رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السادس والخمسون
الفصل السادس والخمسون(سكون تبعثر)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
–
إذا غَامرتَ في شرفٍ مرومِ فلا تقنعْ بمـا دونَ النجومِ.
“المتنبي”
_____________
جو لطيف… دافئ حد الذوبان، هدوء يلف المكان كأن الزمن توقف احترامًا لهذه اللحظة، منزل تغمره الراحة والحب، ولا يكسره سوى صوت ضحكاتهما المتقطعة، الخفيفة، الصادقة… هل هناك أجمل من ذلك؟
في الحمام، حيث البخار يتصاعد بخفة ويلامس الزجاج البارد، جلس هو على المقعد الخشبي قرب الحوض، رأسه مائل للخلف تحت انسياب خيوط الماء الدافئ من الصنبور. ملامحه مسترخية على نحو لم يعتده منذ فترة طويلة، كأنه ألقى عن كاهله حمل الأيام كلها في هذه اللحظة.
وقفت هي بجواره، كملاك صبور، أصابعها الرقيقة تغوص بين خصلات شعره المبتلة، تدلكها بلطف ممزوج بحنان عميق، بعدما أصرت أن تفعل ذلك بنفسها، أن تحميه حتى من الوجع البسيط الناتج عن حركة ذراعه المصابة.
“على فكرة… أنا بعرف أغسله لوحدي.”
قالها وهو يغمض عينيه نصف إغماضة بسبب الصابون الذي بدأ يتسلل إلى أطراف جفونه، بينما
رفعت هي حاجبيها قليلًا، وعيناها تضيّقان بنظرة شبه ساخرة، شبه عاتبة، قبل أن تسأله بنبرة خافتة لكنها مليئة بالمعنى:
“بتعرف تغسله بالشمال بس؟”
فتح عينيه على اتساعهما، متجاهلًا لسعات الصابون، وأجاب بثقة مصطنعة تخفي وراءها عناده المعتاد:
“آه… بحط شوية شامبو وأقعد أفرك جامد وبس… وبعدين أغسله بالمياه… الموضوع سهل يعني.”
لم تجادله كثيرًا، بل اكتفت بابتسامة صغيرة، ثم همست وهي تتابع حركتها الرقيقة بين خصلات شعره:
“أنا عارفة إنه سهل… بس حابة أغسلهولك أنا النهاردة… مش عايزاك تتعب… يلا بس، غمض عينك علشان الصابون مايدخلش فيها.”
في تلك اللحظة، أطاعها دون نقاش، وأرخى كتفيه كمن أسلم نفسه لراحة مؤقتة لم يعرفها منذ أيام.
انساب دفء الماء على رأسه، وحركات أصابعها الرقيقة تمر بين خصلاته بحنان يشبه تدليكًا يبعث الطمأنينة في أعماقه. لم يشعر بنفسه إلا وابتسامة دافئة ترتسم على وجهه، ابتسامة خفيفة في بدايتها ثم اتسعت رويدًا رويدًا.
التقطت هي تلك الملامح، لمحت ذلك الاسترخاء الممزوج بالرضا، فقالت بنبرة مرحة تخفي خلفها سعادة خفية:
“واضح إنك مستمتع؟”
فتح عينه قليلًا، نظر إليها بعفوية وترك الابتسامة تعلو صوته وهو يجيب:
“بصراحة آه… عجبني الوضع.”
قهقهت بخفة، ضحكة قصيرة لكنها صادقة، ثم تابعت بنبرة مشاكسة:
“طب إيه رأيك أساعدك تحلق دقنك بالمرة؟”
رفع حاجبيه بدهشة مصطنعة، لم يتردد لحظة قبل أن يرد ساخرًا، مستسلمًا تمامًا لخفة اللحظة:
“أنتِ كنتِ عايزة تطلعي حلاق، ومجموعك ما جبش ولا إيه يا فيروز؟”
أخذت تضحك هذه المرة بصوت أوضح، فضحك هو بدوره، لكن ضحكته خفتت تدريجيًا حين وجدها تقول بنبرة فيها شيء من الجدية وسط المرح:
“على فكرة أنا بتكلم جد، أنت مش هتعرف تحلق دقنك لوحدك.”
أجاب بلا اكتراث مصطنع وهو يرفع كتفه قليلًا:
“هروح عند الحلاق… بسيطة.”
ثم رفع يده المتحررة من الإصابة، يتحسس ذقنه بلطف وكأنه يقيمها بنفسه، وقال مبتسمًا بمرح خافت:
“وبعدين أنا أصلا كنت بفكر أطول دقني… وأشوف هبقى حلو بالدقن ولا من غيرها أحلى.”
ولم يدرِ كيف باغتته عبارتها التالية، جاءت سريعة لكنها محمّلة بمعنى أعمق مما توقّع، قالتها بثقة هادئة وعينان ثابتتان عليه:
“أنت حلو في كل حالاتك.”
توقف لثانية، شعر وكأن الكلمة عبرت جلده لتستقر داخل قلبه، ثم ابتسم ببطء، هذه المرة ابتسامة مختلفة، أقل ضجيجًا وأكثر دفئًا، قبل أن يهمس وهو يبادلها النظرة نفسها:
“وأنتِ حلوة… وعسل… وقمر… وكل حاجة حلوة عامةً.”
لم يكن ما قاله مجرد مزاح، بل خرج صادقًا أكثر مما خطط له، فانعكست عبارته على وجهها باحمرار خافت، فازداد المكان دفئًا.
ومع مرور الوقت، خرجا من الغرفة بعدما انتهى من غسل شعره وحلاقة ذقنه أيضًا، فكيف يرفض طلبًا لها؟
وقف أمام المرآة يتحسس ذقنه بحذر، يتأكد من عدم وجود أي جرح كما كان يخشى، بينما هي اتجهت نحو الخزانة، تبحث له عن بعض الثياب لتساعده في ارتدائها.
لكن اللحظة الهادئة انكسرت على وقع رنين هاتفه…
التفت سريعًا، التقط الهاتف من على المنضدة بجوار الفراش، وأجاب بصوت طبيعي:
“ألو… يا ماما.”
لم تمضِ سوى ثوانٍ قليلة حتى تغيرت ملامحه كليًا؛ انطفأت الابتسامة، انعقد حاجباه بحدة، وصوته خرج حادًا قلقًا:
“ماله أدهم؟”
_________________
سار في الممرات بخطوات متسارعة تحمل في طياتها اضطرابًا مكتومًا، عيناه تتنقلان بين الوجوه الغريبة باحثًا عن وجه يعرفه، ولحسن حظ لمح والده أخيرًا.
كان داوود يقف مرتكزًا بظهره على أحد الجدران البيضاء الباردة، وأمامه وقف عمه مصطفى، متماسكًا في الظاهر، لكنه كان يضغط على قبضة يده بعصبية غير معتادة.
وعلى المقعد الحديدي في الجهة المقابلة، جلست شمس وابنتها، ملامحهما شاحبة كأنهما استُنزفتا من كل طاقة.
اقترب موسى منهم بخطوات ثقيلة، يبتلع ريقه، حتى صار على بُعد خطوات قليلة منهم، توقفت قدماه أخيرًا، ثم خرج صوته قلقًا، متسارع النبرة:
“إيه اللي حصل؟… أدهم ماله؟”
سكنت العيون حوله لحظة، حتى أجابه مصطفى بصوتٍ هادئ وهو يشير نحو الغرفة المغلقة:
“تِعب… هو حالياً جوه بس لسه محدش خرج وطمنّا.”
مرر موسى عينيه على شمس وابنتها بعطفٍ مؤلم، زفر زفرة طويلة محمّلة بكل القلق المتراكم داخله، ثم تراجع خطوة إلى الخلف، ووقف بجوار والده.
التفت إليه، ثم سأله بصوت خافت لكنه مشبع بالقلق:
“حصل كده إزاي يا بابا؟”
تنهد داوود بعمق، وكأن ما يحمله صدره من ثِقل يحتاج إلى أن يتنفسه قبل أن يروي، ثم قال بصوت منخفض يحمل بين حروفه شعور بالأسى والعجز:
“كنت نازل أفتح الورشة علشان الشغل… لقيته واقف قدامي مع عمه.”
انعقد حاجبا موسى في دهشة لم يتمالك إخفاءها، وردد بسرعة:
“منتصر؟! إيه اللي جابه ده؟”
هز داوود رأسه بالنفي، وقال:
“معرفش والله يا بني… ماسمعتش حاجة، كل اللي حصل… إني فجأة لقيت أدهم ماسك في خناقه، جريت بسرعة وفصلت بينهم بالعافية، وأخدت اللي اسمه منتصر بعيد عن أدهم…”
توقف لحظة، زفر بحرقة ثم تابع بصوت انكسر في آخره:
“بس يدوب مشيت خطوتين… سمعت خبطة ورايا، لفيت… لقيته واقع على الأرض، وإيده… إيده على قلبه.”
شعر موسى وكأن صاعقة هوت على صدره، رفع يده لا إراديًا ليضعها على فمه، شفتاه يرتجفان وهو يهمس بصوت مخنوق:
“لا حول ولا قوة إلا بالله… يا ترى البني آدم ده قاله إيه… علشان يتعب كده؟”
وبمجرد أن انتهى داوود من كلماته، انفتح باب الغرفة المغلق ببطء، محدثًا صريرًا خافتًا، لكنه كان كفيلًا بأن يبعثر ما تبقى من ثبات في القلوب المترقبة.
خرج الطبيب بخطوات هادئة، وبملامح متحفظة.. انتفضت الأجساد جميعها دفعة واحدة، وكأن صدمة الكهرباء سرت فيها، واتجهوا نحوه بسرعة، تتزاحم نظراتهم على وجهه بحثًا عن بصيص أمل.
وكانت شمس الأسرع، تقدمت بخطوات متعثرة، وقدماها ترتجفان كأنهما لم تعودا تحملانها، وبصوت متحشرج يقطر رجاءً وخوفًا سألت:
“ابني يا دكتور… هو… هو كويس؟”
توقفت الكلمات على شفتيها، وكأنها تخشى سماع الإجابة أكثر مما تتوق إليها، بينما كان قلبها يخبط في صدرها كطائر مذعور يحاول الفرار من قفصه.
أخذ الطبيب نفسًا عميقًا، ثم قال بصوت عملي يشرح لهم الموقف دون مواربة:
“واضح إن اتعرض لإنفعال شديد وده اللي سبب له هبوط حاد في الدورة الدموية، وده اللي حصل له دلوقتي.”
تحرك بعينيه بين وجوههم المذعورة، ثم تابع:
“إحنا اديناه أدوية تهدي القلب وتضبط النبض والضغط، وحاطينه على أكسجين ومتابعة دقيقة، لكن… لازم تعرفوا إن الوقت ضيق جدًا، وهو محتاج قلب يتزرع له بأسرع ما يمكن.”
كأن كلماته الأخيرة سقطت في الفراغ، لكنها ارتدت على قلوبهم كصاعقة…
كانت شمس أول من تلقت الضربة؛ شعرت بساقيها تخونانها، فرّت منهما القوة كما لو أن الأرض تحوّلت إلى هاوية تحت قدميها. ارتخت ركبتاها فجأة، واندفع جسدها إلى الأمام، لولا أن ذراع عالية تسللت بسرعة لتحتضنها قبل أن تهوي أرضًا.
وعالية، بعينيها المتسعتين، تماسكت رغم ارتجاف أصابعها، وهي تضم أمها إلى صدرها كأنها تحاول أن تعيد إليها الثبات المفقود.
أما الوجوه من حولهما، فقد بدت وكأنها تذوب في ملامح من الذعر والارتباك… ومصطفى، الذي طالما عُرف بصلابته، شعر بتيبس في حلقه وجفاف في فمه، واضطر أن يبلع ريقه بصعوبة قبل أن يتمتم بصوت حاول جاهدًا أن يخرجه ثابتًا، لكنه جاء مرتعشًا:
“احنا كده… محتاجين متبرع.”
أومأ الطبيب بخفوت،
وقال بنبرة أكثر وضوحًا:
” آه… الوقت مش في صالحنا، لازم تتصرفوا في موضوع القلب… لو هو على قائمة الانتظار، لازم تتابعوا وتضغطوا عشان دوره ما يتأخرش… أي تأخير زيادة ممكن ما نستحملوش.”
تبادلوا النظرات، تلك النظرات التي تحمل في طياتها كل العجز والخوف… لحظة صارت فيها الحياة مرهونة بشخص مجهول في مكان ما، بجزء من جسده قد يمنح أدهم فرصة أخرى… أو لا يمنحه شيئًا على الإطلاق.
_________________
في جهةٍ أخرى…
كان واقفًا في شرفة غرفته، يطلّ على الشارع المزدحم بالأسفل، لكن عينيه كانتا فارغتين، كأنهما لا تريان شيئًا مما يدور هناك.
بين إصبعيه سيجار يرفعُه إلى شفتيه بين اللحظة والأخرى، يسحب منه نفسًا عميقًا، ثم يخرجه ببطء، في سكونٍ يُناقض تمامًا العواصف التي تعصف بداخله.
زفرة ثقيلة انطلقت منه وهو يعيد السيجار إلى فمه، قبل أن يهتز هاتفه في جيب بنطاله فجأة… أخرجه بتروٍ، ليجد اسمها يضيء الشاشة.
تجمّد في مكانه، حدّق بالاسم طويلًا دون أن يمد يده للرد، إلى أن خفت الرنين، تاركًا وراءه ارتجافة قصيرة أعقبها إشعار برسالة:
“ماجتش الشغل النهاردة ليه؟ أنتَ كويس؟”
أغمض كارم عينيه ببطء، زفرة أخرى أثقل من سابقتها خرجت منه، ثم فتح عينيه مع عودة الاهتزاز في يده، والرنين يعلو مجددًا.
وعندما كاد هذه المرة أن يمد إصبعه ليمس الشاشة… لكن صوت جرس الباب قطع اللحظة.
أسقط نظره نحو الداخل، نزع السيجار من بين شفتيه وأطفأه على السور ببرودٍ اعتاده، قبل أن يستدير بخطوات واثقة نحو الغرفة، يُعيد الهاتف إلى جيبه دون أن يجيب.
تقدّم كارم نحو الخارج بخطوات هادئة، وقبل أن يصل إلى الباب لمح ضحى تخرج من غرفتها، شعر بعينيها تتساءلان عمّن يطرق في هذا التوقيت، فاكتفى بالإشارة إليها وهو يتمتم:
“ادخلي إنتِ… أنا هفتح.”
لم تُجادله، أومأت برأسها ودخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها، فيما أكمل هو سيره نحو الباب، امتد يده إلى المقبض ببطء، وفتح.
ظهر أمامه محسن واقفًا، بملامح غريبة وبسمة مريبة، لكن ما أثار انتباه كارم حقًا لم يكن وجوده… بل ما يحمله بين يديه.
رفع حاجبيه مستنكرًا وهو يسأله:
“إنتَ… ماروحتش الشغل النهاردة ولا إيه؟”
لم ينتظر ردّه، إذ سرعان ما انتقلت عيناه إلى مايحمله محسن من يديه، فأردف بنبرة ساخرة:
“وإيه اللي إنت شايلهم دول؟ عملت كارير شيفت ولا إيه؟ من بتاع بنات… لحرامي!”
قهقه محسن بخفة، غير متأثر بالسخرية، ورد وهو يميل قليلًا للأمام:
“أدخل؟ ولا أبوك وأمك جوه؟”
تنهد كارم وأجاب وهو يفتح له الطريق:
“لا… مش موجودين، لسه هيرجعوا بالليل، تعالى ادخل.”
خطا محسن إلى الداخل بخطوات واثقة، وكأن لا شيء يثقل كاهله، فيما أغلق كارم الباب خلفه بصمت، ثم تبعه إلى غرفة المعيشة.
توقف محسن عند الطاولة الخشبية في منتصف الغرفة، ووضع ما كان يحمله فوقها بحرص متعمد: حاسوب محمول “لابتوب”، جهاز “تابلت”، وهاتف محطّم يبدو كأنه مرّ بعاصفة.
ظل كارم واقفًا خلفه، عينيه معلّقتين على تلك الأجهزة، حاجباه ينعقدان أكثر كلما مرّت ثانية، ثم وأخيراً أشار إليها بنفاذ صبر وسأل بصوت منخفض لكنه حاد:
“ما قلتليش برضه… إيه دول؟”
التفت له محسن ببطء، نصف ابتسامة تتدلّى على شفتيه، نظرة فيها شيء من التحدي أو ربما النصر، ثم مدّ يده بإشارة بسيطة نحو الأجهزة وقال بهدوء مخيف:
“دول… الأجهزة اللي ممكن يكون عليها نسخ من الصور.”
كأن الكلمات وقعت على كارم كصفعة؛ تصلبت ملامحه، رمش بلا وعي، ثم تساءل بدهشة مكتومة:
“إيه؟… مش فاهم… قصدك إن دول بتوع الواد اللي…”
أومأ محسن، وقاطعه قبل أن يكمل بصوت أكثر حزمًا هذه المرة:
“آه… بتوعه.”
لم يرد كارم فورًا؛ عيناه تجمدتا على الأجهزة ثم رفع بصره نحو محسن، وخرج صوته مشوبًا بالصدمة:
“عملتَها إزاي دي؟!”
اتسعت ابتسامة محسن، هذه المرة حماسها لا يخفى، عينيه تلمعان وكأنه على وشك إعلان انتصار شخصي:
“هقولك…”
FLASHBACK
توقفت السيارة أمام إحدى المناطق السكنية الهادئة، إلا أن جوّها لم يخلُ من التوتر.
كانت يد السائق قابضة على المقود بعصبية واضحة، أنفاسه تتسارع، وكأن كل لحظة في وجوده هنا عبء ثقيل.
أما محسن، الجالس إلى جواره، فقد ألقى نظرة متفحصة على الشارع، البيوت المتراصة، ثم عاد ببصره إلى الشاب وقال ببرود:
“فين بيتك يا لا؟”
التفت الشاب نحوه ببطء، عيناه تبرقان بغضب مكبوت، قبل أن يشيح ببصره سريعًا نحو أحد البيوت القريبة.
التقط محسن الإشارة في الحال، أومأ بخفوت ثم مدّ يده بكسل إلى باب السيارة، فتحه وألقى كلماته بحدة لا تحتمل اعتراضًا:
“طب… يلا انزل يا حيلتها.”
خرجت الكلمة الأخيرة كصفعة، باردة ومهينة، جعلت الشاب يزفر بغيظ مكبوت قبل أن يفتح بابه بدوره وينزل، بينما بقي محسن في مكانه للحظة إضافية، يراقبه بعين صقر، قبل أن يغلق باب السيارة خلفه بهدوء عجيب مقارنة بما يعتمل في الجو من توتر.
تقدم الشاب بخطوات مترددة، ومحسن خلفه تمامًا كظل ثقيل، توقفا أمام باب البيت، ظلّ الشاب واقفًا صامتًا، كأنه يأبى إدخال هذا الرجل إلى مساحته الخاصة.
رمقه محسن بنظرة نفد صبرها وقال بحدة منخفضة لكنها قاطعة:
“افتح يلا يا روح أمك.”
زفر الشاب بغضب مكتوم، أخرج مفتاحه بتثاقل، أداره في القفل، وما إن فُتح الباب حتى دفعه محسن بيده إلى الداخل ودخل خلفه.
تجولت عينا محسن في المكان؛ فوضى عارمة، ملابس ملقاة، علب طعام فارغة، رائحة كريهة تعلو الجو.
رفع محسن حاجبه باشمئزاز، ثم امتعضت شفتاه وهو يتمتم ساخرًا بصوت عالٍ:
“واضح إنك عايش لوحدك… طبعًا… لو كان في حد في البيت يربيك، ماكنتش عملت اللي عملته… يا عرّة الرجالة.”
تصلبت كتفا الشاب عند كلماته الأخيرة، كأن كل حرف منها اخترق كبرياءه، لكنه ظل صامتًا، قبضته ترتجف إلى جانبه بينما محسن يراقبه بثقة المنتصر.
دفعه محسن من كتفه بقوة وهو يزمجر بحدة:
“يلا يا لا… ثانية واحدة ألاقي كل أجهزتك قدامي… اعملها بالذوق قبل ما أكسرلك عضمك… بالذوق.”
تصلبت فكّا الشاب، وضغط بأسنانه يكتم غليانه، قبل أن يستدير نحو الداخل بخطوات ثقيلة… كان يعرف تمامًا أن رفضه لن يمر بسلام؛ ليس مع محسن.
فمجرد تذكره للكمة الواحدة التي تلقاها منه، وطرحته أرضًا في ثانية، والدوار الذي تركه في رأسه حتى هذه اللحدة، جعله يُدرك أن عظامه كلها قد تتحطم لو تحدّاه مرة أخرى، ولولا أنه قبل المجيء معه، ربما كان الآن ملقى في الطوارئ ينتظر خيط حياة.
ثوانٍ وخرج الشاب من إحدى الغرف، يحمل حاسوبه المحمول والتابلت الخاص به. تقدّم بهما نحو محسن، الذي انتزعهما منه بلا كلمة، ثم رفع نظره إليه وسأله ببرود ينذر بالخطر:
“مفيش حاجة تانية، صح؟”
رد الشاب بتغضبٍ مكبوت:
“لأ… لو عايز تتأكد بنفسك، اتفضل.”
أمال محسن رأسه قليلًا، بعينين ضيقتين، قبل أن يرد بنبرة ساخرة ثقيلة:
“ما أنا هتفضل.”
تحرّك بخطوات ثابتة داخل المكان، يفتح الأدراج، يقلب الأغراض، ينحني ليتفحص أسفل الطاولة، ثم يرفع كومة ملابس ملقاة على الأرض. كان بحثه سريعًا لكنه مركز، وكأنه يعرف بالضبط ما يبحث عنه.
بعد دقائق من التفتيش، استقام واقفًا ونظر إلى الشاب نظرة حادة كالسيف:
“الصور دي مع حد غيرك.”
أجابه الشاب بصرامة وهو يثبت عينيه فيه:
“لأ.”
اقترب محسن خطوة للأمام، نبرته هذه المرة أشد وأكثر اختراقًا:
“متأكد؟”
ازدرد الشاب ريقه بصعوبة قبل أن يكرر بصوت أقل ثباتًا مما أراد:
“قلت لأ… الصور مش موجودة غير على دول بس.”
طالعه محسن للحظات، يراقب ارتعاشة ملامحه، ثم زفر ببطء وقال بنبرة آمرة لا تحتمل النقاش:
“فين تلفونك؟”
ازدرد الشاب ريقه، وأخرج هاتفه من جيب بنطاله بحركة مترددة، قائلاً بتبرير سريع:
“أهو… بس بايظ من امبارح، كنت رايح أصلحه قبل ما تقطع عليا الطريق.”
أخذ محسن الهاتف منه بلا اكتراث، يقلبه في يده وهو يبتسم ابتسامة خفيفة باردة، ثم رفع عينيه إلى الشاب وقال بنبرة هادئة لكنها مشحونة بالتهديد:
“ما أنا عارف إنه بايظ… عارف ليه؟ لأن صاحبي هو اللي بوّظه… بعد ما مسح كل اللي عليه.”
تقدم منه خطوة إضافية، حتى صار وجهه على بُعد أنفاس منه، وهمس بثقة قاتلة:
“لو ما تعرفش… صاحبي برنس… وهاكر جامد.”
تجمّدت ملامح الشاب لما سمعه، وهو كل ما كان يشغله أن يصلح الهاتف ليرى رد كارم عليه… لكنه اكتشف الآن أن الرد وصل، فقط بطريقته القاسية.
زفر محسن بقوة، نظر إلى الأجهزة في يده، ثم حوّل بصره ببطء نحو يمين الفتى، تضيق عيناه وهو يسأل بريبة منخفضة لكنها حادة كالنصل:
“إيه ده؟”
ارتبك الشاب، تبع عينيه نحو حيث ينظر محسن… وفي اللحظة نفسها، ارتطم شيء صلب بوجهه من الجهة اليمنى، بعنف جعله يترنح للخلف ويشعر بطعم الدم في فمه قبل أن يدرك حتى ما حدث.
التفت بعينيه نحو محسن، والدوار يزداد في رأسه كأنه موج يتلاطم بداخله، فرأى الأخير يمسك بهاتفه المحطم، شاشته المتشققة تعكس الضوء الباهت في الغرفة.
ولم يكتفِ محسن، بل تقدّم نحوه بخطوات بطيئة محسوبة، ثم فجأة وجّه ركلة قوية إلى ساقه. صرخة مكتومة انفجرت من حلق الشاب، حاول كتمها وهو يتشبث بساقه، لكن الألم كان أعمق من أن يُخفى.
قهقه محسن بسخرية قصيرة، ثم قال ببرود ممتزج بالتهكم:
“بس بس، ولا صوت… هتعكر مزاج الجيران يا ***.”
توقف لحظة، أغمض عينيه وكأنه يستجمع نفسه، وتمتم:
“استغفر الله العظيم يارب… الواحد كان تاب… رجعتني أعمل حاجات بطلتها من زمان… عيب عليك، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.”
فتح عينيه مجددًا، نبرة صوته انقلبت حادة كحد السكين وهو ينحني قرب وجهه:
“بص يا… كان اسمك إيه؟ مش مهم… اسمع يا روح أمك… لو قربت من ضحى تاني، أو اكتشفت إنك كنت محتفظ بصور تانية عندك، أو الصور دي ظهرت بأي طريقة…”
اقترب أكثر، حتى صار أنفاسه الساخنة تصطدم بوجه الشاب المرتجف:
“شايف راسك دي؟ هفتحها… ورجلك دي؟ هقطّعها… وأنا مش بهزر… فاهم؟”
لم يقم الشاب بأي رد فعل، فصرخ محسن بانفعال اهتزت له الجدران:
“فاهم؟”
أومأ الشاب بسرعة، كأن رأسه تحرك بدافع غريزي أكثر منه إرادي، ويداه ترتجفان على ساقه المتألمة.
أومأ محسن بدوره، ثم اعتدل في وقفته وقال بنبرة شبه هادئة، لكنها تحمل وعيدًا خفيًا:
“لازم تحمد ربك إن وقعت تحت إيدي أنا… لأنك لو كنت وقعت تحت ايد كارم، كنت زمانك جثة هامدة، ربنا نجدك والله يا بني… لما خلاني أنا اللي قابلك، ماتنساش تدعيلي بقى.”
ابتسم بسخرية في نهاية جملته، تلك الابتسامة التي تُشعرك أن كل كلمة خرجت منه مسمومة، ثم تراجع خطوة للخلف وألقى نظرة خاطفة على المكان حوله:
“يلا أسيبك أنا بقى… وياريت تنظف مكانك، محدش بيعيش في القذارة دي غير الحيوانات… أو ما تنظفش، إنت كده كده واحد منهم.”
ثم استدار ومضى بخطوات ثابتة، كل خطوة كأنها خُتم أخير على تهديده، وابتسامة منتصرة ارتسمت على وجهه؛ تلك الابتسامة التي لم تكن مجرد علامة رضا، بل إعلان صريح بأنه أنهى المعركة لصالحه.
ارتطم الباب خلفه بقوة، صوته الحاد اخترق الصمت كطلقة رحمة، لكنها بالنسبة لمن بقي في الداخل لم تكن رحمة على الإطلاق، بل ختم إذلال مهين.
جلس الشاب بوهن على مقعد قريب، جسده يترنح من التعب، وكأن قوته تسرّبت من أطرافه إلى الأرض. أنفاسه متقطعة، متلاحقة، تختلط بحرارة الألم الذي يشتعل في ساقه ورأسه وبقهر ينهش صدره.
رفع رأسه ببطء، عيناه تلمعان بخليط متناقض؛ دموع خافتة تتشبث بحواف جفونه، وغضب متقد يحاول أن يختبئ خلفها لكنه يفضحه في كل رمشة.
مد يده المرتجفة يمسح وجهه بعنف، ثم تركها تسقط بجانبه، وبصوت خافت، متحشرج، كأنه حديث سرّي بينه وبين نفسه، همس:
“كان يوم أسود… يوم ما عرفتك يا ضحى.”
Back
“وبس يا سيدي… رجعت أخدت المكنة وجيت على طول على هنا.”
قالها محسن وهو يلوح بيده كمن ينفض عن كاهله عبء ما حكاه للتو، ثم ارتشف نفسًا عميقًا، وكأنه يعلن انتهاء القصة.
ظل كارم صامتًا للحظة، عيناه متسمّرتان في الفراغ أمامه، يستوعب كل ما سمعه؛ كانت التفاصيل كالماء الذي يتساقط في صدره ليطفئ نيرانه قليلاً.
مد يده ببطء، مسح وجهه بكفه، ثم رفع نظره إلى محسن، وفي صوته مزيج من الإعجاب والحرقة:
“حبيب أخوك والله… بس ليا عتاب عليك، كنت تتصل بيا، تسيبني كده و أنا جوايا والع؟!”
ضحك محسن ضحكة قصيرة، لكنها لم تصل إلى عينيه، ثم قال بهدوء أقرب إلى الجد:
“والله كان على عيني يا صاحبي… بس أنا خفت عليك، خفت تودي نفسك في داهية، هو لو كان وقع تحت إيدك… ماكنش هيطلع منها حي… وساعتها؟ هو كان هيدفن وأنت هتتسجن… و أنا أعيش بذنب إني سبّتك تدمر حياتك بإيدك؟ يهون عليا أعمل فيك كده؟”
اقتنع كارم بكلامه شيئًا فشيئًا، كأن الغضب بداخله هدأ، لكن ظلّ جمره متقدًا في مكانٍ ما، تمتم بعناد خافت:
“بس أنا كنت عايز… أحاسبه صح.”
ارتسمت على وجه محسن ابتسامة واسعة، خليط من الفخر والاطمئنان، وفي عينيه بريق من يعرف أنه أحسن التصرف، ثم أشار بيده في حركة واثقة وقال:
“ماتقلقش يا صاحبي… صاحبك عمل الواجب معاها والله… وحتى موبايله يشهد.”
انخفضت نظرات كارم نحو الهاتف المحطم أمامه، كأنه يزن ما حدث، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة صافية لم تُرَ منذ زمن، ورفع عينيه إلى محسن قائلًا بصدق ممزوج بالمزاح:
“هو أنا قلتلك إني بحبك قبل كده؟”
ارتسمت على وجه محسن ابتسامة أخرى، هذه المرة خفيفة الظل، ورد بنبرة ساخرة محببة:
“كده هتتفهم غلط.”
انفجر كارم ضاحكًا من تعليقه، ضحكة خرجت من أعماقه بعد كل هذا التوتر، ثم نهض ومد ذراعيه نحو محسن قائلًا بحزمٍ دافئ:
“تعالى في حضن أخوك.”
نهض محسن بلا تردد، ضحك بخفة وهو يخطو نحوه، ليجد نفسه في عناقٍ قويّ، عناق حقيقيّ لم يحتج إلى كلمات، بينما كان كارم يربت على ظهره بفخرٍ صادق، مرددًا بصوت مبحوح بالعاطفة:
“يا ربنا يخليك ليا يا محسن.”
ابتسم محسن وأجاب بنفس الصدق:
“ويخليك ليا يا صاحبي.”
لحظة صافية، امتزجت فيها الرجولة بالمحبة، والوفاء بالعِشرة، كأنها كانت الخاتمة الهادئة لعاصفةٍ طالت أكثر مما ينبغي.
ابتعد الاثنان عن بعضهما بخطوة هادئة، كأن العناق قد أزاح عن كاهلهما حملًا ثقيلاً.
أخذ كارم نفسًا عميقًا، زفره ببطء وهو يحدق في الأجهزة المكدسة أمامه؛ نظراته تحمل خليطًا عجيبًا من الغضب الباقي في داخله، والراحة لأن العاصفة انقشعت دون أن تترك دمارًا أكبر.
قطع شروده صوت محسن العملي، وكأنه يعيده إلى أرض الواقع:
“لازم نكلم موسى بقا… علشان ييجي يفتحهم ويمسح اللي عليهم، ونشوف هنعمل فيهم إيه بعدين.”
التفت كارم إليه، نظرته ثابتة لكن نبرته جاءت هادئة على غير عادته:
“نديهم لحد يستفيد بيهم.”
قالها كارم ببساطة، لكن صوته حمل ثِقَل قرار حاسم. حرّك كتفيه في ارتياحٍ خفيف، ثم مد يده إلى جيب بنطاله وأخرج هاتفه.
تنهّد وهو يمرر إصبعه على الشاشة، يتصفح الأسماء سريعًا، حتى استقر بصره على اسم موسى، وضغط زر الاتصال.
لم تكد تمر سوى ثوانٍ حتى جاءه الرد بصوت مألوف، هادئ وواثق كعادته:
“ألو يا كارم.”
ابتسم كارم ابتسامة قصيرة، ثم قال بتروٍ:
“أيوه يا موسى، إنت فين دلوقتي؟ كنت عايزك في مصلحة.”
لم يتأخر موسى في الإجابة، إذ قال بصوت هادئ، جاد:
“وأنا حالياً عايزك في مصلحة.”
_________________
على الجهة الأخرى…
ترجل موسى من السيارة وأغلق الباب خلفه بهدوء متعمد، لكن عينيه كانتا تتبعان عمه مصطفى الذي ما إن لامست قدماه الأرض بثبات، حتى اندفع كالسهم نحو ذلك الرجل الجالس بكل أريحية أمام ورشته، مسترخٍ على مقعده الخشبي، ساق فوق ساق، يمسك بأرجيلته وينفث دخانها بلا اكتراث، كأنه ليس السبب في جسدٍ يرقد الآن بين الحياة والموت على سرير بارد في المستشفى.
رفع منتصر عينيه في لا مبالاة حين شعر بخطوات قادمة، لكن ما إن وقعت عيناه على ملامح مصطفى المتقدّمة نحوه حتى تجمّد جسده في مكانه. الانتفاضة التي سرت فيه كانت غريزية، أشبه بارتعاش فريسة تدرك متأخرة اقتراب المفترس.
لم يمنحه مصطفى فرصة للهروب أو حتى الكلام؛ وصل إليه بخطوات أقل ما توصف به أنها مشتعلة، قبض على تلابيبه بقوة جعلت الأرجيلة تسقط من بين يدي منتصر وترتطم بالأرض.
شدّه نحوه حتى كاد أن يلتصق وجهه بوجهه، وعيناه تقدحان شررًا، وصوته حين خرج منه كان أشبه بصفعة:
“إنت فاكر اللي عملته هيعدي؟!”
وفي الخلف، وقف موسى يراقب المشهد بعينين ضيقتين، يده في جيبه، لكن أصابعه تتحرك بتوتر، يعرف أن عمه في لحظة قد لا يكتفي بالكلمات… وقد يضطر هو للتدخل، رغم أن جزءًا منه يتمنى لو يتركه ينفّس عن غضبه كاملًا.
هدر مصطفى بصوت مبحوح، غليظ النبرة، كأنه يجرحه من الداخل قبل أن يخرج:
“إنت مش بني آدم… ماعندكش إحساس! إزاي توصّل ابن أخوك للحالة دي؟! قولتله إيه يا منتصر؟! إيه اللي خلاه ينهار بالشكل ده؟!”
كان جسده يرتعش، يده تشد على تلابيب منتصر حتى كاد يمزق قميصه، لكن الأخير، رغم ارتباك لحظي في عينيه، استعاد بروده المصطنع سريعًا، رفع يديه وأبعد أصابع مصطفى عن صدره دفعة واحدة، كأنما يزيح شيئًا تافهًا، وقال بصوت هادئ… هادئ حد الاستفزاز:
“قلتله اللي كان لازم يعرفه.”
توقّف لثوانٍ، كأنما يتلذذ بتعذيبهم، ثم أطلق كلماته التالية كرصاصة:
“عرفته اللي أمه خبّته عنه… يا طليق أمه.”
سقطت الكلمات كحجر ثقيل وسط صمت المكان…
تجمّد وجه مصطفى، عينيه اتسعتا في ذهول صاعق، حتى موسى خلفه أحس كأن الهواء سُحب من رئتيه، وانكمشت أصابعه في جيبه بقوة.
لكن الصدمة لم تدم طويلًا، إذ سرعان ما انفجر الغضب من جديد في عروق مصطفى، عاد ليهجم على منتصر باندفاع أعمى، قبضته تعود لتغرس في صدره وهو يزمجر:
“إنت… مختل! إنت شخص مختل…!”
كانت نبرة صوته هذه المرة أعمق، كأنها خرجت من قاع صدره، لا تحمل غضبًا فحسب، بل اشمئزازًا متجذرًا. خطوة للخلف، ثم اندفعت قبضته كصاعقة نحو وجه منتصر، ارتطمت بقوة جعلت جسده يترنح كدمية فقدت توازنها.
تململت الصبية في الورشة، نظرات متوترة تتنقل بين الاثنين، وقبل أن ينبس أحدهم بكلمة، تحرك موسى بخفة ذئب يستعد للانقضاض.
لكنه لم يكد يفتح فمه حتى شق المكان صوت مألوف، جهوري، حاد:
“مكانك أنت وهو… يا حيلتها.”
تجمدت الأجساد في لحظة واحدة، والتفتت العيون نحو كارم، يتقدم نحوهم بثبات، وبجانبه محسن الذي ألقى نظرة مسح سريع على الوجوه، ثم أكمل كارم ببرود من يتعامل مع موقف محسوم:
“ده نقاش بين ناس كبار… احنا ما ندخلش.”
ابتسم محسن ابتسامة قصيرة وهو يشمر أكمامه ببطء، نبرة صوته تنضح بتحدٍ لاذع:
“بس لو حابين تتدخلوا… ما عندناش مانع.”
ابتسم موسى ابتسامة واثقة، تكاد تخفي غليان صدره، ثم أدار عينيه نحو مصطفى وقال بصوت منخفض كأنه يمنحه الإذن بالقصاص:
“خد راحتك بقا يا عمي.”
لم يحتج مصطفى إلى مزيد من الكلمات، انقض على منتصر كوحش انفلت من قيده، قبضت يده على عنق خصمه بقوة لا تعرف الرحمة.
ارتطم جسد منتصر بالجدار بقسوة، ورجّ أرجاء الورشة صوت اصطدامه، فيما دوّى صوت مصطفى جامدًا كالحجر:
“أنت زودتها أوي يا منتصر… زودتها بشكل بشع، قلتلك تبعد عنهم… إياك تقرب منهم… وأنت ماسمعتش الكلام.”
شدّ قبضته أكثر، وعروق يده تتفجر تحت جلده، ثم تابع بصوت يقطر مرارة:
“زعلان علشان ما بقوش تحت طوعك؟ زعلان علشان مش هتعرف تدوس عليهم بجزمتك تاني؟ زعلان إنك خسرت كل حاجة… من أول ابنك… لكبريائك؟”
اقترب أكثر حتى كادت وجوههما تتلامس، عينيه تثبتان في عينيه كسهام:
“بس اطمن… لسه هتزعل أكتر.”
ثم أنهى كلماته بارتطام عنيف، رأس منتصر تضرب الجدار خلفه بقوة جعلت المكان كله يصمت للحظة، قبل أن تبدأ شفاه موسى وكارم ومحسن بالارتخاء، تتبعها ابتسامات ساخرة واضحة.
اقترب محسن من موسى وهمس في أذنه، بصوته خافت:
“عمك طلع جامد ياموسى.”
ابتسم موسى وأجاب بابتسامة وغمزة:
“احنا عيلتنا كلها جامدة.”
توجهت نظرة محسن إلى مصطفى، الذي وقف مشدودًا، يراقب جسد منتصر المنهار على الأرض، يضع يده على رأسه حيث اصطدم بالجدار.
كانت عينيه تعكس مزيجًا من الاشمئزاز والغضب، ثم حوّل نظراته إلى تهديد هادئ وحازم:
“لأخر مرة هقولهالك… ابعد عنهم يامنتصر، لمصلحتك قبل مصلحتهم.”
أنهى كلامه، ثم التفت بخطوات ثابتة نحو سيارته، وخلفه تبعه الشبان بنظرة أخيرة ممتزجة بالسخرية، تاركين منتصر على الأرض، يواجه ما صنعته كبرياؤه وعجرفته.
ويالها من لحظة قاسية، حيث وجد نفسه محاطًا بالهزيمة المطلقة للمرة الثانية؛ كل ما كان يملكه من سلطة ونفوذ تبدد، بل إن كبرياءه، ذلك الجدار الذي طالما اعتقد أنه يحميه، انهار أمام أعين الجميع، مفتوحًا لسطوة صرخات وتهديدات مصطفى، لتصبح يد الغضب والحزم علامة النهاية لكل ترفّع أو ادعاء سابق.
_________________
مع مرور الوقت….
اقتربوا من المستشفى بخطوات متسارعة، كل منهم يجهد قلبه في تخمين ما آل إليه حال أدهم، خاصة بعدما وصلت إليهم مكالمة من داوود وهو في طريق عودته، مطمئنًا على حالته، معلنًا أن أدهم قد أفاق وأدرك كل شيء.
وصلوا أخيرًا إلى الغرفة التي يقبع فيها، وأشار داوود لهم بهدوء، فاقترب مصطفى منهما وطرق على الباب برفق، قبل أن يدخلا.
لكن ما وجدهما داخل الغرفة كان مخالفًا لكل توقعاتهما؛ جو من الهدوء يسود المكان، صمت ممتد يلف كل زاوية، كأن الوقت نفسه توقف للحظة، رغم ما كان يخطر في ذهنهما من قلق وخوف، تاركًا إحساسًا غريبًا بين الراحة والقلق.
حرك موسى عينيه ببطء، يتفحص الغرفة والوجوه أمامه بريبة واضحة، ثم همس لنفسه وهو يحاول استيعاب المشهد:
“الله! كنت فاكر هلاقي عاصفة ولا حاجة.”
اقترب مصطفى بخطوات هادئة من أدهم، وضع يده على كتفه برفق، وسأله بصوت منخفض ومطمئن:
“أنت كويس؟”
أومأ أدهم بخفوت، وارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة رغم الإرهاق الذي بدا على ملامحه، فابتسم له مصطفى بدوره، ثم التفت نحو شمس التي نظرت إليه وقالت:
“حكيتلهم كل حاجة.”
تنهد مصطفى قليلاً قبل أن يسأل:
“طب… طب مش مضايقن؟”
حركت عالية رأسها نفياً، بينما أجاب أدهم بتؤدة:
“لأ، احنا اتصدمنا وزعلنا شوية إن ماما خبّت عننا حاجة زي دي، بس مقدرين موقفها… يعني ماكانش ينفع تقولنا حاجة زي دي كده ببساطة ومن غير مناسبة.”
أضافت عالية على كلام شقيقها، بنبرة ذات مغزى:
“بالظبط… وكمان لو كانت قالت لنا، كنا هنحس إن لسه في حاجة بينكم… وهو مفيش حاجة… صح؟”
وقف السؤال كالصاعقة على الجميع، خاصة مصطفى وشمس اللذين تبادلا النظرات بسرعة قبل أن تنفى شمس:
“مفيش… ولا هيكون في، أنا وأستاذ مصطفى جيران دلوقتي مش أكتر.”
نظر الجميع صوب مصطفى الذي ظل عينيه ثابتتين عليها، ثم تنهد وقال بهدوء:
“بالظبط.”
وموسى، الذي كان يراقب كل هذا من مكانه، قبل أن يزفر بعمق ويتقدم نحو أدهم سائلاً:
“طالما أنت مضايقتش من اللي قاله عمك، ليه انفعلت ليه بقا؟ ولا كنت ناوي تخوفنا عليك وخلاص؟”
تنهد أدهم بثقل، ورفع عينيه نحوهم قائلاً بصوت مختلط بالغضب والحرص:
“اتضايقت من طريقته لما قالها… غلط في أمي يا موسى، وفي شرفها.”
تجمدت الوجوه للحظة، مشاعر الغضب والانفعال تعتلي وجوههم، كأن الوقت توقف قليلاً ليتأمل كل منهم الموقف.
رفع موسى نظره إلى عمه، وعيناه تلمعان بمزيج من التقدير والاستنكار، وقال بصوت حازم:
“كده يستحق كل اللي خده منك.”
تبادلت الأنظار حوله، وكأن الجميع يحاولون فهم ما يقصده، فابتلع أدهم ريقه وقال بدهشة ممزوجة بالريبة:
“خد إيه… وهو حضرتك ضربته؟”
نظر الجميع صوب مصطفى، الذي توترت ملامحه للحظة قبل أن يستجمع هدوءه، ووضع يده على كتف أدهم قائلاً بنبرة حانية:
“أخد اللي يستحقه، ماتشغلش بالك أنت، وركز في صحتك، علشان تقوملنا بالسلامة.”
ابتسم أدهم بإمتنان، فيما ارتفع صوت عالية متسائلة بفضول:
“هو استفاد إيه لما كشف حاجة زي دي؟ مش فاهمه.”
توجهت الأنظار إليها، فأجابها موسى بهدوء، مع لمسة من الحكمة في صوته:
“كان فاكر إنكم هتتعصبوا وتتضايقوا وتتخانقوا كمان مع خالتي، وتضغطوا عليها عشان تسيبوا الشقة، فترجعوا تاني من غير بيت… وبالتالي هتضطروا ترجعوله من تاني، ترجعوا تحت طوعه… وده اللي هو عايزه.”
امتلأ الجو بصمت ثقيل، يختلط بالدهشة والتأمل، فيما حاول كل شخص استيعاب دهاء الحسابات والخطط التي كانت تُحاك في الخفاء.
كانت تلك الخطط دقيقة، محبوكة، لكنها انهارت أمام وعي أدهم وحكمة عالية في فهم الأمور واستيعابها… نعم، كانت هناك خسائر كبيرة، لكنها خسائر لم تمنحه ما كان يطمح إليه، ولم تمكنه من تحقيق مبتغاه.
_________________
بعد منتصف الليل…
عاد أخيرًا إلى منزله، مثقلاً بتعب اليوم وما حمله من أحداث، بعدما رافقوا أدهم من المستشفى قبل ساعات قليلة، ثم ذهب وأنهى عمله على الحواسيب في بيت سامي كما طلب صديقه منه، لكنه لم يكن يملك أي رغبة سوى اللحاق بها، إلى حضنها الدافئ الذي لطالما كان ملاذه.
فتح الباب بصمت، بصمة إبهامه كانت كعلامة عودته إلى المكان الذي يشعر فيه بالأمان، وما إن سُمعت حركة القفل، حتى شعرت هي، كأن قلبها قد تذكر فجأة أنه لا يزال ينبض من فرط الشوق، نهضت من الأريكة بعينين تلمعان كنجوم الليل، وجهها مشحون بمزيج من الحنين والاشتياق والراحة المنتظرة منذ ساعات.
عندما التقت عيناه بعينيها، توقف الزمن للحظة، وكأن كل تعب اليوم وتوتراته ذابت مع نظرة واحدة، ففتح ذراعه على اتساعها، فتقدمت نحوه بلا تردد، ورمت نفسها بين أحضانه، ليس فقط جسدًا، بل بكل ما تحمله من مشاعر مكبوتة طوال اليوم.
حاوطها بذراعه بحنان شديد، يستنشق رائحتها، كأنه يريد أن يثبّت في ذاكرته كل جزء منها، ويهمس لها بصوت خافت مليء بالحنين والصدق:
“وحشتيني.”
وفي تلك اللحظة، بدا العالم كله خلف الباب بلا معنى، وكأنهما وحدهما، وحضنه أصبح ملاذًا لكل ما اختبأ في قلبه من خوف وتعب واشتياق، وكل شيء آخر اختفى أمام حرارة اللقاء وصدق المشاعر.
.
.
.
.
جلسا معًا في الركن المخصص للصلاة، بعدما أنهيا صلاتهما بهدوء وتأنٍ، وكأن كل حركة وكل تنفس فيهما يحمل روح الطمأنينة.
جلست هي بجواره، وهو يميل برأسه على قدمها كما اعتاد، يبحث عن استراحة من ثقل اليوم وما حمله من تعب ومشاعر متراكمة.
في تلك اللحظة، بدا كل شيء حولهما بلا وزن، صوت أنفاسهما وهدوء المكان يكفي ليغمرهما بالسكينة.
كانت يدها تتسلل برفق لتلمس شعره أو تمرر أصابعها على كتفه، بينما هو يغمض عينيه ويترك عناءه ينزلق بعيدًا، مستسلمًا لراحة حضنها الدافئ وهدوء الروح الذي وجد فيه ملاذه.
سكتت للحظة، تنفست بهدوء، ثم همست بنعومة:
“مرتاح؟”
ظل هو مغمض العينين، مستسلمًا للهدوء الذي يحيط به، قبل أن يرد بصوت منخفض لكنه مليء بالصدق:
“نظرة واحدة منك… كافية تريح قلبي في عزّ تعبه.”
تجمّدت لحظة بينهما، كأن الزمن توقف، حيث حملت كلماته وزنًا أكبر من أي حضن أو لمسة، وملأت المكان دفئًا ناعمًا يختلط فيه الحنين بالأمان.
استمرت
في تحريك
أصابعها داخل خصلاته برقة، حركة صغيرة لكنها تحمل دفئًا يخفف ثقل الأيام عن قلبه. وهو استرخى تحت لمساتها، كأنها تلملم كل توتره وهمومه في صمتٍ دافئ ومطمئن.
لكن ذلك السكون الرقيق لم يدم طويلًا، إذ اخترقه رنين هاتفها فجأة، كقطرة حادة في ماء هادئ، فأطرى حاجبيه متجهمًا وهو يهمس بقلق:
“مين دلوقتي؟”
ابتسمت بإستياء خفيف من المقاطعة، مدت يدها لتلتقط الهاتف، وحاجباها يعلوان بخفة حين وقعت عيناها على اسم المتصل.
نظر إليها بعينين متسعتين، ملؤهما القلق والفضول:
“مالك؟ مين ده؟”
أجابت بهدوء، رغم الاستغراب الذي يعلو وجهها:
“صديق بابا في الشغل.”
حركت إصبعها على الشاشة وبدأت المكالمة، بلسان هادئ لكنه مليء بالاحترام:
“ألو ياعمو…”
وما هي إلا ثوانٍ معدودة، كانت خلالها صامتة، تستمع إلى صوت المتصل، لكن ملامحها تغيّرت فجأة، وكأن صدمة باردة سرت في أوصالها، واتسعت عيناها وهي تردد بصوت مختنق:
“إيه؟!”
انتفض جسد موسى كأنه تلقّى صعقة كهربائية، اعتدل في جلسته فورًا، عيناه تتنقلان بين وجهها ويدها القابضة على الهاتف بقوة، يقرأ الخوف المرتسم في ملامحها قبل أن تنطق.
انتظرها حتى أنهت المكالمة بيد مرتعشة، وما إن أنزلت الهاتف عن أذنها، حتى انحنى نحوها، صوته يحمل مزيجًا من التوجس والرجاء:
“في إيه يا فيروز؟… إيه اللي حصل؟”
نظرت فيروز إليه بعينين زائغتين، عالقتين بين الصدمة والخوف، بينما يديها ترتعشان، وخرج صوتها متهدجًا، بالكاد مسموعًا، محمّلًا بثقل ما تحمله كلماتها:
“بابا… بابا تعب… ودخل المستشفى.”
#يتبع….
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.