رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الخمسون 50 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخمسون

الفصل الخمسون (وجه مألوف)

الفصل الخمسون (وجه مألوف)

كل الحُب للسكاكر اللي بيتفاعلوا🙈❤

_____

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

– أخافُ عليكِ من قلبي ومنّي

ومنكِ، ومن زمانكِ والمكانِ

قيس بن الملوح

____________

ترجّل من سيارته كالطلقة التي انفلتت من فوهة مسدس، لا يعرف لخطاه وزناً ولا لركضه كبحًا… شقَّ طريقه إلى قسم الطوارئ، يندفع بقوةٍ تكاد توازي اضطراب قلبه، حتى توقف أمام مكتب الاستقبال.

انحنى قليلًا نحو الموظفة، صوته يلهث، متقطع الأنفاس، وهو يسأل بنبرة مرتبكة مضطربة:

“لو سمحتِ… فيه حالة جات من شوية كانت…”

لكن كلماته اختنقت في حلقه، حين اخترق مسامعه صوت مألوف، ينطوي على شيء من التوتر والارتجاف:

“أستاذ موسى؟”

استدار بحدة، فإذا بها

فدوى

، الفتاة التي تعمل مع زوجته في العيادة، تلك التي أشارت له برأسها نحو إحدى الغرف، إماءة بسيطة لكن كانت كافية لتشعل خطواته من جديد.

ركض إليها بلا تردد، وبمجرد أن لامست يده مقبض الباب، دفعه دفعة واحدة، وهناك… توقّف كل شيء.

عينيه سقطتا عليها، مستلقية على الفراش الأبيض، وقد غلّفت قدمها اليسرى دعامة طبية، تجلس في هدوءٍ مُتعَب، تحاول أن تبدو بخير، لكنها لم تُخفِ عن عينيه أثر الألم.

ظل يحدّق بها لثوانٍ بدت كالعمر، قبل أن يشيح بوجهه فجأة، يضع كفيه على وجهه، يمسحهما بقوة، وكأنه يحاول أن يخلع عن جلده ارتعاشة الخوف التي التصقت به منذ سمع خبر سقوطها.

زفر بعمق، وكأن الهواء الذي استنشقه للتوّ كان أوّل نفسٍ حقيقي منذ تلقّى ذلك الإتصال، ثم جاء صوتها، رقيقًا، حنونًا، ينسلّ إلى قلبه كما تعرف أن تفعل دائمًا:

“موسى…”

التفت إليها مجددًا، يشبك يديه خلف رقبته وكأن جسده يحاول احتواء فيض المشاعر المتدفقة داخله، ثم قال بصوتٍ مبحوح، مرتجف، يحمل أثر الخوف الذي لم يزل يسيطر عليه:

“أنتِ عارفة… إن قلبي كان هيقف من الخوف؟”

خفضت عينيها وهمست بخجلٍ يختلط بالأسف:

“أنا آسفة…”

أغمض عينيه ببطء، وكأن تلك الكلمات لا تكفي لتمسح صورة السيناريوهات التي أرعبته طوال الطريق، ثم تحرك نحوها بخطوات هادئة، ثقيلة بثقل ما شعر به.

جثا بجوار الفراش، جلس القرفصاء قربها، ثم أمسك بيدها بين يديه كما لو كانت أثمن ما يملك في هذه الحياة، رفعها إلى شفتيه، وطبع عليها قبلة حانية، دافئة، وهمس بصوت يفيض حنانًا واطمئنانًا:

“ماتعتذريش… المهم إنك بخير.”

ألقى نظرة سريعة نحو قدمها المربوطة بالدعامة الطبية، فتصلبت ملامحه للحظة، قبل أن يعيد نظره إليها ويسأل بصوتٍ مائل إلى القلق:

“بس… إيه اللي حصل؟ وقعتِ إزاي؟”

أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها تحاول تلطيف وقع الأمر في أذنه، وقالت بهدوء يخفي خلفه ألمًا:

“كنت بجيب حاجة من فوق الدولاب… كنت واقفة على السلم… بس وأنا بنزل، رجلي فلتت… وقعت، والسلم نفسه وقع على رجلي.”

اتسعت عيناه بصدمة وارتفع صوته القلق دون أن يشعر:

“طب… طب الدكتور قالك إيه؟ هو فين أصلاً؟ أنا عايز أتكلم معاه.”

كان على وشك أن ينهض، حرك يده لينتزع نفسه من قربها، لكن أصابعها أسرعت لتتشبث بيده بقوة، تشدّه إليها، ثم قالت بصوت دافئ، متعمد أن يهدّئ من توتره:

“الدكتورة كانت هنا من شوية… وطمنتني… وقالت لي إنه مجرد كدمة قوية.”

“ولو… لازم أتكلم معاها برضه.”

قالها بحزم، ونهض من مجلسه كمن لا يحتمل الانتظار ثانية، دون أن يمنحها الفرصة لتثنيه عن قراره، لكنه وقبل أن يبلغ الباب، توقفت قدماه فجأة… فقد ظهرت أمامه مَن يبحث عنها.

لحظة صمت قصيرة مرّت، تبادلت فيها النظرات بينهم؛ ارتسم على ملامح الطبيبة شيء من الاستغراب وهي تلتفت سريعًا نحو فيروز، قبل أن تستقر عيناها على وجه موسى… وهناك، قرأت بوضوح قلقًا حادًا، يكاد ينفجر في أي لحظة.

ابتسمت بخفة وقالت بنبرة هادئة:

“واضح إن حضرتك جوزها؟”

اقترب خطوة، وقال بصوت يحمل رجاءً لا يخلو من التوتر:

“آه… ممكن أعرف هي وضعها إيه دلوقتي؟ مفيش حاجة خطيرة… صح؟!”

ابتسمت الطبيبة بهدوء، محاولة تهدئته، ثم قالت بنبرة واثقة تحمل طمأنة حقيقية:

“اطمّن… الحمد لله وضعها مستقر تمامًا، الإصابة مجرد

كدمة قوية

، ولسه حالًا مراجعة الأشعة المقطعية بنفسي، ومفيش أي كسور أو إصابات داخلية.”

لكن

لم

يهدأ قلبه بعد، فسأل بقلق:

“يعني… هي هتّحس بوجع، صح؟

أومأت الطبيبة برفق، وأجابت:

“هي طبيعي هتحس بألم في الأول، لكن مش مقلق… هكتب لها بعض المسكنات، المطلوب دلوقتي راحة تامة، وتجنّب الوقوف الطويل أو الضغط على القدم، خصوصًا أول 3 أيام، وكمان تحط كمادات باردة على موضع الكدمة 3 مرات يوميًا في الأيام الأولى لتقليل التورّم والألمد وبعد أسبوع تقريبًا تبدأ تحرّك رجلها تدريجيًا، لكن من غير ما تحمّل عليها وزن زائد… والأهم المتابعة لو لاحظتم زيادة في الألم أو التورّم، أو تغيّر في لون الجلد.”

أومأ موسى بخفوت، محاولًا إخفاء ارتباكه رغم أن قلبه ما زال يخفق بسرعة، ثم قال بصوت عميق يجمع بين الامتنان والحرص:

“شكرًا جدًا يا دكتورة… هلتزم بكل كلمة حضرتك قولتيها.”

ابتسمت له الطبيبة ثم أضافت:

“تمام… ممكن تبدأوا في إجراءات الخروج… ألف حمد الله على السلامة.”

أجابها بامتنان صادق:

“الله يسلمك… شكرًا مرة تانية.”

أومأت له مبتسمة وغادرت، فالتفت هو نحو فيروز التي سألته بصوت هادئ:

“اطمنت خلاص؟”

ز

فر بخفوت وقال بصدق:

“مش أوي… هرتاح بس لما أشوفك بتمشي عليها زي الأول…. يلا، أنا هروح أخلص إجراءات الخروج بسرعة وأرجعلك… وأوعِى تتحركي من مكانك.”

ابتسمت له بحبٍ صادق وأومأت وهي تقول بهدوء دافئ:

“حاضر.”

التفت هو نحو الباب، وقبل أن يغادر ألقى عليها نظرة أخيرة وقال بابتسامة مطمئنة:

“مش هتأخر.”

لكن قبل أن يخطو، رفعت حاجبيها وكأنها تذكّرت أمرًا، وقالت:

“موسى… فدوى.”

ابتسم بخفوت، واقترب خطوة وهو يرد بثقة:

“ماتقلقيش… ها وقفلها تاكسي وأشكرها، دي لولاها… ماكنش قلبي لسه شغال.”

انفرجت شفتيها ضاحكة على طريقته، فيما غمز لها بمشاكسة تحمل بين طياتها حبًّا دفينًا، قبل أن يفتح الباب ويغادر.

ظلت تراقب أثره للحظات، بعينيها اللتين لا تعرفان سوى الحب والامتنان لهذا الرجل… ثم خفضت بصرها إلى قدمها المصابة، وابتسمت بخفوت، كأنها تبتسم له، ذلك الذي بات مفتاح سعادتها، وسندها في كل سقوط، وسبب نهوضها كل مرة.

_________________

مع مرور الوقت…

توقّفت السيارة أمام منزلهما بدقّة، وانطفأ صوت المحرّك تاركًا فراغًا يملؤه الخفقان في صدرها.

فتح هو بابه أولًا، نزل بخطوات ثابتة، وكأنّ عقله سبق جسده إلى ما هو عازم عليه… التف نحوها، يسبقها إلى حركتها، وهي كانت قد فتحت الباب ببطء، أخرجت العكاز، واستندت عليه، تستعد لخطوتها الأولى نحو الأرض.

لكن قبل أن تبادر، كان هو يقف أمامها، حاجزًا طريقها، وعيناه تتفحّصانها كما لو أنه يقرأ في ملامحها أكثر مما تقول:

“بتعملي إيه؟”

رفعت رأسها نحوه بعفويّة، وقال بنبرة تحمل بساطة الإجابة:

“هخرج… هافضل قاعدة في العربية يعني؟”

مدّت يدها إليه بطمأنينة المرأة التي تثق في من أمامها:

“امسك إيدي بس.”

لكنّه لم يمدّ يده… بل تقدّم خطوة، وانحنى نحوها، وحاصرها بين ذراعيه كما لو أنه يحتضن شيئًا لا يملك التفريط فيه.

رفعها بحذرٍ بالغ، حتى شعرت بجسدها يترك المقعد، فاتّسعت عيناها في دهشة، وانفلتت منها شهقة مباغتة:

“بتعمل إيه… نزلني يا موسى!”

ابتسم ونظر إليها مباشرة، وخرج صوته عميقًا، واثقًا، لا يقبل المساومة:

“إيه؟… الدكتور قالت ماينفعش تضغطي عليها… عايزاني ما أسمعش كلام الدكتورة ولا إيه؟”

شهقت وهي تحاول كبح ارتباكها:

“موسى… ما تهزرش… الناس بتتفرج علينا.”

ابتعدت قليلاً عن السيارة بخطواته الواثقة، محتضنًا إياها بين ذراعيه كما لو أن العالم بأسره غاب من حوله، ثم قال بنبرة ثابتة تحمل شيئًا من التحدي وشيئًا أكبر من الفخر:

“ما يتفرجوا… هو أنا بعمل حاجة غلط؟… أنا شايل مراتي.”

وما إن أنهى كلماته بثباته المعتاد، حتى جاءه صوت أنثوي من جانب الطريق _صوت امرأة أربعينية كانت تمرّ بمحاذاته_ يحمل في نبرته دفء واهتمام صادق:

“ألف سلامة يا موسى.”

التفت موسى نحوها بابتسامة خفيفة، وهزّ رأسه باحترام:

“الله يسلمك يا خالتي.”

أمالت فيروز رأسها قليلًا، ثم قالت وعينيها تلمعان بمزيج من العتاب والابتسام:

“عجبك كده؟”

“آه عاجبني… امسكي جامد.”

زفرت فيروز بقلة حيلة، وكأنها تدرك أنه لا مجال لمجادلته الآن، ثم استسلمت، فمدّت يدها لتطوّق عنقه بثبات، بينما اليد الأخرى بقيت ممسكة بالعكاز.

دفع موسى باب السيارة بقدمه بخفة، ثم التفت برأسه نحو مدخل البيت، أخذ نفسًا عميقًا، وبدأ يصعد درجات السلم ببطء محسوب، وكأنها أمانة يخشى أن تمسها نسمة هواء.

وفي طريق صعودهما، لم تكفّ عن النظر إليه، وعينيها تحملان مزيجًا من القلق والعتاب، حتى قالت بصوت منخفض لكنه معاتب:

“طب… لو ضهرك وجعك دلوقتي أعمل إيه؟”

ابتسم موسى وهو يرفع نظره قليلًا للأمام، وكأن الإجابة بديهية:

“أولًا… أنتِ مش تقيلة علشان ضهري يوجعني، أنتِ أخف من أخف حاجة في الدنيا… أخف حاجة على قلبي عمومًا، ثانيًا… جوزك جامد، ماتقلقيش… قضّيت أيام كتير في الجيم.”

رفعت حاجبيها بدهشة وهي ترد بتساؤل:

“جيم؟؟”

أومأ موسى بثقة طفولية، وقال وكأنه يكشف سرًا:

“آه… ماتعرفيش إني كنت بروح جيم؟”

هزّت رأسها نافية، فأعاد بصره إلى الأمام وهو يقول بنبرة مرحة وكأنه يحكي عن مغامرة:

“كنت بروح من سنة تقريبًا… لما طلبت من طارق إنه يعمل لي اشتراك في الجيم اللي هو مشترك فيه، وفعلًا… عمل لي اشتراك ٣ شهور، والحمد لله حضرت أسبوعين فيهم… أول أسبوع، وآخر أسبوع.”

ضحكت رغمًا عنها على كلماته، تلك الضحكة التي سرقها بخفة دم لا تُقاوم، فيما هو ابتسم بعفوية وتابع وكأنه يسترسل في حكاية يعرف أنها ستُضحكها أكثر:

“بس بعدين روحت تاني على فكرة، كان فيه عرض… اتنين والتالت ببلاش، حاجة زي كده بيتهيألي، المهم… روحت أنا والشباب واشتركنا فيه.”

رفعت حاجبيها باستغراب طفولي وهي تقول:

“مش فاهمة إزاي؟”

مال قليلًا نحوها وهو يشرح وكأنه يكشف سرًّا تجاريًّا خطيرًا:

“روحنا إحنا الستة، واشتركنا كأربعة… وقسمنا الفلوس علينا، ولا تقوليلي استثمار بقى ولا بتاع… إحنا عدّينا المرحلة دي من زمان.”

لم تتمالك نفسها فانطلقت ضحكتها صافية، تملأ الطابق الصامت دفئًا، فابتسم هو باتساع أكبر، وكأن نجاحه الحقيقي كان في إضحاكها رغم ألمها.

توقف أخيرًا أمام الباب، ومال نحوها قليلًا، خفّض صوته في همس حميم:

“يلا… افتحي الباب.”

مدّت يدها برفق، وضعت إصبعها على لوحة البصمة، فصدر الصوت المألوف لانفتاح الباب، دفعه موسى بكتفه قليلًا، ثم ولج بها إلى الداخل بخطوات حذرة، وكأنه يحمل شيئًا من زجاج يخشى أن ينكسر منه أقل اهتزاز.

اقترب من الأريكة، مال بجسده ليجلسها عليها بحرصٍ شديد، ثم جلس القرفصاء أمامها مباشرة، مد يده إلى حذائها لينزعه، لكنها أوقفت يده بسرعة وهي تقول بابتسامة خفيفة:

“لا… سيبه، أنا هخلعه بنفسي.”

ابتسم بخفوت، وأجابها وهو يعود لينزع الحذاء وكأنه يصر على أمر يعرف أنه لن يتنازل عنه:

“لا… أنا ها أعمله.”

وبحركة هادئة نزع الحذاء، ثم أعاد النظر إليها وهو يلتقط وسادة يضعها خلف ظهرها، وأخرى أسفل قدمها المصابة، لترتفع قليلًا وتجد راحتها

، ومن ثم ساعدها في نزع حجاب رأسها، وتحرير خصلاتها السوداء.

وأخيراً وقف بعدما تأكد من أن كل شيء في مكانه، وقال بنبرة تحمل أمرًا وحنانًا في آن واحد:

“يلا… ارتاحي هنا شوية، لحد ما أروح أجهز الحمّام ليكِ، وبعدها تنامي شوية… ولما تصحي أكون عملت لك حاجة تاكليها.”

استدار ليغادر، لكنه شعر بيدها تمسكه من معصمه، التفت سريعًا، ليرى عينيها تتعلقان به وكأنهما تمسكانه قبل يدها، وسمع صوتها يهمس باسمه:

“موسى…”

ارتسمت على وجهه ملامح تساؤل هادئة، فتابعت هي، بعينين تقولان أكثر مما تعبّر عنه الكلمات:

“أنا… كويسة والله.”

حدّق فيها لثوانٍ، كأنما يحاول أن يتأكّد بعينيه قبل قلبه، ثم نطق بصوت مبحوح، مشبع بارتجاف المشاعر:

“صح… كويسة، أنتِ كويسة.”

ولم يُمهله الحنين ولا الخوف الذي كان يعتصر صدره منذ ذلك الإتصال أن يقول أكثر… إذ كانت هي من جذبته نحوها، لتطويه داخل أحضانها بقوةٍ دافئة، كأنها تريد أن تحميه من قلقه الذي تملّك منه منذ سمع بالخبر.

كانت كفّها تنساب برفق فوق شعره، بحركة متكرّرة تحمل أكثر مما تحتمله الكلمات من طمأنينة، فيما همست في أذنه بصوت يختلط فيه الحب بالعهد:

“أنا بحبك أوي يا موسى.”

ابتسم موسى بخفوت، ابتسامة من يعرف أن قلبه وجد ملاذه، وأغمض عينيه وهو ما زال بين ذراعيها، كأنه يختزن تلك اللحظة في ذاكرته إلى الأبد.

شدّ على حضنها أكثر، ثم بصوت مبحوح دافئ، خرجت كلماته صادقة كقسم:

“وأنتِ… وأنتِ حياتي كلها يا فيروز… ماقدرش أتخيل حياتي من غيرك.”

ارتسمت على شفتيها ابتسامة شجن، تلك التي تحمل في عمقها امتنانًا وسعادة وحباً لا يوصف، فيما ابتعد هو قليلًا عنها، لا ليبتعد حقًا، بل فقط ليراها كاملة أمامه… كأن عينيه تطمئن قلبه قبل أن يطمئن لسانه.

رفع يده، وإبهامه يمر برفق على خدها، وكأنه يختبر دفء بشرتها، يتأكد أنها ليست حلمًا أو وهمًا، ثم همس بابتسامة امتنان غارقة في الحب:

“ربنا يخليكِ ليا… ومايحرمنيش منك أبدًا.”

لم تجد في الردود سوى الصمت المليء بكل ما لا تستطيع الكلمات حمله، صمت يتكلم بعينيها ويُترجم في قلبه… قبل أن تعود وتغرقه في عناق جديد، أعمق وأدفأ، عناق تحتضنه فيه بقلبها قبل ذراعيها.

كانت اللحظة أشبه ببالونٍ ملوّن طفا في الهواء… ثم جاء الجرس كإبرة صغيرة فجّرته بلا رحمة.

تجمّد موسى في مكانه، والدفء الذي كان بينهما تسرّب فجأة من الغرفة، لتبقى بقاياه عالقة في عينيه المليئتين بالضيق والدهشة.

ابتعدت فيروز عنه ببطء، وعيناها تتابع انكماش ملامحه قبل أن يطلق، بنبرة تحمل مزيجًا من الحنق والسخرية:

“إيه الفصالان ده… يا أخي تبًّا لك يا اللي على الباب.”

قهقهت فيروز على كلماته، كمن تحاول أن تنقذ الجو من جديّته المفاجئة، لكنه زم شفتيه بخفة وهو يلوّح لها بيده:

“هروح أشوف مين أستاذ فصالان ده وأرجعلك.”

أومأت وهي ما تزال تبتسم، تتابع خطواته التي اتسمت بالثبات، لكنها كانت تحمل في عمقها لهجة الرجل الذي يخشى أن يكون القادم تعكيرًا إضافيًا لهذا اليوم.

مد يده إلى مقبض الباب، فتحه، لكن لم يمهله أحد فرصة الاستعداد أو حتى رؤية من بالخارج… إذ كان الداخلون قد خطوا أولى خطواتهم إلى بيته.

وهناك، وقف لبرهة، يرمش ببطء وكأنه يستوعب المشهد أمامه… لم يكن زائرًا واحدًا كما توقّع، بل كانا اثنين.

امرأتان مألوفتان، حضورهما لا يحتاج إلى تعريف…

والدته،

ووالدتها.

هؤلاء اللتان تقدمتا نحوها بخطى مرتبكة، تتناوب نظراتهما بين وجهها وقدَمها، والخوف بادٍ على ملامحهما بوضوح.

جلست نادية على طرف الأريكة، ومدّت يدها نحوها بحنان وهي تقول بصوت يفيض قلقًا:

“يا حبيبتي يا بنتي… إيه اللي حصل؟”

أما عبير، فلم تكن أقل منها في الاضطراب؛ فاقتربت أكثر، ومدّت يدها تمسح على وجنتها برفق الأم الحانية، وهي تهمس بنبرة مرتعشة:

“إيه اللي حصل يا ضنايا؟ رجلك مالها؟”

وهنا، وصلهم صوت موسى من خلفهم، يحمل مزيجًا واضحًا بين الحنق والسخرية الخفيفة:

“لقيت نفسها بتشتغل كتير، قالت ما أخدلي إجازة…”

التفتت نادية وعبير نحوه في وقت واحد، وفي عيونهما نظرة مختلطة بين الحنق والتجاهل، قبل أن تعودا بتركيزهما إلى فيروز.

مالت عبير قليلًا نحوها وقالت بنبرة دافئة:

“سيبك منه… وقولي لنا حصل كده إزاي.”

وبينما أخذت فيروز نفسًا تستعد لبدء رواية ما جرى، كان موسى يدير جسده نحو الباب، يمسك بالمقبض ويشرع في إغلاقه…. لكن فجأة، ارتطم الباب بشيء من الخارج بقوة، ارتجاجة جعلته يتراجع خطوة إلى الوراء غريزيًا، وعيناه تتسعان بدهشة.

لم تكد الصدمة تنقضي حتى ظهر السبب؛ إذا دخل على الفور زوجات عميه، أحمد ومحمود، تتبعهما بخطوات سريعة عمته سهير، وملامح القلق ترتسم واضحة على وجوههنّ.

تجمّدت فيروز في مكانها، عيناها تتسعان باندهاش وهي تتابعهنّ وهنّ يتقدّمن نحوها بخطوات مسرعة… امتدّت أيادٍ كثيرة نحوها، إحداهن تمسك بيدها، والأخرى تضع كفّها على كتفها، بينما سهير ألقت نظرة على قدمها المصابة

، وهي تضع يدها على صدرها بحركة شعبية.

أما موسى، ذلك المسكين، فقد ظل واقفًا عند الباب، يتابع المشهد بصمت، ونظرة غامضة تجمع بين الامتنان لاهتمام العائلة… والانزعاج من أن البيت في لحظة واحدة تحوّل إلى ملتقى للزوار غير المتوقعين.

لكن فجأة، وكأنه تلقّى وخزة وعي متأخرة، اعتدل في وقفته وهتف مستفسرًا، بنبرة تحمل مزيجًا من الدهشة والريبة:

“لمؤاخذة… هو أنتو عرفتوا إزاي؟؟”

التفتت والدته نحوه، وكأن السؤال بديهي لا يحتاج لإجابة، وقالت بنبرة هادئة:

“خالتك أم مالك…”

لم يدعها تكمل، إذ رفع يده مقاطعًا على الفور، وكأنه قطع الخيط قبل أن يكتمل:

“بس بس بس… فهمت خلاص، بسم الله ما شاء الله حارة بتنقل الأخبار أسرع من الصوت.”

لكن تعليقاته اللاذعة لم تلقَ أي صدى في آذان الحاضرات، فكل العيون كانت مشدودة نحو فيروز، تلك “المصابة” التي تحولت في لحظات إلى مركز اهتمام نسائي كامل، تحاصرها الأسئلة من كل اتجاه.

أما موسى، فقرر أن ينسحب من هذا المشهد ويغلق الباب، لكن قبل أن يفعل ذلك، كان الباب يندفع من الخارج بقوة كادت أن ترتطم بوجهه، ولحسن حظه أنه تراجع في اللحظة الأخيرة، لكن المفاجأة كانت أكبر حين رفع رأسه ليرى الضيفتين الجديدتين: لينا وتينا، ابنتا عمته سهير، وهما تندفعان كالسهم نحو فيروز، تحتضنانها بحرارة وكأنها عادت للتو من سفر طويل أو ماشابه.

توقف موسى مشدوهًا، يراقب المشهد وكأن بيته تحوّل إلى قاعة استقبال عامة، زفر بقوة محاولًا كبح غضبه، ورفع يده مجددًا ليغلق الباب، لكن يبدو أن الباب قد عقد اتفاقًا سريًا مع زواره… إذ اندفع هذه المرة بعنف أكبر، ودون سابق إنذار، ليظهر سامي واقفًا على العتبة، يتقدمه قلق واضح في ملامحه، وخلفه ليلى ويزيد.

تفرقت النساء فورًا لتفسح المجال لسامي، الذي تقدم بخطوات سريعة حتى جلس أمام شقيقته، محيطًا وجهها بكفيه كما لو كان يتأكد أنها ما زالت بخير:

“اللي حصل يا حبيبتي؟ رجلك حصلها كده إزاي؟ مفيش حاجة خطيرة، صح؟”

ابتسمت فيروز برفق، واضعة يدها فوق يديه لتهدئته:

“ماتقلقش، مجرد كدمة… وكلها كام وأمشي عليها زي الأول.”

التقطت ليلى طرف الحديث، وعيناها تحملان القلق ذاته:

“يعني مفيش حاجة خطيرة؟”

هزّت فيروز رأسها مطمئنة:

“لا، مفيش… حتى اسألوا موسى.”

وفي لحظة، تحولت جميع الأنظار إليه في آن واحد… للحظة بدت الصدمة على وجهه، فتراجع خطوة للوراء وكأنه وُضع فجأة تحت الأضواء في محكمة علنية.

رفع يديه نافيًا بسرعة، وصوته يخرج مرتبكًا:

“م… مفيش، الدكتورة طمنتني وقالت إن مفيش حاجة خطيرة.”

ساد الصمت لحظة، تبعها تنفس جماعي من الارتياح، وبعض الهمسات بالشكر لله، أما موسى، فزفر طويلًا، وكأن حملًا ثقيلًا انزاح عن صدره.

وبكل ما تبقى لديه من عزيمة، مد يده مرة أخرى نحو الباب، مصممًا على إغلاقه هذه المرة… لكن القدر لم يكن لطيفًا معه، فجأة… دفع الباب بعنف شديد، وهذه المرة لم يسعفه الحظ ولا رد الفعل السريع، فاصطدم مباشرة برأسه، ليطلق صرخة مدوية هزّت أركان المكان:

“ياااا… ليه؟!”

اتجهت كل الأنظار نحوه دفعة واحدة، وكأن اللحظة توقفت على مشهده…

كان هو واقفًا هناك، يده تضغط أعلى جبهته حيث وقعت الضربة، عينيه نصف مغمضتين من الألم، وأنفاسه تتلاحق بغضب مكتوم.

رفع رأسه ببطء، وكأنه يستجمع قواه ليواجه الجاني، فإذا بالزائرة التي سببت الحادث لا تكون سوى…

دلال

.

شهقت دلال بقوة ما إن وقعت عيناها عليه، لكن شهقتها لم تكن مصحوبة بخوف أو اعتذار فقط، بل بحنق أيضاً، بات واضحاً وهي ترفع حاجبيها وتقول بحدة:

“أنتَ إيه اللي موقفك ورا الباب؟!”

أجابها موسى بصوت منخفض، لكنه يقطر سخرية:

“كنت… بسنده.”

انتشرت الضحكات الخافتة بين الحضور كشرارة صغيرة امتدّت في الجو، منهم من أخفاها بين شفتيه، ومنهم من أطلقها على مضض، بينما اكتفت فيروز بنصف ابتسامة كأنها تواسيه.

أما دلال، فقد رسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة، ثم تقدمت نحوه بخطوات محسوبة، ووقفت أمامه مباشرة، ترفع يدها لتزيح يده عن جبهته، وهي تقول بلهجة آمرة أقرب إلى المزاح:

“شيل إيدك كده.”

أطاعها بلا جدال، وكشف لها عن موضع الضربة، عاينت الكدمة بعين خبيرة وكأنها تصدر حكمًا طبيًا، ثم قالت ببرود ممزوج بسخرية:

“ماتخفش… مادام دماغك ما اتفتحتش، شوية تلج وهتبقى زي الفل، استنى أطمن على البت وأرجعلك.”

“لا… ماترجعيش، ألف شكر.”

رمقته بنظرة حانقة تحمل في طياتها ردودًا كثيرة لم تقلها، ثم التفتت مبتعدة عنه، متجهة نحو فيروز لتطمئن عليها، وكأنها تلقي خلفها ظله وكلماته دون اكتراث، تاركة إياه واقفًا عند الباب يتساءل بينه وبين نفسه كيف تحوّل من صاحب البيت… إلى ضيف ثقيل الظل على بابه.

.

.

.

.

دخل إلى المطبخ بخطوات سريعة، مبتعد عن الضوضاء التي خلفهط فتح باب الثلاجة، فأخرج كيسًا من الخضروات المجمّدة، ثم أغلق الباب بإهمال، ووضع الكيس على موضع الكدمة أعلى جبهته، مطلقًا زفرة قصيرة من الألم والراحة في آن واحد.

لكن، ما إن استدار ليغادر، حتى اتسعت عيناه بدهشة، وتراجع خطوة إلى الوراء غريزيًا، إذ وجد أمامه مباشرة دلال، واقفة وكأنها كانت تراقبه بصمت منذ لحظة دخوله.

لم تمنحه حتى فرصة للسؤال أو التعليق، بل مدت يدها بخفة، لتجذب الكيس من بين يديه وهي تقول بلهجة آمرة مقتضبة:

“جيب.”

تناولت دلال الكيس من يده برفق، ثم وضعته على موضع الكدمة بحذر مدروس، ظل هو يرمش للحظات، مدهوشًا من ظهورها المفاجئ، قبل أن يستسلم ويترك رأسه بين يديها، ساكنًا كما لو كان في أمان مألوف.

رفعت نظرها إليه، وعيناها تحملان مزيجًا من الفضول والقلق، ثم سألت بصوت هادئ لكنه نافذ:

“أنتَ كويس؟”

أجاب سريعًا، محاولًا التخفيف من حدة السؤال:

“آه… ما أنتِ لسه قايلة إنها كدمة خفيفة.”

هزّت رأسها نفيًا، وهي لا ترفع الكيس عن رأسه:

“مش قصدي على الخبطة… قصدي على اللي حصل لفيروز.”

ارتخت ملامحه، وشرد بضع ثوانٍ، يعود بذاكرته إلى تلك المكالمة، وإلى اللحظة التي شعر فيها بأن قلبه سقط من مكانه، ثم قال بنبرة أعمق، كأنها خرجت من أعماق خوفه:

“كويس… على الأقل لما اتأكدت إنها بخير… بقيت كويس.”

أمالت رأسها قليلًا، وكأنها تريد سماع ما لم يقله بعد، ثم سألت بصوت رقيق:

“أكيد خفت عليها، صح؟”

تنفس بعمق، وكأن الإجابة وحدها تكفي لتعيده إلى لحظة الرعب، ثم قال بصراحة لم يحاول إخفاءها:

“اترعبت والله يا دلال… لما البنت قالت لي إنها وقعت من على السلم، ما حسّيتش بنفسي غير وأنا طالع من الشركة أجري… قلبي كان هيقف من الخوف.”

ابتسمت ابتسامة صغيرة، تخفف وقع اعترافه، ثم قالت بهدوء:

“الحمد لله إنها جات على قد كده… احمد ربنا.”

أغمض عينيه لحظة، وتنهد بثقل، قبل أن يتمتم بإيمان خالص:

“الحمد لله.”

ابتسمت له دلال بحنو، وهي تواصل وضع الكيس برفق على موضع الكدمة، أما هو، فظل يراقب ملامحها للحظات، ثم سأَل بصوت هادئ، ينطوي على اهتمام صادق:

“وأنتِ… كويسة؟”

رفعت عينيها نحوه بابتسامة مطمئنة:

“آه، كويسة… ليه؟ في حاجة؟”

أطرق بنظره قليلًا، وكأن شيئًا ما يلحّ عليه، ثم انزلقت عيناه نحو بطنها بلا وعي، التقطت هي تلك النظرة على الفور، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة قبل أن تقول بلهجة دافئة:

“ماتقلقش… أنا وأخوك كويسين.”

لكن كلماتها الأخيرة كانت كفيلة بأن تجمد ملامحه في لحظة، فارتفع حاجباه بامتعاض واضح، وتراجع خطوة إلى الوراء وهو يرد بنبرة تجمع بين الجدية والرفض:

“لا… بلاش حكاية أخوك دي، أنا لحد دلوقتي مش مستوعب أصلًا… وحاسس إن فيه حاجة غلط في الموضوع، بس… مش قادر أحددها.”

رمقته دلال بعينين يكسوهما الحنق، قبل أن تضع كيس الخضروات المجمدة على المنضدة القريبة منها بقوة مقصودة، ثم استدارت نحوه وهي تقول بنبرة مشحونة بالغضب:

“في حاجة غلط؟؟ الغلط الوحيد هنا… هو أنت.”

ارتفع حاجباه بدهشة متصنعة، وردّ مستنكرًا:

“أنا؟؟”

أومأت بحدة، وأجابت بلا تردد:

“آه… علاقتي أنا وطارق عادية جدًا، لكن وجودك أنت فيها هو الغلط.”

ضحك بسخرية قصيرة، ثم أشار إليها بإصبعه وكأنه يكشف الحقيقة:

“يعني أنا بقيت الغلط… واللي عادي بالنسبة لك إنك تبقي عمّتي واتولدتِ معايا في نفس اليوم! هو ده الطبيعي فين بقى؟… أنتِ اللي غلطة يا دلال، الحقيقة إنك إنتِ وطارق جايين غلطة من الأساس.”

شهقت دلال بصدمة ممزوجة بالغضب، قبل أن تخطو نحوه بخطوات سريعة وتوجه له ضربة قوية على كتفه:

“إنتَ رخم!”

تراجع قليلًا وهو يرفع كتفه متألمًا على سبيل التمثيل، قبل أن يسألها بجدية مصطنعة:

“بتمدِّ إيدك عليّا ليه دلوقتي؟”

أجابته باقتضاب وهي تشير إليه بحدة:

“علشان تستاهل.”

“لا… علشان قلت الحقيقة، والحقيقة بتوجع.”

تبادلا نظرات مليئة بالتحدي، قبل أن تقول باستهزاء:

“بس يا غلطة.”

اقتربت منها حتى صار على بعد خطوة واحدة، ثم انحنى نحوها قليلاً، وردّ بنفس النبرة:

“أنتِ الغلطة.”

ولم يكن هذا نهاية الجدال، بل كان أشبه بشرارة أشعلت نارًا صغيرة راحت تتسع، حتى ارتفعت حدّة أصواتهما تدريجيًا، إلى أن بدأت نبراتهم تعلو أكثر فأكثر، حتى صار صوتهما مسموعًا بوضوح في الخارج.

وفي الصالة، تبادل الحاضرون نظرات متسائلة، حتى رفعت عبير حاجبيها وسألت بنبرة مزيج من الفضول والحذر:

“هما بيزعقوا… ولا بيهزروا؟”

أمالت سهير جسدها قليلًا نحو الباب، محاولةً أن ترى أو تلتقط أي كلمة واضحة من الداخل، ثم ردّت وهي تعقد حاجبيها:

“الله أعلم… بس واضح إن الموضوع سخن شوية.”

أما فيروز، التي كانت مستندة على الأريكة، فقد ساورها الفضول أكثر من الجميع، فاعتدلت قليلًا وقالت بنبرة آمرة رقيقة:

“حد يدخل يشوف بيحصل إيه جوه.”

تبادلت عبير وسهير نظرة سريعة، ثم تحركتا نحو الداخل بخطوات متحفزة، وما إن اختفتا خلف الباب حتى عمّت الصالة لحظات صمت ترقب، كانت العيون خلالها كلها تتجه نحو المدخل في انتظار عودتهما.

لم تمض سوى ثوانٍ حتى عادتا، لكن المشهد الذي ظهرتا به كان كفيلًا بإشعال فضول الجميع أكثر: عبير تمسك بذراع موسى وتجرّه للخارج جَرًّا، بينما سهير تمسك بدلال من الجهة الأخرى وتشدّها بعزم، وكأنهما تفصلان بين طفلين متشاجرين.

رفعت فيروز حاجبيها بدهشة وسألت فورًا:

“إيه اللي حصل؟”

وفي نفس اللحظة، وبرد فعل متطابق، أشار كل من موسى ودلال بإصبعه نحو الآخر وهتف:

“هي السبب!”

“هو السبب!”

_________________

مع

مرور الوقت

.

كان يقف إلى جوارها في المطبخ، يشاركها في إعداد بعض الطعام لفيروز، التي تستريح في الخارج، بعد أن غادر الجميع وبقيَّ فقط كل من عبير ونادية.

كان الجو مزيجًا من عبق البهارات ورائحة الخضروات الطازجة، وصوت تقطيع السكين وهو يرتطم بلوح التقطيع في إيقاع هادئ.

أنهى موسى تقطيع ما تبقى من الخضروات، فوضع السكين جانبًا، ومسح يديه في المئزر، ثم أدار رأسه نحو دلال وسألها بصوت منخفض وكأنه ينتظر تقييمًا جادًا:

“حلو كده يا دلال؟”

رفعت دلال نظرها نحوه للحظة وهي تقلب ما بين يديها في القدر أمامها، ثم أومأت برضا وقالت بابتسامة خفيفة:

“آه… كويس، يلا روح هات الصينية عشان نحط الأطباق عليها، أنا قربت أخلص أنا كمان.”

ابتسم موسى وهو يرد بهدوء:

“ماشي.”

ثم استدار موسى بخطوات هادئة نحو الخزانة يبحث عن الصينية، يفتح بابًا ويغلق آخر، وكأن صوتهما قبل قليل لم يكن يعلو في المطبخ ذاته.

خلفه، كانت دلال منهمكة في عملها، يديها تتحركان بخفة بين الأطباق والملاعق، ووجهها مطمئن كأن شيئًا لم يكن.

لم يعد الجو بينهما مشحونًا كما قبل، بل خيّم عليه صمت قصير ثقيل، صمت يشبه لحظة استراحة بعد معركة صغيرة، وكأنهما ليسا نفس الشخصين اللذين كانا قبل دقائق يتجادلان وكأن نهاية العالم على المحك.

خرجت دلال من المطبخ، وخلفها موسى يحمل صينية الطعام بخطوات متأنية حتى لا تهتز.

تقدّم بها نحو الصالة، حيث كانت الأعين تترقب، فأخذتها منه عبير بابتسامة هادئة، ثم وضعتها أمام نادية التي بدأت على الفور في إطعام فيروز برفق.

ألقت عبير نظرة مازحة بين موسى ودلال، وقالت بلهجة تجمع بين المزاح والرضا:

“شوفوا بقيتوا عسلات ازاي؟!… يلا يا موسى، روح وصّل دلال وارجع.”

لكن دلال سارعت بالاعتراض، وكأن الفكرة لم تعجبها من الأساس:

“لا، أنا هبات مع فيروز الليلة دي.”

لم تمهلها عبير فرصة لإكمال اعتراضها، وردت بنبرة حاسمة تخفي وراءها حرصًا صادقًا:

“لا يا حبيبتي، أنا وخالتك نادية اللي هنبات… وبعدين إنتِ ناسية إنك حامل وعاوزة الراحة زيك زيها؟ يلا روحي، لو مش علشان الحمل، علشان طارق… هتسيبيه ينام لوحده في البيت؟”

توقفت دلال لوهلة، وتسلّل إلى ملامحها مزيج غريب من التردّد والاقتناع، فيما ظل موسى يراقب المشهد بصمت، وكأنّه يوزن الكلمات في رأسه… ثم فجأة، ارتسمت على وجهه ابتسامة تحمل شيئًا من السذاجة والبراءة، قبل أن يقطع الصمت قائلًا بنبرة جادة على غير المتوقّع:

“معلش علشان أقطع الحوار ده… هو أنتم أصلًا هتباتوا ليه من الأساس؟”

رفعت نادية نظرها إليه وهي تتابع إطعام ابنتها، وأجابته ببساطة:

“علشان ناخد بالنا من فيروز.”

مال موسى قليلًا للأمام، مشيرًا إلى نفسه بإيماءة سريعة:

“وأنا… مش هعرف آخد بالي منها مثلًا؟ يعني أمشي؟”

تدخّلت عبير موضحة بنبرة تجمع بين الحرص والتلطيف:

“مش القصد، بس إحنا ستات زي بعض… وهنعرف نساعدها أحسن منك.”

اعتدل في وقفته وهو يرد بثقة واضحة:

“لا، أنا هعرف أساعد مراتي كويس… وبعدين مش عايزين نتعبكم معانا.”

التفت إلى فيروز، وكأنه يبحث عن تأييدها، وهو يضيف:

“صح يا فيروز؟”

مرّرت فيروز نظراتها بين الوجوه المحيطة بها، متأمّلة كلّ هذا الجدل، قبل أن تتنفس بعمق وتقول بنبرة هادئة لكنها تحمل شيئًا من الحزم:

“حاسّة إنكم مبالغين شوية.”

ساد لحظة صمت قصيرة، تبادل فيها الحاضرون النظرات، وكأنّ كلماتها أوقفت سجالًا كان على وشك أن يمتدّ أكثر.

حينها، حرّك موسى رأسه بخفّة، ثم وجّه نظره مباشرة نحو والدته وخالته نادية، وعينيه تلمعان بجدّية واضحة لا تخلو من التحدّيط رفع يده قليلًا مشيرًا إلى نفسه، وقال بصوت ثابت حاسم، لا يقبل النقاش:

“أنا… اللي هاخد بالي من مراتي.”

.

.

.

.

ومع مرور الوقت…

كان يقف بجوار الأريكة، يمسك الوسادة بين يديه وينفضها برفق، وكأنه يفرغ فيها شيئًا من أفكاره المبعثرة.

وضعها أخيرًا على الأريكة، ثم جلس وأسند ظهره إليها، تاركًا رأسه يستقر للخلف حتى صار يحدّق في السقف بعينين شاردتين.

ظل صامتًا للحظات، يتأمل الفراغ وكأنه يحاور نفسه في داخله، ثم زفر ببطء وقال بنبرة تحمل مزيجًا من الإقرار والاستسلام:

“معاه حق… اللي قال محدش يقدر على الأمهات.”

_________________

في صباح اليوم التالي…

تسللت خيوط الشمس الأولى عبر الستائر، لتلامس أرضية الغرفة وتبعثر الضوء على أطراف الأثاث… كان البيت هادئًا كعادته في الصبح، لا يُسمع فيه سوى صوت خافت لحركة بسيطة من المطبخ، وعبير الرائحة الشهية لشيء يُحضَّر هناك.

فتحت فيروز عينيها ببطء، تتلمس بعينيها ملامح الغرفة المغمورة بضوء الصباح الهادئ، ثم اعتدلت جالسة بحذر فوق الفراش، تمسح بنظراتها المكان بحثًا عن والدتها وعبير اللتين باتتا معها الليلة الماضية، لكن الغرفة بدت فارغة على نحو يثير الاستغراب.

مدّت يدها لتزيح الغطاء الخفيف عن جسدها، وهمّت أن تنهض، غير أن صوته الدافئ، الحازم في آن واحد، قطع حركتها فجأة:

“خليكِ مكانك.”

رفعت رأسها نحو الباب، فإذا به يقف هناك، يقترب بخطوات ثابتة تحمل معها دفئه وحضوره، وفي يده صينية صغيرة تزينها أصناف من الطعام المُرتَّب بعناية.

عقدت حاجبيها وهي تتابع كيف وضع الصينية على المنضدة القريبة، قبل أن ينحني قليلًا ليساعدها على تعديل جلستها لتكون أكثر راحة.

سألته بدهشة لم تخفَ في نبرتها:

“هو أنت ماروحتش الشغل؟؟”

أجابها بابتسامة مطمئنة، وصوتٍ عميق لا يقبل المساومة:

“هاروح الشغل وأسيبك كده؟؟ مستحيل… مش رايح لمكان غير لما تبقي كويسة.”

فتحت فمها في محاولة للاعتراض، لكنّه أوقفها بإيماءة حاسمة قبل أن يقول:

“ومتحاوليش تجادليني، لا أنا ولا أنتِ هنروح الشغل غير لما تبقى كويسة… أنا هشتغل من البيت زي ماكنت بعمل زمان، وهتابع كل حاجة مع الشباب… وبالنسبة لشغلك، كلمت فدوى وطلبت منها تعتذر من المرضى اللي كان ليهم حجوزات.”

طالعته لثوانٍ، تحدّق في ملامحه التي اختلط فيها القلق بالحنان، قبل أن تنطق بنبرةٍ أقرب إلى العتاب الرقيق:

“مش حاسس إنك بتبالغ شوية؟؟”

ابتسم ابتسامة هادئة وهو يجلس أمامها، يسحب الصينية من على المنضدة ويضعها على قدميه، ثم رفع نظره إليها وقال بصوتٍ منخفض يحمل يقينًا لا جدال فيه:

“لا… مش ببالغ، بس في أي حاجة تخصك، ماينفعش أتساهل، يعني اللي بعمله ده، هو الطبيعي، واللي المفروض يتعمل.”

ظل يحدّق فيها للحظة، وكأن عينيه تحاولان أن تقول ما لم تفصح عنه كلماته؛ نظرة محمّلة بكل ما يعنيه وجودها بالنسبة له، وبكل ذاك الإصرار الخفي على أن يظل الحائط الذي تتكئ عليه مهما كان الجدار من حولها متينًا.

أما هي، فكانت تشعر بثقل اهتمامه يهبط عليها في صورة دفء، يلتفّ حول قلبها كغطاءٍ يحميه من أي بردٍ محتمل.

ابتسم بخفة، ثم مدّ يده نحو الخبز، التقط قطعة صغيرة، وغمسها في أحد الأصناف أمامه، قبل أن يرفعها برفق إلى فمها وهو يقول بصوت دافئ:

“يلا… علشان تاكلي وتاخدي الدوا.”

رفعت يدها قليلًا، كما لو كانت تطلب منه التمهل، ثم سألت:

“ثانية بس… فين ماما وخالتي عبير؟”

أنزل يده ببطء وهو يجيبها، والنبرة في صوته تحمل أثر معركة صغيرة خاضها صباحًا:

“مشيوا… ساعدوني في تجهيز الفطار، وبعد ما حاولوا يقنعوني إني أسيبهم يقعدوا عشان يهتموا بيكِي، قعدت أشرح وأعيد وأزيد إني موجود وهارعاكي بنفسي وهاطمنهم عليكِ، وبعد ما صوتي راح تقريبًا… أخيرًا اقتنعوا ومشيوا.”

أومأت بخفوت، وفي صوتها ما يشبه الخجل الممزوج بالامتنان وهي تهمس:

“كويس… ماكنتش عايزة حد يتعب معايا، ولا حتى أنت تتعب.”

ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، من تلك التي تحمل في طياتها يقينًا لا يحتاج إلى برهان، ثم مال قليلًا نحوها، وعينيه تلمعان بدفء حقيقي وهو يقول بصوت خفيض أقرب إلى الهمس، مصحوب بغمزة مشاكسة:

“تعبك راحة يا غالي.”

ابتسمت بخفة، بينما هو، مد يده إليها بقطعة الطعام، يقرّبها برفق من فمها، وهز يضيف بابتسامة صافية:

“يلا… بسم الله.”

مدّت فيروز يدها ببطء، لكنّه أصرّ أن يظل ممسكًا باللقمة حتى تتناولها منه، فابتسمت بخجل وفتحت فمها، لتأخذها في هدوء… لم يكن مجرد فطور، بل كانت دفئًا يذوب في صدرها، وكأن اهتمامه يتسلل عبر أبسط الأفعال ليغمرها طمأنينة.

جلس هو أمامها يتابعها بعينين لا تفارقها، ينتظر أن تبتلعها قبل أن يهيئ لها لقمة أخرى، وفي كل مرة كان يقرّب الطعام منها، كانت تلمح تلك النظرة التي لا تخطئها عين؛ نظرة رجل وجد سعادته في أن يراها بخير.

ابتسمت وهي تتناول اللقمة الثانية، وقالت بنبرة خافتة يكسوها الحياء:

“حسّاك بتعاملني زي طفلة.”

تسلّلت الضحكة من بين شفتيه دافئة، وهو يضع قطعة جديدة من الخبز أمامها، وعيناه تحيطانها بمزيج من الحنان والفخر:

“ولو… أنتِ مراتي، وصاحبتي، وحبيبتي، وبنتي… أغلى حاجة عندي في الدنيا.”

ارتسم الخجل على ملامحها فورًا، وابتسمت في صمتٍ يفضح سعادتها، فيما ظل هو يتأملها وكأنه يحفظ ملامح اللحظة في ذاكرته.

تابع إطعامها برفق، حتى التقطت هي قطعة خبز، وقدّمتها نحوه بابتسامة صغيرة:

“خليني أنا كمان أكلك.”

تناول منها اللقمة، لكنه لم يبتلعها سريعًا، بل مضغها ببطء وكأنه يتذوق أكثر من طعم الخبز… يتذوق أثر يديها ودفء قربها، وحين ابتلعها، رفع حاجبيه بدهشة طفيفة وقال بصوت خافت محمّل بالمودة، إذا لم يخلو من المراوغة أيضاً:

“هي طعمها أحلى كده ليه؟… أكيد إديتيها من حلاوتك.”

ضحكت هي بخجل أعمق، وامتدّت ضحكته هو بدفء أكبر، حتى بدت اللحظة وكأنها وجبة من الحب قبل أن تكون أي شيء آخر.

_________________

مع

مرور الوقت…

خرج من مكتبه بخطوات محسوبة، كأنه يعرف تمامًا أين ستهبط عيناه قبل أن يرفع رأسه، وهناك… على بعد أمتار، كانت هي غارقة في عالمها الخاص؛ وجنتها مسنودة على كف يدها، والقلم يلفّ بين أصابع يدها الأخرى عبثًا فوق ورقة بيضاء، بينما نظرتها معلّقة في نقطة بعيدة لا أحد يراها سواها.

تو

قف للحظة، يراقب انعكاس شرودها، وكأنه يقرأ في ملامحها ما يدور في رأسها، شبه واثق أن أفكارها تتقاطع مع اسمه، وأن شيئًا من الانزعاج يطلّ من خلف ذلك الشرود.

زفر ببطء، ثم تقدّم حتى أصبح أمام مكتبها، طرق عليه بخفة، يوقظها من غيابها:

“خلصتِ؟”

رفعت عينيها نحوه، ابتسامة دافئة كسرت حاجز شرودها، قبل أن تقول بصوتها الرقيق:

“لا، لسه… فاضلي حاجات بسيطة.”

ابتسم بدوره، متكئًا بجسده قليلًا على زواية المكتب:

“طب كويس… إيه رأيك نروح نتغدّى سوا بعد ما نخلص شغل؟”

أجابته ببساطة هادئة:

“معنديش مانع.”

“طب تحبّي تاكلي إيه؟”

صمتت لحظة قصيرة، كأنها تبحث بين ذاكرتها، ثم قالت بابتسامة خفيفة، تحمل شيئًا من الحنين:

“أول حاجة عزمتني عليها على الكورنيش.”

تلألأت ملامحه بابتسامة واسعة حين نطق:

“كشري؟”

أومأت برفق، وصوتها يخرج ناعمًا، كأنه ينساب مع دفء اللحظة:

“آه… وناكله على الكورنيش تاني، ونشرب قصب بعديه.”

ضحك بخفة، وفي صوته حنان يتسلّل بلا استئذان:

“تحت أمرك… عيني ليكِ يا بسكوته.”

ارتسم الخجل على محياها، فأطرق برأسه قليلًا ثم أضاف بنبرة أهدأ:

“أسيبك تخلصي شغلك بقا… سلام مؤقت.”

اختتم كلماته بغمزة مشاكسة، تحمل في طياتها أكثر مما تُظهر، ثم استدار مبتعدًا بخطوات واثقة، تاركًا خلفه أثرًا من الحضور يظلّل المكان، أما هي فرافقته بنظراتها عينه حتى غاب عن مجال بصرها، ثم عادت إلى أوراقها، وفي قلبها موعدٌ صغير يترقب.

هو، من على بُعد، كان يراقب تلك الابتسامة التي نجح للتو في سرقتها من يومها المزدحم، ابتسامة هادئة لكنها كفيلة بإشعال روحه، فأدرك أن رؤية ابتسامتها تلك صار أجمل ما في حياته.

_________________

خطت إلى داخل المنزل بخطوات هادئة، تحمل بين ثناياها دفء لحظات ما زالت عالقة في روحها، كانت الابتسامة الصغيرة التي رافقتها منذ لقائها به تزين ملامحها، لكنّها ما لبثت أن تراجعت، وكأن نسمة باردة أطفأت دفئها، حين اخترق سكون المنزل صوت مألوف يناديها:

“ميرنا.”

التفتت برأسها نحو مصدر الصوت، لتجد والدها جالسًا في البهو بكل وقاره المعتاد، ملامحه ثابتة لكن عينيه تتابعانها بتركيز.

أشار لها بيده، وبنبرة هادئة تحمل في طياتها شيئًا من الجدية قال:

“تعالي شوية.”

توقفت لبرهة وهي تتأمله، ثم خطت نحوه بخطى بطيئة حتى وقفت أمامه؛ فأشار مرة أخرى إلى المقعد بجانبه، فجلست، متجنبة النظر المباشر إلى عينيه.

وهو… بدا وكأنه يقرأ في ملامحها ما لا تستطيع البوح به، فأنزل نظارات القراءة من على أنفه ووضعها جانبًا، ثم سألها بصوت منخفض لكنه نافذ:

“كنتِ خارجة معاه… صح؟”

لم تحاول المراوغة، فقط أومأت إيجابًا، فيما بقيت عيناها مسمرتين نحو الأرض، كأنها تخشى أن يقرأ منهما أكثر مما تريد البوح به.

ضم هو شفتيه لحظة قصيرة، ثم تابع بنبرة حملت مزيجًا من الاستفهام والتحذير الأبوي:

“بتحبيه أو كده؟؟”

رفعت رأسها أخيرًا، والتقت عيناه بثباتٍ فيه شيء من الاعتراف، وأومأت برأسها مرة أخرى؛ فلم يترك لها مجالًا للسكوت، بل أردف مباشرة:

“ومتأكدة إنه بيحبك بجد؟؟”

عادت تهز رأسها بالإيجاب، لكن هذه المرة كان في عينيها يقين عميق، ونبرة صوتها حين تكلمت جاءت مفعمة بإيمانٍ لا يتزعزع:

“آه… ومتاكدة إنه محدش حبني ولا هيحبني قده، كارم… من أول ما دخل حياتي، ما حببنيش فيه بس… حببني كمان في حياتي، رجّع لها طعم وروح بعد ما كانت مافيهاش روح.”

كانت كلماتها تخرج وكأنها تحكي عن ملاذ آمن أكثر من كونها تحكي عن شخص، عن يد امتدت لتنتشلها من غيمٍ ثقيل، وتعيد لها ألوان الحياة التي ظنت أنها انطفأت.

أما هو، فظلّ صامتًا، يراقبها بعمق، كأنه يختبر صدق الشعور لا صدق العبارة فقط، ثم زفر توفيق زفرة طويلة، وكأنها تحمل ثقل مخاوفه وذكرياته القديمة، قبل أن يرفع عينيه إليها ويسأل بصوت يحمل رجفة الخوف الأبوي:

“يعني… متأكدة إنه مش زي…؟”

لكنها لم تدعه يكمل جملته، قطعت عليه الطريق سريعًا، وكأنها قرأت ما يدور في رأسه قبل أن ينطقه:

“مش زيه يا بابا… والله مش زيه، كارم بيحبني بجد.”

ساد صمت قصير بينهما، كان كافيًا ليلتقط هو فيه ذلك البريق المضيء في عينيها، ذلك اليقين الذي بدا أقوى من أي قسم يمكن أن تؤديه.

أطرق برأسه لحظة، غارقًا في تفكير متشابك، ثم ضم شفتيه ببطء، كمن اتخذ قرارًا حاسمًا…

رفع رأسه نحوها مجددًا، وفي عينيه خليط من الحذر والرضا، وقال بنبرة عميقة تحمل وقع القرار الكبير:

“إذا كان كده… كلميه، وقوليله بابا يتشرف إنك تيجي أنت وأهلك بكره، علشان نقرأ الفاتحة ونحدد ميعاد الخطوبة.”

كانت كلماته كنافذة انفتحت فجأة على فصل جديد كانت تحلم به طويلًا، حتى بدت غير قادرة على تصديق ما سمعته أذناها، فخرج صوتها مبحوحًا بالدهشة:

“بجد يا بابا؟”

أومأ بابتسامة هادئة، ونبرة ملؤها المودة:

“بجد… يا روح بابا.”

في تلك اللحظة، لمع بريق العَبَرات في عينيها، عَبَرات فرح لم تعرف مثله من قبل، قبل أن تندفع نحوه كطفلة طال غيابها عن حضن أبيها، لتعانقه بقوة، هامسة بصوت متقطع من الامتنان:

“بجد… شكرًا… شكرًا أوي.”

أما هو، فراح يربّت على ظهرها بكفيه برفق، كأنما يطمئن قلبها، ويخفف عن روحها ما عانته من قلق وانتظار، وابتسامة دافئة ترتسم على محيّاه.

ثم، وبينما كان يضمها، رفع نظره نحو أعلى الدرج، حيث وقفت زوجته تراقب المشهد بعينين تفيض فرحًا

واضح، وكأن قلبها هو الآخر قد نال نصيبه من الطمأنينة.

كانت ابتسامتها صغيرة، لكنها عميقة، تحمل امتنانًا له لأنه لم يكتفِ بالاستماع إلى كلماتها، بل منحها ثقته، وأحسن الظن باختيار ابنته هذه المرة.

في تلك اللحظة، تلاقت نظراتهما لثوانٍ، لم تحتج إلى أي كلمة، فقد كان بينهما اتفاق صامت؛ هو شكرٌ منه على بصيرتها، وهي امتنانٌ منه على أن قلبه اختار أن يمنح ابنته فرصة للحب الذي تستحقه.

_________________

في جهة أخرى…

كان يشق طريقه عبر الطريق على دراجته النارية، والهواء يصفع وجهه بخفة، بينما يمسك بهاتفه المحمول على وضع السماعة ويهتف بنبرة حانقة:

“بقولك داخل الشارع أهو يا حسين… مش هيبرد، الأكل مش هيبرد ماتقلقش، أنا لسه جايبه من خمس دقايق… حاضر يا حسين هستعجل… اقفل بقى، هعمل حادثة بسببك… يلا سلام.”

أنهى المكالمة أخيرًا، وكأنما تخلّص من حمل ثقيل، وأعاد الهاتف إلى جيب بنطاله بضيق، وهو يفكر في عناد توأمه الذي جعله يدفع مبلغًا ليس بالقليل، فقط من أجل أن يحضر له شطيرة من عرض محدود المدة، وكأن الأمر مهمة مصيرية.

زفر بعمق، ثم شبك يديه على المقود وأعاد تركيزه للطريق أمامه، وبينما العجلات تبتلع المسافة الأخيرة قبل وصوله للمنزل، وقعت عيناه _بعفوية أول الأمر _ على سيارة تتوقف عند بداية شارعهم.

لم يكن ليعيرها اهتمامًا لولا تلك الفتاة التي ترجلت منها بخفة، ولوّحت لراكبها بابتسامة هادئة وناعمة، وكأنها تودع صديقاً وليس سائقاً.

وفي اللحظة ذاتها، انعقد حاجباه؛ وجهها لم يكن غريبًا، بل مألوف حد الإرباك… وكيف لا يكون، وهي شقيقة أحد أصدقائه المقرّبين؟

#يتبع….

_________________

كتابة/أمل عبد الرحمن.

فصل خفيف أوى يعني، اعتبروه هدنة🙈

رأيكم؟؟

وتوقعاتكم؟؟

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق