رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الحادي والخمسون
الفصل الحادي والخمسون(ارتطامٌ عنيف)
مع خيوط الليل الأولى من مساء الجمعة، كانت الأجواء تحمل في طياتها شيئًا مختلفًا، وكأن الكون قرر أن يمنح هذا اليوم رونقًا خاصًا.
لم يكن مجرد يوم عادي… بل يوم خُصص ليشهد بداية فصل جديد في حياة قلبين جمعهما الحب، قلبه هو… صاحب اللسان اللاذع الذي طالما أخفى خلف حدته حنانًا دفينًا، وقلبها هي… الأرق والأطيب ممن مرّت على دربه، التي استطاعت أن تذيب جليده بكلمة وابتسامة.
أُقيمت الخطبة في بيتها، حيث فاحت رائحة البهجة في أركانه قبل أن تزينه الأيدي… كانت الزينة بسيطة، لكن فيها من الأناقة ما يجعلها تنطق بالدفء والذوق الرفيع… أضواء ناعمة تنساب على الجدران، وألوان متناسقة تهمس للعين بالسكينة، فيما انبعثت موسيقى هادئة من أحد الأركان، تبارك الجوّ دون أن تطغى عليه.
كان الحفل عائليًا كما اتُفق، دعوة اقتصرت على الأقارب والمقربين فقط، ما أضفى عليه دفئًا حميميًا بعيدًا عن الصخب، حضر والدها وزوجته وبعض من أقربائهم القلائل.
ومن جهة كارم، جاءت عائلته بكامل المحبة، حتى عمته وزوجها، ليضيفوا حضورًا يملؤه الفخر والرضا… ولم يتوقف الأمر عند العائلة فقط، بل حضر أصدقاؤه الخمسة المقربون، ترافقهم ابتساماتهم وضحكاتهم العفوية، وأفراد أسرهم الذين تقاسموا فرحة اليوم معه.
وبالطبع لم يكتمل المشهد إلا بحضور الوجوه النسائية المقرّبة من ميرنا في الآونة الأخيرة؛ فيروز وليلى ودلال التي أتت بمفردها نظراً لسفر طارق، وأخيراً… تينا ولينا وباقي الصديقات العزيزات، ومعهم ضحى بالطبع.
تلك التي ترجلت من على الدرج برفقة ميرنا، وإلى جوارهما يمنى، وكلتاهما تمسك بطرف من أطراف اللحظة، وتمنحها المزيد من البهاء.
حيث قضين الساعات السابقة_مع باقي الفتيات_ في غرفة ميرنا، حيث تعالت الضحكات وتداخلت الكلمات مع همسات القماش وهي تنسدل ويتحرك برفق، حتى غمرت الغرفة أجواء من الحبور والبهجة التي تسبق لحظة الظهور.
ساعدنها في آخر اللمسات، ثبتن الخصلات الناعمة من شعرها، رتّبن طيات فستانها، وأضفن رشة عطر أخيرة تحمل بصمة المساء.
ثم، حين اطمأنّ قلب ميرنا أن كل شيء على ما يرام، انسحبن من حولها واحدة تلو الأخرى، تاركات إياها تقف هناك، أعلى الدرج، وكأنها على عتبة عالم جديد، تنتظر خطوتها الأولى نحوه.
في الأسفل، كانت الأعين جميعها قد بدأت تتجه نحوها، تتحرك النظرات بين الانبهار والإعجاب والدهشة، لكن ثمة عينين كانتا أكثر من يقرأ ملامحها… عيناه هو.
وقف كارم هناك، أمام أسفل الدرج مباشرة، كأنه المحطة التي ستنتهي إليها خطواتها، أو ربما البداية التي ستنطلق منها.
لم يكتفِ بالمشاهدة في صمت، فملامحه كانت تتفتح بابتسامة واسعة، فيها من السحر بقدر ما فيها من الفخر، وعيناه لم تتحركا عنها للحظة.
وما كان لقلبه أن يكتفي بالنظر، ولا لدهشته أن تُخفى، فترك لصوته العنان، يهتف بجهورية واضحة حملت معها دفء المشاعر، وهو يبتسم ابتسامة من يعلن عن عروسه أمام العالم:
“ما هو لما القمر يطل… يغطي على الكل.”
كانت كلماته كفيلة بأن تزيد من بريق عينيها، وكأنها تلقت منه شهادة جمال لا يُرد عليها إلا بابتسامة صافية، تلك التي ارتسمت على وجهها في لحظة اختزلت فيها كل امتنانها وحبها له.
ترجلت بخطوات هادئة، تحمل في رقتها ما يشبه نسمة صيفية دافئة، يتهادى معها فستانها بلون السماء في نهار صافٍ بلا غيوم، ينسدل عليها فيزيدها بهاءً ورقة… وحين بلغت أمامه، مدّ يده إليها فتلقفتها بلطف، وما زالت الابتسامة تعانق شفتيه.
تقدم بها بخطوات واثقة نحو عائلتيهما، حيث علت وجوه الحاضرين ابتسامات المودة، وبدأت الأيدي تمتد بالمصافحة وتبادل التهاني، في لحظة غمرتها الدفء والفرح وكأنها إيذان ببداية حكاية جديدة تجمعهما.
وفي إحدى الزوايا، جلست هي على مقعد وثير بجانب دلال، بينما وقف هو إلى جوارها، متشبثًا بيدها التي لم يفلتها منذ أن وطأت قدماهما المكان، وكأنها صلته الوحيدة بالدفأ في هذا العالم.
كان يراقب سعادة صديقه بعينين يملؤهما الامتنان، إلى أن قطع شروده صوتها الخافت الممزوج بالضيق:
“ما كانوش يقدروا يأجلوا الخطوبة أسبوع كمان… لحد ما أقدر أقف على رجلي عادي، بدل ما أنا قاعدة كده، ومش عارفة أتحرك براحتي؟”
التفت موسى نحوها وابتسم، ثم مال بجذعه قليلًا ليقترب منها وهو يهمس بنبرة مرحة:
“قولي الحمد لله إني وافقت تخرجي من البيت وأنتِ كده أصلًا.”
رمقته فيروز بنظرة ضيق، وهي تشيح وجهها قليلًا وتقول:
“أنا محرجة أوي وأنا قاعدة كده.”
ابتسم لها بحنو وربت على يدها قائلًا:
“معلش… في الفرح إن شاء الله هتقدري تشاركيهم كل حاجة… يلا بقى، اضحكي شوية.”
أنهى جملته وهو يطبع قبلة حانية على يدها، قبلة حملت من الدفء ما جعل قلبها يلين، فما كان لها أن ترفض طلبه… ارتسمت على شفتيها ابتسامة خجولة، ضحكت معها ملامحها، فضحك قلبه قبل أن يضحك صوته، وكأن اللحظة وحدها كانت كافية لتمحو ثقل ما كان يزعجها قبل قليل.
وبجواره تمامًا كان يقف حسن، يتأمل فرحة صديقه هو الآخر بابتسامة هادئة تُزيّن ملامحه، كما لو كانت تنبع من قلبٍ راضٍ مطمئن، دون أن يلحظ _أو لعلّه كان يلحظ ويدّعي الجهل_ تلك العيون التي تشبه عيون الغزال، تراقبه بخجلٍ وارتباك، وكأنها تخشى أن يفضحها لمعان النظرة.
وبجوار حسن وقف سامي، حاملاً يزيد على ذراعه كما لو كان يحمل قلبه بين يديه، يشارك الجميع مراقبة كارم وفرحته الكبيرة.
ولم يلتقطه من هذه اللحظة إلا حركة ليلى وهي تتقدم لتقف بجوار والدته، فانسابت على شفتيه ابتسامة حين تلاقت عيناه بعينيها.
حتى خفض نظره نحو الصغير وهمس برقة دافئة:
“ابعت بوسة لماما يا يزيد.”
وببراءة طفل لا يعرف التردد، أرسل يزيد قبلة في الهواء، طارت بخفة نحو ليلى التي ضحكت بخجلٍ محب، وردّت بإرسال قبلة مماثلة نحوه.
اتسعت ابتسامة سامي وهو يطالع هذا التبادل الصغير المليء بالحب، ثم مال برأسه على وجنة يزيد وقبّلها بحنان قائلاً:
“بحبك.”
التفت الصغير إليه، واحتضن عنقه كما اعتاد، ثم لثم وجنته الصافية، وردد بصوته الطفولي المتهدّج بالدفء:
“وأنا بحبك… كمان.”
وبجوار سامي وقف محسن، محاولًا أن يترك قلبه يشارك صديقه فرحته كما يليق بهذه اللحظة، لكن عقله كان يعانده، يعيده رغماً عنه إلى ذلك اليوم… يوم أن لمحها تترجل من تلك السيارة، بخطوات واثقة تليق بها، وابتسامة هادئة نادراً ما تظهر على ملامحها.
والآن… ها هي أمامه، تقف بين الفتيات، يحيطها ضوء الحفل ونبض الموسيقى، لكن عينيه لا تلتقطان سوى ملامحها… وكأن كل ما حولها قد بهت في عينيه، ولم يبقَ سوى صورتها، ممتدة من ذكرى الأمس إلى لحظة الحاضر، تفرض وجودها على تفكيره بلا استئذان.
لكن شروده لم يطل، إذ بعثرته فجأة أصوات الزغاريد التي انطلقت مدوية من أفواه النساء، معلنة ذروة الفرح في القاعة.
التفت الجميع نحو مركز الحدث، حيث كان كارم يتقدم بخطوات واثقة، وإلى جانبه ميرنا التي ازدانت ملامحها بابتسامة خجولة، تنعكس في عينيها فرحة صافية.
توقّف الاثنان أمام الطاولة الصغيرة التي انتصبت عليها علبة مخملية، تتوسطها “الدبل” التي كانت تولت فاطمة أمرها.
مدّت يدها تقدم الخواتم إليهما وكأنها تسلّم كنزًا لا يقدَّر بثمن… مدّ كارم يده أولًا، وأخذ “الدبلة” المخصصة لها برفق، ثم أمسك بأناملها في لمسة دافئة تحمل كل ما عجز لسانه عن قوله، وألبسها إياها ببطء، وعيناه مشدودتان إلى عينيها لا تزيغان لحظة، بينما ابتسامته العذبة لم تغادر ثغره، تتخللها نظرات شغوفة أقسم قلبه معها أنه لم ولن يحب أحدًا مثلها أبدًا.
ثم التقطت هي “الدبلة” الخاصة به، يديها ترتجفان قليلًا من الخجل والفرح، ورفعت عينيها لتلتقي بعينيه العسليتين المليئتين بلمعان المشاكسة المحببة، فألبسته الخاتم وهي تبتسم، خليط من حياء طفولي وفرحة عميقة تسكن قلبها.
وما إن أبعد يده عن يدها حتى انفجر المكان بأصوات التصفيق والزغاريد والتهاني، كلٌّ يعبر عن سعادته بطريقته، بينما هما يقفان في قلب المشهد، يلتقطان أنفاسهما وسط هذا الطوفان من الفرح الذي أحاطهما.
حتى رفع عينيه نحوها، وأطال النظر وكأنه يغوص في بحرٍ لا يرى له قرارًا، بحثًا عن سرّ هذا السحر الذي يقيّده كلما التقت عيناه بعينيها.
ا
رتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية، خليط بين دفء المودّة ولمسة العبث التي لا تفارقه، ثم همس بصوت خافت يحمل من الشجن بقدر ما يحمل من صدق الاعتراف:
“وأنا اللي كنت فاكر نفسي جامد وعقلي ميزان، أتاري الدنيا كانت مخبياكِ علشان تزلزلي كياني.”
ابتسمت بخجلٍ ورقّة، فذاب في ملامحها أكثر فأكثر، وكأن قلبه انساق وراءها بلا إرادة، حتى قطع هذا الشرود اقتراب الأجساد منهما للتهنئة، تقدّم والده ووالدته، ثم والدها… ومعهما زوجة أبيها، جَنّة.
صافحها كارم بكل احترام، ثم تابعت خطواتها نحو ميرنا، التي ما إن وقعت عيناها عليها حتى خفتت ابتسامتها على الفور، وكأن حضورها أثار شيئًا عميقًا في داخلها.
ومع ذلك، تمالكت نفسها وعانقتها، لكن ملامح الضيق لم تُخفَ عن وجهها، وكان كارم يقف قريبًا بما يكفي ليلحظها بوضوح.
وفي خضم تلك اللحظة، شعر بكفّ دافئة تُربت على كتفه، فالتفت ليجد والدها يبادله نظرة جادّة وهو يقول:
“ألف مبروك.”
ابتسم كارم وأجاب بصوتٍ مفعم بالامتنان:
“الله يبارك فيك يا عمي.”
زاد والدها من قبضته على كتفه قليلًا، وكأنها إشارة أعمق من مجرد تهنئة، ثم قال:
“دي أمانة.”
فأجابه كارم دون تردد، وبنبرة صادقة:
“في عيني والله يا عمي.”
ربت توفيق مجددًا على كتفه، ثم جذبه إلى صدره في عناقٍ دافئ، عناقٍ لم يكن مجرد تهنئة عابرة، بل مباركة صادقة تفيض بالقبول والرضا.
وما إن ابتعدا حتى انشغل كارم وميرنا بمصافحة المهنئين واحدًا تلو الآخر… كلمات طيبة، ونظرات محبة، ودعوات خالصة كانت تحيط بهما من كل اتجاه، لتزيد اللحظة بهجة ودفئًا.
كان كل من يقترب منهما يشاركهما جزءًا من الفرح، وكأن الحفل بأسره تحول إلى خيط طويل من التهاني يلتف حول قلبيهما ليجمعهما أكثر.
_________________
أزاح الفجر ستار الليل رويدًا، وبدأت خيوط الشمس الأولى تتسلل بخفة من بين طيات الستائر الرقيقة، تنثر على الغرفة دفئًا هادئًا ولونًا ذهبيًا ناعمًا… ولم يكن الضوء وحده من تسلل إليه، بل امتزج به لحنٌ أكثر حميمية… صوتها.
جاءه همسها دافئًا، رقيق النبرات، ينساب إلى مسامعه كما تنساب قطرة ندى على ورقة خضراء، يتخلله حنوٌ يعرفه قلبه قبل أذنه، وهي تمرر أصابعها برفق على كتفه كأنها تخشى أن تزعجه من أحلامه:
“موسى… قوم يا موسى… يلا قوم يا موسى.”
كان صوتها أشبه بجرس صغير يطرق أبواب وعيه برفق، فيوقظه لا من النوم وحده، بل من دفء استسلامه للحظة، ويذكره أن النهار قد بدأ، وأنها أول ملامحه.
فتح عينيه ببطء، يترك لحدقته وقتًا لتعتاد ضوء الغرفة المتسلل عبر الستائر، قبل أن تتضح أمامه ملامحها القريبة… لم يمنحه ذلك الدفء الطاغي من رؤيتها وقتًا طويلًا، إذ قطعته بنبرتها الصباحية الحانية وهي تقول:
“صباح الخير… يلا قوم علشان تروح الشغل.”
عقد حاجبيه في فتورٍ مشوب بالاستغراب، وهو يرد بنبرة كسولة:
“شغل إيه؟”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي ترد بخفة:
“هو إنت عندك كام شغل؟ يلا قوم علشان ما تتأخرش.”
ثم مالت قليلًا لجانبها، تتناول الضاغط الطبي الذي اعتادت استخدامه لقدَمها، بينما هو نهض نصف نهضة، يمسح وجهه بكفيه في حركة تجمع بين الاستيقاظ والتململ، وهو يقول بحزم:
“أنا قايلك… مش رايح الشغل غير لما تتعافي خالص.”
رفعت رأسها نحوه، وبهدوء قالت:
“لا… هتروح، كفاية خليتك قاعد جنبي أسبوع.”
التفت إليها برأسه، عيناه تتفحصانها وكأنهما تبحثان عن ثغرة في منطقها، قبل أن ينهض تمامًا ويتجه نحوها.
وقف أمامها للحظة، ثم انحنى ليأخذ الضاغط من يدها، وجلس القرفصاء أمامها يثبّته على قدمها بيديه بثبات وحرص، وهو يكرر بنبرة لا تقبل جدالًا:
“مش رايح لمكان يا فيروز… أنا هشتغل من البيت.”
“بلاش عناد يا موسى… هتروح يعني هتروح، وأنا أصلاً كلها كام يوم وأكون أقدر أنزل الشغل.”
رفع موسى نظره إليها، عيناه تحملان خليطًا من القلق والإصرار وهو يرد بهدوء حازم:
“مش هسيبك لوحدك.”
مدت يديها، واحتضنت وجهه بين كفيها الدافئتين، ابتسامة مطمئنة تلوح على محياها وهي تقول:
“عارفة إنك خايف عليا… بس أوعدك، مش هجهد نفسي، وهفضل قاعدة، ومش هقوم إلا وقت الضرورة.”
ظل يحدق فيها، كأنه يحاول التأكد من صدق وعدها، فأضافت بصوت جاد:
“ولو حصل أي حاجة، أو حسيت بأي وجع… هتصل بيك فورًا.”
قطّب حاجبيه قليلًا وسألها:
“ولو ما اتصلتيش؟”
مالت برأسها قليلًا وقالت بابتسامة مازحة:
“يبقى ليك الحق تعاقبني زي ما أنت عايز.”
زفر موسى ببطء، وأخفض عينيه ليستكمل ربط الضاغط على قدمها، تحركت أصابعه بحرص وهدوء، حتى انتهى، فوقف شامخًا أمامها، ينظر إليها من عليائه وقال بنبرة مشوبة بالحنين:
“أنا ماقدرش أعاقبك… بس هزعل منك.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة وهي تهمس:
“وده عقاب شديد أوي عليا.”
ابتسم موسى ابتسامة جانبية صغيرة، كأن كلامها اخترق قلبه وأذاب ما بقي من عناده، ثم انحنى قليلًا، يرفع يده ليمررها برفق على شعرها وهو يقول بصوت منخفض، مليء بالدفء:
“خلي بالك من نفسك… علشاني.”
رفعت فيروز عينيها نحوه، تلتقط من صوته ذاك الخوف المختبئ خلف مزاحه المعتاد، فابتسمت بهدوء، وأومأت:
“علشانك… ووعد.”
ظل يحدق بها لحظة أطول مما يجب، وكأنه يريد أن يحفظ ملامحها قبل أن يذهب، ثم مال وقبّل جبينها قبلة حانية، صافية، تحمل ما لا يقوله بالكلمات.
ابتعد قليلا عنها، ثم ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يكرر بنبرة ودودة:
“هتلاقيني برنّ عليك كل شوية… استحملي.”
ضحكت فيروز بخفة، بعينين تحملان مزيجًا من الحب والامتنان، وهي ترد:
“لو ده يطمنك… رن قد ما تحب.”
بادلها موسى ابتسامة دافئة، قبل أن تضيف هي بلطف مشوب بالعجلة:
“يلا بقى علشان ما تتأخرش.”
أومأ برأسه موافقًا، ثم تحرك بخطوات هادئة نحو الخزانة، يفتحها باعتياد، التقط منها بعض الثياب، ثم اتجه بعدها إلى المرحاض الملحق بالغرفة، وقبل أن يغلق الباب خلفه، التفت نحوها نظرة عابرة لكنها مشبعة بالحنين، ثم اختفى عن ناظريها.
ظلت هي تتابعه حتى آخر لحظة، وابتسامتها لا تفارق ثغرها، تحمل دفء اللحظة وطمأنينة وجوده، وكأنها تحفظ في قلبها مشهده هذا قبل أن يبدأ يومه.
_________________
مع مرور الوقت….
خرج من مدخل البيت بخطوات متزنة، متجهًا نحو الكراج… فتح الباب المعدني بصوت خافت ودخل.
صعد إلى سيارته بخفة، ألقى حقيبة عمله على المقعد الخلفي، ثم جلس خلف المقود، يمد يده نحو الهاتف، يمرر اصبعه على شاشته، جتى رفعه إلى أذنه وقال بنبرة صباحية هادئة:
“صباح الخير يا أستاذ أدهم.”
وصله صوت أدهم، منخفض النبرة لكنه واضح:
“صباح النور.”
ابتسم موسى وهو يشغل بعض الأزرار في السيارة:
“جاهز علشان تروح الشغل؟ أنا طالع أهو وهعدّي عليك، تمام؟”
“ماشي… مستنيك.”
“تمام… يلا سلام.”
أنهى المكالمة، لكن أصابعه لم تتحرك لوضع الهاتف بعيدًا، بل ظل ممسكًا به لثوانٍ كأنه يفكر، قبل أن يضغط على اسم آخر في قائمة الاتصال، يضع الهاتف مجددًا على أذنه بينما تبدأ السيارة بالاهتزاز الخفيف مع تشغيل المحرك.
وبمجرد أن سمع الرد، تغيرت نبرته، فغدت دافئة ومليئة بالحنان:
“صباح الخير يا ماما.”
أجابته بابتسامة تُسمع في صوتها:
“صباح النور يا حبيبي.”
سكت للحظة ثم قال بصوت خفيض:
“كنت عايز أسألك… مشغولة النهارده ولا لأ؟”
“لا، مفيش حاجة غير شغل البيت العادي.”
أومأ موسى، ثم قال وهو يضغط بقدمه على دواسة الوقود، يدمج صوته مع هدير المحرك:
“كنت بس عايزك تيجي تقعدي مع فيروز، علشان ما تفضلش لوحدها… أنا نازل الشغل.”
_________________
في جهة أخرى…
كان يخرج من شارعهم يقود دراجته النارية بخطوات العجلات الثابتة على الإسفلت، فيما كان شقيقه حسين يجلس خلفه، لا كمرافقٍ عادي، بل كمن اتخذ كتف أخيه وسادةً فاخرة للنوم.
أمال رأسه بثقل، حتى شعر محسن بالضغط يجر كتفه للأسفل، فهدر بضيق وهو يرمقه بطرف عينه:
“يا بني مش عارف أسوق… ابعد دماغك دي عني.”
رفع حسين رأسه ببطء، وكأنه يقوم من سباتٍ عميق، لكن قبل أن تمر ثانية حتى أمالها على الكتف الآخر، في حركةٍ أخرجت محسن عن طوره.
اتسعت عيناه بصدمة، ثم هتف بغضب حاد:
“يا راجل؟!… لا فرقت ياض، ده أنت مستفز رسمي.”
هز محسن كتفيه بعنف ليفك هذا الالتصاق المزعج، مما جعل حسين يعتدل غاضبًا وهو يقول بنبرة متبرمة:
“نزلني هنا يالا… أنا غلطان إني ركبت معاك من الأساس.”
زم محسن شفتيه وسأله بسخرية:
“وهتروح الشغل إزاي بقى؟”
“هاخد تاكسي… يلا نزلني.”
رمقه محسن بطرف عينه، في غيظ وهو يرد:
“يا مستفز! يعني أنا أستنى حضرتك لحد ما تصحى من النوم، وتفطر، وأتأخر بسببك… وفي الآخر هتاخد تاكسي! تصدق إني محتاج ضرب الجزمة إني استنيتك أصلاً.”
أوقف الدراجة فجأة، ثم أشار بيده نحو الأرض:
“انزل يا حسين… انزل، وأهي دقني أهي، لو ركبتك معايا تاني!”
لم يُعره حسين أي اهتمام لنبرته أو لكلماته المليئة بالغضب، بل تحرّك بخطواتٍ هادئة، وكأنه لا يسمع شيئًا، أوقف أول سيارة أجرة مرّت أمامه وصعد فيها بهدوء متعمّد، تاركًا شقيقه واقفًا مكانه، يراقبه بعينين متسعتين من الصدمة، وعلى وشك أن ينفجر غضبًا.
زفر بعمق كأنه يطرد الغضب من صدره، ثم أمسك بمقود دراجته ليعيد تشغيلها، لكن… ما إن رفع رأسه ليستعد للانطلاق حتى تجمدت نظرته للحظة، فقد توقفت أمامه السيارة ذاتها… تلك التي ترجلت منها ذلك اليوم.
حرك رأسه تلقائيًا، يبحث عنها، وبالفعل… رآها.
كانت تقترب من السيارة بخطوات واثقة، هادئة، تتوجها ابتسامة نادرة لم يرها على ثغرها إلا مرات قليلة.
ثبتت عيناه على المشهد للحظات كأن الزمن تباطأ من حوله، يلتقط أدق تفصيلة في خطواتها نحو السيارة حتى جلوسها بجوار السائق، حاول أن يمد بصره ليتعرّف على ملامح الرجل، لكنه لم يستطع أن يرى سوى لمحة ليده، تلك اليد التي يلف معصمها سوار جلدي أسود، كعلامة غامضة حفرت في ذاكرته على الفور.
شعر بوخزة في صدره، خليط من فضول قاسٍ وقلق حاد، فتملكه دافع غريزي ليلحق بهم، وقبل أن يفعل ذلك، كانت السيارة قد انطلقت مبتعدة، تاركة خلفها أثرًا من الغموض يلتف حوله كالدخان.
ظل واقفًا، يتابع بعينيه الطريق الذي سلكته، وأفكاره تدور في دائرة مغلقة، لا يخرج منها سوى فكرة واحدة تتردد في رأسه بإلحاح ثقيل: لو أن شكوكه صحيحة… فالعواقب لن تكون مجرد مشكلة عابرة، بل عاصفة لن تُبقي ولن تذر.
_________________
على جهةٍ أخرى…
وقف أمام المرآة يضبط ياقة قميصه بعناية، أصابعه تتنقّل بخفة من زر إلى آخر، بينما رائحة عطره الدافئة بدأت تتناثر في أجواء الغرفة… وفي الخلفية، كانت الموسيقى تنساب كخيط من حرير، تملأ الأركان وتنساب إلى أعماقه.
وبينما كان يعدّل ياقة قميصه، راح يردد مع الكلمات، صوته يختلط بالموسيقى في انسجامٍ تلقائي:
“وماله لو ليلة تهنا بعيد
وسيبنا كل الناس
أنا يا حبيبي حاسس بحب كبير
ماليـني ده الإحساس
وأنا هنا جنبي أغلى الناس
وجنبي أحلى الناس
حبيبي ليلة
تعالى ننسى فيها اللي راح
تعالى جوه حضني وارتاح
دي ليلة تسوى كل الحياة
وما لي غيرك، ولولا حبك هعيش لمين
حبيبي جاية أجمل سنين”
كانت الابتسامة تتسلل إلى وجهه مع كل مقطع، وكأنه يوجّه الكلمات مباشرة إلى قلبٍ يعرفه جيدًا.
وفجأة، ارتفع صوته بمرحٍ خالص، تنبعث منه دفء المودة وكأنه يشارك اللحن بكل جوارحه:
“قول يا فنان… قول كمان.”
لم يكد صدى كلماته يخفت حتى أتى من خلفه صوتٌ حانٍ، مشوب بدهشةٍ مرحة:
“والله عيني ما مصدقة اللي شايفاه… ده كارم ابني! ابني أنا، اللي لما كنت أقول له أدور لك على عروسة، يقولي: صنف الستات ما يتعاشرش.”
استدار كارم نحوها، وعيناه تلمعان بضحكةٍ لم تكتمل بعد، وتقدّم منها بخطوات هادئة، ابتسم بجديةٍ تمزج بين المزاح والصدق، وقال وهو يقترب حتى كاد يمسك بيديها:
“ده كان زمان… قبل ما أتعرف على قطعة البسكويت اللي معايا، لو كنت شُفتها من زمان، عمري ما كنت هقول كده.”
وفي عينيه، حين نطقها، كان بريقٌ واضح يخبرها أن الأمر بالنسبة ليس مجرد كلماتٍ عابرة، بل يقينٌ يسكُن قلبه ويملأ روحه.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة، ثم رفعت يدها برفق، تضعها على وجنته، وهي تقول بحنوٍ أموميٍّ خالص:
“ربنا يهنيكم يا بني… ويكتب لكم الخير.”
ابتسم بعفويته المحببة وهو يرد:
“يا رب يا بطة… يا رب.”
ثم ما لبثت أن أمالت رأسها قليلًا وهي تتأمله قائلة:
“طب يلا، تعالى افطر معانا… بس صحيح، إنت متشيك كده ليه؟ رايح فين؟”
ضحك وهو يعدل من قميصه قائلًا:
“مش رايح لمكان، الفكرة بس إني صحيت رايق… فقلت أروق على نفسي كده.”
هزّت رأسها ضاحكة:
“ده الحب غيّرك خالص.”
اكتفى بابتسامة جانبية، قبل أن يجيب وهو يسير نحو الباب:
“جايز.”
غادرت الغرفة من بعده وهي ما تزال تبتسم، ترفع في قلبها دعاءً صادقًا أن تكتمل فرحته، وأن يظل قلبه عامرًا بالسكينة والحب.
_________________
مع مرور الوقت…
توقفت السيارة أمام البيت تمامًا، فألقى موسى نظرة جانبية نحو أدهم الذي كان يجلس إلى جواره، وقال بنبرة تحمل الاهتمام والجدية:
“معاك اللابتوب… لازم تتدرب على اللي اتعلمته، ولو في حاجة وقفت معاك، ابقى كلمني على طول… اتفقنا؟”
أومأ أدهم إيجابًا، تتسلل ابتسامة خفيفة إلى ثغره وهو يرد:
“اتفقنا.”
بادل موسى ابتسامته، ثم مد يده يربت على ذراعه برفق، وهو يقول:
“يلا… أشوفك بكرة بقى، هعدي عليك علشان نروح سوا إن شاء الله.”
ارتسمت ابتسامة امتنان على وجه أدهم، وقال بصوت هادئ:
“تمام… مع السلامة.”
“سلام.”
ترجّل أدهم من السيارة تحت أنظار موسى التي كانت تلاحقه عن كسب، لكن ما إن لامست قدماه الأرض، حتى اخترق أذنيه صوت مألوف، مفعم بالسخرية اللاذعة:
“يا مرحب… يا أدهم بيه.”
استدار أدهم نحو مصدر الصوت، ليجد شهاب يقترب منه بخطوات واثقة، وعيناه تلمعان بنية الاستفزاز… وهو الذي قد ترك ما بيده بمجرد أن لمح السيارة تتوقف، وكأنها فرصته المنتظرة.
تشنجت ملامح أدهم على الفور، وبدا الضيق واضح في نبرة صوته وهو يقول بجمود:
“عايز إيه يا شهاب؟”
لكن شهاب لم يتقبل طريقته، فانعكست الحدة في ملامحه، وارتفع صوته متوعدًا:
“اتكلم عدل يا لا… بدل ما أقطع لك لسانك… وتبقى عليل وأخرس.”
اشتعل الغضب في عيني أدهم، وانقبض فكاه كمن يستعد لردٍ قاسٍ، لكن قبل أن ينطق، شق صوت موسى الأجواء وهو يترجّل من السيارة بنبرة تحمل الحزم:
“في إيه يا أدهم؟”
تحولت أنظار شهاب فورًا نحو موسى، الذي اقترب حتى وقف بجانب أدهم بثبات، فيما الأخير لم يزح عينيه عن شهاب ولو لثانية، كأنه يرفض التراجع خطوة أمامه.
رمق شهاب موسى بنظرات ضيقٍ لا تخلو من تحدٍّ، بينما موسى قابله بنظرة اشمئزاز صريحة، قبل أن يسأل ببرودٍ يقطر استنكارًا:
“الأخ… عايز إيه؟”
ابتسم شهاب بسخرية خفيفة، وقال بلهجة متعمدة الاستفزاز:
“المفروض أنا اللي أسألك السؤال ده… إنت اللي عايز إيه؟ وليه كل شوية ناطط في الحتة؟”
اقترب موسى خطوة للأمام، وعيناه تضيقان بثبات:
“هي كانت ملك أبوك… وأنا ما أعرفش؟”
رد شهاب فورًا، دون أن يرمش:
“آه… ملك أبويا.”
ارتسمت على شفتي موسى ابتسامة جانبية باردة، ثم أطلق جملته وكأنه يرمي سهمًا مصوبًا بدقة:
“جيبلي عقد المليكة يا روح أبوك.”
في تلك اللحظة، توتر فك شهاب حتى بدا صرير أسنانه واضحًا، أما موسى فلم يحرك جفنًا، يراقب خصمه بثباتٍ لا يعرف التراجع، حتى اقترب خطوة، ثم نطق ببطء مدروس، كمن يُحكم إغلاق فخٍ قبل إسقاطه:
“بص يا اسمك إيه… أنا مش عايز مشاكل، لكن لو إنت عايزها… ما عنديش مانع، بس لازم تعرف، اللي بيقف قدامي في أي حاجة… بيطلع خسران، وبيخسر كتير أوي، فابعد… با ابن الحلال، وحط بيني وبينك ساتر… وحط مليون ساتر بينك وبين اللي يخصوني، حتى عينيك… ما تتجرأش تترفع عليهم.. فاهم؟”
ارتسمت على ملامح شهاب ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن سوى ستار يخفي نبرة التحدي في صوته:
“لا… مش فاهم، وإنت مين أصلاً علشان تقولي أعمل إيه وماعملش إيه؟”
ثم أدار رأسه نحو أدهم، وكأن وجوده هو الطعنة الحقيقية التي يريد إيصالها، وأضاف بنبرة أثقل من الرصاص:
“وبعدين… اللي إنت بتقول عليهم يخصوك… دول يخصوني أنا أكتر منك، وإنت مالكش أي علاقة بيهم.”
ابتسم موسى ابتسامة باردة، لكنها كانت أشبه بإنذار صريح، واقترب خطوة إضافية جعلت المسافة بينه وبين شهاب تكاد تنعدم، حتى صار صوت أنفاسهما يتداخل في الهواء المشحون بالتوتر، ثم قال بصوت منخفض، لكنه حاد كالشفرة:
“واضح إنك مش فاهم… أو يمكن مش عايز تفهم، أنا مابهددش، أنا بقول كلام بيحصل فعلاً… واللي بيحاول يقرب من دايرتي، بيلاقي نفسه بيتمنى لو مااتولدش.”
رفع يده قليلًا وأشار بينهما بحركة حاسمة:
“اسمعها مني كلمة أخيرة… مش فارقة عندي إنت شايف نفسك مين، ولا مين بيخصك… اللي يخصوني أنا، خط أحمر… ما تقربش، ولا حتى بعينك.”
ارتسمت على وجه شهاب ابتسامة ساخرة، لكنها لم تُخفِ ما يغلي في صدره من غضب مكبوت.
حدّق في أدهم طويلًا، وكأنه يريد أن يزرع في ذاكرته شيئًا لا يُمحى، ثم أعاد نظره إلى موسى، وفي نبرته تحدٍّ صريح لا يعرف الانكسار:
“إوعى تفتكر إني خفت… لأني ما بخفش، وهيجي يوم… تبطّل تحمي اللي يخصوني، عارف ليه؟… علشان هما يخصّوني.”
لم يتزحزح موسى عن وقفته، بل ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة، ممزوجة بسخرية تعرف طريقها للخصم دون أن ترفع صوتها.
أما شهاب، فقد أدار ظهره ببطء، كمن يتعمد أن يترك في الجو أثر خطواته الثقيلة، خطوات تحمل وعدًا غير منطوق بأن المواجهة بينهما لم تُغلق صفحتها بعد، بل إنها مؤجلة… حتى إشعار آخر.
بقي موسى واقفًا في مكانه، يراقبه وهو يبتعد، ونظراته الصلبة ترافقه حتى غاب عن مرمى بصره، ثم حرّك رأسه قليلًا نحو أدهم، الذي كان يقف في موضعه ثابتًا، عيناه تتعقبان كل حركة وكل تفصيلة في جسد ذلك المدعو شهاب، ونظراته كلها غضب وضيق كأن في صدره بركان يوشك على الثوران.
لانت ملامح موسى فجأة، ورفع يده ليضرب كتف أدهم بخفة، مرددًا بنبرة مرحة تُخفي تحتها ما يكفي من الجدية:
“فكّها يا أستاذ أدهم… فكّها ولا هخصملك.”
رفع أدهم نظره نحوه، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة خافتة، ورد موسى بابتسامة مماثلة، وهو يشير له بالصعود نحو البيت قائلاً:
“يلا اطلع… علشان خالتي ما تقلقش.”
أومأ أدهم بالإيجاب في صمت، ثم التفت وبدأ يصعد الدرجات بخطوات متأنية، وعينه لم تفارق الأرض إلا قليلًا، بينما موسى واقف مكانه يتابعه، حتى ابتلعه باب البيت واختفى عن ناظره تمامًا.
تنفّس موسى بعمق، وزفر الهواء كمن يحاول طرد بقايا توترٍ عالق في صدره، عندها فقط حرّك قدميه نحو سيارته، فتح الباب وجلس خلف المقود، ألقى نظرة سريعة إلى الطريق أمامه، ثم أدار المحرك، وانطلق مبتعدًا، غير عابئ بما تركه خلفه… أو لعلّه لم ينتبه لما كان خلفه أصلاً.
لم يلحظ تلك العيون المتقدة بالحقد، العيون التي كانت تتبعه بنظراتٍ تكاد تحرق زجاج السيارة وتخترق جسده، وكأنها تتمنى لو تنفجر السيارة وهو بداخلها.
كانت تلك أعين شهاب، يقف في ورشة صيانة السيارات الخاصة بوالده، مختبئًا خلف إطارٍ معدني ضخم، يرمق موسى وكأن بينهما ثأرًا لم يكتب بعد.
ركل إحدى عجلات السيارات أمامه بعنف، فاهتزت بقوة، لتتردد في الورشة دمدمة مكتومة، قبل أن تنفجر من شفتيه سيلٌ من السباب البشعة، كلها مُوجّهة نحو موسى… وكأنها طعنات لفظية لن تصيب هدفها أبدًا، لكنها على الأقل تُخفّف من احتراق الغضب في صدره.
وفي أوج احتدام غضبه، عندما كان أشبه ببركان يتأهب للانفجار، شق صوته الغاضب صدى الورشة صوتٌ مألوف، جاءه من الخلف:
“إيه الأخبار يا سطا؟”
لم يلتفت شهاب على الفور، بل أطلق الإجابة كما تُطلق الرصاصة من فوهة بندقية:
“زي الزفت.”
ارتسمت على وجه الشاب علامات الاستغراب، عقد حاجبيه واقترب خطوتين نحوه، حتى صار على بُعد ذراع، ثم سأله بنبرة تجمع الفضول بالقلق:
“فيه إيه؟ مالك معتصب كده ليه؟”
رفع شهاب رأسه نحوه فجأة، وعيناه تلمعان ببريق الغيظ المكبوت، وأجاب من بين أسنانه:
“بسبب ابن الـ*** اللي داخل خارج على الحارة كأنها حارة أبوه.”
“مين ده؟”
أجاب شهاب ببطء، وكأنه يتلذذ بنطق الاسم، محملًا إياه بكل ما يختزنه من كراهية:
“موسى… اسمه موسى يا زيكو.”
تجمّدت ملامح زيكو لوهلة، وكأن الاسم الذي سمعه للتو استدعى من ذاكرته صندوقًا قديمًا أغلقه منذ زمن، ثم لفظ الكلمات ببطء محسوب:
“موسى… موسى عمران؟!”
حدّق شهاب فيه بعينين يملؤهما التساؤل، وقال مستفسرًا:
“آه… أنت تعرفه؟”
ارتسمت على وجه زيكو ضحكة قصيرة، لكنها لم تحمل أي مسحة مرح؛ كانت ضحكة مرّة، كمن يتذكر طعنة قديمة ما زال جرحها مفتوحًا، ثم قال:
“وإلا أعرفه… ده الواد اللي كنت حكيتلك عنه، اللي بسببه ما بقيتش عارف أدخل حارتنا القديمة.”
اتسعت عينا شهاب قليلًا، واقترب منه أكثر، وقال بنبرة تحمل مزيجًا من الدهشة والاهتمام:
“هو ده اللي كنت غازّه؟”
أومأ ذكي بثقل، ورفع ذقنه قليلًا كمن يواجه شبحًا قديمًا، ثم أجاب بلهجة حادة:
“هو… بذات نفسه، عملك إيه بقى الأستاذ؟”
أشار شهاب بيده نحو أحد المقعدين الخشبيين العتيقين، قائلاً بلهجة حادة:
“تعالى نقعد علشان أحكيلك.”
جلسا متجاورين على الخشب البالي، الذي أطلق أنينًا خافتًا تحت وزنيهما، بينما تبادلا نظرات تنبئ أن الحديث لن يخلو من غضب مكتوم.
أشار ذكي برأسه وكأنه يطالبه أن يفرغ ما بداخله، فزفر شهاب زفرة ثقيلة، ثم بدأ بصوت متوتر لكنه يقطر مرارة:
“انت عارف إني كنت برسم على عالية بنت عمي وعايز أتجوزها… طول عمري بحاول أظهر قدامها بأحسن صورة، أبان إني راجل يعتمد عليه، أبان أني الأحسن.”
مال ذكي للأمام، مستحثًا إياه:
“وماشي… وبعدين؟”
شدد شهاب على كلماته، وكأنه ما زال يعيش اللحظة:
“اللي حصل… إن ابن *** ده جه في يوم…”
بدأ شهاب يسرد تفاصيل ذلك اليوم، من اللحظة التي اقتحم فيها البيت بمفرده، دون استئذان، إلى اللحظة التي خرج فيها برفقة والده.
تحدث عن كل كلمة قالها، وكل نظرة وجهها له أمام عالية وأمها وأخيها، وكيف شعر وقتها أن الأرض انسحبت من تحت قدميه، وأخيرًا أنهى حديثه قائلًا، وهو يشد قبضته على فخذه، كأنه يقبض على عنق الموقف:
“تخيل قلل مني إزاي قدامها وقدام أمها وأخوها… والنهاردة كمان قلل مني تاني قدام اللي اسمه أدهم، اللي شغله معاه، وبيجي ياخده من قدام البيت بعربيته ويوصله… واليوم اللي ما يجيش فيه بيبعت له تاكسي ياخده ويجيبه… شايف بقى أنا في إيه؟ بعد ما كان أدهم ده ما يقدرش يبص في عيني… دلوقتي مستعد يرفع إيده عليا.”
اشتعلت نظرات شهاب أكثر، وهو يحدّق في نقطة ثابتة في الفراغ أمامه، كأن عينيه لا تريان إلا وجه موسى، ماثلًا أمامه بلحم ودم، يتحدى صبره بصمته وابتسامته الثابتة.
تشوّهت ملامحه من شدة الغضب، وانحنى فكه السفلي قليلًا، ثم نطق من بين أسنانه المطبقة، بنبرةٍ ملغومة بالحنق:
“والفضل يرجع للكلب اللي اسمه موسى.”
لم يعلق ذكي، ظلّ يراقب شهاب بعينين ضيقتين، يتأمل الشرر المتطاير في عينيه، ولمّا رأى كيف اشتعلت قسماته كجمرةٍ في فم صمت، لمعت في عينيه لمعة مريبة… لمعة يعرفها جيدًا من نفسه، لمعة من اعتاد أن يُشعل الحرائق ويجلس يشاهد.
فجأة، قال بنبرة باردة تنقضّ على التوقيت كالسم:
“طب… واللي يخليك تاخد حقك منه؟”
رفع شهاب عينيه نحوه سريعًا، كأنما انبعث فيه الأمل بعد خيبة طويلة، وردّ بسرعة مشوبة بالشك:
“إزاي؟؟”
ابتسم زيكو ابتسامة مائلة، نصفها دهاء، ونصفها سمٌ ينساب بهدوء، ثم مال بجسده قليلًا ناحيته، وقال بصوت خافت كأنه سرّ عتيق يُكشف لأول مرة:
“هقولك… ازاي.”
_________________
في جهة أخرى…
كانت تنحني قليلًا فوق المكتب الزجاجي الصغير في ركن الصيدلية، ترتب أشياءها بترتيبٍ مرتبك يوحي بأنها تفكر في أكثر من اتجاه.
مدّت يدها نحو حقيبة يدها الأنيقة، وضعت بداخلها بعض الأشياء، قبل أن تلتفت إلى الفتاة التي تساعدها وتقول بصوت عملي لكنه دافئ:
“أنا همشي ومش راجعة النهاردة… لكن لو حصل أي طارئ، بلغيني فورًا.”
أومأت لها الفتاة بصمت مطيع، فبادلتها دلال بابتسامة قصيرة تحمل شكرًا صامتًا، ثم أمسكت حقيبتها وخرجت إلى الشارع المضاء بأشعة العصر الذهبية.
لكن خطواتها تباطأت فجأة… فقد توقفت أمام الصيدلية سيارة مألوفةد عبست قليلًا وهي تحدق في الزجاج الأمامي، وما لبثت أن انخفضت النافذة ببطء حتى بدا وجهه أمامها، بابتسامة تجمع بين الجد والمرح.
قالت باستفهام، وهي تحاول فهم وجوده:
“لو عايز حاجة… ادخل خدها.”
ردّ موسى سريعًا، ونبرته لا تخلو من لمسة دعابة يعرف أنها تربكها قليلًا:
“لا… أنا عايزك إنتِ.”
ارتسمت على ملامحها علامات دهشة ممزوجة بعدم فهم، فعقدت حاجبيها ونظرت له باستفهام أعمق؛ فأشار هو برأسه إلى المقعد المجاور له في السيارة، وهو يقول بنبرة تجمع بين الأمر والمزاح:
“يلا… اركبي، علشان ما نتأخرش على معاد الدكتورة.”
نظرت له مطولًا قبل أن تسأل، وقد لمحت الخيط الخفي الذي يربط الأحداث:
“إنت عرفت إزاي؟… طارق هو اللي قالك؟؟”
أومأ بثقة، وابتسامة جانبية تعلو ثغره وهو يجيب:
“آه… هو اللي قالّي، وقالّي كمان إن لازم أروح معاكي… وإنتِ عارفة، أنا ولد مطيع وطيب… وبسمع كلام خالي.”
أجابت بنبرة هادئة يكسوها السخرية الخفيفة:
“صدّقتك.”
ارتسمت ابتسامة على شفتيه، ضحك بهدوء وهو يتابعها بعينيه وهي تصعد إلى السيارة، ولم تكد تستقر على مقعدها حتى صدح هاتفه بنغمة معتادة، فالتقطه بسرعة ووضعه على أذنه:
“أيوه يا جمال… لا، مش راجع… ليه؟ إيه اللي حصل؟”
ساد الصمت لحظة بينما كان يستمع، ومع كل كلمة تصله من الطرف الآخر، ازدادت ملامحه انقباضًا.
أغمض عينيه لثوانٍ، ثم مرر يده بين خصلات شعره في حركة تنم عن ضيق واضح، قبل أن يقول بنبرة حاسمة:
“طب خلاص… أنا عندي مشوار، هأخلصه وأرجع… ماشي تمام… مع السلامة.”
أنهى المكالمة ووضع الهاتف على لوحة القيادة، لكن قبل أن يبدأ في تشغيل السيارة، جاءه صوتها القلق:
“في إيه؟”
أجاب مختصرًا:
“حصلت مشكلة في الشغل… وهضطر أرجع.”
بدون تفكير، بادرت تقول بهدوء:
“طب خلاص، أنا هنزل آخذ تاكسي، وأنت روح.”
مدت يدها إلى مقبض الباب، لكن صوته الجاد أوقفها، حاملاً نبرة قاطعة لا تقبل جدالًا:
“اقعدي! وأوعي تنزلي.”
التفتت تنظر إليه في صمت، لتجد عينيه معلقتين بها بتركيز، قبل أن يضيف ببطء مؤكدًا:
“الشغل مش هيطير… إنتِ الأهم دلوقتي… يلا، حطي حزام الأمان.”
ابتسمت له دلال ابتسامة صغيرة، تحمل في طياتها مزيجًا من الامتنان والاطمئنان، وكأنها تُقرّ في سرّها أن عناده في هذه اللحظة بالذات لم يكن سوى شكل من أشكال الحماية التي تلمس قلبه
، تماماً كما كان يحدث في أيام الصغر.
أخفضت عينيها قليلًا وهي تمد يدها لتسحب حزام الأمان وتثبته في مكانه، فسمعت صوت النقرة المعدنية يتردد في أجواء السيارة الهادئة، وكأنه إعلان ضمني بالاستسلام لقراره.
عندها فقط، أعاد هو يده إلى المقود، أدار المحرك، فانبعث صوته العميق في هدوء المكان، ثم حرّك السيارة ببطء، وانطلق بها.
_________________
مع مرور الوقت….
“يعني مشيتي ماما وخالتي… وعملتي أكل؟!”
ابتسمت فيروز وهي تجيبه، بنبرة تحاول أن تبدّد قلقه:
“أولًا… أنا مشيتهم علشان كانوا مصرّين ينضفوا الشقة اللي أصلًا نضيفة، يعني تعب على الفاضي، وثانيًا… الأكل عملته وأنا قاعدة، والله العظيم ما وقفت.”
ساد الصمت لثوانٍ، لم يقطعه سوى صوت تنفّسه الذي بدا كزفرة طويلة تخللتها راحة ممزوجة بقلق، ابتسمت فيروز لا إراديًا حين سمعت أنفاسه هكذا، ثم سألته بصوت هادئ، دافئ، تسلل إليه:
“المهم… إنتِ فين دلوقتي؟”
حينها
كان يتقدّم
بخطواتٍ واثقة نحو سيارته، والهاتف مُلصق بأذنه، يعلو وجهه بريق ابتسامة لا تُخفى، نابعة من دفء الحديث لا من الكلمات فقط.
قال بنبرةٍ مرحة، كأنّه يعِد طفلًا بشيءٍ مُبهج:
“خلاص أنا طلعت أهو… مسافة السكة وأبقى عندك.”
أتاه صوتها من الجهة الأخرى، ناعمًا، مملوءًا بفرحة طفولية لا تُصنَع:
“طب يلا بسرعة علشان أنا عامله بسلة.”
توقف في مكانه، بجانب السيارة، وقد استقرّت ابتسامة متفاجئة على وجهه، وسألها وكأنّه يُريد التأكد من حلمٍ جميل:
“قولي والله؟”
ردّت دون تردد، بثقة من يعرف جيدًا ما يحب الآخر:
“آه والله، وواخدة الوصفة من دلال بالظبط، علشان عارفة إنك بتحبها علشان وصفتها زي ستك الله يرحمها… وعملت كمان عصير جوافة.”
وضع يده على صدره، كأنّه يُمسك بقلبٍ قفز فجأة من مكانه، ثم قال بنبرة درامية فيها دلال محب:
“قلبي…”
ردّت في توترٍ صغير:
“ماله قلبك؟”
ضحك، ثم قال وهو يغمض عينيه ويهز رأسه بخفة:
“لا بس مش مصدق كمية الحلاوة اللي سامعها دلوقتي… بسلة… وعصير جوافة… وصوتك.”
دوّى ضحكها في أذنه، ضحكة صافية تُشبه رشّة سعادة، فقال بمشاكسة:
“وزودي ضحكتك.”
ضحكت مجدداً، قبل أن تقول برقة وحنين:
“طب يلا تعالى بسرعة، أنا مستنياك.”
أجابها بحماس طفولي صادق:
“طيران… جايلك طيران يا روح الروح.”
أنهى المكالمة بنفس الدفء الذي بدأها به، ثم أعاد الهاتف إلى جيبه وهمّ بفتح السيارة، لكنه فجأة توقّف، وعبست ملامحه في لحظة ارتباكٍ خفيفة، أغمض عينيه وعضّ شفته السفلى متذكرًا:
“لا… مش معقول… نسيت اللابتوب.”
أغلق باب السيارة مجددًا، واستدار عائدًا بخطى سريعة، يشق طريقه عابرًا الشارع الغارق في ظلمةٍ خفيفة، خاصة عند عمود الإنارة المعطّل، الذي يقف بلا جدوى منذ أيام، لا يمنح سوى ظلًا باهتًا على الرصيف المهجور.
كان يسير بخفّة من يريد إنجاز شيء نسيه لا أكثر، لم يكن يفكر كثيرًا، فقط يتقدم… بخطى منتظمة، بعينٍ لا تنتبه، وبذهنٍ ما زال نصفه هناك… عند صوتها، وضحكتها، عندها فقط.
لكن فجأة…
في لحظة لا تُمهِل، ضوءٌ قوي باغته في عينيه، جعله يحدّق دون تركيز. حرّك رأسه تلقائيًا، وهو لا يدرك بعد ما يحدث، ثم اتّضح المشهد في أقل من ثانية.
سيارة مُسرعة…
تتجه نحوه مباشرة، بلا علامة توقف، بلا انحراف، وكأن من بداخلها لا يراه أصلًا، والفارق بينه وبينها… لاشيء يُذكر.
وما هي إلا ثانية… بل أقل، حتى تحوّل كل شيء.
الضوء المباغت الذي شطر الظلام، هدير المحرك المندفع نحوه، إحساسٌ غامض بثقل الهواء يصفع وجهه… ثم ارتطامٌ عنيف اخترق جسده.
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.