رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الأربعون
الفصل الأربعون (صفّارة لا تُبشّر بالخير)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
والدعاء لإخواتنا في الثانوية العامة.
نبدأ بسم الله…
________
–
صَديقُكَ مَن يُهديكَ عَيبَكَ ناصِحًا
وَيرجُو لَكَ الخَيرَ الَّذي لا تَراهُ
”
الإمام الشافعي
”
_____________
تقدم المحامي بخطواتٍ واثقة، تحت أعين القاعة المشدوهة، وتحديدًا تحت عينَي عاصم، الذي راح يلاحقه بنظرات متوجسة، كمن يرى العاصفة تقترب، ولا يملك مأوى.
بهدوءٍ محسوب، سلّم المحامي قطعة صغيرة إلى المختص الفني المسؤول عن العرض،
ثم تراجع خطوة للخلف وقال بثبات:
“هذه فلاشة تحتوي على تسجيلات كاميرا المراقبة داخل معرض الإلكترونيات… وقت وقوع الحادثة تحديدًا.”
صمت لحظة، ثم أضاف:
“وهي تُظهر بوضوحٍ شديد، ما جرى هناك لحظة بلحظة.”
وما إن أنهى جملته، حتى بدا كأن القاعة قد استنشقت صدمةً واحدة، في لحظة واحدة… انقلبت الأدوار.
تجمّدت ملامح عاصم، وظهر عليه التوتر دون مواربة، تحركت كفه بلا وعي، ليمسح العرق على جبينه، جفّت الدماء من وجهه، وانسحب لونه في صمتٍ مفضوح، ثم استدار ببطء ينظر صوب سامي.
وهناك…
وجد سامي جالسًا في مكانه، يربت برفق على كف ليلى، ثم رفع نظره والتقت أعينهما.
ابتسم سامي له….
ابتسامة هادئة، ابتسامة من اعتاد أن يخوض الحروب… ويخرج منها منتصرًا.
لحظتها فقط…
فهم عاصم أن اللعبة التي ظنها في قبضته، بدأت تتفلت، وأن الحقيقة تملك صوتاً….
وصوتها هذه المرة… سيُعرض على الشاشة، أمام الجميع.
FLASHBACK
وقف سامي برفقة كلٍّ من موسى وبلال في غرفة المراقبة الخاصة بالمعرض، وأمامهم شاشات عديدة تراجع تسجيلات كاميرات يوم أمس، كانت أعينهم مركزة على إحدى الشاشات التي توقفت عند لقطة محددة، حيث يظهر يزيد والأولاد يتناولون قطع الكيك من يد شخص مجهول، لكن لسوء الحظ، لم يكن وجهه ظاهرًا بسبب انحنائه والتفاف الناس من حوله؛ كل ما يظهر هو لون ملابسه فقط.
مسح سامي وجهه بضيق وهو يتمتم بانزعاج:
“مش معقول مفيش كاميرا جايبة وشه؟”
ردّ بلال بنبرة رتيبة:
“زي ما أنت شايف، دي الكاميرا الوحيدة اللي جابت اللقطة، باقي الكاميرات ماجابتش حاجة.”
زفر سامي بقوة، ووضع يده على ذقنه وهو يتابع الشاشة بتركيز، في حين كان موسى يراجع تسجيلًا آخر على شاشة جانبية، وفجأة اتسعت عيناه وصاح بحماس:
“لقيته؟”
التفت إليه الجميع ووجدوه قد أوقف الفيديو عند مشهد معيّن، وأشار نحو الشاشة قائلاً: “بصوا كده جنب الصناديق دي… الحِلو اللي ماسك الكاميرا وبيصوّر… مين ده يا سيمو؟”
اشتعلت عينا سامي بالغضب، وعضّ على أسنانه وهو يقول بحدة:
“عاصم… عاصم الكلب.”
استقام موسى واقفًا وقال بتحليل هادئ:
“هو اللي ادّى العيال الكيك يا صاحبي، ركز كده هتلاقيه لابس نفس القميص والبنطلون، أراهنك لو ماكانش هو اللي مخطط لكل حاجة… وأكبر دليل إنه واقف دلوقتي بيصوّر ابنه وهو مغمى عليه في حضن أمه بدل مايروح يساعده.”
ظل سامي صامتًا، يطالع الشاشة بنظرات مشتعلة، قبل أن يقطع بلال الصمت بتساؤل مشوش:
“بس ليه؟ ليه ممكن يعمل كده؟”
جاءه الرد من سامي بنبرة جامدة دون أن يزيح عينيه عن الشاشة:
“علشان ياخد حضانة يزيد… عايز يستخدم الصور ضدنا النهاردة في المحكمة.”
بدأ بلال في استيعاب المشهد تدريجيًا، رغم غرابته وصعوبة تصديقه، فكيف لأب أن يخطط لشيء كهذا ضد ابنه؟ لكن أفكاره قطعتها نبرة سامي الحاسمة، حين التفت إليه وقال بجدية:
“أنا عايز اللقطات دي يا بلال… كلها.”
Back
“كما رأيت سيادة القاضي، في المقطع الأول يظهر شخص مجهول يقدّم للأطفال قطع الحلوى، لكن لسوء الحظ، وجهه لم يظهر بسبب ازدحام المكان.”
كانت تلك كلمات
محامي الدفاع التي أطلقها بنبرة واثقة ووجهها للقاضي،
ثم التفت بنظره صوب عاصم وأضاف، بنفس الثبات الواثق:
“أما في المقطع الثاني، فيُرى السيد عاصم ممسكًا بهاتفه الجوال، ويقوم بتصوير شيء أمامه، وإذا لاحظت سيدي، فإنه يوجه الكاميرا تحديدًا نحو الزاوية التي تقف فيها مدام ليلى برفقة ابنها، والأهم من ذلك… تطابق لون ملابسه تمامًا مع ملابس الشخص الذي ظهر في المقطع الأول وهو يسلّم الأطفال قطع الحلوى.”
بدا وكأن القاعة كلها انعقدت أنفاسها، قبل أن ينفجر عاصم من مكانه فاقدًا أعصابه، يصرخ بانفعال يفضح ارتباكه:
“كدب! الفيديو ده مزيف! مش حقيقي… مش أنا اللي في الفيديو! أكيد هما مفبركينه!”
ارتفع صوته أكثر من اللازم، فهوت مطرقة القاضي على الطاولة بقوة وهو يقول بحزم: “الرجاء التزام الصمت!”
أسرع محامي عاصم نحوه، أمسكه من ذراعه محاولًا تهدئته وهو يجلسه على مقعده، فيما بقي عاصم يرسل نظراته الغاضبة المليئة بالشرر نحو سامي… الذي لم يبادله سوى بابتسامة هادئة، ثابتة، تحمل انتصارًا صامتًا لا يحتاج إلى كلمات.
عاد الهدوء إلى القاعة، فاغتنم محامي الدفاع اللحظة ليكمل قائلاً بثقة:
“الأمور واضحة، سيدي القاضي… المقاطع ليست مزيفة كما يدّعي المدعي، ويمكنكم التأكد من ذلك بفحصها، رغم أن وضوحها لا يدع مجالًا للشك.”
لم يصمت محامي عاصم، وارتفع صوته من جديد مطالبًا:
“أطالب بفحص تلك المقاطع تقنيًا!”
رفع القاضي عينيه وحدّق فيه للحظات، ثم قال بحسم دون تردد:
“طلب مرفوض.”
التفت إلى محامي الدفاع وأشار له قائلاً:
“تفضل، أكمل.”
أومأ المحامي للقاضي بخفوت ثم تقدم نحو الأمام بخطوات واثقة، ورفع نبرة صوته بثبات وهو يقول:
“دعني أوضح نقطة بسيطة قبل أن أُكمل، سيادة القاضي… هذه المقاطع ليست مزيفة، ولا حتى معدّلة، فكيف لنا أن نعلم مسبقًا نية المدّعي، أو أن نتوقع تفاصيل دقيقة مثل الصور الذي عرضها؟”
التفت إلى عاصم، الذي كان جالسًا يتصبب توترًا وارتباكًا، وأضاف بنبرة لاذعة:
“بل إن محامي المدّعي قال بنفسه منذ قليل إن صديق السيد عاصم هو من قام بالتصوير… فهل نملك نحن القدرة على استباق الأحداث؟ هل نحن من خطط لكل هذا؟ بالطبع لا، كل ما حدث اكتشفناه معكم يا سيادة القاضي، لحظة بلحظة.”
لم يتحمّل عاصم الاستفزاز، وهمّ بالرد بكلمات غاضبة، لكنّ محاميه جذبه سريعًا وأجلسه، يحاول منعه من أي تصرف طائش.
في المقابل، استغل محامي الدفاع اللحظة وأكمل حديثه موجّهًا كلامه إلى القاضي:
“سيدي القاضي، الصورة واضحة أمامنا… السيد عاصم هو من دبّر هذا كله، تابع المدّعى عليها، ورأى فرصة مناسبة حين رأى الطفل وسط مجموعة أطفال، فسلّمه قطعة الحلوى التي يعلم تمامًا مدى خطورتها عليه.”
تنحنح قليلاً، ثم أردف بنبرة امتزجت فيها الجدية بالغضب:
“وللعلم، حالة الطفل يومها كانت حرجة… خطيرة، ولولا تدخل سريع من أحد الموجودين هناك لكان الوضع انتهى بكارثة… الحمد لله تم إنقاذه.”
هنا، اتسعت عينا عاصم برعب حقيقي… وكأنّه لم يكن يعلم بمدى خطورة مافعله على ابنه، التفت نحو ليلى، ليجدها تحدّق فيه… بغضبٍ وقهر، لا يشبه أي غضب رأته عيناه من قبل.
فيما أكمل المحامي حديثه دون أن يلتفت إليه:
“نعود للوقائع يا سيادة القاضي، بعد أن أعطى السيد عاصم قطعة الحلوى للطفل، انسحب إلى زاوية بعيدة غير مرئية من الكاميرات الأخرى… فقط تلك الكاميرا التقطت كل شيء… وقف يتابع سقوط ابنه واختناقه، يرى والدته تهرع نحوه، الناس يتجمّعون، والطفل في خطر… ومع ذلك، لم يتحرك، لم يصرخ، لم يركض، لم يحاول انقاذه، كل ما فعله… أنه كان يسجّل بهدوء، كأن الأمر لا يعنيه.”
خفض صوته قليلاً، وأضاف بتأثر حقيقي:
“كل هذا فقط ليجمع صورًا يعرضها أمامكم اليوم… ليُثبت أن والدة الطفل لا تستحق الحضانة… أناشد عدالتكم يا سيدي القاضي، هذه ليست قضية حضانة فقط… إنها قضية ضمير، ومصير طفل… أرجو أن تحكموا بالعدل.”
سادت القاعة لحظة صمت ثقيل، لا يُسمع فيها إلا صوت الأنفاس المتقطعة… وحقيقتها التي باتت واضحة لا يمكن إنكارها.
وبعد ثوانٍ من الصمت، ساد فيها الترقب والقلق، صدح صوت القاضي بنبرة رسمية حاسمة:
“الحكم بعد المداولة.”
نزلت كلماته كجرس ثقيل يُعلن انتهاء فصلٍ مرهقٍ من التوتر، ليبدأ فصل جديد… فصل الحسم.
تبادل الحضور النظرات، واختلطت المشاعر بين وجوه تنتظر الإنصاف، وأخرى تُخفي الخوف خلف قناعٍ من الغضب.
أما ليلى، فشدّت يدها أكثر داخل يد سامي، تُحاول أن تستمدّ من دفئها قليلاً من السكينة، ومن نظراته كثيرًا من الطمأنينة.
خرج القاضي من القاعة، تاركًا وراءه الصمت يعلو فوق كل صوت، معلنًا أن العدالة توشك أن تُقال… لكن بعد أن تأخذ وقتها، تمامًا كما تستحق.
_________________
خرجت برفقته من قاعة المحكمة، لا تزال متشبثة بيده كمن وجد ملاذه الأخير بعد عاصفة طويلة، عيناها متشبعتان بامتنانٍ لا يُوصف، تلاحق ملامحه بنظرات صامتة لكنها ناطقة بكل الامتنان والحب، بينما هو يبادلها ابتسامة دافئة، مطمئنة، تشبه وعدًا لا يُكسر.
لكن سكون اللحظة انكسر على صوت غاضب متوتر، خرج من خلفهم:
“لو فاكرة إنك بفوزك في القضية تبقي كسبتِ والموضوع خلص تبقي غلطانة، أنا هاخد منك اللي أنا عايزه، ومحدش هيمنعني، لا قانون ولا أنتَ ولا الأستاذ بتاعك!”
كان عاصم يهدر بالكلمات، وجهه محمر، وعيناه تتقدان بالغضب، يمشي بخطوات سريعة متوعدة نحوهما.
وقبل أن ينهي جملته، تقدمت ليلى منه بخطوة واحدة، ثم صفعت وجهه صفعة قوية دوت في الممر كأنها صفعة عمر بأكمله، صفعة لا تحمل فقط الغضب، بل تحمل وجعها، وقهرها، وانكسارات سنوات، وخوفها على طفلها الذي كان على شفير الموت بسببه.
تجمّد الجميع لثوانٍ، حتى سامي نفسه وقف مذهولًا من قوة ردّ فعلها… لكن سرعان ما ارتسمت على وجهه ابتسامة فخر، ممزوجة بإعجاب واضح، ليس فقط بها، بل بشجاعتها، وبكل ما فيها.
أما عاصم، فوضع يده على خده يتحسس موضع الضربة، والنار تتقد في عينيه، فصرخ وهو يرفع يده نحوها:
“إزاي تـــ…”
لكن قبل أن تكتمل الجملة، وقبل أن تلمس يده الهواء القريب من وجهها، كانت يد سامي قد أمسكت بذراعه بقوة.
تحرّك سامي ببطء، بثقة تامة، ووقف بين ليلى وعاصم كأنه جدار لا يمكن اختراقه، ثم شدّ على يد عاصم بقوة وقال بصوت هادئ لكنه جامد كالحديد:
“إيدك دي ما تترفعش على مراتي… وصوتك ما يعلاش عليها.”
قالها وهو يلوّي ذراعه حتى صرخ عاصم من الألم، ومع محاولة البعض التدخل لفض الاشتباك، كان سامي قد أفلت يده، لكن فقط ليوجه له لكمة مباشرة في وجهه، جعلت رأسه يرتد بقوة، لم يكتفِ، بل عاجله بلكمة ثانية استقرت في بطنه، فارتطم عاصم بالجدار خلفه، قبل أن ينهار أرضًا.
شهقت ليلى بذعر، بينما أسرع محامي عاصم وبعض الحاضرين نحوه، أما سامي، فوقف فوقه، يرمقه بنظرات قاسية، وصاح:
“أنا ساكتلك من زمان أوي… ساكت، وكنت مستني اللحظة اللي تقع فيها تحت إيدي علشان أخلص حقها منك… وحق الواد الغلبان اللي كان هيموت بسببك، أنتَ مش أب… ولا عمرك كنت تستحق تبقى أب.. اللي زيك ماينفعش يتجوز، ولا يكون عيلة، اللي زيك عار على الرجالة… علشان مفيش راجل بيمد إيده على واحدة ست، ومفيش أب يتسبب في أذية ابنه علشان بس يفوز على طليقته.”
سادت لحظة صمت ثقيلة، توزعت فيها الأنفاس بين الخوف والدهشة، قبل أن يضيف سامي بجمودٍ حمل كل ما في قلبه من قرف واحتقار:
“يحرق كل اللي من صنفك يا… خسارة أقول يا راجل.”
نظر له بنظرة أخيرة، حادة، لا تخلو من الاحتقار، ثم التفت نحو ليلى، وقد تبدلت ملامحه بالكامل… من صلابة الصخرة إلى دفء الأمان.
مدّ يده نحوها، أمسك بكفها برفق، ثم أشار برأسه للباب وهو يقول بهدوء:
“يلا بينا.”
لم تحتج إلى كلمات… فقط عيناها أجابت، وفيهما امتنان ورضا، سارت بجانبه، كتفها يلامس كتفه، وهي تعرف جيدًا أن هذا الرجل… هو الأمان الذي لم تعرفه من قبل.
خرج الاثنان من المكان، وخلفهم كان عاصم ينهض بتثاقل، يراقبهما وهما يبتعدان، بنظرات مشتعلة لا تملؤها الغيرة… بل الكره، الحقد، الاحتراق الداخلي.
لم يكن يرى سوى صورتها وهي تضحك في وجه سامي، تبتسم له، تسير إلى جواره بخفة وسكينة.
كانت تلك الصور تُكسر داخله شيئًا فشيئًا… ليس حبًا، بل
كبرياءًا
.
فهو، الذي ظن أن خروجه من حياتها سيكون نهايتها، لم يكن يدري أن حياتها
بدأت من لحظة خسارتها له.
كل لحظة سعادة تعيشها…
تحرقه
.
تحرق رجولته الواهية، تكشف ضآلته، تفضح كم كان صغيرًا في عين امرأة احتوته يومًا بكاملها.
ولذلك، لم يكن يريد “يزيد” لأنه
يحبه
بقدر ماكان يريده ليحرمها منه، أراد أن يعاقبها… أراد أن يقول لها:
إن لم تكوني لي، فلن تنعمي بشيء.
وهنا يظهر الفارق الحقيقي بينه وبين داوّد… وبين يحيى…
داوّد
، رغم قسوته، أراد أن يربي رجلًا، أراد أن يُعلّم ابنه كيف يتحمل المسؤولية، كيف ينضج، ربما أخطأ، ربما كان عنيفًا… لكنه لم يبع يومًا حب ابنه، لم يعرضه للأذى.
أما
يحيى
، كان أنانيًا بطبعه، لا يرى سوى نفسه، لكن أبناءه لم يكونوا أداة انتقام أو وسيلة ضغط، ربما استخدمهم لتعلو مكانته، لكنه أراد أيضاً سعادتهم، لم يقصد يوماً أذيتهم.
لكن
عاصم
… كان شيئًا آخر تمامًا.
رجل لا يرى في الأبوة سوى وسيلة للسيطرة، رأى في “يزيد”
ورقة مساومة
… اختار أن يخاطر بحياة ابنه، ليكسر أمّه، ليهزمها، ليس لشيء… سوى لأن
غروره لا يحتمل أن يراها تعيش بدونه.
ولذلك، إن سألنا عن الأسوأ فيهم جميعًا، فلن يكون هناك مجال للشك…
عاصم
هو الأقسى، والأضعف، والأسوأ.
لأن الرجولة… لا تُقاس بما تملكه، بل بما لا تستطيع التخلي عنه، وهو… تخلّى عن كل شيء، حتى عن ابنه، فقط ليروي جوع غروره.
لكن الثلاث أنواع حولنا ياعزيزي، بل و زِد عليهم أيضاً…
_________________
تقدّم بها بخطوات واثقة نحو سيارة الأجرة التي كان قد طلبها، يرافقه شعور بالرضا، وأثر دافئ من النصر الذي تحقق لتوّه.
فتح لها الباب الخلفي، تأكّد من جلوسها براحة وهدوء، ثم همّ بالدوران ليجلس بجوار السائق، لكن صوت دراجة نارية متوقفة بقوة لفت انتباهه فجأة.
رفع رأسه باستغراب ليرى صاحبها ينزع خوذته ببطء، وما إن ظهر وجهه حتى قطّب سامي حاجبيه وقال بتعجّب:
“إيه اللي جابك يا ابني؟”
كان
كارم
، لا غيره، يقف أمامه ببسمة ماكرة تُنذر بما لا يُطمئن، وقال وهو يخطو إليه:
“جاي أطمن عليكم، وأشوف عملتوا إيه بقا؟”
حدق به سامي للحظات بعين ضيقة وشكٍ واضح، قبل أن يزفر بقوة مرددًا:
“يعني انت جاي من شغلك لحد هنا علشان تطمّن علينا؟ بذمتك؟”
ضحك كارم بسذاجة مصطنعة، ثم رفع عينيه نحو شيء ما خلف سامي وقال:
“بصراحة؟ جاي مخصوص علشانه… هو.”
استدار سامي تلقائيًا ليرى
عاصم
يخرج من قاعة المحكمة، محاطًا بمحاميه، يخطو وهو مكسور النظرات، فاقد للهيبة.
وفي الخلف، جاءه صوت كارم واثقًا:
“هروح أسلّم عليه.”
وقبل أن يتمكن سامي من منعه، كان كارم قد تجاوزه بالفعل، يتقدّم بخطى ثابتة نحو عاصم.
“كارم لا… كارم!!”
صاح سامي، لكن دون جدوى، فكارم لم يُعره انتباهًا، ولم يبطئ.
وحين اقترب من عاصم، لاحظه الأخير وعقد حاجبيه بدهشة:
“إنت؟ بتعمل إيه هنا؟”
لكن لم يمنحه الوقت ليسأل، إذ أمسك كارم برأسه بين يديه، اقترب منه وكأنه سيصافحه، ثم ابتسم له ابتسامة عريضة وقال:
“إيه أخبارك؟”
وتلتها
ضربة مفاجئة بالرأس
في منتصف وجهه وتحديداً أنفه، كسرت توازنه، وتلتها
ركلة قوية بركبته في معدته
، سقط على إثرها عاصم أرضًا يتأوه ويتلوّى من الألم.
ركض محاميه نحوه ليساعده في النهوض، بينما وقف كارم ينظر له من علٍ بابتسامة باردة وقال باستهزاء:
“روح لمامي بقى خليها تعالجك.”
استدار ليغادر، لكنه ما لبث أن توقّف، ثم استدار نحو عاصم مجددًا وقال بصوتٍ عالٍ ليسمعه الجميع:
“صح… اسمي الثلاثي كارم عبد الله شاهين… علشان لو حبيت تعملي محضر، تبقى عارفه، وبالمرة خد ماما معاك… علشان أكيد مش هتعرف تروح لوحدك ياصغنن.”
أطلق كارم ضحكة ساخرة وهو يتوجه نحو دراجته النارية، يصفر بخفة وكأن شيئًا لم يحدث، حتى لمح سامي يقترب منه بملامح غاضبة توشك أن تشتعل.
رفع حينها يديه للأعلى ببرود مصحوب بفخرٍ طفولي وقال:
“لا داعي للتصفيق.”
رمقه سامي بنظرة حنق ورد بعصبية مكتومة:
“ده أنا هصفق على وشّك! إيه الهبل اللي انتَ عملته ده؟!”
أجابه كارم بهدوء وهو يهز كتفيه بلا مبالاة:
“سلمت عليه…”
مرّر سامي كفّه على وجهه في محاولة لاستيعاب جنون صديقه، ثم انفجر يقول بنفاذ صبر:
“انت مجنون يا بني! لو راح عملك محضر دلوقتي؟ هتعمل إيه؟”
ابتسم كارم ابتسامة واسعة وردّ بجملته البسيطة:
“ولا حاجة… هي أول مرة هدخل فيها الحبس؟! وبعدين الحبس للرجالة، علشان كده هو ماينفعش يدخله أصلاً.”
ضحك على كلماته الأخيرة ضحكة ساخرة، بينما ظل سامي يرمقه بنظرات تكاد تفتك به، لكنه زفر أخيرًا وقال بنبرة أكثر جدية:
“ماتقلقش يا صاحبي، مش هيقدر يعمل حاجة، هو خلاص اتحرق… حرّم يقرب لنا، ولو فكّر يكررها، يبقى غبي وبيضحّي بنفسه.”
ساد صمت قصير، ثم أشار كارم برأسه نحو التاكسي وقال بنبرة عملية:
“يلا بقى، روح لمراتك ماتخليهاش تستنى أكتر من كده… وآه، وصلها وتعالى على السيبر.”
رفع سامي حاجبيه بتساؤل:
“سيبر؟ ليه؟”
رد كارم وهو يصعد على دراجته:
“موسى كلمني وأنا جاي وقال أبلغك وكل الشباب، إنه مستنينا في السيبر، عنده موضوع مهم.”
سكت سامي لثوانٍ، وعكست نظراته قلقًا خفيًا، ثم تمتم بدعاء صادق وهو يلتفت نحو التاكسي:
“يا رب، يكون خير.”
_________________
مع مرور الوقت…
تجمّع الأصدقاء الخمسة في “السيبر” كما اتفقوا…
جلس كل من
حسن
و
سامي
على أريكة جانبية، بينما جلس
كارم
فوق قدم
حسين
الممددة على الأريكة المقابلة، وكأن الجدية لا تعرف طريقها إليهما، و
موسى
أمامهم على كرسي خشبي قديم، مائل قليلًا للوراء.
ساد الصمت في الغرفة إلا من شجار جانبي لا ينتهي بين كارم وحسين… صوت خافت لكن متكرر، طفولي ومزعج في آن.
زفر سامي بنفاد صبر، وهو ينظر لهما بضيق وقال بحدة:
“بس بقى أنتَ وهو! كفاية لعب عيال… قوم من على رجليه يا كارم!”
توقّف الشجار لحظة، ثم بادر كارم بالشكوى بصوت مرتفع:
“مش راضي يديني أكل يا سيمو! بقوله اديني نص السندويتش اللي معاك علشان هموت من الجوع، يقولي بيتك قريب روح كل هناك، واعمل حسابي معاك كمان!”
ضحك
موسى
و
حسن
، بينما اكتفى
سامي
بهز رأسه بيأس، ونظر إلى موسى متسائلًا:
“وأنتَ بقى يا ابني، مش ناوي تقولنا مجمّعنا ليه؟ ولا هتخلينا نتحمّل الهبل ده كمان شوية؟ أنا صدعت وقربت أتشلّ”
أجاب موسى بهدوء، وصوته يخلو من المزاح هذه المرة:
“هقول… والله هقول، بس لما محسن يوصل… عايز كلنا نكون موجودين.”
وقبل أن يضيف كلمة أخرى، سُمع صوت خطوات تقترب من الباب، فنظر موسى نحو المدخل وقال:
“أهو… وصل.”
لكن لا أحد منهم توقّع ما رأوه…
تجمّدت نظراتهم حين ظهر
محسن
على عتبة الباب، وجهه محطم، شفته تنزف، كدمات تغطي جانب وجهه وعينيه، وملابسه متسخة ومبعثرة كأنه خرج لتوّه من معركة شرسة.
وقف الأربعة دفعة واحدة، باستثناء
حسين
الذي ارتفع نصفه وهو يحدق بصدمة، وكان
حسن
أول من نطق، بصوت مزيج من الدهشة والقلق:
“إيه اللي عمل فيك كده؟!”
.
.
.
.
.
جلس
محسن
على الأريكة كأنه يحمل فوق جسده ألمًا لا يُروى، وجلس
حسن
إلى جواره، يُطهر له جروحه بعناية وحرص أخوي لا يُخطئه أحد.
كان يحمل علبة إسعافات أولية صغيرة أحضرها
موسى
بسرعة من صيدلية
دلال
، بينما التف الباقون حولهم بوجوه مشدوهة، نظراتهم تُلاحق كل أثر للدم وكل شقٍ في وجهه كأنه نُقش بحكاية خفية.
أما
حسين
، فبقي ممددًا كما هو، يُراقب من طرف عين بينما الأخرى مغلقة، كأنه يقاوم النوم.
مسح
حسن
الدماء المتجمدة على شفة توأمه بتنهيدة حزينة، ثم قال بنبرة تجمع بين الغضب والقلق:
“مش هتقولنا مين عمل فيك كده؟ ولا هتفضل ساكت كده على طول؟”
أجاب
محسن
بصوت جاد، كأنه يخشى أن تنهار جدران كبريائه:
“قلتلكم مش مهم…”
لم يتحمل
موسى
صمته، فهتف بانفعال وهو يُلوّح بيده:
“هو اللي مش مهم يا ابني؟! ده أنت متشلفط، شكلك كأنك اتدهست مش اتضربت بس… انجز وقول حصل إيه!”
أما
سامي
، فقد قال بصوت أكثر هدوءاً، لكنه لم يخلُ من القلق:
“مين اللي عمل فيك كده يا محسن؟ انطق!”
ظل
محسن
صامتًا، يلتفت بينهم بخجل، وعيناه تبحثان عن مأوى بين نظراتهم، حتى توقفت على
كارم
، الذي كان يحدق به بتركيز، ثم قال كمن فكّ شفرة:
“ليكون بسبب البنت اللي كنتَ مصاحبها يالا؟”
اتسعت عينا
محسن
في هلع، وانعقد حاجباه في صدمة، فيما فرك
كارم
شعره بارتباك وهو يقول في نبرة تحمل بعض اللوم لنفسه، بعدما استوعب مافعل:
“باين عليّا كده عكّيت…”
توقفت يد
حسن
التي كانت تطهر الجرح، وببطء وضع ما في يده على الطاولة أمامه، ثم حدّق في وجه شقيقه وقال بصرامة لم يعهدها فيه:
“تاني يا محسن؟!”
اقترب
سامي
خطوة، وصوته هذه المرة لم يكن فيه إلا الحسم:
“قولنا اللي حصل بالضبط يا محسن… وإياك تخبّي عننا أي تفصيلة صغيرة حتى… فاهم؟”
.
.
.
.
.
“والله ماكنت أعرف إنهم إخوات… أساميهم كانت مختلفة…”
رد
موسى
بسرعة وهو يهتف بغضب:
“يعني هما اللي عملوا فيك كده؟”
نكس
محسن
رأسه مرة أخرى، وكأنه يحاول أن يدفن نفسه بين كفيه، ثم اعترف بخزي:
“لا، أخوهم… وولاد عمهم، واحدة فيهم كلمتني وقالتلي تعالى نتقابل في كافيه، ولما رحت لقيتها واقفة هي وأختها، فعرفت إن اتفضحت … جيت أمشي، لقيت أخوهم وولاد عمهم ورايا، وعينك ما تشوف إلا النور بقى.”
انطلقت ضحكات
كارم
، عالية، ساخرة، تهزأ بما حدث وكأنه مشهد من فيلم هزلي، لا كارثة صريحة، لكنّ الضحكة تلك لم تجد صدًى بين الآخرين، فقد ظلّ الأربعة الآخرون يحدقون في
محسن
بملامح ممتلئة بالغضب والخذلان.
كان أول من انفجر هو
سامي
، الذي قال بانفعال يكاد ينفجر من بين شفتيه:
“ده عقاب ربنا ليك على حركاتك الزبالة دي… لسه مش راضي تبطل وساخة؟ مش واحدة المرة دي؟ لأ… اتنين في نفس الوقت؟! أقسم بالله تستاهل اللي جرى لك وأكتر.”
خفض
محسن
عينيه بخجل، تسللت نظراته إلى أخيه
حسن
، متوسلًا شيئًا ما لا يقدر أن يطلبه بصوت… لكن
حسن
لم يكن ذاك الأخ هذه المرة، كان القاضي، وكان السيف.
“حسن!”
همسها محسن، وكأنه يطلب الرحمة، لكن الرد كان قاطعًا، جامدًا:
“ولا كلمة.”
نهض
حسن
من مكانه فجأة، وكأن جسده لم يعد يحتمل الجلوس، فنهض
محسن
خلفه، يحاول اللحاق به، قائلاً بانكسار:
“استنى… بس هافهمك…”
استدار له
حسن
، والغضب في عينيه كان كالجمر:
“تفهمني إيه؟ إنك سافل؟ إنك ماتربتش؟! تفهمني إنك مهما قلتلك ومهما إديتك فرص هتفضل بتعمل اللي بتعمله؟ بتستعبطني يا محسن؟ بتاخدني على قد عقلي؟! كل مرة تقول مش هكررها، وكل مرة تصدمني فيك… أنت مش بتتغير، أنت بتزيد سوء.”
عمّ الصمت للحظات، ثم مسح وجهه بيده وكأنه يحاول أن يهدأ، لكنه ما زال غارقًا في غضبه:
“أنا مش فاهم أنت عايز إيه بالظبط؟ هتستفيد إيه من اللي بتعمله غير شوية ذنوب؟ بتجري ورا متعة رخيصة وناسي حساب الآخرة، ناسي إن كل ده حرام… إنت لو عندك أخت عمرك ما كنت هترضى حد يعمل معاها كده! انطق… هترضى؟!”
كان محسن كالميّت، ساكن، لا يجرؤ حتى أن يتنفس، في حين كان
كارم
يراقب الموقف بنظرات متوترة حتى التفت إليه
حسن
فجأة، وقال بحدة لا تقبل نقاشًا:
“وطبعًا أنتَ كنت عارف يا أستاذ كارم؟”
رفع كارم حاجبيه ببراءة مزعومة، وقال ببساطة لا تلائم الموقف:
“آه… هو كان قايلّي.”
ارتفعت حواجب
حسن
في صدمة أكبر من الأولى، ثم أشار إليه بإصبع مرتجف من القهر:
“وطبعًا ما فكرتش تنصحه؟ ما فكرتش تقوله إن ده غلط؟ سايبه يغرق في الذنب، وخلاص كده؟!”
ردّ
كارم
بنبرةٍ ثابتة، باردة:
“أنتَ مكبّر الموضوع يا حسن… كل الشباب بيصاحبوا دلوقتي، عادي يعني.”
لكن لم يكن حسن في مزاج يسمح بمرور الأعذار السطحية، فكان رده كالسهم:
“الشباب دول حسابهم عند ربنا، فيهم اللي مش لاقي حد ينصحه ويقوله إن ده غلط وحرام، وفيهم اللي عارف الحقيقة كويس… بس عامل عبيط، زيك وزي أخويا كده.”
في تلك اللحظة، احتدت نظرات
كارم
فجأة، ونطق بتحذير واضح وهو يشدد على كلماته:
“بلاش تغلط ياحسن!”
تقدّم حسن بكلماته أكثر، لا ليُهاجم، بل ليُحمِّل الطرف الآخر مسؤوليته:
“غلط إيه؟ هو أنتم أصلاً عارفين الغلط من الصح؟ أنت شايف صاحبك بيغلط، سايبُه، لا وقفته ولا نصحته، وساكت وكأنك بتقول له ‘كمل’.”
سكت لحظة، ثم أردف بجديّة نارية وهو يحدّق في عينيه مباشرة:
“لو أنت شايف إن اللي بيعمله مش حاجة كبيرة، بص في عينيّ كده وقولي: ترضى حد يعمل كده مع أختك؟”
كان السؤال ثقيلًا كالصخرة، أصاب
كارم
في أضعف نقطة، فهدر غاضبًا وهو يشير بيده كأنه يبعد السكين عن قلبه:
“خرج أختي برّه الموضوع يا حسن، ماتخلنيش أتجنّن عليك… أخوك أهو، حاسبه زي ما تحب!”
ابتسم حسن بسخرية موجوعة وقال بمرارة:
“أخويا؟! هو ده أخويا اللي أعرفه؟ لا، ده نسخة مشوهة منه، أخويا اتغيّر ١٨٠ درجة من ساعة ما عرفك… واتحول لواحد تاني ماعرفهوش.”
كانت الكلمة الأخيرة كالقاضية، سقطت في قلب
كارم
فأطفأت نيران الانفعال، وبدّلت نظراته من الغضب إلى الذهول.
نظر إليه بعيون متسعة، كمن سمع ما لم يتوقعه قط، ثم قال بصوت فيه مسحة ألم خفي:
“تقصد… إني أنا اللي غيّرته للأسوأ؟”
“آه.”
جاء ردّ
حسن
صارمًا، دون تردد:
“محسن ماكنش كده أبدًا… كان أغلب واحد فينا، عايش في حاله، ماشي جنب الحيط، مابيضرش ولا بيقرب من حد، بس من ساعة ما دخلت حياته… اتقلب، بقى شخص تاني… واحد أنا مش عارفه، ومش قادر أحتمله.”
ساد صمت ثقيل بعدها…
كان كارم يرمش ببطء، كأن شيئًا في داخله قد كُسر، و
محسن
كان مطأطئ الرأس كمن يجرّ خلفه خطاياه، أما
حسن
، فكان واقفًا بثبات رجل لم يعد يحتمل الكتمان.
اقترب
موسى
من حسن في محاولةٍ لامتصاص التوتر وقال بهدوءٍ حذر:
“ماينفعش اللي بتقوله ده يا حسن…”
لم يدعه كارم يتدخل، فرفع يده مقاطعًا وهو يقول بجمود:
“سيبه يا موسى… سيبه يطلع اللي في قلبه، واضح إن الأستاذ شايل مني من زمان… كمل، يا شيخنا، كمل قول، عملت في أخوك إيه كمان؟”
تحرّك
سامي
نحو كارم، وقال بنبرة صوت تحاول الإصلاح:
“بس يا كارم… حسن أكيد مايقصدش كل اللي قاله.”
نظر له كترم نظرة حاسمة، وردّ دون تردد:
“قاصد ياسامي… صاحبك يقصد كل حرف، وعلشان كده… خليني أرد عليه، يمكن يرتاح.”
سادت لحظة صمت، ثم أشار كارم إلى
محسن
الواقف بصمت ودموع خفية، وقال:
“أخوك ده كان غلبان فعلاً… زي ما بتقول، بس كان كمان… عبيط، سهل يستضعفوه، سهل يتكسر، العيال في المدرسة كانت مستعبطاه، بيتريقوا عليه، بيتنمروا عليه، كان متمرمط حرفيًا يا حسن.”
اتسعت الأعين، مندهشة، مشدوهة…
حتى
حسن
، الذي كان منتفضًا منذ لحظات، بدت ملامحه تتغير رويدًا.
بينما أكمل
كارم
بصوت أكثر هدوءًا… لكنه أشد وقعًا:
“أنت كنت في الأزهر، ومش دارى بحاجة من اللي بيحصل له، لما نقلوه عندنا، حسين وقتها كان تعبان، ومحسن هو اللي كان بيروح المدرسة، العيل الجديد الهادي اللي ساكت، اللي مافيش حد بيكلمه، اللي بيقعد آخر دكة… واللي فجأة يلاقي نفسه وسط شلة ولاد قليلين أدب، بيمسحوا كرامته كل يوم… يحدفوا عليه أزايز الميه، يرشوا عليه، يوقعوه في الحوش، يضحكوا عليه، يطردوه من الطابور، وفي الآخر يلاقوه مروح لوحده في الشارع ويكمّلوا عليه!”
طأطأ محسن رأسه وقتها، وانسابت دمعة عنيدة بصمتٍ على وجنته، فيما تابع كارم، وهو يشير إلى صدره:
“ومحسوبك بقا شايف كل ده… يوم ورا يوم، وكل يوم أقول لنفسي: ليه ساكت؟ ليه مش بيرد؟ لحد ما قررت أتكلم معاه… صاحبته، رغم إنه أصغر مني تلات سنين، وبدأت أعلمه، أعلّمه إن اللي يمد إيده عليه يقطعهاله، واللي يهينه يوقفه عند حده، اللي يضحك عليه، يخليه عبرة.”
توقف لحظة ثم قال وهو ينظر في عيني
حسن
مباشرة:
“أنا ما غيّرتش أخوك للأسوأ يا حسن… أنا علمت أخوك ياخد حقه ، علمته يبقى راجل.”
كان وقع الكلمات
كالزلزال
الذي زعزع أعماق الجميع، ارتجت له القلوب قبل الأجساد… لم يكن أحد يتوقّع أن محسن قد عاش كل هذا الألم بصمت، وأن كل ما رأوه عليه من تغيرات لم تكن سوى قشرة تُخفي تحته جروحًا أعمق مما يتخيلون.
سادت لحظة طويلة من
الذهول الصامت
، أعين متبادلة، أنفاس متقطعة، وكلمات لم تجد طريقها للخروج…
حتى استعاد
سامي
نفسه أولًا، فتنفّس بعمق، ثم التفت إلى محسن بنظرة شفقة صادقة وقال بصوت هادئ يكسر الجمود:
“ليه ماقولتلناش يا محسن؟؟”
توجهت الأنظار كلّها صوبه، إلا
حسن
… ظل واقفًا، شاردًا، ظهره منحني قليلًا كأن العبء استقر على كتفيه فجأة، لكنه لم يلتفت… لم يستطع.
ومحسن، من جهته، بدا صغيرًا أمامهم رغم قامته، رفع كفيه يمسح دموعه التي انزلقت دون إذن، ثم قال بصوت مبحوح، فيه نبرة لوم وحنين:
“وقتها… مكنّاش اتعرفنا على بعض لسه.”
قاطعه موسى سريعًا، بنبرة مخنوقة بالغضب:
“ماشي، بس بعدين؟ بعدها ليه ماقولتش؟؟”
لم يجبه محسن، بل ظل يحدّق في الأرض وكأنّه يستدعي كل لحظة صمت عاشها وحده.
وهنا، وقف
حسين
أخيرًا من مكانه، بنبرةٍ أكثر جدية، تحمل شيئًا من العتاب:
“طب وليه ماقولتليش أنا؟ أنا وحسن… كنا فين وقتها؟”
تحركت عينا محسن ببطء، لتمرّ على وجوههم واحدًا تلو الآخر، ثم نطق أخيرًا، بنبرةٍ عالية نسبياً، تحمل مزيجًا من القهر والخذلان:
“كنتوا هتعملوا إيه يعني؟؟ هتروحوا تضربوهم؟؟ ترجعولي كرامتي؟ تعوضوني عن الإهانات اللي شربتها كل يوم؟؟”
تابع محسن كلماته، وصوته يتهدج كمن يحمل أطنانًا من الألم في صدره:
“أنا كنت لوحدي… واتعودت أكون لوحدي… عرفت إن الحل الوحيد إني أواجه ده بنفسي، بطريقتي…
بالطريقة اللي كارم علّمهالي… يا حسن.”
وكانت الجملة الأخيرة كالرصاصة، خرجت من فمه موجهةً مباشرةً نحو أخيه، لتُصيب حسن في صميمه، فتجمّد جسده للحظة، ثم تنبّه وانتفض وكأنّ شيئًا استيقظ فيه للتو، كل العيون تحولت إليه… وكل القلوب كانت تترقب ما سيقول.
ابتلع ريقه في صمت، ثم التفت إلى شقيقه وقد حاول جاهدًا أن يخفي الرجفة في صوته، وقال بنبرة ثابتة _ظاهرًا_ هشة _باطنًا _:
“بس برده طريقتك غلط يا محسن… عمر ما كانت البلطجة حل.”
تقدم محسن خطوة، ونظراته مليئة بالإصرار، وصوته أعلى قليلًا وأكثر حدة:
“لا… كانت حل، ويمكن كانت الحل الوحيد، الزمن ده يا حسن ما بيسمعش للغلبان، الزمن ده بيدوس على اللي ساكت، اللي بيضحك الناس عليه، اللي مش بيعرف ياخد حقه…”
أشار إلى صدره بقوة، وقال:
“الزمن ده عايز اللي يقف على رجله، ويعرف يصد، ويعرف يرد، مش اللي يقعد يعيط ويشتكي، لأنه لو عمل كده… هيتاكل هو وحقه.”
رمقه حسن بنظرة حزينة، تملأها الحسرة، ثم قال بصوت منخفض لكنه واضح:
“إحنا مش عايشين في غابة يا محسن…”
ابتسم محسن بسخرية، ثم قال بمرارة:
“لا… إحنا فعلاً عايشين في غابة يا حسن، بس أنت مش واخد بالك… علشان عمرك ما كنت فريسة.”
وما أقسى أن تشعر بأن من تحبه لا يرى ما عانيته، ولا يفهم حجم المعارك التي خضتها في صمت…
ساد الصمت للحظات، وكأن الهواء نفسه توقف، والأنفاس علقت في الصدور، ثم زفر حسن بقوة، كأنما يحاول طرد كل ما أثقل صدره، وتقدم نحو شقيقه خطوة واحدة، تلك الخطوة كانت أقرب إلى مواجهة قد تأخرت طويلاً، ثم قال بنبرة هادئة لكن حادة:
“أنت مش فاهم حاجة يا محسن، خدت صورة غلط عن الدنيا كلها.”
رفع محسن حاجبيه بسخرية حزينة وردّ بصوت مشحون:
“لا… أنا فاهم كل حاجة يا حسن، يمكن أكتر منك… أنت اللي عايش في قوقعة، شايف الناس كلها طيبين، والدنيا وردي، ومش شايف الوحوش اللي بتاكل فينا وإحنا ساكتين… فاكر إن أنا وكارم بس اللي فينا وحش، مع إن جوه كل واحد فينا حاجة وحشة، بس بتظهر لما يتحط في الزاوية.”
اقترب منه أكثر، ونظر مباشرةً في عينيه، وصوته يهبط تدريجيًا لكن نبرته صارت أثقل:
“أنا شفت الوحش اللي جوا الناس، شفت الضحك اللي وراه شماتة، والكلمة اللي وراها طعنة، والأيد اللي بتمد مش علشان تساعد… علشان تسحبك لتحت، وعرفت إنك لو مكنتش وحش زيهم… هيفترسوك.”
تنفس حسن ببطء، وعيناه لا تزالان معلقتين على وجه شقيقه، وكأن طبقات من الغبار انقشعت فجأة عن صورته، ليظهر أمامه كما هو: إنسانٌ لم يكن سيئًا من البداية، بل جُرح أكثر مما يحتمل، فاضطر أن يُخفي طيبته خلف قناع خشن، ويجعل من صلابته درعًا يقيه السقوط.
رأى فيه وجعًا لم يفهمه يومًا… لا وحشًا كما ظن، بل صبيًّا هزمته الحياة مبكرًا، فاختار أن يهاجم بدلاً من أن يُهاجم.
أغمض عينيه للحظة، ثم حرّك رأسه بالنفي، كأنه يحاول أن يهزّ عن روحه هذا الثقل وقال بصوت منخفض لكنه واضح:
“طريقتكم دي غلط… مهما كانت الحياة وحشة، ماينفعش نتحول لوحوش زيها علشان نعيش فيها.”
لكن صوته لم يلقَ صدى، بل جاءه الرد من خلفه، جامدًا، باردًا، صوت كارم وهو ينبس بصوتٍ جاف ونظرات حادة:
“التعامل مع الناس ماينفعش غير بطريقتنا… بطريقتنا الزبالة يا صاحبي…
ولا بلاها أقولك صاحبي، واضح كده إنك مااعتبرتنيش صاحبك يوم.”
ساد صمت كثيف بعد كلمات كارم…
لكن لم يكن ذلك الصمت المعتاد، بل صمت كأنّه قنبلة بلا صوت، انفجرت في القلوب لا في الأذان.
صمت مشبع بالخذلان، بالتأنيب، باللوم… بل بالوحدة أيضاً، التي زحفت فجأة على قلب كارم.
كل العيون اتجهت نحوه وهو يهمّ بالخروج، لكن سامي تحرّك سريعاً وأمسك بكتفه محاولاً منعه، وخرج صوته مزيج من التوتر والرجاء:
“استنى بس يا كارم… حسن ماقصدش اللي قاله، صدقني، كان متعصب، اتكلم من غير مايفكر.”
التفت كارم ببطء، نظر نحو حسن بعين ممتلئة بخيبة لم يعرف كيف يخفيها، ثم قال بصوت متماسك يخفي وراءه كل شيء:
“صاحبك قصد كل كلمة يا سامي، قصد يقول إني وحش… وإني خليت أخوه وحش زيي، علشان كده أحسن لي أبعد… قبل ما ألوّثكم كلكم.”
ارتبك سامي للحظة، ثم قال محاولاً السيطرة على الوضع:
“بلاش الهبل ده يا كارم، أنت صاحبنا، واحد مننا.”
لكن كارم رفع حاجبه ساخرًا وقال بجمود:
“مش هبل يا سامي… ده كلام صاحبك، وأنا بس بنفذ اللي هو شايفه، طالما شايفني سمّ، يبقى لازم أبعد.”
التفت نحو محسن، وخفّت في عينيه حدة الغضب، لتحل مكانها لمعة صدق وهو يقول:
“وصح يامحسن، أنا ماحكيتش علشان أحرجك، ولا فضحتك علشان أعايرك…
أنا حكيت علشان يفهم، علشان أخوك يعرف الحقيقة اللي عمره ما حاول يشوفها،صدقني… أو ماتصدقنيش، ماجاتش عليك.”
عاد لينظر لسامي، وأبعد يده برفق وقال:
“سيبني بقى ياسامي.”
لكنه لم يلبث أن اصطدم بسامي مرة أخرى، يقف أمامه كحائط صد، بعينين تلمعان بغضبٍ حنون، وهو يقول بصلابة:
“مش هسيبك تمشي وأنت زعلان كده، إحنا هنحل المشكلة سوا… ماحدش هيخرح من هنا زعلان من التاني.”
ألقى كلماته الأخيرة وهو يوزع نظره على الجميع، فيما أزاح كارم نظره عنه وتنهّد، ثم قال بصوت مكسور أكثر من أي مرة:
“روح صلّح ما بينهم… وسيبني أنا.”
“قلتلك مش هسيبك… أنت صاحبي، وأخويا كمان.”
ابتسم كارم بمرارة، وهزّ رأسه، ثم قال بهدوء جارح:
“أنا ماعنديش إخوات يا سامي… ولا ليا صحاب… ارتحت كده؟”
قالها وهو يعبر من أمامه، تاركًا خلفه جمرة لا تنطفئ… لا في قلب سامي وحده، بل في صدورهم جميعًا.
سكن المكان بلحظة، صمتٌ أثقل من الجدران، كأن الزمن نفسه انكمش من الخذلان الذي خيّم…
ولم يكن الأمر قد انتهى…
تحرك محسن بعده، صامتًا، مثقل الرأس والروح، متجاهلاً سامي الذي قال بمحاولة:
“استنى يا محسن…”
لكن الكلمات لم تردعه، فقد خرج دون أن ينظر خلفه، ثم تبعه حسن، لكن لم تكن خطواته مجرد خروج، كانت انسحابًا من كل شيء، من الجدال، من الغضب، من قلبه نفسه.
وبقي الثلاثة… موسى، حسين، وسامي.
ظل سامي واقفًا، عيناه على الأرض، كأنه لا يريد أن يرى أحدًا، أو أن يراه أحد، ثم رفع رأسه وقال بصوت يشبه الصدّ أكثر من الغضب:
“طالما كده؟ خصام بخصام بقى.”
لم ينتظر ردًا، لم يترك فرصة حتى لفهم المقصودد التفت وخرج بدوره، بخطى متوترة تواري شيئًا من الألم خلف نبرة التحدي.
ركض موسى خلفه، وقلبه يرفض هذا التصدّع، هذا التفتت الذي أصابهم فجأة:
“استنى يا سامي!”
لكن سامي لم يلتفت، ولا الخطى توقفت، خرج كما البقية… تاركًا موسى واقفًا وحده، وسط غرفة أصبحت فجأة أوسع من أن تحتمل كل هذا الفراغ.
استدار موسى ببطء، ليجد حسين واقفاً في مكانه، شارداً، وساكناً، نظر إليه لبرهةٍ ثم قال بصوت يكاد يتهدج:
“إحنا لازم نصالحهم على بعض يا حسين
…”
نظر له حسين لثوانٍ، ثم قال، بصوت هادئ ونبرة خفيفة لا تليق أبدًا بثقل اللحظة:
“نروح نتغدى، وبعدين نفكر هنصالحهم إزاي.”
وقف موسى في مكانه مشدوهًا، كأن الزمن توقف للحظة، انعقدا حاجباه، وارتفع صدره بقوة من الغضب المكتوم… طالع صديقه طويلًا، يحاول أن يصدق أن هذه الجملة خرجت منه الآن، وفي هذا التوقيت بالذات.
كأن الدنيا اشتعلت حولهم، وكل ما يفكر فيه حسين… هو الغداء!
رفع موسى يده ببطء، وأشار نحوه بعينين ضاقتا من القهر وقال بصوت محبط، متماسك بصعوبة:
“ماتكلمنيش ياض.”
استدار، وخرج من المكان بخطوات سريعة، كأن بقاءه أكثر سيجعله يفقد صوابه.
وترك حسين واقفًا وحده، بين الجدران الصامتة، لا يعلم هل يذهب خلفه… أم يبحث عن مكان يطلب فيه أكلًا، يخفف به ثقل اليوم
… وأحداثه.
_________________
بعد يومين…
كان الهدوء يسكن المكان، إلا من صوت أنفاسهما المتلاحقة بالحيرة، جلس هو برفقتها في بهو الشقة، بينما والدتها غادرت على عجالة لتبتاع بعض الحاجات.
سألته فيروز بهدوء مائل للقلق:
“يعني ماقدرتش تفتح الموضوع معاهم خالص؟”
هزّ موسى رأسه بالنفي، تنهد بأسى وهو يقول:
“نهائي… بقالي يومين بجرب كل الطرق، شوية مع حسن، شوية مع كارم، وشوية مع محسن وأخوكِ… بس كل واحد فيهم قافل على نفسه، مش راضي يسمع… صوتي راح وأنا بحاول معاهم علشان أصالحهم.”
خفضت فيروز نظرها لثوانٍ قبل أن تقول:
“جربت تجمعهم من غير مايعرفوا؟ يعني تظبط لقاء كده فجأة؟”
ابتسم بمرارة وردّ:
“جربت، بس قفشوني بسهولة، وماحدش فيهم عبّرني وجه… حتى النهاردة في صلاة الجمعة، استنيت نتجمع علشان نتكلم، بس ماحدش جه غير حسن وسامي وحسين، إنما الباقي صلوا في الجامع التاني… باين كده إن المرة دي غير كل مرة.”
ساد بينهما صمت مؤلم، قبل أن يتابع موسى بنبرة خافتة:
“إحنا اتخانقنا كتير قبل كده… بس كنا بنتصالح في نفس اليوم، ماكنّاش بننام من غير مانتصافى…. إنما المرة دي… محدش بيكلم التاني، ومحدش عايز يصالح التاني.”
كانت فيروز تنظر إليه بحزنٍ لا تخفيه، ثم قالت بصوت خافت:
“طب… جرب تكلم سامي تاني؟”
رفع موسى حاجبيه ببطء، ثم زفر وهو يهز رأسه بإنهاكٍ واضح:
“هو بيرد عليا أصلاً؟ كل مرة بكلمه بيقفل في وشي من قبل ما ألحق حتى أقول كلمة، حتى النهاردة حاولت أكلمه بعد الصلاة، لكن ماسمعنيش، اتكلمت كأنّي بكلم حيطان… أخوكِ عنيد بطريقة مش طبيعية.”
سكت لحظة، ثم أردف بنبرة يشوبها ضيقٌ ممزوج بمحبة:
“أنا فاهم هو زعلان ليه… زعلان إنهم اتخانقوا بالشكل ده، وإن محدش فيهم عنده النية يمد إيده للصلح… بس هو كمان غلطان، بدل ما يكون هو العاقل اللي يحاول يصلح بينهم، اختار يبعد ويسيب الكل يتوجع لوحده.”
أومأت فيروز ببطء ثم قالت بلطف:
“أنتَ عارف سامي، بيضايق لما يشوف اللي بيحبهم مضايقين… جرب معاه تاني، وإن شاء الله يساعدك وتصالحوهم على بعض.”
هز موسى رأسه، وتسللت تنهيدة جديدة من صدره، وكأنه يخوض معركة مع قلبه، ثم قال:
“يا رب… يا رب بس يسمعني المرة دي.”
ولم تكد كلماته تنتهي، حتى قاطعهما صوت طرقات خفيفة على باب الشقة، نظرا معًا نحو الباب باستغراب، ثم نهضت فيروز من مكانها وهي تقول بخفة:
“اشرب الشاي لحد ما أشوف مين.”
غادرت فيروز بخطوات خفيفة متعجلة نحو الباب، فيما بقي موسى مكانه، أمسك بكوب الشاي وتناوله ببطء، ثم بدأ يحتسي منه بينما عيناه لا تفارقانها، كأن قلبه يسبقها نحو الباب، مترقبًا هوية الطارق.
فتحت الباب على مهل، وبمجرد أن رأت هوية الطارق، أُضئ وجهها بشيء من الدهشة والفرحة الخفيفة… لم تمر لحظات حتى صدح صوت موسى من الداخل باستفهام عفوي:
“مين يا فيروز؟”
ردّت من عند العتبة بصوت فيه دعابة لم تُخفِها:
“حبيب قلب فيروز.”
نزلت كلماتها عليه كصاعقة…
اتسعت عيناه على الفور، وتوقف الكوب في يده قبل أن يهتز ثم يفلت الشاي من فمه في ردة فعل تلقائية، كاد يختنق، وكاد قلبه يتوقف لثانية، وهو يحدّق نحو الباب في ذهول شبه طفولي.
نهض واقفًا في ارتباك، واتجه ببصره نحوها ليكتشف أن جملتها لم تكن سوى دعابة بريئة، حين رأى يزيد، بين ذراعيها… تحمله وهي تميل بجزعها لترفعه بخفة، بينما يزيد يبتسم تلك الابتسامة المميزة التي تشبه ضوء الشمس حين ينسكب على وجهٍ مألوف.
ابتسم موسى رغمًا عنه، مسح فمه بكف يده وهو يتمتم في نفسه:
“حرام عليكِ ياشيخة… خوفتيني.”
التفتت فيروز وهي تحمل يزيد على ذراعها، لتجد موسى يبتسم مازحًا ويقول بصوتٍ خفيف لا يخلو من المرح:
“إيه ياعم يزيد، من إمتى وإنت حبيب قلبها؟”
ضحكت فيروز بخجل ناعم، وتقدّمت نحوه بخفة خطواتها المعتادة وهي تقول:
“بتغير من الولد ولا إيه يا موسى؟”
أومأ برأسه نصف ابتسامة ونصف جدية في نبرته:
“آه بغير… أنا بغير عليكِ من كل حاجة على فكرة.”
ضحكت من قلبها، ضحكة قصيرة لكنها مشبعة بالخجل ، ثم جلست على الأريكة وهي تحتضن يزيد، كأنها تحتضن بهجة اليوم كله، فيما نظر موسى إليهما للحظات، ثم جلس بجوارهما وكأنه يريد أن يكون جزءًا من هذه اللحظة الصغيرة.
انحنى قليلًا وسأل الصغير بصوتٍ حنون:
“إيه أخبارك يا عم يزيد؟ وبعدين أنت نازل لوحدك ولا إيه؟”
لم يجب يزيد، بل اكتفى بابتسامة خجولة وهو يخبئ وجهه في كتف فيروز، فتدخلت الأخيرة لتوضح بنبرة دافئة:
“هو اتعود ينزل لوحده… حتى بقا أول ما يصحى من النوم ينزل على هنا على طول يصبّح علينا، ولما يلاقيني نايمة بيدخل يصحيني.”
تسللت ابتسامة واسعة إلى وجه موسى وهو يرمق الصغير المتشبث بفيروز، ثم قال بنبرة مرحة متصنعة الغضب:
“بتدخل تصحيها؟ ده أنت خدت عليها أوي بقا!… وبعدين مالك ماسك فيها كده؟ ابعد عن مراتي يالا.”
نظر إليه يزيد بعينين صغيرتين لامعتين، ثم تمسك بفيروز أكثر، كأنه يتحدّاه، وكأن براءته الطفولية فهمت اللعبة وأرادت أن تشارك فيها.
انفجرت فيروز في ضحكة صافية من القلب، ضحكة دافئة تشبه البيت والأمان، وأخذت تقول وهي تضحك:
“هيعاندك، شكله حب الدور.”
اقترب موسى منه متظاهرًا بالتهديد، وانحنى قليلًا وهو يردد بنبرة أكثر تمثيلاً:
“بقولك ابعد عن مراتي يالا.”
لكن قبل أن يلمسه، قفز يزيد بخفة من على قدم فيروز وركض في أنحاء الشقة، يصرخ بضحك طفولي مجلجل، وركض موسى خلفه متعمدًا تأخير خطواته ليمنحه وقتًا للهروب.
وفي الخلف، جلست فيروز تتابعهما بعينين دامعتين من الضحك، وقد امتلأ المكان بصوت ضحكاتها التي امتزجت بضحكات الصغير وصراخه المرح، ليصنعوا معًا سيمفونية فرح لا تحتاج إلى موسيقى، بل يكفي فيها أن تكون القلوب خفيفة، وأن تسكن المحبة في الأركان.
_________________
في الأعلى…
كانت ليلى تجثو على ركبتيها، تجمع ألعاب طفلها الصغير التي نثرها قبل أن يركض للأسفل كعادته في الأيام السابقة، بينما ظلت هي تملأ المكان بنظام وهدوء.
وفي الداخل_داخل الغرفة المجاورة_ كان هو واقفًا يراقبها بصمت من خلف الباب الموارب، يحمل بين يديه علبة أنيقة صغيرة.
تنهد بعمق، ثم زفر بهدوء، وخرج إليها بخطوات مترددة لكنها ثابتة، يحاول أن يُخفي توتره بابتسامة باهتة، والعلبة مخبأة خلف ظهره، ثم ناداها بصوت منخفض لكنه واضح:
“ليلى.”
رفعت رأسها إليه،ونظرت له، فقال وهو يشير بعينيه نحو الأريكة:
“ممكن ثانية؟”
تركت ما في يدها دون تردد، صمتن ومضت نحوه، جلست حيث أشار، ثم لحق بها وجلس بجوارها، صامتًا للحظة… وكأن العالم كله قد توقف في انتظار ما سيقوله.
بهدوءٍ امتزج بنبض قلبٍ يخفق، أخرج العلبة الصغيرة من خلف ظهره وفتحها أمام عينيها، ليظهر “سوار ذهبي” بتصميم بديع، أنيق، بسيط لكنه آسر.
رفعت حاجبيها بدهشةٍ خفيفة، بين الاستغراب والفضول، ووجهها يزداد إشراقًا كلما أطال النظر في عينيها.
تنحنح، كأنه يحاول أن يُخفِي خجله، ثم قال بنبرة دافئة تشي بالصدق أكثر من الكلمات نفسها:
“كنت جايبهولك من قبل جلسة المحكمة الأخيرة… بس يومها، اللي حصل بيني وبين الشباب ضايقني، وماقدرتش أديهولك… فضلت مأجله، وكل شوية أقول لما أروق… بس بعدين فكرت، هو احنا ضمنين بكرة مايحصلش مشاكل؟ فقلت كفاية انتظار.”
سألته وهي تبتسم بخجل:
“بس… إيه المناسبة؟”
رد مبتسمًا، وهو يُخرج السوار من العلبة ويضعها جانبًا:
“مفيش مناسبة، حبيت أجيبلك هدية، يعني من ساعة ما اتجوزنا وأنا ما جبتلكيش حاجة، ففكرت وقررت أجيبلك ده… وعلى فكره ده كمان تصميم خاص، طلبته مخصوص ليكي، علشان يبقى بسيط ورقيق زيك بالضبط… أتمنى يعجبك.”
نظرت إليه بدهشةٍ ممتزجة بعاطفة ناعمة لم تحتج إلى كلمات، فقط أومأت برأسها وبسمة خفيفة تنفر من زوايا فمها، وهمست بصدق:
“حلو أوي…”
ارتسمت سعادة صافية على وجهه، ثم قال:
“طيب يلا البسيه… ولا استني، خليني ألبسهولك أنا.”
بهدوء، وبحركات حانية، أمسك بيدها وثبّت السوار في معصمها، وعيناه لا تفارق وجهها، لم يكن فقط يضع قطعة من الذهب حول يدها، بل كان كمن يحاول تضميد قلبها، أن يحتفل بها، لا بالهدية.
أمسك بكفها بعد أن انتهى، ونظر في عينيها طويلًا، ثم قال بنبرة دافئة، صادقة كهمسة صلاة:
“هو حلو… بس على إيدك بقى أحلى.”
ابتسمت بخجل، وارتجفت أنفاسها للحظة، وفجأة، كأن شيئًا خطر في باله، انتفض قليلًا وقال بحماسٍ منخفض:
“صح، في حاجة كمان…”
“إيه؟”
همست باستغراب وهي تراقب ملامحه بترقب، فاعتدل في جلسته، ووضع كفه الأخرى فوق يدها، تلك اليد التي زينها بسواره ووهبه بعضًا من روحه، ثم قال بهدوءٍ شديد:
“أنا من قبل ما نتجوز، كنت مخطط إننا ما نعملش شهر عسل… كنت عايز نعمل حاجة تانية خالص…”
صمت ثانية كمن يختار كلماته بعناية، وأضاف بصوتٍ خافت لكنه ثقيل بالنية:
“رمضان الجاي إن شاء الله… لو ربنا كتب لنا عمر، نروح نعمل عمرة سوا… إحنا التلاتة، أنا وإنتِ ويزيد.”
اخترقت كلماته قلبها برفقٍ حنون، لا ضجيج فيه، فقط أثر ناعم يشبه النسيم حين يلامس قلبًا متعبًا… لحظة قصيرة لكنها امتلأت بكل ما افتقدته سابقًا من احتواء، ودفء، وأمان.
تألقت عيناها فجأة، والوميض داخلهما لم يكن فقط انعكاس دموع، بل انعكاس قلب امتلأ حبًا في لحظة واحدة… وبدون أن تدرك أو تخطط، خرجت الكلمات من فمها بعفوية خالصة، خجلة، لكنها صادقة حتى النخاع:
“أنت حلو كده إزاي؟”
لم تكن كلماتها فقط مدحًا، بل كانت اندهاشًا نابعًا من أعماقها، وكأنها لا تزال تتفاجأ بلطافته رغم اعتيادها عليه.
اتسعت ابتسامته تلقائيًا، كأن قلبه رقص فرحًا، ومع ذلك حاول أن يخفي خجله بضحكة دافئة انبعثت منه وهو يراقب وجنتيها تتورمان بخجل مفاجئ ما إن أدركت ما قالته، فزاد ضحكه ضياءً.
مدّ يده في هدوء، وأمسك بكفها برفق، ثم رفعه إلى فمه وطبع عليه قبلة خفيفة كأنها وعد أبدي، وقال وهو ينظر في عينيها بنظرة من يراها لأول مرة:
“الحلو… حلو في نظر الحلو اللي زيه، وأنتِ… مفيش في حلاوتك يا دنيتي الحلوة.”
وانتبهت هي_دون أن تُظهر _ أنه حين قال “يا دنيتي”، لم تكن مجرد عبارة رومانسية، بل كانت حقيقية… فهو لم يعد ينتمي لشيء أكثر منها.
وهي… لم تعد تنتمي لغيره.
لم تعد ترى في الحياة ما يغريها إن لم يكن هو فيها، لم تعد تفرح لشيء إن لم يبدأ بضحكته، وينتهي بصوته، لم تعد تطمئن إلا حين تشعر بأنفاسه قريبة، ونظراته عليها، ويده تمسك بيدها كأنها كل العالم.
هي _دون أن تدري_ تغيرت، لم تعد تلك الفتاة التي تهاب الناس أو تخشى التعلق، لقد تعلقت، ووقعت، وارتاحت في السقوط، لأن سقوطها هذه المرة… كان بين ذراعي رجلٍ يعرف كيف يُحتَوى القلب قبل أن يُمتلك، ويفهم أن الحب أفعال صامتة قبل أن يكون كلمات منمقة.
هي لم تعد تريده جزءًا من حياتها فقط… بل كلّ الحياة.
_________________
مع مرور الوقت…
ترجل على السلم حتى وصل إلى شقة والدته، للإطمئنان على الصغير، أدخل المفتاح في القفل وفتحه كعادته، لكن ما لم يكن في الحسبان هو أن الباب لم يفتح على صمتٍ، بل على مفاجأة غير متوقعة.
فجأة، ومن العدم، ظهر موسى أمامه مباشرة، كأنما خرج من باطن الظل، فارتد سامي خطوة إلى الوراء بدهشة تلقائية.
مرت ثوانٍ قبل أن يستعيد سامي أنفاسه، ثم قال بحدّة وهو يرمقه بنظرة لم تخلُ من الحنق:
“أنت بتعمل إيه هنا؟”
التفت سريعًا إلى فيروز التي كانت تقف على مقربة من الحائط، نظراتها متوترة، وعيناها تقولان أكثر مما تخفيان، وما إن التقت عيناها بعينَي أخيها حتى تحركت خطوة إلى الخلف، كأنما تبعد نفسها عن مشهدٍ لا تملك له تفسيرًا مُقنعًا.
أعاد سامي السؤال بعينيه هذه المرة، فنظر إليه موسى، وابتسامة مشاكسة ترتسم على وجهه، ثم أجاب ببساطة شديدة، كأنه يقول أمرًا بديهيًا:
“بنلعب استخماية.”
تجمدت ملامح سامي كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة، شفتاه انفرجتا قليلاً في صدمة صامتة، ووجهه لا يُترجم إلا عبارة واحدة:
“إيه الهزل ده؟!”
نظر إلى شقيقته التي كانت واقفة عند الحائط، فإذا بها تبتسم له ببلاهة لا تليق بالموقف، فرفع حاجبيه وقال بنبرة مشبعة بالدهشة:
“عليه العوض… استخماية؟؟ هو أنتم صغيرين؟!”
التفت نحو موسى، ونظره يتفحّصه من رأسه حتى قدميه، قبل أن يتساءل بسخرية لاذعة:
“وأنت هتستخبى فين بقا بطولك ده؟؟”
رد موسى بنفس الهدوء الغريب، يهز كتفيه وكأنه يبرر أمرًا منطقياً:
“كنت مستخبي ورا الباب… هو الوحيد اللي جه على مقاسي.”
تنهد سامي ببطء، ثم حرك رأسه بيأس وكأن عقله يرفض تصديق الواقع، وردد بخفوت أقرب للمناجاة:
“عليه العوض ومنه العوض…”
لكن ما إن استدار ليكمل طريقه حتى توقف فجأة، كأنما تذكر ما هو أهم من كل هذه الفوضى، وهتف بقلقٍ حقيقي هذه المرة:
“يزيد؟ يزيد فين؟؟”
رد موسى فورًا وهو يشير للداخل ببساطة:
“جوه… مستخبي في دولابك.”
انطلق سامي يهرول للداخل كمن أُطلقت في قلبه صفارة إنذار، لكن موسى أضاف من خلفه، بنبرة عالية ليسمعها سامي:
“سايبله الباب موارب، ماتقلقش…”
التفت نحو فيروز التي اقتربت منه، ثم ابتسم نصف ابتسامة وقال همساً:
“بس شكلي أنا اللي لازم أستخبى بقا.”
ولج سامي الغرفة بخطوات متسارعة، يكاد قلبه يسبق قدميه، اتجه مباشرة نحو خزانة الملابس التي كانت مواربة كما قال موسى، فتحت يداه الباب على اتساعه بقلقٍ صامت… لكن ما لبث أن انفرجت ملامحه عن ابتسامة مطمئنة حين رأى يزيد جالسًا في قاع الخزانة، يضم ساقيه إلى صدره، وعيناه الواسعتان تلمعان ببراءة وصفاء، يقابل سامي ببسمة عريضة وكأن شيئًا لم يكن.
زفر سامي براحة، ثم انحنى نحوه وحمله على ذراعيه بحذر ودفء، وهو يقول بابتسامة:
“واضح إنك مستمتع أوي ياعم يزيد…”
تشبث الصغير بعنقه، وأسند رأسه على كتفه، قبل أن يتمتم بصوته الطفولي المتقطع:
“موسى… فيوز… أنا… استخبّى.”
ضحك سامي بخفة، وقد فهم فوضى الأحرف التي بعثرت في فمه، وأجابه وهو يخرج به من الغرفة:
“يعني كنتوا أنت وفيروز وموسى بتلعبوا استخماية.”
أومأ يزيد بحماسة وهو يردد بثقة هذه المرة:
“آه!”
ضحك سامي مجددًا، بصوت يحمل بعضًا من الراحة وبعضًا من الاستسلام لتلك اللحظة الطفولية، ثم نظر إلى وجه يزيد الصغير الذي لا يزال متشبثًا بعنقه بسعادة، وقال وهو يخطو خارج الغرفة متجهًا نحو البهو:
“خلاص… نسامحهم المرة دي، طالما حضرتك استمتعت ياسيدي.”
_________________
بعد لحظات…
كانت الشمس في كبد السماء، تتسلل أشعتها لتلمس أطراف الشرفة وتمنح المكان دفئًا هادئًا، فيما وقف سامي مستندًا بكلتا يديه على السور، ينظر إلى الشارع الذي يعج بالحركة، لكن ملامحه كانت ساكنة… كأنها مفصولة عن ضجيج العالم.
وقف موسى إلى جواره، والذي لم يكف عن الحديث منذ أن وقفا إلى هنا… يبعثر كلماته بشيء من الحماس، وكأن كل كلمة فيها رجاء خفي:
“أنا عارف إنك مش زعلان منهم… أنت زعلان عليهم، ويمكن ده اللي وجعك أكتر، بس اللي عملته غلط برده يا سامي… إزاي تخاصمهم أنت كمان؟ أنت الكبير بتاعنا، اللي دايمًا بيصلّح بين الكل، ماينفعش تكون أول واحد يسكت.”
ظل سامي على وضعه، لم يلتفت، لكنه زفر زفرة طويلة، وكأنها تحمل أثقالًا كان يخفيها خلف صمته.
فيما تابع موسى بنبرة أكثر لطفًا، وأكثر رجاءً:
“أنا مش بلومك، أنا كنت واقف جنبك يومها، وكنت شايف بعيني إنت بتحاول قد إيه، بس هما كانوا متعصبين… كل واحد شايل من التاني، محدش كان مستعد يسمع، بس دلوقتي؟ دلوقتي أكيد قلبهم هدى، وكل واحد فيهم نفسه يرجّع اللي بيننا، بس محتاج حد يبدأ، محتاجك أنت تبدأ.”
مرّت لحظة صمت، خفّ ضجيج الشارع في أذني سامي، وظل صوته الداخلي يكرر كلمات موسى كصدى بعيد… ثم أخيرًا التفت إليه، نظر في عينيه، وقال بهدوء:
“ولو ماوافقوش يسمعونا؟؟”
رد موسى دون تردد، بعينين فيهما إصرار:
“هيوافقوا، صدقني هيوافقوا المرة دي بس المرة دي … أنا وإنت هنحاول، وهنلّم شلتنا تاني ياسامي.”
ابتسم سامي ابتسامة صغيرة، لكنها كانت كافية لتقول إنه بدأ يلين، ثم أومأ برأسه وهو يقول:
“ماشي يا موسى… نحاول تاني.”
ابتسم موسى بسعادة غامرة، وعجز عن كتمان فرحته، فاندفع نحو سامي يحتضنه بعفوية كأنه طفل صغير، بينما سامي حاول دفعه مبتعدًا وهو يتظاهر بالضيق:
“بطل تلزيق يالا… أنت فاكرنا في فيلم تركي؟”
ضحك موسى ضحكة عالية وهو لا يزال يحيط صديقه بذراعيه، مما دفع سامي لأن يستسلم أخيرًا، يبادله العناق، ويربت على كتفه بحنانٍ.
لحظة سكونٍ دافئة جمعت بينهما… لكن ما إن هدأت الأنفاس، حتى اخترقها صوتٌ حادٌ مزق الصمت كالسهم.
صفّارة إنذارٍ، عالية، مألوفة، وقريبة.
تجمدت الأجساد، وانخفضت الرؤوس تلقائيًا نحو مصدر الصوت.
تعلّقتا عيناهما معًا بسيارة إسعاف، تمضي مسرعة كمن يهرب من الموت… أو يركض نحوه، تمضي في حارتّهم نحو وجهه مجهولة، لكن المعلوم لكليهما، أنها صفّارة لا تُبشّر بالخير.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.