رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الرابع والخمسون
الفصل الرابع والخمسون(صدمة صامتة)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
–
وكم من حبٍ قديمٍ ما زال يحيي في القلب ذكراه
.
”
أحمد شوقي
”
____________
_
جلس الجميع في الطابق الثاني، في شقة الحاج محمد، كان موسى وأصدقاؤه يجلسون بين والده وأعمامه، وجوههم نصف مطمئنة ونصف حذرة، بينما كان أدهم على مقعد مجاور،
بعد أن لحّوا عليه بالمجيء معهم، وكأن وجوده هنا تعبير عن امتنانهم له واعترافًا بدوره في ما حدث.
رفع محمد بصره، وعيناه تحاولان استعياب ما سمعه من أخبار:
“يعني طلع ابن منتصر هو اللي ورا الحريقة؟”
أجاب موسى بهدوء، كأن كلماته تحمل ثقل الوقائع:
“هو وزكي… هو اللي حرّضه كمان. لاقاه شايط مني قال ماأخدهاش فرصة، وراح مخليه ياخد حقهم هما الاتنين مني.”
علّق كارم بنبرة خشنة، مشحونة بغضب مكبوت:
“ده عيال ولاد ***، عايزين الحرق.”
سكت للحظة، ثم التفت إلى الحاج محمد وأضاف:
“لمؤاخذة يا حج محمد.”
ضحك بعض الحاضرين على نبرة كارم، بينما حرك أصدقاء موسى رؤوسهم بلغة تفيض حيلة ويأسًا من طباعه الطائشة.
ساد صمت قصير، حتى كسره سامي بصوت هادئ، رغم بقايا الغضب التي لم تفارقه:
“أهو خدوا جزاءهم، والفضل يرجع لأدهم.”
اتجهت كل الأنظار نحو أدهم دفعة واحدة، فشعر بوخز مفاجئ من الارتباك، رفع يده يفرك أسفل رقبته وهو يقول بصوت متردد:
“أنا ماعملتش غير اللي لازم يتعمل.”
رد داود بابتسامة امتنان تغمر وجهه:
“والله احنا مش عارفين نشكرك ازاي يابني، لولاك ماكناش هنعرف إنهم اللي عملوا كده.”
ابتسم أدهم بخجل، مكتفيًا برده على كلمات داود ونظرات الجميع الممتنة له، حتى تدخل محسن بنبرة صادقة مليئة بالإعجاب:
“بس بجد، أنت طلعت عشرة على عشرة يا أدهم، مش سهل على حد يبلغ عن ابن عمه.”
رد أدهم بغضب مكبوت:
“شهاب غلط، وكان لازم يتحاسب…”
سكت للحظة، ثم نطق بصوت هادئ لكنه يحمل شيئًا من الواقعية:
“وبعدين علاقتي بيه مش… أحسن حاجة.”
رد محمود بصوته الخشن، وكأن كلماته تحمل حزمًا ودرعًا من الحذر:
“جدع، أنت مش زيه، صحيح هو ابن عمك، بس خليك بعيد، ده تربية منتصر.”
تدخل موسى، صوته يفيض فضولًا، يتسلل إليه شيء من الدهشة وهو يسأل:
“هو حضرتك تعرفه يا عمي من زمان؟… يعني تعرف منتصر ده من زمان؟”
أومأ محمود بهدوء، عيناه لمعتا للحظة بظل ذكرى قديمة، قبل أن يقول بنبرة أقل خشونة مما اعتادوا:
“آه، كان زميل عمك أحمد في المدرسة.”
في تلك اللحظة انسكبت كل الأنظار على أحمد، ولم يستطع أدهم كبح فضوله، فانطلق صوته وهو يميل للأمام قليلًا، حاجباه منعقدان:
“طب هو كان عامل ازاي وقتها؟؟”
لم يتردد أحمد، خرج صوته فورًا، هادئاً ورتيب:
“زي ماهو دلوقتي، بنفس غباوته… كان عيل رزل، وبتاع مشاكل، ولسه والله.”
ارتسمت الدهشة على وجه موسى، كأن الصورة لم تكتمل بعد:
“بتاع مشاكل؟”
لكن أحمد قطع حيرته، صحّح كلماته بصراحة:
“لأ، عيل.”
انفجرت ضحكاتهم على وقع الكلمة الأخيرة، ضحكات طبيعية، صافية، خرجت بلا تكلف، كأنها لحظة نادرة للانفراج وسط التوتر المتراكم.
تسللت الضحكات إلى الجدران، ارتدت كصدى هشّ، وخلّفت وراءها دفئًا لم يدم طويلًا
…
إذ فجأة، رنّ هاتف مجهول في المكان.
تجمدت الضحكات في حناجرهم، توقفت كأن الزمن نفسه انكسر.. العيون كلها تحولت في لحظة نحو أدهم، الذي بدا محرجًا، يحاول أن يخفي ارتباكه وهو يخرج هاتفه ببطء، ثم قال بصوت متردد، شبه هامس:
“دي ماما.”
أشار له محمد بهدوء، بصوت مُطمئن أشبه بقرار لا يقبل النقاش:
“روح رد عليها.”
أومأ
أدهم ببطء، ثم نهض بهدوء، استأذن بعينيه قبل لسانه، واتجه إلى الشرفة، رفع الهاتف، لحظة قصيرة مرت قبل أن يعود بخطوات محسوبة، نبرة صوته أكثر هدوءًا وتركيزًا:
“موسى.”
رفع موسى رأسه بسرعة، والترقب يلمع في عينيه؛ فأضاف أدهم بصوت هادئ:
“ماما عايزاك في كلمتين، هي تحت.”
تعجب موسى، عيناه اتسعتا لثانية، قبل أن يُسلم للأمر، ويقول بتروٍ:
“ماشي.”
ألقى موسى نظرة سريعة نحو الكبار، نظرة محمّلة بالاستئذان الصامت، قبل أن يتحرك مع أدهم نحو الباب، تحت أعين مصطفى الذي كان يتابعهم بعينين ضيّقتين، يقظة، مليئة بالترقب.
هبطا الدرج بخطوات متزنة، حتى بلغا مدخل البيت… وهناك كانت شمس واقفة، ثابتة الجسد، لكن ارتباك ملامحها يفضح صراعًا داخليًا لم تهدأ نيرانه بعد.
اقتربا منها بحذر، كأن خطواتهما تقيس المسافة الفاصلة بين سؤال معلّق وإجابة مجهولة، وعندما صارا أمامها تمامًا، فُتح فمها ببطء، وتدفقت الكلمات ضعيفة، معتذرة:
“آسفة علشان نزلتك.”
ارتسمت على شفتي موسى ابتسامة صغيرة، وأجاب بصوت منخفض:
“لا ولا يهمك يا خالتي… أؤمريني.”
سكنت لحظة، كأنها تعارك داخلها جيوشًا من الحذر، تلتقط أنفاسها وتعيد ترتيب الكلمات قبل أن تسمح لها بالانفلات.
عيناها تائهتان، تبحثان عن صياغة لا تخونها، بينما موسى يحدق فيها مترقبًا، وعيناه تفضحان خليطًا من الفضول والاحترام، وأدهم بجواره، واقفًا على أطراف صمته، يحاول أن يقرأ المعنى المختبئ خلف وقفات والدته، خلف ارتجاف النظرات المترددة.
وأخيرًا، رفعت شمس عينيها نحوه، كأنها تُسلم نفسها لجرأة اللحظة، وقالت بصوت خافت، حاولت أن تجعله طبيعيًا، لكنه خرج متثاقلًا، محمّلًا بما تعجز عن إخفائه:
“كنت… كنت عايزة أطلب منك طلب.”
_________________
جلس على المقعد الخشبي كمن يزرع نفسه في الأرض، ثابتًا في موضعه رغم القلق الذي يفتك بداخله، كان يحدق في الطريق بعينين ضيقتين، كأنهما لن تسمحا بمرور أي حركة دون أن تلتقطها.
الأرجيلة بين يديه تُطفئ لهفة صدره ببعض الدخان المتقطع، بينما قدمه المرتفعة فوق الأخرى توحي ببرود مُفتعل، يخفي تحته رجفة الانتظار.
لم تمضِ دقائق طويلة حتى ظهرت أمامه، تمشي بخطوات وئيدة، وإلى جوارها ابنها، وفي اللحظة التي وقعت فيها عيناه عليهما، انكمشت عضلات جسده، كوحش كان في سباته واستيقظ دفعة واحدة.
نهض بقوة من على المقعد، واقترب ليقطع عليهما الطريق قبل أن يصلان إلى باب البيت:
“استني.”
خرج صوته خشناً، كأنه جدار يحول دون أي خطوة إضافية.
توقف الاثنان، والتفتت شمس نحوه بملامح ثابتة رغم التوتر الذي سكن عينيها، فيما بدا أدهم ثابتاً بشكل مريب.
اقترب منتصر أكثر، صوته هذه المرة صارم، جاف لا يحمل بقايا لين:
“عملتي إيه؟؟ ابني هيطلع؟؟”
عمّ الصمت لحظة، كأن كل ما حولهم انسحب بعيدًا، ولم يتبقَ سوى هذا المثلث المتوتر عند عتبة البيت.
أخفضت شمس رأسها قليلًا، ثم رفعت نظرها نحوه، وحدها نبرتها كانت مختلفة… هادئة على نحو بدا مقصودًا، كمن يقاوم الانكسار:
“استنى ساعة… بس.”
ترددت كلماتها في صدره كجرس أخير يعلن انتصاره، تمددت ابتسامة واسعة على ثغره، لم تكن ابتسامة فرح بريء، بل ابتسامة رجل اعتاد أن يقيس الأشياء بميزان القوة والهيمنة.
رفع ذقنه قليلاً، وقال بصوته الممزوج بالرضا والتهديد معًا:
“برافو عليكِ، عملتي الصح… ليكِ، ولولادك.”
ثبتت عيناه على ملامحها كمن يريد أن يلتقط من وجوه الآخرين اعترافًا بسلطته، لكن شمس لم تمنحه أكثر من نظرة صلبة، نظرة امرأة لم تعد تنكسر رغم الجرح.
وإلى جوارها وقف أدهم، نظراته بدت كسهم صامت يتوعد، لكنه ظل متماسكًا، كأن صمته وحده إعلان تحدٍ.
ثم مالت شمس برأسها نحو ابنها، تهمس له بصرامة ناعمة:
“يلا يا أدهم.”
أطاعها بخطوات محسوبة، وتقدما للداخل تحت نظرات منتصر الذي ظل واقفًا في موضعه، يراقب انصرافهما، وعيناه تلتهمان المشهد كصياد يظن أنه أمسك فريسته.
ازدادت ابتسامته اتساعًا، ابتسامة متعجرفة تلمع فيها نشوة الظفر… نشوة رجل يرى في كل خطوة منهما ابتعادًا انحناءة خفية لسلطته.
شعر بلذة مزدوجة؛ لذة انتزاع ما أراد، ولذة كسر كبريائها مرة أخرى، كمن يثأر من صلابة لم تعجبه يومًا.
جلس من جديد على المقعد الخشبي، يسند ظهره ويضع أرجيلته بين يديه، ينفث دخانها في الهواء ببطء شديد، كأنما يوزع إعلان انتصاره على الفراغ من حوله.
كان يحتفل بنصرٍ صغير، نصرٍ صنعه بخياله أكثر مما صنعته الحقيقة… غير مدرك أن ذلك النصر لم يكن إلا وهجًا زائفًا يوشك أن ينطفئ.
_________________
بعد ما يُقارب الساعة…
ظل منتصر جالسًا في مكانه، الأرجيلة ما زالت بين يديه، دخانها يتلاشى في الهواء، فيما عيناه معلقتان على الطريق.
كان قلبه يترقب، يلهج بصبرٍ مشوبٍ بالقلق، ينتظر أن يطل عليه ابنه في أي لحظة، كأن ظهوره وحده هو الخاتمة الطبيعية لذلك النصر الذي أقنع نفسه أنه حققه.
لكن الغريب أن القادم لم يكن ابنه… بل سيارة سوداء توقفت أمامه تمامًا، محركها خفت صوته تدريجيًا، تاركًا خلفه سكونًا مشحونًا بالريبة.
نهض منتصر من مجلسه ببطء، ملامحه مشدودة، خطواته محسوبة نحو السيارة، يحاول أن يتبين صاحبها… غير أن التساؤل انطفأ فجأة حين فُتحت الأبواب الأمامية معًا، وانبثق من الداخل شخصان يعرفهما تمام المعرفة.
اتسعت حدقتاه، وتوقف جسده في مكانه كمن جمده الوقت، حين وقعت عيناه على موسى بوقفته المستهزئة، وعلى مقعد السائق مصطفى الذي ترجل هو الآخر بخطوات ثابتة، يرمقه بنظرة مقتضبة صارمة، لا تحمل أي ودّ ولا مجاملة.
بينما موسى، بابتسامة ساخرة لم تفارق ثغره، قال بنبرة مستهزئة:
“إيه الأخبار يا حج منتصر؟”
وبصوتٍ يقطر جمودًا وانفعالًا، حاول أن يخفي ارتباكه خلف نبرة حادة:
“إنتوا إيه اللي جابكم هنا؟”
رفع موسى حاجبه الأيسر، وابتسامة لئيمة تتسلل إلى وجهه وهو يتلذذ بمشهد ارتباك منتصر… لم يمنحه إجابة، بل اكتفى بأن يدير رأسه ببطء، تاركًا عينيه تنزلقان إلى مدخل البيت.
التقط منتصر تلك النظرة فورًا، فاندفعت عيناه في الاتجاه ذاته، وما إن وقعت على المدخل حتى اتسعت أكثر، وارتسمت على وجهه ملامح صدمة متشنجة.
هناك، خرجت شمس أولًا تسحب حقيبة خلفها، يتبعها أدهم بثبات، ممسكًا بحقيبة أخرى، ثم عالية وهي تحمل حقيبة كبيرة نسيباً على كتفها، وتسحب حقيبة أخرى تكاد تضاهي حجمها.
في تلك اللحظة، شعر منتصر وكأن يدًا خفية هوت على وجهه بصفعة قاسية، صفعة بددت آخر بقايا ابتسامته التي لم يكد يفرغ من رسمها.
تشققت روحه تحت وطأة المنظر، وانطفأ في داخله ذلك اليقين الزائف بأنه ما زال ممسكًا بزمام الأمور.
ظل واقفًا في مكانه كتمثال حجري، عيناه متسمّرتان على الحقائب وهي تغادر عتبة البيت، كأنها تقتلع شيئًا من صدره مع كل خطوة، قلبه يدق بعنف، طبولًا غاضبة تعلن اقتراب كارثة لم يرد لها أن تأتي.
وزاد الطين بلّة حين رأى موسى يتقدم بخطوات واثقة نحو شمس، يمد يده بخفة مألوفة، ويأخذ منها الحقيبة قائلاً بصوت هادئ كطعنة في خاصرته:
“عنك يا خالتي.”
لم يمهلها موسى فرصة للاعتراض، خطف الحقيبة منها وحملها بذراعه السليمة، ثم اتجه بها بخفة يضعها في صندوق سيارة مصطفى.
وعلى الجانب الآخر، كان مصطفى يعيد المشهد ذاته مع عالية؛ يأخذ منها الحقائب بصمت وبسمة هادئة، يضعها في الصندوق دون أن ينظر حتى إلى منتصر… وحين انتهى، مد يده إلى أدهم وأخذ حقيبته أيضًا، يضيفها إلى الكومة المتزايدة داخل الصندوق.
كل ذلك جرى في لحظات، لكنه بالنسبة إلى منتصر كان دهورًا متراكمة… عيناه لا تصدقان، عقله يأبى أن يدرك ما يحدث، وكأن الزمن خان تحالفه معه وتركه واقفًا على الهامش، مجرد متفرّجٍ على انهيار قلعته أمام عينيه.
وبصوتٍ متحشرج يختلط فيه الغضب بالذهول، انفجر بصوت عالٍ:
“إيه ده؟؟ أنتم رايحين فين؟”
لكن الجواب جاءه كالسهم من أدهم، صوته حاد، قاطع، لا يحمل أي مساحة للنقاش:
“مش إنت خيرتها؟… هي اختارت، مالكش حاجة عندنا بقى، إنت من طريق… وإحنا من طريق.”
أنهى جملته وهو يفتح باب السيارة الخلفي بثبات، لتصعد عالية أوّلًا، تتبعها شمس بخطوات متردّدة لكنها واثقة، وكلتاهما تلقيان بنظرات مشتعلة صوب منتصر، نظرات تحمل في طيّاتها غضباَ واضحاً واشمئزازًا عميقًا.
أما منتصر، فقد بدا كمن انقلبت به الدنيا فجأة… وقف مذهولًا، عيناه تتقافزان بين الوجوه وبين الحقائب، وعقله يرفض قبول ما يجري.
اندفع جسده بلا وعي نحو السيارة، وصوته يعلو بانفعالٍ يكاد يخرق صدره:
“محدّش فيكم هيتحرّك من هنا خطوة!”
لكن، وقبل أن يخطو أكثر، انبرى مصطفى أمامه فجأة، كجدارٍ صلبٍ لا يمكن تجاوزه… وقف قبالته بثبات، كتفاه العريضتان تشكّلان حاجزًا محكمًا، وعيناه تشتعلان بالجمود والقرف.
اقترب منه قليلًا، حتى صار صوته أشبه بحدّ السكين حين اخترق الصمت، خافتًا لكنه حاسم، بالكاد وصل إلى أذن منتصر:
“مكانك… إياك تقدّم خطوة.”
طالعه منتصر بعينين متقدتين، نظراته حادة، تنبش في وجه مصطفى كمن يحاول أن يثقب جدارًا من صخر، لكنه اصطدم بصلابةٍ أشدّ من صلابته.
لم يجد أمامه ترددًا ولا خوفًا، بل وجد عيون مصطفى؛ ثابتة، باردة، وكأنها مرآة تعكس ضعفًا لم يشأ أن يعترف به.
اقترب مصطفى قليلًا، صوته خرج منخفضًا، رزينًا، لكنه ينفذ كالرصاص:
“كلامك معاهم خلص… وعلاقتك بيهم اتقطعت، وزي ما قالك أدهم من شوية، إنت من طريق… وهُم من طريق، ولو بقى فكّرت توقف في طريقهم… هتلاقيني قدامك، زي دلوقتي كده.”
ساد الصمت لحظة، لحظة ثقيلة كأنها تزن على صدر منتصر، حتى جاء صوت مصطفى من جديد، أهدأ لكنه أشد وقعًا:
“خليني أقولك… إن اللي يعرفني كويس، عارف إني ماليش في المشاكل، طول عمري ماشي جنب الحيط، ولا ليا ولا عليا، بس لو حابب تكون إنت أول واحد يشوف مني اللي محدش شافه قبل كده… جرّب تبص لهم بس، وأنا ورحمة أمي… لأخليك عبرة، للّي يسوى واللي ما يسواش.”
هنا، تراجع مصطفى خطوة للخلف، لكنه ظل واقفًا كحاجزٍ بشريٍّ لا يمكن تجاوزه، عينيه لا تزيغان عن عيني منتصر، صوته الأخير انطلق كالقفل الحديدي الذي يُغلق كل الأبواب:
“مش هطوّل في الكلام معاك… عشان ماتعودش أتكلم مع اللي أقل مني، بس حط كلامي حلقة في ودنك يا منتصر، اعرف حدودك… واعرف اللي قدامك ده يبقى مين… وأنت مين.”
كان وقع كلماته على صدر منتصر كالطعنة الغادرة؛ لم تكن حادة تُنهي الجرح بسرعة، بل باردة، غائرة، تتغلغل ببطء، تُبقي الألم متواصلاً كأنها تريد إذلاله قبل أن تقتله.
ومنتصر،
وقف متيبسًا في مكانه، فمه نصف مفتوح، لكن لسانه مشلول، لا يقوى على نطق كلمة، وكأن الهواء قد تجمد في صدره. عيناه المتسعتان تابعتا خطوات مصطفى وهو يبتعد عنه بخطوات هادئة راسخة، كمن ألقى قنبلته ورحل مطمئنًا، واثقًا من أثرها.
أما أدهم، الذي لم يسمع تفاصيل ما دار، اكتفى بمتابعة المشهد من بعيد، كان يراقب مصطفى بنظرات يملؤها الإعجاب، وكأنه يكتشف فيه شيئًا جديدًا لم يره من قبل، وقد ابتسم بدون وعي وهو يرى وجه منتصر، الذي بدا كأنه تلقى صفعة صامتة… عندها شعر بشيء من الارتياح، كأن صدره برد قليلًا بعدما رأى عمه يقف هكذا.
وبجواره، كان موسى يبتسم ابتسامة لا تخلو من خبث، لكنها مشوبة بارتياح داخلي، وهو يطالع منتصر الذي بدا وكأنه غُسل فجأة بماء بارد في ليلة شتاء، راعشًا، مذهولًا، غير قادر على تصديق ما سمعه.
وقد أدرك موسى من تعابير وجهه وحدها، أن منتصر سمع من عمه ما لم يسمعه أحدٌ من قبل؛ إذ أن الرجل المعروف بهدوئه وابتعاده عن الخصام، قد أفصح هذه المرة عن غضبٍ دفين لا يظهر إلا حين يُستفز جوهره.
في تلك اللحظة، لم يعد منتصر يرى أمامه سوى فراغٍ يبتلعه، وكأن كلماته التي لم يستطع نطقها قد ارتدت إلى أعماقه لتخنقه… ولأول مرة، يشعر أن الأرض التي طالما وقف عليها بثقة قد سُحبت من تحت قدميه، ولم يُترك له سوى مرآةٍ يرى فيها حجمه الحقيقي بلا زيف، وبلا أقنعة.
تحرّك مصطفى بخطوات واثقة، حتى توقف أمام أدهم، وضع يده على كتفه بلمسة حانية، ثم قال بصوتٍ هادئ:
“يلا اركب.”
أومأ أدهم ممتنًا، وارتسمت على وجهه ابتسامة خفيفة تُخفي الكثير مما يختلج داخله، ثم فتح الباب وصعد ليجلس بجوار والدته.
وهناك، انشغلت عيناها بمصطفى، نظرات لم تدم طويلًا، فما إن التقت عينيه بها حتى سارعت إلى صرف بصرها بعيدًا.
شعر مصطفى بانقباضٍ في صدره، فابتلع ريقه على مضض وتنهد طويلًا، قبل أن يتجه ليفتح الباب الأمامي ويشير لموسى:
“يلا اركب.”
صعد موسى بهدوء، ثم تبعه مصطفى الذي جلس خلف المقود، بدأ بقيادة السيارة، محاولًا أن يُثبّت تركيزه على الطريق، غير أن المرآة الأمامية كانت خيانته الوحيدة، فكلما أدار المقود، سرق منها نظرة نحوها… نظرة سريعة لكنها مثقلة بالكثير والكثير.
_________________
فتح أدهم الباب بالمفتاح الذي أودعه إياه مصطفى، دخل بخطوات هادئة يتقدّم شقيقته الكبرى، فيما ظلّت شمس واقفة عند العتبة.
عيناها تجوّلت في أرجاء المكان قبل أن تخطو خطوة واحدة، وكأن جدرانه نفضت عنها الغبار لتستقبلها من جديد.
وقفت مشدوهة، لا تكاد تصدّق أنّها تعود بعد كل تلك السنين… أربعة وعشرون عامًا كاملة مرّت، والمكان بقي كما هو في ذاكرتها؛ الصمت نفسه، الرائحة نفسها التي ظنّت أنها تلاشت…. كل شيء بدا وكأن الزمن تجمّد هنا، بينما هي وحدها من تغيّرت.
ارتجف قلبها وهي تتذكّر ما جرى قبل ساعات قليلة، حين كانت واقفة أمام موسى.
FLASHBACK
“كنت… كنت عايزة أطلب منك طلب.”
رفع موسى رأسه نحوها، وبهدوءه المعهود أجاب بلطف:
“اتفضلي… أنا تحت أمرك.”
بلّلت شفتيها
الجافتين، وثبّتت نظراتها المرتعشة عليه، بينما عقلها يشتعل بالتساؤلات:
هل تطلب منه أن يتنازل عن الشكوى؟ أن يخرج ذاك الشاب من السجن كي لا تُطرد هي وأولادها من بيتهم؟
لكن… أليس في ذلك أنانية فادحة؟ أن تضحي بحقّه في سبيل راحتها؟
تلاطمت الأفكار داخلها، كأمواج متكسّرة على صخرٍ صلب، لا تستقر على قرار.
مرت لحظات الصمت ثقيلة، حتى بدت كأنها ساعات، جعلت القلق يتسرّب إلى قلب موسى وإلى قلب أدهم الذي لم يحتمل فألقى سؤاله بلهفة:
“فيه إيه يا ماما؟ عايزة إيه من موسى؟”
التفتت إليه، وحدّقت في عينيه… تساءلت في داخلها: لو نطقت بما تفكر فيه، ماذا سيكون رد فعله؟ ألن يكون صاعقًا، مثلما كان رد فعل شقيقته من قبل؟ عندما انفجرت في وجهها قائلة:
“يطردنا يا ماما! وماله يطردنا ونعيش في الشارع! أحسن ما تنزلي من نفسك قدام الناس علشان يطلّعوا له ابنه!”
كانت تلك الكلمات لا تزال ترنّ في أذنيها كصفعة موجعة…
ارتجفت، ثم أغلقت عينيها محاولة أن تطرد حيرتها، وعندما فتحتها من جديد، استجمعت ما تبقى من قوتها وقالت بصوت متردد:
“ولا حاجة يا بني… موضوع مش مهم… يلا يا أدهم.”
أمسكت بيد ابنها، مستعدة لتغادر وتدفن الأمر كله تحت طبقات من الصمت، لكن خطواتها لم تكتمل… إذ استوقفها صوت موسى، حازمًا هذه المرة:
“استني يا خالتي.”
تجمّدت في مكانها، التفتت نحوه ببطء، فوجدته يقترب منها بخطوات واثقة حتى صار أمامها، ونظراته تبحث في وجهها كأنها تقرأ أسرارها، ثم سألها بجدية:
“في إيه؟ في حاجة حصلت… صح؟”
تجمّدت خطوات أدهم وهو يتأمل والدته بعينين يملؤهما القلق، من ارتجافة يدها وصمتها الموحش أدرك أن شيئًا يُثقل صدرها؛ فخرج صوته مترددًا، بطيئًا:
“هو… عمي قالك حاجة؟”
لم تجبه شمس، فقط نظرت إليه نظرة حائرة تحمل أكثر مما تستطيع الكلمات البوح به، وكأنها تستنجد بالصمت كي لا يفضحها.
وتلك النظرة كانت كافية لتُشعل قلق موسى الذي سارع بنبرة حادة:
“منتصر قالك إيه ياخالتي؟… هددك بحاجة؟”
ارتبكت شمس، ارتسمت على شفتيها بسمة واهية لا تقوى على إخفاء توترها، وقالت بصوت مصطنع الهدوء:
“ولا حاجة يا موسى… مفيش حاجة ياابني. يلا اطلع لأهلك.”
أرادت أن تنهي الأمر بخطوات سريعة، لكن كلمات موسى لحقتها كالسهم وأوقفتها مكانها:
“لو ماقلتيش… هروح وأسأله على فكرة.”
توقفت شمس، وكأن الأرض جمدت تحت قدميها، انقبض قلبها بقوة، تعرف أن موسى لا يمزح، وأن صمته لو استمر سيتحوّل إلى مواجهة مباشرة مع منتصر، مواجهة قد تُشعل نيرانًا جديدة.
صمت ثقيل خيّم على المكان، حتى أن أنفاسها باتت تُسمع واضحة، ظل أدهم يطالعها بعينين مرتجفتين، وموسى واقف في مكانه ينتظر منها ردًّا يقطع هذا الخيط المشدود بينهما جميعًا.
وأخيرًا، بعد معركة شرسة دارت رحاها داخلها، معركة لم يُسمع فيها صخب السيوف بل كان صداها في رأسها وقلبها، استسلمت شمس لثقل الحقيقة.
في تلك اللحظة، شعرت أن المعركة قد وضعت أوزارها، وأنها اتخذت قرارها… رفعت رأسها نحوه بعينين مثقلتين، تحملان بقايا التردد، لكنّهما تشعّان بلمحة عزيمة خافتة، ثم استجمعت أنفاسها… وقررت أن تخبره.
.
.
.
.
اتسعت عينا أدهم وموسى في آنٍ واحد، كأن الكلمات التي نطقت بها شمس قد وقعت عليهما كالصاعقة.
كان وقعها أثقل من أن يُحتمل، فارتجف قلب موسى وهو يردد بذهول، وصوته يحمل خليطًا من الغضب والاستنكار:
“يطردكم؟!… يطردكم علشان أنا أتنازل عن المحضر؟!”
سكت لحظة ثم رفع يديه إلى رأسه وكأن عقله يأبى استيعاب ما سمعه، وتابع بصوت متكسر بالدهشة والخذلان:
“هو في حد ممكن يعمل كده في مرات وولاد أخوه الميت؟!”
كانت الصدمة لا تزال مرتسمة على ملامح موسى، عينيه متسعتين، وصدره يعلو ويهبط باضطراب.
أما أدهم فقد ظل يحدق في دموع والدته التي انسابت بصمت، دموعٌ صارت أبلغ من أي اعتراف أو شرح.
بقي ساكنًا لحظة، كأن الزمن تجمد، ثم ابتلع ريقه أخيرًا ورفع رأسه بثبات مفاجئ لم تتوقعه شمس، وقال بنبرةٍ حازمة:
“خليه يعمل اللي يعمله يا ماما… لو عايز يطردنا يطردنا، ابنه هو اللي عمل كده في نفسه… يستحمل بقى اللي يجراله.”
ارتجفت شمس وهي تنظر إليه، بعينيها خليط من الأسى والعجز، فهي تدرك أنهم باتوا تحت رحمة رجل لا يرحم، وأن كلام ابنها مهما بدا صلبًا، لن يغير حقيقة أنهم بلا حول ولا قوة أمام قسوة منتصر.
لكن صوت موسى قطع شرودها، جاء منخفضًا أولًا ثم ما لبث أن اشتد، جادًا صارمًا:
“مش هيسيبكم في حالكم.”
التفت كلاهما نحوه في آنٍ واحد، نظراتهما متسائلة، فواصل موسى بصرامةٍ أكثر، وعيناه تتألقان بجدية:
“عمك مش هيسيـبكم… حتى لو ما طردكوش من البيت، هيسوّد عيشتكم يا أدهم.”
ساد الصمت لحظة، قبل أن يرد أدهم بنفس الثبات الذي تحدث به من قبل، وكأن الكلمات لا تزيده إلا عنادًا:
“يعمل اللي يعمله بقى يا موسى… لو عايز يطردنا، يطردنا.”
ارتسمت على وجه شمس نظرة مزيج بين فخرٍ وخوف؛ فخرٌ بصلابة ابنها، وخوفٌ مما قد يحمله الغد من قسوةٍ أشد.
خيم الصمت لثوانٍ ثقيلة، العيون معلّقة بالفراغ، كل منهم غارق في دوامة أفكاره، حتى اخترق ذلك السكون صوت مألوف، وهادئ في نبرته لكنه محمّل بالثقة:
“أنا عندي حل.”
ارتفعت الرؤوس دفعة واحدة، التفتت الأعين صوب مصدر الصوت… كان مصطفى يقف عند دخل العمارة.
تقدّم بخطوات ثابتة، وعيناه تجولان بينهم قبل أن يتوقف أمامهم مباشرة، ويردف بنبرةٍ تحمل يقينًا لا يقبل التشكيك:
“أنا عندي حل للمشكلة دي.”
طالعوه جميعًا بعيون متسائلة، مترقبة لما سيقوله، حتى تابع مصطفى بنفس النبرة الواثقة، دون أن يرف له جفن:
“قبل ما يطردكم… سيبوا له البيت أنتم.”
تسمروا في أماكنهم، وارتسمت الصدمة على وجوه الثلاثة دفعة واحدة، كأن كلماته قد نزلت عليهم بغتة لم يتوقعوها.
تبادلت شمس وأدهم النظرات، بينما ظلّ موسى يتأمل الفكرة لبرهة، قبل أن تنفرج شفتاه عن ابتسامة سريعة، كأنه التقط الخيط الذي عجزا عن رؤيته، وقال مؤيدًا بحماس:
“صح! ده أحسن حل، لازم تسيبوا له البيت…. وأنا أقدر أستأجرلكم بيت جديد، متشيلوش هم.”
ارتجفت شفتا شمس قبل أن تنطق، كأن الكلمات تثقل عليها، ثم قالت بصوت مبحوح:
“لأ يابني… أنت مش مضطر تعمل كده.”
ساد الصمت لحظة قصيرة، وعندما فتح موسى فمه ليقنعها، تقدم مصطفى خطوة، وعيناه تلمعان بعزمٍ هادئ وهو يقول:
“مفيش داعي لاستئجار بيت… البيت موجود.”
تبادل شمس وأدهم النظرات وقد ارتسمت الحيرة على وجهيهما، بينما بدا أن موسى قد فهم المقصود سريعًا، إذ ظهرت على ملامحه لمحة ارتياحٍ خفي.
رفع كلٌّ من شمس وأدهم حاجبيه بعدم فهم، حتى أردف مصطفى بصوت حاسم لم يترك مجالًا للشك:
“شقتي موجودة.”
اتسعت أعين شمس، وشهقت بصوتٍ خافت وهي تحدّق في مصطفى طويلاً.
لم يكن مجرد عرضٍ عابر بالنسبة لها، بل بوابة أعادت فتح كل الذكريات التي ظنّت أنها أغلقتها منذ زمن بعيد، مرّ أمامها شريط حياتها معه: الضحكات القديمة، المواقف الصغيرة، والخذلان الكبير.
شعرت بوخزة في صدرها، كأنها تستعيد جرحًا لم يلتئم بعد، وبسرعة حرّكت رأسها نافية، تائهة بين الخوف والرفض، وقالت بارتباكٍ واضح:
“لا، لا… لا ماينفعش.”
لم يتركها موسى تُكمِل، بل اندفع سريعًا يتدخل، وفي نبرته تلك اللمحة الخبيثة التي لا تُخطئها الأذن:
“ليه ماينفعش ياخالتي؟ ده حل ممتاز، أنتِ هتيجوا تسكنوا هنا، وعمي أصلاً ساكن مع جدي من ساعة ما اتجوزت، والشقة فاضية… صح ياعمي؟”
أومأ مصطفى بثبات وهو يؤكد:
“صح، وكمان أنتم عارفين الناس هنا… يعني مش هتروحوا في حتة غريبة، تقدروا تفضلوا فيها لحد ما تلاقوا بيت تاني… وزي ما قال موسى، هي فاضية وماحدش ساكنها.”
وبعد إلحاحٍ متواصل وضغطٍ ثقيل، لم يترك لهما مصطفى وموسى منفذًا للرفض… كان كلما حاولت شمس أن تعترض، يقطعها مصطفى بكلماتٍ ثابتة لا مجال لمجادلتها، فيما يتسلل موسى بدهائه بين ثنايا الحوار، يلوّن كلماته بحججٍ ظاهرها الرحمة وباطنها الإصرار.
ورغم محاولات شمس في التمسك برفضها، في النهاية… استسلمت، ووافقت.
Back
عادت من الذكرى على صوت ابنتها وهي تقول برقةٍ متحفظة:
“واقفة كده ليه يا ماما؟ يلا ادخلي.”
رفعت شمس رأسها ببطء، كأنها تُجبره على مقاومة ثِقَلٍ هائل، ثم التقت عيناها بعيني ابنتها لحظة قصيرة قبل أن تُشيح بوجهها.
تنهدت تنهيدة مثقلة، وكأنها تفرغ صدراً متخمًا بسنواتٍ كاملة، ثم خطت إلى الداخل خطوة مترددة، تشبه من يمشي نحو ماضٍ يعرف أنه سيُدمّيه.
وما إن تخطّت العتبة حتى انفتحت بوابة الذاكرة دون استئذان؛ عيناها جالتا في أركان الشقة كمن يقرأ كتابًا مفتوح الصفحات.
هنا جلسا معًا يضحكان بلا قيد، وهناك تشاركَا أولى ملامح أحلامهما، في هذا الركن كانت تضع طعامًا ينتظره بشغف، وفي ذاك الموضع كان يترك همومه ليشاركها قلبه… كان هذا المكان قصرها المتواضع، عشّها الصغير الذي ضمّ أرق لحظاتها وأصدقها.
لكن في اللحظة ذاتها، انقلب الدفء إلى جمرٍ يلسع قلبها؛ المكان ذاته الذي احتضن حبّها، شهد أيضًا خذلانها الأكبر… الجدران التي سمعت ضحكاتها ذات يوم، سمعت كذلك بكاءها الصامت وهي تخفي انكسارها… الأركان التي عرفت حُبّها، عرفت في الوقت نفسه لحظة انهيارها وخزيها.
توقفت في منتصف الصالة، تتأمل بعينين يكسوهما بريق الذكرى، ويعصف بهما وجعٌ دفين… لم تكن الشقة مجرد جدران وأثاث، بل مرآة صادقة لماضيها؛ وجه يبتسم، ووجه يبكي، وكلاهما يحدّقان فيها بلا رحمة.
تنهدت شمس بثقل وزفرت أنفاسها وكأنها تزيح عن صدرها صخرة جاثمة، ثم رفعت عينيها إلى ولديها اللذين كانا يتجولان في أرجاء الشقة، يتبادلان التعليقات بحماسةٍ طفولية:
قال أدهم وهو يتأمل السقف والجدران:
“الشقة هنا أوسع من التانية.”
أومأت عالية مؤيدة، ثم أضافت بابتسامة صغيرة:
“صح، بس الأوض قليلة… بس مساحتها كبيرة.”
تقدّم أدهم نحو إحدى الغرف وهو يومئ برأسه:
“مظبوط، تعالى كده… تقريباً دي أوضة…”
لكن قبل أن يكمل، قطع جملته صوتٌ مفاجئ، صوت أمهما وهي تقول بهدوء خافت:
“أوضة النوم.”
تجمّدا لحظة، ثم التفتت أعينهما إليها بدهشة.. اقتربت عالية ودفعت الباب ببطء، لتكشف عن غرفة النوم بالفعل.
التفتت إلى أمها بعينين متسائلتين:
“عرفتي إزاي؟”
أدركت شمس ما تفوّهت به للتو، كأنها أطلقت سرًّا لم يكن يجب أن يُقال، فأسرعت تُغطي انفعالها بكلمات مبعثرة، محاولة أن تُضفي عليها مسحة طبيعية:
“خمنت… يعني من مكانها حسّيت إنها أوضة النوم.”
نظر إليها الاثنان سريعًا، ثم تبادلا إيماءة خافتة، اكتفيا بها كتسليمٍ لإجابتها.
لم يلتقطا ما وراء الكلمات، بينما في داخلها كانت ترتجف من وقع الحقيقة التي كادت تفلت من فمها.
وبسرعة، حاولت أن تُغيّر مجرى الحديث، فقالت:
“يلا… كل واحد ياخد شنطته ويدخلها أوضته، أدهم هياخد أوضة، وأنا وانت يا عالية هناخد أوضة.”
أومأ كلاهما لها في صمتٍ قصير، ثم تقدما معًا نحو ما يخصهما، يتناولان حقائبهما التي سبق للصبيان من ورشة داوود أن حملوها إلى هنا.
كان المشهد امتدادًا طبيعيًا لوصولهم، منذ أن استقبلها محمد أولاً في شقته مع أولادها، لتنهال عليهم كلمات الترحيب من أفراد العائلة.
بقيت شمس في مكانها… جسدها متسمّر، لكنها لم تتوقف عن متابعة خطواتهما، بعينيها وحدهما، حتى تواريا في الداخل، وحين خفتت أصوات حركتهما، وبدا الصمت وكأنه يزحف رويدًا ليسد الفجوة التي خلّفاها وراءهما، عادت هي لتتأمل المكان.
لم ترَ الجدران كما يراها الآخرون؛ فالجدران عندها لم تكن محايدة، بل نابضة بما لا يُرى… محمّلة بذاكرةٍ غائرة، وبأنفاسٍ قديمة لم تغادره يومًا… حتى الهواء الذي دار في صدرها بدا مثقلاً، كأنما يتردّد فيه صدى حياةٍ سبقتها.
ثم، وفي وسط هذا الثبات الموحش، تسلّل صوتٌ خارجيّ.. طرقات خفيفة على باب الشقة.
ارتجفت أنفاسها معها قبل أن تطلق تنهيدة طويلة، تحاول بها طرد التوجس الذي باغتها، ثم التفتت نحو الباب، بخطواتٍ بطيئة لكنها حاسمة، وفتحت.
وهناك، كان يقف مصطفى….
تفاجأت بوقوفه أمامها، يحمل الأكياس كما لو كانت امتدادًا ليده، ثابتًا بوقاره المألوف، لكنه سرعان ما بدّد ارتباكها بصوته الهادئ، صوتٍ بدا وكأنه يختار كلماته بعناية كي لا يثقل عليها:
“دي شوية حاجات هتحتاجوها علشان الشقة فاضية خالص… اتفضلي.”
أوشكت أن ترفض، انفتحت شفتاها بهمسةٍ مترددة:
“بس…”
لم يمنحها هو مساحة للرفض، قاطعها بنبرةٍ أقرب إلى الرجاء، نبرة تحمل ما يشبه الأمان:
“خديهم يا شمس… لو سمحت.”
مدّت يدها في النهاية، استسلمت لكرمه، وتناولتها كمن يسلّم نفسه للضرورة، ثم أومأت برأسها شاكرة بصوتٍ خافت:
“شكرًا.”
ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه، ابتسامة تُطفئ حرجها أكثر مما تعبّر عن مجاملة:
“العفو.”
سكتا لحظةً قصيرة بدت أطول مما يجب، صمتها محمّلٌ بامتنانٍ ثقيل وصمته ممهورٌ بطمأنةٍ صامتة، قبل أن يقطعها وهو يضيف ببساطة:
“عن إذنك… ولو احتجتِ حاجة، ما تتردديش تقولي… إنتِ مش غريبة.”
هزّت رأسها ببطء، تومئ في خفوت، بينما أدار هو جسده مستأذنًا، خطاه تنسحب من المكان بانتظام حتى غاب عن ناظريها.
حينها أطبقت الباب ببطء، لتجد نفسها وجهًا لوجه مع صدى ذكرياتها العالقة في هذا المكان… ذكريات تفيض حنينًا ووجعًا معًا، تسكن بين الجدران كأنها لم تغادر يومًا.
أما هو، فقد مضى في طريقه، يحمل صمته وحقائبه الخفية من الماضي، يعود بقلبه المثقل إلى ما كان، حيث صورتها ما تزال محفورة في عمق ذاكرته، تأبى أن تُمحى مهما ابتعدت الخطوات، ومهما مرت السنوات.
_________________
مع مرور الوقت…
غمرت الشقة سكينة مهيبة، والأضواء الخافتة من المصابيح الصغيرة بدت كأنها نجوم بعيدة، تراقب بصمت ما يجري في الداخل.
في الركن الذي خصصاه للصلاة، ظل أثر القيام ما زال عالقًا في المكان، كأن الآيات ما زالت تتردّد بين الجدران.
جلست هي بهدوء، ومال هو مستلقيًا، واضعًا رأسه على ساقها في طمأنينة طفلٍ وجد أخيرًا مأمنه… كانت يدها تتحرك برفقٍ على خصلاته السوداء، تمرر أصابعها بينها ببطء، كأنها تسبر أعماق ذاكرته قبل أن تلامس شعره.
رفع عينيه لها، فرأى ملامحها المعلقة في نقطة أمامية كأنها تحاول أن تزن الكلمات قبل أن تنطق بها، وجاء صوتها هادئاَ:
“يعني كده… خالتو شمس رجعت تعيش في شقتها.”
أومأ بخفوتٍ لم يزد عن حركة رأس بالكاد تُلحظ، فالتفتت نحوه بنظرة فاحصة، ثم تسلّل السؤال من شفتيها بصوتٍ مترددٍ وملغومٍ بالفضول:
“تفتكر…يعني.. ممكن، يبقى في أمل يرجعوا لبعض؟”
ظل صامتًا لحظة، كأن الصمت نفسه هو الجواب الأصدق، ثم رفع بصره إلى سقف الغرفة الزجاجي حيث تناثرت النجوم فوقهما، وترك نظره يتشرد في البعيد، قبل أن يجيب بنبرة محايدة تحمل في طياتها ما بين الرجاء والخذلان:
“والله حاجة زي دي… ممكن آه، وممكن لأ.”
ضمت شفتيها تفكيرًا، وعينيها شاردتان في نقطةٍ ما على الجدار قبل أن تسأل بفضول:
“هما كانوا بيحبوا بعض أوي يا موسى؟ أنت عارف إنهم اتجوزوا واتطلقوا قبل ما أنا اتولد أصلاً.”
أجابها موسى، محاولاً أن يبدو عاديًا، لكن الحماس تسلل إلى نبرته:
“ما هوما برضه اتجوزوا قبل ما أنا أتولد، بس اتطلقوا بعد ما اتولدت، المهم يعني… اللي سمعته إنهم كانوا بيحبوا بعض أوي، وعمي مصطفى كان بيعشقها…. تعرفي هما اتعرفوا على بعض إزاي أصلاً؟؟”
نظرت له، نظرة فضول صادق لم تستطع إخفاءها:
“لأ، ماحدش قالي الحكاية.”
ابتسم موسى ابتسامة صغيرة، تحمل مزيجًا من الدفء والسرّ، كأن ما سيقوله حكاية قديمة تُروى في الظلال لا في العلن:
“أنا بقا سِتّي حكيتلي… قالتلي إنهم كانوا بيدوروا لعمي على عروسة، وراحوا لأكتر من واحدة، بس ولا واحدة فيهم دماغها ركبت على دماغهد لحد ما يأسوا منه وابتدوا يدوروا لأبويا، المهم… في يوم، عمي راح فرح واحد صاحبه، وهناك شافها… كانت قاعدة على تربيزة بعيدة، لا بتضحك ولا بتتكلم، كأنها برّه الزحمة كلها، وهو برضه كان قاعد كده… منسحب، في اللحظة دي حس إن فيها شبه منه، شبه محدش كان يلاحظه غيره… فقرر إنه يتجوزها.”
رفعت حاجبيها بدهشة، وسألت:
“ببساطة كده؟”
ضحك موسى بخفة، وملامحه تزداد إشراقًا وهو يكمل:
“أيوه… ببساطة كده، راح طلب إيدها وبعد أربع شهور كانوا متجوزين، بس يا سلام على الأربع شهور دول… سِتّي قالتلي إنه ماكانش بيعدي يوم غير وهو جاي يتكلم معاها عنها، وكل يوم كان بيزورها محمّل بالهدايا، بكل مالذ وطاب… يفرّحها وياخدها فسح، كان مدلعها على الأخر… بس خدي بالك كانوا كاتبين الكتاب.”
“يعني هو كان بيحبها أوي كده؟”
لم يتلكأ موسى في الرد، جاء صوته ثابتًا، حاسمًا، يخلو من أي مساحة للشك:
“وأكتر كمان.”
لكنها، وقد زادها يقينُه حيرةً، همست بتردد يتسلل من بين شفتيها كأنها تخشى الجواب أكثر من السؤال نفسه:
“طب… طب ليه انفصل عنها؟ ليه وصلها لمرحلة تخليها مش قادرة تعيش معاه وتطلب الطلاق؟”
غابت الابتسامة عن وجهه فجأة، وغشّت عينيه سحابة من شيء ثقيل، أشاح بنظراته بعيدًا، ثم جاء صوته هادئًا، مبحوحًا بقدر ما هو جازم:
“كل واحد عنده أسبابه.”
ضيّقت عينيها وهي تطالعه بنظرة نافذة، كأنها تريد أن تقتلع منه الحقيقة قبل أن ينطق، ثم قالت بصوت هادئ يخالطه تحدٍ:
“وواضح كده… إنك عارف الأسباب.”
تحركت عيناه بتوتر، جالتا في أرجاء الغرفة بحثًا عن مهرب، محاولةً بائسة لإدعاء الجهل، لكن ابتسامتها التي ارتسمت على ملامحها أربكته أكثر، فضحك بفتور، بينما هي قالت ببطء:
“موسى.”
توقفت عيناها عنده، تشدّه إليه كما لو كانت تنتزع منه اعترافًا أكبر، ثم سألته بصرامة خافتة:
“إيه اللي تعرفه؟”
“يعني…”
تمتم متردّدًا، وهو يميل على جانبه الأيمن ليتفادى المواجهة، لكنها أسرعت تمسكه بنبرة حانية وحازمة في الوقت نفسه:
“لا… بلاش هنا، علشان دراعك.”
لحظة إدراك مرّت عليه فجأة، كأنها أعادته لواقعه، فأدار جسده قليلًا نحو الجهة الأخرى، وهناك وجدها تقترب برأسها، تميل نحوه برفقٍ وصوتها يخترق مسافة التردّد بينهما:
“يلا… قولي، تعرف إيه؟”
سكت للحظة، عيناه تتشابكان مع نظراتها، ثم بدأ بالكلام بصوت منخفض:
“هقولك…”
.
.
.
.
اتسعت حدقتها حينما نطقت كلماته، رمشت ببطء محاولة استيعاب ما سمعته، ثم قالت بهدوء لكن مع لمحة من القلق:
“أنا مش مستوعبة اللي سمعته.”
ابتسم بخفوت، وقال بصدق:
“دي الحقيقة.”
أخفصت رأسها ونظرت له برهة، ثم تابعت بصوت يمزج بين الاستنكار والمزاح:
“وأنت عارف كل ده وساكت… أنا بقيت أحس فعلاً إنك سوسة زي ما بيقولوا.”
ضحك بخفة، وقال بدهشة ممزوجة بالحب:
“بدأت تحسي؟… لأ، اتأكدي ياحبيبتي.”
_________________
في اليوم التالي…
ارتسمت علامات الدهشة والغضب على وجه شهاب، وعيناه تتأججان باستنكار حين قال وهو يحدق في والده منتصر داخل غرفة الضابط:
“يعني ايه سابوا البيت؟؟”
رد منتصر بصوته الخشن، وكأن الكلمات نفسها تُثقل على صدره:
“يعني سابوا البيت ياشهاب، سابوه وراحوا يعيشوا مع عيلة عمران، بعت صبي من الورشة يطقس عليهم وشافهم وهما داخلين العمارة.”
تجمد شهاب لوهلة، كأن الزمن توقف حوله، ثم ردد بصوت منخفض ومملوء بالذهول:
“يعني كده عالية مشيت؟!”
ارتسمت على وجه منتصر تعابير الاستنكار والصدمة، وقال بصرامة:
“ده كل اللي همك، مش همك إنك متحبس دلوقتي في قضية شروع في قتل، مش همك إن مش عارف أطلعك منها، مش همك إن ممكن تتحبس يا روح أمك.”
ارتجف شهاب للحظة، وكأن كلمات والده قد صدمت عقله قبل قلبه، ووقف يتثاقل بين الغضب والإحباط، يحاول إيجاد منفذ لما يبدو وكأنه سجن من الوقائع التي تحاصرهم.
ابتلع ريقه، وأحكم قبضته على يد والده، وكأنها آخر خيط يربطه بالأمل، وقال بصوت يختنق بين التردد والإلحاح:
“انت لازم تلاقيلنا حل يا حاج… لازم أطلع من هنا بأي تمن، اتصرف ياحج وطلعني من هنا.”
رد منتصر بجمود، وكل كلمة منه كأنها مطرقة على صخر الواقع:
“ماأنا بتصرف ياحيلتها… فاكرني ساكت يعني؟ أنا كلمت بدل المحامي عشرة، وسألتهم على قضيتك… وكلهم قالولي نفس الكلمتين: قضيتك صعبة، خصوصًا بعد ما لقوا تسجيلات الكاميرا في حارتنا… وأنت خارج وفي إيدك إزازة البنزين.”
سكتت الكلمات للحظة، وتغلغل صدى الفشل في أرجاء الغرفة، بينما وقف شهاب هناك، عاجزًا عن أي رد فعل، مدركًا تمامًا أنه وقع في مأزق يصعب الخروج منه.
ألقى بجسده على المقعد المقابل لوالده، وصوته مثقل بالقلق واليأس:
“يعني إيه، هتحبس كده؟”
نظر منتصر إليه بجمود، صوته بارد لكنه متزن:
“إن شاء الله لأ، أكيد هنلاقي حل ونطلعك من المصيبة اللي وقعت فيها بنفسك دي… كله بسبب الكلب ذكي اللي سمعت كلامه، شوف وصلك لإيه؟”
تململ شهاب بعصبية، صوته يختنق بالغضب واليأس:
“مش وقت تقطيم فيا ياحج خالص! احنا في المصيبة دي دلوقتي… أنا هطلع من هنا ولا لأ؟ أنا لازم أطلع وأروح أجيب بنت*** من شعرها وأتجوزها، إنت عارف إني مش هعرف أعيش من غيرها!”
تجمدت ملامح منتصر على وجهه، وتاهت عيناه بين الصدمة والخزي، تتفحص ابنه وكأنه يحاول قراءة كل تفاصيل الخذلان المتجسدة فيه، ذلك الابن الذي بدا مختلاً في نظره، لا مبالٍ بما وقع به من مصائب، وكل همه الزواج من فتاة لا تطيق النظر له حتى.
ارتجف منتصر وهو يضغط كفيه معًا بعنف، كأن الكلمات وحدها لا تكفي للتعبير عن غضبه المكبوت، ثم أطلقها بجمودٍ ثقيل:
“عليه العوض فيك.”
لكن شهاب لم ينتبه له ولا لكلماته، فقد انشغل بتلك الشرارة الصغيرة التي أضئيت في عقله، وقال بنبرة مليئة بالجدية والفضول:
“بقولك ايه ياحج… هما عالية وأدهم مايعرفوش إن مصطفى طليق أمهم، صح؟”
توقف منتصر للحظة، تتراقص أمامه صور الاحتمالات، وبدأت في قلبه شرارة أمل تتوهج، صغيرة لكنها كافية لتزرع في صدره شعورًا بالفرصة… فرصة على طبقٍ من ذهب.
_________________
في جهة أخرى….
جلس على السطح، ممسكًا بكرة صغيرة بين يديه، يضغط عليها بقوة كما يفعل عادةً حين ينهشه التوتر، محاولًا تهدئة صراعاته الداخلية.
كان يفكر بعمق في الطريقة الأنسب لإخبار صديقه بما رآه، كيف يمكنه إيصال الحقيقة بلطف وفي الوقت الملائم، حتى لا تشتعل نيران الغضب في قلب صديقه، فتتحرك الأحداث وتصل لنتائج لا يمكن التنبؤ بها.
تنهد محسن بثقل، وداخل عقله دوامة من الصراعات، كل فكرة تتصارع مع الأخرى.
وأخيراً، بعد لحظات من الصمت والضغط المتواصل على الكرة، شعر بثقل القرار يستقر في قلبه، فأرخى الكرة جانبًا وأمسك بالهاتف، مستعدًا لاتخاذ الخطوة التي أجلها طويلاً.
مرر أصبعه على شاشة هاتفه حتى وصل إلى الرقم المطلوب… لحظات مرت، وهو يستمع لصوت الرنين، وأخيرًا جاءه صوت صديقه الحيوي:
“إيه الأخبار يا محسن؟”
رد محسن بابتسامة خفيفة في صوته:
“الحمد لله يا كارم، وأنت إيه الدنيا عندك؟”
“كله تمام.”
تابع محسن كلامه وهو يهز قدمه بتوتر واضح، وكأن كل حركة فيها تعبير عن القلق المكبوت:
“طب خلصت شغلك؟”
“آه، من بدري.”
تنهد محسن ببطء، وكأن الهواء الذي خرج من صدره حاول أن يخفف من ثقل ما يحمله داخله، ثم أكمل بصوت جاد وثقيل:
“طب كويس… كنت عايز أكلمك في موضوع مهم.”
رد الآخر مباشرة، محافظًا على هدوئه:
“اتفضل.”
ولكن محسن شعر أن الأمر يحتاج إلى لقاء مباشر، فرفع حاجبيه وأضاف بنبرة متأملة:
“لأ مش هينفع على التلفون، خلينا نتقابل أحسن.”
وصله صوت كارم من الطرف الآخر، هادئًا:
“ومالو بس أنا مشغول دلوقتي علشان خارج مع ميرنا، لما ارجع بقا نبقى نتكلم، كده كده هنتقابل على القهوة بعد المغرب مع الشباب، نبقى نتكلم في اللي أنت عايزه.”
أجاب محسن بصوت متماسك، محاولًا السيطرة على توتره:
“تمام ياصاحبي.”
وانتهت المكالمة بهذه الكلمات…
أخذ محسن يلف الهاتف بين أصابعه، ثم زفر بقوة وكأن ثقل الأيام كلها يضغط على صدره. تراجع للخلف واستلقى على الأريكة القديمة، مستسلمًا لهدوء المكان، يزفر أنفاسه ببطء، وكأن كل نفس يحاول أن يفرغ به التوتر المتراكم بداخله.
_________________
على الجهة أخرى…
كان يسير بخطوات هادئة وثابتة على رصيف الكورنيش، وفي يديه كوبان من العصير، كل واحد منهما يلمع بألوانه الزاهية تحت وهج الشمس الغاربة، وكأنه يحمل معه جزءًا من البهجة التي يريد أن يشاركها.
اقترب من ميرنا التي جلست على المقعد، خصلات شعرها يتطاير بخفة بفعل نسيم النيل العليل، وابتسامة ترتسم على وجهه حينما رفع الكوبين نحوها وهو يقول بصوت دافئ يمزج بين المزاح واللطف:
“أحلى كوباية قصب لأحلى وأرق بسكوته.”
ابتسمت بخجل على كلماته، ثم أخذت منه الكوب بهدوء، فيما جلس هو بجوارها مع ترك مسافة بينهما، كأنها مساحة توازن بين الحذر والراحة.
أخذ كل منهما يحتسي من كوبه في صمت ممتد، حيث كان الهواء مليئًا بتوتر خفيف ممزوج بدفء اللحظة.
كسر هو الصمت أخيرًا، صوته هادئ لكنه مثقل بالفضول:
“ايه رأيك؟”
رفعت عينيها نحوه، وأجابت بصوتها الهادئ، يحمل لمسة صدق:
“منعش أوي في الجو ده… قريب ممكن يبقى مشروبي المفضل في الصيف.”
ابتسم لها، ورد بخفة:
“لأ، هو المفروض يبقى مشروبك المفضل طول السنة.”
ضحكت بخفة، فتقابلت ابتساماتهما، قبل أن يعودا مجددًا لتأمل صمت النيل، صمت يتخلله دفء خالص.
مرت لحظات خفية، حتى نطق كارم بصوت جاد، دون أن يرفع نظره عنها:
“ميرنا…”
رفعت هي نظرها بانتباه، بينما هو التفت إليها بصوت هادئ لكنه مثقل بالفضول:
“ايه مشكلتك مع مرات باباكِ؟”
تجمدت ملامحها للحظة، وكأن الزمن توقف بينهما، وارتعش صدرها مع كل نفس… لكنه لم يتراجع، بل أضاف بهدوء مشوب بالصدق:
“أنتِ عمرك ما اتكلمتِ عنها قدامي، حتى في يوم خطوبتنا لاحظت إنها مش… طايقها، مع إني شايف إنها شخص طيب وكويس.”
أنزلت الكوب من يديها ببطء، وأخفضت عينيها، لتتنهد بصوت خافت كأنها تفرغ جزءًا من ثقلها:
“مشكلتي معاها… إنها مرات بابايا.”
رفع حاجبه على استغراب، فيما أبقت هي نظراتها معلقة على الأرض، ثم تابعت بنبرة حزينة وشفافة:
“هي فعلاً طيبة، وحنينة أوي، وبتحبني وبتخاف عليا… بس مشكلتي معاها إنها مرات بابايا.”
ظل ينظر إليها، محاولةً قراءة أعماق قلبها، فيما نظرت هي له وسألته بصوت منخفض به غصة واضحة:
“تعرف هي اتجوزت بابا امتى؟”
توقفت للحظة، تستجمع الكلمات كما لو كانت تزنها في كفة ميزان عاطفي دقيق، قبل أن تقول:
“بعد ما ماما اتوفت بثلاث شهور بس.”
ارتجفت ملامح وجهه، وحرك حاجبيه في دهشة واضحة، لكن ما تبقى من كلماتها أدهشه أكثر، كأنها تصفعه بواقعة لم يكن يتوقعها:
“تعرف بقى… إن جنة كانت صديقة ماما المقربة، كانت تعتبرها زي أختها، وأنا كنت بعتبرها زي خالتو، وكنت بحبها وبحترمها أوي…”
توقفت لحظة، ابتلعت غصتها بصعوبة، ثم أتمّت بصوت مختنق، تكاد كلماتها تتكسر بين شفتيها:
“لحد ما لقيتها هي وبابا داخلين عليّ وأنا لسه منهارة على فراق والدتي… وبيقولولي إنهم ناويين يتجوزوا.”
كان الهدوء الذي تلا حديثها كان ثقيلاً، كأن الزمن توقف للحظة، وصدى كلماتها ظل يطن في أذنه، يرسم أمامه مشهدًا من الخيانة والخسارة التي عاشتها.
رفع يده ببطء، يمسح وجهه وكأن لمس الجلد يمكن أن يمسح دهشة عقله، وهو يردد بصوت مثقل بعدم الاستيعاب:
“أنا… أنا مش عارف أقول ايه حقيقي… مش فاهم ازاي عملوا كده؟”
ابتسمت، لكنها كانت ابتسامة منكسرة، وصوتها يتردد في أذنه، كأن الكلمات نفسها ثقيلة على شفتيها:
“عملوها… بكل بساطة… عملوها.”
نظر إليها طويلاً، قلبه يختنق بحزن لأجلها، لأجل تلك الدموع التي لمعت في عينيها، وكأنها تحمل سنوات من الألم الصامت.
وهي، بجانبه، نظرت بعيدًا للحظة، ثم تابعت بصوت متهدج، كأنها تكتم جزءًا من روحها:
“أنا… مش بحب أتكلم عن الموضوع ده… لأني لحد دلوقتي بحاول… أتعافى منه… وأستوعبه.”
ظل الصمت يلفهما للحظة، ثقيلًا لكنه ممتلئ بمعنى…
ثم مدّ كارم يده ببطء، وضعها برفق فوق يدها التي كانت ترتجف قليلًا، وكأن مجرد لمس يده يمكن أن يخفف جزءًا من ثقل الأيام.
رفع عينيه نحوها، صوته منخفض لكنه ممتلئ بالحنان والدفء، كأن كلماته تحمل جزءًا من قلبه:
“بصيلي…”
التفتت نحوه ببطء، وخفق قلبها بخفة، لكنه ابتسم لها بابتسامة هادئة، بسيطة، تحمل الأمان، ثم أضاف بنبرة مرحة، محاولة أن تخفف ثقل اللحظة عن كاهلها:
“الوش ده مايزعلش… الوش ده يضحك وبس.”
ابتسمت هي بدورها، شعور غريب يملأ صدرها، بين الراحة والحرج والدهشة، وكأن الكلمات القصيرة استطاعت أن تذيب جزءًا من ثقل الحديث الذي مر.
كانت لحظة صغيرة، لكنها مشبعة بالدفء، كأن العالم كله قد اختزل في تلك الابتسامة المتبادلة بينهما… ابتسامة لم تولد من فراغ، بل من رغبة صامتة في التخفيف عنها، كما سبب لها الحيرة والحزن بسؤاله قبل لحظات.
كان يشعر بألم خفي حين يرى دمعة واحدة تتلألأ في عينيها، بألم يثقل صدره ويجعله عاجزًا عن الكلام، حين يلمح وجهها الحزين ويعلم كم ثقلت الأيام على قلبها… وفي المقابل، كان قلبه يتسارع فرحًا عند رؤية تلك الابتسامة الرقيقة، الابتسامة المعهودة التي تلمس قلبه برقة، وتعيد إليه الراحة والسكينة.
كل شعور منها، كل حركة دقيقة على وجهها، كانت تترك أثرًا عميقًا في داخله؛ ألمها يوجعه، فرحها يملؤه، وحضورها وحده يكفي ليجعل قلبه يخفق بقوة، متأرجحًا بين رقة العاطفة وقوة الانبهار بها.
_________________
مع مرور الوقت…
جلس الخمسة حول الطاولة أمام القهوة، يتبادلون أطراف الحديث بمرح خافت، إلا أن محسن كان مختلفًا؛ عيناه معلقتان بالطريق، ينتظر قدوم كارم بترقبٍ خفي، وكأن كل لحظة تأخير تزيد من توتره.
وأخيرًا، ظهر كارم في الأفق، فنهض محسن بسرعة من مكانه، صوته يملؤه الحماس المختلط ببعض القلق:
“كارم جه هو.”
تبادل الحاضرون النظرات باستغراب، فسأله موسى مازحًا:
“أيوه، طب قمت ليه؟”
ابتلع محسن كلمة قبل أن يرد، صوته يحمل شيئًا من الإصرار:
“أصلي كنت عايزه في حاجة.”
اتجهت الأنظار نحوه بلمحة شك، كأنها تحاول قراءة نواياه، فأسرع ينفي أي سوء فهم، صوته يتسم بالعصبية الخفيفة، مختلطًا بالحرج:
“لأ والله، مش اللي في بالكم خالص… أنا توبت خلاص على الكلام ده… أنا عايزه في موضوع تاني خالص.”
ظل يتنفس ببطء، محاولًا أن يثبت صدقه، بينما النظرات حول الطاولة كانت لا تزال تحمل سؤالًا صامتًا، لكن سرعان مااوما ببكء وقال سامي:
“ماشي ياسيدي روح اتكلم معاه.”
أومأ له محسن بخفة، ثم تقدم نحو كارم، واقفًا أمامه على بعد خطوات قليلة فقط من طاولة الشباب.
ابتسم كارم بهدوء، صوته دافئ رغم الفضول الذي يلمع في عينيه:
“في إيه يا صاحبي؟”
ظل محسن واقفًا أمامه، صامتًا، يتلمس الكلمات بعناية في عقله، يحاول أن يجد البداية الصحيحة، وعندما أخيراً قرر التحدث… اهتز هاتف كارم في جيبه فجأة، مصحوبًا بصوت نغمة إعلان وصول رسالة، فأحس محسن بأن فرصة الكلام تتلاشى.
تجاهل كارم الاهتزاز، ونظر إليه مبتسمًا وقال:
“كمل… ماتاخدش في بالك.”
لكن قبل أن يتمكن محسن من النطق بحرف واحد، اهتز الهاتف مرة أخرى، متكررًا، مفسدًا الصمت المتوتر حولهما.
زفر كارم بضيق، وأخرج هاتفه ببطء من جيبه، صوته يحمل قليلًا من الانزعاج، وهو يقول:
“معلش يا محسن… ثانية… أشوف مين الزنان ده.”
ظل محسن واقفًا، صامتًا، قلبه يخفق أسرع مع مرور كل ثانية دون كلمة، وكأن كل لحظة صمت تضيف ثقلًا جديدًا على صدره.
راقب صديقه وهو يخرج هاتفه بضيق… لكن وفي غضون ثوانٍ معدودة، تغيرت تعابير وجه كارم بشكل مفاجئ؛ تحول الضيق الذي كان يملأه إلى صدمة صامتة، إلى جمود كلي، وكأن أحدهم صفعه بقوة أو سكبت عليه دلو ماء بارد فجأة.
اتسعت عيناه بشكل مفزَع، وفقدت حركات وجهه المرنة أي حياة، لتظل مشدودة بالدهشة، عاجزة عن إخفاء الصدمة التي اجتاحت جسده.
#يتبع….
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.