رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الخامس والخمسون 55 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخامس والخمسون

الفصل الخامس والخمسون(مواجهة لا رجعة فيها)

الفصل الخامس والخمسون(مواجهة لا رجعة فيها)

نتفاعل ياحلوين علشان ربنا يسهل وأنزلكم الفصل يوم السبت بإذن الله، وإن شاء الله هبدأ أنزل ثلاث أيام في الأسبوع، وهنبقى نحددهم بعدين.

_____

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

__

لا تَنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَهُ

عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ

“الإمام

علي بن أبي طالب

رضي الله عنه

______________

_

“في إيه يا صاحبي؟”

ظل محسن واقفًا أمامه، صامتًا، يتلمس الكلمات بعناية في عقله، يحاول أن يجد البداية الصحيحة، وعندما أخيراً قرر التحدث… اهتز هاتف كارم في جيبه فجأة، مصحوبًا بصوت نغمة إعلان وصول رسالة، فأحس محسن بأن فرصة الكلام تتلاشى.

تجاهل كارم الاهتزاز، ونظر إليه مبتسمًا وقال:

“كمل… ماتاخدش في بالك.”

لكن قبل أن يتمكن محسن من النطق بحرف واحد، اهتز الهاتف مرة أخرى، متكررًا، مفسدًا الصمت المتوتر حولهما.

زفر كارم بضيق، وأخرج هاتفه ببطء من جيبه، صوته يحمل قليلًا من الانزعاج، وهو يقول:

“معلش يا محسن… ثانية… أشوف مين الزنان ده.”

ظل محسن واقفًا، صامتًا، قلبه يخفق أسرع مع مرور كل ثانية دون كلمة، وكأن كل لحظة صمت تضيف ثقلًا جديدًا على صدره.

راقب صديقه وهو يخرج هاتفه بضيق… لكن وفي غضون ثوانٍ معدودة، تغيرت تعابير وجه كارم بشكل مفاجئ؛ تحول الضيق الذي كان يملأه إلى صدمة صامتة، إلى جمود كلي، وكأن أحدهم صفعه بقوة أو سكبت عليه دلو ماء بارد فجأة.

اتسعت عيناه بشكل مفزَع، وفقدت حركات وجهه المرنة أي حياة، لتظل مشدودة بالدهشة، عاجزة عن إخفاء الصدمة التي اجتاحت جسده.

اقترب محسن خطوة، صوته مبحوح من القلق، يتردد في الهواء المرتجف بينهما:

“في إيه يا صا…”

لكن الكلمة انكسرت في منتصفها، لم تجد طريقها إلى النهاية، فقد كان كارم قد تحرك فجأة، كأنه انسلّ من أمامه، لا صوت ولا تفسير، سوى اندفاع سريع وخطوات متلاحقة تضرب الأرض بعصبية مكتومة.

لم ينبس بحرف، ومع ذلك كان في صمته ما هو أبلغ من الكلام؛ كان أشبه بإشارة إنذار، بجرس خطر يقرع بلا صوت.

وقف محسن لحظة مذهولًا، لكن حدسه صرخ في داخله بأن الأمر جلل، لذا دون تفكير أو تردد، انطلق خلفه مسرعًا، يلهث وكأن قلبه يسابق قدميه.

في تلك اللحظة، رفع سامي رأسه بتلقائية، وسرعان مارفع حاجبيه في دهشة، ثم انكمش وجهه وهو يراهم يركضون.

وبسرعة خرجت منه الكلمات قبل أن يعيها تمامًا:

“هما بيجروا ليه؟”

التفت الجميع مع كلماته، ووجوههم امتدت إليها الحيرة نفسها.

لحظة قصيرة من الصمت مرت، ثم كسرها موسى، بصوت محمّل بإدراك غامض:

“ليكون أبوه جراله حاجة…”

وقعت الكلمات بينهم كشرارة فجّرت النار… ارتجفوا جميعًا، كأن الصمت نفسه انتفض داخلهم.

تبادلوا نظرات سريعة، لم يحتج أيٌّ منهم إلى تفسير، كان الخوف قد حسم الأمر، وفي لحظة قفز سامي واقفًا، صوته يهتف فيهم بحدة لا تخلو من ارتعاش:

“قوموا وراهم بسرعة!”

وفي ومضة واحدة، نهضوا جميعًا كأن الأرض دفعتهم دفعة واحدة، وانطلقوا بخطوات متعجلة، تتسابق مع نبضات قلوبهم التي أخذت تدق بعنف غير مألوف.

كان القلق ينهش دواخلهم نهشًا، كحيوان جائع أُطلق سراحه بعد طول قيد؛ يعضّ على صدورهم، يقطع أنفاسهم، يضاعف وطأة كل خطوة.

مضوا مسرعين، يحدوهم خوفٌ غامض، يخيّل إليهم أن مصيبة ما قد وقعت للتو، لكن ما لم يعرفوه، ما لم يخطر على بال أحد منهم، أن الخطر لم يكن هناك بعيدًا في مكانٍ مجهول، بل كان أقرب إليهم مما يظنون… كان يمشي أمامهم، يتنفس بينهم، يتجسد في صورة صديقهم ذاته.

ولم تكن سوى دقائق قليلة حتى بلغ كارم وجهته، كمن ركض خلف قدرٍ محتوم.

كان يصعد الدرج بخطوات متلاحقة، ثقيلة رغم سرعتها، وكأن الأرض تحاول أن تشده إلى الوراء، وحين وصل إلى باب شقته، أخرج المفتاح بيد مرتجفة، الارتعاشة لم تكن من خوف بل من غضبٍ يغلي في دمه، غضب يوشك أن يتفجر.

دار المفتاح في القفل بعنف، ودفع الباب ليقتحمه كالعاصفة، لا يلوي على شيء، عيناه تبحثان عنها في كل ركن وكأنها الهدف الوحيد الذي تراه عيناه.

لم يتوقف حتى بلغ غرفتها…. وهناك، بيد مشدودة بلهيب داخلي، دفع الباب بقوة، قوة ارتطمت بجدران الغرفة وجعلت جسدها ينتفض مذعورًا.

التفتت نحوه بحدة، اتسعت عيناها دهشة وغضبًا، وهتفت بصوت متهدج:

“إنتَ إزاي تدخل عليا كده؟!”

لكن كلماتها ذابت في الهواء، إذ لم يُعرها كارم جوابًا… كانت خطواته مشتعلة وهو بتقدم نحوها، كأن كل خطوة تحمل جمرة تحت قدميه، اقترب منها بعينين محمرتين، نظراته مسمومة بالحدة، لا تحتمل نقاشًا.

رفع الهاتف أمام عينيها، كمن يضع سلاحًا على رقبة خصمه، وصوته خرج حادًا، ممزقًا الصمت كالسكين:

“إيه ده؟”

اتسعت عيناها دفعة واحدة، كأنهما انفتحتا على كابوس لم تتخيله قط…

على شاشة الهاتف تتابعت الصور بلا رحمة: لقطات لها مع ذلك الفتى، ابتسامات مشتركة، لحظاتٍ بينهما، ثم رسائل ودردشات تشهد على ما كان ينبغي أن يظل خفيًا في الوقت الحالي.

نهضت من على الفراش وتجمدت في مكانها، كأن الأرض شلّت قدميها عن الحركة، شعرت ببرودة قاسية تجتاح جسدها، وكأن الدماء انسحبت من عروقها هاربةً إلى مكان بعيد، تاركةً وجهها شاحبًا كالرماد.

أما كارم، فكان الغليان قد بلغ نهايته، عيناه تحولت إلى جمرتين مشتعليْن، وصدره يعلو ويهبط كمن يحاول أن يكبح انفجارًا داخليًا.

رفع الهاتف أمام وجهها مرة أخرى، يضغط بأصابعه على الشاشة بقسوة، ثم دوّى صوته في الغرفة، صوته الذي خرج جهوريًا، محمّلًا بكل الغضب والقهر:

“إيه ده؟؟”

ارتطمت الكلمات بجدران الغرفة، ارتجفت لها أركانها، وانكمشت ضحى أكثر في مكانها، عاجزة عن أي رد، وكأن السؤال نفسه قد حاصرها من كل اتجاه.

استفزه صمتها أكثر من أي جواب كان يمكن أن يسمعه، شعر وكأن سكوتها طعنة جديدة، فاندفع بلا وعي، قبض على خصلات شعرها بقسوة، جذب رأسها إليه بعنف، حتى شعرت كأن فروة رأسها تتمزق تحت يده.

ارتفع صوته، غاضبًا، متقطع الأنفاس، يلهب الهواء من حوله:

“ردي عليّا! إيه ده؟ ومين ده؟”

كان يهدر كالرعد، كأن كل كلمة تتساقط من فمه محمّلة ببركان من الصدمة والغضب، بركان لم يجد له مخرجًا سوى أن يتفجّر فوق رأسها.

أما هي، فكانت أضعف من أن تواجه العاصفة، أصابعها المرتجفة أمسكت معصمه محاولةً دفعه بعيدًا، لكن يدها بدت واهية أمام قبضته الحديدية.

خرج صوتها متهدجًا، متقطعًا بين شهقاتها وبكائها:

“سيبني… سيبني يا كارم!”

لكن صوته غطّى على توسلاتها، نبرته حادة كسكين:

“ردي الأول! الصور والرسائل دي… حقيقية؟”

رفعت عينيها إليه، دامعتين، مشققتين بالذعر، لكن الكلمات لم تخرج… وكان صمتها أكثر إيلامًا من أي اعتراف، وفي تلك اللحظة أدرك كارم الحقيقة، ولم يحتج إلى أي جواب.

تراجع خطوة، ثم أخذ يومئ برأسه ببطء، كمن يبتلع خنجرًا في صدره، وهو تمتم بصوت مخنوق أولًا، ثم أعلى فأعلى:

“حقيقية… حقيقية يا ضحى؟… حقيقية!”

وفجأة صرخ، صرخة اهتزت لها جدران الغرفة، ويده اندفعت تلقائيًا تصفعها بقوة، فانهار جسدها على الفراش كدمية بلا حول.

كاد ينقض عليها ليستكمل ثورته، عيناه متقدتان بالجنون، لكن قبل أن يخطو، التف ذراع قوي حول جسده من الخلف… كان محسن، الذي اندفع في اللحظة الحاسمة، يشدّه بكل ما أوتي من قوة، صوته يلهث بغضب وخوف:

“بس يا كارم… كفاية!”

ثبت محسن قبضته على ذراع كارم بكل ما أوتي من قوة، بينما جسد كارم يهتز بعنف، أشبه بوحشٍ يريد الانقضاض ولا يطيق القيود.

كان يلهث محاولًا الانفلات، عضلاته مشدودة، وصدره يعلو ويهبط بغضبٍ متفجّر، حتى خُيّل لمحسن أن قبضته قد تنزلق في أية لحظة.

وبالفعل، كاد كارم أن يفلت، لولا دخول سامي وموسى وحسن وحسين الغرفة. لم يحتج المشهد إلى شرح، فقد نطقت به الفوضى: ضحى مكوّمة على الفراش، دموعها تبلل وجهها، وكارم يتخبّط بين قبضات محسن وصراخ غضبه.

وبمجرد أن وقعت أعينهم على ضحى، انكسرت نظراتهم، غضّوا أبصارهم سريعًا خجلًا واحترامًا، ثم هرعوا نحو كارم.

كان سامي أسرعهم، أمسك به من الجهة الأخرى، صوته يشتعل غضبًا وهو يصرخ في وجهه:

“إنت بتعمل إيه يا مجنون؟!”

لكن كارم لم يكن يسمع سوى صوته الداخلي، كان يغلي، يصرخ، ينفجر، يجرّهم معه إلى دوامة جنونه. جذب جسده للأمام، هادرًا بصوت يقطّع الهواء:

“ابعدوا عني إنت وهو… سيبوني أربي الـ…”

لم يكمل كلماته، إذ انقضّ حسن من الجهة الثانية، يثبت كتفه بكل قوة، كان المشهد أشبه بمحاولة إسقاط جدار يرفض أن يهوي، لكنهم معًا أحاطوا به من كل اتجاه.

وبينما جسده يتمايل بين قبضاتهم، أشار حسن بحزم إلى الباب، صوته لا يقبل جدالًا:

“طلّعوه بره.”

وبالفعل، بدأوا يدفعونه نحو الخارج، خطواتهم تتشابك مع مقاومته العنيفة، كل حركة منه كادت تعصف بتماسكهم، والهواء في الغرفة صار أثقل من أن يُتنفس، مشبعًا بتوتر يخنق الصدور.

خرجوا من الغرفة، وأغلق موسى الباب خلفهم بسرعة، فارتدّ الصدى في المكان كأنه محاولة يائسة لإبقاء الألم خلف خشبٍ رقيق.

لكن موسى لم يلبث أن هرول مع حسين ليلحقا بالبقية، حيث كان سامي يتقدم المشهد، يدفع كارم أمامه بعنف، وصوته ينفجر بانفعال لم يستطع كبحه:

“اطلع… قدامي!”

خرجوا جميعًا من الشقة أخيرًا، وانغلق الباب خلفهم بيد محسن الذي بقي التقطت أذنه شهقاتها من الداخل، شهقات حادة ممزوجة ببكاءٍ مختنق، كأنها تخترق الخشب، وتكاد تغرس نفسها في صدره.

وفي تلك اللحظة، أخرج موسى هاتفه بارتباك، ضغط على الرقم المطلوب بسرعة، وما إن التُقط الخط حتى انطلق صوته المرتبك، محاولًا أن يغطي ارتعاشه بقدر من الهدوء المصطنع:

“أيوه يا دلال… لو سمحتي تعالي اقعدي مع ضحى، علشان مش هينفع تقعد لوحدها… مش هقدر أقولك التفاصيل دلوقتي… تمام، بس بسرعة.”

أنهى المكالمة بيد ثقيلة، أنفاسه لا تزال متلاحقة، ثم رفع عينيه نحو كارم… ذاك الذي كان يسير معهم مُحاصرًا بين قبضة سامي على ذراعه اليمنى وحسن على ذراعه الأخرى.

_________________

فتح سامي باب الطابق الأول في بيته المخصص للمناسبات، كان المكان ساكنًا، وبالنسبة لهم بدا هو الأنسب في هذه اللحظة ليحتوي ثِقل الانفعال المتصاعد.

التفت سامي نحو كارم، وجهه متحجر لا ينطق إلا بالجمود، ثم دفعه للداخل بقوة محسوبة، كأنه يحاول السيطرة على غضبه دون أن ينفجر، وردّد بصرامة صلبة:

“ادخل.”

ارتد جسد كارم قليلًا من أثر الدفع، عيناه تشعان بالتمرد، لكنه مع ذلك مضى للداخل بخطوات متوترة، كمن يختبر حدود صبره.

ثم تبعه البقية بوجوه متوترة، كأن كل واحد منهم يخشى أن تندلع شرارة جديدة لا يستطيعون إخمادها.

سار كارم في الغرفة بخطوات متوترة، يشيح بظهره عنهم جميعًا، ثم رفع يده إلى خصلات شعره، يمرر أصابعه بينها بعنف، كمن يحاول انتزاع الغضب من جذوره، لكن عبثًا… كان الغليان داخله يتضاعف.

وفي اللحظة التالية، انفجر صوت سامي بغضب مكتوم لم يعد يطيق كبته:

“بصلي هنا يا كارم! إيه اللي أنت هببته ده؟ إزاي تتهجم على أختك بالشكل ده؟”

لم يتحرك كارم، لم يلتفت، فقط ظل يحدّق في الفراغ أمامه، كأن صوت سامي يمر بجانبه دون أن يخترق جدار عقله.

وهذا الصمت أشعل سامي أكثر، فتقدم نحوه بخطوات حادة، قبض على كتفه بقوة وأجبره على الالتفات، وصوته يهدر بعنف:

“جاوبني! ليه عملت كده؟ أكيد ماعملتش كده من غير سبب.”

رفع كارم عينيه إليه، نظرة صلبة، جامدة، لا تحمل أي ارتعاش، كأنها جدار من حديد يصد كل ما يُرمى نحوه.

صمت لثوانٍ أثقل الجو من حولهم، ثم حرّك بصره ببطء نحو موسى، نطق باسمه ببرود غير متوقع وسط العاصفة:

“موسى.”

تردّد اسم موسى بين الجدران، فانعقدت حواجب الأخير بدهشة وقلق في آن واحد، بينما بلل كارم شفتيه، ثم قال بصوت هادئ، لكن حدّته كانت أخطر من أي غضب:

“هديك رقم دلوقتي… عايزك تهكّر التلفون… وتمسح كل اللي عليه.”

سقطت كلماته في الغرفة كقنبلة صامتة، جعلت الهواء يثقل أكثر، وجعلت العيون تتبادل النظرات بين الغضب والاستفهام والذهول، كأن الجميع أدرك أن وراء ما حدث خيوطًا أعمق بكثير مما ظهر على السطح.

_________________

“صور! صور إيه اللي تخلي أخوكي يمد إيده عليكي بالشكل ده؟”

انفجرت بها دلال وهي تقف أمام ضحى، تكاد عيناها تتسعان من شدة الذهول، فيما ارتفع صوتها مزيجًا من الغضب والقلق، كأنها تحاول اقتلاع الحقيقة من فمها اقتلاعًا.

وضحى كان تجلس على طرف السرير، كتفيها منحنية، يديها ترتجفان في حجرها، وعيناها تهربان من مواجهة دلال، تترنح بين دموعها المكبوتة وصمتها المثقل.

خطت دلال خطوة أقرب، انحنت قليلًا لتكون في مستوى نظرها، نبرتها هذه المرة أقل حدّة لكن أكثر إصرارًا:

“انطقي يا ضحى… قوليلي إيه اللي حصل.”

وأخيرًا، بعد صمتٍ ثقيل ينهش صدرها، رفعت ضحى عينيها إلى دلال، مبللتين بدموعٍ متحجرة، وانفلت صوتها المرتجف كأنه يُجرّ بالقوة من بين شفتيها:

“ص… صور ليا، مع زميل في الجامعة.”

اتسعت عينا دلال بصدمةٍ لم تستطع إخفاءها، ورجف في نبرتها خليط من الاستنكار والخذلان وهي تردد:

“زميل؟… أوعى تقولي إنكم… متصاحبين؟”

التزمت ضحى الصمت، وارتجاف صدرها كان أبلغ من أي رد، فارتفعت حدة دلال وهي تواصل وكأنها تحاول دفعها للاعتراف:

“والصور دي طبعًا… كان فيها تجاوزات.”

أسرعت ضحى، كمن يحاول إنقاذ نفسه من الغرق، تهز رأسها نافية، تكاد تتوسل:

“والله صور عادية… كل البنات بتتصور كده.”

وقفت دلال فجأة، وهي تضرب الهواء بصوتها في عصبيةٍ كأنها تحاول أن تردع الفراغ ذاته، عيناها تتلألآن بغضبٍ مكبوت وحرقةٍ لا تخطئها عين:

“مالناش دعوة بالناس، إحنا مالناش دعوة بالناس! ده حرام… مش معنى إن الكل بيعمل كده يبقى نعمل زيهم… دينك وتربيتك مايسمحلكيش تعملي كده.”

شهقت نفسًا حادًا، كأنها تحاول كبح ارتجافة صدرها، ثم أضافت بصوتٍ أعلى، متشظٍ بين الغضب والخذلان:

“يعني إيه تصاحبي؟ يعني إيه تسيبي راجل غريب يمسك إيدك؟ يحط إيده على كتفك ويقرب منك بالشكل ده؟… يعني إيه تسمحيله يتجاوز الحدود اللي ربنا حطها؟!”

تقدمت خطوة إلى الأمام، وارتجف صوتها وهي تتابع، كأن كل كلمة تسحب معها ألمًا غائرًا:

“مش عارفة إن ده حرام؟ مش عارفة إن ربنا نهى عنه؟! ولا خلاص بقينا بنمشي زي ما الناس بتمشي وننسى ديننا بيقول إيه؟”

كانت كلماتها تتساقط كالسياط على ضحى، تتركها منكمشة في مكانها، لا تدري أتهرب من نظرتها، أم من الحقيقة التي باتت أثقل من قدرتها على الاحتمال.

طالعتها دلال للحظةٍ صامتة، نظرة طويلة أثقل من أي كلمات، كأنها تحاول أن تنقب في وجهها عن ذرة وعيٍ أو ندم. ثم انفجرت بنبرةٍ متكسرة بين الألم والقسوة:

“إنتِ كنتِ بتفكري في إيه؟ كنتِ بتفكري فيه لما عملتي كده؟ ما فكرتيش في باباكِ؟ ما فكرتيش ممكن يحصله إيه لو وصلت له صورة واحدة من اللي وصلت لأخوك؟… ده كان ممكن يروح فيها يا ضحى! إنتِ كنتِ الوحيدة اللي متشالة على الراس، المحترمة اللي من البيت للجامعة ومن الجامعة للبيت… مش كفاية مصايب كارم عليه؟ تيجي إنتِ كمان؟!”

سقطت كلماتها كالرصاص، وكل جملة كانت تردم على صدر ضحى أكثر فأكثر، حتى لم تجد الأخيرة مهربًا من الاعتراف.

رفعت رأسها والدمع يثقل عينيها، وصوتها يخرج محشرجًا كأنه انتزع من بين أضلاعها:

“حبيته… حبيته يا دلال.”

ارتجف وجه دلال للحظة، ثم قذفت الكلمة في وجهها بحدةٍ جارحة:

“حبك برص.”

سكتت، لكن الصمت لم يكن هدوءًا بل غليانًا، كأنها تحاول تزن مشاعرها قبل أن ينفجر الكلام من جديد. تقدمت خطوة، عيناها تضيقان بنظرةٍ تجمع بين الوجع والصرامة:

“أنتِ عارفة أنا قلت لطارق إمتى إني بحبه؟ بعد ما اتجوزنا… رغم إننا نعرف بعض من قبل ما نوعى على الدنيا، صحاب، وإخوات، وقرايب… ومع ذلك، قبل ما نتجوز عمره ما مسك إيدي، غير وإحنا عيال صغيرين بنلعب في الشارع.”

ارتجف صوتها للحظة لكنها تماسكت، رفعت سبابتها في وجهها كأنها تلقي درسًا أخيرًا:

“هقولك حاجة واتمنى تفهميها يا ضحى… الراجل اللي ياخد راحته مع بنت محرمة عليه، اعرفي إنه راجل مش محترم ولا متربي، ده واحد بيتسلى بيها وبس، ولما ييجي يتجوز؟ هيدور على واحدة غيرها… النوع ده من الرجالة زبالة، وللأسف كتروا.”

سقطت الكلمات كحجرٍ في بركة راكدة، فاهتزت ملامح ضحى بارتباكٍ وألم، وكأنها لأول مرة ترى حقيقةً كانت تتعامى عنها قَصداً، ارتجفت شفتاها محاولةً البحث عن رد، لكن صوتها اختنق في صدرها.

أما دلال فلم تكتفِ، بل ازدادت نبرتها حدةً ووضوحًا وهي تضيف:

“أصل معلش، الراجل اللي عارف إن ده حرام وغلط، ومع ذلك بينفذه… اعرفي إنه عمره ما هيصونك… زي ما رفع عينه عليك وإنت محرمة عليه، هيرفع عينه على غيرك، ويمسك إيد غيرك، ويتصور مع غيرك، ويصاحب غيرك… النوع ده مايعرفش يعني إيه ستر ولا يعني إيه أمان، ولا حرام ولا حلال.”

رمقتها للحظة بعينين مشتعلة بالصدق والألم معًا، ثم أضافت ببطءٍ كمن يغرس الكلمة في قلب أختها:

“أتمنى تكوني فهمتي يا ضحى… وأهم حاجة لازم تفهميها إننا المفروض ننفذ اللي ديننا بيقولنا عليه، مش نمشي ورا اللي الناس ماشية عليه، مش كل حرام اتعمم… يبقى حلال.”

حلّ صمت ثقيل، كأن الجدران نفسها تمتص وقع الجملة الأخيرة، وضحى جالسة مكانها، عيناها متسعتان بالخذلان والصدمة، بينما في داخلها انهارت صورة ذلك الحب الذي لطالما حاولت تبريره.

فللأسف… هذه طبيعة البشر؛ نبرر أفعالنا بأي شكل فقط لنُرضي شهواتنا، حتى لو كان ديننا ينهى عنها صراحة.

_________________

جلس موسى على الأريكة في البهو، الحاسوب مستقر فوق قدمه، ويده اليسرى وحدها تتحرك بخفة فوق لوحة المفاتيح، إذ كانت اليمنى مصابة.

بينما التف الخمسة حوله كأنهم يحبسون أنفاسهم معه، يتابعون كل نقرة وكل سطر يظهر على الشاشة. وفي اللحظة التي توقفت فيها أصابعه، رفع رأسه قليلًا، ثم ضغط على آخر زر، قبل أن يترك نفسًا طويلاً ويعلن بنبرة حاسمة:

“تم.”

وبينما ساد الصمت لحظة قصيرة عقب إعلان موسى، تقدم صوت كارم، جامدًا في نبرته، كأنه يحاول أن يخفي ارتجافة التوتر التي تسللت إلى صدره:

“يعني كده… كل الصور اتمسحت؟”

التفتت الأنظار نحو موسى من جديد، وكأن الغرفة بأكملها تحبس أنفاسها في انتظار جوابه، وهو لم يتأخر، بل قال بهدوءٍ متعمد، وهو يزيح الحاسوب قليلًا عن ساقيه:

“اتمسحوا يا صاحبي… يعني من على موبايله آه، بس معرفش بقى إذا كان محتفظ بنسخ على جهاز تاني.”

ظل الجو مُعلَّقًا بين يقينٍ ناقص وريبةٍ ثقيلة، قبل أن ينفذ صوت كارم من بين شفتيه، ببطء محسوب، وكأنه يغرس كل كلمة في الفراغ:

“هنعرف… قريب هنـعرف.”

عيناه لم تلتفتا إلى أحد، بل ثبتتا في نقطة مجهولة أمامه، كأنها ليست جدارًا بل وجهًا يتوعده، فيما بدا أن ما قاله لم يكن مجرد تعليق، بل عهد صامت قطعه

أمام نفسه قبل أن يسمعه الآخرون.

وقد التقط الجميع ما يرمي إليه بكلماته؛ تلك النبرة التي حملت بين طياتها أكثر مما تُصرّح به. ولأن الصمت طال أكثر مما يجب، انبرى سامي ليكسره بحدةٍ محسوبة، وهو يوجه بصره مباشرة نحو كارم:

“ارمي اللي في دماغك ده دلوقتي، وركز معايا.”

ترددت أنفاس كارم، قبل أن يرفع بصره نحوه ببطء، لم يبدُ عليه أنه ينوي الانصياع، لكن خطوات سامي المقتربة منه أجبرته على مواجهة الأمر، وحينها خرج صوته ثابتًا:

“أنا مش عايز أعرف اللي حصل… طالما شخص أختك، لكن لازم أحاسبك على رد فعلك.”

لحظة صمتٍ جديدة أحاطت بالاثنين، حتى قطعها كارم بجملةٍ قصيرة، خرجت من بين شفتيه وكأنها دفاعٌ واعتراف في آن واحد:

“لو كنت مكاني… كنت هتعمل كده.”

رد سامي دون أن يمنحه لحظة واحدة لالتقاط أنفاسه، صوته قاطع، لا مجال فيه للالتباس:

“لأ. محدش فينا إحنا الخمسة ممكن يعمل اللي عملته لو اتحطينا في نفس الموقف، عارف ليه؟ علشان إحنا بنفكر، أما إنت… لأ، إنت عصبيتك هي اللي بتحركك، وإيدك بتسبق دماغك، والنتيجة إنك عمرك ما عرفت تتفاهم مع حد.”

توقف قليلًا، وكأنه أراد أن يترك الكلمات تترسّب في صدر كارم كالحجر الثقيل، ثم أكمل وهو يثبت عينيه فيه بنبرة أخف لكنها أشد وقعًا:

“دلوقتي لو كنت أذيتها وإنت في حالتك دي… كنت هتستفاد إيه؟ كنت هتقول ايه لابوك وأمك لما يرجعوا؟… رد عليا.”

سكت البهو للحظة، وكأن الهواء نفسه ينتظر جواب كارم، بينما الأخير أحس أن الكلمات اخترقت جدار عناده، لكن كبرياءه لم يسمح له أن يُظهر ذلك.

زفر كارم أنفاسه بقوة، كأن صدره يضيق بما يحمله، وصوته خرج أول الأمر جامدًا، متماسكًا بقدر استطاعته، ثم أخذ يرتفع شيئًا فشيئًا مع كل كلمة، كأن الغضب كان يحفر طريقه للخارج:

“كنت عايزني أعمل إيه؟! لما توصلني صور زي دي… لما ألاقي كلب باعتها لي وبيقولي: لو مش عايز الصور تتنشر وتوصل لأبوك الغلبان… ابعتلي نص مليون فوري!”

ضرب الهواء بكفه بعصبية، وصوته انفلت من بين أسنانه، مبحوحًا بمرارة:

“الكلب ابن*** اللي مش عارف حتى عرفته منين! بيهددني… يفضحها!”

ارتجف فكه وهو ينطق الجملة الأخيرة، وكأنها طعنة لا زالت ساخنة، فيما انعكست في عينيه نار ممتزجة بعجز دفين، نار لا يحرقها إلا الإحساس بأنه مهما فعل… يظل متأخرًا خطوة عن حماية من يحب.

بينما صفع الذهول وجوه الخمسة من كلماته، وساد صمت ثقيل يقطعه لهاث أنفاسهم المتقطعة، كان هو وحده الذي لم يلتفت إليهم.

عيناه بقتا مغروزتين في الأرض، وشفته السفلى ترتجف وهو يضغط على قبضة يده حتى بدت عروقه بارزة، حتى انفجر صوته حادًا، ممزوجًا بمرارة وقَسَم لا رجعة فيه:

“الـ*** اللي لو جه تحت إيده دلوقتي ما أحلّه… وحياة أبويا ما أحلّه! مسيري أوصله… وأعرف هو مين!”

ارتجف كتفه، كأنه يقاتل عاصفة من الداخل، في اللحظة التي وصله صوت مألوف ينبس بحدة:

“زميلها… في الجامعة.”

كأن سهمًا اخترق الصمت، فالتفت الجميع صوب

محسن

الذي نطق بتلك الكلمات. كانت العيون تطالعه بذهول، ممزوجة بعدم فهم، لكن محسن لم يتراجع، لم يهرب من النظرات، بل أضاف بصوت أكثر ثباتًا مما بدا في عينيه:

“الواد ده… زميلها في الجامعة.”

غامت ملامح كارم، كأن غيمة كثيفة غطّت وجهه، فانطلق صوته ببرود يقطع الهواء:

“وأنت… عرفت منين؟؟”

سكت لحظة، ارتجف فيها الصمت، ثم مالت نبرته إلى اتهام ثقيل وهو يحدّق في محسن كمن يحاول اختراق صدره:

“أنت كنت عارف.”

كانت الكلمات كصفعة، ليس لمحسن وحده، بل للجميع؛ إذ توترت الأنفاس، وارتسمت على الوجوه نظرة موحدة من الذهول والريبة، حتى صار الهواء في الغرفة أثقل من أن يُتنفس.

تراجع محسن خطوة إلى الوراء، ازدرد ريقه بصعوبة، قبل أن ينبس صوته المبحوح:

“شوفتها… وهي بتركب معاه العربية، وفي مرة مشيت وراهم… وشوفتهم وهما داخلين الجامعة.”

انقبض وجه كارم كأن خنجرًا غُرس فيه، عيناه اشتعلتا بلهيب حار، ولم يستطع أن يكبح انفجار صوته:

“وليه ماقولتليش… ليه ماقولتليش يامحسن؟!”

اهتز جسد محسن كله، تلعثم للحظة ثم سارع في الدفاع عن نفسه، كمن يقاوم غرقًا وشيكًا:

“والله العظيم كنت هقولك! من شوية… لما كنت واقف معاك، كنت هفتح الموضوع… بس الرسائل وصلتلك الأول.”

صمت ثقيل تبع كلماته، كأن الجميع ينتظرون ارتطامًا جديدًا، أو انفجارًا آخر من كارم، الذي بدا كبركان محبوس في جسد إنسان.

ولسوء الحظ لم يتأخر ثوران البركان؛ إذ تقدّم نحو محسن بخطوات غاضبة، يهدر صوته بانفعال، والعرق يتجمع على جبينه:

“كان لازم أول ما تشوفهم تكلّمني، وتقولّي على طول…”

لكن قبل أن يكمل، شقّ الهواء صوت جامد، قاطع، كالسيف حين يضرب الحديد:

“كفاية كده يا كارم.”

التفت الجميع دفعة واحدة صوب المصدر، فإذا هو حسن، ثابت الملامح، نظراته غائرة لكنها لا تخلو من حزم.

تقدم خطوتين ووقف أمام كارم مباشرة، حاجزًا بينه وبين محسن بجسده، ثم تابع بصوت منخفض لكنه أشد وقعًا من الصراخ:

“كفاية كده… افتح عينك بقى، وشغّل عقلك ده.”

سكت حسن للحظة، كأنه يزن كلماته بميزان من حديد، قبل أن ينبس بصوت جامد هادئ كعادته، نبرته تخرج كرصاصة موجهة مباشرة إلى صدر كارم:

“قبل ما تحاسب أي حد على حاجة عملها… حاسب نفسك الأول، إنت أخوها الكبير، اللي المفروض يبقى قدوة ليها… ومع ذلك عملت نفس اللي هي عملته، ودلوقتي جاي تحاسبها؟ جاي تحاكمها وإنت زيها بالظبط؟ ولا علشان إنت ولد فمسموحلك تغلط… وهي بنت فحرام عليها؟”

ارتفع حاجباه قليلًا وهو يتقدم خطوة للأمام، عينيه لا تفارق وجه كارم:

“عامةً… أنتو الاتنين غلطانين، بس إنت أكتر، إنت أكتر علشان كده بتبان منافق… بتحاسبها على حاجة إنت بتعملها….


لا تَنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَهُ، عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ

.”

سكت حسن للحظة، ثم قال بصوت هادئ لكنه يقطر صلابة:

“سكت الدوشة اللي في دماغك دي للحظة… وفكّر، فكّر كويس وهتلاقي إنك بتعمل مع خطيبتك بالظبط زي ما الواد ده عمل مع أختك، زي ما إنت استبحت بنت الناس ليك… هو استباح أختك.”

توقف قليلًا، يترك الكلمات تسري في أذن كارم كسم بطيء، قبل أن يواصل:

“أنا قولتها لك قبل كده… يوم ما محسن عمل اللي عمله، قلتلك: حط أختك مكان أي بنت من دول… كنت هتستحمل؟ كنت هترضى؟ افتكرت ردك كويس… اتعصبت وقلتلي: ماتدخلش أختي في الموضوع، وأنا احترمت ده وسكت.”

اقترب أكثر، نبرته صارت أشد ثقلًا وهو ينطق كلماته الأخيرة:

“بس أهو… أهو يا كارم… الزمن جابك للموقف نفسه، دلوقتي جربت إحساس إخوات البنات… دلوقتي عرفت الوجع، وعلشان كده بقولك دايماً: ماترضاش على غيرك اللي ماترضهوش على نفسك، الدنيا دايرة… وداين تُدان.”

ساد صمت ثقيل بعدها… كأن الجدران نفسها حبست أنفاسها، وكأن اللحظة تجمد فيها الزمن. العيون كلها ارتكزت على كارم، عيون ممتزجة بين انتظار والترقب، فيما ظل هو يحدّق في الفراغ بعينين زائغتين، غير قادر على الرد.

تنهد حسن ببطء، ثم رفع يده ليمسح وجهه كمن يحاول تهدئة حرارة كلامه السابق، قبل أن يتحرك بعدها خطوة صغيرة نحو كارم، ومد يده، فوضعها برفق على كتفه، وصوته هذه المرة خرج أهدأ، أعمق، كأن الصرامة تحولت إلى نصح أخوي:

“أسف لو جرحتك بكلامي… بس كان لازم تسمع الكلمتين دول، لازم تفتح عينك بقى… تفهم إنك طول ما إنت عارف من جواك إنك بتغلط… يبقى الحل الوحيد إنك توقف

مش هنسيب ديننا على جنب… علشان اللي إحنا عايزين نعمله.”

شد حسن على كتف كارم قليلًا في نهاية كلامه، كأن لمسته الأخيرة تحمل كل ما تبقى من قسوته وحنانه معًا، ثم ابتعد خطوة للخلف، تاركًا المجال مفتوحًا.

لم تمر لحظة حتى اقترب موسى، بخطوات واثقة، وربت على كتف حسن بابتسامة خفيفة، وقال بإعجاب:

“عاش والله يا شيخنا.”

كان في كلماته شيء من المزاح الخفيف، محاولة منه لتفكيك التوتر الذي ما زال يخنق المكان، لكن صوته حمل أيضًا إقرارًا بأن ما قيل لا يمكن إنكاره.

أما سامي، فقد تحرك بهدوء نحو كارم، عيناه ثابته، وصوته خرج رتيبًا، يخلو من أي انفعال، كأنه اختار أن يكون هو ميزان العقل بعد كل هذه الفوضى:

“أعتقد كده يا كارم فوقنا شوية، وطالما فوقنا… يبقى لازم نتكلم بالعقل يا صاحبي… بالعقل.”

صمت لبرهة، وكأن الصمت نفسه يحمل وزنه على كتف كارم، ثم مد يده ووضعها عليه بحنوّ محسوب، وقال بلهجة أكثر هدوءًا:

“تقعد دلوقتي… ترتب دماغك، وبعدين تروح تكلم أختك… بكل هدوء.”

كان صوته أقرب إلى مرآة، يعكس ما بداخل كارم أكثر مما يوجهه من الخارج، كأن سامي لا يريد أن يفرض عليه قرارًا بقدر ما يفتح له الطريق لرؤية ما هو واجب.

وكارم في تلك اللحظة أصبح عاريًا أمام نفسه؛ كل الحواجز التي كان يختبئ خلفها انهارت، ولم يبقَ سوى الحقيقة التي طالما حاول أن يدفنها تحت أكوام من التبريرات.

كان كلام حسن كصفعة، لكنها ليست صفعة جسد بل صفعة روح، أصابته في العمق وأيقظت داخله ما كان يهرب منه.

هو كان يعرف منذ البداية أنه يتجاوز حدوده مع ميرنا، كان يعرف أن كل خطوة يخطوها نحوها تزيد من ثِقَل الذنب على كتفيه، ومع ذلك اختار التغافل، اختار أن يغمض عينيه عمدًا ويغطي أذنيه عن صوت ضميره… لكنه الآن، تحت ثقل العيون التي تراقبه، تحت الكلمات التي هزت وجدانه، لم يعد يستطيع الكذب على نفسه.

شعر وكأن الهواء من حوله صار أثقل، وكأن الغرفة كلها تضيق عليه، تدفعه دفعًا ليواجه ما يرفض مواجهته.

لقد حان وقت الحساب… ليس مع الآخرين، بل مع ذاته أولًا.

_________________

مع مرور الوقت….

وصل كارم مع أصدقائه إلى بيته بعد أن أدوا صلاة العشاء، خطواتهم كانت هادئة لكنها مثقلة بأصداء الحديث الذي دار بينهم قبل قليل.

انصرف سامي إلى منزله سابقاً، أما حسن وحسين ومحسن فقد اكتفوا بوداع قصير، إيماءة خفيفة، أو ابتسامة هادئة، أو تربيتة عابرة على كتفه، ثم تواروا واحدًا تلو الآخر داخل بيتهم، تاركين كارم على عتبة مواجهة لا مهرب منها.

لم يبقَ إلى جواره سوى موسى، ظل واقفًا برهة يتأمل وجه صديقه، ثم رفع يده ووضعها على كتفه، وضغط برفق، إيماءة صامتة تحمل أكثر مما تحمله الكلمات.

بعد ذلك أشار له بالصعود،

فأ

ومأ كارم بخفوت، وانحنى رأسه قليلًا ثم بدأ في الصعود ببطء، خطواته كأنها تُثقلها أفكاره، وموسى ظل يتابعه بعينيه، يلاحق حركته حتى ابتلعته جدران البيت واختفى.

عندها فقط أطلق زفرة طويلة، تنهدًا مشوبًا بالقلق والدعاء في آنٍ واحد، ثم ارتكز بظهره على حائط المنزل، يراقب الباب في صمت، ينتظر نزول دلال…

صعد كارم الدرج ببطء حتى بلغ باب الشقة، رفع يده وطرق بهدوء، طرقات بالكاد تُسمع لكنها كانت كافية لتعلن حضوره.

لم تمضِ سوى لحظات حتى فُتح الباب، ظهرت دلال بوجهها الهادئ ونبرة مقتضبة وهي تقول:

“تعالى.”

تنحت جانبًا بخطوة صغيرة، فاتحة له المساحة للدخول، فولج كارم مترددًا، وعينيه تبحثان على الفور عن شقيقته.

لم تفُته دلال تلك النظرة، فبادرت بقول قصير، حاسم:

“في أوضتها.”

أنهت عبارتها ومضت نحو الداخل، إلى الغرفة حيث كانت ضُحى تجلس على الفراش، يعلو وجهها قلق شاحب وصوتها المرتجف يتسرب بالكاد:

“هو؟”

اقتربت منها دلال وجلست بجانبها، ربتت على كتفها برفق ثم قالت بصوت مطمئن:

“آه، بس ماتخافيش… واضح إنه هدى، اقعدي معاه واتكلموا، ولو حصل أي حاجة كلميني على طول.”

ثم طوقتها بذراعيها في عناق قصير، عناق فيه طمأنة أكثر مما فيه كلمات، وبعدها ابتعدت قليلًا، تربت على وجنتها بحنو وابتسمت ابتسامة صغيرة كأنها تُودّعها إلى مواجهة ضرورية لا بد منها. التقطت هاتفها من فوق الطاولة، ونهضت متجهة إلى الخارج.

وحين خرجت إلى حيث كان كارم يقف، توقفت أمامه لحظة، نظرت إلى عينيه مباشرة، ثم همست بنبرة حازمة لكنها مشبعة بالحنان:

“بالراحة… بالراحة يا كارم.”

قالتها دلال، ثم استدارت ومضت نحو الخارج، كانت خطواتها على الدرج هادئة، محسوبة، وعندما بلغت الأسفل رفعت بصرها تلقائيًا إلى يمينها، فتجمدت للحظة، إذ وجدت موسى مرتكزًا على الحائط، ساكنًا كأنه كان هناك منذ زمن.

تراجعت خطوة إلى الوراء بلا وعي، وعيناها تتسعان وهي تقول بنبرة حائرة:

“بتعمل إيه هنا؟”

رفع موسى رأسه ببطء، ونطق ببساطة صادقة:

“مستنيكي.”

ارتسم الاستغراب على ملامحها أكثر، فخرج سؤالها مباشرة:

“ليه؟”

أجاب بهدوء، وكأنه أمر بديهي لا يحتاج إلى كثير شرح:

“علشان أوصلك… يلا.”

ومع إشارته لها بالتحرك، خطت دلال إلى جانبه، مشيا متجاورين بخطوات متوازنة، وسرعاة ما التفت موسى إليها بنظرة امتنان صافية، ثم قال بصوت خفيض يحمل صدقًا غير مصطنع:

“شكرًا يا دلال… تعبتك معايا النهارده، بس أنا عارف… مفيش غيرك كان ممكن يفوّقها.”

ابتسمت ابتسامة هادئة، وردّت برجاءٍ صادق:

“يارب بس يبقى كلامي جاب نتيجة.”

أومأ موسى بخفوت، ثم رفع رأسه نحوها وفي عينيه مسحة اهتمام صادق:

“إن شاء الله…. أنتِ كويسة، صح؟ حاسة بتعب ولا حاجة؟”

هزّت رأسها نافية بسرعة، ثم قالت وهي تطمئنه بابتسامة رقيقة:

“لأ، ماتخفش… كويسة.”

أشار موسى بإصبعه نحو بطنها مبتسمًا في محاولة منه لكسر ثِقل اللحظة وقال مازحًا:

“طب إيه الأخبار؟ كرشك هيبان إمتى؟”

انتفضت دلال فورًا، وضربته على ذراعه بخفةٍ ممزوجة بالحنق، وهي ترد بسرعة:

“كرش مين؟ اتلم يا موسى.”

لمحت ملامحه تنقبض للحظة وهو يتأوه من أثر الضربة على ذراعه المصابة، ورفع حاجبيه متأففًا:

“غلطان إني بطّمن عليكِ يعني.”

تراجعت هي قليلًا حين أدركت أنها أصابت موضع ألمه، نظرت له بنظرةٍ تجمع بين الحرج والقلق، ثم همست:

“آسفة، ماكنش قصدي… بس إياك تقولي كلمة

كرش

دي تاني، وإلا مش هرحمك.”

رفع حاجبيه بدهشة، يطالعها وكأنه لا يصدق سرعة تقلبها، وقال باندهاشٍ ساخر:

“دي الهرمونات طافحة عليكِ أوي.”

رمقته بحدة وهي تضبط خطواتها إلى جانبه:

“طب أمشي وأنت ساكت، بدل ما أطلعها كلها عليك.”

ضحك بخفة ثم أمال رأسه نحوها قائلاً:

“تعرفي لو مش حامل، كنت هعمل فيكِ…”

توقفت لحظة، نظرت له بعينين ضيقتين مستفهمتين:

“هتعمل إيه؟”

هز كتفيه للأعلى، وبنبرة جادة تخالطها بسمة كتمها بصعوبة:

“ولا حاجة.”

لم تتمالك نفسها، فاندفعت منها ضحكة صغيرة رغماً عنها، فابتسم بدوره، ابتسامة صافية، ثم عادا ليسيرا معاً في طريقهما، خطواتهما تتوازى بلا تكلّف، كأن بينهما اتفاقاً غير مكتوب على أن يُكملا المسير جنباً إلى جنب مهما تباينت الدروب.

_________________

في الأعلى، ظل كارم متسمّرًا في مكانه، كأن الأرض قد شدّت قدميه إليها، وعيناه معلّقتان بذاك الباب الموارب الذي بدا له أثقل من جدارٍ صلد. كان الباب صامتًا، لكن خلف صمته ضجيجٌ يثقل صدره ويخنق أنفاسه.

ظلّ يراقبه لبرهة طويلة، يتأمل الفتحة الضئيلة التي تسمح بمرور ظلٍ باهت من الداخل، وكأنها تُغريه بالدخول.

أحسّ أن صدره ضاق أكثر كلما طال وقوفه، وأن الهواء الذي يملأ الغرفة بات أثقل من أن يُحتمل، فأطلق زفرة متعبة، كمن يستجمع شجاعةً لا يملكها في الوقت الحالي.

وأخيرًا، جمع ما تبقّى له من عزيمة، وقرر أن يمضي قُدمًا، رفع قدميه بتثاقل، كأن كل خطوة تُقتطع من روحه، وبدأ يتقدم ببطءٍ نحو الباب، فيما صدى خطواته الخافتة بدا كدقّات قلبٍ مُرتبك، يُرافقه حتى وصل إلى العتبة.

رفع كارم يده ببطء، وكأنها مثقلةٌ بوزنٍ لا يُرى، ثم ترك أنامله تطرق على الباب طرقات خافتة، مترددة، لا تشبه طلب الدخول بقدر ما تشبه استئذانًا خائفًا من مواجهة الحقيقة.

لحظة صمتٍ قصيرة مرّت بعد الطرق، لكنها بدت له دهراً، حتى دفع الباب برفق، وانزلق إلى الداخل كمن يسير في حقل ألغام.

هناك، على طرف الفراش، رآها… جلست كظلٍ منكسر، كتفاها منحدران، ورأسها مطأطأ كأنها تحمل فوقه عبئًا لا يقوى على احتماله.

وأخيرًا حسم كارم تردده وتقدم بخطوات بطيئة نحوها، كمن يقترب من هاوية يخشى السقوط فيها.. جلس إلى جوارها، تاركًا بينهما مسافة صغيرة، لكنها بدت شاسعة كأنها جدار يفصل عالمين متباعدين.

مرّت لحظات ثقيلة من الصمت، لم يُسمع خلالها سوى أنفاس متقطعة تتخللها دقات قلبٍ متسارعة تخون استقرار مظهرهما الخارجي.

ثم، وبصوت خافت، مختنق، سأل:

“اتعرّفتي عليه امتى؟”

ابتلعت ريقها ببطء، وكأن الكلمة الواحدة تحتاج منها شجاعة كاملة لتخرج، ظلّت تحدّق في الأرض، أصابعها تعبث بحافة الفراش، قبل أن تهمس:

“من ست شهور.”

انقبض صدره، ولم يمنحها سوى سؤالٍ جاف، متوتر:

“إزاي؟”

ارتجف صوتها وهي تجيب، كأنها تُسحب قسرًا من ذاكرتها إلى لحظة لا تريد استدعاءها:

“هو… هو زميلي في الجامعة، وفي آخر سنة ليه… حضرنا مرة محاضرة لنفس الدكتور… وبعدها، اتقابلنا كذا مرة بالصدفة، مرة ورا التانية… اتكلمنا، وبعدين هو طلب رقمي… و… ومن يومها بدأنا نتكلم.”

ارتجفت شفتاها عند آخر كلمة، وساد صمت ثقيل لبضع ثوانٍ قبل أن تواصل، كأنها تُلقي بنفسها في هاوية أعمق:

“ومع الوقت… انجذبنا لبعض، وقالي إنه بيحبني… وإنه هييجي يطلب إيدي بعد ما نتيجته تطلع.”

جاء صوته جامدًا، خافتًا، لكنه حمل صدى قاسٍ، صدى حديديّ يخترق:

“كان بيضحك عليكِ…”

رفعت عينيها إليه مذعورة، تحاول أن تنفي أو أن تجد مهربًا من وقع كلماته، لكن نظرته القاسية حبست أنفاسها، بينما هو أكمل، وصوته أشد ثِقلاً:

“كان بيضحك عليكِ يا ضحى، كان بيستغلك… تعرفي هو بعتلي إيه مع الصور دي؟”

مال قليلًا بجسده نحوها، كمن يُسقط عليها الحقيقة دفعة واحدة:

“بعتلي ماسج… كاتب فيها إنّي لو مش عايز الصور دي تتنشر… وأبوك يشوفها… لازم أدفع له نص مليون جنيه.”

ارتجفت كلماته الأخيرة بجدران قلبها كأنها صفعة، ارتجفت أنفاسها، وشحب وجهها، وكأن الأرض انسحبت من تحتها في لحظة.

كانت تظن أنه حبّ، وها هو انكشف فجأة على حقيقته: مجرّد خدعة، مصيدة محكمة.

مسح كارم وجهه بكفّيه، كأنه يطرد ثِقَل الغضب والخذلان الملتصق بملامحه، ثم رفع رأسه نحوها وقال بصوت متماسك، لكنه يخفي تحت طبقاته غليانًا مريرًا:

“واضح أوي إن دي طريقته… أسلوب متعود عليه، يضحك على واحدة بريئة، يجرّها بكلمتين، يتصوّر معاها كام صورة حلوين… وبعدها يبدأ يلوي دراعها بيهم. يبتزها… أو يبتز أهلها.”

توقف لحظة، وصوته صار أبطأ، أعمق، كأنه يتذوق المرارة في كل حرف:

“ممكن يا ضحى… ماتبقيش أول واحدة يعمل معاها كده.”

ارتجف جسدها وهي تسمع كلماته، وكأن كل جملة منه تسحبها إلى قاع أعمق من الخزي والخذلان، حاولت أن تفتح فمها لتتكلم، لتدافع أو تُنكر، لكن صوتها خذلها… عيناها اتسعتا في ذهولٍ ودموعها تحجّرت عند الأطراف، عاجزة عن السقوط.

وفي تلك اللحظة، انكشفت لها الحقيقة كاملة كصفعةٍ قاسية: هي التي أوقعت نفسها وأهلها في مأزق لا يُحتمل. لم يكن ذنبها مجرد اندفاعٍ عاطفي، بل تهور أعمى جعلها تُلقي بأسرار بيتها بين يديه: عن عمل شقيقها، وأسهمه في شركة صديقه، عن مرض والدها وقلبه الضعيف… قالت أكثر مما يجب، وبلا وعي سلّحت يديه بأسرار تكفي لتدميرهم… والآن، لم تعد سوى فريسة سهلة في قبضته.

أما كارم، فظلّ يرمقها بنظرة صلبة، قبل أن يطلق كلماته ببطء، كأن كل حرف منها صفعة:

“مش كل اللي قالك كلمة حلوة… بيحبك، مش كل اللي وعدك بحاجة… هينفذها، ومش كل الرجالة… قد كلامهم.”

توقف قليلًا، ثم أضاف بصوت أشد مرارة:

“ده لو كانوا من الأساس رجالة.”

ارتجف قلبها مع وقع الجملة الأخيرة، أحست كأن الأرض انسحبت من تحت قدميها. كانت كل كلمة منه تحطم بداخلها شيئًا ظنّت أنه صلب، حتى لم يبقَ منها إلا هشاشة مؤلمة.

أطرقت برأسها أكثر، ويديها تشبثتا بطرف الفراش كمن يبحث عن سند، بينما عجزت شفتاها عن الرد، وظلّت عيناه كمرآة تعكس لها خيبتها كاملة.

لاحظ ارتجافها وصمتها المنكسر، فأزاح نظره عنها لثوانٍ، ثم نهض ببطء من على الفراش، حركته ثقيلة لكنها حاسمة، ووقف أمامها.. ثم خرج صوته جافًا، حادًا:

“قومي.”

رفعت رأسها نحوه بعينين دامعتين، متوسلتين بصمت، وكأنها ترجوه أن لا يطالبها بما تعجز عنه، لكنه لم يترك لها مساحة للتردد، كررها هذه المرة أعمق، أكثر صرامة:

“قومي.”

ارتجفت ساقاها وهي تنهض بتثاقل، خطواتها مترددة، كأن الأرض تقاومها، وما إن استقامت أمامه حتى اقترب خطوة، فجأة، وبلا مقدمات، شدّها إليه.

احتواها بذراعين متصلبتين أول الأمر، ثم سرعان ما تراخيا في عناق بدا متناقضًا؛ خليط من الغضب الذي لم يخمد، والشفقة التي غلبت عليه رغمًا عنه.

وهي بين كتفيه، لم تتمالك نفسها؛ انهار دمعها في صمت أول الأمر، ثم أخذت شهقاتها ترتفع رويدًا رويدًا، كأنها تتكسر بين ذراعيه، زكل اهتزازة في صدرها كانت تصيب قلبه بطعنة أعمق، وكل دمعة تسقط على قميصه كانت تزيد من ثقل الذنب داخله.

شد عليها أكثر، حتى كاد يطويها بين ضلوعه، كأنه يحاول أن يُخفيها عن العالم وعن كل ما جرحها، قبل أن يميل على رأسها، عينيه مثقلتين بندمٍ عجز عن كبته، ثم طبع قبلة طويلة على شعرها المرتجف، قبلة أقرب للاعتراف والهزيمة منها لأي شيء آخر.

وخرج صوته مبحوحًا، متكسرًا وهو يردد عند أذنها:

“حقك عليا… آسف إني مدّيت إيدي عليكِ… سامحيني يا روحي… حقك عليا.”

كانت الكلمات أشبه برجاءٍ يتعثر من بين شفتيه، لا يملك لها سوى الصدق العاري، وهو يدرك أنه مهما قال، سيبقى جُرحها شاهدًا عليه. ومع ذلك، لم يتوقف عن ترديدها، كأنه يحاول أن يغسل خطيئته بهمسه، أو يطوي وجعها بصوتٍ يرتجف من فرط الذنب.

هي أخطأت، نعم… أخطأت حين تركت قلبها ينساق وراء وهمٍ غطّى عينيها، فالحب حين يعمى لا يترك لصاحبه إلا العمى ذاته. تناست كل ما تربّت عليه: دينها، أخلاقها، وصوت أبيها الذي كان يرن في أذنيها يومًا:


“البنت عرض، والعرض ما يتهاونش فيه.”

لكنها لم ترَ إلا الكلمات المعسولة، والوعود التي بلا ظل، ويدًا تستبيح كتفها تارة وخصرها تارة، حتى صارت تتوهّم أنها تحيا قصة صادقة، بينما الحقيقة لم تكن سوى خداع.

وهو أيضًا أخطأ… أخطأ حين رأى المشهد، فاشتعل الغضب في عروقه حتى أعمى بصيرته، لم يرَ سوى شقيقته مستباحة من رجل غريب، فاندفع كمن يذود عن عرضه بلا وعي… يده سبقت عقله، وصفعته كانت أقسى مما يحتمل قلبها، فزاد جرحًا فوق جرح، ووجعًا فوق وجع.

خطؤها كان كبيرًا، لكن خطأه لم يكن أقل… هو خان حنان الأخ حين غلبه الغضب، وهي خانت ثقة أخيها حين غلبها الوهم… وبين خطأهما، كانت الدموع هي اللغة الوحيدة التي جمعتهما، دموع اعتراف ضمني، ودموع رجاء بأن يجد كل منهما عند الآخر غفرانًا لا يأتي بسهولة.

ابتعدت عنه قليلًا، كأنها تسترد أنفاسها بعد عناق أثقل قلبها بالدموع، ثم رفعت يدها المرتعشة تمسح خديها المبللين، قبل أن يخرج صوتها باهتًا، متهدجًا، لا يكاد يُسمع:

“هو.. هو ممكن يبعت الصور دي لبابا… أو ينشرها؟”

كأن السؤال طعنة في صدره، فشدّ على أسنانه لئلا يُظهر ارتجاف قلبه، ثم تقدّم منها من جديد، رفع كفيه يحتضن وجهها بين يديه، ينظر في عينيها مباشرةً، كأنه يريد أن يزرع فيها يقينًا لا يتزعزع، ثم قال بلهجة حاسمة يكسوها دفء:

“موسى اخترق تليفونه، ومسح كل اللي عليه… الخوف بس إنه يكون محتفظ بنسخ تانية على جهاز تاني، بس مش عايزك تقلقي… أنا هتصرف، أياً كان الثمن هوصله وأخد حقك منه.”

سكت للحظة، كأن الكلمات تتجمع على لسانه ببطء، ثم قال بنبرة جادة:

“أهم حاجة دلوقتي… لما أبوك وأمك يرجعوا بكره من عند عمتك، ما تبينيش حاجة قدامهم، مش عايزينهم يلاحظوا أي حاجة… اتفقنا؟”

لم تستطع أن تجيبه سوى بإيماءة خفيفة، بالكاد مرئية، فابتسم هو ابتسامة صغيرة أراد بها أن يزرع الطمأنينة في قلبها المرهق، ثم مد ذراعيه من جديد، يجذبها نحوه ويطويها في عناق آخر، هذه المرة أكثر هدوءًا، يمسح على ظهرها بحنو أخوي كأن لمسة يده وحدها قادرة أن تُطفئ ارتعاشها وتخفف من وجع قلبها.

أما هي، فشعرت بشيء من الثقل يُرفع عن صدرها، كأن دفء كتفيه أعاد إليها بعض الأمان الذي فقدته، فسمحت لدموعها أن تهدأ، ولأنفاسها أن تتباطأ، مستسلمة للحظة لا تريد أن تنتهي.

_________________

في صباح اليوم التالي…

كانت تقف إلى جوار ابنتها في المطبخ، تتناوبان غسل الصحون بعد أن أنهتا فطورًا متواضعًا. قطرات الماء تتناثر على حافة الحوض، بينما يعلو صوت احتكاك الأطباق بعضها ببعض في صمتٍ رتيب، تقطعه بين الحين والآخر كلمات متقطعة بينها وبين ابنتها.

قالت عالية، وهي تمد يدها لتضع طبقًا في الرف على التجفيف:

“هتعرفي تكملي شغل يا ماما؟”

رفعت شمس بصرها نحوها، وعلى ملامحها مزيج من الإصرار والتعب، ثم تنهدت قبل أن تجيب:

“لازم أكمل يا بنتي… أومال هنصرف منين؟ هنزل كمان شوية أجيب طلبات، وأشوف لو في حد طالب أوردر ولا حاجة… هما مش هيتكلموا معانا ولا هيسألونا عن حاجة.”

ترددت عالية قليلًا، ثم قالت بصوت منخفض:

“الفكرة بس… إنك لما بتطبخي بتستهلكي حاجات كتير، فخايفة يضايقوا أو يفتكروا إننا بنزود الحمل عليهم.”

توقفت يد شمس عن الحركة لحظة، كأن الكلمات لامست جرحًا بداخلها، ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة، متعبة، وأجابت وهي تستأنف غسل الأطباق:

“ماتخافيش… مش هيضايقوا.”

توقفت عالية عن فرك الكوب بين يديها، وضعت الإسفنجة جانبًا ثم التفتت نحو أمها، تحدّق في وجهها بعينين متسائلتين:

“إيه اللي مخليكي متأكدة كده يا ماما؟”

رفعت شمس رأسها قليلًا، كأنها تستجمع الكلمات، ثم ردّت بنبرة تحمل يقينًا لا يخلو من محاولة طمأنة:

“متأكدة وخلاص يا عالية… الناس دول أطيب مما تتخيلي، مستحيل يزعجونا بكلمة ولا فعل، اطمني… أنا عارفاهم من زمان.”

تنهّدت عالية، زفرة ثقيلة خرجت منها كأنها تسلّم بالأمر الواقع، ثم أومأت بخفوت، وعادت عيناها إلى الأطباق أمامها.

وفجأة، قطع سكون اللحظة صوت مألوف جاء من خلفهما:

“ماما…”

التفتت كلتاهما نحو مصدر الصوت، لتريا أدهم واقفًا عند باب المطبخ، يربط حذاءه على عجل، وصوته يحمل شيئًا من الحماسة الممزوجة بالاستعجال:

“أنا نازل بقى يا ماما، علشان التاكسي وصل.”

بادرت شمس بخطوة نحوه، وابتسامة حانية ترتسم على ملامحها:

“ماشي يا حبيبي… خد بالك من نفسك، وابقى طمّني عليّك.”

أجابها سريعًا وهو يلتفت:

“حاضر… مع السلامة.”

ثم مضى بخطوات ثابتة نحو الباب، ألقى نظرة أخيرة على أمه قبل أن يغيب خلفه، فيما ظلت شمس واقفة مكانها، ترافقه بنظراتها حتى أُغلق الباب، وغمر المطبخ صمت قصير بعد رحيله.

ترجّل أدهم من على الدرج بهدوء، وعندما وصل إلى الطابق الثاني، لمح الباب المفتوح على آخره، وصوت همسات غير واحدة تتسرب من الداخل، كان محمد جالسًا مع مصطفى، يتبادلان حديثًا بدا خفيفًا، وهم يتناولان الإفطار.

اقترب أدهم بخطوات واثقة، ثم مال بجسده قليلًا داخل الباب، وقال بنبرة ودودة تحمل دفء الصباح:

“صباح الخير.”

ابتسم الاثنان فور أن وقع بصرهما على أدهم، وانفرجت ملامح محمد بترحاب صادق وهو يقول:

“صباح الخير… رايح الشغل؟؟”

أومأ أدهم برأسه وهو يعقد حزام حقيبته على كتفه:

“آه.”

أشار محمد بيده نحو الطاولة المليئة بالطعام، وقال بنبرة ودودة تحمل دعوة صافية:

“طب تعالَ، خد لقمة معانا قبل ما تمشي.”

ابتسم أدهم وهو يومئ شاكرًا، ثم أجاب برقة:

“لا أنا سبقتكم، بألف هنا والشفا… أنا هنزل علشان التاكسي مستنيني تحت، عن إذنكم.”

أومأ كلاهما معًا، وقبل أن يدير ظهره، قال مصطفى بصوت منخفض لكنه محمَّل بالحرص:

“خد بالك من نفسك.”

ألقى أدهم عليهما ابتسامة مطمئنة، وهز رأسه قائلاً:

“حاضر.”

ثم غادر بخطوات ثابتة، فيما ظل محمد يتابعه بعينيه حتى اللحظة الأخيرة، ثم التفت إلى ابنه وقال بصوت هادئ لكنه غارق في معنى:

“الواد ده عسل أوي… ربنا يبارك فيه ويخليه لأمه… ربنا بيعوضها بيه على اللي شافته في حياتها.”

تجمدت ابتسامة مصطفى على شفتيه للحظة، ثم تلاشت كأنها لم تكن. شعر أن الكلمات خرجت موجهة له مباشرة، رسالة غير منطوقة حملت في طياتها شيئًا من العتاب الصريح.

خفض عينيه إلى الطبق أمامه دون أن يجيب، وأحس بانقباض داخلي… لمح محمد ذلك، فزفر زفرة ثقيلة قبل أن يقول بنبرة حاسمة تقطع الخيط الصامت بينهما:

“كمل أكل… كمل يا مصطفى.”

انحنى مصطفى قليلًا فوق طعامه، يحاول أن يُخفي ارتباكه، فيما ظل الصمت بينهما يخيّم كستارة سميكة لم يعد أحدهما يريد أن يرفعها.

وفي الأسفل، خرج أدهم من باب العمارة، ليلمح سيارة الأجرة متوقفة أمام المدخل بانتظاره.

خطا نحوها بخطوات سريعة، يكاد يلمس مقبض الباب، لكن صوته قطع المشهد فجأة:

“أدهم.”

توقف أدهم في مكانه، جسده تيبّس للحظة، ثم التفت نحو مصدر الصوت. كان الصوت مألوفًا، باردًا، يحمل نبرة جامدة مقززة لا يخطئها سمعه. وحين وقعت عيناه على القادم، ازدادت ملامحه انقباضًا.

كان منتصر يتقدم نحوه بخطوات بطيئة لكنها واثقة، وعلى وجهه تلك الابتسامة الخبيثة التي يعرفها أدهم جيدًا، انعقد حاجبا الأخير باستياء حاد، وخرج صوته حادًا كالسيف:

“إنت بتعمل إيه هنا؟”

اقترب منتصر حتى صار على بُعد خطوات قليلة، ثم قال ببرود متعمد:

“هو في حد بيكلم عمه بالأسلوب ده؟”

لم يتركه أدهم ليكمل نغمة التوبيخ الزائفة، فقط قاطعه بنبرة قاطعة تنضح غضبًا مكبوتًا:

“انجز وقول إيه اللي جابك، ولو ماعندكش حاجة مهمة… سيبني أمشي علشان مش فضيلك.”

كبح منتصر غضبه بصعوبة، شدّ على أسنانه ثم ترك زفيرًا خافتًا، كأنه يبتلع النار المشتعلة في صدره.

وحين تكلم، غلّف صوته ببرودٍ متعمد، محاولًا أن يبدو ودودًا هادئًا، وإن كانت حدّة عينيه تفضح ما يخفيه:

“هعمل نفسي ما سمعتش الكلمتين دول منك… علشان أنا مش جاي علشان أتخانق معاك، أنا جاي علشان أفتح عينك.”

رفع أدهم حاجبيه باستنكار، صوته خرج متوترًا، مختنقًا بالغضب:

“تفتح عيني على إيه؟ هو أنت أصلاً مش عايز تبعد عننا ليه؟ زي ما بعدنا عنك! حلّ عنّا بقى… وسيبنا في حالنا.”

قالها وهو يمسك مقبض باب السيارة بعصبية واضحة، لكن قبل أن يسحب الباب ويدخل، تجمّد جسده فجأة؛ فقد اخترقت أذنه كلمات عمه، كلمات تقطر سمًّا بطيئًا، لكنها قاطعة كالسكين:

“جاي أفتح عينك على عمايل أمك… واستغلالها ليكم… علشان ترجع لحبيب القلب.”

_________________

في جهة أخرى…

كان يقود دراجته النارية في طريقه المعتاد إلى العمل، الهواء يصفع وجهه برفق وهو ينزلق بانسيابية وسط الطريق، كأن الحركة جزء منه. ضغط على المكابح عند إشارة المرور الحمراء، فهدأ صوت المحرك تدريجيًا حتى خفت تمامًا.

أدار رأسه بغير قصد، مجرد حركة عابرة ليمسح المكان بعينيه، لكن الصدفة جمدت أنفاسه: نفس السيارة… السيارة ذاتها التي علقت في ذهنه منذ ذلك اليوم، واقفة في الصفوف الأولى أمامه.

ارتفع حاجباه بدهشة متحفزة، وثبتت عيناه عليها بتركيز حاد، بينما تشنجت يداه على مقود الدراجة دون أن ينتبه، وكأن الزمن كله توقف عند تلك اللحظة.

وما إن انقلبت الإشارة إلى اللون الأخضر، حتى دوّى صوت المحركات من حوله، فانطلق هو على الفور، موجّهًا دراجته خلف السيارة مباشرة، كمن وجد خيطًا كان يبحث عنه طويلًا، أو طريدة لن يتركها تفلت ثانية.

ظلّ محسن يتتبع السيارة، عيناه لا تفارقها، كأن خيطًا خفيًا يجرّه خلفها، لم يشغل باله بأي شئ يدور حوله، كل تركيزه منصبّ على تلك المركبة التي صارت بالنسبة له علامة استفهام مشتعلة.

انعطفت السيارة في شارع جانبي أقل ازدحامًا، الطريق خالٍ إلا من بعض المباني المتفرقة، فاغتنم محسن الفرصة… ضغط على مقبض السرعة بقوة، فانطلقت الدراجة تصرخ تحت جسده، يسبق الريح، يقطع المسافة في لمح البصر.

تجاوز السيارة بخطّة سريعة، ثم انحرف بمهارة أمامها وتوقف فجأة بعرض الطريق، واضعًا نفسه مباشرة في وجهها.

توقفت السيارة مضطرة، والهدوء الموحش للشارع جعل صوت المحرك وصوت أنفاس محسن يبدوان أعلى من أي شيء آخر.

ثبت قدميه على الأرض بكل ثبات، كأن جذوره غرست في الإسفلت، ثم خطا ببطء نحو السيارة.

انخفض زجاج النافذة فجأة، وخرج صوت السائق غاضبًا، مرتجفًا بين الانفعال والدهشة:

“أنت بتعمل إيه يا متخلّف!”

لم يبالِ محسن بكلماته، لم يلتفت إليها وكأنها مجرد ضوضاء عابرة، بل ركّز عينيه في موضع واحد: يد الشاب المستندة على المقود… هناك، على معصمه، لمع السوار الجلدي الأسود، نفس العلامة التي ميّزه بها.

لحظتها انكمشت ملامحه في شبه ابتسامة مريبة وهو ينظر لوجه الشاب، ابتسامة من يعرف أنه وصل أخيرًا لما يريد.

وببطء متعمد، خلع خوذته من على رأسه، ثم ألقاها أرضًا لتصدر صوت ارتطام مكتوم على الإسفلت، كأنها إعلان رسمي لبداية مواجهة لا رجعة فيها…

لمعت عيناه ببريق غامض، خليط من الشر والانتصار، وهو يشير للشاب داخل السيارة بحركة صارمة قائلاً:

“انزل يا حيلة أمك.”

#يتبع….

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق