رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل السابع والخمسون 57 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السابع والخمسون

الفصل السابع والخمسون(سؤال)

الفصل السابع والخمسون(سؤال)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب لُقيانا تجافينا

ابن زيدون

______________

وقفت  في المطبخ، يديها تغوصان في رغوة الصابون وهي تغسل الأطباق واحدًا تلو الآخر، ثم تلتقط المنديل القماشي لتجففها بعناية معتادة.

كان كل شيء هادئًا، هدوء الصباح الذي تحبه، يتخلله صوت الشيخ ماهر المعيقلي وهو يتلو آيات القرآن، ينساب من التلفاز في البهو كنسيم روحاني يملأ المكان طمأنينة.

لم تكن تفكر في شيء محدد، فقط تنجز ما اعتادت عليه كل صباح، حين اخترق أذنها فجأة صوت مفتاح يدور في قفل الباب، فالتفتت برأسها نحو باب الشقة، ثم نادت بصوت مرتفع متسائل:

“داوود؟”

لم يمضِ ثوانٍ حتى جاءها صوت مألوف، يقترب معه وقع خطواته الثقيلة:

“لا… ابن داوود.”

ارتسمت ابتسامة دافئة على شفتيها قبل أن تراه، ثم ازدادت وضوحًا حين ظهر أمامها، يتقدّم بكسل واضح نحوها، يجلس على المقعد عند طاولة المطبخ دون مقدمات.

نظرت إليه بعينين تحملان مزيجًا من الحنو والقلق، وسألته:

“إيه أخبارك النهارده؟ عامل إيه؟”

أسند رأسه على الطاولة، وكأن ثقل العالم على كتفيه، وأجاب بصوت خافت ساخر:

“عامل شبه المتسولين… فاضلي شوية وأسرح بمناديل في الإشارات.”

ضحكت عبير ضحكة قصيرة، تحمل في طياتها قلة حيلة أكثر مما تحمل بهجة، ثم تقدّمت نحوه وعينيها تتأمله بحنان.

جلست أمامه وهي تقول بنبرة خفيفة، كأنها تحاول التهوين عليه:

“ده لسه ما غبتش عنك غير أسبوع بس.”

رفع موسى عينيه إليها ببطء، وكأن نظراته أثقل من قدرته على الكلام، ثم ابتسم ابتسامة باهتة سرعان ما تلاشت وهو يجيب بصوت منخفض صادق:

“حاسس إنها بقالها سنة والله يا ست الكل… اليوم ممل أوي من غيرها، بقيت متعود على وجودها جنبي… فمش عارف أرجع أعيش كده.. من غيرها.”

كانت كلماته تسقط بينهما كاعتراف عميق، بلا تكلف ولا محاولة للتجميل…

رأته عبير في تلك اللحظة صغيرًا رغم جسده الضخم، هشًّا رغم صلابته الظاهرة، وكأن غيابها قد نزع منه قطعة من

روحه.

مدّت يدها بهدوء وربتت على ذراعه بحركة تحمل دفئًا أكثر من الكلمات، ثم قالت بصوت مائل للحنو والعتاب الخفيف:

“هي مش بتكلمك كل يوم؟”

أجاب دون أن يرفع عينيه، وهو يومأ بخفوت:

“آه… بتكلمني كل ما تكون فاضية.”

“طب إيه بقى؟ وبعدين هي غصب عنها، إن شاء الله أول ما يحيى يقوم بالسلامة هترجع… حاول أنت بس تشغل نفسك شوية، واملَى يومك لحد ما الكام يوم دول يعدّوا… ارجع اشتغل.”

هز كتفيه بتململ، وكأنه يرفض محاولتها التخفيف عنه، ثم قال ببساطة مريبة:

“ما أنا بشتغل… بس بالليل، بسهر على الشغل وبراجع ورا الشباب في الشركة.”

رفعت حاجبيها متسائلة:

“وفي النهار بتعمل إيه؟”

صمت، لكنه لم يكن صمتًا عابرًا، بل نظر إليها طويلًا، نظرة فهمتها هي ببساطة، فاكتفت بإيماءة خفيفة وهي تهمس:

“فهمت… بتلف.”

أومأ بخفوت، وقال بصوت مُتهكم على نفسه:

“آه… بقيت صايع.”

ضحكت عبير ضحكة قصيرة، ضحكة أقرب للاستسلام منها للمرح، ثم زفرت بعمق وهي تسحب الكرسي المقابل له وتجلس في مواجهته.

أسندت مرفقيها على الطاولة وحدّقت فيه قائلة بنبرة تجمع بين المزاح والجدية:

“طب ليه يابني ما تشتغلش بالنهار وتنام بالليل زي الناس؟”

رفع عينيه إليها ببرود خفيف، وأجاب وكأنه يلقي حقيقة مسلَّمة:

“أنا مش الناس.”

رمقته بنظرة جانبية، في مزيج من سخرية الأم وقلقها، وقالت:

“ليه؟ مخلفة خفاش؟”

لم يضحك، ولم يعلّق… فقط ظل ينظر إليها نظرة طويلة، ثابتة، كأنه يختبر صبرها، وللأسف نفذ صبرها، فتمتمت بنفاذ صبر:

“تعبت من المنهادة معاك والله… مفيش غير فيروز ودلال اللي يقدروا عليك… هُمّا وستّك الله يرحمها… أما أنا؟ أغلب من إني أقدر عليك… تعبتني.”

توقعت أن ترى منه رد فعل، أي شيء… لكنه ببساطة رفع رأسه وسأل ببرود عابر:

“عاملة أكل إيه؟”

حدقت فيه مذهولة لثوانٍ، ثم وجدت نفسها تبتسم ابتسامة صغيرة تفضح عجزها عن مجادلته، وردت بصوت خافت:

“اللي إنت عايزه… تحب تاكل إيه؟”

هز كتفيه بلا مبالاة، وقال:

“ماليش نفس لحاجة معينة.”

صمتت لحظة تحدق فيه، ثم وقفت فجأة بحركة حاسمة تخفي إرهاقها وقالت وهي تشير له نحو الباب:

“اطلع بره يا موسى… انزل لأبوك أو لجدك… سيبني أغسل المواعين قبل ما دماغي تلف من تقلّباتك دي.”

نهض بتثاقل، وكأنه غير مكترث، واتجه نحو الثلاجة… فتحها، تناول تفاحة، وقبل أن يخرج وصلها صوته وهو يهتف ببرود مستفز:

“اعمليلي بسلة.”

توقفت يداها في الماء لحظة، حدقت في ظهره وهو يبتعد، ثم ارتسمت على شفتيها ضحكة يائسة، قبل أن تقول وهو تهز رأسها:

“روح يابني، ربنا يهديك.”

_________________

ترجّل موسى من على الدَّرَج بكسل واضح، يقضم التفاحة بين يديه، حتى وصل إلى الطابق الثاني حيث شقّة جدّه.

دفع الباب الموارب بقدمه وهو يلقي التحية بصوت عالٍ اعتيادي:

“السلام عليكم.”

ردّ عليه صوت جده الدافئ على الفور، تلاه صوت آخر مألوف لكن أقل ترحيبًا في أذنه:

“وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.”

رفع موسى رأسه سريعًا، وفور أن وقعت عيناه على ابنة عمته “مسك” توقّف في مكانه لحظة.

كانت تقف أمامه، تضم يديها إلى صدرها، وشفتيها مرسومتان بابتسامة صغيرة ماكرة، نظرة خبث طفولي يعرفها جيدًا منها.

تجمّدت ملامحه للحظة، ثم قال بدهشة أقرب للاعتراض:

“إيه اللي جابك هنا؟”

أجابته “مسك” ببرودها المعتاد، وهي تميل برأسها قليلًا بتحدٍّ طفولي:

“جايّة لجدي… عندك مانع؟”

حوّل موسى نظره نحو محمد الجالس على الأريكة، ثم رفع إصبعه مشيرًا إلى مسك باستياء واضح وهو يقول بنبرة استنكار:

“إيه اللي جاب البِت دي هنا يا جدي؟”

تنهد محمد بهدوء، نظرة حزمٍ ممزوجة بتسامح في عينيه، ثم قال بصوت رزين:

“عندها مسابقة رسم… وهتفضل هنا لحد ما تخلص.. وإن شاء الله حبيبة جدو تكسبها.”

أنهى جملته وهو يلتفت نحو “مسك” مبتسمًا لها بحنو وفخر واضحين، فيما تقدمت هي نحوه بخفة، ألقت نفسها بين ذراعيه وهي تقول بدلال طفولي:

“حبيبي إنت يا جدو.”

وفي الخلف، زفر موسى بقوة، ثم رفع حاجبيه بتبرم وهو يقول ساخرًا:

“يعني هبقى مضطر أشوف خلقتك دي اليومين الجايين.”

لم يكد ينهي كلماته حتى جاءه صوت محمد الصارم، لهجة تحمل وزنًا لا يقبل النقاش:

“اتكلم معاها عدل يا ض.”

تجمّد موسى لوهلة بعد صوت جده الصارم، ثم ألقى نظرة حانقة على “مسك” التي لم تُخفِ ابتسامتها الصغيرة المليئة بالانتصار.

تحرّك بخطوات ثقيلة نحو المطبخ، ألقى بقايا التفاحة في سلة المهملات بحركة سريعة متضايقة، ثم فتح الثلاجة وأخرج زجاجة ماء باردة، أخذ منها جرعة طويلة كأنه يبتلع بها ضيقه، قبل أن يلتفت نحوها فجأة ويسأل بنبرة فضولية متعمدة:

“وعلى كده… هتقعدي قد إيه يا ست مسك؟”

لم تتأخر هي في الرد، صوّبت نحوه نظرة متحدية وأجابت ببرود مصحوب بصفعة لفظية غير متوقعة:

“مالكش دعوة، هو أنا قاعدة في بيتك؟ وبعدين إيه اللي جابك أصلاً؟ مش إنت اتجوزت؟ يلا روح بيتك… يلا.”

توقف موسى عن الشرب، وحدق فيها بصدمة حقيقية، حاجباه ارتفعا بدهشة، وهو يقول:

“إنتِ… بتطرديني دلوقتي؟”

التفت نحو محمد، رافعًا يده نحو مسك وكأنه يعرض قضية مصيرية أمام المحكمة:

“هي بتطردني دلوقتي… بتطردني من بيتك يا جدي!”

نظر إليهما الجد محمد نظرة متفحصة، ينقل بصره بين موسى ومِسك كما لو كان يقيّم طفلين يتشاجران على لعبة، ثم قال بصوت جامد هادئ يحمل تهديدًا مبطنًا:

“لو ما بطلتوش شغل القط والفار بتاعكم ده… هطردكم انتو الاتنين بره.”

وفي لحظة، تمسكت مسك بذراع جدها، متشبثة به كدرع حماية، ورفعت وجهها نحوه بعينين واسعتين مليئتين ببراءة مصطنعة وهي تشير إلى موسى:

“خليه يبعد عني يا جدو، وأنا مش هعمل حاجة.”

رفع موسى حاجبيه باستنكار، ثم شبك ذراعيه ورد بصرامة لا تخلو من التهكم:

“خليها تبعد عني يا جدي… بدل ما آكلها وأحلّى بعدها.”

التفتت مسك إليه ببطء، ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة مليئة بالتحدي، فردّ عليها بنفس الابتسامة، تحدٍّ يرد على تحدٍّ، قبل أن يزفر بقوة ويشيح بوجهه بعيدًا عنها قائلاً بنبرة ملولة:

“أنا طالع أقعد في البلكونة… عن إذنك يا جدي.”

راقب محمد حفيده وهو يغادر بخطوات متسارعة تحمل شيئًا من الضيق المكتوم، بينما تابعت مسك حركته بعينيها الضيقتين، وقد ارتسمت على وجهها علامات استغراب صامت.

التفتت بعدها إلى جدها وسألته بصوت متسائل كأنها تحاول فك لغز ما:

“هو ماله؟ ليكون متخانق مع فيروز؟”

أجاب محمد بهدوء، وكأنه لا يريد تهويل الأمر ولا تصغيره في الوقت نفسه:

“لأ… مضايق علشان فيروز سافرت.”

شهقت مسك برفق، وارتفع حاجباها دهشة، لتسأل سريعًا:

“سافرت؟ إمتى؟”

مسح الجد على لحيته الخفيفة البيضاء، ثم قال بنبرة خافتة تحمل بين طياتها شيئًا من القلق:

“من أسبوع… سافرت هي وسامي، علشان يحيى تعب… المرارة بتاعته كانت ملتهبة جامد، ولحقوها قبل ما تنفجر.”

سكتت مسك لبرهة، كأن المعلومة الأخيرة أثقلت جو المرح الخفيف الذي كان يسود قبل قليل، ثم رمشت بعينيها ببطء، وزفرت أنفاسها وقالت بإدراك خافت:

“علشان كده بقالها فترة مش بتتكلم على الجروب.”

أجاب محمد بصوت الرتيب:

“تلاقيها مشغولة مع أبوها، ربنا يشفيه ويقومه بالسلامة.”

أومأت مسك بخفة، وكأنها تحاول دفع الغصة عن حلقها:

“آمين… هبقى اتصل بيها واطمن عليه.”

_________________

في الخارج، حيث كان يجلس على الكرسي الخشبي في الشرفة، ساكناً، لا يُسمع سوى أصوات متداخلة من المارة في الأسفل، وصوت مروحة السقف التي تدور ببطء في الداخل.

كانت عيناه معلقتان على باب شرفة شقتها المغلق في الطابق المقابل، كأنه ينتظر أن يُفتح فجأة ويطل منه وجهها المألوف.

أخذ نفساً عميقاً، وشرد ذهنه إليها… ولم يستطع منع نفسه من استدعاء ذلك اليوم تحديداً؛ يوم كانت تجهز حقيبتها بعد وصول خبر مرض والدها بثلاثة أيام، وبعد أن استلمت تأشيرتها.

كان بجوارها حينذاك، يراقب حركاتها المترددة وهي تطوي ملابسها بعناية داخل الحقيبة وتسعتد للرحيل.

FLASHBACK

كانت الغرفة هادئة، لا يقطع السكون إلا صوت انزلاق السحاب على أطراف القماش، وصوت أنفاسهما المتلاحقة بحزن صامت.

وضعت آخر ما تبقى لها: صورة تجمعهما يوم زفافهما… تأملتها لحظة، ثم وضعتها في الحقيبة برفق، وأغلقتها بإيماءة صغيرة.

التفتت إليه بخطوات بطيئة، وملامحها هادئة، ثم فتحت ذراعيها له بصمت، دون كلمات، فاندفع هو نحوها فوراً، وكأن حضنها ملاذه الأخير قبل العاصفة، ضمها إليه بقوة تحمل كل الخوف من الغياب.

قالت هي بصوت مبحوح قرب أذنه:

“هتوحشني أوي.”

أجابها من أعماقه، وصوته يرتجف رغم محاولته إخفاءه:

“وأنتِ وحشاني من دلوقتي.”

وكيف لا يشتاق لها؟

وهي الحلم الذي ظلَّ يتمناه طوال سنواته القاحلة، يتخيل عودتها إليه، يتخيل يديها بين يديه، وأنفاسها تتخلل تفاصيل بيته، وقلبه… كم تمنى أن يبقيها بجانبه، أن يضمها إلى صدره فلا تنفلت منه أبداً، أن يحبسها في قلبه فلا يجرؤ العالم على انتزاعها منه.

لكن… لا تجرى الرياح كما تشتهي السفن. وها هي اليوم تغادره من جديد، مضطرة، تتركه وحيداً في هذا المنزل الذي شهد زواجهما، وكأن الجدران من حوله ستفتقدها مثله، وكأن كل ركن فيه سيبكي غيابها.

ابتعدت عنه قليلاً لتتمكن من رفع يديها إلى وجهه، راحت أناملها تتحرك برفق على وجنتيه، كأنها تحفظ ملامحه عن ظهر قلب قبل أن تغيب.

بينما نظر هو إليها بعينين يملؤهما الحنان والألم معاً، وابتسم ابتسامة واهنة، كأنه يحاول طمأنتها لا نفسه، وهو يسمعها تقول بصوت دافئ:

“مش هتأخر عليك… إن شاء الله أول ما بابا يبقى كويس وأطمن عليه… هرجع لحضنك يا أسير قلبي.”

ارتعشت ابتسامة على شفتيه، باهتة كغروب يوم حزين، ثم أومأ بصمت، فعادت تتقدم نحوه، فاحتواها بين ذراعيه من جديد، وكأن روحه كلها تحاول التشبث بها للحظات أخيرة قبل أن يتركها للغياب.

كان يعانقها ليطفئ نيران اشتياقه المشتعل، أو ربما ليخزّن في صدره شيئاً من دفئها… ما يكفيه للصبر على أيام الوحدة القادمة.

Back

خرج من شروده على صوت رنين هاتفه، فزفر بقوة وكأن أنفاسه كانت معلقة منذ لحظة رحيلها.

مد يده ببطء إلى جيب بنطاله، أخرج الهاتف، وحين وقعت عيناه على اسم المتصل… أشرق وجهه بابتسامة صافية، صادقة حدّ الارتعاش.

كانت هي…

وكأنها شعرت به، وكأن قلبه الذي كان يفتش عنها في صمت، وصل إليها رغم المسافات.

ضغط على زر الإجابة بسرعة، وقبل أن يتحدث، جاءه صوتها من الطرف الآخر، دافئاً، خافتاً، يشبه لمسة على قلبه:

“وحشتني.”

أغمض عينيه للحظة، يستنشق الكلمة وكأنها أوكسجين يعيد الحياة إلى صدره، وكأن صوتها عبر الأسلاك اخترق كل المسافات، واحتل قلبه من جديد.

رد بصوت مبحوح، متقطع من شدة الشوق:

“وأنتِ أكتر… كنتِ لسه بفكر فيكِ؟”

ساد صمت قصير على الطرف الآخر، قبل أن يأتِ صوتها بابتسامة خافتة، تحمل في طياتها حنيناً وقلقاً ناعماً:

“لقيت بابا نام، وكنت لسه داخلة أجهز الأكل… فقلت آخدها فرصة وأطمن عليك، إنت عامل إيه؟… أكلت؟”

ابتسم بخفوت، يعلم كم تقلق عليه حتى من وسط انشغالها، وأجاب بصوت منخفض:

“آه.”

لم تقتنع، سألته بنبرة حانية:

“أخدت دواك؟ ولا نسيت؟”

أجاب بعد لحظة، وكأنه طفل يحاول إرضاءها:

“أخدته.”

زفرت براحة خفيفة وقالت برقة:

“طب الحمد لله… بتعمل إيه دلوقتي؟”

أسند ظهره إلى المقعد، أرخى رأسه للخلف، وترك عينيه تتعلقان بشرفتها المقابلة، ثم قال بصوت يغلبه الحنين:

“قاعد في مكاني المفضل.”

لحظات من الصمت مرت قبل أن تتسع ابتسامتها من جديد، ثم سحبت الكرسي في المطبخ وجلست، وقالت بصوت دافئ:

“بلكونة جدك؟”

ضحك بخفة، ضحكة مشوبة بالشوق:

“أيوه… المكان اللي عبّرت فيه دايمًا عن شوقي ليكِ.”

على الطرف الآخر، أسندت خدها إلى راحة يدها، وكأنها تتكئ على ذكرياتهما، وقالت بمرح خفيف يحمل بين طياته حنينًا دفينًا:

“واللي كنت بتغني فيه لعبد الحليم.”

ضحك من جديد، ضحكة قصيرة لكنها ممتدة في قلبه، ثم أومأ برأسه كأنه يراها أمامه في تلك اللحظة:

“آه… عبده كان حاضر كل اللحظات دي.”

تعالت ضحكتها الدافئة، تلك الضحكة التي اشتاق لأن تملأ أذنه وبيته وعمره، وقالت بمزاح محبب:

“عبده تاني؟”

ردّ بصوت أكثر دفئًا:

“قايلك… بعتبره زي صاحبي.”

صمتت لحظة، ثم همست بضحكة خافتة:

“يا بختُه… إن عنده مُعجب وفي زيه.”

أطرق برأسه للحظة، وكأنه يخفي ابتسامة خرجت من أعماق قلبه، ثم قال بصوت خافت، صادق حتى النخاع:

“ويا بختي… إني لقيت حد أغنّي ليه أغانيه الحلوة.”

اتسعت ابتسامتها في الطرف الآخر، ابتسامة تشبه ابتسامته تمامًا في تلك اللحظة، ابتسامة صغيرة لكنها مليئة بالدفء والحنين.

واستمرّا في هذا الحديث الدافئ، كأنهما ينسجان جسورًا من الكلمات بين قلبيهما، حديث كافٍ ليشبع قلبهما بالطمأنينة والحنين في الوقت نفسه.

_________________

وفي الشقة قابلته، وتحديدًا في بهوها…

كانت

ليلى

تجلس على الأرض، منهمكة في ترتيب مواضع لعب صغيرها، ألعاب متناثرة على السجادة بألوانها الزاهية التي تحمل آثار أيدٍ صغيرة لا تعرف السكون.

يزيد

، ذلك الصغير الذي لا يلبث أن يترك كل ما بين يديه حين يلمح جدته تدخل المطبخ، كما فعل الآن؛ رمى مكعباته البلاستيكية وركض بخطاه السريعة نحوها، يداه الصغيرتان تلوحان بحماس، وهو يصرخ باسمها بفرح طفولي عذب.

وكانت

نادية

، تبتسم له وهي تنحني قليلاً، تدعه يرافقها رغم أنها تعلم أنه سيؤخرها أكثر مما سيعينها، لكن ذلك لا يهم؛ فهي تجد في وجوده حولها متعة لا تقدر بثمن.

أما

ليلى

، فقد استندت برفق إلى الأريكة بعد أن فرغت من جمع ما تيسر من الألعاب، والهاتف ملتصق بأذنها، تتحدث مع ذاك البعيد عنها آلاف الكيلومترات، الواقف في شرفة غرفته هناك في دبي، يراقب صمت ناطحات السحاب التي تحيط به، كأنها تحيط بعزلته.

سألته بصوتها الرقيق، الدافئ رغم المسافة:

“عمي عامل إيه دلوقتي؟”

جاءها صوته الهادئ، العميق قليلًا، يحمل أنفاسًا مطمئنة:

“الحمد لله، طلع من المستشفى امبارح، وحاليًا نايم.”

ابتسمت براحة وكأنها تلقت طمأنينة بعد قلق:

“ابقى سلّملي عليه.”

“يوصل…”

سكت ثم أردف بنبرة يكسوها شوق متردد:

“قوليلي… أنتم عاملين إيه؟ إنتِ وماما ويزيد؟ أخباركم إيه؟”

جلست على الأريكة، مدّت ساقيها على مهل كأنها تستسلم لراحة لحظية، وأجابت بابتسامتها التي شعر بها رغم أنه لا يراها:

“الحمد لله، كلنا كويسين… ماتقلقش.”

صمت قليلًا قبل أن يسأل، نبرته أخف، كأنه يحاول الإطالة في الحديث:

“طب… بتعملي إيه دلوقتي؟”

ضحكت بخفوت وهي تنظر إلى المطبخ حيث يختفي صوت

يزيد

مع جدته:

“قاعدة… لِسّه مخلّصة ترتيب ورا يزيد، الأستاذ أول ما شاف ماما داخلة المطبخ عشان تحضر الغدا، ساب كل حاجة من إيده وجري وراها، عايز يساعدها.”

ضحك هناك، ضحكة قصيرة لكنها أرسلت إلى قلبها دفئًا غير مرئي، كأنها مرآة صغيرة انعكست عليها صورته وهو يبتسم وسط غربته.

لم تستطع إلا أن تبتسم بدورها، وعيناها تتعلقان بظلال يزيد التي تتحرك أمام باب المطبخ، ثم جاءها صوته الرزين، المطمئن كنسيم المساء:

“أنتم بتناموا مع ماما في الشقة؟؟”

رفعت رأسها قليلًا، وكأنها تواجهه رغم بعد المسافات، وأجابت بصوت منخفض يكسوه شيء من الاعتراف:

“آه… حاولت يوم ماسافرت أنام فيها، بس ماقدرتش… ما اتعودتش أنام فيها وأنت مش موجود، حسّيت إن البيت فاضي وأني لوحدي… فنزلت أنا ويزيد واستأذنت من ماما نفضل معاها لحد ما ترجع.”

ساد لحظة صمت، شعرت خلالها وكأن أنفاسه عبرت البحار لتستقر عند أذنها، ثم قال بصدق حانٍ، يحمل ما بين الحروف وعدًا غير منطوق:

“كويس إنك عملتي كده… علشان أفضل مطمن عليكم أنتم التلاتة… وإن شاء الله هرجع بعد بكره، أنا حجزت التذاكر.”

ارتجف قلبها للحظة، لم تكن تتوقع قرب عودته لهذه الدرجة، فسارعت تسأله بنبرة امتزج فيها القلق بالرجاء:

“طب وعمي؟”

أجابها بصوت يفيض امتنانًا لذلك الرجل:

“هو اللي أصر إني أرجع… قالي علشان شغلك وأنتم… فاضطريت أوافق وحجزت التذكرة… وعموماً فيروز هتفضل معاه لحد ما يبقى كويس خالص ونطمن عليه.”

سكتت لبرهة، ثم خرج صوتها هادئًا، مترددًا كأنها تخشى أن يخذلها جوابه:

“يعني… هترجع بعد بكره؟ بجد؟”

ابتسم وهو يجيب بثقة ناعمة، وكأنه يعدها وعدًا مقدسًا:

“آه… قبل ما تصحي من النوم هتلاقيني عندك… مبسوطة؟”

لم تتردد لحظة، بل انطلقت الكلمات من قلبها مباشرة، مبللة بحنين لم تعد قادرة على حجبه:

“مبسوطة أوي… إنت واحشني أوي بصراحة… دي أول مرة تبعد عني كده من أول ما اتجوزنا، فمش متعودة.”

حينها، ابتسمت عيناه قبل شفتيه، كأنهما سبقاه في التعبير عن فرحٍ داخلي عارم. شعر بقلبه يتراقص على وقع اعترافها؛ وكيف لا، وهو الذي تمنى منذ شهور قليلة فقط في بداية زواجهما أن يسمع منها كلمات كهذه، أن تشعر نحوه بما كان يحمله هو في صمت.

أراد يومًا أن تحبه بحق، أن تبادله المشاعر دون خوف أو تحفظ… وها هي الآن تفعل، وبصدقٍ يذيب المسافات بينهما. ها هي اليوم لا تطيق غيابه، لا تكتفي بكونه زوجًا وشريك حياة فحسب، بل تراه حبيبًا لا يمكنها العيش بدونه… وكم يحب هو إدراك ذلك.

تنهد براحة عميقة، كأنه يطلق آخر ما تبقى من قلق في صدره، ثم قال بصوت دافئ، والابتسامة لا تزال تزين ثغره:

“وأنتِ كمان وحشاني… كلكم وحشني.”

ابتسمت من أعماقها، ابتسامة صافية نقية، كابتسامته هو في تلك اللحظة، كأن بين قلبيهما خيطًا غير مرئي يربط الفرح ببعضه.

ولم تكد تستسلم لهذا الدفء حتى سمعت وقع خطوات صغيرة تقترب منها، وصوت طفلها ينطلق بطبقاته الطفولية البريئة:

“ده بابا؟”

رفعت نظرها إليه، إلى تلك الملامح الصغيرة التي تحمل منها الكثير، وأومأت بالإيجاب وهي تهمس بحنان:

“آه.”

لم يتردد لحظة، ركض بخطواته الصغيرة نحوها، كأنه يسابق الدنيا ليصل إلى صوته، فهمت هي ما يريد قبل أن ينطق، فمدت له الهاتف برفق.

قبض عليه بيديه الصغيرتين، وقال بصوت مفعم بالفرح:

“بابا.”

ومن الجهة الأخرى، جاءه صوته العميق، يملؤه الحب ويغمره الشوق:

“روح بابا… وقلبه كمان… عامل إيه يا يزيدو؟”

وبكلماته الصغيرة، المتعثرة كخطواته الأولى، وحروفه التي تتساقط على مسامعها كحبات مطر خجولة، قال بصوته الطفولي:

“الحمد… لله… جدو عامل… ايه؟”

انفرجت شفتا سامي على الطرف الآخر بابتسامة دافئة، وأجاب بصوت محبب حانٍ:

“جدو الحمد لله يا حبيب بابا… مش هو كلمك امبارح وقالك إنه كويس؟”

ساد صمت صغير، ثم جاءه صوته الرقيق، أهدأ قليلًا، وكأنه يطمئن نفسه:

“آه.”

ابتسم الأب ابتسامة خفية، ثم أضاف بلطف:

“اطمن بقى يا حبيبي.”

لم تمضِ لحظة حتى عاد الصوت الطفولي مترددًا، يحمل في طياته شوقًا أكبر من سنواته القليلة:

“طب… بابا… هت.. هترجع امتى؟”

“قريب أوي يا حبيب بابا… وحشتك؟”

لكن يزيد، بعفويته الطفولية، لم يرد بكلمة، بل اكتفى بالنظر للهاتف للحظات بعينين لامعتين، ثم فجأة، مد يده الصغيرة وأعطى الهاتف لليلى دون أن ينطق.

رفعت حاجبها بدهشة، تتساءل بصمت عمّا يدور في رأس صغيرها، قبل أن تراه يضغط بحرص على زر المكبر في الشاشة، ثم يعود ليقف أمامها، يثبت قدميه الصغيرتين على الأرض بقوة وكأنه يستعد لشيء عظيم، ويفتح ذراعيه على اتساعهما حتى كاد يختل توازنه، ثم بصوت صافٍ، صادق، قال:

“وحشتني قد كده.”

لم تتمالك ليلى نفسها من الضحك، انفجرت ضحكتها من قلبها، ضحكة نقية صافية كصوت طفلها، بينما على الطرف الآخر ساد صمت قصير قبل أن يقطعه صوت سامي، مدهوشًا، وقد تسللت البسمة لصوته دون إرادة:

“واضح إنه عمل حاجة لطيفة… استني، هكلمك فيديو.”

لم تمر ثوانٍ حتى أضاءت شاشة الهاتف بمكالمة الفيديو. ضغطت ليلى على القبول، وما إن ظهر وجه سامي حتى تهللت أسارير يزيد، وانطلق صائحًا بفرح عارم:

“باباااا!”

ابتسم سامي ابتسامة واسعة ملأت ملامحه شوقًا، وكأن كل تعب الأيام الماضية قد تلاشى في لحظة، وقال بصوت تغلب عليه العاطفة:

“يا روحي إنت… يا حبيبي.”

اقترب يزيد من الشاشة، كأنه يريد أن يعانقه من خلالها، يضع كفيه الصغيرتين على الهاتف، يطبع قبلة بريئة عليه، ويقول:

“تعالى بقا.”

ضحكت ليلى مرة أخرى، لكن هذه المرة ضحكة امتزجت بحرارة فيض من المشاعر، ضحكة تخبئ خلفها دمعة فرح تأبى النزول.

أما سامي، فقد شعر بانقباضة حلوة في صدره، ذلك النوع من الانقباض الذي يولده الحنين العميق، وقال بصوت حاول أن يخفي ارتعاشه:

“جاي… جاي على طول،هكون في حضنك قريب أوي… استناني، وخد بالك من ماما وتيتا، اتفقنا؟”

أومأ يزيد بسرعة، بعفوية الأطفال التي تخلو من التردد، فارتسمت على وجه سامي ابتسامة واسعة، كأن قلبه لم يعد قادرًا على احتواء فيض مشاعره، وقال بصوت دافئ مفعم بالحب:

“بحبك.”

جاءه الرد الصغير سريعًا، نقيًا كقطرة مطر أولى:

“وأنا كمان… بحبك.”

ويا لروعة الإحساس، في تلك اللحظة، التي كادت أن تفيض من فرط ما تحمله من سعادة خالصة؛ سعادة رجل عاش سنوات يتمنى بيتًا ينبض بالحب، ويستيقظ على أصوات تملؤه دفئًا. وها هو الآن يملك ما حلم به وأكثر؛ زوجة حبيبة صارت روحه، وطفل بكلمة صغيرة منه يقدر أن يوقظ بداخله نورًا لا يخبو.

يا ويل قلبه من هذه النعمة التي بين يديه، ومن هذا الامتنان الذي يغمره حتى يكاد يعجز عن التنفس.

_________________

في

جهة أخرى…

وكالعادة، على كورنيش النيل، حيث ينساب نسيم النهار العليل محملاً برائحة الماء العذب وأصوات المراكب العابرة، جلسا_مع ترك مسافة بينهما_ على مقعد أسمنتي قديم، تحمل نتوءاته آثار الزمن وذكريات لا تُحصى.

في يدهما كوب عصير قصب، اشتراه كل منهما للآخر قبل قليل، كانت الرياح يلامس شفتيهما وتوقظ الحواس، بينما الشمس تتسلل بخجل بين الأشجار على الرصيف، تلون الموج بخيوط ذهبية رقيقة.

لكن الغريب، أنهما جلسا صامتين، على غير العادة، أو لنقل إن من كان يجلس عادة مرحًا ومشاكسًا، أصبح اليوم غائبًا في صمتٍ غريب، صامت كأنه يحمل عبءًا داخليًا لا يعرف كيف يفرغه.

أخذت

ميرنا

رشفة من عصيرها، ثم ألقت نظرة خاطفة عليه، قبل أن تلتفت نحو النهر وتتنهد، محاولة كسر حاجز الصمت:

“في حاجة حصلت؟”

التفت إليها ببطء، وعيناه تحملان ثقل الأيام الأخيرة، فقال بهدوء:

“ايه؟”

حدقت فيه لحظة، ثم قالت بهدوء وحذر:

“في حاجة حصلت؟… أنت بقالك فترة بعيد… حتى دي أول مرة نخرج فيها من زمان… أنت مضايقك مني؟ أنا عملت حاجة ضايقتك؟”

هز رأسه سريعًا ونفى، يومئ بعفوية:

“لا… خالص، أنا مش مضايق منك خالص.”

ابتسمت بخفة، لكنها لم تقتنع، وسألته ببراءة وفضول:

“أومال… مضايق من مين؟”

سكت للحظة، ثم أطلق نفسًا ثقيلًا، وأجاب بنبرة حزينة تخفي وراء كلماتها صراعًا داخليًا:

“من نفسي… أنا مضايق وزعلان من نفسي أوي يا ميرنا.”

كانت كلماته تتردد كصدى هادئ بين خفقات النهر المتواصل، تتخلل الهواء برقة وتثقل اللحظة بمزيج من الصمت والحنين، تحمل ثقل شعور طويل لم يجد الطريق للتعبير عنه، واليوم فقط قرر أن ينطق بما يختلج في صدره.

ترك الكوب من يده، وزفر بقوة خفية، ثم التفت نصف التفاتة نحوها، ورفع عيونه التي تحمل صدقًا ونقاءً إلى عينيها، وقال بصوت خافت، هادئ، كأنه يخاطب قلبها قبل أذنيها:

“ميرنا… أنتِ بتصلي؟”

تفاجأت من السؤال في هذا التوقيت، ولم يكن هذا من أسئلته المعتادة، لكنها أومأت بخفوت، بعينين تحملان دهشة وفضول:

“آه… مش من زمان أوي بصراحة… لسه بادئة قريب ألتزم… بس إيه مناسبة السؤال؟”

ساد صمت قصير، كأن الهواء توقف ليمنحهما مساحة لما سيُقال…

وكان صوته حين نطق، هادئًا، لكنه يحمل ثِقَل ما مرّ به من أفكار، وصدقًا لا لبس فيه:

“المناسبة… إني عايز نكون.. إحنا الاتنين قريبين من ربنا… عايز ربنا يكون راضي عننا وعن علاقتنا… مش عايز نعمل حاجة تغضبه.”

رفع عينيه إليها، يتأمل وجهها المندهش، وكأنه يبحث عن نقطة ارتكاز في ملامحها قبل أن يتابع بصوت أكثر عمقًا:

“أكيد بتسألي نفسك… إيه اللي خلاني أقول الكلام ده دلوقتي؟”

توقف قليلًا، زفر بهدوء وكأنه يحاول ترتيب فوضى الأفكار داخله، ثم قال:

“الصراحة… الأيام اللي فاتت دي… كنت مشغول أوي في التفكير في الموضوع ده، وخاصة بعد الموقف اللي حصل من قريب… اللي فتح عيني على حاجات كتير كنت متعمد.. إني ما أشوفهاش… ندمت على حاجات كتير، وحسيت بالذنب تجاه حاجات أكتر، وزعلت إن اتعمدت أنسى اللي اتعلمته من ديني واللي اتربيت عليه.”

شعرت ميرنا بقشعريرة تسري في جسدها، ليس خوفًا مما يقول، بل من صدقه العاري أمامها. كانت كلماته تُشبه اعترافًا يخرج من أعماق شخص ظلّ طويلًا يهرب من مواجهة نفسه، حتى جاء الوقت الذي لم يعد فيه الهروب ممكنًا.

تنفست ببطء، وحدّقت فيه بعيون متسائلة، فسألها بصوته الهادئ:

“مش فاهمة… صح؟”

ردت بصوتها الناعم، الهادئ، تحمل نبراتها خليطًا من التردد والفضول:

“يعني… مش عارفة أفهم اللي عايز توصله من الكلام ده.”

أومأ ببطء، كأنه يعترف لنفسه قبل أن يعترف لها، ثم أخذ نفسًا عميقًا، وصوته يخرج بثبات هذه المرة، بلا التفاف أو تردد:

“أنتِ عايزة ربنا يكون راضي عن علاقتنا.”

رمشت بعينيها للحظة، ثم أجابت ببساطة، وكأن الإجابة بديهية:

“أكيد.”

حينها، انفرجت شفتيه عن جملة قصيرة، لكنها وقعت في قلبها وقع الرعد الهادئ، جملة حاسمة تحمل في طياتها كل ما دار في ذهنه طوال الأيام الماضية:

“يبقى نكتب الكتاب.”

سكت بعدها، يراقب ملامحها وهي تتغير ببطء… الدهشة أولًا، ثم الخوف الخفيف، ثم شيء عميق يشبه الارتباك الجميل، كأنها تقف على أعتاب حلم لم تتوقع أن يطرق بابها بهذه الطريقة المفاجئة.

كانت أنفاس النيل من حولهما تزداد لطفًا، وكأن الطبيعة كلها توقفت للحظة لتشهد هذا القرار الذي انبثق من قلبه الصادق، لا يطلب سوى أن يكون طاهرًا، نظيفًا… مثل ماء النهر الذي يجلسان أمامه الآن.

_________________

على جهة أخرى…

كان يصعد درجات السلم بخطوات متثاقلة بعد يوم طويل، حتى وصل إلى باب شقته. أخرج المفتاح من جيبه وأداره في القفل، ثم دفع الباب ودخل وهو يقول بصوت مرتفع، يكسوه شيء من التعب المعتاد:

“السلام عليكم.”

جاءه صوت والدته الدافئ من المطبخ، يحمل معه طمأنينة البيت:

“وعليكم السلام.”

تقدم نحو الداخل، رائحة الطعام تملأ الأجواء، ذلك المزيج الذي يشير دائمًا إلى دفء العائلة واقتراب موعد الغداء.

لمح والدته تجلس على الطاولة الصغيرة في المطبخ، يديها تتحركان بخفة وهي تقطع الخضروات بدقة اعتادها منها، بينما كان توأمه حسين يقف عند الموقد، يحرّك ما في القدر بعصا خشبية وكأنه يقوم بمهمة عظيمة.

علت محيا محسن ابتسامة ساخرة وهو يتكئ على إطار الباب، ثم قال بنبرة تجمع بين الدعابة والإنهاك:

“عاملنا أكل إيه النهاردة يا شيف حسين؟”

رفع حسين عينيه إليه للحظة، نظرته باردة خالية من أي انفعال، قبل أن يعود لما يفعله دون أن ينبس بكلمة، وكأنه لا يريد أن يمنحه حتى لذة الرد.

لكن والدته قطعت ذلك الصمت العابر، بصوتها العملي الحازم الممزوج بحنان معتاد:

“ملوخية بالأرانب ورز وسلطة… يلا روح اغسل إيدك وتعالى ساعدنا.”

استقام محسن في وقفته فجأة، كمن تلقى أمر انسحاب عاجل، وقال بسرعة محاولًا التملص:

“لا لا، أنا تعبان ومش قادر، وهلكان من الشغل… كفاية حسين معاكِ أهو، ست بيت شاطرة.”

رفع حسين عينيه إليه ببطء، نظرته ثابتة، تحمل ذلك البرود اللاذع الذي يتقنه، ثم قال بنبرة خافتة لكنها مصوبة كالسهم:

“ابقى قابلني لو قلت من الأكل ده؟”

ضحكت والدتهما، ضحكة قصيرة تحمل بين طياتها رضا الأم وسخريتها في آن، ثم قالت وهي تواصل تقطيع الخضار:

“وماله، ربنا يخليلي حسين، وما يحوجني ليك أبدًا.”

أدار محسن عينيه بخفة نحو السقف وكأنه يتلقى طعنة لطيفة اعتاد عليها، ثم رد ساخرًا وهو يتراجع للخلف نحو باب المطبخ:

“أيوه ربنا يخلهولك، ويخلي حسن للحاج… أنا طالع السطح، نادولي لما الأكل يجهز.”

غاب صوته مع ارتطام خطواته على السلم، كأنها تنفض عن البيت بعض الصخب الذي يحمله أينما حلّ.

تنهدت أمه، ثم أطلقت ضحكة قصيرة، لكنها مشوبة بيأس قديم، وقالت وهي تهز رأسها:

“أنا ما ربيتّش الواد ده… أنا ما ربيتّش غيرك إنت وحسن.”

رفع حسين بصره إليها، نظرة عابرة لكنها تحمل في طياتها ما بين التفهم والاعتياد على شكواها المتكررة، ثم تقدم نحوها بخطوات هادئة، وفي يده ملعقة يغمرها شيء من المرق، مدّها أمامها وهو يقول بصوت منخفض، بسيط:

“حصل يا ماما… دوقي بقى كده.”

تناولت الملعقة منه دون كلمة، تذوقت ما فيها بصمت، فيما

ظل هو يراقبها بصمت، عينه تتنقل بين حركة شفتيها وهي تتذوق وبين قسمات وجهها التي طالما حفظها عن ظهر قلب.

وفجأة، ارتسمت ابتسامة رضا دافئة على وجهها، فتنفّس هو بارتياح لم يدرك أنه كان يحبس أنفاسه طوال اللحظة الماضية، وقالت بنبرة حانية لا تخلو من الفخر:

“عسل زيك يا عين أمك… والله يا بخت اللي هتكون من نصيبك، هتاخد شيف زي العسل.”

ضحك حسين بخفة، ضحكة قصيرة لكنها صادقة، وعاد إلى القدر يقلب ما فيه بحركة معتادة… لكن أمه، كعادتها، لا تترك الجو يهدأ دون أن تضيف إليه لمستها المرحة، فأردفت بنبرة خفيفة تمزج بين الجد والدعابة:

“تعرف… لما أجي أدورلك على عروسة، هختار البنات اللي بيعرفوا يطبخوا، وأعمل مسابقة طبخ بينهم… واللي تكسب تبقى من نصيبك.”

ضحك أكثر هذه المرة، ضحكة حقيقية خرجت من قلبه على بساطة تفكيرها وسذاجة مخططها الطريف… لكنه، وسط هذه الضحكة، شعر بشيء داخله يتحرك فجأة… كأن كلماتها ضغطت على زر خفي في ذاكرته.

لم تكن مجرد فكرة عن “العروسة المناسبة” التي تتحدث عنها، بل صورة عينيها هي التي قفزت إلى ذهنه بلا استئذان… عيناها يوم التقيا أول مرة.

توقف للحظة، يحدق في القدر أمامه، ورائحة “الملوخية” المتصاعدة منه تجذب حواسه إلى ذلك اليوم البعيد… يومها،

حين شبّه هذه

الأكلة بعينيها الخضراوين الهادئتين

، واستنكرت هي التشبيه،

وتذكّر أيضًا طبق “الزَّر باللبن” الذي ناولته إياه في ذلك اليوم… وكيف بقي طعمه عالقًا في ذاكرته، كأنه أفضل ما ذاق في حياته.

ابتسم لا إراديًا، ابتسامة خفيفة لكنها مختلفة، تحمل سرًّا لا يعرفه سواه، ثم تمتم بصوت خافت بالكاد سمع نفسه فيه:

“واضح إننا مش هنحتاج ندور كتير…”

_________________

وفي الأعلى، كان محسن يصعد درجات السلم بخطوات متثاقلة، يعبث بهاتفه بلا وعي، مستغرقًا في رسائل وأخبار لا تكاد تهمّه.

وعندما وصل إلى الأريكة وجلس عليها كما اعتاد بعد يوم طويل، ارتجفت أذناه لصوت مألوف، يهمس باسمه:

“محسن!”

توقف عن تحريك الهاتف، ورفع رأسه ببطء، عيناه تتفحصان الزوايا المألوفة بحثًا عن مصدر الصوت، حتى استقرت أخيرًا على ملامحها، وهي تقف خلف السور الفاصل بينهما، تحضن بين ذراعيها بعض الثياب، ومن الواضح أنها كانت تجمع الغسيل عندما لمحته يصعد إلى الأعلى.

وقف سريعاً، وجاء صوته هادئًا حين أجاب:

“نعم.”

ابتلعت ريقها بخجل، ورفعت عينيها مترددة قبل أن تلتقي بعينيه، ثم قالت بصوت خافت بعد لحظة صمت قصيرة:

“شكراً… كارم قالي إنك أنت اللي جيبت الأجهزة… شكراً أوي.”

ابتسم بلا تكلف، بروح هادئة تحمل اعترافًا ضمنيًا بأن ما فعله لم يكن كبيرًا بالنسبة له، وقال:

“لا على ايه بس… أنا عملت اللي لازم أعمله… أنتِ أخت صاحبي… يعني أختي.”

تداعت الكلمات ببساطة، لكنها حملت بين طياتها تقديرًا ودفءً لا يحتاج إلى صخب، جعلت الجو المحيط بهما يكتسي بلحظة صامتة مليئة بالراحة والامتنان المتبادل.

ابتسمت بامتنان خافت، وأومأت برأسها بخفة، وكأنها تستأذن منه بالكلمة قبل أن تعود لما تفعل.

ظل هو يراقبها للحظة، ثم أرخى جسده على الأريكة مستسلمًا لراحة لحظته الخاصة. أمسك هاتفه بيديه، وفتح إحدى تطبيقاته المألوفة، وغاص في عالمه الخاص كالعادة، عالم هادئ يتيح له الابتعاد مؤقتًا عن ضجيج الواقع، بينما بقى صدى حضورها في المكان كنسمة لطيفة من الهدوء.

_________________

في جهة أخرى…

كانت تجلس في غرفتها على فراشها، الهاتف بجانبها ينبعث منه صوت أحد الشيوخ، يتلو آيات القرآن بصوت هادئ ومتزن.

استندت على وسادتها، عينيها نصف مغمضتين، تتنفس ببطء وكأن كل حرف من التلاوة يغمر قلبها بالسكينة، ويبعد عنها ضجيج العالم الخارجي، فتغرق في هدوء اللحظة، حيث صوت الذكر يصبح ملاذها ورفيقها الوحيد في تلك الساعات الهادئة.

و

بين يديها، كانت تتمسك بمنديله الأبيض الملئ بالنقوش الهادئة، تحمل بين طياته سؤالًا لم تجد له جوابًا بعد: هل تحتفظ به، أم تعطيه له؟ وكيف ستعطيه له بعد كل هذا الوقت؟

ولأن التفكير في هذا الأمر أثقل قلبها، وأشعل توترًا خفيًا في صدرها… تذكرت نصيحته لها، عندما أخبرها أن كلما شعرت بالتوتر، عليها أن تقرأ أو تستمع للقرآن لتستعيد هدوءها.

وهكذا، جلست الآن، الهاتف بجانبها، وصوت التلاوة ينساب حولها، وتدرك أنها تنفذ كلماته بحذافيرها، محاولة أن تسمح للسكينة أن تتغلغل في أعماقها، فتخفف عن قلبها هذا الثقل.

أغمضت عينيها، واستسلمت لزفيرٍ طويل، كأنها تُفرغ ما تراكم في صدرها من قلق، تاركة نفسها لهذا السكون الذي بدأ يتسلل إليها كنسيمٍ رقيق.

شعرت للحظة وكأن العالم توقف، لا شيء سوى صوت التلاوة يلامس أعماقها، يهدئ ارتجاف قلبها.

لكن كما كل جميل لا يكتمل، انشق هذا الصفاء فجأة على صوت اندفع من الخارج، مصحوب بخطوات مسرعة وضحكة عالية… شقيقتها، التي اقتحمت الغرفة دون استئذان، وعيناها تلمعان بفرحة طفولية وهي تصيح بحماسة:

“بصي مين جه يا لينا!”

قفز قلب لينا في صدرها، وبحركة سريعة أخفت المنديل أسفل وسادتها، كمن يخفي سرًا لا يحتمل أن يراه أحد، ثم استدارت نحو شقيقتها بملامح متوترة، مستعدة لأن تعاتبها على اقتحامها، لكن ما إن رأت الوجه الذي خلفها حتى تجمدت الكلمات على شفتيها، لتحل محلها ابتسامة عفوية ارتسمت رغماً عنها، وخرج صوتها هادئًا، دافئًا، وهي تهمس بدهشة وفرح:

“مِسك…”

انتفضت لينا من على الفراش وكأن شيئًا بداخلها اشتعل فجأة، خطفت خطوات سريعة نحو “مسك” التي كانت واقفة عند الباب بذراعين مفتوحتين، فاندفعت لينا إلى حضنها بلا تردد، كمن وجد قطعة مفقودة من روحه.

ضمّتها بقوة، ورائحة عطرها المألوف تعيد إليها ذكريات طفولية دافئة، وهمست بصوت مرتجف من الشوق:

“وحشتيني أوي.”

بادلتها مسك العناق بنفس القوة، وصوتها يختنق بالعاطفة:

“وأنتِ كمان وحشاني أوي.”

ابتعدت لينا قليلًا، يديها ما زالت ممسكتين بذراعي مسك، وعيونها تبحث عن تفاصيل ملامحها التي اشتاقت لها طويلًا، ثم سألتها بانبهار طفولي:

“جيتي إمتى؟”

أجابت مسك بابتسامة واسعة، فيها فرح وثقة:

“النهاردة… وهقعد كتير كمان، علشان عندي مسابقة هنا، وهسكن مع جدو لحد ما تخلص.”

تسعت عينا لينا بدهشة وسعادة لم تستطع إخفاءها، وهتفت بحماس صادق:

“بجد؟”

أومأت مسك بالإيجاب، وابتسامة خفيفة تعلو محياها، قبل أن تقطع “تينا” اللحظة بصوت يحمل سخرية محببة:

“شوفي الأستاذة! جاية علشان مصلحتها بس، مش علشان وحشتها العيلة ولا حاجة.”

انفجرت ضحكة قصيرة من لينا، تبعتها مسك بضحكة صافية، قبل أن ترفع يديها كمن تدافع عن نفسها في محاكمة ودّية:

“والله واحشني! أقسم بالله.”

لكن تينا لم تدعها تفلت بسهولة، فتابعت بتظاهر بالاستنكار، ويدها تستقر على خاصرتها:

“أومال ماجتيش تزورينا ليه؟ إحنا ماشفناش وشك من يوم فرح موسى! بقت عادة خلاص ما بنشوفكيش غير في المناسبات الكبيرة.”

ضحكت مسك مجددًا، وقالت بخفة ظل حاولت أن تخفي وراءها شعورًا بالذنب:

“والله مشغولة… الجامعة والكورسات والمسابقات… أنتم ناسيين إني فنانة ولا إيه؟”

تبادلت الشقيقتان الضحك معها، قبل أن ترفع تينا حاجبًا مازحًا وتقول بحزم مصطنع:

“فنانة آه، ماشي يا فنانة… بس خلي بالك، هتباتي عندنا النهاردة غصب عنك! وهنسهر لحد الصبح، وهتصل بضحى كمان تيجي.”

قهقهت مسك، ورفعت يديها استسلامًا:

“ماشي يا ستي موافقة… وخلي عمتو تيجي تسهر معانا كمان، يمكن نرجع أيام زمان.”

لكن لينا، التي كانت صامتة تتابع بعينين فيهما حنين خفي، علّقت بهدوء:

“لا… ما أظنش عمتو تقدر تيجي وتسيب طارق.”

سألت تينا بتذمر بسيط:

“يعني هنبقى إحنا الأربعة بس؟”

أجابت لينا بابتسامة رقيقة، فيها محاولة لتخفيف ثقل الواقع:

“للأسف… بس طالما مسك هنا، عندنا فرص كتير نتجمع فيها كلنا… إحنا ودلال وفيروز ويمنى… والبقية.”

وبينما تبادلت الفتيات النظرات، انسكب في الأجواء دفء مألوف، دفء يعرفن مذاقه جيدًا منذ الطفولة… ذلك الشعور الذي كان يتسلّل إليهن كلما اجتمعن في بيت العائلة الكبير، حيث الضحكات تتعالى في الممرات، والأسرار تُهمَس على الأرائك القديمة، والأحلام تُحاك في عتمة الليل قبل النوم.

هؤلاء الأربعة، ومعهن دلال وفيروز ويمنى وفريدة شقيقة مسك، كنّ دائمًا الأقرب لبعضهن؛ تقارب الأعمار صنع بينهن رابطة يصعب كسرها، حتى وإن فرّقتهن الأيام.

_________________

على جهة أخرى…

كان كلٌّ من موسى وأدهم يجلسان في غرفة المعيشة في شقة محمد، جو الغرفة بسيط وهادئ، لا يقطعه سوى صوت النقرات الخفيفة على لوحة المفاتيح وصوت موسى المفعم بالحماس.

جلس موسى متكئًا إلى الأمام، حاسوبه المحمول مفتوح أمامه، وعيناه تتأملان الشاشة بنظرة المعلّم الذي يتلذذ بمهمة الشرح.

قال وهو يشير بإصبعه إلى سطر برمجي محدد:

“وبس يا سيدي… عرفت هتعملها إزاي؟”

رفع أدهم رأسه نحوه سريعًا، وكأن السؤال أيقظه من تركيز عميق، ثم أجاب بثقة مترددة:

“آه.”

ابتسم موسى بخفة، لم يقتنع تمامًا بالإجابة لكنه تركه يكمل، وسأل:

“طب هتعرف تعملها دلوقتي؟”

تنفس أدهم بعمق، وكأنه يستعد لمواجهة تحدٍّ حقيقي، ثم قال بصوت منخفض لكنه يحمل عزيمة:

“هحاول.”

ربت موسى على كتفه بخفة ثم قال:

“طب يلا يا بطل!”

ابتسم أدهم بخفوت، وأخذت أصابعه تتحرك بخفة على لوحة المفاتيح،  وفي تلك اللحظة، نهض موسى من مكانه وهو يمدد ذراعيه كمن أنهى مهمة صغيرة بنجاح، ثم قال بصوت مرح:

“كمّل انت… وأنا هدخل أسرق حاجة من التلاجة ناكلها وإحنا قاعدين كده.”

ضحك أدهم بخفوت، ضحكة قصيرة خرجت منه بلا تفكير، فالتفت إليه موسى بابتسامة رضا قبل أن يخطو نحو المطبخ بخطوات واسعة وكسولة في آن واحد.

تبعته نظرات أدهم للحظة، لكنه سرعان ما أعاد بصره إلى الحاسوب، يركز مجددًا في الأسطر البرمجية أمامه.

غير أن هذا التركيز لم يدم طويلًا… فقد تسللت إلى مسامعه خطوات هادئة لكنها ثابتة، تقترب شيئًا فشيئًا.

رفع أدهم رأسه ببطء في اتجاه الصوت، ليجد أمامه مصطفى، بملامحه الهادئة وصوته الرتيب الذي يحمل دفئًا خفيًا:

“السلام عليكم يا بطل.”

ارتسمت ابتسامة بسيطة على وجه أدهم، ورد التحية بصوت خافت:

“وعليكم السلام.”

اقترب مصطفى أكثر، ووضع يده على كتف أدهم في لمسة حنونة غير متكلفة، ثم قال بنبرة هادئة لكنها تحمل اهتمامًا صادقًا:

“عامل إيه النهاردة؟”

أجاب أدهم دون تردد، وصوته يحمل شيئًا من الدفأ:

“الحمد لله.”

نظر مصطفى إلى الحاسوب أمام أدهم، حدّق قليلًا في الأسطر المعقدة على الشاشة، ثم قال بنبرة تحمل شيئًا من الفضول الهادئ:

“دي أكواد برمجة، صح؟”

رفع أدهم رأسه نحوه وأجاب بإيجاز:

“آه.”

دار مصطفى بعينيه في أرجاء الغرفة، يتفقد الفوضى الخفيفة التي تركها موسى وراءه؛ كوب نصف ممتلئ على الطاولة، كابل ممتد على الأرض، وصوت خافت يصدر من المطبخ، ثم سأل وكأنه يربط الأمور ببعضها:

“على كده موسى هنا؟”

رد أدهم سريعًا وهو ينظر جهة المطبخ:

“آه، في المطبخ.”

أومأ مصطفى برأسه بتفهم، ثم ألقى نظرة أخيرة على أدهم، وقال بصوت هادئ ينم عن احترامه لمساحة الآخر:

“طب أنا هسيبك بقى علشان تعرف تركز… هطلع أقعد مع الحج في البلكونة.”

أنهى جملته بابتسامة صغيرة، صادقة وبسيطة، تبعتها إيماءة خافتة من أدهم وابتسامة مماثلة، لكن تلك الابتسامة على شفتيه لم تدم طويلًا؛ ما إن استدار مصطفى وهمَّ بالابتعاد حتى تلاشت… حينما ترددت كلمات شقيقته في عقله كصدى بعيد يزداد وضوحًا كلما حاول تجاهله… كلمات لم تكن مجرد جملة عابرة، بل خيطًا شدّ شيئًا عميقًا في داخله.

تضايق من شعور الفضول الذي بدأ يتملكه، لكنه لم يستطع كبحه أكثر، حتى شعر بأن السؤال يوشك أن يخنقه إن لم يطرحه.

“عمي مصطفى!”

توقف مصطفى في منتصف خطاه، التفت ببطء نحوه، وعيناه تحملان مزيجًا من الاستفهام والهدوء.

وفي تلك اللحظة، نهض أدهم من مكانه دفعة واحدة، وكأن القرار قد اتُخذ بداخله دون رجعة، ثم قال بصوتٍ خافت في بدايته لكنه ما لبث أن اكتسب وضوحًا:

“ممكن أسألك حضرتك سؤال؟”

اقترب منه مصطفى خطوة، وأومأ بتشجيع:

“أكيد… اتفضل.”

تردد أدهم قليلًا، عيناه تهربان إلى الأرض وكأنه يبحث عن الكلمات بين ثنايا السجادة، ثم رفع نظره في النهاية، وفي صوته ارتعاشة خفية لا يلحظها إلا من يعرفه جيدًا:

“هو… حضرتك… ليه ما اتجوزتش بعد ماما؟”

#يتبع….

_________________

كتابة/أمل عبد الرحمن.

فصل خفيف، لطيف وقفلة خفيفة، وأعتقد أنتم اتعودتم إننا بنعيش شوية فصول خفيفة وبعدين ننزل بقفلاتنا، فاعتبروا إننا في إجازة دلوقتي.

مستنيى رأيكم؟

وتوقعاتكم؟

وقولولي ايه أكتر مشهد عجبكم؟

وفضلاً نتفاعل على الفصول، وتساعدوني شوية في الترويج، أنا بسبب انشغالي في الكتابة وفي أشياء أخرى شخصية، معنديش وقت أروج، وأختي هي اللي بتروج، فا فضلاً ساعدوني في الترويج لو شايفين الرواية حلوة، حتى لو بإسكرين صغير💙.

واستنوا الفصل الجاي إن شاء الله يوم الجمعة.

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق