رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثاني والخمسون 52 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثاني والخمسون

الفصل الثاني والخمسون(حريق؟!)

الفصل الثاني والخمسون(حريق؟!)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

-أخافُ أن أفقدَكَ، فيصيرَ البقاءُ عبثًا

وأن أبقى معَ العالمِ دونَكَ غريبًا

محمود درويش

__________

كانت تسير في الغرفة ذهابًا وإيابًا، خطواتها سريعة، وكأن الأرض تحت قدميها تضيق، والهاتف ملتصق بأذنها، تستمع للصمت الذي يرد عليها بدلًا من صوته.

مرة… مرتين… ثلاث… لا إجابة.

كل محاولة فاشلة كانت تزيد من وخز القلق في قلبها، حتى صار الخوف ينهشها من الداخل، والاضطراب يكسو ملامحها بوضوح، عينيها تتحركان بلا تركيز، وشفتيها تنفرجان عن أنفاس متسارعة.

واصلت المحاولة، وهي تدعو في سرّها أن تسمع أي رد، حتى قاطعها صوت رنين جرس الباب، فانتفض جسدها للحظة، وارتفع رأسها نحو مصدر الصوت بسرعة، وكأنها تعلّق عليه كل أملها.

أنزلت الهاتف من على أذنها على عجل، وقلبها يطرق أضلاعها بعنف، ثم اندفعت نحو الباب، يدها ترتجف وهي تفتح، وعينيها تلمعان بتوقعٍ حالم بأنه هو… لكن التوقع انكسر في اللحظة نفسها، حين وجدت أمامها شقيقها، يقف بوجهٍ متجهم وقلق.

دخل سامي مسرعًا وهو يسألها بصوت متوتر:

“لسه ما ردش؟”

أجابت فيروز، وصوتها يرتجف كخيط مشدود على وشك الانقطاع:

“لسه… برن عليه من ساعتها، وتليفونه مغلق… أنا قلقانة أوي يا سامي.”

حاول تهدئتها، وملامحه تحمل ما يناقض كلماته:

“اهدي يا حبيبتي، جايز تليفونه فاصل شحن ولا حاجة.”

هزّت رأسها بعصبية، وعيناها تكادان تدمعان:

“نفترض إنه فصل فعلاً… بس هو المفروض كان يوصل من ساعتها، الطريق من هناك لهنا مش بياخد غير ساعة إلا ربع بالكتير… وهو كلمني الساعة تسعة، والساعة دلوقتي داخلة على اتناشر.”

ابتلع سامي قلقه كما يبتلع المرء جرعة مُرّة، وأخذ نفسًا عميقًا محاولًا أن يزرع في صوته ثباتًا لا يشعر به، قبل أن يقترب منها، يضع يده برفق على كتفها، وكأن لمسته وحدها قادرة أن ترد عنها طوفان القلق، ثم قال بصوت مائل للحنان، يحاول أن يحتضنها بالكلمات:

“تمام يا حبيبة أخوكِ… حاولي تهدي علشان خاطري، أنا… هروح أشوف الشركة دلوقتي وأسأل عليه هناك.”

كأن قلبها انفتح فجأة على جرح الخوف، فرددت بسرعة، بصوت مرتعش فيه بقايا بكاء محبوس:

“ابقى بلغني باللي هتعرفه يا سامي… طمني، علشان خاطري.”

ابتسم ابتسامة قصيرة، ليست ابتسامة فرح، بل وعد صامت، وقال بحزمٍ رقيق:

“حاضر يا روحي… حاضر.”

ثم مال نحوها، وطبع قبلة سريعة على جبينها، كأنها ختم أمان يتركه معها، وأومأ لها أخيرًا قبل أن يلتفت نحو الباب.

خرج من الشقة بخطوات سريعة، يترجل على الدرج بخفة مضطربة، تكاد توازي دقات قلبه اللاهثة في صدره، وكلما نزل درجة، كان شعور القلق يتضخم في داخله، يتثقل رأسه بتساؤلات لا يريد أن يجيب عنها، ويمتد أمامه ممرٌ من الظلال، لا يعرف ما الذي سيجده في نهايته.

واصل خطواته السريعة خارج الحارة، أنفاسه متلاحقة بين القلق والعجلة، والهاتف ملتصق بأذنه، ينتظر أي رد… وما إن جاءه الصوت من الطرف الآخر حتى قال بسرعة، بصوت فيه نفاد صبر ممزوج برجاء:

“أيوه يا ماما… البسي وروحي ل فيروز دلوقتي، ماتسيبهاش لوحدها… هي هتحكيلك اللي حصل، بس علشان خاطري ماتقوليش لحد، مش عايزين نقلقهم.”

لم ينتظر ردًا طويلًا، أنهى المكالمة بعبارات مقتضبة، ثم انزلق بإبهامه سريعًا على الشاشة ليبدأ اتصالًا آخر، ويده الأخرى ترتفع لتوقف سيارة أجرة كانت تقترب.

فتح الباب باندفاع، وفي اللحظة التي جلس فيها، جاءه الرد من الطرف الآخر، فقال:

“ألو يا كارم، بِلّغ الشباب وحصلوني على الشركة… موسى مختفي وتلفونه مقفول… ومش عارفين نوصله.”

_________________

توقفت الدراجتان أمام مدخل العمارة بصريرٍ خفيف للإطارات، كأنهما قطعتا المسافة أسرع من الريح نفسها.

ترجل الأربعة عن مقاعدهم في حركة شبه متزامنة، تتصاعد أنفاسهم بفعل السرعة، بينما تتبادل أعينهم نظرات القلق والتساؤل.

وأثناء اندفاعهم نحو المدخل، قطعهم صوت الحارس، بنبرة تجمع بين الحزم والاستغراب:

“على فين يا بهوات؟”

كان محسن يوشك على الرد، لكن صوت كارم سبق الجميع، وهو يشير بيده نحو القادم من باب العمارة:

“سامي أهو!”

التفتت الرؤوس في آنٍ واحد، لتتجه الأبصار نحو سامي الذي كان يخطو نحوهم بخطوات سريعة، ملامحه متصلبة، وعيناه لا تلتقي بأحد إلا لمامًا.

وصل إليهم وتوقف، ثم قال بصوت منخفض لكنه حاد:

“مش فوق… محدش فوق خالص.”

تقدّم حسن خطوة، القلق واضح في انقباض حاجبيه، ورغم هدوء نبرته، كان في صوته ارتعاشٌ خفي:

“طب… هيكون راح فين؟”

هز سامي رأسه ببطء، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره قبل أن يجيب:

“معرفش… حتى عربيته مركونة هناك… أهي.”

وأشار بيده نحو جانب الطريق، حيث كانت السيارة تقف بصمتٍ ثقيل… التفتت العيون كلها نحوها، ثم عادت لتستقر على سامي الذي كان يواجه الحارس بنظرة متفحصة، قبل أن يسأله بنبرة جادة:

“أنت متأكد إنك ما شفتوش؟”

رفع الحارس كفيه قليلًا في إيماءة تأكيد، وقال وهو يقطب حاجبيه كمن يحاول استرجاع تفاصيل اليوم:

“لا والله… أنا شوفته وهو داخل قبل المغرب، بس مشفتوش وهو نازل، علشان كده لما سألتني عليه، قولتلك لسه فوق.”

تدخل محسن بسرعة، صوته يحمل نفاد صبرٍ ممزوجًا بقلق:

“طب أنت اتحركت من مكانك؟ يعني يمكن نزل وإنت مش هنا؟”

تردد الحارس لحظة، ثم حك ذقنه بتفكير قبل أن يرد وكأنه تذكر أمرًا مهمًا:

“الصراحة… آه، أنا رُحت من كام ساعة كده أجيب شوية طلبات لمدام سوسن اللي في الدور العاشر، ورجعت بعدها بنص ساعة تقريبًا… حتى لما رجعت كان…”

توقف فجأة، وكأن ما يتذكره أثقل من أن يقال بسهولة؛ فاقترب منه كارم خطوة، وسألع بنبرة حادة، مليئة بالترقب:

“كان في إيه؟”

سكت الحارس لحظة، وكأن الكلمات عالقة بين حلقه وذاكرته، ثم قال أخيرًا:

“كان فيه ناس متجمعين هنا… ولما سألت واحد فيهم، قالي إن حصل حادثة، ونقلوا المصاب على المستشفى.”

تجمدت ملامحهم للحظة، وكأن الهواء ثقل فجأة من حولهم. تلاقى نظر سامي مع عيون البقية، وكل منهم يقرأ في الآخر الخوف نفسه، ذلك الخوف الذي لا يجرؤ أحد على ترجمته إلى كلمات.

ابتلع سامي ريقه بصعوبة، وسأل ببطء:

“حادثة؟… حادثة إيه؟ مين اللي اتصاب؟”

هز الحارس رأسه بتوتر، وقال:

“معرفش والله… أنا ماسألتش على تفاصيل.”

في تلك اللحظة، شعر سامي وكأن شيئًا ثقيلًا قد هوى فجأة داخل صدره، يضغط على أنفاسه حتى كادت تختنق.

تبادل النظرات مع رفاقه الذين انعكست في عيونهم ذات الموجة العاتية من القلق، ذلك القلق الصامت الذي لا يحتاج إلى كلمات ليُفهم.

زاغت أبصاره لوهلة، يبحث عن خيط منطق وسط دوامة الأفكار التي تلاطم رأسه، ثم زفر بقوة، وكأنه يحاول طرد الخوف خارج جسده، وقال بصوت متماسك على قدر استطاعته:

“لازم نعرف هو في أنهي مستشفى.”

لم يتأخر الحارس في الإجابة، وكأنه كان ينتظر السؤال:

“في مستشفى قريبة من هنا… عشر دقايق وتوصلوا.”

حينها، التفت سامي نحو البقية، وعيناه تلمعان بصرامة تُخفي وراءها موجة قلق عاتية، أومأ لهم بإيماءة واحدة كانت كافية لتفهم الأقدام طريقها، فانطلقوا جميعًا نحو الدراجات النارية بخطوات متسارعة.

قفز سامي خلف كارم على دراجته، فيما اعتلى حسن وحسين المقعد الخلفي لدراجة محسن.

وفي اللحظة التي كان المحرك فيها يستعد للزئير، شعر سامي باهتزاز هاتفه في جيبه، مد يده بسرعة، أخرجه، وحين وقعت عيناه على اسم شقيقته على الشاشة، توقف قلبه لحظة… لكنه لم يفتح الاتصال، بل أغلقه فوراً.

أعاد الهاتف إلى جيبه، شدد نظره للأمام وقال بنبرة حازمة:

“يلا يا كارم.”

أدار كارم المحرك، وفي الجهة الأخرى فعل محسن المثل، لكن الأخير لم يستطع كبح تساؤله:

“مش يمكن مش هو؟”

رمقه سامي بطرف عينه، ثم تنفّس ببطء قبل أن يجيب:

“يا رب يطلع مش هو… ولا يكون حصله حاجة.”

لم تكن كلماته مجرد رد، بل كانت دعاءً خافتًا، رجاءً يتردد في صدر كل واحد منهم، بينما كانت الدراجات تشقّ طريقها عبر الشوارع وكأنها تطارد الزمن نفسه.

_________________

“مش بيرد يا ماما… سامي كمان مش بيرد.”

كانت كلمات فيروز تتكسّر وهي تخرج من فمها، تحمل معها كل ما بلغته من خوف، وكأنها وصلت إلى الحافة التي لم يعد بعدها مجال للاحتمال.

كان القلق قد تغلغل في ملامحها حتى صار جزءًا منها، مرسومًا بوضوح على جبينها، مختبئًا في ارتجافة شفتيها، بينما عيناها تحملان خلف لمعانهما كمًّا هائلًا من العبارات المكبوتة، وكأن كلمة واحدة قد تكسر السدّ الفاصل بينها وبين الانهيار.

وقد جلست نادية إلى جوارها في صمت ثقيل، أمسكت بيديها بقوة وكأنها تحاول أن تثبّت قلبها في مكانه قبل أن يهوى، لكن ارتجافة أصابعها خانتها، ففضحت أن قلبها هي الأخرى لم يكن في حال أفضل.

قالت بنبرة تحاول أن تبدو مطمئنة، لكنها لم تنجُ من رجفة خفية:

“اهدي يا حبيبتي… تلاقيه لسه ماعرفش حاجة.”

رفعت فيروز نظرها نحوها، وعيناها تلمعان بقلق صريح، وقالت بصوت مبحوح كأن الكلمات تجرح حلقها:

“ما دي المشكلة يا ماما… هيكون راح فين؟ أنا قلبي مقبوض… وخايفة يكون حصله حاجة.”

اقتربت نادية أكثر، ورفعت يدها لتضعها على كتف ابنتها بحنان، ثم قالت ببطء وكأنها تريد أن تُثبّت كلماتها في عقلها:

“ما تقوليش كده يا حبيبتي… سلّمي أمركِ لله، وإن شاء الله يكون بخير… ويرجع لك على رجله.”

ارتجف صوت فيروز وهي تردد، كمن يسكب قلبه في كلمات قليلة:

“يا رب يا ماما… يا رب.”

لم تحتمل نادية أن تراها بهذا الحال، فاجتذبتها إلى صدرها، ولفّت ذراعيها حولها بعناقٍ دافئ، تُحاول من خلاله أن تحجب عنها رياح الخوف العاتية.

بدأت تمسح على ظهرها برفق، تهمس بدعاء صادق يخرج من أعماق قلبها:

“اللهم رده إلينا سالمًا، واحفظه من كل سوء… يا رب.”

وظلت على هذا الحال، تحتضنها كما تحتضن الأم طفلها التائه إذا عاد، لكنها هذه المرة كانت تحتضنها على أمل أن يكون الغائب هو من يعود.

_________________

في الجهة الأخرى…

اندفعوا إلى داخل المستشفى بخطوات متسارعة، تكاد الأرض لا تلحق بها… توقفوا أمام مكتب الاستقبال، حيث جلست فتاة خلف شاشة الكمبيوتر تُقلب في بعض الأوراق.

لم ينتظر كارم حتى يلتقط أنفاسه، بل تقدم سريعًا نحوها، وصوته يخرج حادًا ومضطربًا في آن:

“لو سمحتِ… في حد جِه عندكم في حادثة من شوية؟”

رفعت الفتاة رأسها ببطء، وقد لمحت في عينيه خليطًا من القلق والاستعجال، فأخذت تُقلب في السجل أمامها، فيما كان البقية يقفون خلفه، أعينهم معلقة على شفتيها، ينتظرون كلمة قد تُبدد أو تؤكد أسوأ مخاوفهم.

وأخيرًا، جاء صوتها هادئًا لكنه مثقل بوقع الصمت القاتل:

“آه… في حالة وصلت من شوية بعربية إسعاف، وماكنش معاه إثبات هوية، وهو حاليًا في غرفة العمليات.”

سقطت كلماتها على مسامعهم كالصاعقة، فارتسم الذهول على وجوههم، وتبادلوا النظرات المذعورة وكأن الهواء قد انسحب فجأة من المكان.

تجمدت الأقدام في مواضعها للحظة، حتى قطع حسن الصمت بصوت متقطع، يلهث بين كل كلمة وأخرى:

“طب… طب هي فين أوضة العمليات؟”

أجابته الموظفة وهي تشير بيدها:

“هتلاقوها في الدور التاني، آخر الممر الشمال.”

لم ينتظروا المزيد، وانطلقوا بخطوات مسرعة، تكاد تحتك بالأرض من ثقل القلق الذي يسحبهم، وكل خطوة كانت تزداد ثِقلاً كأنهم يقتربون من حقيقة يخشون مواجهتها.

وفي اللحظة التي وصلوا فيها إلى نهاية الممر، كان باب غرفة العمليات يُفتح ببطء، وخرج الطبيب بخطوات مرهقة، يزيح الكمامة عن وجهه.

لم ينتظر سامي حتى يلتقط أنفاسه، بل اندفع نحوه سريعًا وسأله بصوت متلهف:

“صاحبي جوه يا دكتور… وضعه إيه؟”

توقف الطبيب لحظة، ونظر في عيونهم واحدًا تلو الآخر، وكأن الكلمات التي يحملها ثقيلة، ثم أجاب بصوت هادئ لكنه حاد كسكين:

“للأسف… حالته حرجة، الخبطة على الدماغ كانت قوية جدًا، وتسببت في نزيف داخلي شديد، قدرنا نوقف النزيف بصعوبة، لكن… هو ما زال في مرحلة الخطر.”

شعر الخمسة وكأن الكلمات تنحت في صدورهم جرحًا أعمق من أي شيء تخيلوه، بينما تابع الطبيب بنبرة عملية تخفي خلفها قلقًا واضحًا:

“هننقله دلوقتي للعناية المركزة، وهيكون تحت المراقبة الدقيقة… كل دقيقة هتفرق، ادعوله.”

في تلك اللحظة، انسكب الصمت على المكان بثقلٍ خانق، حتى صار الهواء نفسه عصيًّا على المرور في صدورهم.

لم يُسمع سوى وقع خطوات الطبيب وهو يبتعد، أما هم فكانوا قد انتُزعوا من أرض الواقع وأُلقي بهم في عالم آخر، عالم لم يتصوروا يومًا أن تطأه أقدامهم.

الصدمة ابتلعتهم جميعًا، سحقت أنفاسهم وقوضت قواهم…

تراجع سامي خطوة… ثم أخرى، حتى فقد الإحساس بثقل جسده، فانهار على الأرض دون أي مقاومة، وكأن أوتار روحه قد انقطعت فجأة.

أما كارم، فتجمد في مكانه كتمثال جليدي، حدق في الفراغ بلا رمشة، وكأن أحدهم سكب على قلبه دلواً من ماء بارد سرق منه دفء الحياة.

وحسن، ثبت نظره على باب غرفة العمليات، صدره يعلو ويهبط بأنفاس متقطعة، وكأن الهواء يخونه في اللحظة التي يحتاجه فيها أكثر من أي وقت مضى، وحسين إلى جانبه بعينين متسعتين حتى أقصاهما، كأنه يخشى أن يرمش فيفقد المشهد الذي يحاول فهمه.

أما محسن، فكانت شفتاه ترتجفان بلا وعي، قبل أن يتراجع للخلف ويسند جسده إلى الجدار، يرفع كفيه ليمسح دموعًا لم يحاول حتى منعها، فكانت تلمع تحت ضوء الممر الأبيض البارد، شاهدة على هشاشة اللحظة.

ساد صمت أثقل من أن تُحمله الكلمات، صمت بارد ينفذ إلى العظم، يوازي برودة أجسادهم في تلك اللحظة المشلولة.

بدا الزمن متوقفًا، والأنفاس معلقة بين الصدر والحلق، حتى اخترق هذا الجمود صوت مألوف، جاء من الخلف، خشنٌ بعض الشيء لكنه مليء بالحياة، ليشق السكون كسكين حاد:

“فيه إيه يا رجالة؟؟”

التفتت رؤوسهم في آنٍ واحد، ببطء أشبه بحركة غريزية لا إرادية، وحين وقعت أعينهم على صاحب الصوت، ارتجّت الملامح بين ذهول وارتياح مفاجئ، وكأن شرارة الحياة عادت تومض في أعينهم بعد أن كانت خامدة.

استقام محسن من على الجدار دفعة واحدة، وكأن الأرض أعادت دفعه إلى الوقوف، واتسعت حدقتاه حتى كاد صوته يختنق بين الحلق والشفتين، قبل أن يخرج هتافه المذعور الممزوج باليقين:

“مــ… موسى؟!”

ونعم… كان هو، موسى، بشحمه ولحمه، يقف أمامهم كطيف عاد من غياهب القلق الذي ابتلعهم منذ لحظات، لكن جسده لم يخرج من التجربة بلا ثمن.

على جانب رأسه، برزت لاصقة طبية صغيرة تغطي جرحًا بدا وكأنه حديث النزف، فيما ذراعه الأيمن كان مسجونًا في حامل، وقد لُف بجبيرة طبية تحيط به بإحكام.

كانت ملامحه تحمل مزيجًا غريبًا من الإرهاق والألم، لكنه كان واقفًا، يتنفس، ينظر إليهم بعينيه اللتين طالما عرفوها، فتصدّع جدار الصمت الذي أحاط بالمكان، وبدأت أنفاسهم تعود إليهم واحدة تلو الأخرى، وكأنهم تذكّروا فجأة كيف يعيشون.

وفجأة، وكأن شرارة الحياة انطلقت في جسده، نهض سامي من على الأرض، وكأن جسده استعاد قواه، بينما اندفع محسن وانطلق نحو موسى بخطوات متسارعة، ثم ارتمى في أحضانه بقوة، يعانقه كما لو كان يحاول أن يثبت له وللعالم أنه ما زال هنا، يقف بخيرٍ أمامه.

ضغط محسن على كتفيه وذراعيه، وكأنه يخشى أن يتلاشى في لحظة، فيما أغمض عينيه لثوانٍ وهو يهمس بصوت مبحوح من فرط الانفعال:

“الحمد لله… الحمد لله إنك بخير.”

ارتسمت على وجه موسى علامات ارتباك حقيقية، أغمض عينيه للحظة وهو يتأوه من وخز الألم في ذراعه، ثم فتحهما ببطء، حاجباه مرفوعان بدهشة عميقة، وهو يمرر نظراته على محسن الذي تراجع خطوة للخلف، ثم على سامي، فحسن، ثم محسن، حتى توقفت عيناه عند حسين، الذي كان يحدق فيه بجدية ممزوجة بالذهول، وقال مشيرًا نحو باب غرفة العمليات المغلق:

“مش أنت كنت جوه؟”

رمقه موسى بارتباك أكبر، حاجباه ما زالا معقودين، ورد بنبرة متسائلة كمن يواجه لغزًا:

“كنت جوه إزاي؟”

ردّ

حسين سريعًا، وعيناه تتسعان وهو يشرح:

“هما قالولنا إنك جوه، وإن حصل لك نزيف حاد… وحالتك خطر.”

حينها، نظر موسى مرة أخرى نحو الباب وكأنه يحاول أن يستوعب الصورة، ثم عاد بنظره إليهم جميعًا، وفي عينيه خليط من الحيرة والريبة،

كأن شيئًا في القصة لا يستقيم.

رفع موسى حاجبيه قليلًا، وقال بصوت يحمل مزيجًا غريبًا من الاستنكار ونفحة خفيفة من المزاح، وكأنه يحاول تخفيف وطأة الموقف:

“مش فاهم أنت قصدك إيه… اللي أعرفه إني مش جوه، وإلا لو كنت جوه… كنت هابقى واقف قدامكم كده إزاي؟”

كانت كلماته كالمفتاح الذي فك القيد عن صدورهم، فأغمض الجميع أعينهم في وقت واحد، وتنفّسوا الصعداء بعمق، وكأن الحياة التي كانت محبوسة على أعتاب قلوبهم اندفعت فيها من جديد.

وسامي تحديدًا تراجع خطوة إلى الخلف، وأسند مؤخرة رأسه على الجدار، يرفع كفّيه ليمسح وجهه بحركة بطيئة، مزيج من الانهاك والارتياح، وكأنه يطرد عن جلده آثار الخوف الذي التصق به.

أما موسى، فظل واقفًا أمامهم، يتأمل وجوههم واحدًا واحدًا بعينين تبحثان عن تفسير عما حدث قبل أن يصل.

_________________

مع مرور الوقت…

كانت تجلس على الأريكة بجوار والدتها، جسدها متصلب كمن يخشى أن يتحرك فينهار، كانت تهز قدمها بتوتر متسارع، إيقاعه يفضح اضطراب قلبها، بينما قبضتاها تحيطان بالهاتف كأنها تتمسك به كطوق نجاة وحيد في بحر قلق لا قرار له.

كانت أنفاسها قصيرة، متقطعة، وعيناها تلاحقان شاشة الهاتف في صمت ثقيل، تنتظر ومضة أو رنينًا، أي إشارة قادرة على إخماد النيران التي تلتهم صدرها ببطء، وتبدد تلك الغمامة الداكنة التي حجبت عنها حتى القدرة على التفكير بصفاء.

وبجانبها، كانت والدتها تراقبها بقلق مكتوم، تمد يدها بين الحين والآخر لتربت على ركبتها في محاولة لزرع بعض الطمأنينة… لكن التوتر كان أعمق من أن تمسّه لمسة يد.

وأخيرًا، دوّى صوت جرس الباب في أرجاء البيت، قاطعًا ذلك الصمت الموحش الذي كان يضغط على أنفاسهما.

ارتجفت يدها، ورفعت رأسها بحدة نحو مصدر الصوت، بينما تسارعت دقات قلبها حتى شعرت أنها تطرق على أضلاعها من الداخل.

نظرت إلى والدتها نظرةً تختلط فيها شرارة الأمل مع ظلال الرهبة، ثم نهضت دفعة واحدة، تتحرك بخطوات سريعة نحو الباب، بينما لحقت بها نادية بخطى أقل اندفاعًا، يسبقها قلق الأمومة الذي يثقل القدمين.

لكن قبل أن تصل يدها إلى المقبض، لاحظت أن الباب بدأ يتحرك من تلقاء نفسه، ينفتح ببطء حتى ظهر أمامها شقيقها، واقفًا على العتبة.

في تلك اللحظة، تجمدت أنفاسها في صدرها حتى شعرت بأن قلبها يخفق بقوة تكاد تمزق الصمت من حولها.

وفجأة، ومع انفتاح الباب على اتساعه، انكشفت الصورة كاملة… كان يقف هناك، إلى جوار شقيقها، ملامحه منهكة ولكنها مشبعة بالطمأنينة، وابتسامة دافئة تعانقها من بعيد… لمع بريق الدموع في عينيه، واهتز قلبها أكثر حين أدركت أنه أمامها حقًا.

تقدم سامي إلى الداخل أولًا، مفسحًا الطريق لرفيقه، وبمجرد أن خطا الأخير إلى الداخل، انهارت قواها تمامًا، لتسقط دموعها بغزارة حين وقعت عيناها على جروحه وآثار الحادث عليه.

ومع ذلك، لم تسمح للمسافة أن تستمر، فانطلقت نحوه بلا تردد، لتحتضنه

بقوة، عناقًا جمع كل ما في قلبها من اشتياق وخوف، وكل الرجفات التي عانت منها في الساعات الماضية… كان عناقًا يختلط فيه اللهاث مع الدموع، وفيه تنفست أخيرًا شيئًا من الأمان الذي ظنّت أنها فقدته.

لقد روادتها أسوأ الاحتمالات، ورسم خيالها صورًا أكثر قسوة مما يمكن لقلبها احتماله، لكن ها هو أمامها، بجرحه ولصقته، وبذراعه في الجبيرة، إلا أن كل ذلك بدا أهون بكثير أمام الحقيقة الأهم… أنه هنا، واقف على قدميه، حيّ، وفي عناقها الذي بدا وكأنه يربط روحه بروحها من جديد.

.

.

.

.

جلس على الأريكة وجلست هي بجواره قريبة بما يكفي لتلمس ذراعه بين الحين والآخر، وكأنها تطمئن أنه ما زال حقيقيًا أمامها.

كان وجهه شاحبًا، وعيناه تحملان ظلال التعب، لكن صوته، رغم هدوئه، حمل ذلك الثقل الممزوج بالإرهاق والألم وهو يقول:

“أول ما قفلت معاكِ… ولما جيت أركب العربية، افتكرت إني نسيت اللابتوب، وعليّ فيه شغل مهم… فكنت راجع علشان أجيبه… فجأة، جات عربية من على يميني وخبطتني.”

ارتسمت على وجوههم علامات الفزع من تخيل المشهد، بينما كان سامي يحدق فيه بعينين هادئتين، وكأنه يعيد رسم الحادث في عقله، أما نادية فشبكت أصابعها في حجرها، تكتم تنهيدة ثقيلة وهي تحمد الله في سرّها أن الأمر لم يكن أسوأ.

قطع موسى هذا الصمت وهو يضيف بصوت لا يخلو من التعب:

“وبعدين فوقت في المستشفى، ولما جيت أتصل بيكِ لقيت تلفوني فاصل شحن… فخرجت أشوف حد معاه تلفون، وأنا ماشي شوفت سامي والشباب طالعين على السلم، فطلعت وراهم، ولقيتهم قاعدين ولا كأنهم في جنازة.”

ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي سامي، نابعة من مزيج الارتياح والسخرية الخفيفة من الموقف، ثم التفت نحو والدته وشقيقته وقال بنبرة مهدئة:

“ده كان سوء تفاهم كده… ما تقلقوش.”

لكن نادية، التي لم تطفئ كلمات سامي فضولها وقلقها، مالت بجسدها قليلًا للأمام وسألت بصوت يحمل حذرًا:

“طب… واللي عمل كده يا بني، حصل فيه إيه؟”

رد موسى بهدوء، وكأنه يسرد شيئًا عابرًا:

“لا… خدونا أنا وهو على المستشفى.”

تبادلت فيروز ونادية النظرات، ثم طالعته الأولى باستغراب صريح وسألته:

“يعني أخدوه علشان مايهربش؟؟”

ابتسم موسى بخفة، تلك الابتسامة التي تخفف وقع الكلام لكنها لا تمحوه، وهز رأسه نفيًا قبل أن يوضح:

“لا… الموضوع إن اللي خبطني راجل في الأربعين، وعنده سكر… كان سايق وهو في حالة هبوط، ومعرفش يتحكم في العربية… ولما كان بيحاول يوقفها، أنا ظهرت قدامه فجأة… وحصل اللي حصل.”

كانت كلماته بسيطة، لكن وقعها انغرس في الصدور بثقلٍ صامت، كأنها أطلقت شريطًا من الصور في عقولهم، صورًا للحظة الاصطدام وما كان يمكن أن تؤول إليه.

وفيروز، التي لم تُبعد عينيها عنه منذ بدأ الحديث، مدّت يدها برفق لتستقر على كتفه السليم، تمرر أصابعها بخفة كما لو كانت تتحقق من وجوده أمامها، وكأن هذه اللمسة وحدها قادرة على تهدئة القلق الذي ما زال ينهش قلبها رغم طمأنينته.

أما نادية، فقد أطلقت تنهيدة طويلة، كأنها تفرغ معها كل الخوف الذي تراكم في صدرها، ثم همست بصدق نابع من الأعماق:

“الحمد لله إنها عدّت على كده.”

كان في نبرتها مزيج متناقض من الامتنان والارتجاف؛ امتنان لأن الله كان رحيمًا وحماه من مصيرٍ أسوأ، وارتجاف لأن خيالها لم يجرؤ على استكمال صورة ما كان سيحدث لو أن الأمور سارت نحو الأسوأ فعلًا.

حينها، رفع موسى عينيه نحوها، وابتسامة هادئة ارتسمت على وجهه، ابتسامة تحمل في طياتها شكرًا صامتًا لكل القلق الذي رأته في عينيها، وكأنه يطمئنها من دون كلمات أن كل شيء بات تحت السيطرة.

ثم حوّل نظره إلى فيروز، ومنحهـا بدوره ابتسامة مطمئنة، تلك الابتسامة التي تحاول أن تقول لها إنه بخير، وأنه ما زال هنا، حيًّا، أمامها، وأن كل ما تخشاه لم يحدث… ولن يحدث.

_________________

ولج برفقتها إلى الغرفة بعدما غادر كلٌّ من والدتها وشقيقها، وأغلق الباب خلفه بهدوء، ثم تقدم موسى الفراش وجلس، يسند ذراعه السليمة على ركبته، ونظر إليها وهو يقول بصوت منخفض:

“كويس إنك ماقلتيش لحد من العيلة، وإلا كانوا هيقلقوا أوي.”

اقتربت فيروز ببطء، تحمل في خطواتها مزيجًا من الحذر والحنين، ثم أجابت بنبرة مترددة:

“بس… لازم نقولهم.”

أومأ برأسه وكأنه يوافقها لكن مع تحفظ، ثم قال بهدوء وحزم لطيف:

“هنقولهم طبعًا… بس لما النهار يطلع، وأبقى أبلغهم بطريقة ما تخليهمش يقلقوا أو يترعبوا أيهما أقرب.”

ابتسمت فيروز له بهدوء وهي تومئ بالموافقة، ثم توقفت أمامه تمامًا، ثم راحت عينيها تجول على ملامحه المرهقة، تلتقط كل تفصيلة، كل ظل تعب مرسوم على وجهه، قبل أن ترتسم على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تقول بنبرة تحمل دفء العناية:

“يلا… ارتاح شوية، أكيد جسمك واجعك.”

ردّ بابتسامة دافئة، تنبع من قلبه أكثر مما تنعكس على شفتيه، وعينيه تلمعان بصدق لا تخطئه، وهو يقول:

“نسيت كل حاجة أول ما شوفتك.”

لم تستطع منع نفسها من الابتسام له بحب، فبادلها الابتسامة بهدوء، وكأن بينهما لغة لا تحتاج إلى كلمات.

ثم ألقى نظرة نحو الساعة المعلقة على الحائط، وقال بصوت مائل للهدوء والسكينة:

“خلينا نصلي الفجر بقى الأول وبعدين ننام.”

أومأت موافقة، وقد علت وجهها ملامح الرضا، ثم قالت وهي تتحرك نحوه بخطوة حانية:

“ماشي… خليني أساعدك تغير هدومك الأول.”

اقتربت منه بهدوء، وجلست بجانبه على حافة الفراش، تمد يدها بحذر نحو الحامل الذي يثبت ذراعه، وبدأت تفك أحزمته ببطء شديد، كأنها تخشى أن تتسبب له في أي ألم، وعيناها تراقب تعبيرات وجهه لتلتقط أي إشارة ضيق.

وحين أزالت الحامل تمامًا، مدت يديها نحو أزرار قميصه، تفكها واحدًا تلو الآخر بروية، حتى انفتح القميص، ثم ساعدته برفق على إخراج ذراعه السليمة أولًا، قبل أن تميل نحوه قليلًا وتدعم ذراعه المصابة بحذر، تسنده حتى لا يجهد نفسه، وتحررها من الكم بلمسات حانية.

خلع القميص أخيرًا، وانكشفت أمام فيروز كدمات متفرقة على جانبه الأيمن، بلون أرجواني داكن يتخلله اصفرار، تشهد على عنف الاصطدام وقسوته.

تجمدت عيناها عليها، وكأنها تحاول استيعاب أن هذه الضربات لم تسقطه أرضًا فقط، بل كادت تسرق منه أنفاسه.

ارتسم الضيق والحزن بوضوح على ملامحها، حتى انعكس صمتهما في الغرفة وكأنه ثقيلٌ يضغط على الحوائط.

رفع موسى رأسه قليلًا، عينيه تتنقل ببطء بين الكدمات التي تلطخ جانبه ونظراتها التي كانت ممتلئة بقلقٍ صامت، وكأن كل منهما يقرأ ما يدور في رأس الآخر دون حاجة إلى حديث.

وقبل أن ينطق بكلمة، تحركت هي فجأة، التفتت نحو المنضدة القريبة من الفراش، فتحت أحد أدراجها بخفة، وأخرجت عبوة كريم صغيرة كانت قد اعتادت أن تدهن بها قدمها حين يشتد عليها الألم.

التفتت إليه مجددًا، عينيها تحملان شيئًا بين الحنان والحزم، ثم قالت بصوت دافئ لكنه جاد:

“هتحس بوجع… معلش.”

أجابها بابتسامة خفيفة تزينها ملامح مرهقة:

“لا… وجودك أحسن مُسكّن.”

ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة لم تخلُ من التأثر بكلماته، ثم جلست بقربه وبدأت تضع الكريم على كدماته بحذر شديد، أناملها تتحرك برفق وكأنها تخشى أن تجرحه حتى باللمس، بينما كان يراقبها في صمت، والشعور بالراحة يمتزج بداخله مع دفء قربها.

_________________

مع مرور الوقت…

كانت جالسة على طرف السرير، وقد استقر رأس موسى على ساقيها كأنه وجد أخيرًا المكان الأكثر أمانًا في الدنيا، أنفاسه تتوالى ببطء وهدوء، وصوت قلبه يتناغم مع لمسات أصابعها وهي تنساب برفق بين خصلات شعره، تكرر الحركة بلا وعي، وكأنها تحاول أن تمحو من ذاكرته آخر ومضة ألم وأثر قلق.

كان يحدق في الفراغ أول الأمر، ثم التفت نحوها، وعيناه تلمعان بظل الذكرى ثقيلة، وصوته خرج هادئًا لكن عميقًا، يحمل صدى ما عاشه:

“لما شوفت العربية وهي جاية عليا… حسيت بمشاعر أول مرة أحسها في عمري، فجأة كل حاجة سكتت… وشوفت شريط حياتي كله بيتعرض قدامي، بحلوه ومره، كأنت ثانية واحدة أو حتى أقل جمعت كل ده… ولما كنت شبه واعي وحاسس بجسمي متكسر، سألت نفسي… دي النهاية؟ يعني خلاص… كده خلصت؟”

توقف لحظة، وابتسم ابتسامة حزينة وهو يثبت نظره في عينيها:

“خلاص… كده مش هشوف القمر ده تاني.”

في تلك اللحظة، شعرت فيروز بانقباضة حادة في صدرها، وكأن قلبها رفض أن يستوعب مجرد احتمال غيابه عنها.

كانت عيناها تلمعان بالدموع التي كادت تنساب، بينما هو استمر في حديثه، كأنه يشاركها أعماق روحه بكل صدق:

“وبعدين لما كنت في المستشفى، قعدت شوية أحاول أستوعب إني لسه هنا، إني كويس، وإنه مكتوب لي أعيش أطول… حمدت ربي إن الأمور عدت على خير، وإنه ما وجعش قلب اللي بحبهم عليا.”

طالعته فيروز بأعين دامعة، وابتلعت ريقها بصعوبة، قبل أن ترد بصوت يختنق به الغصة:

“الحمد لله… الحمد لله إنك بخير، وإنك قدامي، قدام عيني.”

مالت برقة لتطبع قبلة ناعمة على جبينه، كأنها تريد أن تنقل له كل مشاعر الاطمئنان والحب المختلطة بالخوف الذي كان يعتصر قلبها.

ابتسم لها هو بهدوء، ثم مد يده السليمة ببطء، وأمسك بكف يدها، وقبله برقة حانية، كأنه يودع لحظة الألم ويحتضن الأمل معها.

بعدها، ارتاح بين ذراعيها، مائلاً نحو الجهة اليسرى لينام، مستسلماً للراحة في وجودها، فيما ابتسمت هي بهدوء، وأخذت تمرر يديها على ذراعه برقة وحنان، بينما تهمس في سرّها بشكر الله، ممتنة أنه هنا الآن أمامها، سالماً وبخير.

_________________

مع بزوغ الصبح، ظلّا نائمين بسلام، تنساب أنفاسهما بتناغم هادئ كأنهما في وادٍ بعيد عن هموم العالم… كان الصمت يلف الغرفة بلطف، حتى تقطع هدوء اللحظة فجأة بصوت رنين الجرس المتكرر، تلاه طرقات سريعة على الباب.

بدأ كل منهما يستفيق ببطء من سكينة الليل التي احتضنتهما، إلى صوت الواقع الذي عاد يطرق بوضوح وبألحاح لا يرحم.

رمشا بأثقال النوم، واستوعبا تدريجيًا ما حولهما، فتساءل موسى بصوت كسول مفعم بالدهشة والكسل:

“مين جاي على الصبح كده؟”

اعتدلت فيروز في جلستها، تلمس ثقل اللحظة، ثم قالت بنبرة مترددة لكن حازمة:

“استنى، هروح أشوف.”

نهضت من على الفراش بخطوات هادئة لكنها واثقة، وفي ذات اللحظة تنهد موسى بعمق، مسح وجهه بأطراف أصابعه المتعبة، ثم نهض ببطء خلفها.

وبينما كانت فيروز تفتح الباب، كان موسى يخرج من الغرفة، وما إن انكشف المشهد أمام عينيهما، حتى تفجرت في قلبهما عاصفة من المشاعر؛ مزيجٌ متشابك من المفاجأة التي أخذت أنفاسهما، والقلق الذي تسلل إلى أعماق روحهما.

كان داود وعبير، واقفين هنام أمام الباب، وجوههما تحمل ما يشبه الصدمة والخوف معًا، حينها تنهد موسى بخفوت، وعيونُه ترسل إشارة صامتة إلى فيروز، فقد أدرك أن هناك من سبقهما وأخبرهما بما حدث.

.

.

.

.

“أنتم إزاي ما قولتوش لينا؟ ماكناش هنعرف لولا عمك مسعد اللي شافك وأنت نازل مع صحابك من العربية.”

كانت تلك كلمات داود، التي قطعت أجواء المكان، وملأتها مشاعر القلق والحيرة، وكأنها توجيه لومٍ خفيفٍ لكن محمل بحب عميق وخوف أبوي لا ينتهي.

كان موسى يجلس بهدوء أمام داود، عينيه تلتقيان بعينيه للحظة، ثم التفت ببطء نحو والدته، وقال بنبرة هادئة لكنها محملة بالصدق:

“والله العظيم كنت ناوي أقول لكم، بس فكرت أقولكم لما يطلع النهار بدل ما أقلقكم في انصاص الليالي.”

كان صوته يحمل عبء المسؤولية والحرص، محاولة منه لدرء القلق عن عائلته، رغم ثقل ما حمله قلبه طوال تلك الليلة الطويلة.

اقتربت عبير منه، و قالت بلهجة مرتعشة تخترق الصمت:

“أنا قلبي وقف لما أبوك قالي والله، وانقهرت عليك لما شوفتك كده دلوقتي ياعين أمك.”

تنهد موسى بعمق، وهو يستمع إلى كلمات والدته، ثم رفع يده ليضمها الى صدره، وكأنما يريد أن يطمئنها أكثر مما يمكنه قوله بالكلمات، ثم قال بهدوء، وعيناه تلتقيان بعينيها بحنان:

“أنا بخير يا ماما، الحمد لله… واللي حصل حصل خلاص وعدّى، ربنا سترها الحمد لله.”

ابتسمت عبير ابتسامة خافتة، لكن القلق ظل يختبئ في عينيها اللامعتين، فتمسكت بيده برقة وحنان، وفي سرها كانت تهمس بحمد الله، شاكرة أن الله حفظه وأبقاه لها رغم كل المخاطر التي مر بها.

تنهد داود بعمق، ثم بصوت مفعم بالمشاعر قال:

“الحمد لله إن اللي حصل ما كانش أسوأ من كده، أهم حاجة دلوقتي إنك ترتاح وتاخد بالك من نفسك، ماتوجعش قلوبنا عليك أكثر من كده يا حبيب أبوك.”

رد موسى بهدوء وطاعة:

“حاضر يا بابا.”

ابتسمت فيروز بهدوء وهي تراقب المشهد العائلي الدافئ، لكن صوت رنين الجرس الذي كسر هدوء الغرفة لفت انتباهها، فنظرت نحو الباب كما فعل الجميع، ثم قالت بصوت هادئ:

“أنا هروح أفتح الباب.”

نهضت فيروز بخفة من مكانها، وتوجهت نحو الباب بخطوات متسارعة لكنها متزنة… مدّت يدها ببطء لتفتح الباب، وعندما انزلق الباب ببطء عن مكانه، انكشف أمامها منظر جمع الأحبة الذين لم تكن تتوقع رؤيتهم جميعاً دفعة واحدة.

هناك، على عتبة الباب، وقف محمد محاطًا بأبناءه وأزواجهم، وجوههم تعلوها علامات القلق المختلط بالامتنان، وعيونهم تلتقط كل تفصيلة في الداخل، كأنها محاولة للتأكد من سلامة موسى.

تحدث محمد بصوت جاد، لكنه لم يخلُ من لمسة من السخرية الطريفة:

“فين ابن داود اللي قلقنا عليه ده؟”

ابتسمت فيروز بخفة، وتنحّت جانبًا تفتح لهم الباب واسعًا، فتقدموا واحدًا تلو الآخر، حاملين معهم حضورهم الدافئ.

وقف موسى منتصبًا ليستقبلهم، لكن على وجهه كان ما يشبه الصدمة التي لم تفارق ملامحه منذ الحادث.

اقترب من جده بخطوات ثابتة، وقال بلهجة تجمع بين الحنان والمزاح:

“تعبت نفسك وجيت ليه يا جدي بس؟”

رد محمد بنبرة حازمة لكن ساخرة:

“البركة فيك، ايه اللي خلاك تتخرشم كده، وتخليني أجي المشوار ده؟؟”

ضحك موسى ضحكة قوية، أضاءت وجهه المتعب، ورد بابتسامة صادقة، بينما تبادل الجميع النظرات والابتسامات التي أخفت وراءها الكثير من المشاعر المختلطة.

تقدم نحو جده واحتضنه بحرارة، ربت محمد على ظهره بهدوء، وهو يقول بنبرة ملؤها الحنو:

“ألف حمد الله على سلامتك يا حبيب جدك.”

رد موسى بابتسامة دافئة:

“الله يسلمك يا جدي.”

وفي تلك اللحظة، اخترق هذا الصمت الدافئ، صوت خطوات تتردد بحذر، ثم توقفت فجأة.

نظرت الجميع صوب دلال التي شهقت بصدمة بعدما رأت موسى في تلك الحالة التي لم تتخيلها قط.

تجمّدت الأنفاس في الغرفة، وتجمعت العيون كلها عليه، بينما كانت هي تقترب منه ببطء، كل خطوة تنطوي على ثقل المشاعر المتشابكة بين الخوف والقلق والصدمة، حتى وصلت أمامه.

حركت عينيها بينه وبين فيروز، ثم قالت بنبرة تمزج بين الاستغراب والاهتمام:

“هو أنتم محسودين؟ يعني إيه واحدة تقع ورجلها تتصاب الأسبوع اللي فات، والنهاردة التاني يتخرشم كده؟”

رد موسى ببرود يخفي خلفه استغراباً عميقًا:

“لا، تقريباً… معمول لنا عمل.”

تقدمت نحوها خطوة، وصوتها صار أكثر إلحاحًا وحنانًا:

“اقعد واحكيلي كل حاجة حصلت من الألف للياء.”

________________

_

مع مرور الوقت…

جلس محاطًا بعائلته، يروي لهم تفاصيل ما حدث، وصوته يعتاده الجميع، لكنه مع كل قدوم ضيف جديد يجد نفسه مضطرًا لبدء الحكاية من جديد، حتى استنفد صوته، فتولى أحدهم استكمال الحديث وتخفيف ثقل الموقف.

توالت الزيارات، إذ حضر عمته سهير مع زوجها وبناتها، وأبناء أعمامه مع زوجاتهم، إلى جانب عائلات أصدقائه الذين توافدوا واحدًا تلو الآخر، حتى امتلأ البيت بأصواتهم وحضورهم.

ووسط هذا الزحام المتجدد الذي لم يهدأ منذ لحظة، كان هناك من بقي إلى جانبه بثبات؛ منهم عبير وداود، وبالطبع دلال… هؤلاء الثلاثة لم يغادروا مقاعد الدعم والحضور منذ وصولهم، حاملين معهم أعباء القلق والمحبة بلا كلل.

تولت عبير مهمة تحضير الطعام، وكانت فيروز تحاول مساعدتها لكن عبير رفضت ذلك بحزم، خشية أن تتعب فيروز قدمها أكثر مما يحتمل، فأصرت على أن تتحمل هي العبء وحدها.

أما دلال، فكانت صوت الحكاية، تروي للضيوف تفاصيل ما جرى، وتتقن كسر رتابة الساعات بالحديث الطويل مع موسى والجدال معه بسبب أشياء صغيرة لا قيمة لها، لكنها جاءت كنفحات خفيفة تريح النفوس المتعبة.

توالت الساعات على هذا المنوال حتى غابت آخر أشعة النهار، وغادر الجميع، ولم يبق سوى هو، وفيروز، ودلال التي رفضت الرحيل، بل وللحق كان هو من منعها عن ذلك، رافضًا أن يتركها تجلس وحيدة في بيت خالٍ من الدفء والأنيس.

تولت دلال مساعدة فيروز في ترتيب المنزل، أما موسى فجلس بهدوء على الأريكة ممسكًا بهاتفه، صوته متردد لكنه يملؤه الحماس في آن، يحاول طمأنة طارق الذي يبدو قلقًا عليه، قائلاً:

“والله العظيم كويس يا خالو… أحلفلك على المصحف علشان تصدقني.”

فأجابه طارق بنبرة ساخرة وحانية في الوقت نفسه:

“كده كده أنا هوصل بكرة وأشوفك واطمئن عليك بنفسي، ولو طلعت بتكدب تعرف هعمل فيك إيه؟؟”

رد موسى بفضول:

“إيه؟؟”

فأجاب طارق مبتسمًا مع تهكم خفيف:

“هاخد منك كل قرش أخدته مني زمان.”

تغيرت ملامح موسى فجأة، وظهرت عليه ملامح التهجم قليلًا، لكنه استدار ليقول بحزم:

“الحمد لله إني مش بكذب، وكده مش هدفع.”

ضحك طارق وقال وهو يهتف:

“مفيش فايدة فيك.”

فابتسم موسى، وختم الحديث قائلاً:

“الله يخليك يا خالو.”

وبين لحظة وأخرى، كانت فيروز ودلال تتحركان بخفة داخل المنزل، تلتقطان الأشياء وتعيدان ترتيبها بعناية، وفي الخلفية، كان صوت موسى يتسلل إليهما من الغرفة المجاورة، حيث غرق في حديثه مع طارق، حديث يمزجه الحنان بالسخرية والضحك.

________________

_

غلف الليل المدينة بأغطية السكون، وازدانت الشوارع بأنوار المصابيح التي تومض بخفة كنجوم صغيرة تنعكس على الأرصفة.

أما هو، فكان محاطًا بأصدقائه في ركن من أركان السايبر، حيث كانت الوجوه تتقارب والأحاديث تتداخل، يتبادلون تفاصيل ما حدث بالأمس، وكل كلمة تحمل ثقل الذكرى ووميض القلق.

كان الصغير يجلس بهدوء بجانبهم، يشارك بفضوله الصامت، يستمع لهم بحذر، يفهم من حديثهم القليل، لكنه كان يشاركهم الضحك حين يضحكون، ويسكت حين يسكتون، كأنه يتلمس نبض اللحظة.

كان يجلس بجوار محسن، الذي قال بصوته الخشن:

“أقسم بالله، قلبي وقف لما الدكتور طلع وقال الكلمتين، وفضلت شوية أستوعب اللي سمعته.”

علّق كارم بنبرة ثقيلة، والسيجار يتدلى من شفتيه:

“أتمنى ماعشّ الموقف ده تاني، وربنا مايكتبه علينا تاني… قولوا آمين.”

رد الأربعة بصوت واحد آمين، لكن موسى الذي كان يراقبهم بذهول، حتى أطلق بسخرية ثقيلة:

“ده كله وهو قالكم حصل له نزيف حاد، أمال لو قالكم إنه مات كنتوا عملتوا إيه؟؟”

تجمّدت وجوه الخمسة تحت وطأة كلماته، وألقى نظرات حادة نحوه، حتى نزع كارم السيجارة من بين شفتيه بحزم، وطأها بقدمه بعنف، ثم أشار إليه بأصبعه قائلاً بصرامة:

“عيد الكلمة دي تاني، وهتكون مكان السيجارة دي.”

حرك موسى نظراته ببطء نحو الجميع، التقط في عيونهم تلك الجدية الصارمة التي لا تحتمل المزاح، فتراجع قليلاً وقال بنبرة تخلو من التهكم:

“خلاص يا جماعة، حصل خير، أنا كنت بهزر.”

لكن سامي لم يترك له مجالًا للتهرب، فأجاب بصوتٍ حادٍ يحمل ثقل الموقف:

“مفيش هزار في الحاجات دي يا صاحبي.”

كانت كلماته بمثابة جرس إنذار، أوقفت كل محاولة للتلاعب بالمشاعر، فعمّ الصمت ثقلاً لوهلة، حاملاً في طياته عمق القلق وخطورة ما مرّوا به.

حينها ارتسم على وجه موسى ابتسامة خفيفة تحمل بين طياتها امتنانًا صادقًا، ونظر إلى رفاقه بعينين مليئتين بالصدق، وقال بنبرة ناعمة تخفف من وقع الموقف:

“حقكم عليا يا شباب، عارف إن قلقتكم عليا أوي، وأنا آسف والله.”

عمّ الصمت قليلاً في المكان، لكن آثار القلق لم تغادر أعينهم بالكامل… تبادلوا نظرات تعكس عمق الصداقة وروح التضامن التي تجمعهم، ثم مد سامي يده نحو موسى، وضغط على  كتفه بخفة حانية، وهو يبتسم له بخفوت.

تنهد موسى بعمق، وابتسم ابتسامة هادئة، لكن في أعماق عينيه كانت تُشعُّ الامتنان والدفء.

مرر نظراته الواحدة تلو الأخرى على وجوه أصدقائه، كأنه يحاول أن يختزل في تلك اللحظة حجم المحبة والدعم الذي يجمعهم، ثم قال بصوتٍ مفعم بالمشاعر:

“والله إنتم أغلى حاجة طلعت بيها من الدنيا… ربنا يخليكم ليا.”

رد حسن بابتسامة لطيفة، وربت برفق على ركبة موسى، كلماته تحمل تعبيرًا عن الوفاء:

“ويخليك لينا يا صاحبي.”

حينها عمّ الصمت اللحظة، لكنه صمتٌ دافئ يشعرك بأن تلك الروابط المتينة بينهم هي من تثبتهم في وجه العواصف، وتمنحهم القوة للاستمرار مهما اشتدت الظروف.

وفي لحظة الصمت تلك، نهض محسن فجأة، عاقدًا حاجبيه بابتسامة ماكرة، وقال بحماس:

“بمناسبة صاحبي وكده، يلا نسمع ونرقص على الأغنية دي بقى!”

لم يمضِ إلا ثوانٍ حتى أخرج هاتفه بسرعة، وصدح صوت الموسيقى في المكان، لتملأ أجواء السايبر نغمات أغنية “صاحبي يا صاحبي” الصاخبة.

-صاحبي يا صاحبي

أنت اللي لوحدك شبهي

ده في ناس في كروش بتعبي

وفي ناس بتنسى تربي

صاحبي ياصاحبي

أنت اللي مقوي لي قلبي

أنت اللي ساندني وجنبي

وطول ما أنت كتف بكتفي

نقدر على الدنيا

نقدر على الدنيا ياصاحبي

صدحت كلمات الأغنية في الأرجاء، فاحتلت المكان بألحانها النابضة بالحياة، متزامنة مع حركات الأصدقاء التي ملأت الغرفة بحيوية وشغف.

كان محسن في قلب المشهد، يتراقص مع يزيد بكل اندفاع، يرفعه على كتفه في لحظات من الفرح والحرية، بينما يضحك الصغير بحرارة، مشدودًا بين يديهما كجزء من تلك السعادة الجماعية.

تارة يمسك محسن يد يزيد، يجره بحماس إلى الأرض في رقصة مليئة بالمرح، تملأ المكان صدى ضحكاتهم الصادقة التي اختلطت بسحر الأغنية، لتخلق جواً من الألفة والمحبة التي تربط بينهم بكل قوة.

في تلك اللحظة، بدت الحياة بأبهى صورها، يختفي كل همّ خلف أصوات الأغنية وضحكات الأصدقاء المتصلة، لتُعيد إلى القلب نبض الأمل والفرح.

وأخيرًا توقف محسن عن الرقص، مستندًا بيديه على ركبتيه، يلهث بإنهاك، تلاه الصغير الذي كان يتنفس بصعوبة وقال بصوت متقطع:

“أنا حران أوي.”

ضحك الأصدقاء عليه بتعاطف ومرح، ثم أشار سامي نحو الباب قائلاً بنبرة مليئة بالفكاهة:

“افتح الباب يامحسن لو سمحت… هو مين اللي قفله ده؟”

تنهّد محسن بخفة وهو يتجه نحو الباب، وقال مبتسمًا بسذاجة:

“تقريبًا أنا اللي قفلته بالغلط لما دخلت.”

وضع يده على مقبض الباب،

وما إن دفع الباب على مصراعيه، حتى استقبلته موجة حارقة من الهواء المحمّل برائحة لاذعة، جعلت صدره يختنق للحظة.

اتسعت حدقتاه فجأة، كأن عينيه تحاولان استيعاب المشهد الكارثي أمامه …ألسنة النيران تزحف ببطء، كوحش يتقدّم لابتلاع كل ما يعترض طريقه.

لاحظ سامي الجمود المذهول على ملامح محسن، فسأله بصوت ممزوج بين القلق والاستفهام:

“فيه إيه يا محسن؟”

التفت محسن ببطء، عيناه تتخبطان بين وجوه الأصدقاء واللهب، وكأن كلماته محاصرة في حلقه، قبل أن ينطق بها متقطعة، تملؤها الثقل والرهبة:

“ح… حريقة.”

#يتبع…

_________________

كتابة/ أمل بشر.

Just قفلة🙈💙

مستنية رأيكم على الفصل…

وتوقعاتكم بالطبع…

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق