رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثاني والأربعون 42 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثاني والأربعون

الفصل الثاني والأربعون (عائلة جديدة)

الفصل الثاني والأربعون (عائلة جديدة)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

ومن يتهيب صعودَ الجبلِ

يعِشْ أبدَ الدهرِ بين الحُفَرِ

عنترة بن شداد



_____________

“أنا عايز أفتح شركة…”

جملة قصيرة، لكنها كانت كافية لتوقِف الزمن بينه وبين أصدقائه ،سكنت الكلمات أرجاء المكان، كأنها تنتظر صدىً لم يأتِ، لم يردّ أحد، لكن العيون قالت ما يكفي، حتى قطع كارم الصمت بنبرة مشوبة بسخرية خفيفة:

“وماله نسرقلك مفتاح ونروح نفتح شركة.”

التفت موسى إليه، بنظرات جادة، ثم زفر وقال بهدوء:

“أنا مش بهزر، أنا بتكلم جد، وعايز أخوض التجربة دي.”

ضحك كارم ضحكة قصيرة، وهز رأسه بعدم تصديق:

“هي مش كيكة يا صاحبي، هنحطها في الفرن تطلع جاهزة.”

رد موسى، بنبرة هادئة، لكنها مشبعة بالإصرار:

“هو أنا بقولك إني هفتحها بكره؟! أنا عارف إن الموضوع صعب، ولسه هافكر، وأخطط، وأدور على ناس ثقة يشتغلوا معايا… لسه في مشوار كبير.”

تغيّرت ملامح كارم، ونهض من مكانه، تقدم خطوة نحوه وقال بنبرة جادّة تحمل في طياتها شيئًا من القلق:

“بالظبط… حاجات كتير، وحاجات محتاجة فلوس يا برنس، إنت فاكر إن الكام مليون اللي معانا دول هيكفّوا علشان كل ده!”

رفع موسى يده يفرك رقبته، كأنه يحاول تهدئة التوتر داخله، ثم قال بهدوء:

“ماهو.. أنا هاخوض التجربة دي لوحدي.”

تساءل حسن، بنبرة فيها دهشة متعمدة:

“تقصد إيه؟”

“أقصد إن هاخاطر لوحدي ياشيخنا، محدش فيكم هيدفع حاجة من فلوسه، أنا مش ضامن إني أنجح، فمش هخاطر وأخليكم تخسروا فلوسكم بسببي.”

ارتسمت علامات الإستنكار على وجه كارم، وردّ بحدّة:

“إنت بتقول إيه؟! الفلوس دي جمعناها سوا، لولاك ماكناش وصلنا لنص اللي احنا فيه!”

أومأ موسى ببطء، كمن يعترف ضمنيًا:

“عشان كده مش عايز أكون أنا السبب إنها تضيع.”

أطلق كارم ضحكة ساخرة، ورفع يده يبعثر خصلات شعره بضيق، بينما تابع موسى حديثه بنبرة ثابتة جادة:

“ياجماعة افهموا، أنا مش واثق من نجاحي مية في المية، دي مخاطرة كبيرة، جايز أنجح، وجايز لأ… فلأ يا جماعة، أنا

مستحيل أخليكم تشاركوني في حاجة مش مضمونة زي دي.”

وقف سامي في تلك اللحظة، والذي ظل صامتًا طوال النقاش، وقال بصوت هادئ لكن ثابت، يحمل عمقًا غير مألوف:

“ييقى فركش ياموسى من الأول، احنا اتعودنا اننا نعمل كل حاجة مع بعض، بدأنا الشغل ده مع بعض وهنكمل مع بعض حتى لو نسبة النجاح واحد في المية، ياهنعمل اللي ناوي عليه مع بعض، يابلاها ياموسى.”

أيّده كارم، وقال بصوت صادق خالي من المزاح:

“بالظبط، يا نعيش عيشة فل، يا نموت وإحنا الكل… احنا في مركب واحدة يا برنس، يا نوصل بيها للبر سوا، يا نغرق بيها سوا.”

دار موسى بعينيه على وجوههم، يقرأ فيها ما يتجاوز الكلمات، ثم جاء صوت حسن، هادئًا، لكن فيه ما يشبه العهد:

“سامي وكارم معاهم حق، احنا بدأنا ده كله سوا، وعدّينا بحاجات كتير علشان نوصل لهنا، وأكيد اللي جاي مش هيكون أصعب من اللي راح، وأي كان اللي هنعدي بيه، احنا معاك فيه… هنعمل اللي علينا، ونسيب الباقي على ربنا… هو عارف الأفضل لينا.”

نهض محسن من مقعده، كأن الحماسة قد بعثت فيه دفعة من الحضور، ورفع صوته مؤيدًا:

“بالظبط كده، أنا مع كل كلمة قالوها… وبعدين، ليه كل التشاؤم ده؟! ما جايز ننجح ونفرقع ونكسب أضعاف اللي معانا دلوقتي ياصاحبي!”

لوّح كارم بيديه في الهواء كمن يؤكد كلامه بإشارة ثابتة، وابتسامته الواسعة لا تفارق وجهه:

“مثلاً.”

ضحكة خفيفة خرجت من موسى دون أن يشعر، لم تكن ضحكة استهزاء، بل ضحكة امتنان… ضحكة من وجد نفسه محاطًا بمن يؤمن به، ربما أكثر مما يؤمن بنفسه.

دار بعينيه على الوجوه حوله، حتى استقرت على حسين، ذلك الذي ظل طيلة الحوار جالسًا على الأريكة، يراقبهم بصمت بارد، لم ينبس ببنت شفة.

لكن عندما شعر بأن الأنظار كلها اتجهت إليه، رفع حاجبيه، ثم حرّك كتفيه باستخفاف وهو يعدل جلسته قليلًا ليتمدد أكثر على الأريكة وقال بنبرة باردة:

“أنا مش فاهم حاجة، بس أوكي… أنتم صح.”

انفجرت ضحكاتهم دفعة واحدة، صاخبة، حقيقية، تحمل في طيّاتها من الحب والراحة ما لا يُشترى.

أما هو، فلم يكلف نفسه حتى أن يشاركهم الضحك، فقط استدار للناحية الأخرى كأنه يهرب من أي مظاهر للمشاعر… سوى مشاعره تجاه الوسادة.

كان سامي أول من هدأت ضحكته، وضع يده على كتف موسى في هدوء وقال بصدق:

“كلنا معاك ياصاحبي… للآخر.”

نظر له موسى، وعيناه تبرقان بشعور لا يُشترى ولا يُصطنع… شعور الامتنان العميق، ثم وجه نظره للباقين، حتى حسين، وقال بنبرة متهدّجة بصدق:

“أنتم أجدع صحاب ممكن حد يعرفهم في عمره… ربنا يخليكم ليا.”

ربّت سامي على كتفه مرة أخرى، بنعومة الأخ الأكبر:

“ربنا يخلينا لبعض ياصاحبي.”

لم يتمالك موسى نفسه، ففتح ذراعيه واحتضنه بقوة، كأنه يشكره عن كل كلمة لم تُقال، ثم التفت للبقية، وأشار لهم بالإقتراب وكأنّه يضمهم جميعًا في قلبه قبل أن يعانقهم معاً.

ثم توجّه بعينيه لحسين، وقال ممازحًا:

“مش هتيجي في حضني أنت كمان ياسحس؟”

وصلهم صوت حسين، بنفس كسله المعتاد، دون أن يكلف نفسه الالتفات:

“قلتلك مابحضنش غير مخدتي يابرنس.”

ارتفعت ضحكاتهم مجددًا، تلك الضحكات التي لم تكن مجرد رد فعل على مزحة أو تعليق، بل كانت تعبيرًا عن أشياء أعمق… عن رابطةٍ لا تُرى، لكنها تُحَس.

كانوا يتبادلون النظرات بينهم، وفي عيونهم ما لا يُقال: خفّة في القلب، دفء في الروح، وطمأنينة تُشبه الوطن.

في تلك اللحظة، بدا كل شيء بسيطًا وواضحًا… وكأن الدنيا كلها انكمشت إلى هذا المكان، وهذا الجمع، وهذه اللحظة.

بعد ثوانٍ، تفرّقوا قليلاً، والضحك لا يزال عالقًا في الزوايا، حينها سأله سامي بنبرة فيها اهتمام حقيقي، لا يخلو من الحذر:

“قلت لأهلك الكلام ده؟”

هزّ موسى رأسه بخفة، وصوته جاء هادئًا لكنه واثق:

“لأ، ماحدش عرف غيركم أنتم وفيروز ودلال… لسه هاقولهم بعد المغرب إن شاء الله، طلبت نتجمع.”

أومأ سامي بتفهّم، لكن قبل أن يتسلل الصمت، جاء صوت كارم سريعًا، ساخرًا كعادته، لكن لم يخلو من المزاح:

“هو أنتم ماسمعتوش عن جروب الواتس قبل كده يابرنس؟!”

ضحك موسى، وهز كتفيه كمن يبرر فعلته بمزاح خفيف:

“سمعنا… بس احنا بنحب ناخد الصدمة face to face.”

ضحكوا مرة أخرى… ضحكة مختلفة، عميقة، دافئة، خرجت من أعماق القلب لا من طرف اللسان.

كانت ضحكة أشبه باعتراف صامت، لا يحتاج إلى شرح أو تأكيد… كأنهم جميعًا، دون أن يتفقوا، قالوا في آنٍ واحد:

“إحنا مع بعض، للآخر.”

رغم اختلاف طباعهم، وتباين أحلامهم، وتلك النزاعات الصغيرة التي تتسلل بينهم أحيانًا… كانوا يدركون، في دواخلهم، أن ما يربطهم ليس مجرد صداقة. بل رابط من نوعٍ نادر، لا يُفكّ بسهولة… رابط تشكّل من مواقف، ووقوف في الضيق، وأسرار تُقال دون خوف، وظهور ظلّت في الظهر حتى حين غاب الضوء.

ضحكوا، وكأنهم وقّعوا على اتفاق غير مكتوب: أنهم معًا، للنهاية.

أن أي حلم سيُولد بينهم سيكون مشتركًا، وأي سقوط سيُحتَمل بالأكتاف نفسها، وأن الحياة_بكل ما فيها_لن تفرّقهم، حتى لو حاولت.

_________________

مع مرور الوقت…

“يعني بجد؟ محدش فيكم عنده اعتراض على كلامي؟”

قالها موسى بنبرة تغلبها الدهشة، وعينيه تتنقل بين وجوههم كأنه مازال يترقّب الاعتراض الذي لم يأتِ.

لم يكن يشك في نفسه، بقدر ما لم يعتد أن تأتي الموافقة بهذا الهدوء… بهذه السهولة.

ردّ أحمد أولاً، بصوته الواثق الهادئ:

“ونعترض ليه يا بني؟ دي حياتك وأنت اللي هتعيشها مش إحنا، طالما مقتنع… اعمل اللي شايفه صح، واحنا في ضهرك، دايمًا.”

أومأ محمد ببطء، ثم قال بنبرة رتيبة ولكن حاسمة، كمن يُقرّ أمرًا محسومًا:

“زي ما قال عمك يا موسى، ده مستقبلك… وإحنا مالناش غير إننا ندعي لك، ونشجعك… اتّوكل على الله يا بني، وإحنا معاك خطوة بخطوة.”

رمش موسى، كأنه يحاول استيعاب أن الحلم الذي تردد في البوح به، قوبل بكل هذا القبول… كل هذا الدعم.

توقفت عيناه على لوالده، نظر إليه بتوجس طفيف، وخرج صوته حذرًا، وفيه أمل لم يتخلّص من خوفه بعد:

“وحضرتك يا بابا… معندكش اعتراض؟”

ساد الصمت قصير، قبل أن يتنهد داود ببطء، كأنه يُفرغ قلبه من كل ما مضى.

نهض من مكانه، وتقدّم منه، ووقف إلى جواره، يضع كفه على كتف ابنه، وقال بنبرة هادئة، صادقة، أكثر من أي وقت مضى:

“أنا خلاص… اتعلمت من غلطي، وعرفت إن دوري مش إني أربطك، ولا أقولك ما تحلمش.. بالكعس، دوري إن أمشي معاك لحد آخر الخط… احلم يا موسى، وحقق،

وخليني أفرح بيك، وإحنا كلنا معاك… في ضهرك يابني.”

ارتعشت شفتي موسى، وتلك الابتسامة الصغيرة بدأت تزحف ببطء على فمه… ابتسامة امتنان، وحب، وشيء داخلي كأنه استراح أخيرًا.

لكن ما لمع في عينيه… الدموع.

كانت تلمع في صمته، وهو يقترب من والده ويعانقه بقوة، يهمس قرب أذنه:

“بجد… شكراً يا بابا، شكراً أوي.”

ربت داود على ظهره بهدوء، ربّتات أب فيها عمرٌ كامل من الخوف والرغبة في الإصلاح.

ثم ابتعد موسى قليلاً، ينظر حوله في وجوه عائلته، بنظرات تحمل تقديرًا لا يُشترى، وصدقًا لا يُمثَّل.

ثم نمس بصوته العميق وقد انكسر فيه شيء من التأثر:

“بجد… شكرًا ليكم كلكم.”

كانت لحظة فاصلة… ليست فقط لأنهم وافقوا، بل لأنهم أخيرًا… آمنوا به.

________________

_

في اليوم التالي…

كانت الشمس تجرُّ خيوطها الأخيرة خلف الأفق، والليل يزحف بهدوء، كأن الكون كله يتهيأ لبدء شيء جديد.

في زاوية من السيبر المعتاد، حيث قضوا سهرات لا تُعد، جلسوا هذه المرة على غير العادة، بهدوء لا يشبه ما كانوا عليه من قبل، شيء ما تبدّل… شيء في نظراتهم الجادة، في جلستهم، وفي انتظارهم لصوت موسى.

جلس هو أمام شاشة الحاسوب، ظهره مستقيم، ونظره ثابت، على الشاشة، وأمامه مخطط واضح، أعدّه بنفسه.

ضغط على زر الإدخال، فظهر أول سهم، ثم قال بصوته الجاد، الذي يحمل إيقاع قائد يعرف تمامًا ما يريد:

“زي ما أنتم شايفين، دلوقتي أنا مطلوب مني أركز في تلات حاجات… كل واحدة أهم من التانية.”

حرّك مؤشر الفأرة وأشار إلى السهم الأول:

“أول حاجة… الشقة

،

ودي طبعًا محتاجة مبلغ كبير، ووقت محترم علشان التصميم اللي في دماغي مش سهل.”

جاء صوت كارم، ساخرًا كعادته لكن بابتسامة تحبّب لا استهزاء فيها:

“ليه هتخليها بتطير؟!”

ضحك موسى هو يلقى نزرة سريعة عليه، ثم قال:

“حاجة زي كده… عامةً هتفهموا لما تجهز، نكمل بقى.”

ظهر السهم الثاني، فتحرك إليه وأشار:

“تاني حاجة… الشركة، دي محتاجة تجهيزات كتير، من أول المكان لحد آخر فارة هنشتريها، وسامي مشكور بيتولى التدوير على المكان.”

أومأ سامي بإيجاز، وقال بثقة:

“كلمت سمسار أعرفه، وإن شاء الله نلاقي مكان كويس قريب.”

تابع موسى دون أن يفقد تركيزه:

“حلو جدًا، أنا كمان كلمت فادي وهروح بكرا أقابل مهندس ديكور صاحبه، علشان يمسك التجهيزات من أولها، وفي نفس الوقت، نبدأ نشوف الأثاث، والأجهزة، والمعدات اللي هنحتاجها.”

أومأ الجميع بالموافقة،

ثم أشار هو إلى السهم الأخير، وقال بتركيز خاص:

“نيجي بقى لأهم نقطة… الناس اللي هتشتغل معانا.”

قال محسن على الفور، كأنه يحمل اقتراحًا جاهزًا:

“دي بسيطة، ننزل إعلان على الصفحة ونكتب إننا محتاجين موظفين.”

هز موسى رأسه نافيًا، بعينين تفكران قبل أن تجيبا:

“لأ، مش هننزل الإعلان على الصفحة، أنتم اللي هتنزلوه على أكونتاتكم الشخصية.”

تبادلوا النظرات، قبل أن يسأله كارم باستغراب:

“اشمعنا؟!”

تنفس موسى بعمق، ثم قال بنبرة هادئة لكنها حاسمة:

“علشان لو نزلناها على الصفحة، هتفتح علينا أبواب من الناس اللي مش فارق معاها الشغل قد ما فارق معاها الفلوس، تسعين في المية، لو ماكنش الكل، هيقدموا بس علشان المرتب… مش علشان الشغل نفسه

، و

أنا مش عايز نبدأ كده، احنا عايزين ناس فعلاً عايزين يشتغلوا، حتى لو خبرتهم بسيطة، مش شرط يكون معاهم شهادة، ولا يكونوا خريجين، بس لازم يكون عندهم شغف للحاجة دي، ويعرفوا يعني إيه يشتغلوا بضمير.”

أومأ له الجميع بالإيجاب، وفي عيونهم بريق اقتناع بكل ماقاله، ماعدا كارم، الذي مسح ذقنه بتفكير وقال بنبرة متأنية:

“بس ثانية كده… إنت إزاي عايز تختار ناس بخبرة بسيطة، ولا معاهم شهادات، ولا حتى خريجين؟ يعني كده هينفعونا فعلًا يا موسى؟”

ابتسم موسى ابتسامة صغيرة، لكنها لم تخلُ من الثقة، وأجاب بثبات:

“بالعكس يا كارم… دول بالذات هما اللي هينفعونا، علشان دول اللي محتاجين فرصة حقيقية، و لما ياخدوها، هيتعلقوا بيها ويقاتلوا علشان يثبتوا نفسهم.”

توقف لحظة، ثم أردف بنبرة عملية:

“وبعدين، إحنا مش هنرميهم في البحر ونقولهم عوموا، أنا ناوي، بعد ما نختار الناس المناسبة، أعمل لهم كورس بسيط كده، وأبدأ أعلمهم كل اللي هعرفه، خطوة بخطوة، في فترة تجهيز الشركة.”

نظر إليه حسن باهتمام، وعلّق بصوته الهادئ:

“بس كده هيبقى عليك ضغط كبير، وتعب مش بسيط ياموسى.”

زفر موسى بهدوء، وقال بابتسامة لم تغادر ملامحه:

“أنا داخل التجربة دي وأنا عارف إنها مش سهلة، وهنضغط، ونتعب، ونتوتر… بس كل ده هيروح، أول ما نشوف أول خطوة من حلمنا بيتحقق، أهو التعب بيزول، بس الحلم لما يوصل… بيفضل.”

ساد الصمت لثانية، كأنهم كانوا يمضغون كلماته بهدوء، قبل أن يومئ حسن برأسه ويقول:

“معاك حق.”

بادل موسى إيماءته ببسمة صادقة، ثم اعتدل قليلًا وقال:

“دول كده أهم تلات محاور هنشتغل عليهم، وعلشان نكون صرحاء مع نفسنا، فلوسي أنا وفلوسكم غالبًا مش هتكفي، فاحنا هنحط في اعتبارنا احتمال ناخد قرض بعدين، لو احتجنا.”

رد سامي بسرعة، بنبرة تحمل ثقة:

“سيب الموضوع ده عليا… ماتشيلش همه.”

هز موسى رأسه بتقدير حقيقي وقال:

“تمام يا شباب… ربنا يتممها على خير.”

ردوا جميعًا، بصوت واحد، كأنهم على قلب رجل واحد:

“آمين.”

وزع موسى نظراته على وجوههم، لحظة تأمل قصيرة، كأنه يريد أن يطبع هذا المشهد في ذاكرته… الوجوه، الدفء، اللمعة في العيون، الإيمان الذي كبر فجأة بينهم.

لكن لحظة السكون تلك انقطعت على يد نغمة هاتفه، نغمة قصيرة مألوفة، تبعتها ومضة على الشاشة، مدّ يده تلقائيًا والتقط الهاتف من على الطاولة، فتح الرسالة، وما إن وقعت عيناه على محتواها حتى تغيرت ملامحه قليلاً: فسأله  سامي بقلق جاد:

“مالك يا موسى؟ في إيه؟!”

نظر موسى  إليه ثم قال بصوت هادئ:

“ده… طارق، عايز ياقابلني.”

_________________

“أنت مش فاهم إيه بالضبط يا بني؟!”

قالها طارق وهو يرمق موسى بنظرة فيها شيء من الدهشة، لا غضب فيها، بل استغراب حنون.

لكن موسى، والذي قد  أمامه في بهو منزل الأخير، لم يكن قادرًا على احتواء قلقه، فهزّ رأسه بتوتر وقال:

“مش فاهم اللي أنت بتعمله ده يا خالو… إزاي عايزني آخد المبلغ ده كله؟ وليه؟!”

رفع طارق حاجبيه بخفة، وأخذ نفسًا قصيرًا قبل أن يرد بنبرة ثابتة:

“هو إيه اللي ليه؟! أنت داخل على فترة صعبة، ومحتاج فيها كل قرش، ولا تكون فاكر إن الكام مليون اللي معاك هيكفوك الطريق كله؟”

رد موسى بسرعة، كمن يتمسك بخطة وضعها في عقله كدرع واقٍ:

“أنا عامل حسابي، ومقرر آخذ قرض.”

أشار طارق بيده إشارة نفي سريعة، وهو يقول بجدية لا تحتمل نقاشًا:

“سيبك من موضوع القروض دلوقت، ماتدخلش نفسك في حاجة زي دي وأنت لسه بتبدأ، خليه آخر احتمال قدامك… خد دول الأول، واشتغل، ولو احتجت بعدين، ابقى خد قرض، لكن البداية لازم تكون ثابتة، مش مديون.”

تأمل موسى الشيك في يد خاله للحظة طويلة… بدا كأنه ينظر إليه أكثر من كونه يقرأه، كأن الرقم المدون عليه أثقل من أن يُصدق، أضخم من أن يُحمَل بلا تردد.

ثم قال بصوت خافت، وهو يهز رأسه برفض واضح:

“لا يا خالو… أنا مستحيل آخد مبلغ زي ده منك.”

ضحك طارق بخفة، تلك الضحكة الساخرة التي لا تجرح، بل تذكّر، ثم قال بمودة ممزوجة بمرارة الذكريات:

“ياسلام! ما إنت ياما أخدت!”

تنهد موسى كمن تذكّر، ثم قال بتلقائية دفاعية:

“كنت بقلبك في كام ألف، يعني حاجات بسيطة… مش أخد منك اتنين مليون مرة واحدة!”

رد طارق بثبات:

“وأنا بقولك خدهم، وبعدين، أصلًا… الفلوس دي مش فلوسي.”

ارتبك موسى للحظة، ونبرة المفاجأة خرجت من فمه دون تفكير:

“مش فلوسك؟! إزاي؟!”

زفر طارق، كأنّ الكلام القادم لم يُقال من قبل، لا بصوت ولا حتى في الخيال، ثم شبك أصابعه ببعضها وقال بنبرة أهدأ، تسكنها رائحة الزمن:

“دي فلوس أمك… حقها في ورث أبويا، لما جدك مات، كتب كل حاجة باسم أمي، اللي قبل ما تموت، باعت كل الأراضي والمزارع، وحطت الفلوس في البنك.”

توقف لحظة، ثم أكمل بصوت فيه شيء من الحنين:

“ولما توفّت، كان المفروض الفلوس تتوزع عليّا وعلى أمك زي ما الشرع قال، بس أمك رفضت تاخد مليم، قالت مش محتاجة، واتنازلت لي… وأنا وقتها، ما جادلتهاش ووافقت، بس ماقدرتش أعتبرهم فلوسي، فحطيت نصيبها في حساب لوحده، قلت يمكن تحتاجه بعدين، وأظن، مفيش وقت مناسب أكتر من الوقت ده.”

تمتم موسى، وهو ما زال لا يستوعب:

“يعني… هي اللي قالت لك تديهولي؟”

هز طارق رأسه نفيًا، لكنه أجاب بإيمان كامل:

“لأ… ما جابتليش سيرة، بس أنا متأكد، إنها نفسها تساعدك، فقلت أحقق اللي في قلبها، وأديك نصيبها… فخدهم من غير نقاش وجدال كتير.”

مدّ طارق يده بالشيك، ونظره لا يفارق عين موسى، الذي ظل ينظر للورقة كأنها تحمل وزنين: وزن الأرقام، ووزن العاطفة.

ظل مترددًا… وعيناه تهربان بين وجه خاله والشيك، وكأن شيئًا داخله لا يزال يقاوم، لا من عناد، بل من خوف أن لا يكون أهلًا لهذا الثقل.

نفد صبر طارق، وقال بصوت حازم، لكنه لا يخلو من حنان:

“يلا يا بني… خُد.”

تردد موسى للحظة، وعيناه معلقتان بذلك الشيك، لا كرقم كبير يُكتب في ورقة، بل كقرار أثقل من الكلمات.

ثم، ببطء، كمن يسلم بشيء لا يملك الهروب منه، مد يده وأخذه، وقبل أن يُخفي الامتنان خلف كبريائه، قال بصوت خافت، يشبه وعدًا لم يُطلب منه:

“هاخدهم… بس هرجعهم أول ما أموري تتظبط.”

هز طارق رأسه، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة فيها من الرضا ما يسكِّن القلب، وقال بنبرة لا تخلو من الفخر:

“وماله يا سيدي، اتجدعن أنت بس وحقق اللي بتسعى ليه… عايز أرفع راسي كده وأقول ابن أختي بقا بيزنس مان كبير.”

ضحك موسى بخفة، ضحكة خجولة لكنها صادقة، وشاركه طارق الضحك، ضحكات امتدت لتدفئ الجوّ بينهما.

وفي اللحظة التي هدأ فيها الضحك، انفتح باب البيت وصدح صوت مألوف بعفويته:

“أنا دخلت بيت غلط ولا إيه؟! إنتوا قاعدين سوا وبتضحكوا بجد؟!”

دخلت

دلال

، بنظرتها التي تعرف كيف تقرأ الوجوه حتى قبل أن تنطق، ثم اقتربت منهما، وضعت حقيبتها على أول مقعد قابلها، واتجهت نحو موسى، وضعت كفها على جبينه وقالت بلهجة نصف مازحة نصف قلقة:

“موسى حبيبي، إنت سخن؟ مش من عادتك تسكت كده، من غير ما تستفزه وتنكشنه؟”

رفع لها موسى حاجبًا، بعينين لا تخلو من الخبث المعتاد، وقال ساخرًا:

“غريبة فعلاً، صح؟”

رد طارق وهو يريح ظهره على الأريكة، بصوت بارد لا يخفى ما فيه من دعابة:

“ربنا هداه النهاردة.”

ضيق موسى عينيه، نظر إليها ثم قال بنبرة افتعالها واضح، كمن يخطط لمقايضة مضحكة:

“بقولك إيه؟ ما تجيبي لي الأسوارة اللي لابساها دي… اللي أنا جبتها لك زمان، ومعاها السلسلة الحلوة دي، إنتي عارفة، الواحد داخل على تجهيزات جواز وشغل ومزنوق شوية كده.”

نظرت إليه

دلال

بغيظٍ مصطنع، تلك النظرة التي تعرف كيف تصيب دون أن تُؤذي، ثم ضربته بخفة على جبهته، كمن يوقظه من جنونه الطريف، وابتعدت عنه وهي تقول ببرود ساخر:

“اللي بيجيب هدية… مش بيرجع ياخدها!”

رد بلامبالاة مدروسة، وهو يرفع حاجبيه متحديًا:

“أنا باخدها عادي.”

رمقته بنظرة جانبية وقالت، دون أن تخفي ابتسامتها:

“علشان بجح.”

انفجر موسى ضاحكًا بصوت عالٍ، وضحك

طارق

أيضًا، ضحكة عميقة، ممتزجة بذلك الرضا الذي لا يأتي إلا من رؤية من نحبهم يزهرون، ولو على طريقتهم الخاصة.

جلست دلال على الأريكة بجوار زوجها، واعتدلت في جلستها ثم قالت بنبرة فيها من الجدية بقدر ما فيها من نغمة المرح المعتادة:

“بقولك إيه، أنت هتفتح شركة وهتبقى بيزنس مان كبير أهو… يبقى لازم تبطل البخل شوية وتبقى إيدك رخوة بقى… أنا عايزاك تجيبلي اسوارتين، ويبقوا ألماس، مش دهب بقى!”

ضحك موسى ورد دون تردد، بنبرة ساخرة جدًا وكأن الرد كان ينتظر على طرف لسانه:

“إنتِ فكراني هاشتغل في المخدرات؟!”

كتم طارق ضحكته أولًا، لكنه سرعان ما انفجر هو الآخر، ضحكة صافية تليق بروح المزاح الخفيف التي غلفت الجو كله.

أما دلال، فالتقطت وسادة صغيرة بجانبها، وألقتها عليه دون أن تنظر، كأنها تعرف أنه يستحقها، ثم قالت بانزعاج متصنّع:

“تصدق؟! غلطان اللي يطلب منك حاجة.”

ضحك موسى بخفة، وهو يرفع يديه استسلامًا، ثم قال بصوتٍ فيه بعض الندم وبعض الحنان:

“خلاص يا ستي، ما تزعليش… عينيا ليكي، أول ما ربنا يكرمني هاجيبلك أحلى اسورتين ألماس، ولا يهمك… ادعيلي بس إنتِ.”

نظرت إليه لدقيقة، تلك النظرة التي لا تحتاج إلى كلمات، ثم قالت بنبرة أكثر دفئًا، هادئة، محبّة، خالية من أي مزاح:

“بدعيلك والله… من غير ما تطلب، ربنا يوفقك، ويحقق لك كل اللي بتتمناه.”

التفتت إلى طارق وقالت بابتسامة صغيرة وهي تميل عليه:

“قول آمين يا طارق.”

ضحك طارق وهو يومئ برأسه، وقال بنفس نبرة الدعاء الممزوجة بالدعابة:

“يا رب.”

نظرت دلال إلى موسى، مائلة برأسها قليلًا، وعيناها تلمعان بشيءٍ بين الحنو والمشاكسة، ثم قالت بحزمٍ مصطنع، كأنها توشك أن تُصدر قرارًا:

“وأنت… قول آمين.”

ابتسم موسى، وهو يرفع حاجبيه وكأنه يسلم لها الأمر، وقال بنبرة مستسلمة:

“حاضر… آمين.”

لم يتمالك طارق نفسه، وانفجر ضاحكًا بصوت عميق، تبعه موسى وهو يهز رأسه وكأنه اعتاد على تلك السيطرة الأخوية.

أما دلال، فحدّقت فيهما بنظرة ضيق تمثيلية، حاولت أن تحافظ عليها، لكن وجهها خانها، وانفرجت شفتاها عن ضحكة خفيفة لم تستطع كتمها أكثر.

ضحكوا جميعًا في تناغمٍ عفوي، بلا تكلف ولا افتعال، وامتلأ الجو من حولهم بودٍّ لا يُقال، بدفء لا تخلقه التدفئة، وبحبٍ لا يوصف، وبلحظة كهذه، تسكن في القلب دون تكلّف.

_________________

توالت الأيام عليه كقطار لا محطة فيه، لا يُمهل ولا يتوقف، تمضي به من مهمة إلى أخرى، ومن مسؤولية إلى تالية، دون أن تمنحه فرصة للتفكير في نفسه أو الالتفات للخلف.

كل صباح كان يبدأ بنبضٍ جديد، لكنه مألوف.

يستيقظ مبكرًا، يلتقط أنفاسه قبل ضوضاء اليوم، يتناول إفطاره إذا أسعفه الوقت، وإن لم يفعل، يكتفي برشفة ماء ويمضي… إلى

فيروز

.

كان يُصرّ على توصيلها بنفسه إلى عملها، رغم إلحاحها المتكرر بأن يريح نفسه، ورغم محاولتها المتكررة أن تقنعه بأن تستقل سيارة أو أن يصطحبها أحد غيره، إلا أنه كان يرفض ذلك كأنما في الأمر طقس خاص لا يجرؤ على التنازل عنه.

كان يرى في توصيلها شيئًا يشبه بداية اليوم الصحيحة، شيئًا يربطه بما هو أصدق من التعب والأرقام والمواعيد.

وبعد أن يودّعها، يذهب مباشرة إلى

مقر الشركة

، هناك، يخلع دور الزوج، ويرتدي دور الرجل الذي بنى حلمه بيديه، يتابع تجهيزات المكان مع المهندس والعمال، يناقش، يُعدّل، يراجع، كأنما يبني بيته الثاني.

ثم، من هناك، إلى

الحارة

، حيث ينتظره عشرات الوجوه الجديدة، أناس صدقوا أنه يمكن لحلم صغير أن يكبر، وأن موسى ليس مجرد معلّم مؤقت، بل يد تمتد لتنقلهم من الهامش إلى المساحة.

في السايبر القديم الذي بات يشبه ورشةَ حياة، كان موسى يُدرّبهم، يُعلّمهم، يشرح، يُعيد، يصبر، يبتسم، ويؤمن.

وبمجرد أن تنتهي الدروس في الخامسة مساءً، ينهض دون أن يستريح، ويذهب ليُحضر فيروز من عملها، وكأن تعب اليوم لا يُحتسب إلا بعد أن يراها ثانية.

ثم يعود إلى

الشقة

، حيث ينتظره العمال والدهانات وأصوات الحفر والمطرقة.

يتابع معهم تفاصيل الديكور كما لو أنه فنان يعد مشهده الأخير، يشرف على كل زاوية، كل لون، كل ضوء.

وفي المساء، بعد أن يهدأ كل شيء، يجلس أمام حاسوبه، فيركن التعب جانبًا مؤقتًا، ويغرق في عمله المعتاد.

وهكذا…

مرت الأيام، تتكرر بصورتها لا بروحها.

تشابهت في جدولها، لكن في قلبه كانت تتغير.

وحده

الجمعة

، كان اليوم الذي لا يركض فيه خلف المواعيد أو الورش، بل يركض خلف شاشة الحاسوب طوال اليوم، كأنه يعود لنفسه، أو لنسخته الأقدم قبل أن يدخل في سباق الحياة.

ومرت الأسابيع، أو لنقل الشهور… وموسى كان لا يزال يسير، يتغيّر دون أن يشعر، يتشكّل دون أن يتوقف، ينضج دون أن يفقد خفّته.

وكلما فتح عينيه على نهار جديد، كان يعرف جيدًا: هو ليس في منتصف الطريق بعد، لكنه أيضًا… لم يعد في بدايته، هو اقترب من… الحلم.

________________

_

“بعد مرور ستة أشهر”

وقف أمام المرآة في غرفته، يزرّر أزرار قميصه الأبيض بعناية كمن يتهيّأ لموعد لا يحتمل الفوضى، كانت حركته بطيئة لكن واثقة، فيها شيء من الترتيب وشيء من التوتر، وحين وصل إلى الزر الأخير، رفع صوته منادياً دون أن يشيح ببصره عن صورته المنعكسة:

“ماما… لقيتي الحزام ولا لسه؟”

دخلت عبير الغرفة بخطوات سريعة نسبياً، وفي يدها الحزام، وقالت بصوت خافت فيه نبرة اعتذار خفية:

“لقيته… كنتِ حاطاه بالغلط وسط هدوم أبوك.”

تناوله منها، وبدأ يشدّه حول خصره دون أن يلاحظ شيئًا غريبًا في البداية، بينما كانت هي تقف في طرف الغرفة، تتأمله كما لو كانت تراه للمرة الأولى بعد غياب.

وفجأة سمع شهقة مكتومة، فالتفت إليها بحدّة، نظر في عينيها، وتوقف قلبه للحظة، وسأل بقلقٍ مفاجئ:

“حصل إيه؟ بتعيّطي ليه فجأة؟”

أجابت عبير بصوت مختنق بالبكاء، محاولة أن تحكم قبضتها على شهقاتها حتى لا تنهار:

“بعيط عليك… مش شايف نفسك خسيت قد إيه؟!”

كانت الكلمات تخرج من بين أنفاس متقطعة، مشبعة بالخوف لا بالعتاب، لكن موسى لم يستطع كبح ضحكته، ضحك بصوتٍ عالٍ مفاجئ، كأنها ضغطة أُفرغت من صدره.

حدّقت هي فيه بعينين ممتلئتين بالدمع والضيق، وقالت بنبرة منزعجة:

“بتضحك عليّا؟!”

توقّف عن الضحك بصعوبة، وهو لا يزال يختنق ببقاياه، ثم تقدّم نحوها بخطوات بطيئة وواثقة، ووقف أمامها بثبات، وضع يده برفق على كتفها، كأنه يهدئ موجها الهائج، وقال بمرح يسرق من الوجع نكتة:

“أنا عارف إنك زعلانة عليّا، بس ما خستش أوي يعني… دول يدوب ١٥ كيلو، بصي للجانب الإيجابي… كده هعرف ألبس بدلة فرحي من غير ما أوسّعها!”

نظرت له من طرف عينيها، وفي ابتسامتها غيظ مشوب بحنان وقالت:

“على أساس إنك كنت تخين أوي يا واد!”

ضحك موسى مجددًا، لكن الضحكة هذه المرة لم تكن عالية… بل كانت ناعمة، ثم صمت لحظة كأنه يستجمع كلماته، وقال بجديّة هادئة:

“هنعمل إيه يا عبير؟… إنتِ عارفة إن الكام شهر اللي فاتوا كانوا صعبين… كنت مضغوط لدرجة إني ماكنتش بقدر أبص لنفسي في المراية، بس خلاص… الضغط ده خلص، دلوقتي جِه الوقت اللي نحصد فيه اللي تعبنا علشانه يا أم موسى… روّقي كده بقا واضحكي، وبعدين كلها كام يوم وأتجوز… وهرجع أربرب من أول وجديد… إنتي بس وصّي فيروز عليّا.”

ضحكت عبير رغم الدموع، ووجدت كلمات ابنها مأوى دافئًا لقلبها المرهق، كأن شيئًا من الطمأنينة قد تسرّب إلى صدرها رغم كل شيء.

أما موسى، فاقترب منها أكثر، مال على رأسها وقبّله بلطف، وهمس بصوتٍ ناعم يحمل في طبقاته امتنانًا خالصًا:

“ربنا يخليكِ ليا، يا ست الكل.”

ابتسمت عبير بحنو، وضمت وجهه بين كفيها، ومسحت بإبهامها على وجنته بلطفٍ، ثم قالت بنبرة جمعت الحب والدعاء والخوف:

“ويخليك ليا يا نِن عين أمك من جوّا.”

ابتسم موسى ابتسامة دافئة تنبع من عمق قلبه، ثم انحنى بهدوء وقبّل يدها، وفي اللحظة ذاتها، انفتح باب الغرفة ودخل داود، الذي توقّف قليلًا عند المشهد، ثم عقد حاجبيه بجدية مصطنعة وقال:

“ما شاء الله… أسيبك دقيقة، ألاقي الواد بيبوس إيدك؟ أوعى تقوليلي إنه حضنك كمان؟!”

ضحكت عبير ومسحت عينيها بسرعة، بينما اقترب موسى منها وعانقها أمام والده، وهو يقول بتحدٍّ مازح:

“أهو حضنتها… هتعمل إيه بقى؟”

رفع داوود حاجبيه وتظاهر باللامبالاة وهو يرد:

“ولا حاجة… هاجي آخد حضن منك.”

لم يتمالك ثلاثتهم أنفسهم من الضحك، ثم فتح داوود ذراعيه على اتساعهما، فاندفع موسى نحوه ليحتضنه بقوة.

ربّت داود على ظهره بحنان أبوي وقال بصوت خافت كأنه دعاء:

“ربنا يبارك فيك يا بني… ويخليك لينا.”

ابتعد موسى عن حضن والده، ثم انحنى ليقبّل يده هو الآخر، وقال من قلبه:

“ويخليك ليا يا بابا.”

ابتسم داوود وربت على كتفه برفق، قبل أن يقول:

“يلا بقى… كله مستني تحت.”

“حاضر.”

اقتربت عبير من وجه ابنها تمسح عليه مرة أخرى، ثم خرجت برفقة داود، بينما بقي موسى وحده، يتابع أثرهما بعينين دافئتين لامعتين، كأنّه يلتقط اللحظة في قلبه قبل أن تمضي.

تنفّس الصعداء، ثم التفت نحو الفراش، التقط سترته القطنية السوداء وارتداها فوق قميصه الأبيض، وقد رفع أكمامه حتى منتصف الساعد، ليُكمل إطلالته الأنيقة التي جمعت بين البساطة والتميّز.

تقدّم نحو المرآة، نظر إلى صورته، وابتسم بثقة، ثم اتجه إلى ركن خزانته، حيث ترتّص قبعاته بعناية، مدّ يده إلى واحدة تحمل أول حرف من اسمه بالإنجليزية، ووضعها على رأسه بحركة اعتادها، قبل أن يقول لنفسه، بنبرة ثابتة:

“يلا يا موسى… جه وقت تحقيق الحلم.”

وما إن فتح باب الغرفة، متجهًا للخروج، حتى توقف فجأة، تراجع خطوة، واتّسعت عيناه بدهشة وهو يتمتم:

“بسم الله!”

جاءه صوت دلال الساخر:

“شوفت عفريت؟”

“ياريت… أقصد لأ، إنتِ إيه اللي جابك؟ أنا كنت نازل أهو.”

اقتربت دلال بخطوات واثقة، تحمل في عينيها نية غامضة، وفي لحظة سريعة نزعت القبعة من على رأسه، وقالت بجدية لا تخلو من لعب:

“جيت علشان آخد دي.”

نظر إليها بدهشة، ورفع حاجبيه وهو يحاول استردادها:

“جيبيها يا دلال.”

ابتعدت للخلف بخفة، تخبئ القبعة خلف ظهرها وتقول بعناد:

“لأ… مش هتروح بيها، خصوصًا النهاردة.”

“أنتِ مالك ؟! أنا عايز أروح بيها!”

“مالي ونص… و أنت مش رايح بيها يا موسى؟ ووريني هتاخدها إزاي؟”

نظر إليها موسى بغيظ مكبوت، ثم استدار فجأة وقال وهو يتجه نحو غرفته:

“خليها لك، عندي غيرها كتير.”

لكن قبل أن تصل يده إلى مقبض الباب، وجد دلال قد سبقت حركته ووقفت أمامه، حاجزًا بشريًا صغيرًا لكنه عنيد، وقالت بصرامة:

“مش هتلبس طواقي النهاردة يا موسى… وبالذات في حدث زي ده.”

“ابعدي يا دلال… قبل ما أتجنن عليكِ.”

أجابت ببرود وهي تضم يديها إلى صدرها:

“يلا اتجنن… وريني هتعمل إيه؟”

“إنتِ مستفزة أوي!”

“بنتعلّم منك.”

عضّ على شفته بغيظ، ثم قال محاولًا أن يبدو هادئًا:

“أروح بالطاقية ولا أروح بشعري المنكوش ده؟!”

ردت ببساطة، وابتسامة ماكرة تملأ وجهها:

“ما أنا عارفة إنك هتكسل تسرّحه… علشان كده جبت ده معايا.”

وفي حركة مسرحية، أخرجت من كمّ فستانها مشطًا صغيرًا ولوّحت به أمامه؛ فتراجع موسى خطوة بتلقائية وهو يرفع حاجبيه:

“إيه ده!؟”

ضحكت دلال، ثم أشارت إليه بيدها بجدية لا تقبل النقاش:

“تعالى.”

زفر بضيق، لكنه مال برأسه قليلًا، مستسلمًا، بينما بدأت هي ترتب خصلاته بحذر واهتمام، بنفس الأصابع التي طالما سرّح بها شعره في طفولته، وتذكّرت كيف كان يصفف لها شعرها أيضًا، في أيام البراءة التي ما زالت تعيش بينهما، رغم كل ما كَبِر.

ظلت ترتّب خصلات شعره بعناية، تارة ببطء كأنها تتلذذ بالتفاصيل، وتارة بتأمل خفي في ملامحه المنزعجة.

هو من جهته كان ثابتًا، لكن أنفاسه بدأت تضيق، ونفاد صبره ظهر في حركة حاجبيه ونظراته التي تفرّ إليها تارة وإلى الأرض تارة أخرى.

وأخيرًا، قال بنبرة تجمع بين التململ والضيق المكبوت:

“خلصتي؟”

لم ترفع نظرها عنه، وواصلت بآخر لمسة وهي تهمس بهدوء:

“ثانية بس… خلصت.”

اعتدل في وقفته بسرعة، ابتعد قليلاً، ونظر إليها بغيظ خفيف يخبئ تحته ابتسامة محبوسة، بينما هي رفعت يدها في دلال أخوي، وأمسكت بوجنته، ثم قالت بميوعة مقصودة:

“يا أختي عسل… عسل يا إخواتي!”

قطّب جبينه وسألها باستنكارٍ سريع:

“إنتي بتلاعبي ابن أخوكِ؟!”

ردّت ببساطة وكأنها تُذكره بحقيقة لا تقبل الجدال:

“آه… إنت ابن أخويا.”

صمت لحظة، كأنه يقاوم ضحكة، ثم أومأ برأسه:

“آه… صح.”

انسحب صوت موسى في ضحكة مرحة، خرجت منه خفيفة صافية، فشاركته دلال الضحك وهي تهز رأسها بيأس.

لكن ما إن هدأت ضحكاته، حتى أشار بعينه نحو القبعة التي ما زالت تحملها في يدها، وقال بنبرة نصفها جاد ونصفها مازح:

“على فكرة… الطاقية دي غالية عندي. إياكِ يحصلها حاجة.”

رفعت يدها وأشارت إلى عينيها تباعًا وهي تقول بمرحٍ دلع:

“في عينيّا… ماتقلقش، يلا بقى ننزل.”

أشار لها برفق:

“استني بس ألبس الكوتشي.”

“ماشي.”

تقدّم نحو الباب، وانحنى يلتقط حذاءه الأبيض، نفضه بيده تلقائيًا، ثم ارتداه بإتقان، وبعد أن انتهى، وقف واستقام وأشار إليها قائلاً بثبات:

“يلا.”

اقتربت منه بخفة، وخرجا معًا من الشقة، يسيران جنبًا إلى جنب على درجات السلم، خطواتهما متناسقة كأنها تلخيص لعمر كامل من الأخوة والصداقة.

نزلا إلى الطابق الثاني، حيث تجمّع أفراد العائلة بكاملهم، وما إن وطأت قدماه المكان، حتى انفجر الجمع بالمباركات والدعوات الحارة، كلمات صادقة تقافزت نحوه كأيدي مفتوحة، فبادلهم موسى ابتسامات امتنان عريضة، وعِناقًا هنا، وتربيتة على الكتف هناك، وكلمات شكر لكل من صافحه أو بارك له.

ثم توقفت خطواته عند جده، الذي ابتسم له بعينٍ تلمع بفخر، وقال بصوته المتعب الدافئ:

“ألف مبروك يا حبيب جدك.”

مال موسى فورًا وقبّل يده باحترام، وقال بإخلاص حقيقي:

“الله يبارك فيك يا جدي.”

رفع رأسه ونظر حوله، حيث وقفت بنات عماته وعمومته يبتسمن له ويباركن بحرارة:

“مبروك يا موسى.”

“ربنا يجعلها بداية خير ليك.”

رد بابتسامة واسعة:

“الله يبارك فيكم يا بنات.”

وفجأة، توقفت عيناه عند “مِسك”_ابنة عمته سامية_وناداها بنبرة مرحة، فيها بعض المبالغة المتعمّدة:

“عاش من شافك يا ست مِسك… مش بنشوفك غير في المناسبات!”

ردّت وهي تعقد ذراعيها بضيق مفتعل:

“جاية غصب عني.”

أجابها ببرود متعمّد:

“واخد بالي.”

انفجرت ضحكات الموجودين على تعليقهما الساخر، فالعلاقة بينهما معروفة، تشبه لعبة القط والفأر منذ أيام الطفولة، مشاحنات خفيفة لا تؤذي، ونكات متبادلة لا تُؤخذ بجد.

بل في الحقيقة، هذه طبيعة علاقته مع أغلب بنات العائلة… ما عدا دلال بالطبع، فدلال لها وضع آخر، خاص.

وما إن بدأت الضحكات تخفت تدريجيًا، حتى علا صوت داود من وسط الجمع، وهو يقترب من ابنه بخطى واثقة:

“يلا يا جماعة، خلونا ننزل.”

مال على موسى، وخفض صوته قليلًا ليقول له بنبرة هادئة لكنها حاسمة:

“إنت يلا… اسبقنا، وروّح جيب مراتك.”

أومأ موسى دون كلمة، ثم استأذن من الجميع بابتسامة سريعة، وخرج من البيت، قلبه يدق بخفة، ووجهه يضيء فرحاً وحماساً.

_________________

وصل إلى وجهته، قلبه يقرع في صدره كطرقاته الخفيفة على الباب، ثوانٍ قليلة، وانفتح الباب بهدوء، لتطل منه ليلى، بابتسامتها الصغيرة، مرحبة:

“موسى!… تعالى، ألف مبروك.”

أومأ لها بابتسامة سريعة، وصوته يخرج منخفضًا، وعينيه تنزاح عن وجهها احتراماً لصديقه:

“الله يبارك فيكِ.”

دخل بخطى محسوبة، وأول ما وقع عليه نظره هو سامي، جالس القرفصاء أمام يزيد، يربط له حذاءه الأبيض الصغير.

رفع سامي بصره نحوه ببطء، وبنبرة مازحة، قال:

“البيه مشرّفنا ليه؟”

ضحك موسى وهو يرد بثقة خفيفة:

“جاي آخد مراتي… في إيه؟ هي فين بالمناسبة؟”

جاءه الصوت من خلفه، دافئًا مألوفًا، صوت نادية التي خرجت للتو من غرفتها، عطرها يسبقها وحنانها يملأ الممر:

“في أوضتها… بتجهّز يا حبيب خالتو.”

التفت نحوها بسرعة، والابتسامة ترتسم على وجهه بعفوية، اقترب وقبّل يدها باحترام خالص، فربتت على خده وقالت وهي تبارك:

“مبروك يا حبيب خالتك… ربنا يجعلها بداية خير ليكم.”

أجاب بابتسامة فيها بعض من التوتر الجميل:

“الله يبارك فيكِ يا خالتي.”

وضعت يدها على كتفه، وربتت عليه بحنان، ثم أشارت برأسها:

“يلا… ادخلها.”

أومأ موسى بخفة، ثم تحرّك نحو الغرفة المقصودة، توقف أمام الباب لحظة، زفر أنفاسه، ثم طرق طرقًا خفيفًا، كأنه يخشى أن يُفزع وردة.

وصله صوتها من الداخل، ناعمًا ومترددًا:

“ادخل.”

ولج بخطوة بطيئة… وفي اللحظة التي التفتت فيها إليه، كانت تقف هناك، في منتصف الغرفة، بفستانها الزهري الناعم، تشبه نسمة آخر النهار، تفتح ذراعيها للضوء بهدوء.

نظرت إليه بدهشة ناعمة، ورددت بصوت أقرب للهمس:

“موسى!”

أما هو… فتجمّد.

كأن الزمن توقف في عينيه.

طالعها بذهول، وعيناه تلتهمانها من جديد كأنهما لا تعرفان الاكتفاء، ثم وضع يده على صدره بخفة، وهو يقول بصوت خافت، أشبه باعتراف:

“يا وجع قلبك يا موسى…”

ضحكت فيروز، ابتسامة فيها خجل وفرح ودهشة، بينما هو أضاف وقد خطا نحوها بحذر، كأنّه يقترب من المعجزة:

“هو أنا… هقع في حبك كام مرة؟”

أمسك موسى بيدها برفق، ودار بها في حركة ناعمة، سلسة كأنها رقصة سرّية لا يراها أحد سواهما.

نظر إليها بعينٍ فيها لعب وحب، وقال بعبثٍ محبّب:

“إيه الجمال… والحلاوة… والشياكة والكياتة دي كلها؟ إزاي يبقى في حد واخد كل ده لوحده؟”

ضحكت فيروز، ضحكة خفيفة خرجت منها دون إذن، فيها حياء لم يُفقدها مرحها، ثم نظرت إليه بعينين نصف مغمضتين وقالت بمودة:

“وإزاي يبقى في حد بشياكتك وحلاوتك دي؟”

نظر إلى نفسه للحظة، وكأنه يتأمل قميصه الأبيض وستراته السوداء بعين ساخرة، ثم رفع حاجبيه وقال:

“بجد… حلو؟”

اقتربت منه، ورفعت يديها تنفض على كتفيه بخفة كأنها تمسح أثر قلقٍ لا تراه، ثم قالت بنبرة خفيفة فيها إعجاب صادق:

“قمرين…”

ابتسم وهو ينظر في عينيها مباشرة، ثم قال بنبرة أكثر رقة:

“والله ما في قمر هنا غيرك… جايز أنا منور بسبب نورك.”

صمتت فيروز، لكن عينيها ظلّتا معقودتين على وجهه، كأن الزمن في هذه اللحظة قرر أن يتوقف احترامًا لذلك التبادل الصامت.

لم يكن صمتًا عادياً… بل كان مشبعًا، ممتلئًا، كأن كلّ نظرة فيه تحمل عشرات الكلمات الدافئة، وكلّ نفس يُقال فيه ما تعجز اللغة عن وصفه.

فالوقت نفسه بدا أبطأ… الهواء أخفّ، والضوء أهدأ، والقلوب أكثر ارتعاشًا.

لكن _وكأن العالم قرر أن يعبث بتلك اللحظة_ ارتفعت أصوات الأبواق في الأسفل، تمزّق الصمت كما تمزّق قطرة مطر صفحة ماء ساكن، تلاها طرق خفيف على الباب، وصوت سامي وهو يصيح بنبرة تمثّل الحنق وتخفي البسمة:

“يلا يا عصافير الحب… مش وقت محن!”

ضحك موسى، وضحكت هي، كأن العالم عاد يدور من جديد بعد وقفته القصيرة، ثم استدار نحوها، رفع ذراعه ، ووضعت هي ذراعها بها، وقال بصوت محمّل بحلم قديم يوشك أن يتحقق:

“يلا يا قلبي… عقبال ما آخدك على قاعة فرحنا، يا رب.”

ردّت همسًا دون تفكير:

“يا رب.”

رمقها بنظرة جانبية، ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه، وقال بمرح:

“واضح إن أحدهم أرهقه الانتظار.”

ردّت وهي تسير بجانبه:

“أوي… مش مصدقة إمتى بقى نعمل فرحنا ونروح بيتنا.”

“هانت خلاص… كلها كام يوم يا قلبي، ونفرح ببعض، والدنيا كلها تفرح بينا.”

وفي ختام جملته، أمسك بيدها ورفعها إلى شفتيه، يقبّلها بخفة، بطمأنينة، بامتنان، كأنه يوقّع وعدًا أخيرًا للعمر الآتي.

خرجا معًا من الغرفة، ثم ترجلا من على السلم نحو الأسفل، حيث كان الجمع ينتظرهم؛ ضجيج عائلي دافئ، مزاح، أصوات متقاطعة، وضحكات متناثرة في الهواء.

السيارات اصطفت بطول الشارع كصف فرحٍ مصغّر، أكثر من عشر مركبات، كلها تنتظر لحظة الانطلاق.

بدأ الجميع بالصعود إلى السيارات… الأمهات والبنات، الشباب والأطفال، الكبار الذين يلوّحون بفرح، والصغار الذين لا يدركون ما يحدث لكنهم يضحكون.

أما كارم، فقد ركب على دراجته النارية وخلفه، بينما محسن استقل دراجته الجديدة وخلفه حسين.

لحظات فقط، ومع صوت المحركات المتعاقبة، انطلقت القافلة، من نفس المكان… نحو نفس الوجهة… لكن في قلب موسى، كانت الرحلة نحو شيء أعمق بكثير: نحو بداية، نحو أمنية، نحو حلم.

_________________

تجمّع الجميع في بهو الشركة…

التي بالمناسبة كانت شقة بسيطة لكن تحوّلت لشركة تليق بالحلم، واسعة بالقدر الكافي، مهيّأة بعناية، تفوح منها رائحة البدايات الممزوجة بأثر الجهد الطويل.

الجدران مدهونة بلون هادئ، والمكاتب مُرتبة، الشعار المميز “MF” يعلو الجدار الرئيسي بثقة، وكأن الحلم قد أخذ هيئة وشكلاً… وأصبح قابلاً للمس.

تجمّع أفراد العائلة، الأصدقاء، وحتى عائلات بعض الأصدقاء الذين حضروا من باب المحبة الخالصة.

وقف الجميع ينتظرون…

العين تتجه إلى المنصة الصغيرة التي أُعدّت في ركن البهو، والقلوب تنبض مع كل دقيقة تأخّر فيها موسى عن الصعود.

وأخيرًا…صعد.

تصفيق حاد اندلع دون أن يُطلب، هتافات حماسية، وصفير صاخب من محسن وكارم، كعادة الصديقين في كل المناسبات.

وقف موسى في المنتصف، وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة حيوية، لكن عينيه كانتا تبرقان بشيء أعمق… رهبة اللحظة، وعظمة أن ترى الناس يُصدّقونك وأنت تقف في المكان الذي كنتَ تحلم به.

هدأ التصفيق تدريجيًا، لكن أنفاسه لم تهدأ.

أخرج نفسًا عميقًا، كأنه يفرغ ما تراكم في صدره، ثم أمسك الميكروفون، وقال بصوته العذب الذي ارتعش قليلًا:

“أنا الحقيقة بقالي يومين بحضّر للكلمتين دول… بس زي ما توقعت… نسيت كل حاجة، فهارتجل، واعذروني لو لخبطت شوية.”

ضحكة خفيفة خرجت من بعض الحضور، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه.

أغمض هو عينيه للحظة، كأنّه يعود للداخل… ثم قال بصوت هادئ، مغموس بالامتنان:

“أولاً، وقبل أي حاجة… حابب أشكر كل حد وقف جنبي، كل حد شجعني، حتى لو بكلمة بسيطة، أو حتى نظرة قالتلي: كمّل، عايز أشكر أهلي… واحد واحد، من أول جدي، لحد أصغر فرد في العيلة… ريم بنت كريم وفريدة، اللي عمرها  ٣شهور بالمناسبة.”

ضحكات خافتة اندلعت، فيما تابع بنفس النبرة، بينما عيناه تتجولان على الوجوه واحد تلو الاخر، والعبرات تلمع فيها:

“عايز أشكر بابا وأمي… وخالو طبعاً، وتوأم الروح… دلال، عايز أقولكم، إن كلكم فرقتم معايا… كلكم كنتوا سند بجد.”

توقّف لحظة، وعينيه تمسحان الوجوه بحنوّ عميق، ثم تابع بنبرة أكثر دفئًا:

“وطبعًا… حابب أشكر صحابي، اللي هما كمان شركائي.. سامي، كارم، حسن وحسين ومحسن… أنتم مش بس كنتوا ضهري… أنتم كنتوا سبب إني أؤمن إن الحلم مش بعيد، ومهما قلت… عمري ما هوفيكم حقكم.”

رفع عينيه نحوهم، فبادلوه نظرة حملت من الفخر ما لا تحمله كلمات.

توقّف عن الكلام لثانية، تنفّس بهدوء… ثم حرّك عينيه يبحث عنها وسط الوجوه، وما إن وقعت عيناه على وجهها، حتى تغيّرت نبرته.

هدأت أكثر، وانخفض صوته قليلًا، لكنه صار أصدق مما سبق، كأن كل كلمة تخرج من عمقه هو، لا من فمه..

ابتسم وهو ينظر إلى فيروز، التي كانت تراقبه بعينين لامعتين، مزيج من الحب والفخر والدموع التي خذلت جفونها، ثم قال بصوتٍ خافت لكنه وصل للجميع:

“وفيه شكر خاص… لحد مختلف، حد… يعتبر السبب في كل ده أصلاً.”

توقف لحظة، ثم نطق باسمها كأنه ينطقه لأول مرة:

“فيروز.”

لحظة صمتٍ خفيفة مرّت، اتجهت فيها كل الأنظار نحوها، بينما انحنت هي قليلًا، وكأنها تختبئ من أعين الناس، لكنها لم تستطع أن تُخفي تلك الابتسامة المرتبكة التي غطّاها الدمع.

أكمل موسى، وصوته يختنق بين المزاح والصدق:

“البنت اللي عملت كل ده علشانها، بنت الحيران اللي… حبتها، لأ… عشقتها من غير ما أحس، اللي خلتني أقف قدام نفسي وأسأل: أنا كده ينفع أكون ليها؟ فقررت أشتغل… وأنجح… وأبني نفسي… علشان أستحقها، والحمد لله… اتجوزتها.”

انفجرت القاعة بالضحك والتصفيق، بين صيحات خفيفة من هنا وهناك، أما فيروز، فكانت تضحك وسط دموعها، ممسكة بطرف حجابها تمسح بها عينيها، والقلب لا يسعه شيء من كثرة الحب.

رمقها موسى بنظرة عميقة، طويلة، ثم قال بصوتٍ أكثر صدقًا وامتنانًا:

“شكراً بجد يا فيروز… وجودك في حياتي سبب في كل حاجة حلوة حصلت… ولسه هتحصل.”

ظلّ يُبادلها النظرات، حتى خفض عينيه للحظة، تنهد بعُمق، كأنّه يُفرغ كل ما في صدره، ثم رفع رأسه من جديد وقال:

“أنا الحقيقة… طول عمري بحلم، ومؤمن بمقولة: طالما حلمت… حقق، ومش ناوي أبطّل أحلم، بس كمان… عارف إني لوحدي مش هعرف، علشان كده أنا محتاج دايمًا دعوات أهلي… ودعم صحابي، أخواتي اللي ما أمي ماخلفتهمش.”

التفت موسى جهة الشباب الذين عمل على تدريبهم، أولئك الذين لم يكونوا يوماً مجرد موظفين، بل كانوا البذرة الأولى لحلمٍ آمن به، وسعى إليه معهم خطوة بخطوة.

نظر إليهم بعينٍ امتلأت فخرًا وامتنانًا، ثم قال بصوتٍ هادئ، يحمل في نبراته دفءَ العائلة وحسم القائد:

“وإنتوا كمان… بقينا عيلة، وإحنا العيلة اللي هتبني الحلم ده طوبة طوبة، مش لموسى بس… لنا كلنا.”

سكت لحظة، ثم أضاف بلمحة من المزاح الصادق:

“بدأنا من تحت الصفر، ودلوقتي… وصلنا للصفر، وإن شاء الله… نعدّيه.”

تعالت الضحكات بين الحضور، ضحكات فيها دفء التجربة ومذاق البداية، فيها خفة الدم التي لا تُشترى، وضحك القلب بعد مشقّة طويلة.

أما موسى فرفع يده كأنّه يعلن قرارًا رسميًّا:

“فـ… هناخد أسبوع إجازة نرتّب فيه الورق، نراجع اللي عملناه، ونرجع… بكل قوة.”

توقف لبرهةٍ ثم أردف بنبرة خفيفة أقرب للمرح:

“أو يعني… أنتم اللي هترجعوا، أنا بقا… هابقى عريس جديد، وفرحي أخر الأسبوع، فمغفور لي الغياب شوية.”

تصاعدت الضحكات وخاصة جهة الشباب، بينما أضاف موسى وهو يرمقهم بتحذير مصطنع:

“وطبعاً… مش محتاج أعزمكم، كلكم هتنوروني، ولو حد ماجاش… هعرف أوصله.”

صفق الجميع، وارتفعت الزغاريد من إحدى نساء العائلة، ثم علت هتافات الشباب:

“بنحبك يالا!”

“ألف مبروك يا عريس!”

“إحنا دايمًا في ضهرك يابرنس!”

وفي تلك اللحظة، شعر موسى بشيءٍ يدفأ صدره، إحساسٌ عميق بأن الحلم لم يكن شركةً فقط، ولا مجرّد فكرة… بل كان بيتًا… بيتاً وعائلة جديدة.

_________________

كتابة/ أمل بشر.

فصل دلع الدلع يعني، أتمنى يبقى عجبكم، وحضّروا نفسكم علشان عندنا فرح الفصل الجاي🙈😂.

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق