ حاولت مرارًا إغلاقه بإحكام… لم تتكلم، لكن ارتجافة عينيها ونفَسها المتسارع كانا كافيين ليقولا كل شيء.
أدركت زينب أثر كلماتها، لكنها لم تتراجع، بل وضعت يدها على كتفها برفق وقالت بنبرة مزيج من الحنو والحزم:
“أنا آسفة إني فكّرتِك، بس… لازم تفتكري يا ميرنا، لازم تحكي، مش علشان تعذّبي نفسك، لكن علشان تفتحي صفحة جديدة بجد… لو كارم فعلاً هيكون شريك حياتك، لازم يعرف، يعرف كل حاجة، منك إنتي، مش من غيرك، لو سمع من حد تاني، ده هيكسر بينكم حاجة مش هتتعوّض… إنتِ عارفة إني بحبك بخاف عليكي وزي بنتي بالضبط، علشان كده بنصحك ياحبيبتي.”
سكتت زينب للحظة، ثم أضافت وهي تنظر في عينيها مباشرة:
“وزي ما كارم ليه الحق يعرف اللي حصل… باباكي كمان ليه الحق يعرف اللي هيحصل، لازم تحكيله عن كارم أول ما يرجع من السفر.”
مرت لحظة صمت ثقيلة، وكأن الهواء في المطبخ تغيّر، واختنق الضوء قليلاً، ثم أومأت ميرنا بخفوت، كأنها تستسلم لصوت تعرف أنه محق، لكنها لا تزال تقاومه في داخلها.
ابتسمت زينب، ابتسامة أمّ تحاول أن تُعيد لابنتها بعض دفء الطمأنينة، وقالت بخفة مصطنعة:
“يلا بقى، اطلعي غيري هدومك، وأنا هجهزلك حاجة تاكليها، وأجي أقعد جنبك، تحكيلي تفاصيل أكتر عن كل حاجة حصلت.”
أومأت ميرنا مرة أخرى، وابتسمت، لكن ابتسامتها كانت باهتة، لا تشبه تلك التي كانت تضيء وجهها قبل لحظات… كأن عقلها لا يزال عالقًا بين فرحة الآن وظلال الأمس.
كانت تمشي، لكنها لم تكن تمشي فقط إلى غرفتها، بل إلى مرآة لا بد أن تواجهها، إلى حديثٍ مؤجل، وإلى ماضٍ لم يَعُد ممكنًا الفرار منه، وخاصة بعد أن فتح لها المستقبل باباً جديداً، جميلاً.
تسلقت السلالم
ببطء، بخطوات مترددة يثقلها شيء لا يُرى، حين تقاطعت عيناها مع سيدة في أواخر الأربعينات من عمرها، امرأة أنيقة، تحمل من الملامح ما يجعل العمر يبدو عليها كذبًا، وكأن الزمن اختار أن يمر من حولها لا بداخلها.
توقّفت المرأة عند إحدى الدرجات، ورفعت بصرها نحو ميرنا بابتسامة صغيرة، لا تخلو من حذر، لكن خلفها اهتمامٌ واضح:
“ميرنا؟ رجعتي إمتى؟”
رفعت ميرنا عينيها نحوها ببطء، لم تكن نظرة عابرة، بل مطاولة صامتة امتدت ثوانٍ، لكنها بدت كالدهر… كانت نظرة جامدة، بلا ملامح… كأنها لا ترى من أمامها، أو لا تريد أن ترى.
ثم، ومن دون أي رد، حرّكت ميرنا جسدها مبتعدة، وأكملت صعودها كما لو أن السيدة لم تكن هناك أصلًا… مرّت بجانبها كنسمة باردة تتجاهل الشمس، كخطوة تعبر فوق الجرح دون أن تلتفت إليه.
ظلت السيدة واقفة في مكانها، ظلت تراقبها وهي تختفي في أعلى الدرج، وشيئًا فشيئًا خفتت تلك الابتسامة، تراجعت إلى ركن بعيد في ملامحها، ثم أغمضت عينيها، تنهيدة طويلة خرجت من صدرها كأنها تعبٌ قديم اعتاد البقاء.
ترجلت بعدها عن الدرج بهدوء، بلا استعجال، واتجهت صوب المطبخ، دفعت الباب برفق ولجت، فوجدت زينب ترتب بعض الأطباق الصغيرة.
“ميرنا راجعة بقالها كتير يا زينب؟”
سألتها بنبرة حيادية، لكنها مشوبة بشيء من القلق؛ فأجابتها زينب بعد أن التفتت لها:
“لا، لسه راجعة.”
“طب اعملي لها حاجة تاكلها، وطلّعولها أوضتها من فضلك.”
“حاضر يا مدام.”
اومأت السيدة برأسها، ثم انسحبت من المكان، وعند عتبة المطبخ توقفت… التفتت برأسها، وعيناها ترفعان النظر نحو الأعلى… نحو الدرج الذي صعدته ميرنا قبل لحظات، نحو الممر المؤدي إلى الغرفة التي احتضنت غيابًا طويلًا، وصمتًا ممتدًا.
وقفت هناك ساكنة، لا تتحرك، وكأنها تحاول أن ترى من خلف الجدران، أو تسمع ما لا يُقال… وكان في وقفتها شوقٌ لم يُعترف به، وخوفٌ لا يعترف به الزمن.
_________________
في جهة أخرى…
بعد يومٍ طويل قضياه معًا داخل الصيدلية التي تملكها، حيث اعتاد أن يرافقها منذ أن وعدها… ومنذ أن أصبح للوعد معنى أعمق من مجرد كلمات.
كان يذهب معها صباحًا ويعود برفقتها مع الغروب، لا يسأم، ولا يشكو… فقط يشاركها خطواتها، وكأن حضوره بجانبها صار ضرورة كالمفتاح في يدها.
والآن، بعد أن أنهى كلاهما العشاء، وجلسا في غرفة المعيشة، كانت الإنارة خافتة، والهواء مشبع برائحة طعام دافئ وبعض من عطرها.
الشاشة أمامهما تعرض فيلماً هادئ الإيقاع، لا أحد منهما يهتم بالقصة فعليًا، كان المشهد كله يدور خارج حدود الفيلم: في الطريقة التي وضعت بها رأسها على كتفه، في طريقة جلوسه المائلة قليلاً نحوها، في الضحكة التي تبادلاها كلما ينظران لبعض بين اللحدة والأخرى.
ظلّا جالسَين كما هما، يتقاسمان الصمت نفسه، صمتًا لا يخلو من ألفةٍ مريحة، تتخلله بين حين وآخر أنفاس هادئة وصوت الفيلم في الخلفية.
لم تكن الشاشة تشدّهما بقدر ما يشدهما وجودهما المشترك، ذلك الحضور الخافت المليء بالكلمات غير المنطوقة.
وفجأة، اخترق صوتهما هدوء اللحظة، بصوت خافت يحمل من اللين أكثر مما يحمل من السؤال:
“مفيش أخبار عن موسى؟”
نظرت دلال نحوه برهة، ثم حوّلت عينيها نحو الأمام، ثم أجابته بنبرتها الدافئة التي تحمل في طيّاتها تردّدًا خفيفًا:
“بابا كلمه النهاردة المغرب… وطلب منه يرجع بقى علشان يحضر سبوع ابن مريم.”
رفع حاجبيه قليلًا، كأن ما سمعه لم يكن متوقعًا، فسألها بنبرة متحفّظة:
“وهو وافق؟”
هزّت رأسها بنصف ابتسامة، وقالت بصوتٍ ثابت لكن دافئ:
“عاند في الأول… بس أنت عارف بقى إن بابا أعند، فالأستاذ غصب عنه وافق… حتى كلّمني عشان أتوسط له، بس أنا ماوافقتش.”
ابتسم هو، ابتسامة صغيرة لكنها مشبعة بالرضى:
“أحسن… كفاية عليه كده.”
صمت لحظة، قبل أن يضيف، وقد تحولت ابتسامته إلى شيءٍ أكثر دفئًا، أكثر جدية:
“ده بقاله أزيد من شهر… مش فاهم، ماوحشناش خالص ده ولا إيه؟”
نظرت نحوها نظرة ذات مغزى، وهو تردد بسخرية خفيفة لا تخلو من حنين:
“مش معاه فيروز… يبقى مش هيفتكر حد فينا.”
ضحك بهدوء، ضحكة خرجت من قلبه لا من فمه فقط، فتجاوبت هي كأن قلبها التقط صداه، ضحكت بدورها، تلك الضحكة التي لا تشبه ضحكات المجاملات، بل تلك التي لا تخرج إلا حين تكون النفس مطمئنة.
ثم، وبعفوية تليق بلحظات الصفاء، وضعت ما بيدها جانبًا واقتربت منه أكثر، احتضنت ذراعه بكامل روحها قبل جسدها، وقالت بمرح فيه من الدلال أكثر مما فيه من المزاح:
“خليه هو مع فيروز… وخليني أنا معاك.”
كانت كلماتها تلك كمن أشعل شمعةً إضافية في قلبه، فضحك بسعادة حقيقية، ضحكة خفيفة ولكنها ممتلئة، ضحكة رجل شعر أنه امتلك لحظة لا يُريد لها أن تنتهي.
ترك ما بيده بهدوء، وكأن كل شيء من حوله لم يعد له وزن، ثم مال نحوها بذراعيه، طوّقها كما يُطوّق الأمان خوفًا من الضياع، ثم انحنى على رأسها يقبّله قبلةً تحمل في طياتها كل معاني الامتنان، قبلة حانية صامتة لكنها قالت كل شيء.
وفي تلك اللحظة،لم يكن هناك صخب الحياة، فقط هما… في زاوية صغيرة من العالم، خلقا لأنفسهما عالمًا كاملًا من السكون، الدفء، والانتماء.
_________________
في صباح اليوم التالي، عاد كل شيء إلى روتينه المعتاد، وكأن لحظات الدفء التي جمعت بينهما بالأمس لم تكن إلا استراحة قصيرة من الحياة، لا أكثر.
كان يقف بجوارها في الصيدلية، يشاركها العمل كما اعتاد، بيديه وبقلبه، يساعدها في تلبية طلبات الزبائن، يقف خلف الطاولة البيضاء بينما هي تتنقل بخفة بين الأرفف، تفتح العلب وتغلقها، وسجّل الفواتير وتبتسم بابتسامة صغيرة لكل من يمر، وهو أولهم.
استمر في مساعدتها حتى شعر باهتزاز خفيف في جيب بنطاله، أخرج هاتفه، ألقى نظرة خاطفة على الشاشة ثم التفت نحوها وقال بنبرة معتادة:
“ثانية، وراجعلك.”
أومأت له بابتسامة خفيفة من دون أن تنظر، فقد كانت منشغلة مع سيدة عجوز تطلب بعض الأدوية المخصصة له.
خرج هو من الصيدلية بخطوات هادئة، وأغلق الباب الزجاجي خلفه برفق… ظلت هي وحدها مع السيدة التي سرعان ما ناولتها كيس الأدوية برفق، قبل أن تلتفت لتدوين التفاصيل في الدفتر.
لكن قبل أن تنتهي من الكتابة، رنّ هاتفها فجأة، نظرت إلى الشاشة، فاتسعت عيناها قليلًا، عندما قرأت الاسم الظاهر بوضوح: “موسى”.
التقطت الهاتف من فوق سطح المكتب الزجاجي، وضغطت زر الإجابة وهو تبتسم بدهاء، قائلة بصوت يحمل مزيجًا من الاستياء المصطنع:
“الباشا عايز إيه؟”
جاءها صوته من الطرف الآخر، جادًا، حادًا، لا يحتمل التأويل:
“أنتِ عارفة أنا عايز إيه؟”
كان صوته ثقيلًا، محمّلًا بالإلحاح القديم نفسه… الإلحاح الذي تعرفه جيدًا، وتحفظه كما تحفظه نفسه.
لم تتردد، ولم تمنحه مساحة للمناورة، بل أجابته بنبرة صارمة، واضحة، تتقاطع فيها الخيبة مع الحسم:
“طلبك مرفوض يا موسى، مش هتكلم مع بابا… وهتنزل، يا موسى، احنا هنتجمع الثلاثاء… يعني بكره بالكتير لازم تكون راجعت، ويلا… سلام.”
أنهت المكالمة بضغطة قاطعة، وكأنها تُنهي بها أماله في البقاء هناك أطول.
وفي الجهة الأخرى، كان موسى يختنق بصمت، صرخ داخل نفسه، بصمتٍ لا يسمعه أحد، ثم مسح وجهه بكف غاضبة، و هتف في الهواء، بنبرة ساخرة ممتزجة بالمرارة:
“باين كده شهر عسلنا خلص.”
أما عند دلال…
فبعد أن أغلقت الهاتف، ألقت به على الطاولة بلامبالاة مُفتعلة، ثم عادت لتدوين ما تبقى،وبعدها التقطت بعض عبوات الدواء بروتينية، واتجهت نحو الرف لوضعها في مكانها.
لكن الخطى لم تكتمل…
شيء ما ارتجّ في رأسها، إحساس غريب بالدوار باغتها فجأة…
أغلقت عينيها للحظة، كأنها تحاول الإمساك بتوازنها، لكن العبوات سقطت من يدها في لحظة عجز قصيرة… وكادت تفقد اتزانها هي الأخرى، لولا أنها أمسكت بحافة الطاولة في اللحظة الأخيرة.
________________
_
كتابة/أمل بشر.
عارفة إن الفصل قصير، بس ماحبتش أتأخر عليكم وآجله فقلت أنزله وأعوضكم في اللي جاي.
فا رأيكم فيه؟؟
وتوقعاتكم بخصوص…
ميرنا والسر اللي مخبياه؟؟
وايه اللي بيحصل مع دلال؟؟
وصحيح…
الرواية النهاردة كملت 100k قراءة🙈💃😍😍😍
مبسوطة أوي بالانجاز ده، بس الفضل يرجع _بعد ربنا_ ليكم ولدعمكم وتشجعيكم ليا، شكراً بجد ليكم، بحبكم❤❤❤❤.
دمتم بخير… سلام.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.