رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثالث والخمسون 53 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثالث والخمسون

الفصل الثالث والخمسون(وعيد)

الفصل الثالث والخمسون(وعيد)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

دعِ الأيام تَفعل ماتشاءُ

وطِبْ نفساً إذا حَكَمَ القضاءُ.

“الإمام الشافعي”

____________

وضع يده على مقبض الباب،

وما إن دفع الباب على مصراعيه، حتى استقبلته موجة حارقة من الهواء المحمّل برائحة لاذعة، جعلت صدره يختنق للحظة.

اتسعت حدقتاه فجأة، كأن عينيه تحاولان استيعاب المشهد الكارثي أمامه …ألسنة النيران تزحف ببطء، كوحش يتقدّم لابتلاع كل ما يعترض طريقه.

لاحظ سامي الجمود المذهول على ملامح محسن، فسأله بصوت ممزوج بين القلق والاستفهام:

“فيه إيه يا محسن؟”

التفت محسن ببطء، عيناه تتخبطان بين وجوه الأصدقاء واللهب، وكأن كلماته محاصرة في حلقه، قبل أن ينطق بها متقطعة، تملؤها الثقل والرهبة:

“ح… حريقة.

كلمة واحدة، لكنها ارتطمت بهم كصفعة صاعقة…

اتسعت أعينهم جميعًا بذهول، ونهضوا دفعة واحدة… الضحكات التي كانت تملأ المكان قبل لحظات تلاشت في لحظة، تاركة خلفها فراغًا خانقًا.

اقتربوا من محسن، ليجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام المشهد الجحيمي… النار قد أمسكت بأطراف الستائر، تلتهمها بشراهة، والشرر يتطاير منها كأنياب وحش ينهش فرائسه.

تجمدوا في أماكنهم، كأن الزمن قد تعثّر، حتى تحرك يزيد بخطوات صغيرة، محاولًا التقدّم ليرى ما يحدث… لكن قبل أن تلتقط عيناه الفاجعة، اندفع سامي وأمسكه من الأرض، دافنًا رأسه في كتفه ليحميه من المشهد، بينما بصره هو معلق باللهيب، والألوان الحمراء والبرتقالية تنعكس على وجوههم المذعورة.

كانت

الحرارة تصفعهم في موجات متلاحقة، وكأن المكان بأسره يتهيأ لانفجار وشيك… وما زاد الرعب أن موسى لمح هناك، قرب طرف الستارة، زجاجة مشتعلة تتوهج بوميض مريب، وكأنها الشرارة التي أطلقت هذا الجحيم.

اتسعت عيناه أكثر، وصاح بصوت مرتعش لكنه حاد:

“لازم نخرج!”

تحركوا جميعًا مع صدى صوته، أجسادهم تتفلت من قيد الصدمة، يتدافعون نحو الخارج، والصغير لا يزال يلتصق بسامي بكلتا ذراعيه.

وما إن وطأت أقدامهم العتبة الأخيرة… حتى دوّى صوت فرقعة عنيفة خلفهم، وفي لحظة، انفجرت النيران في قفزة جائعة، تبتلع الأقمشة، وتمتد للأثاث، جاعلة الغرفة أشبه بمحرقة.

وفي الطابق العلوي، كانت فيروز ودلال تجلسان متقابلتين، تتبادلان أطراف الحديث، والهدوء ينساب بينهما تتخلله ضحكة خافتة… لكن ذلك الهدوء تحطّم فجأة بفرقعة مدوية، كأن شيئًا انفجر أو تحطّم في الأسفل.

ارتجفت الأجساد، وتبادلت العيون نظرات مشدوهة…

سألت فيروز بصوت متسع العينين:

“إيه الصوت ده؟”

أجابت دلال وهي تحاول لملمة أفكارها:

“معرفش… بس جاي من تحت.”

لم يكد وعيهما يلتقط تلك المعلومة حتى ارتسمت في ملامحهما لحظة إدراك صادمة؛ الشباب كانوا جميعًا في الطابق السفلي.

انتفضت الأجساد من مقاعدها، وأمسكت كل منهما بحجابها، تثبّتانه بعجلة فوق الرأس، قبل أن يهرعا بخطوات متسارعة نحو الشرفة المطلة على الشارع.

هناك، صُعِقت أنظارهما بمشهد كثيف الوطأة؛ أعمدة الدخان الداكن تتصاعد نحو السماء، تحمل معها رائحة احتراق خانقة، وتحتها شباب البيت واقفون في دائرة مشدودة، يتحرّكون مع الناس في فوضى من المحاولات لإخماد ألسنة النار، يسكبون الماء ويضربون الأقمشة المشتعلة، بينما اللهب يقاوم عنيدًا، ملوّحًا بأطرافه المشتعلة في وجه كل من يحاول كبحه.

وهنا هتفت دلال بصوت مرتعش، تكاد الكلمات تتعثر بين شفتيها:

“إيه اللي بيحصل يا موسى؟”

رفع موسى رأسه ببطء نحو الشرفة، عيناه تائهتان بين الدخان والوجوه الملهوفة، وقد بدا على ملامحه مزيج من الصدمة والعجز.

كان واقفًا في مكانه بلا حراك،

يثقل ذراعه المصاب كل محاولة للمساهمة، وكأن جسده كله انعقد حول ذلك الألم.

ومع ثوانٍ من الفوضى، بدأت الأيادي تمتد من كل صوب؛ جيران، مارة، وأقارب وصلوا على عجل… لكن سرعان ما انطلق صوت كارم جهوريًا:

“بلاش مايه… ده بنزين!”

عندها تغيّرت الخطة فورًا؛ انتشرت قطع الأقمشة المبللة، واندفعت أيادٍ تمسك بطفايات الحريق، تضرب اللهب بعنف وإصرار.

وبفضل

تلك الجهود المتضافرة، تلاشى آخر ومض للنار، تاركًا وراءه صمتًا ثقيلًا، ورائحة احتراق تسللت إلى الجدران، كأنها ترفض المغادرة.

خطا

موسى إلى الداخل بخطواتٍ ثقيلة، وكأن كل خطوة تحمل ثقل ما حدث، وخلفه بقية أصدقائه وبعض أفراد عائلاتهم، باستثناء يزيد الذي كان سامي قد أعاده إلى المنزل منذ بداية الفوضى.

تحركت

عيناه في أرجاء الغرفة التي اخترقها الحدث بشكل مأساوي، يلتقط تفاصيل الخراب والرماد المتناثر، لكن في قلبه حمدٌ صامت لأن النيران لم تمتد لتلتهم بقية المكان.

وفجأة، اخترق ذلك الصمت صوت محسن، حادًّا، مرتجف الحواف:

“مين اللي رمى إزازة البنزين؟؟”

رفع موسى رأسه ببطء، أخذ نفسًا عميقًا كأنه يحاول دفع ثقل الرائحة بعيدًا عن صدره، ثم قال وهو يحدّق في بقايا الدخان المتلوّي:

“معرفش… بس الحمد لله إننا خرجنا في الوقت المناسب… وإلا كان الوضع أسوأ دلوقتي.”

تقدّم كارم خطوة، و عيناه تتحركان في كل اتجاه، تفحصان الجدران الملطخة بالسواد والأرض المغطاة بالبقايا، حتى توقفت قدماه فجأة، وانحنى ببطء، مد يده وسط الرماد الحار، وأخرج شيئًا صغيراً… التفتت العيون كلها نحوه في صمت متوتر.

رفع كارم يده، ومسح بباطن كفه ما علق عليه من رماد، فانكشفت بقايا الزجاجة المحترقة، رفعها أمامهم وقال بصوت منخفض لكن كلماته هبطت عليهم كالصاعقة:

“الإزازة دي… لو كانت مليانة شوية كنا بقينا مشويين دلوقتي.”

تبادلوا النظرات، وكل وجه فيهم كان يحاول قراءة الآخر، وكأن الجواب مخبأ في عيون أحدهم، حتى قطع موسى الصمت من جديد، صوته هذه المرة ثابت لكن ثقله لا يخفى:

“لازم نبلغ البوليس.”

_________________

مع أول خيوط الفجر، كان الضوء يتسلّل على استحياء من خلف المباني البعيدة، باهتًا كأنه يجرّ نفسه جَرًّا بعد ليلة أثقلته بأحداثها.

لون السماء الرمادي يختلط بصفرة متعبة، والهواء بارد على نحوٍ يجعل العظام تستشعر الليل الذي لم يرحل بعد.

العيون محمرّة من طول السهر، والجفون نصف مغلقة، مثقلة كأنها تحمل على حوافها ثِقَل الساعات الماضية بكل ما فيها من توتر ووجع صامت.

وأخيرًا، تفرّقوا كلٌّ إلى بيته بعد أن قضوا الليل مع الشرطة، يتنقّلون بين التحقيقات المطوّلة مع الجيران وأصحاب المحال في الأسفل، ومشاهدة تسجيلات الكاميرات القريبة من مكان الحادثة، في محاولة يائسة لالتقاط أي خيط قد يقود إلى الحقيقة.

وحين أذّن الفجر، أدّوا الصلاة بأجساد متعبة وقلوب مثقلة، ثم أخذوا طريق العودة كأنهم يسيرون في حلم ثقيل الإيقاع.

كان سامي يصعد ببطء، وضع يده على مقبض الباب، ودفعه برفق حتى لا يوقظ أحدًا… لكن ما إن رفع عينيه حتى وقعت على ليلى، جالسة على الأريكة، في هيئة ما بين اليقظة والنوم، والتي ما إن سمعت صوت الباب، حتى ارتفعت جفونها فجأة، واستيقظت بالكامل.

نهضت بسرعة واتجهت نحوه بخطوات متوترة، نظرتها تلتقطه من أعلى إلى أسفل، كأنها تحصي كل تفصيلة فيه لتتأكد أنه بخير، وعيناها تمسحان ملامحه بفحص قلق.

سألها بصوت خافت لكنه يحمل دهشة:

“لسه صاحية ليه؟؟”

أجابته، ونبرتها تحمل من اللوم بقدر ما تحمل من ارتياح لرؤيته:

“كنت هنام إزاي وأنت بره؟؟ طمني… أنت كويس؟؟ حد حصله حاجة؟؟”

أومأ سامي نافيًا، وأجاب ببطء، وكأنه يريد أن يطمئنها بكل كلمة:

“لا، محدش جراله حاجة… الحمد لله عدت على خير، نسبيًا.”

رفعت حاجبها بتساؤل وهي تقول:

“حصل كده إزاي؟؟”

اتجه نحو الأريكة وألقى بجسده عليها بثقل، وكأن كل تعب الساعات الماضية قد انسكب دفعة واحدة.

لحقته هي بخطوات حذرة، وجلست بجواره، تنحني قليلًا لتسمعه وهو يقول:

“محدش يعرف لسه… في حد رمى الفتيل وكان قاصد اللي حصل… بس هو مين؟ لسه محدش يعرف، البوليس مكمل في التحقيقات، وإحنا معاهم لحد ما نعرف هو مين… وعمل كده ليه أصلاً.”

مدت يدها بهدوء لتستقر على كتفه، فالتفت نحوها، ليجد ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها:

“الحمد لله إنها جات لحد كده، ومحدش فيكم حصله حاجة.”

تسللت ابتسامة خافتة إلى وجهه المُرهق وهو يردد معها:

“الحمد لله.”

سكتا لحظة، وهو يحدّق فيها كأن ملامحها وحدها كافية لتهدئة ضجيج رأسه، ثم قال فجأة:

“صحيح… يزيد عرف حاجة؟؟”

هزت رأسها نفيًا وهي تقول:

“لا، هو بس قال إنه سمع صوت فرقعة، وأنت قلت له إن في ولد رمى صاروخ… وأنا وماما ماقولناش حاجة قدامه، فمعرفش.”

أخرج نفسًا طويلًا، كأنه يحاول طرد ما علق بصدره من ثِقل، ثم تمتم بصوت مبحوح يكاد يخفت:

“طب الحمد لله… خفت يبقى عرف، حاجة زي دي كانت هتأثر عليه جامد.”

تأملته ليلى للحظة طويلة، وكأنها تحاول قراءة ما وراء قسماته المرهقة، ثم قالت بهدوء مشوب بالقلق:

“واضح إنك أنت اللي متأثر جامد.”

لم يرد فورًا، فقط ظل يثبت نظره في الأرض، وكأن الإجابة ليست مجرد كلمات بل حمل ثقيل يجرّه معه، ثم رفع عينيه نحوها وتنهد ببطء، وكأن الزفير يخرج ومعه جزء من ذلك العبء:

“والله ما عارف أقول إيه يا ليلى… أنا لحد دلوقتي شايف شكل النار قدامي، وهي ماسكة في كل الأوضة… لولا إننا فتحنا الباب في اللحظة المناسبة، وشُفنا الإزازة قبل ما تفرقع… كنا دلوقتي في وضع مختلف تمامًا.”

انحنى بجسده للأمام قليلًا، وأسند مرفقيه على ركبتيه، بينما يده تتحرك بلا وعي وكأنها تحاكي لحظة فتح الباب:

“أنا اللي مبرّد قلبي شوية إن محدش فينا اتأذى… بس في نفس الوقت، مضايق وزعلان أوي على اللي حصل. ومعتصب لدرجة… إن لو عرفت مين اللي عمل كده، مش هرحمه، علشان بسببه… كنت ممكن أخسر…”

انقطع صوته فجأة، وكأنه اصطدم بحافة فكرة لم يجرؤ على تجاوزها…

مرّت لحظة صمت ثقيلة، عكستها ارتجافة خفيفة في يده. ثم تابع بصوت أعمق، يخرج من أعماق الخوف لا الغضب:

“كنت ممكن أخسر أعز الناس على قلبي… كان ممكن حد فيهم يتأذى… أو يزيد يتأذى… حتى مجرد التخيل نفسه… مخلّيني مش على بعض… فاهماني؟”

نظرت إليه بعينين فيهما خليط من الحنان والصلابة، ثم قالت بصوت خافت لكنه حاسم:

“فاهماك… وحاسة بيك، وحاسة باللي جواك… بس عايزاك تشيل الفكرة دي من راسك، احمد ربنا إنكم كلكم بخير ومحدش فيكم اتأذى، وإن شاء الله البوليس يلاقي اللي عمل كده وياخد جزاءه.”

أطرق برأسه قليلًا، كأنه يستند على دعائها ليحافظ على تماسكه، ثم تمتم بصدقٍ وشيء من الرجاء:

“يارب يا ليلى… يارب يلاقوه علشان ناخد حقنا منه.”

_________________

في جهة أخرى…

كان يستلقي على فراشه مستسلماً لراحةٍ ثقيلة، بعد أن عاد برفقة شقيقه من صلاة الفجر، بينما بقي شقيقهما الآخر في المسجد مع والده كعادته.

كان الصمت الذي يملأ الغرفة يبعث في نفسه شيئًا من السكون، حتى قُطع فجأة بصوت مقبض الباب وهو يُفتح، تلاه وقع خطوات، ثم جاءه صوت شقيقه وهو يقول:

“تفتكر مين اللي عمل كده يا حسين؟”

فتح حسين عينيه ببطء، نظرة ضيق ارتسمت فيهما وهو يطالع شقيقه الذي اقتحم الغرفة بلا استئذان، قبل أن يرد بصوت مبحوح وكسول، لم يخلُ رغم ذلك من حدة مكتومة:

“إيه اللي مصحيك يا لا؟ مش لسه داخل أوضتك قدامي؟”

ابتسم محسن ابتسامة صغيرة وهو يتقدم ليقف عند حافة الفراش، قائلاً ببساطة:

“معرفتش أنام… قلت أجيلك ونفكر سوا مين ممكن يعمل كده.”

حافظ حسين على صمته لثانية، يحدّق في السقف وكأنه يبحث عن مهرب من الحديث، ثم استدار بجسده إلى الجهة الأخرى وهو يتمتم بنبرة باردة:

“معرفش.”

تنهد محسن، وقد شعر ببرود الرد، لكنه أصرّ وهو يخطو خطوة أقرب:

“ما أنا عارف إنك ما تعرفش… أنا بقولك فَكِّر.”

جاءه صوت حسين، أهدأ لكن أكثر جمودًا:

“ما بفكرش.”

طالع محسن أخاه بضيق للحظة، ثم هز رأسه وكأنّه حسم أمره، وجلس على طرف الفراش بثقل قائلاً بنبرة لا تخلو من الإصرار:

“لا… تعال نفكر سوا.”

رفع حسين عينيه ببطء، وألقى بهما نحو السقف في حركات تنم عن ملل، ثم قلبهما بضجر، وسحب وسادة ووضعها على رأسه، محاولًا دفن نفسه في العتمة الصامتة.

لكن محسن لم يلتفت لمحاولته الواضحة لإنهاء الحديث، بل أخذ يتحدث بصوتٍ متحمس:

“أكيد اللي عمل كده واحد شايل مننا… يمكن حد اتخانقنا معاه وحب ينتقم.. بس مين هو دلوقتي؟؟ أو اتخانق مع مين أصلاً؟ أنا بقالي فترة هادي، لا مشاكل ولا خناقات، وسامي أصلاً ما بيدخلش في أي خلاف، وإنت ما عندكش طاقة تتخانق مع حد، وحسن؟ حسن آخره لو حد غلط فيا يقول: الله يسامحك… يبقى ما فضلش غير موسى وكارم… لو كان موسى، كان قالنا لو حصلت مشكلة، وكارم؟ بقاله فترة مشغول مع الحتة بتاعته… اقصد مع خطيبته وما عملش مشاكل… ودي حاجة أنا شخصيًا مستغربها، بس مع لينا؟! كده إحنا كلنا ما عملناش مشاكل مع حد…”

توقف قليلًا، يحدق في نقطة ما على الأرض، وكأنه يحاول أن يرى من خلالها خيوط الإجابة، ثم رفع بصره فجأة نحو حسين وسأله بصوت منخفض:

“يبقى اللي ورا اللي حصل… عمل كده ليه؟ وهو مين أصــ..”

لكن قبل أن يستكمل جملته، انطلقت قدم حسين فجأة، قوية وحاسمة، لتدفع جسد محسن في الهواء وتسقطه على الأرض بضربة أوجعت كبرياءه قبل أن تؤلم جسده.

ارتطم محسن بالسجادة، وأطلق سيلاً من السباب، ينهض نصف وقوف، نصف زحف، وعيناه تقدحان شررًا وهما تحدقان في أخيه الغارق تحت الوسادة ببرود.

نهض أخيراً، نفض بيده الغبار العالق على ثيابه، وملامح الضيق ما تزال منطبعة على وجهه، ثم تمتم بنبرة جافة متوترة:

“تصدّق بالله… حمار اللي يتكلم معاك، يا لا.”

جاءه صوت حسين بارداً، كأنه طُرح من قلب ثلج:

“كويس إنك عارف نفسك.”

تجمّدت نظرات محسن للحظة، تلمع بشرٍ مكبوت، قبل أن تتحول إلى حركة حادّة، إذ استدار نحو المقعد الخشبي في زاوية الغرفة، وأمسكه بكلتي يديه، رافعاً إياه في الهواء بنية إسقاطه على شقيقه… لكن حسين، دون أن يحرّك ساكناً، اكتفى بأن يزيح نظره عنه ببرود كاسر، وكأن الموقف لا يستحق منه حتى كلمة.

هنا توقّف محسن فجأة، وكأن الصمت الذي لفّ المكان أعاد إليه وعيه، فأنزل المقعد ببطء حتى استقر على الأرض، وهمس بسخرية مُرّة:

“أنا فعلاً حمار إني اتكلمت معاك.”

اقترب بخطوة، وخطف الوسادة التي كانت تغطي رأس حسين، فالتقت عيناهما للحظة، نظرة مشحونة بغضب صامت من جهة، وبرود متحدٍّ من الجهة الأخرى.

ثم التفت محسن وهي يلقي الوسادة أرضاً، وغادر الغرفة بخطى سريعة، فيما لاحقه صوت حسين البارد من خلفه:

“طب اقفل الباب وراك بقى.”

_________________

صعد على السلم المؤدي إلى سطح المنزل، اقترب من أريكة قديمة ملقاة قرب الجدار، مائلة قليلاً من قدمها المكسورة، لكنها كانت المكان الوحيد الذي يتيح له الجلوس بعيداً عن شقيقه المستفز، نظراً أن الأخير لا يصعد إلى السطح لتوفير طاقته للطعام… والنوم.

جلس عليها، أسند ذراعه على مسندها المتهالك، وأطلق أنفاسه ببطء، كأنما يفرغ شحنة الغضب التي ما زالت تتأرجح داخله.

رفع رأسه نحو السماء، كان الفجر قد مضى منذ وقت، والشمس بدأت ترسم خيوطاً دافئة على صفحة الزرقة.

ظل يحدق هناك للحظات، فتنحسر أفكاره بين ما حدث طوال الليل، ومن المتسبب فيه؟ ولما فعل ذلك؟

أطلق زفرة قوية، طويلة، كأنها محاولة لطرد كل ما تراكم في صدره، ثم مد يده في جيبه، وأخرج هاتفه.

أدار الشاشة بلمسة خفيفة، وبدأ يتصفح الألعاب كما لو كان يغوص في ملاذ يعرفه جيداً، فمحسن لم يكن مجرد لاعب عابر؛ الألعاب بالنسبة له كانت أشبه بملجأ، بقدر ما هو عاشق للضرب على الطبل في الليالي الصاخبة، هو عاشق لهذا الصمت الإلكتروني المليء بالألوان والأصوات الميكانيكية.

اندمج في اللعب بسرعة، إبهامه يتحرك برشاقة مدروسة فوق الشاشة، حتى أن أنفاسه أخذت تنتظم مع إيقاع اللعبة، فيما كان المكان من حوله ساكناً إلا من نسيم الصباح البارد… لكن ذلك السكون لم يدم؛ إذ اخترق أذنه صوت ناعم، مألوف، قريب للغاية:

“آه أنا على السطح دلوقت.”

توقفت أصابعه في منتصف الحركة، واللعبة تجمدت على الشاشة، لكنه لم يعد يراها؛  فعينيه راحتا تتحركان ببطء، تبحثان بين الظلال والزوايا، حتى استقرتا على وجه يطل من خلف السور الفاصل بين بيته وبيتها.

ظل يحدق بها وكأن الزمن قد توقف عند ملامحها، وصوتها يتسرب إلى أذنيه ناعماً، خافتاً، لكنه واضح بما يكفي ليطرق أعماق تفكيره.

كانت تمسك هاتفها بإحدى يديها، بينما كلماتها تنساب بلا وعي:

“معرفتش أنام فقلت أذاكر شوية… آه النهاردة آخر مادة، علشان كده مش عارفة أذاكرها، شغفي ميت خالص… تذاكر لي؟”

ارتسمت على شفتيها ضحكة قصيرة، فيها مسحة سخرية من طرف خفي، قبل أن تضيف:

“بلاش أنت تتكلم على المذاكرة بالله عليك… أنا وانت عارفين اللي فيها.”

سكتت برهة، تستمع لما يُقال على الطرف الآخر، وابتسامة صغيرة، ساخرة، تتسرب إلى وجهها، كمن يستمع لحديث يعرفه جيداً:

“غير الموضوع… غيّر، مصدقاك، مصدقاك… ماشي، أيوه هطلع في نفس الميعاد… يلا بقى اقفل علشان لازم أنزل دلوقتي… ماشي، باي باي.”

أغلقت الهاتف بخفة، واعتدلت في وقفتها، ثم بدأت تترجل بخطوات بسيطة، طبيعية، كأن شيئاً لم يكن.

لم تكن تعلم أن كل كلمة قالتها قد التقطها ذلك الذي يراقبها في صمت، وأن عيناه لم تتركها منذ اللحظة الأولى.

أما هو، فحين رآها تبتعد، أحس أن شيئاً داخله قد ثبت في مكانه؛ لم تعد هناك مساحة للظنون أو حتى للهروب منها… لم يعد يشك ولو بمقدار ذرة فيما كان يدور في رأسه منذ فترة، وكأن هذه اللحظة جاءت لتغرس يقينه في صلب قلبه.

رفع نظره إلى السماء، وأطلق زفرة طويلة خرجت معها حرارة ضيق لا يبوح به، ثم تمتم بصوت منخفض، بطيئ:

“مستنّينا أيام سودة… ربنا يكون في عونك يا صاحبي.”

_________________

دفع الباب بقوة، فارتجف جسد حسين المفاجئ، رافعًا عينيه ليلتقي بنظرات شقيقه الذي اقترب منه بثقة مصحوبة بجدية لا تُخفى، والذي قال بصوت حاد، لكنه يحمل في طياته توتراً وانشغالًا:

“قوم يا حسين، عايز أسألك على حاجة مهمة.”

رمقه حسين لثانية، عيونه نصف مغلقة من التعب والكسل، ثم أطلق بصوت ممل:

“اطلع بره.”

لكن محسن لم يتراجع، اقترب أكثر، واقفًا عند حافة الفراش، ونبرة صوته تموج بصدقٍ وقلق:

“والله الموضوع مهم، مهم أوي… اسمع بس، أنا لو عرفت إن في حد بيعمل حاجة غلط، والحد ده أنا أعرفه وأعرف أهله… فأنا دلوقتي عايز أبلغ أهله عشان يخلوه يبطل، بس في نفس الوقت خايف أبلغهم، ويحصل رد فعل سلبي ويتأذي بسببي… فاهمني؟”

أخذ حسين نفسًا عميقًا، رمقه بعينين متعبتين، ثم أجاب بصوت بارد، يحاول الاستخفاء خلف الكسل المعتاد:

“لأ… الحاجات العميقة دي تسأل فيها حسن، مش أنا… يلا اطلع بره.”

بقي محسن واقفًا للحظة، عيناه تلتقطان كل حركة صغيرة من شقيقه، يتأمل تعابير وجهه، ويحاول قراءة ما خلف برودته المعتاد، ثم انفجر قائلاً:

“أنت عيل مستفز.”

رد حسين بلا مبالاة، كأنه يقف على صخرة صماء:

“عارف.”

ضرب محسن الفراش بقدمه، صوت ارتطامها يملأ الغرفة، وقال بنبرة مزح مخلوط بالغضب:

“طب يلا قوم علشان تروح الشغل.”

أشاح حسين بنظره عنه، التفت ببطء نحو الجهة الأخرى، كأنه يرفض مجرد التفكير في التحرك، وقال بصوت هادئ لكنه صامد:

“مش رايح.”

تقدم محسن خطوة، مد يده بسرعة وأمسك بقدمه، جذبه نحوه بإصرار، وقال بنبرة حازمة لا تقبل النقاش:

“لا هتروح، يلا قوم.”

في لحظة اندفاع مفاجئ، مسح حسين يده عن المنضدة بسرعة البرق، التقط شيئًا من عليها وأرماه تجاه محسن، الذي في اللحظة الأخيرة بتفاديه، فسقط الشيئ على الأرض.

قال محسن، وهو يلتقط نفسًا عميقًا، مشدودًا بين الدهشة والغضب:

“كانت هتيحي فيا.”

نظر حسين إلى شقيقه بعينين تلمعان بالغضب المختلط بالإثارة، وقال ببرودٍ مشحون بالتهكم:

“ما ده اللي كنت عايزه.”

رمقه محسن للحظة، ثم انفجر بصوت عالٍ، يخرج من عمق نفسه المتفجر:

“يا لا، أنت مش طبيعي!”

وفجأة، اندفع محسن نحو حسين، كل حركة فيه محمّلة بالغضب والاندفاع الذي تراكم داخل صدره منذ دقائق، كأن الهواء نفسه أصبح مشحونًا بالكهرباء.

تلاحقت الأيادي، وتصاعدت الأصوات بين صخب صراخهما وضحكاتهم الممزقة من الغضب، في قتال لن يهدأ إلا بتدخل أحدهم.

وفي هذه اللحظات، كان من الواضح أن هذا الصراع لن يُحسم إلا بقدوم الوسيط المعتاد، المسؤول الوحيد عن فض النزاعات بينهما دومًا… حسن.

_________________

مع مرور الوقت…

كان واقفًا بدراجته على أعتاب الشارع، يراقب الطريق بعينين متيقظتين، يرفع يده بين الحين والآخر ليطل على ساعته، ثم يعود ينظر نحو الطريق، كأن كل ثانية تمر كأنها دهر.

نصف ساعة تقريبًا انقضت منذ أن اختار مكانه هذا، في انتظارها، بين صبره وقلقه المشوبين بشغف الصمت.

وأخيرًا، ظهرت… خطواتها الرقيقة تتهادَى في الحارة، الهاتف على أذنها يرافق حركاتها، بينما هي تبحث بعينيها عن شيء ما، دون أن تشعر به، الواقِف هناك، مراقبًا بصمت، محظوظًا باختيار نقطة يقف فيها بعيدًا عن أنظارها.

توقفت عند أول الشارع، عيونها تتحرك على جانب الطريق، كأنها تتأكد من كل شيء حولها، ثم اقتربت السيارة المنتظرة، فتوقفت أمامها.

أنزلت الهاتف عن أذنها، تقدمت وجلست بجوار السائق، وابتسامتها تزين ثغرها، وغمازتيها تترك أثرًا خفيفًا على وجنتيها، وكأنها لا تعرف أنها محط أنظار شخص يقف خلف الستار بصمت.

وفي اللحظة التي بدأ فيها محرك السيارة يهمس بحركته، أدار محسن محرك دراجته، وانطلق خلفهم بحذر شديد، كل عصب في جسده مشدود، وكل حركة محسوبة، يراقبها هو الآخر في صمت، مترقبًا ما سيأتي بعد دقائق الطريق القادمة.

ظل محسن يراقبهم بعينين ثابتتين، كمن يراقب مسار نهر لا يُعرف له نهاية..

ورغم أن الطرق كانت مليئة بالإزدحام المعتاد في الصبح، إلى أن عيناه لم تغب عن أثرهم لحظة واحدة، متشبثًا بكل حركة وكل تفاصيل صغيرة تصدر منهم.

وأخيرًا، توقفت السيارة أمام الكلية… كليتها.

نزلت هي أولًا، بخطوات واثقة، وابتسامة هادئة تتراقص على شفتيها، ثم نزل رفيقها خلفها، متأهبًا كما لو كان يواكب خطواتها بحذر… لكن لسوء حظ محسن، لم يتمكن من رؤية وجهه كما يشتهي؛ فجأة اجتاحت مجموعة من الشباب المارّين المكان، اجتازوا أمامه بسرعة، ضحكاتهم وصراخهم وحركتهم المتسارعة حجبت عنه أي رؤية واضحة، تاركينه في حالة من الإرباك.

وقف للحظة، يتنفس ببطء محاولًا إيجاد ثغرة بين الزحام، عينه تلاحق كل حركة، كل ظل، أي شيء قد يمنحه فرصة للالتقاط نظرة سريعة، لكنهم اختفوا أمامه عندما وصلوا إلى بوابة الكلية، تاركينه واقفًا وحده وسط صخب الشارع، غير قادر على رؤية أي شيء.

زفر محسن بضيق، يضرب يده في الهواء وكأن هذا الصخب والاختفاء كانا مؤامرة شخصية ضده، وقال بصوت محمل بالاستياء:

“الحظ.”

تنهد بثقل، عينه ما زالت معلقة على بوابة الكلية، ثم أومأ بنفسه بحزن قائلاً:

“بس على الأقل عرفنا إن هما زمايل…”

سكت للحظة، كأن الكلمات تتوقف في حلقه، قبل أن يواصل، صوته مزيج من القلق والخوف:

“بس برضه معرفناش هقول كارم ازاي؟؟… ده أنا خايف أقوله أقسم بالله.”

ضم محسن شفتيه بإحكام، زفر زفرة ثقيلة كأنها تحاول أن تطرد توتره وغضبه معًا، ثم دفع الدراجة إلى الأمام بحذر، بينما صوته يخرج خافتًا، بالكاد يسمعه حتى هو نفسه:

“يارب استرها معانا…”

كانت الكلمات تتردد داخله كصلوة خفية، رجاء صامت يتقاطع مع خوفه وقلقه…

_________________

في جهة أخرى..

جلسا معًا على الطاولة في المطبخ، وضوء الصباح يتسلّل عبر النوافذ ليغمر المكان بدفء خافت، بينما تتصاعد رائحة الشاي والطعام في الجو.

قدمت له سندوتشًا بعناية، وابتسامة هادئة ترتسم على وجهها، وهي تقول بصوت دافئ ومطمئن:

“خلص أكل وخد دواك، وادخل ارتاح شوية… أنت مانمتش طول الليل.”

رمقها موسى بنظرة امتنان صامتة، قبل أن يمد يده إلى الشطيرة ويتناولها دون أن ينبس بكلمة، لكن ذلك الصمت الثقيل لم يَفُت على فيروز، التي عقدت حاجبيها وارتسم القلق في ملامحها، ثم نادت بصوت يحمل مزيجًا من العتاب والحنان:

“موسى!”

رفع رأسه نحوها ببطء، لتواصل هي بصوت يختلط فيه القلق بالتطمين:

“مش متعودة عليك كده… هحاول ما تشيلش هم حاجة، وسلّم كل حاجة لربنا، إن شاء الله الكل ده يعدي، ونمسك اللي عمل كده وياخد حسابه.”

أطرق برأسه قليلًا، وكأن كلماتها تحاول اختراق جدار الصمت الذي أحاط به نفسه، ثم قال بصوت مبحوح يختزن التعب:

“والله أنا مسلم أمري لله دايمًا… الفكرة بس إني مش مستوعب كمية الحاجات اللي حصلت لنا في الفترة دي… مصيبة ورا التانية، ومش لاحقين ناخد نفسنا حتى…”

توقف لثوانٍ، وكأن أنفاسه مثقلة بالهم، ثم رفع عينيه إليها وأضاف بصوت أوهن من ذي قبل:

“تعبت… تعبت بجد يا فيروز… ودماغي تعبت.”

كانت عيناه تحملان ثِقَل الأيام، وكأن كل ما مرّ به قد انسكب فيهما، فيما بقيت هي تحدّق فيه بصمت، كأنها تبحث عن الكلمات التي تستطيع أن تحمله قليلًا بعيدًا عن هذا العبء.

وفجأة، نهضت من مقعدها، تحركت بخطوات هادئة لكنها حاسمة، فيما كان هو يتابعها بعينيه، يتساءل بصمت عمّا تنوي فعله.

توقفت بجواره، وانحنت قليلًا حتى صارت في مستواه، ثم مدّت كفيها لتحتضن وجهه بين راحتيها، دفء لمستهما يتسلل إلى روحه قبل بشرته.

ثم قالت بصوت مفعم باليقين، كأنها تحاول أن تغرس في قلبه جذور الطمأنينة حتى لا تقتلعها رياح القلق:

“هتعدّي… كل حاجة وحشة حصلت لنا هتعدي… وهتبقى ذكرى.”

انزلقت كلماتها إلى داخله بهدوء، أشبه بمرهم يسكّن وجعًا ظلّ ينزف طويلًا، نطقتها برويّة وكأنها تمنح كل حرف وقتًا كافيًا ليترسّب في أعماقه.

كان هو يحدّق في عينيها بلا رمشة، يقرأ فيهما وعدًا حقيقيًا بأن أي عاصفة، مهما علا هديرها، ستجد في النهاية طريقها إلى السكون.

ارتسمت على وجهها ابتسامة دافئة، ثم أضافت بلطفٍ يحمل شيئًا من القوة:

“لازم نحمد ربنا دايمًا على كل حاجة، ونبص لنص الكوباية المليان، اللي حصل أخف بكتير من اللي كان ممكن يحصل… فالحمد لله إنها جات لحد كده وماحدش اتأذى… صح؟”

أومأ برأسه بخفوت، كأنه لا يملك سوى الإقرار، فتابعت هي بنبرة مازحة، تخفّف من ثقل الجو:

“ولا لتكون زعلان علشان هتضطر ترمّم المكان اللي اتحرق، وتدفع مبلغ قد كده.”

انفرجت ضحكاته بصدق هذه المرة، تلك الضحكة التي تحمل خليطًا من الدعابة والاستسلام، ثم أمال رأسه قليلًا نحوها وقال بنبرة مازحة:

“واضح إن أحدهم قالتلك حاجات كتير عني… وأحدهم دي أول حرف من اسمها دلال.”

رفعت حاجبيها بابتسامة متسعة وهي تجيبه بخفة:

“بصراحة آه… حكيتلي حاجات كتير أوي.”

مال بجسده للأمام، وكأن فضوله يريد أن يقترب خطوة أكثر:

“كتير أوي أوي؟؟”

ضحكت وهي تهز رأسها:

“أوي أوي.”

أخذ نفسًا قصيرًا، وعيناه تضيقان بمزيج من التهديد الهزلي والدعابة:

“ابقي فكريني أتخانق معاها لما تيجي.”

ضحكت بخفة، فتسللت ضحكته إليه تلقائيًا، وكأنها انعكاس صادق لما شعر به في تلك اللحظة… ويا لها من ضحكة كانت تتمنى أن تراها على وجهه، وتسمع نبرتها العذبة في أذنيها.

ظلّت عيناها معلّقتين به، تنظر إليه بشغف وحبٍ لا تخطئه الروح، لكن تلك اللحظة لم يُكتب لها الاكتمال، إذ قطعها صوت رنين الهاتف فجأة، لينسدل على الجو خيطٌ من الواقعية بعد دفء اللحظة.

توقف عن الضحك ونظر نحو مصدر الصوت قائلاً:

“ده تقريباً تلفوني.”

همّ بأن ينهض، لكن يدها سبقت حركته وصوتها الحاني أوقفه:

“لا، خليك قاعد… كمل أكل، وأنا هجبهولك.”

أومأ لها باستسلام، وكأن دفء اهتمامها قد انتزع منه أي رغبة في الاعتراض، نهضت هي من مقعدها وغادرت المطبخ بخطوات هادئة، بينما ظل يرافقها بنظراته، نظرات ممتنة لوجودها في حياته، ممتنة لذلك الحضور الذي يخفف من ثقل الأيام على صدره.

عاد ببطء إلى طعامه، رفع السندوتش وأخذ يلتهم منه، حتى سمع وقع خطواتها يقترب من جديد.

وعندما دخلت، رفع رأسه وسألها:

“مين؟؟”

اقتربت منه ومدّت الهاتف وهي تقول:

“أدهم.”

وضع السندوتش على الطبق أمامه ببطء، ثم مد يده وأخذ الهاتف منها وهو يردد بنبرة متوقعة:

“تلاقي الخبر وصلهم.”

عادت هي إلى جلستها قبالته، تراقبه بصمت، بينما رفع الهاتف إلى أذنه وبدأ المكالمة بنبرة هادئة:

“ألو يا أدهم… صباح الخير.”

لم يتأخر صوت أدهم في الوصول، محمّلًا بقلق واضح:

“صباح النور… صحيح اللي سمعته ده؟ هو فعلاً حصل حريق في السايبر؟؟”

أجاب موسى وهو يعود قليلاً للخلف، ملامحه متماسكة رغم أثر التعب:

“آه، بس عدت على الخير الحمد لله.”

جاء صوت أدهم سريعًا، وكأنه يستعجل الاطمئنان:

“يعني كلكم كويسين؟ محدش اتأذى، صح؟”

ارتسمت على وجه موسى لمحة امتنان صادقة، أزاح نفسًا قصيرًا من صدره قبل أن يجيب بنبرة مطمئنة:

“لا الحمد لله، خرجنا في الوقت المناسب.”

جاء صوت أدهم من الطرف الآخر، مشوبًا بالدهشة والقلق في آن واحد:

“طب حصل كده إزاي؟ بيقولوا هنا إن السبب أزازة بنزين اترمت عليكم.”

انخفض صوت موسى قليلًا وكأن ذكر الحادثة يثقل عليه:

“آه، هي السبب… في حد رماها، والنار مسكت في الحاجات الموجودة، وحصل اللي حصل.”

لم يتأخر سؤال أدهم الحاسم:

“طب عرفتوا مين اللي عمل كده؟”

هز موسى رأسه بالنفي، وقال بجدية:

“لأ، لسه للأسف… البوليس بيحقق في الموضوع، وإحنا معاهم خطوة بخطوة لحد ما نوصل للي عمل كده… المهم، أنت ماتشغلش بالك بكل ده، ركّز بس في التدريب والشغل، الشباب كويسين معاك؟”

ارتسمت على وجه أدهم ابتسامة هادئة وهو يقول بإمتنان:

“آه، كلهم بيساعدوني، ومقسمين نفسهم علشان يدربوني، ولما بحتاج حاجة محدش بيتأخر.”

أومأ موسى وهو يرد بارتياح:

“طب كويس… أنت نزلت صح؟”

“آه، أنا طالع على أول الشارع أهو.”

تغيرت نبرة موسى فجأة إلى حزم دافئ:

“لا، خليك قريب من بيتك، ماتطلعش… أنا طالب لك تاكسي، هو خمس دقايق ويبقى عندك.”

توقف أدهم في منتصف الرصيف، وقد علت وجهه ابتسامة صغيرة تحمل مزيجًا من الدهشة والاستسلام، ثم قال بلهجة نصف مازحة ونصف معاتبة:

“تاني؟ هو أنت كل ما هتاخد إجازة هتطلبلي تاكسي يوصلني؟”

جاءه صوت موسى واثقًا لا يقبل جدالًا:

“آه، المفروض تبقى اتعودت على كده… أنا هوصلك كل يوم، ولو مش أنا، التاكسي هييجي ياخدك من بيتك ويرجعك آخر النهار من نفس المكان اللي أخدك منه.”

فتح أدهم فمه ليعترض:

“بس…”

لكن موسى لم يمنحه الفرصة، فقطع كلامه بنبرة تحمل حزمًا يخفف منه دفء الأخ الأكبر:

“مابسش… اسمع الكلام، بدل ما أخصملك.”

كانت النبرة الأخيرة أشبه بباب أُغلق بلطف، لكنها في الوقت ذاته أغلقت أي فرصة للجدال… كان فيها مزيج غريب من الصرامة المطمئنة، وحرص يشبه الأمانة التي لا يستهان بها.

شعر أدهم بثقل المعنى، وبذلك الدفء الخفي الذي يتوارى خلف كلمات قصيرة، فارتسمت على وجهه ابتسامة امتنان صافية وهو يقول:

“بجد شكراً يا موسى على كل حاجة بتعملها معايا.”

رد موسى بسرعة، وكأنه يخشى أن يترك مساحة للعرفان بينهما:

“بلاش كلام فارغ يا أدهم، أنت زي أخويا… مفيش شكر بينا، اتفقنا؟”

“حاضر.”

أطرق موسى لحظة، ثم عاد بصوته المألوف الذي يجمع بين الحزم والود:

“يلا، ابقى طمني على الشركة لما توصل، وسلّملي عليها… مع السلامة.”

لم يتمالك أدهم نفسه، فانطلقت منه ضحكة خفيفة، وقال من بين ضحكاته:

“مع السلامة.”

وانتهت المكالمة على وقع تلك الكلمات التي حملت معها دفئًا واطمئنانًا، فأغلق أدهم هاتفه ببطء، وأعاده إلى جيب بنطاله.

أطلق زفرة هادئة، وكأنها محاولة لتصفية ما تبقى من ثقل اللحظة، ثم بدأ يجول بعينيه بين جانبي الطريق، يراقب حركة المارة والسيارات بانتظار سيارة الأجرة التي أوصاها موسى.

لكن سكون الانتظار لم يدم طويلًا؛ إذ اخترق أذنه صوت حاد ومفاجئ انبعث من ورشة عمه المقابلة للطريق.

ارتجف شيء في داخله، فخطا نحوها بخطوات مترددة، تتناوب بين الفضول والحذر، حتى كاد يقترب من الباب… غير أن أقدامه جمدت فجأة، وكأن الأرض شدت عليه قبضتها، حين تسلّل إلى مسامعه صوت خشن، مألوف إلى حد يثير الاشمئزاز، يهتف بحدة ممزوجة بالغضب المكبوت:

“كله بسببك… أنت السبب! دي فكرتك… أنت اللي خليتني أعمل كده!”

تقدّم أدهم بخطوة حذرة، كمن يقترب من فخ لا يعرف عمق خطورته، حتى أبصر شهاب واقفًا بمحاذاة المدعو ذكي، ذاك الذي اعتاد رؤيته إلى جوار شهاب في الآونة الأخيرة، حتى باتا أشبه بأصدقاء لا يفترقون.

غير أن المشهد أمامه الآن كان على النقيض تمامًا من تلك الصورة؛ وجوه مشدودة، وعيون متصلبة، وأصوات تحمل توترًا يوشك أن ينفجر.

جاء صوت ذكي ببرود مثير للريبة، كمن يحاول تهدئة الموقف لا بدافع الود، بل بدافع الإخفاء:

“وطّي يا بني صوتك… لحد يسمعنا، وبعدين.. أنت خايف كده ليه؟ هو حد عرف إنك السبب في الحريقة؟”

اتسعت عينا أدهم بفزع، وكأن الكلمات اخترقت صدره مباشرة… وبحركة غريزية، تراجع إلى الوراء حتى التصق بظهره إلى جدار بارد، يحاول الاحتماء بظلّه، بينما أرهف السمع لما تبقى من الحديث، حذرًا من أن يلحظه أحدهما.

ردّ شهاب بصوت مرتجف، يحمل قلقًا حقيقيًا:

“لا، محدش عرف… بس قريب هيعرفوا… البوليس بيدوّر، وهُمّا نفسهم مش هيسكتوا… أنت ناسي إن جوز عمته لواء؟ ده لو شمّوا خبر إننا اللي وراها هنروح ورا الشمس.”

ابتسم ذكي ابتسامة صغيرة لا تخلو من الاستهزاء، وقال بثقة مستفزة:

“مش ناسي يا عم… بس ده مالوش أي لازمة طالما ما مسكوش حاجة عليك، مش هيخطر في بال واحد فيهم إنك إنت اللي ركبت الفتيل… فوق بقى يا صاحبي، وبلاش الخوف يلبسك كده، انشف… إحنا في أمان طول ما أنت ساكت.”

شعر أدهم بثقل في صدره، كأن الهواء من حوله صار أثقل من أن يتنفسه، فيما أخذت الكلمات تتردد في رأسه كدقات مطرقة لا تهدأ:


هو السبب… شهاب هو السبب.

لم يعد يسمع ضوضاء الشارع ولا وقع خطوات المارة، كل ما كان يعيه هو الحوار الدائر أمامه، ذلك الذي أخذ يرسم أمامه صورة كاملة لما جرى في الحريق.

مدّ شهاب يده بعصبية حادة، يلوّح بها في وجه ذكي وكأن الكلمات وحدها لم تعد تكفي للتعبير عن الغليان داخله، ثم همس بصوت مرتجف لكنه مشحون بالانفعال:

“بس أنا ما كنتش متخيل الموضوع يوصل لكده… المكان كله ولّع! وهما كانوا جوه!”

على النقيض، ظل ذكي ثابت الملامح، كأنه يحاول امتصاص الانفجار العاطفي أمامه، ثم مد يده بثقل وضغط على كتف شهاب، في حركة تحمل أكثر من معنى؛ مزيج من السيطرة، ومحاولة إحكام قبضته على الموقف:

“بس طلعوا، ومحدش فيهم اتأذى، وبعدين… أنت كنت عارف إن الخطة فيها خطورة، واللي حصل ده كان متوقع من فتيل بنزين… أنت كنت فاكره شمعة ولا إيه؟”

انخفضت عينا شهاب إلى الأرض، وترددت أنفاسه، قبل أن يرفع رأسه ببطء وصوت أكثر مرارة من الغضب:

“أنت استغلتني… استغلتني علشان تاخد حقك منهم، صح؟ كنت الأداة بتاعتك… صح؟”

توقف ذكي لحظة، حدّق فيه بنظرة طويلة يصعب تفسيرها، كأنها تجمع بين الاعتراف والإنكار في آن واحد، ثم قال ببرود عملي:

“الكلام ده صح أو غلط… مش وقته دلوقتي، خلاص… اللي حصل حصل.. واللي لازم تعمله دلوقتي إنك تنسى إننا كنا السبب فيه، وتعمل نفسك ما تعرفش حاجة.. أي كلمة زيادة هتغرقك… وهتغرقني، إحنا دلوقتي في مركب واحدة يا صاحبي.”

اقترب ذكي خطوة إضافية، حتى باتت المسافة بينه وبين شهاب ضيقة تحمل في طياتها شيئًا من التهديد المبطّن، ثم قال بصوت خافت لكنه قاطع:

“اسكت بقا… وأنا كمان هسكت… وهننسى، سامع؟ هننسى.”

كانت الكلمات تتسلل كالسكاكين الحادة إلى أذن أدهم المختبئ خلف الجدار، كل حرف منها يثقل صدره أكثر، حتى شعر أن الهواء من حوله أصبح أثقل من أن يُستنشَق.

أغمض عينيه بقوة، محاولًا طرد ما سمعه، لكن المشهد والصوت انطبعا في ذاكرته كوشم لا يُمحى.

ابتعد عن المكان بخطوات سريعة، وكأن الأرض من تحته أصبحت لا تحتمل وقوفه، حتى وجد نفسه يقف أسفل منزله.

هناك، وقف للحظات، صامتًا، يضغط على أسنانه ويفكر، كمن يحاول لملمة أفكاره المتناثرة بين الصدمة والغضب.

وأخيرًا، مد يده إلى جيبه، أخرج هاتفه، لامس الشاشة بلمسة مترددة لكنها حاسمة في الوقت نفسه، ووضعه على أذنه…. لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى التقط الطرف الآخر الاتصال، عندها خرج صوته جامدًا، مكسوًا بارتعاشة لم يستطع إخفاءها:

“موسى…”

_________________

مع مرور الوقت…

بدأ الهدوء المعتاد للحارة يتلاشى تحت وقع أصوات سيارات الشرطة التي شقت طريقها إلى هنا بسرعة، وصافراتها تمزق سكون المكان.

كان الضجيج كفيلًا بجذب العيون من كل صوب؛ من النوافذ والشرفات أطلت وجوه مترقبة، مثل شمس وابنتها عالية، تتبادلان النظرات بين الفضول والقلق، بينما على الأرض تجمّع المارة، منهم من كان في طريقه لقضاء شأنٍ فتوقف، ومنهم من خرج مسرعًا من بيته ليرى ما يحدث.

أمام الورشة، كانت المشهدية أكثر قسوة؛ عناصر الشرطة يخرجون شهاب وذكي، أيديهما مكبلة، ووجوههم مشدودة بالغضب والإنكار.

كانا يصرخان باعتراض، أصواتهما تختلط بضجيج الحارة، لكن خطواتهم الثقيلة على الإسفلت توقفت فجأة…

أمامهم، كان يقف صفٌ من الرجال كجدارٍ بشري؛ موسى وبقية الشباب، وأدهم واقفًا إلى جوارهم، ملامحهم متصلبة تحمل أثر الليلة الماضية، وإلى جانبهم داود وإخوته، وفاروق أيضًا، جميعهم ثابتون، أعينهم مسلطة على الموقف، كأنهم شهود لا يمكن تجاهل وجودهم.

في تلك اللحظة، تحركت نظرات شهاب وذكي ببطء نحو الصف الواقف أمامهما، تتأرجح بين التوتر والحذر، حتى انفرجت شفتا شهاب متلعثمًا بصوت مبحوح:

“أنا ماعملتش حاجة… ماعملتش حــ”

لكن كلماته انقطعت فجأة بارتطام لكمةٍ قوية اخترقت وجنته بقوة، دفعت رأسه جانبًا وارتد جسده قليلًا للخلف.

كانت قبضة سامي هي الفاعلة، تتوهج عروقه بالغضب وعيناه تقدحان شررًا، نظراته الحادة كسهامٍ تُغرز في جسد شهاب بلا رحمة.

تجمّد المكان لوهلة من هول المشهد، حتى إن الصدمة ارتسمت على وجوه أصدقاء سامي، ومن بينهم… أطلق محسن عبارة عفوية خرجت من فمه دون أن يعي:

“الحمد لله مش أنا.”

رفع شهاب رأسه ببطء، يلتقط أنفاسه، وعيناه تلتقيان بنظرة سامي التي لم تهتز، ثم حوّل سامي بصره إلى ذكي، الذي تراجع خطوة إلى الوراء، كأن الأرض فقدت أمانها تحته.

عندها، ارتسمت على شفتي سامي ابتسامة ساخرة، قبل أن يقول بصوت متماسك يقطر سخرية:

“لا… مش أنا اللي هعلّم عليك، صاحبك القديم هو اللي هينال الشرف ده.”

عقد ذكي حاجبيه بعدم فهم، لكنه لم يجد وقتًا للسؤال، إذ فجأة توقّف شخص أمامه، ظله يحجب عنه ضوء النهار.

كان كارم، يحدّق فيه ببرود مشوب باستهزاء، ثم انحنى قليلًا وأمسك رأسه بكلتا يديه بقوة، قائلًا بنبرة حادة:

“ما وحشتكش؟؟”

لم يكد ذكي يلتقط أنفاسه حتى كان رأس كارم يرتطم بعنف في منتصف وجهه… ارتجّ رأس ذكي للخلف وصرخة ألم مكتومة خرجت من حلقه، بينما انفجر الدم من أنفه في لحظة، ساخنًا وثقيلاً، يلون يديه وملابسه.

وبعدها، وكأن المشهد أمامه لم يكن سوى حلقة من مسلسلٍ اعتاد متابعته، أدار موسى رأسه بهدوء نحو الضابط، ملامحه جامدة لا تحمل أي انفعال، وصوته ثابت لكنه يحمل في أعماقه نبرة اكتفاء حاد:

“تقدر تاخدهم كده يا حضرة الظابط.”

لم يحتج الأمر إلى كلمات أكثر، فالإشارة كانت واضحة كالشمس…

اكتفى الضابط بإيماءة قصيرة، فأمر رجاله بتقييد شهاب وذكي بإحكام، أصوات القيود المعدنية وهي تنغلق حول معاصمهم بدت كأنها تُحكم الخاتمة على فصلٍ طويل من الفوضى، بينما تراجع الناس ببطء، والهمسات تنتشر بين الحاضرين.

في الخلف، بقي موسى والبقية ثابتين في أماكنهم، كأنهم أوتاد مغروسة في الأرض، لا تحرّكهم الفوضى من حولهم.

كانت عيونهم تلتهم تفاصيل المشهد حتى آخر نفس، وكأنهم يريدون أن يحفظوا في ذاكرتهم ملامح هذه اللحظة بكل تفاصيلها.

وحين التفت موسى نحو أدهم، كانت النظرة التي أرسلها أشبه برسالة صامتة، محمّلة بامتنان ثقيل لا يحتاج إلى كلمات… تلقّاها أدهم بابتسامة هادئة، تتقاطع فيها الراحة مع الاعتراف، فبادله موسى بنصف ابتسامة قبل أن يحوّل وجهه مجددًا نحو الشارع الممتد أمامه.

وقف هناك، يحدق في الأفق، وكأن داخله يطوي الصفحة بهدوء، حتى قبل أن تُطوى على أرض الواقع.

لم تكن النهاية، في نظره، مجرّد مغادرة الشرطة للمكان، بل كانت أشبه بإخماد الغليان الذي كان ينهش صدره… ومثلما شعر هو بالهدوء يتسلّل إليه، شعر به أيضًا بقية أصدقائه، كأنهم جميعًا تنفسوا الصعداء.

_________________

كانت تجلس بهدوء في مطبخ بيتها، تقلب الطعام على النار بينما تساعدها ابنتها عالية في تقطيع الخضار.

رائحة الطبخ تعبق في الجو، وصوت السكين على لوح التقطيع يملأ الفراغ… لكن فجأة، طرقات ثقيلة، عميقة، ارتطمت بالباب بقوة، كأنها تحمل خلفها عاصفة.

ارتجف جسد كل من شمس وعالية، تبادلا نظرات قلق، ثم أشارت شمس لابنتها بحدة، وصوتها منخفض لكنه حاسم:

“خليكِ هنا… أوعى تطلعي.”

تركت الملعقة جانبًا، ومسحت يديها بسرعة بمريولها قبل أن تتقدم نحو باب الشقة بخطوات متحفزة.

ما إن أدارت المفتاح وفتحت الباب، حتى اندفع منتصر كالثور الهائج، وجهه متوهج من الغضب، وعروقه بارزة، وهو يهتف بانفعال يكاد يقتلع الجدران:

“أنا هولع فيكِ إنتِ وابنك دلوقت؟!”

لم تهتز ملامح شمس، رغم أن قلبها خفق بقوة، ورفعت يدها أمامه كمن يصد عاصفة:

“وطي صوتك يا منتصر… ابنك غلط، وده جزاءه.”

اشتعل صوته في الغرفة، كأن الغضب يندفع من صدره مع كل كلمة:

“ابني محبوس دلوقت بسبب ابنك اللي سمع الكلمتين وراح قالهم للكلب اللي شغال عنده.”

وقفت شمس في مكانها، لا تتزحزح، وعيناها تلمعان بحدة وهي ترد بنبرة ثابتة نادرة الخروج وخاصة أمامه:

“ابني عمل اللي المفروض يتعمل… وابنك يستحق اللي هيحصل فيه، ده كان ممكن حد يموت بسببه.”

ضرب منتصر كفه بالجدار بعصبية، وصوته يعلو أكثر:

“ومحدش فيهم اتخدش حتى! وابني أنا اللي هيروح في ستين داهية بسبب ابنك! ومش عارف حتى أدفعله الزفت الكفالة بسبب نفوذ عم ابن***… وكله بسبب ابنك***، واللي وحياة ابني لو ظهر قدامي دلوقتي لهيحصل أبوه.”

اتسعت عينا شمس، وسرت رجفة باردة في أوصالها، وانقبض قلبها كأن يدًا خفية قبضت عليه.

في تلك اللحظة، اندفعت عالية من المطبخ، حجابها ينسحب عن رأسها مع كل خطوة، وملامحها مشتعلة بالجرأة، وهي تصرخ في وجه عمها بنبرة تتحدى:

“بدل ما أنت عامل راجل علينا كده، روح علّم ابنك الرجولة… ولا بقولك، اللي في السجن هيعلّموهالك كويس.”

ارتجف فك منتصر، وانكمشت عيناه في نظرة حادة كالسيف، قبل أن يخطو نحوها بعزم ليضربها، وهو يزمجر:

“يا بنت***.”

لكن شمس قفزت أمامها، جسدها حاجز من لحم ودم، وذراعاها مفتوحتان كأنهما جدار صدّ لا يقهر، تمنعه من الاقتراب.

توقف منتصر عندها، يرمقها بعينين تتطاير منهما شرارات الغضب، لكنه لمح في عينيها حدة لم يرها من قبل؛ صلابة كأنها نبتت في تلك اللحظة خصيصًا لمواجهته.

زفر بعمق، وكأن الغضب يحاول أن يجد مخرجًا من صدره، ثم أدار عينيه بين الاثنتين ببطء، وقال ببرود يخفي وراءه تهديدًا صريحًا:

“طالما عاملين فيها سبع رجالة في بعض… يبقى اسمعوا اللي هقوله دلوقتي.”

ساد صمت ثقيل لثوانٍ، حتى الهواء بدا وكأنه توقف عن الحركة، قبل أن يقطع منتصر السكون بصوته الغليظ وهو يثبت نظره في عيني شمس، كأنما يريد أن يحفر كلماته في قلبها:

“لو ابني ما طلعش النهاردة ورجع لبيته… هتكوني إنتِ وعيالك في الشارع قبل طلوع الفجر.”

ارتجفت شمس، وكأن كلمات منتصر لم تطرق أذنها فحسب، بل انغرست في قلبها كخنجر بارد. كانت تعرف أن تهديده الأول يعني مواجهة صعبة، لكن ما تفوه به الآن كان أدهى وأمرّ، وكأنه أزاح الغطاء عن جرح قديم لم تبرأ منه بعد.

حدق فيها بعينين ضيقتين، يلمع فيهما مزيج من المكر والشماتة، واقترب خطوة كأنه يستمتع بتمزيق سكينه النفسي لداخلها، قبل أن يقول ببطء، وكأن كل كلمة تُثبَّت عمدًا في أعماقها:

“أظن لو روحتِ لهم وطلبتِ منهم الطلب البسيط ده… في واحد معين مش هيرفض لك طلبك، صح؟ يا ست شمس.”

في تلك اللحظة، شعرت شمس أن الأرض تميد تحت قدميها، ليس خوفًا منه، بل من استدعاء الماضي _الذي حاولت دفنه_ وأمام ابنتها!

خفق قلبها بعنف، ووجهها اشتعل بحرارة لم تكن من الغضب فقط، بل من شعور بالمهانة المكشوفة أمام ابنتها.

وعالية من خلفها، كانت تحدق في منتصر بعيون واسعة، لا تدرك ما يقصده، لكنها رأت في ملامح أمها ما يكفي لتفهم أن الضربة أصابت مكانًا حساسًا.

ومنتصر، وهو يراها على هذا الحال، بدا وكأنه انتصر مؤقتًا، لكنه لم يدرِ أن النار التي أشعلها الآن قد تحرقه هو أولاً….

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق