رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل التاسع والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون (الحقيقة تملك صوتاً)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
والدعاء لإخواتنا في الثانوية العامة.
________
#ملخص لأهم الأحداث السابقة:
-يحيى سافر بعد ما تصالح مع أولاده واعتذر منهم.
-في حد مجهول بيصور كارم وميرنا وهما مع بعض وبيراقبهم.
-موسى جاله عرض الشغل، لكن وقت التوقيع وقراءة الورق ملامحه اتغيرت.
-فيروز وليلى راحوا مع بنات عم موسى معرض بلال وهناك يزيد وقع فجأة.
وبس، ده ملخص سريع للأحداث السابقة.
يلا بقا، نبدأ بسم الله…
__________
“كن لها وطنًا، تكن لك عمرًا
فالمرأة وطنٌ إن أمنتَ سكنت”
–
نزار قباني
.
_____________
“وما الرجلُ إلا ظلُّ أنثى أحبّها
فكان لها أمنًا، وكان رجاءها”
–
تميم البرغوثي
.
_________________
كان يسير في ردهات المشفى بخطى متعجلة تكاد تلامس الركض، يتجاوز الممرات والأبواب كمن يسابق الزمن، فمنذ سمع من بلال ما حدث، استبدّ به الخوف، فهبّ من مكتبه كأنما انتُزع من الأرض، ولم يلتفت لشيء سوى الوصول… أن يصل إليهما، فقط.
تسارع أنفاسه كان يوازي خفق قلبه وهو يقترب من قسم الطوارئ، حتى توقف فجأة في نهاية الممر، حين وقعت عيناه عليها.
كانت واقفة قرب الباب، شاحبة كأن روحها معلّقة في الداخل، بينما يمنى إلى جوارها تضع يدًا مطمئنة على كتفها، ونورهان على الجهة الأخرى تهمس بكلمات مواساة في أذنها، أما بلال فكان في الخلف، يسند ظهره إلى الجدار وقد طأطأ رأسه، وغضّ نظرها عنها.
تقدم سامي خطوة، تسبقها رجفة في صدره، وهتف باسمها بصوت اختلط فيه الرعب بالرجاء:
“ليلى!”
وما إن سمعت صوته، حتى التفتت نحوه بسرعة، وكأن نداءه كان طوق نجاتها، رفعت رأسها بلهفة، عيناها تناديانه قبل شفتيها، ثم اندفعت نحوه، وألقت بنفسها بين ذراعيه.
احتواها هو كما يحتوي الأب طفلته في لحظة فزع، ضمها إليه بقوة كأنما يحميها من العالم، ومسح على رأسها بحنان وهمس في أذنها بصوت خافت يفيض حبًا:
“اهدي يا روحي… هيبقى كويس، صدقيني… اهدى.”
رفع عينيه نحو الواقفين، وسأل بصوت لا يزال يحمل قلقًا لم يخفيه:
“هو إيه اللي حصل؟ حصل له كده إزاي؟”
ابتعدت ليلى قليلًا عن صدره، وخففت من احتضانها المرتجف، وكأنها استعادت جزءًا من تماسكها بمجرد أن شعرت بوجوده قربها.
في اللحظة التي أجاب بلال بنبرة رتيبة:
“كان بيلعب مع زياد ومنذر… وفجأة منذر جه بيجري، قال إن يزيد وقع ومش بيرد عليهم، جرينا عليه لقيناه مغمى عليه، شلناه وجينا على طول، وبلغتك وأنا في الطريق.”
سكت سامي لوهلة، يحاول استيعاب الأمر، قبل أن يسأل بنبرة متوترة تجمع بين الهدوء والانفعال، وكأنها تقاوم انهيارًا داخليًا:
“يعني أغمى عليه كده فجأة؟ من غير أي سبب؟!”
وهنا، انطلقت كلمات ليلى أخيرًا… بصوت خافت مرتجف، كأنها تُخرجها من بين دموعها:
“من الكيك… أكل كيك بطعم الفراولة… واتحسس منها جامد.”
اتسعت عينا سامي بدهشة ممتزجة بالانفعال، ورد بصوت مرتفع قليلاً:
“كيك؟! طب وصلت له إزاي الكيك؟ مين إدّاه له؟!”
لكن قبل أن يجيبه أحد، انفتح باب الغرفة التي يرقد فيها يزيد، خرجت منه الطبيبة برفقة فيروز، فاندفع سامي وليلى ناحيتهما كأن الخطى تسبق الكلمات، وتقدّمت ليلى تسأل بسرعة، ووجهها يترجى الجواب:
“هو كويس… صح يا دكتورة؟”
ابتسمت الطبيبة ابتسامة مطمئنة، وأومأت برأسها:
“الحمد لله، حالته مستقرة، لحسن الحظ إن دكتورة فيروز كانت موجودة وتصرفت بسرعة، وادّته حقنة الإبينفرين فورًا… لو اتأخرنا شوية، كان الوضع هيبقى أخطر.”
خفتت أنفاس ليلى وهي تشهق بارتياح، بينما مدّ سامي يده وأمسك بيدها يشدّ عليها، كأنهما يتقاسمان حمولة الألم والطمأنينة معًا
، قبل أن يتنفس الصعداء ويردد بارتياح:
“الحمد لله.”
التفت كلاهما نحو فيروز، وقد ارتسم على وجهيهما امتنان صادق لا يحتاج إلى كلمات، قابلته هي بابتسامة هادئة، كأنها تُهوِّن من ثقل ما فعلته.
ثم قطعت الطبيبة لحظة الصمت بكلماتها الواثقة:
“هو هيبقى تحت الملاحظة شوية، كام ساعة بس، علشان نتابع حالته ونتطمن أكتر، بعد كده إن شاء الله يقدر يخرج معاكم.”
أومأ سامي برأسه سريعًا، وكأن الكلمات لا تكفي ليعبّر عن امتنانه، ثم قال بلهفة لم يستطع إخفاءها:
“تمام، شكرًا جدًا… احنا نقدر نشوفه دلوقتي، صح؟”
ابتسمت الطبيبة وأجابت بلطف:
“طبعًا، بس خلوه يرتاح شوية، حاولوا ما يتكلمش كتير.”
شكرها سامي مرة أخرى بإيماءة خفيفة، ثم التفت إلى ليلى، نظر إليها نظرة فيها دفء وحنان، وأشار لها بهدوء أن تتبعه.
سارت هي معه ببطء، لا لعدم قدرتها على الحركة، بل لأن روحها كانت غارقة في تأمل تلك الملامح.
فقد رأت
في عينيه خوفها منعكسًا، وطمأنينتها تعود، رأت فيها رجلاً لا يربطه بالطفل دم، لكنه خاف عليه كما لو كان قطعة من روحه، كأنّه لو فقده، لفقد شيئًا منها…
يخاف عليه مثلما يخاف عليها.
سارت إلى جواره بخطوات هادئة، تشعر بثقل اللحظة لكنه لا يسحقها،
لأن هناك من يقاسمها الهمّ دون أن يُطلب منه،
من جاء في الوقت الذي تهاوت فيه كل أعمدتها،
ومدّ لها يدًا لم تكن مجرّد مواساة، بل كانت نجاة.
وبينما تسير، كانت تُردّد في قلبها دعاء صامتًا،
تحمد الله فيه على مجيئه، على هذا الرجل الذي وضعه الله في طريقها
،
ليكون عِوضًا عن كل ألم،
وسندًا لا يتخلى، لا عن قلبها… ولا عن ابنها.
_________________
في الجهة الأخرى…
“إيه ده؟!”
لم تكن مجرد عبارة، بل انفجار لحظة مختنقة من التوتر والصدمة، خرجت الكلمات من فم موسى وكأنها طُعنت بالذهول، قصيرة نعم، لكنها كانت كافية لتمزق الصمت، وتفضح الرفض المكبوت في صدره.
انعكست دهشته الغاضبة في نظراته، تلك النظرات التي اشتعلت كجمرٍ انكشفت عليه الريح، حدقت مباشرة في عيني “مرتضى”
الذي
سأله بنبرة باردة، تحمل من الاحتراف ما يكفي لقتل أي جدال:
“إيه؟ في حاجة مضايقاك في العقد؟”
دفع موسى الأوراق نحوه بحدّة،
وهو يردف
بجمود، وبصوته متماسك كحدّ السكين:
“كله مش عاجبني.”
رفع مرتضى حاجبه في دهشة صامتة، بينما أضاف موسى، بنبرة أكثر وضوحًا:
“ده مش عقد شغل… ده عقد احتكار.”
سكت لحظة، ثم نظر إليه بعينين ممتلئتين بالمرارة والرفض، وقال:
“عايزني أشتغل ليكم وأقفل كل حاجة تخصني؟ أقفل صفحتي اللي قضيت سنين بشتغل عليها، صفحة بنيتها بطلوع الروح؟ عايزني أمضي على عقد يمنعني حتى من إني أتنفس براكم؟ ماشتغلش أي شغل خارجي طول المدة؟ ولو فكرت أمشي قبل ما المدة ما تخلص… أدفع شرط جزائي لو اشتغلت خمس سنين قدام مش هعرف أسدّه؟ أنت مش جاي تعرض عليّ شغل… أنت جاي تشتري عبد! لعبة خشب تمشّوها وقت ما تحبّوا وتسكت وقت ما تأمروا، تقول حاضر ونعم وبس، ولما تاخدوا غرضكم منها… ترموها بدم بارد.”
تحرّك مرتضى بهدوء إلى الأمام، جمع كفيه فوق سطح الطاولة الزجاجية، ونظر إليه بعين رجل يحاول تهدئة العاصفة قبل أن تتصاعد، ثم قال بنبرة خالية من الانفعال:
“واضح إنك فاهم الموضوع غلط، كل شرط في العقد له مبرره… احنا عايزينك تسيب صفحاتك علشان تتفرغ لينا تمامًا، تبقى كل طاقتك مركزة في شغلنا، مش مشتت بين هنا وهناكد وبالنسبة للشغل الخارجي، صدقني، المرتب اللي هتخده هيغنيك عن أي إعلان تاني، دا غير الحوافز والمكافآت، يعني مش هتحتاج تبص بره، أما الشرط الجزائي… ده بند طبيعي جدًا، إحنا كمان لازم نضمن التزامك بالمدة، و…”
لم يُكمل، فقد قاطعه موسى فجأة، بصوت حاد، قاطع، لا يقبل جدالًا:
“بس بس ما تكملش… أنا لا هقفل صفحاتي، ولا هوقّع عقد فيه شرط جزائي زي ده، ولا هشتغل معاكم من الأساس، ومش محتاج وقت أفكر.”
أنهى كلماته وهو ينهض ببطء، وضع راحتيه على الطاولة، واتكأ عليهما وهو ينظر مباشرة إلى وجه مرتضى، فبادله الأخير سؤالًا باردًا، أشبه بطلقة فارغة:
“مش شايف إنك مبالغ؟”
ارتفع رأس موسى قليلًا، ونظر إليه من عليائه بثقة هادئة ثم قال:
“بالعكس… ده أقل رد فعل ممكن أقدّمه، وأكتر رد فعل محترم في نفس الوقت.”
انحنى بجزعه نحوه قليلًا، وانخفضت نبرة صوته لكنها ازدادت ثباتًا، وهو يتابع:
“فاكر قلتلي إيه المرة اللي فاتت؟ لما قلتلي إن الشباب المجتهد بقى قليل؟ وقلتلك ساعتها لأ، موجودين… بس محتاجين فرصة، وكان عندي حق… الشباب موجود، وبيشتغل، وبيحلم، لكن اللي زيك، واللي زي مديرينك، واللي شايفين أي موهبة لازم تتحبس جوه عقد، وتتحول لسلعة… هما السبب إن مافيش جناحات بتطير، هما السبب إن أحلامنا بقت تتدفن، مش بتتحقق، أنت واللي زيك السبب إن أغلبنا بقى تحت الأرض… مش في السما.”
اعتدل بجسده، ولملم غضبه في نبرة واحدة أخيرة، قالها بهدوء:
“شاكر جدًا باهتمامكم بمواهبي، بس عرضكم مرفوض… وبالثُلث.”
استدار موسى بهدوء، كأن كل شيء قد قيل، وكأن خروجه هو الفصل الأخير في حكاية لم يعد يرغب أن يكون أحد أبطالها.
لكن توقفت خطواته، حين سمع صوت مرتضى يناديه من خلفه، وقد نهض من مقعده فجأة، وقال بصوت ممتزجة بالغضب والدهشة:
“هتندم، على فكرة… دي فرصة مش بتيجي غير مرة واحدة في العمر.”
توقف موسى لحظة، زفر بقوة كأنما يُبعد عن صدره آخر بقايا الغضب، ثم التفت إليه ببطء، وفي عينيه لم يكن هناك تردد… فقط يقين.
ابتسم ابتسامة جانبية خفيفة، لا تخلو من الكبرياء، وقال بنبرة واثقة، هادئة، لكنها أشد وقعًا من أي صراخ:
“مافيش طير بيزعل لما يهرب من مصيدة، بالعكس تمامًا… الصياد اللي بيزعل.”
كانت كلماته كسهمٍ خرج بثقة، وأصاب
…
ضاقت ملامح مرتضى، وشدّ على فكيه وهو يرمق موسى بحدّة، لكن الأخير لم يُمهله لحظة أخرى… ابتسم ابتسامة خفيفة تنزف سخرية، ثم استدار وغادر.
لم يكن خروجه هروبًا، بل انسحاب المنتصر، خرج بخطوات ثابتة، لا يحمل شيئًا سوى
كبريائه
، وانتصار نظيف… انتصار لا يصفق له أحد، لكنه يُحسّ عميقًا في الصدر… حيث لا أحد يرى، إلا من يستحق أن يربح.
خرج من المكان بخطوات واثقة لا تعرف التردد، كأن المواجهة التي تركها خلفه لم تزل شيئًا من توازنه.
اقترب من سيارته المصفوفة أمام المقهى، وهو يرفع هاتفه ويضعه على أذنه، وفي اللحظة التي أمسك فيها بمقبض الباب، جاءه صوت من الطرف الآخر، فأجاب بصوت هادئ:
“ألو يا فيروز، أنتم لسه في المعرض؟”
جاءه الرد متوترًا، يحمل ارتباكًا لم يستطع إخفاءه، وكانت فيروز في تلك اللحظة قد وصلت لتوّها إلى باب المستشفى، بعد أن رافقت بلال والباقين للخارج، بناءً على إصرار سامي:
“لا… احنا في المستشفى.”
تجمدت يد موسى على مقبض الباب، واتسعت عيناه بفزع، وخرح صوتُه سريعًا، مختنقًا بالقلق:
“مستشفى؟! ليه؟! إيه اللي حصل؟! إنتي كويسة؟! حد جراله حاجة؟!”
جاءه الجواب في كلمة واحدة، كانت كافية ليهبّ قلبه في صدره:
“يزيد.”
صاح بنبرة ازدادت اضطرابًا:
“ماله؟؟”
“أكل كيك بالفراولة واحنا في المعرض… واتحسس منه جامد.”
سأل بنبرة قلقة، لم تُخفي خوفه:
“طب… عامل إيه دلوقتي؟ كويس؟ في وعيه؟”
“الحمد لله، حالته استقرت.”
أغمض موسى عينيه لثانية قصيرة كأنه يشكر الله بصمت، ثم قال وهو يصعد إلى السيارة:
“طيب قوليلي أنتم في أنهي مستشفى بالظبط؟ أنا جايلكم حالًا.”
_________________
مع غروب الشمس وبداية تسلل الليل، وقف كلاهما إلى جوار سيارته، يتأملان من بعيد سامي وهو يصعد السلم برفقة ليلى والصغير، بعد أن عادت الحياة تدريجيًا إلى نغمتها الهادئة، وخرج الجميع من المستشفى بسلام.
تابعاهم بصمت حتى اختفوا داخل البناية، وحين غابت آثارهم عن ناظريه، قال موسى بنبرة خرجت من أعماقه، مليئة بالامتنان والارتياح:
“الحمد لله إنها عدّت على خير.”
التفت إلى فيروز، وحدّق فيها قليلًا قبل أن يضيف بصوت يحمل تقديرًا صادقًا:
“كويس إنك كنتي معاهم… وادّيتيله الحقنة في الوقت المناسب.”
ابتسمت فيروز بخفوت، وقالت:
“الحمد لله إننا لقينا صيدلية قريبة من المعرض، والحقنة كانت متوفرة… لو اتأخرنا شوية، كان الوضع ممكن يبقى مختلف تمامًا.”
سكت موسى للحظة، كأن فكرة ما راودته وأربكته، ثم سألها بفضول ممتزج بقلق دفين:
“يعني… الحساسية ممكن توصل لكده فعلاً؟ ممكن تبقى خطر حقيقي؟ حد يموت منها مثلًا؟”
أومأت فيروز بهدوء، وقد أصبح الحديث أكثر جدية:
“آه… ممكن، بس بتختلف من شخص للتاني، ممكن اتنين يكون عندهم حساسية من نفس الحاجة، واحد يتأثر بسيط… والتاني يدخل في صدمة حساسية حادة، في حالات زي اللي حصلت مع يزيد، الحساسية بتبقى سريعة جدًا، ولازم يتوفر معاه دايمًا حقنة أو قلم الإبينفرين، علشان لو حصل تحسس مفاجئ نقدر نتدارك الوضع فورًا، زي ما شوفت… التأخير دقيقة كان ممكن يقلب كل حاجة، علشان
الحساسية اللي بتوصل للبلعوم والرئة، دي بتهدد الحياة فعلًا.
”
سكتت لوهلة، ثم تابعت بنبرة أخف، وكأنها تحاول التخفيف من وقع الحديث:
“أما في الحالات العادية… فبتكون أعراض بسيطة، زي طفح جلدي أو كحة خفيفة… زي حساسيتك من اللاكتوز كده.”
رفع حاجبه ببطء وقال بنبرة تصحيحية، وإن لم تخلُ من طرافة غير مقصودة:
“بس أنا عندي حساسية من اللبن، مش اللاكتوز.”
لاحت ابتسامة صغيرة على وجهها، قبل أن تنفجر بضحكة خفيفة، عفوية، صافية كنسمة المساء:
“ماهو اللبن عبارة عن لاكتوز ياموسى!”
ضحك هو الآخر، مسح كفّه على مؤخرة رأسه بخجل طفولي وقال بنبرة مزيج بين السخرية والاعتراف:
“بجد؟ ماكنتش أعرف والله… أنتِ عارفة إن معلوماتي في العلوم في الحضيض، أنا والمواد العلمية علاقتنا عدائية من زمان.”
ضحكت من جديد، لكن هذه المرة بنعومة أقرب للمودة منها للتهكم، بينما كانت تنظر إليه بعين لا تخلو من دفء.
وفي تلك اللحظة القصيرة، بعد يوم طويل ومتقلّب، لم يكن بينهما سوى ضوء خافت، وضحكة صافية، وكلمات بسيطة صنعت هدنة… من كل شيء.
لكن، كما الحال دائمًا، لم تدم تلك الهدنة طويلًا.
فالضحك الذي انساب بينهما قبل لحظات، تراجع فجأة كأن شيئًا خفيًا نزع الخفة من الهواء.
توقفَت فيروز عن الابتسام، وتراجعت نظرتها خطوة للوراء حين استعاد عقلها ما أسقطه قلبها مؤقتًا… لقاء العمل.
كانت قد نسيت، نسيته فعلًا، أو تناسته وسط توتر المستشفى وركض الإسعاف والطمأنينة التي عادت متأخرة.
لكن الآن، والسكينة تلفهما، عادت الفكرة لتطفو على سطح الوعي بلا استئذان.
نظرت إليه بسرعة، وفي صوتها نبرة حريصة، متلفّهة بالاهتمام:
“صحيح… أنا نسيت أسألك، عملت إيه النهاردة؟ مضيت عقد الشغل ولا لسه؟”
مرّت ثانية بين السؤال وصدى قلبه…
هو لم يرد بعد، لكنها شعرت فورًا أن ضوء اللحظة انطفأ قليلًا، وأن في عينيه شيئًا لم يكن هناك قبل ثوانٍ.
تقدمت نحوه خطوة صغيرة، لكن كأنها قطعت بها مسافة من التردد، ونظرت في عينيه بنظرة مزيجها القلق والحذر، ثم نطقت بصوت منخفض، لكنه كان كافيًا ليتخلل المساء ويطرق قلبه:
“اللي حصل يا موسى؟”
لم يجب على الفور، فقط زفر بعمق، زفرة طويلة تحمل ما لا يُقال بسهولة، ثم التفت إليها وابتسم، ابتسامة امتزجت بشيء من التعب والطمأنينة المختلطة:
“اطلعي صلي واتعشي الأول… وبعدين اطلعِلي البلكونة، علشان الموضوع يطول شرحه.”
تجهمت ملامحها قليلًا، عقدت حاجبيها باستغراب وشيء من الريبة، لكنها لم تتكلم، لم يكن الوقت مناسبًا لإلحاح، ولا هو الرجل الذي يتوارى خلف كلمات بلا معنى.
ثم، وكأنّه يعلم أن الصمت قد يطيل القلق، وضع كفّه بلطف على كتفها، تربيتة خفيفة لا تكاد تُشعر، لكنها كافية لتقول لها: “سأقول لكِ شئ في وقته.”
أومأت بصمت، واستدارت تصعد درجات السلم إلى شقتها، كما طلب.
وهو بقي في مكانه للحظة، يراقب اختفاء ظلّها، ثم تنهد بعمقٍ، ورفع عينيه إلى السماء التي ازدادت عتمة، قبل أن يتنهد مجدداً ويتجه بخطواط رتيبة نحو مدخل بيته.
_________________
مع مرور الوقت…
“يعني… شايفة إني اتصرّفت صح؟”
وجه هذا السؤال لها بصوت خافت لكن صادق، وهو ينظر إليها بعينين تسكنهما الحيرة التي بدأت تهدأ لتوّها.
لم تتردد فيروز ولم تبحث عن الكلمات، وأجابته بنبرة ثابتة، قوية، لكنها مغموسة بالحنان:
“طبعًا اتصرفت صح، ماكانش ينفع تعمل غير اللي عملته، لو كنت وافقت، كنت هتتحوّل لأداة في إيديهم… ولو حصل وتخلّوا عنك بعدين، هترجع تبدأ من الصفر… بالعكس، اللي عملته مش بس قرار سليم، ده قرار محترم… برافو عليك إنك رفضت.”
استقرت الكلمات في صدره كأنها رُكِنت في مكانها الصحيح، لم يجب على الفور، فقط تنفّس بعمق، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة، خالية من التكلّف… ابتسامة راحة، وامتنان، ويقين.
ثم قال وهو ينظر لها نظرة طويلة، كأنها أعادت بناء شيء فيه:
“تعرفي… كلامك ده ريّحني جدًا، أنا كنت متلغبط…بس دلوقتي، أنا متأكد إنّي عملت الصح.”
ولأول مرة منذ الصباح… شعر أن كتفيه لم يعودا مثقلين، كأن كلمتين منها كانتا كافيتين ليزيح عن روحه كل ما تراكم.
ابتسمت فور أن رأت تلك الابتسامة ترتسم على وجهه… كانت من النوع الذي لا يُصطنع، كأنها ولدت من الطمأنينة، من يقين حديثها الذي هزّ قلبه المعلّق.
وتلاقت نظراتهما في صمت دافئ، لا يحتاج إلى شرح.
لكن شيئًا في عيني فيروز تغيّر، عقدت حاجبيها فجأة، ونظرت إليه بنظرة استغراب بريئة، وقالت بنبرة خفيفة لكنها مثقلة بالتفكير:
“تعرف أنا نفسي أفهم إيه؟”
أمال رأسه قليلًا باستفهام، وردّت ببساطة:
“إيه؟”
نظرت إلى نقطة في الفراغ، كأن الجواب لم يكن لها وحدها بل لنفسه أيضًا، ثم قال:
“نفسي أفهم إزاي في ناس بتتعامل بالشكل ده… يعني إزاي يبقى شايف الناس مجرد أدوات، يشتريهم ويبيعهم، ياخد مجهودهم وعرقهم، وبعدين يتخلى عنهم ببساطة… مش بيندم، مش بيحسّ بتأنيب ضمير حتى.”
سكت موسى للحظة، ثم تابع بصوت هادئ، رتيب، كأنه يقرأ واقعًا اعتاد رؤيته:
“في ناس طبيعتهم كده يا فيروز… إحنا مش زي بعض، زي صوابع إيدك، مش شبه بعض، ما بالك بقلوب الناس؟ دي الدنيا… وده إحنا، وأدينا بنتأقلم.”
هزّت فيروز رأسها ببطء، وكانت تعلم أن ما قاله مؤلم… لكنه حقيقي.
مالت بجسدها قليلاً إلى الأمام، وارتكزت بمرفقيها على سور الشرفة، تطل على الشارع الساكن، لكن عينيها لا تبارحانه.
ثم قالت بصوت هادئ، مشبع بالرفق، كأنها تربّت على قلبه بكلماتها:
“معاك حق… بس المهم دلوقتي ما تشغلش بالك باللي حصل، ركز في شغلك، زي ما اتعودت دايمًا، انسى اللي فات… كأنه ما حصلش.”
صمتَ قليلًا.. لكن الصمت هذه المرة ليس قبولًا، بل تمهيدٌ لشيء آخر.
ظل ينظر إلى نقطة غير مرئية، عينيه غارقتان في تفكير عميق، وكأنه يقلب الأمور بين يديه دون أن تراها، ثم نطق أخيرًا، ببطء، بجدية مختلفة، وكأن كلماته تخطو خارج قلبه بحذر:
“الحقيقة… في حاجة تانية شاغلة بالي، حاجة بفكر أعملها.”
رفعت فيروز رأسها فورًا، نظرت إليه، وعيناها تعكسان فضولًا دافئًا وقلقًا صغيرًا لم تفصح عنه.
عقدت حاجبيها وقالت بنبرة تملؤها الرغبة الصادقة في أن تفهم:
“إيه؟”
_________________
في جهة الأخرى…
كانت تستلقي بجوار صغيرها، تمسح برفق على شعره الناعم ووجنته الصغيرة الهادئة، كما لو أنها تحاول أن تؤكّد لنفسها أنه بخير، أنه هنا، أنه يتنفّس.
تأملت ملامحه النائمة، تلك الملامح التي لطالما أذابت قلبها… لكن عقلها، ذاك الخائن الذي لا يتوقّف عن التذكير، جرّها إلى لحظة الصباح، إلى ذلك المشهد القاسي الذي هرعت فيه إليه ووجدته ساكنًا، فاقدًا للوعي، وأنفاسه تتكسر… كأن الحياة تودّعه في صمت.
ارتجفت أنفاسها للحظة، لكنها ما لبثت أن عادت إلى اللحظة الحاضرة على وقع صوته، ذاك الصوت الذي صار في هذه الأيام طوق نجاتها الهادئ:
“نام؟”
التفتت إليه، فوجدته واقفًا عند باب الغرفة، يراقبها بصمتٍ حنون، فأومأت برأسها إيجابًا،
ثم انحنت برقة وطبعَت على رأس صغيرها قبلة دافئة، قبل أن تنهض في هدوء وتغادر الغرفة خلفه.
سارت خلفه في صمتٍ مريح، حتى توقفت عند عتبة غرفة المعيشة، حينما وقعت عيناها على المائدة، وقد امتلأت بأصناف خفيفة من الطعام رتّبها بعناية.
نظرت إليه، وعيناها تحملان تساؤل بسيط، فابتسم بخفة، وربت بكفّه على أسفل رقبته في حركة عفوية تحمل شيئًا من التوتر الطيّب، ثم قال بنبرة خجولة مغموسة بالاهتمام:
“إنتِ ما أكلتيش حاجة من الصبح، فقلت أجهز لنا شوية حاجات خفيفة… ناكلهم سوا.”
كانت جملته بسيطة… لكن وقعها عليها لم يكن بسيطًا على الإطلاق، كانت كطمأنينة تُفرش على القلب آخر النهار، تحمل في طيّاتها اهتمامًا، وحرصًا، ومحبة لا توصف، لكنها حاضرة.
ابتسمت له امتنانًا، وفتحت فمها لتقول شيئًا… لكنّه سبقها، كأنه قرأ ما دار بداخلها، كما لو أنه عرف ما كانت توشك على البوح به:
“عارف إنك هتقولي مالكيش نفس، بس ماينفعش تفضلي من غير أكل، لازم تاكلي، علشان تعرفي تاخدي بالك من يزيد…علشان خاطري.”
”
علشان خاطري”…
قالها ببساطة، لكنها كانت كفيلة بأن تخلخل مقاومتها، كيف لها أن ترد طلبًا جاء من بين يديه، ومن قلبه؟
رغم أن شهيتها لم تعد موجودة، لكن أن ترفض… كان ذلك بمثابة جرحٍ له، وهي لا تطيق أن تفعل.
أومأت له بخفة، فابتسم، وأشار نحو المائدة ليحثّها على الجلوس.
لَبّت دعوته، جلست بصمت مطمئن، ثم جلس هو مقابلها وقال بنبرة فيها من الخجل بقدر ما فيها من الاعتراف:
“هو أكل خفيف كده… لأني بصراحة ماعرفش أطبخ، أنا عمري ما دخلت المطبخ،
أقصى حاجة أعملها إني أدخل أشرب ميّة وأخرج.”
ابتسمت بخفة ودفء، ثم نظرت إلى الأطباق البسيطة التي جهّزها، وقالت بصوت خافت، لكنه صادق:
“تسلم إيدك.”
ابتسم بدوره وقال ممازحًا:
“العفو.. بس أتمنى يعجبك، ولو طلع مش قد كده، ياريت ما تقوليش لماما، لو عرفت بفشل ابنها في الطبخ مش هتسيبني في حالي!”
انفجرت ضحكتها، تلك الضحكة التي لم تزُر ملامحها منذ الصباح، ضحكة خرجت بعفوية، صادقة، حقيقية.
فنظر إليها… وابتسم، كأنه أخيرًا نجح… نجح في أن ينتشلها من كل شيء للحظة.
تبادلا النظرات لثوانٍ، صمتت الكلمات… وتكلّمت العيون، ثم قطع اللحظة بلطافة حين مدّ يده بإحدى قطع الخبز نحوها وقال:
“يلا… خلّينا ناكل.”
أخذتها منه بلطف، وأومأت بهدوء، ثم بدأ كلاهما بتناول الطعام، في أجواء سكون ناعم، ودافئ.
_________________
بعد دقائق من الصمت الدافئ والمشاركة الهادئة، انتهى كلاهما من تناول الطعام الخفيف.
نهضت ليلى بهدوء، تمسك الأطباق بنيّة أن تنظف الطاولة، لكن يد سامي سبقتها، وأمسك بالأطباق بخفة وهو يقول بإصرار لطيف:
“لا، سيبيهم… أنا هدخلهم، ارتاحي إنتِ.”
نظرت إليه بابتسامة امتنان، بينما راح يجمع الأطباق واحدًا تلو الآخر، ويضعها فوق بعضها، ثم توجه بها إلى المطبخ، وتبعتها بنظراتها… لا بسبب ما فعله، بل بسبب طريقته ككل.
لم تمضِ سوى لحظات قليلة، حتى عاد سامي من المطبخ وهو يحمل كوبين من الشاي الساخن، لكن تباطأت خطواته حين لاحظ أن الطاولة أصبحت خالية.
عقد حاجبيه باستغراب، ونظر حوله يبحث عنها، ثم تمتم لنفسه بصوت منخفض:
“راحت فين؟”
اقترب من غرفة يزيد، ظنًا أنها قد تكون قربه، لكن قبل أن يصل، لفت نظره باب الشرفة المفتوح، ومع اقترابه، لمح ظلّها الهادئ واقفًا هناك.
دخل إليها، واقترب حتى وقف بجانبها بصمت، فسمع صوتها قبله، رقيقًا، دون أن تلتفت:
“سمعت صوت الشتا، فطلعت أتفرّج.”
رمقها بنظرة جانبية، ثم رفع حاجبيه بتعجّب لطيف وسألها باهتمام حقيقي:
“بتحبي الشتا؟”
نظرت إليه، وأومأت بصوت خافت وابتسامة دافئة لم تُفارق ملامحها، ابتسم هو بدوره، لكن ابتسامته حملت شيئًا آخر… شيء أعمق.
فلاحظت ذلك في عينيه، وسألته:
“بتضحك ليه؟”
أجاب وهو ينظر أمامه، لكن صوته كان كأنه يعترف بسر صغير:
“أصل أنا كمان بحب الشتا… ده فصلي المفضل، بحب كل حاجة فيه… بحسه دافي ومريح كده، كأن الدنيا كلها بتهدى، وبتسمحلك تسمع صوت المطر وصوت أنفاسك… بس، إحساس حلو.”
سكت للحظة،ثم أدار وجهه نحوها، ونظر في عينيها نظرة دافئة وقال بصوته المنخفض:
“وبيبقى أحلى… لما تشاركه مع حدّ حلو.”
سكنت كلماته فيها قبل أن تصل لأذنها، تسللت بهدوء إلى قلبها، فارتبكت ملامحها، وارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة، ابتسامة لم تكن جوابًا على غزله… بقدر ما كانت انعكاسًا لِما حرّكه فيها من مشاعر كثيرة، المنتصر فيها… الحب.
ضحك هو بخفة، ضحكة قصيرة لكنها صادقة، ثم مدّ يده نحوها بكوب الشاي، وقدّمه بإيماءة هادئة، فيها من اللطف أكثر مما في الكلمات.
تناولت الكوب منه دون أن تنطق، وكأن الصمت بينهما صار لغة مفهومة لا تحتاج إلى ترجمة.
وقفا جنبًا إلى جنب، كلٌّ منهما يحتضن كوبه الدافئ، يراقبان سويًّا قطرات المطر الخفيفة وهي تتساقط بهدوء، كأنها إعلان خجول عن بدء فصل الشتاء… ذلك الفصل الأقرب لقلبه، والأقرب لقلبها.
كان المشهد بسيطًا… لكن فيه شيء يشبه السلام.
كأن المطر لم يسقط فقط على الأرض، بل سقط أيضًا على أرواح متعبة، فغسل عنها تعب اليوم، وأهداها لحظة صفاء… لحظة دفء، في حضرة من لا يشترط الكثير، سوى القرب.
استمرا على هذا الحال لبضع ثوانٍ، ممتدة، ومشبعة بالهدوء والصمت.
حتى اخترق هذا السكون صوتها، الذي جاء هادئًا… لكنه يحمل بين طبقاته شيئًا يشبه الرجفة، رجفة ذكرى لم تندمل.
وقالت دون مقدّمات، وكأنها أفرجت عن شيء حبسته طويلاً:
“لسه فاكرة أول مرة لما يزيد جاتله الحساسية…”
ا
ستدار نحوها بتعجب خفيف، لحديثها عن هذا الأمر، لكنها لم تنظر إليه، وكأنها كانت ترى شيئًا أبعد من الشرفة… كأن المشهد انقلب في عينيها إلى صورة قديمة.
تابعت بصوت أقرب إلى الهمس:
“كان عنده سنة وقتها… يدوبك بدأ يمشي، دخل المطبخ معايا، واديته فرولاية صغيرة ياكلها… وفجأة لقيت وشّه بيحمر، ونفسه يتقل، والأعراض بتزيد… اترعبت، ماعرفتش أتصرف… رنيت على عاصم، كلمته وقلتله اللي حصل، قلتله تعالى بسرعة… إلحقني.”
سكتت قليلًا، ثم التفتت إليه… وعيناها تحملان مزيجًا من الأسى والاستفهام، وقالت:
“بس هو بكل بساطة قالي خديه وانزلي على أي صيدلية، خلي الدكتور يشوفه ويدّيله دواء… أنا مشغول دلوقتي، وقفل، وما سألش تاني.”
ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم أطلقت تنهيدة كانت تُشبه الإفراج عن وجع قديم:
“الحمد لله إن ربنا سترها… الدكتور شافه، وعرف السبب، واداه الحقنة في الوقت المناسب، وبعدين روّحت بيه المستشفى أكمل المتابعة، وفضلت طول اليوم هناك ، ورجعت، وهو؟ ولا كأنه حصل حاجة، رجع من الشغل، بص واتطمن عليه زي أي يوم، وبعدين أكل، ونام… بس كده.”
كانت تحكي بصوتٍ بدا متماسكًا، لكن من بين الكلمات… كانت الشقوق القديمة تنطق بما لم يُقال، بما عاشته امرأة خذلتها الحياة في مواطن ضعفها، فلم تجد من يسند قلبها،
ولا حتى من ينظر في عينيها ويقول:
أنا هنا.
أما سامي… فكان صامتًا، نعم، لكنه لم يكن غافلًا.
كان يُنصت لها بكل حواسه، كما لو أن قلبه وحده قد تحوّل إلى أذن، يستشعر كل كلمة… وكل صمتٍ بين كلمة وكلمة.
وفجأة، كسر صوتها السكون بلطفٍ مؤلم:
“أكيد بتسأل نفسك… أنا ليه بحكيلك ده دلوقتي؟”
سكتت للحظة، كأنها تمنح نفسها شجاعة إكمال الحديث، ثم تابعت بصوت أخفض، أشبه بالاعتراف:
“الحقيقة… أنا افتكرت الموقف لما شوفتك في المستشفى، لما شفت خوفك الحقيقي على يزيد النهاردة، وارتياحك الصادق لما عرفت إنه بقى كويس… ومن غير ما أقصد…
قارنّت بينك وبينه… وأنت اللي كسبت في كل حاجة.”
ضمّت شفتيها كأنها تحاول منع دمعة، ثم أطلقت تنهيدة ناعمة، وقالت بصوت خفيض، لكنه مشحون بصدقٍ لا يُشترى:
“الحقيقة يا سامي… إنت مثال لكل حاجة حلوة، ابن مثالي… وأخ مثالي، وصاحب مايتعوضش… وزوج… مثالي، وأب… بمعنى الكلمة، أنت عوض ربنا ليا… ولابني.”
سكتت، ثم التفتت أخيرًا ونظرت إليه نظرة امتنان عميقة، وأضافت بنبرة مرتعشة، لكنها مطمئنة:
“ربنا يخليك لينا.”
وفي تلك اللحظة، لم يكن هناك داعٍ لأي كلمات أخرى، فبعض المشاعر، يكفيها أن تُقال مرة واحدة… لتبقى للأبد.
طالعها سامي في صمت، مدهوشًا، لا من الكلام وحده… بل من لحظة الانكشاف النادر، الصادق.
بقي صامتًا لثوانٍ، وعيناه لا تبارحان وجهها، ثم وضع كوب الشاي بهدوء على حافة السور، واستدار نحوها بوجهٍ مشرق بنبضه.
ثم قال بصوت منخفض، لكن مفعم بالصدق:
“فاجأتيني بكلامك… بس مانكرش إني انبسطت…انبسطت من كل حرف قلتيه، وخاصة لما فتحتي قلبك ليا، من غير ما أضغط، ومن غير ما أطلب، زي كل مرة.”
اقترب منها خطوة واحدة فقط، لكنها كانت كفيلة بأن تزيل كل المسافات، ثم مدّ يده وأمسك بكفّها، ووضع كفّه الآخر فوقه، وكأنما يحتضن دفء يدها كما يحتضن وجودها في حياته.
“أنتِ كمان، يا ليلى… مثال لكل حاجة حلوة وطيبة، بنت، وزوجة، وأم…
وملاذ، وونس، ومفيش منك اتنين في الدنيا دي.”
سكت لحظة، ثم أردف بامتنان عميق:
“ربنا يخليكي ليا… ويخليلي يزيد… ومايحرمنيش منكم أبدًا.”
رفع يدها ببطء، ثم طبع قبلة حنونة في باطن كفّها، قبلة لم تكن مجرد لمسة… بل كانت عهدًا صامتًا، أن يبقى لها، ومعها، ولها.
لم تكن بحاجة للرد، فعيونها كانت قد قالت كل شيء، والمطر من حولهما، كأنما يُصفّق لتلك اللحظة التي اجتمع فيها صدق القلب، ودفء الروح، في عزّ برد الشتاء….
_________________
في صباح اليوم التالي…
فيما كان الصباح ينفض عن المدينة سكونه، كان سامي يرتدي حذاءه على عجالة استعدادًا لمغادرة البيت، كان صوته يملأ المكان وهو يقول:
“أنا هخلص مع العميل المهم ده، وبعدين هستأذن وأجي آخد، نروح المحكمة سوا زي ما اتفقنا.”
أومأت له ليلى بصمت مطمئن، ثم ناولته حقيبة عمله وهي تقول بابتسامة هادئة:
“حطيتلك ساندويتش، علشان ما لحقتش تفطر… ماتنساش تاكله.”
ابتسم سامي، ابتسامة امتنان هادئة وقال:
“حاضر… أنا همشي بقى، لو احتجتي أي حاجة كلميني، وطمنيني على يزيد من وقت للتاني… تمام؟”
“حاضر.”
أومأ لها بخفة، ثم استدار نحو الباب، وسارت هي خلفه بهدوء… مدّ يده إلى مقبض الباب، وفتحه، لكن قبل أن يخطو خطوة واحدة خارجه… توقّف فجأة.
وكأن فكرة سقطت على رأسه كحجر، توقف جسده… ودار رأسه نحوها، نظر لها نظرة استفسار جادة، وخرج صوته هادئ وجاد:
“هو الكيك وصل ليزيد إزاي؟”
_________________
مع مرور الوقت….
كان الصمت في قاعة المحكمة يحمل ثقلًا لا يُحتمل، كان يجلس وهي بجواره، قابضًا على كفها بكفه دون أن ينظر لها، كأن لمسة يده تبثّها بالأمان.
جلس أمامهما مباشرة المحامي الخاص بهما، وفي الجهة الأخرى، جلس عاصم، خصمها… وإن شئت الدقة،
خُذلانها الذي تجسّد في هيئة رجل.
لم تكم نظراته الحادة تقلقها بقدر ما كانت تُثير في صدرها شيئًا من القرف… نظرة مليئة بالغرور والأنانية وشئ أهر لم تستكع تحديده.
دقائق مرت كأنها دهور، حتى دخل القاضي إلى القاعة، ووقف الجميع احتراما له، ثم أشار لهم بالجلوس بعد أن اتخذ مكانه بهدوء رسمي.
فتح القاضي ملف القضية، وأمسك ببعض الأوراق أمامه، ثم قال بصوت متزن:
“بعد الاطلاع على أوراق الدعوى، وسماع أقوال الطرفين، ومرافعات الدفاع، ومطالعة المستندات المقدّمة… قرّرت المحكمة إصدار حكمها في هذه الجلسة.”
سقط الصمت مجددًا، تعلّقت نظرات ليلى بالقاضي، لكن قلبها كان معلّقًا بما بعد كلمته، أنا سامي… فلم يُبعد عينيه عن القاضي، لكن قبضته على يدها اشتدت قليلًا.
وفي اللحظة التي حرك فيها القاضي شفتيه لينطق بالحكم الحاسم… وكل الأنفاس في القاعة احتُجزت، وكل العيون تعلّقت به، اخترق الصمت صوت لم يكن في الحسبان.
نهض محامي عاصم فجأة، وقال بنبرة مسرعة لكنها محسوبة:
“اسمحلي يا حضرة القاضي، قبل ما يُعلن الحكم… عندي طلب عاجل للمحكمة.”
رفع القاضي بصره إليه ببطء، نظرة هادئة، لكنها غير مرحّبة بالمقاطعة، ثم قال بنبرة رسمية، تخلو من المجاملة:
“المرافعات انتهت، والجلسة دي مخصصة للنطق بالحكم… ايه نوع الطلب؟”
أجاب المحامي دون أن يتردد، وكأنه أعدّ تلك الجملة مسبقًا:
“طلب فتح باب المرافعة مجددًا… بناءً على مستند جديد في غاية الأهمية، يمسّ جوهر القضية.”
سرت همهمة خفيفة في القاعة، ونظل كل من سامي وليلى نحو عاصم، الذي ظهرت بسمة جانبية مريبة على وجهه.
رفع القاضي حاجبه قليلًا ثم قال:
“أنت ظدرك أن فتح باب المرافعة في هذه المرحلة أمر استثنائي،
ولا يُسمح به إلا إذا قدّمت ما يُثبت أن المستند له تأثير حقيقي ومباشر في مسار القضية.”
أومأ المحامي قائلاً:
“بالتأكيد يا سيادة القاضي… المستند عبارة عن صور، لم تُعرض سابقًا،
وقد تغيّر وجه النظر القانوني في الملف.”
ظل القاضي صامتًا للحظات… ينظر أمامه بعمق، كما لو أنه يُفكر بصوت لا يُسمع، ثم أخيرًا قال، بنبرة حاسمة:
“ستطّلع المحكمة على المستند… وسيُحسم في مدى قبوله وأهميته قبل إصدار أي حكم نهائي.
”
حبست الأنفاس وارتجفت القلوب، وخاصة قلب تلك الأم المضطربة التي شعرت وكأن الأرض تميد تحت قدميها، لكنّه لم يتركها… ظل سامي ممسكًا بكفها بإحكام، يشدّ من أزرها، يربط على خوفها بصمته ووجوده، وفي عينيه تصميم واضح…. أن يبقى الدرع مهما كانت العاصفة.
أما عاصم، فكان يجلس في الجهة الأخرى، نظراته لا تزال معلّقة على ليلى، وابتسامته المسمومة تلوّث المكان، خليط خبيث من شماتة وتشفٍّ، كأنّ شيئًا كبيرًا على وشك الانفجار.
اقترب محامي المدّعي، ووضع بين يدي القاضي ملفًا صغيرًا، تناوله القاضي بتوجس وفتح أوراقه، فيما صدح صوت المحامي بثقةٍ مغلفة بتمثيل محسوب:
“سيادتك، اللي بين إيديك دلوقتي صور… قد تبدو عادية للوهلة الأولى،
لكنها مش كده… الصور دي اتصورت بكاميرا هاتف أحد أصدقاء موكلي، وقت ماكان في معرض أجهزة إلكترونية في وسط البلد.”
التفت نحو ليلى وطالعها بنظرة مستفزة، ثم أردف:
“وكانت المفاجأة…إنه يلاقي مدام ليلى هناك، بصحبة بعض أصدقائها فيما يبدو…”
لكن قبل أن يكمل المزيد من تلك النبرة التي تتغذى على الإيحاء، انقطع صوته بصوت القاضي الذي قال بلهجة نافذة، وقد بدأ نفاد صبره يطفو على السطح:
“ادخل في صلب الموضوع يا أستاذ، لا داعي للحديث الإنشائي أو التلميحات… ما علاقة هذه الصور بجوهر الدعوى؟”
نظرت القاعة بأكملها إلى المحامي وهو يواصل حديثه، كانت كلماتُه كالسكاكين، يوزعها بهدوء قاسٍ، لكنه مغموس بتلك النبرة التي تحاول أن تُلبس الكذب ثوب المنطق.
انحنى قليلًا نحو القاضي وقال بنبرة مُعتذرة ظاهريًا، لكنها تحمل ثقة محسوبة:
“أعتذر جدًا، سيادة القاضي… سأتجه الآن إلى صلب الموضوع.”
أشار إلى الأوراق أمام القاضي وتابع:
“كما ترى في الصور الموضوعة بين يديكم، تظهر مدام ليلى برفقة الصغير، يزيد، في لحظة كان فيها
فاقدًا للوعي تمامًا
، بسبب تناوله قطعة من الحلوى بطعم الفراولة… رغم علمهم جميعًا، ويقين والدته بالأخص، أنه يُعاني من حساسية شديدة تجاهها.”
سكت لوهلة، ثم ألقى نظرة سريعة نحو ليلى، نظرة امتلأت بالاتهام، قبل أن يتابع بنبرة شبه منفعلة:
“السؤال الحقيقي الآن يا سيادة القاضي… أين كانت تلك الأم وقت وقوع الحادث؟ هل كانت تتجول في المعرض مع أصدقائها، تاركًة خلفها طفلًا لا يتعدى العامين ونصف؟ أليس ذلك معرضًا مكتظًا، مزدحمًا…؟ فهل يعقل أن يُترك فيه طفل يتحرك وحده؟ هل من المنطق أو الإنسانية أن لا يُراقَب، أن لا يُمسك بيده؟ هل يمكن أصلاً أن نُطلق على مثل هذا التصرف اسم
أمومة
؟”
بدأت الهمهمات تتصاعد في القاعة،
وارتعشت يد ليلى قليلاً، لكنها تماسكت،
أما سامي، فكان كمن يحتبس كل غضبه في صمته.
أما المحامي، فتابع بلا رحمة:
“ما نراه اليوم ليس إلا مثالًا واحدًا، لكن من يدرينا كم من مرة تكرر مثل هذا الإهمال ولماذا؟ من أجل التنزه؟ الترفيه؟ إن موكلي كان دائمًا ما يشكو من هذا الإهمال أثناء فترة زواجه منها، والآن… يبدو أن اهتمامها بحياتها الجديدة، وبزوجها الحالي، جعلها تُقصي الطفل عن أولوياتها.”
التفت تمامًا إلى القاضي، وأنهى حديثه بنبرة تخلو من الرحمة، لكنها تتظاهر بالقلق:
“أناشد عدالتكم، أن تُعيدوا النظر في هذه الدعوى، فوجود هذا الطفل في حضانة والدته
قد يُشكّل خطرًا على سلامته، بسبب إهمالٍ… لا يبدو أنه عارض، بل هو… متكرر، ومُترسّخ.”
صمت!
عاد الصمت الثقيل إلى القاعة…لكنّه لم يكن صمتًا عاديًا، بل صمتًا معبّأ بالشك، والتوتر، والاحتمالات الخطرة.
كانت ليلى تنظر للأمام دون رمشة… كأنها على حافة هاوية، وكل ما سمعتُه، لم يكن اتهامًا فقط، بل كان تشكيكًا… في أعز ما تملكه امرأة: أمومتها.
لكن مجددًا…كانت يد سامي هناك.
تربت على يدها المرتجفة بحنوّ، كأنها تقول:
“لا تخافي… أنا هنا.”
أما عينيه، فقد قالت ما لم تستطع الكلمات قوله،هدوءٌ عميق، وثقة مطمئنة، كأنهما حصنٌ في وسط عاصفة الكلمات التي حاولت أن تهدم كل شيء.
نظرت إليه، وشعرت بنظراته تلتف حولها كحبل نجاة، لحظتها فقط… استنشقت نفسًا هادئًا، بينما هو التفت بثبات نحو محاميهم، وأومأ له بإيماءة قصيرة، لكنها كانت كافية.
التقط المحامي الإشارة كأنها أمر، ونهض من مقعده وقال بثبات:
“اسمح لي، سيادة القاضي… بتقديم مستند هام، يُعد ردًا مباشرًا على ما ورد في ادعاء محامي المدعي.”
نظر القاضي نحوه للحظة، ثم أشار بيده بجدية:
“بالطبع… اتفضل.”
تقدم المحامي بخطواتٍ واثقة، تحت أعين القاعة المشدوهة، وتحديدًا تحت عينَي عاصم، الذي راح يلاحقه بنظرات متوجسة، كمن يرى العاصفة تقترب، ولا يملك مأوى.
بهدوءٍ محسوب، سلّم المحامي قطعة صغيرة إلى المختص الفني المسؤول عن العرض،
ثم تراجع خطوة للخلف وقال بثبات:
“هذه فلاشة تحتوي على تسجيلات كاميرا المراقبة داخل معرض الإلكترونيات… وقت وقوع الحادثة تحديدًا.”
صمت لحظة، ثم أضاف:
“وهي تُظهر بوضوحٍ شديد، ما جرى هناك لحظة بلحظة.”
وما إن أنهى جملته، حتى بدا كأن القاعة قد استنشقت صدمةً واحدة، في لحظة واحدة… انقلبت الأدوار.
تجمّدت ملامح عاصم، وظهر عليه التوتر دون مواربة، تحركت كفه بلا وعي، ليمسح العرق على جبينه، جفّت الدماء من وجهه، وانسحب لونه في صمتٍ مفضوح، ثم استدار ببطء ينظر صوب سامي.
وهناك…
وجد سامي جالسًا في مكانه، يربت برفق على كف ليلى، ثم رفع نظره والتقت أعينهما.
ابتسم سامي له….
ابتسامة هادئة، ابتسامة من اعتاد أن يخوض الحروب… ويخرج منها منتصرًا.
لحظتها فقط…
فهم عاصم أن اللعبة التي ظنها في قبضته، بدأت تتفلت، وأن الحقيقة تملك صوتاً….
#يتبع…
_________________
كتابة/أمل بشر.
أتمنى يكون البارت عجبكم ومستنية رأيكم وتوقعاتكم، وأسفة لو هو صغير، بس عندي مشوار مهم الصبح ولازم أصحى له بدري، فاعذروني المرة دي.
دمتم بخير… سلام.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.