رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل التاسع والأربعون
الفصل التاسع والأربعون(صوت لا يشبهها؟!)
نتفاعل ياحلوين فضلاً ❤
_____
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
_________
–
أُحِبُّكِ حُبًّا لو تَفَلَّتَ مِن يَدي
لَقاتَلتُ أيّامي عليكَ وأَسلَمي
“نزار قباني”
________________
جلس في بهو المنزل بهدوءٍ متوتر، ينحني قليلًا للأمام، يشبك يديه أمامه، وعيناه تتعلّقان بأرض الغرفة كأنما يستقرئان ما سيحدث بعد قليل.
كان الجوّ مشحونًا بصمتٍ ثقيل، لا يقطعه سوى صوت أنفاسه الخافتة، وأفكاره التي تتزاحم في رأسه دون نظام.
وفجأة، سمع وقع خطوات خفيفة تقترب، فرفع رأسه ليرى سيدة في منتصف عقدها الخامس تدخل بابتسامة ودودة، تحمل صينية صغيرة عليها فنجان قهوة وكوب ماء.
اقتربت منه بهدوء، كأنها تعرفه منذ زمن، ومالت تضع ما في يدها على الطاولة الخشبية الصغيرة أمامه، وهي تردد بلطفٍ خافت:
“اتفضل.”
نظر إليها كارم وابتسم مجاملة:
“شكراً.”
لكن عينيه التقطتا شيئًا ما في نظراتها… شيء لا يمكن الإمساك به، كأنها تعرفه منذ زمن، ليس وكأنها تراه للمرة الأولى.
نظرت إليه نظرة طويلة.. ومع ذلك، قابلها بابتسامة خفيفة، قبل أن يقطع الصوت القادم من بعيد سكون اللحظة:
“بعتذر لو خليتك تستنى كتير.”
رفع كارم رأسه ليرى رجلًا يتقدّم نحوه بخطى واثقة ونبرة ثابتة…
نهض كارم فورًا من مكانه، صافحه بحرارة، قبل أن يشير له توفيق بالجلوس قائلاً:
“اتفضل اقعد.”
لم يجلس كارم إلا بعد أن جلس توفيق، فلاحظ الأخير تلك اللمحة من الاحترام، التي لم تمر دون أن ترتسم على وجهه ابتسامة صغيرة.
في تلك اللحظة، ظهرت سيدة راقية بخطوات خفيفة، اقتربت وهي تمد يدها لمصافحة السيدة قائلة بابتسامة مهذبة:
“أهلاً.”
أومأ لها كارم بإيماءة خفيفة ردًا على الترحيب، فالتفت توفيق إليه مشيرًا نحوها:
“جنّة… مراتي.”
تجمّدت ملامح كارم للحظة، كأنه تلقّى معلومة غير متوقعة، ثم التفت صوب توفيق وقال ببطء:
“بس ميرنا كانت قايلالي إن مامتها…”
قاطعته جنة بلطف دون أن تفقد ابتسامتها:
“أنا مرات باباها.”
صمت كارم للحظة، ثم أومأ بتفهم وهو يردد:
“آه فهمت.”
ابتسمت له السيدة بأدب، ثم التفتت إلى توفيق وقالت:
“أنا هطلع أنادي ميرنا.”
لكن توفيق رفع يده كأنه يوقفها وقال:
“لأ…”
انعقد حاجباها بدهشة، وكذلك كارم، لكن توفيق أضاف وهو ينظر صوب ضيفه بثبات:
“مش دلوقتي… محتاج أتكلم مع الأستاذ كارم الأول، على انفراد.”
ساد الصمت لحظة…
تبادل فيها كارم وتوفيق نظرة مطوّلة، فيها من الترقّب بقدر ما فيها من تاريخ لم حديث بعد، قبل أن ينظر توفيق إلى زوجته ويومئ لها بإيماءة مطمئنة.
ترددت جنّة لحظة، ثم استأذنت بلطافة من كارم وغادرت الغرفة، تاركة خلفها صدى خطواتها وصمتًا ثقيلًا بدأ يتهيأ لما سيُقال.
أما توفيق، فمال بجسده قليلًا للأمام، نظر إلى كارم مباشرة وقال بهدوء:
“اتفضل…”
أومأ كارم ببطء، بحذرٍ واضح في ملامحه، كأنه يزن ثقل اللحظة قبل أن ينغمس فيها، ثم جلس قبالة توفيق بثبات رجل يعلم تمامًا أين يضع قدميه.
في المقابل، نكس توفيق رأسه قليلًا، كأنما يستدعي شيئًا ثقيلًا من داخله، ثم رفع عينيه إلى كارم بنظرة مستقرة، وقال بنبرة لم تخلُ من الصدق:
“ما توقعتش إني… هاقعد معاك القعدة دي، بصراحة.”
رد كارم بنبرة متزنة:
“ساعات بتحصل حاجات ماكنتش ضمن توقعاتنا… بس بتحصل، وبتبقى أمر واقع، غصب عن الكل.”
طالعه توفيق لثوانٍ طويلة، كأنه يبحث خلف الكلمات عن نيةٍ خفية، ثم أومأ بخفوت وأجاب:
“صح… معاك حق.”
زفر توفيق زفرة خافتة، أشبه بأنين رجل يتخلّى عن بعض العناد، ثم قال بنبرة مباشرة، تخلو من المواربة:
“تفتكر… إيه اللي يخليني أوافق عليك؟”
انفرجت شفتا كارم عن ابتسامة جانبية، فيها شيء من السخرية وشيء من الاحترام، ثم قال:
“بصراحة؟ حبيت صراحتك… كويس إن البداية جت دغري، من غير لف ودوران.”
تقلصت عينا توفيق قليلًا، ثم قال ناظرًا في عينيّ كارم بثبات:
“واضح من كلامك إنك عارف إن مش من السهل أوافق عليك.”
هز كارم رأسه ببطء، دون أن ينطق، ثم قال بنبرة أكثر هدوءًا:
“عارف… وعارف كمان إنك مش واثق فيا… ولا مأمّن لبنتك معايا، وأكبر دليل… الأستاذ اللي حضرتك مشغّله يراقبنا ويصورنا جوه الشركة بقاله شهور، وجايز كمان تبقى حاطط عيون تانية علينا في كل حتة… وأنا ما خدتش بالي.”
ارتفع حاجبا توفيق بدهشة لم يحاول إخفاءها، ثم قال بثبات:
“ده أنتَ مركز بقى.”
رد كارم على الفور، بحدة خفيفة ممزوجة بثقة:
“عيب! أنا باخد بالي لمؤاخذة لو حد رمش جنبي، مش هاخد بالي من واحد ماسك موبايل وبيصورني.”
ساد الصمت، لكنه لم يكن سكونًا عادياً، بل صمت له ثقل، كأن الهواء بينهما صار أكثر كثافة، وكأن كل منهما كان يزن الآخر بميزان لا يخطئ.
وأدرك توفيق أن الشاب الجالس أمامه ليس مجرد طامح يطلب القرب من ابنته، بل رجل يحمل بداخله نواة عناد، وصلابة، وفهم عميق لما يواجهه.
أومأ توفيق برأسه ببطء، كمن حسم أمره، ثم قال ببسمة هادئة، خالية من أي تردد، لكنها كانت كمن يسحب الأرض من تحت قدمي خصمه بهدوء:
“طالما كده… فأنا مش موافق عليك، ومش شايفك مناسب لبنتي خالص.”
توقف لحظة، وكأن الكلمات التالية تحتاج إلى صياغة خاصة، ثم تابع بصوت واضح، خالٍ من التجريح، لكنه لا يترك مجالًا للشك:
“بص حواليك كويس… شوف هي عايشة فين، وهي مين، وأنت؟ أكيد عارف انت مين، وأظن كمان إنك عارف إن مفيش مقارنة بينكم، هي في مستوى مختلف… مش بس مادياً، لا، كمان في نمط الحياة، في الراحة، في الحماية، في نوع الناس اللي حواليها.”
توقف توفيق لحظة، كأنه يمنح كارم فرصة لهضم ما قيل، ثم أردف بنبرة هادئة لكنها تحمل وقع المطرقة:
“ميرنا اتعودت إن كل حاجة تيجي لها قبل ما تطلب، اتعودت تشاور، تلاقي.. وانت؟بإمكانياتك، وظروفك، ومستقبلك اللي لسه ما بانش، مش هتقدر تعيشها زي ما هي متعودة تعيش، وخليني أقولها بصراحة أكتر… أنا سألت، وعرفت إنك بتاع مشاكل، ومشاكلك في الشغل لوحدها كافية تخليني أقولك لأ، أنا مش بهينك، بس بحطك قدام الحقيقة، يمكن أنت مش واخد بالك منها… لكن أنا أب، وشايف الصورة كاملة، ومش هقدر أآمن على بنتي مع شخص زيك… ماقدرش.”
سادت لحظة صمت، ثم أنهى كلماته بنبرة حاسمة، لا تحتمل الجدل:
“أكيد في بنت في مكان تاني… تستاهلك، بس بنتي… فلأ.”
طالعه كارم لثوانٍ، دون أن يرمش، كأنه يعيد تقييم كل ما قيل… ثم، وبعد لحظة صامتة أثقل من الكلام، تنهد، وجاء صوته هادئًا، خاليًا من الارتباك، لكنه مشبع بثبات لا يتصنعه:
“عظيم… بما إن حضرتك خلّصت كلامكم، هبدأ أنا بقى…”
عبس توفيق قليلًا، وانعقد حاجباه في دهشة خفيفة لم يُخفها، لكنه لم يعلّق.
في حين مال كارم بجسده قليلًا إلى الأمام، وراح يتكلم بنبرة خالية من المراوغة، نبرة من يعرف تمامًا ماذا يقول ولمن يقوله:
“خليني أعرفك على نفسي باستفاضة، يمكن يكون في حاجة وقعت من حضرتك… أنا اسمي كارم عبد الله شاهين، ٢٧ سنة، خريج كلية تجارة، شغال في شركة *** للأدوية، زي ما حضرتك عارف… وأكيد عارف بقبض كام، مش محتاج أقول… أنا الابن الوحيد لأبويّا وأمي، وعندي أخت واحدة أصغر مني، في تالتة إعلام، أبويا كان موظف بسيط في الشهر العقاري، طلع على المعاش السنة اللي فاتت بسبب مشاكل صحية، وأمي ربة منزل، ربّتنا أحسن تربية.”
توقف لحظة، صوته لا يزال متماسكًا، بل وهادئًا أكثر مما ينبغي، وكأن حكاياته رغم بساطتها ليست عادية، بل جزء من بنيان لم يهتز:
“عايشين في بيت ملك، من تلات أدوار… الدور الأرضي مأجّر لمخازن بتاعة جار لينا من سنين، الدور التاني شقة عيلتنا، والتالت… شقتي، اللي بالمناسبة لسه على المحارة.”
ارتكز كارم بذراعيه على ركبتيه قليلًا، كأن جسده يترجم عزمه، ونظر إلى توفيق بثبات لم يتزحزح منذ بدأ الحديث، بثقة لا تخلو من الاحترام، وقال بنبرة صريحة لكنها خالية من التحدي:
“وحاجة كمان… أنا شريك في شركة صديق مقرب ليا، شركة ناشئة لسه في أول الطريق، بس ليها أفق، وليها طموح، وأنا واثق فيه وفي المشروع، لأنه شاطر بجد ومش بيهزر… وزوّد على كده، عندي حساب في البنك فيه مبلغ محترم… مبلغ اتجمع قرش فوق قرش، من تعب سنين ومشاوير طويلة، مش من صدفة حظ ولا ورث نازل من السما.”
صمت بعدها لحظة، لكن الصمت لم يكن ترددًا، بل كأنما أراد أن يمنح كلماته وزنًا، ثم زفر بخفوت كأن الأمر انتهى، وقال بنبرة متزنة:
“وبس… دي كل حاجة عني… وعن حياتي، اللي قريب جدًا بنت حضرتك هتكون جُزء منها.”
ما إن انتهى، حتى تحركت ملامح توفيق بدهشة، خفيفة لكنها واضحة، لم تُخفها وقاره المعتاد، دهشة ممزوجة بشيء من الاستغراب… أو الترقب، وكأن كارم قال ما لم يكن يتوقعه في هذا التوقيت، أو بهذه الحدة الهادئة.
لكن كارم لم يترك المساحة لتطول، بل تابع، وهو يبتسم تلك الابتسامة الخفيفة التي تحمل في طيّاتها أكثر مما تقول:
“أنا بحب بنتك، وحبيت أجي، ادخل البيت من بابه، وأطلبها منك، و حضرتك قلت رأيك… وأنا كمان قلت اللي عندي، وجه وقت أقول ردي.”
وهنا، غيّر من جلسته قليلًا، ثم قال ببساطة تشبه الجملة لكنها تحمل معنى العمر:
“أنا بحبها، وهي بتحبني… يعني، ببساطة… هنتجوّز.”
وقف كارم من مقعده بهدوء مدروس، لا استعجال فيه ولا تراجع، وكأن كلماته الأخيرة كانت نقطة الختام في حديث لم يكن فيه مجال للمساومة.
رفع نظره لتوفيق، الذي ظل غارقًا في صدمته، تحدق عيناه في الفراغ، بين استنكار لا يجد له لسانًا، وذهول عاجز عن الإنكار.
ابتسم كارم ابتسامته المعتادة، تلك التي لا تفتقر للأدب، لكنها لا تنحني أيضًا، ثم قال بنبرة هادئة ثابتة، وكأنه يمنحه لحظة تأمل قبل أن يغادر المشهد:
“عن إذنك يا توفيق بيه.”
ثم استدار كارم ومضى، بخطوات ثابتة لا تعرف التردد، تاركًا خلفه رجلًا لم يعُد واثقًا إن كان قد عرف حقًا من كان يجلس أمامه.
ظل توفيق يحدق في ظهره المبتعد، كأن نظراته تحاول اللحاق بما عجزت كلماته عن احتوائه، وجهه مشدوه، مصدوم، والعبارات عالقة بين شفتيه بلا صوت.
لم يفق من شروده إلا على صوتها المألوف، صوت شريكته التي جاءت كأنها تقتحم عليه لحظة انكشاف نادر:
“إيه اللي حصل يا توفيق؟ هو مشي ليه؟ قولتله إيه علشان يمشي؟”
رفع عينيه نحو زوجته، فوجد الاستياء مرسومًا على ملامحها، لكن قبل أن ينطق بكلمة، لمح من زاوية بصره جسدًا يعرفه جيدًا، يتقدم من أعلى الدرج…
ميرنا.
نظرت إليه نظرة لم يحتملها، خليط بين الخذلان والغضب، كأنها لم تعد ترى فيه الأب الذي وضعت أمالها به، بل العقبة التي وقفت في طريق قلبها.
وقبل أن ينبس بحرف، كانت قد استدارت وركضت في ذات الطريق الذي خرج منه من أتى لأجلها… كارم.
هب واقفًا، يمد يده كمن يحاول استدراك ما لا يُستدرك، وهتف بصوت لم يخلُ من ارتباك:
“ميرنا! استني…”
لكن يدًا رقيقة أمسكت بذراعه، أوقفته بثبات… كانت
جنة
، التي قالت بنبرة هادئة حاسمة:
“سيبها يا توفيق… سيبها تروح له.”
ظل يحدّق في الباب الذي عبرته ابنته، يُطيل النظر كأن عيناه تأبى التصديق، ثم زفر زفرة طويلة، كانت مزيجًا من التعب والاستسلام، وترك جسده يسقط على الأريكة خلفه، كأن كل شيء انتهى… وانتهى بطريقة لم يكن يتوقعها أبدًا.
وفي الخارج، وقفت في باحة المنزل، تبحث عنه بعينيها القلقتين، تتلفّت بين الأركان كأنها تخشى أن يكون الوقت قد خطف حضوره منها، إلى أن لمحته عند البوابة، واقفًا بجوار دراجته، مستندًا إليها بكتفٍ يميل عليه وكأنه كان ينتظرها منذ زمن.
ركضت نحوه كمن يهرب من كل شيء إلا إليه، حتى وقفت أمامه، تلهث بأنفاس متقطعة، ونظرة تغلّفها الرجفة، وقالت بصوت خافت منكسر:
“كنت فاكراك مشيت.”
رفع عينيه نحوها، وبهدوء يشبه الأمان، أجابها بابتسامة مطمئنة وثقة لا تتزحزح:
“معقول همشي من غير ما أشوف اللي جيت علشانها؟ ولا إيه؟”
ارتجفت شفتاها، وكادت تبكي لكنها قاومت، واكتفت بابتسامة خافتة تسللت رغم الدموع التي تلألأت في عينيها، ثم تمتمت بنبرة أقرب إلى الرجاء منها إلى السؤال:
“أنتَ مش هتسيبني… صح؟”
نظر إليها طويلاً، نظرة لا تشبه غيرها، كأن عينيه لا تعرفان سواها، وكأن ما فيهما من كلام لم يُخلق إلا ليُقال لها، دون غيرها.
كان الصمت بينهما يموج بشيء يشبه الرجفة… ثم قال، بصوت هادئ، ثابت، لطيفٍ كلمسة، وحاسمٍ كالوعد:
“مش أنتِ بتحبيني؟”
أومأت برأسها إيجابًا، بعينين دامعتين، يشعّ منهما الخوف والرجاء؛ فابتسم… كانت ابتسامته واثقة، حنونة، لكنها لا تخلو من التحدي، ثم أكمل بنفس الثبات:
“خلاص… يبقى الموضوع اتحسم.”
اقترب منها خطوة، وواصل بصوت أكثر خفوتًا لكنه أشد وقعًا:
“يا إما هاجي قريب أنا وعيلتي علشان أطلب إيدك من باباكٍ،وهو موافق، يا إما… وأنا جاي أخطفك.”
ورغم أن كلماته قد تبدو أقرب للمزاح، إلا أنها لم تكن كذلك… كانت وعدًا، لا يقبل التأجيل ولا النسيان.
في عينيه ما يشي بالجدية أكثر من أي قسم، وثقته انسابت إليها كأنها تيار دافئ، لتمحو كل شكّ، وتزرع في قلبها يقينًا صافياً لا يشوبه قلق.
ابتسمت له، فغمز لها بمشاكسة طفولية عذبة، وقال وهو يخطو للوراء:
“هستناكي يوم الأحد في الشغل… يا بسكوتة.”
اتسعت ابتسامتها، بين دموع لم تسقط، وفرحٍ لم تُسَمِّه بعد، كانت تضحك بعينيها وكأن الحياة بدأت للتو.
أما هو، فصعد على دراجته بخفة، وضع الخوذة على رأسه، ثم مدّ إصبعيه نحو جبهته بتحية خفيفة مازحة وقال بمرح محبّب:
“سلام يا بسكوتة.”
ثم أدار محرك الدراجة، وغادر، تاركاً في المكان أثره، وفي قلبها وعده….
_________________
“يلا، أنا هستأذن بقا… ولو جاهز يا أستاذ أدهم، هعدّي عليك بكرة الساعة تمانية الصبح علشان نبدأ يا غالي.”
قالها وهو يوجه نظرة ذات مغزى إلى أدهم، تلك النظرة التي تحمل في طياتها تشجيعًا خفيًّا، وثقة لا تُشترى.
ابتسم أدهم بحماسة ووقف بسرعة، قائلاً:
“جاهز إن شاء الله… ومستنيك.”
بينما اكتفت شمس بابتسامة ممتنة، وعينين رطبتين بالحذر والدعاء.
توجّه موسى نحو الباب بخطى هادئة، تتبعه شمس وأدهم بصمت، لكن فجأة، وقبل أن تمتد يده إلى المقبض، انقطعت خطواته على وقع طرقات عنيفة، داهمة، تقرع الباب بعنف أقرب إلى التهديد منه إلى الاستئذان،
كأنّ الطارق لا يطلب الدخول… بل يطالب به عنوة.
انعقد حاجباه بدهشة، ورفع يده ليفتح، غير أن الطارق سبقه، إذ اندفع الباب فجأة نحوه بقوة كادت تصيبه، لولا ابتعاده في اللحظة الأخيرة.
رفع موسى بصره ليرى من اقتحم المكان، ليلتقي بعينين ملتهبتين بالغضب، وصوت ثائر كبركان ينفجر أمامه:
“هو فين عريس الغفلة ده؟!”
تجمّد الجميع في مكانهم، والذهول مطبوع على وجوههم، قبل أن يتقدّم الشاب بخطوات حادة صوب موسى، مشيرًا إليه بصوت متهدج من الغضب:
“إنتَ بقى اللي جاي تطلب إيدها؟ وهي أصلاً تخصّني؟!”
تغيّرت ملامح موسى في لحظة، ونظراته الحادة التمعت بامتعاض لم يحاول إخفاءه، وردّ بصوت غليظ مفعم بالحزم:
“إنت مين؟ وبتكلّمني كده ليه؟! وإزاي دخلت البيت أصلاً؟!”
في تلك اللحظة، خرجت “عالية” من الداخل، ترتدي إسدال الصلاة، بعينين تملؤهما الدهشة، نظر الشاب نحوها وقال بنبرة تشي بامتلاك كاذب:
“أنا شهاب… ابن عمها وخطيب الحلوة، اللي حضرتك جاي تخطبها.”
ساد صمت آخر، صمت ثقيل كأن الجميع يحاول تصديق ما سمع، قبل أن تقترب شمس، وتقول بضيق مكبوت:
“إنت فاهم غلط يا شهاب، موسى مش جاي علشان عالية…”
لكن موسى قاطعها بلطف، وبنبرة هادئة تنطوي على ثقة ووضوح:
“معلش يا خالتي… اسمحيلي أتفاهم معاه، راجل لراجل.”
وفي الخلف، صعد صوت أدهم ساخرًا، بنظرة احتقار توجهت نحو شهاب:
“هو ده يعرف يعني إيه رجولة علشان تتفاهم معاه كراجل؟!”
اشتعلت نظرات شهاب، وتقدّم بعنف نحو أدهم، هاتفًا بحدة:
“بس يا ياض بدل ما…”
لكن موسى وقف في طريقه، يقطع عليه اندفاعه، ليرمقه شهاب بازدراء ويصيح بوقاحة:
“ابعد عن وشي، دورك جاي بعديه.”
نظر له موسى بثبات، لم يزده الانفعال إلا صلابة، وقال بصوت بارد، جليدي:
“اطلع بره… ده مش زريبة علشان تدخلها بالطريقة دي.”
ضحك شهاب بسخرية ثم قال:
“وإنتَ مين ياروح أمك علشان تطردني من بيتي؟!”
ردد موسى باستنكار:
“بيتك؟”
“أيوه بيت أبويا الحاج منتصر، وسايبينهم يعيشوا فيه شفقة على روح عمي الله يرحمه… مش هانرمي لحمه في الشارع برضو.”
تبدلت نظرات موسى، لم تكن الصدمة، بل الاشمئزاز…. لم يعلّق، فقط نظر نحو أدهم الذي أومأ له إشارة تكفي لتؤكد له ماقيل.
بينما اقترب منه المدعو شهاب وقال وهو يربت على كتفه بسخرية:
“يلا يا حلاوة، معندناش بنات للجواز هنا.”
نظر موسى إلى يد أدهم، ثم أمسك بها فجأة بقوة، انتزع منها المفتاح الذي فتح به الشقة منذ قليل، بينما الآخر يصرخ من الألم محاولًا الإفلات.
ولم يتركه موسى إلا بعد أن حصل على ما يريد، وحين أفلت يده، تمسّك بها شهاب من شدّة الألم، ورفع بصره ليلتقي بنظرات موسى المشتعلة بالازدراء.
والذي قال بجمود قاطع:
“أولًا، أنا راجل متجوّز، ومش جاي هنا أخطب… ثانيًا، واضح إن خطوبتك ليها كانت في دماغك بس، لا لابس دِبلة، ولا هي لابسة… ثالثًا، البيت ده فيه حُرمة، يعني ماينفعش حيوان زيّك يقتحم المكان كأنه مزرعة.”
لوّح بالمفتاح في وجهه، وقال بثبات:
“ونسخة المفتاح دي، المفروض تفضل مع أبوك، وتُستخدم في الظروف الطارئة بس، لو حصل كارثة لقدر الله، غير كده ولا أنت ولا ابوك ينفع تدخلوا بالطريقة دي على أهل البيت…. يلا اطلع بره.”
اشتعلت نظرات شهاب بنار لا توصف، تلهب وجهه بحدة الغضب، وفي غفلة خاطفة، أرسل يده السليمة خلف ظهره، يمد أصابعه في جيب بنطاله كمن يستدعي شيئًا ثقيلًا… قاتلًا.
قبض على مقبض السلاح الأبيض، وهمّ بسحبه، لكن قبل أن يخرج النصل إلى العلن، شقّ المكان صوت جهوري عميق، كأنه ضوء مفاجئ في عتمة توشك أن تبتلع الجميع:
“شهاب!”
تشنج جسده في لحظة…
ارتجفت يده وتراجع إصبعه عن النصل، أعاد السلاح إلى مكانه في حركة مرتعشة، ثم التفت ببطء، كمن ضُبط متلبسًا، نحو مصدر الصوت… كان هو.
“بابا!”
همسها شهاب بصوت مبحوح، مشوب بالرهبة، كان منتصر قد خطى إلى الداخل، وقَف أمام ابنه بثباتٍ لا يخلو من صرامة، بعينين لا تسأل بل تُدين، وقال بنبرة منخفضة لكنها مُحملة بالثقل:
“بتعمل إيه هنا يا شهاب؟”
التفت ببصره نحو الرجل الآخر في المكان، نحو موسى، وحدّق فيه قليلًا قبل أن يسأله بصرامة:
“والأستاذ… مين؟”
بدت ملامح الضيق على وجه موسى، بسبب هذا السؤال المكرر ذاته، لكنه أجاب بثبات:
“موسى… موسى عمران.”
انعقد حاجبا منتصر، وتردد الاسم في ذهنه لحظات كأنه يستدعيه من الذاكرة، قبل أن يقول بنبرة أقل حدّة:
“أنتَ… ابن داود؟”
لم يرد موسى على الفور، بل نظر إليه بعين ثابتة، ثم نطق ببطءٍ، كمن يضع النقاط على الحروف:
“الحاج داود… ابن الحاج داود.”
سأله منتصر بثباتٍ يحمل في طياته نبرة اختبار لا تخفى:
“وطب… وابن الحاج داود بيعمل هنا إيه، لمؤاخذة؟”
وقبل أن يُجبه موسى، سبقه منتصر بنظرة جانبية نحو شمس، وكأن الفرضية بدأت تتشكل في رأسه، قال فجأة:
“ولا ليكون…”
لكن شمس لم تترك له فرصة لإكمال ما كان سيقوله، سارعت بصوتٍ قاطع، تواري فيه بعض الارتباك، وإن حاولت تغليفه بالثبات:
“جاي علشان جايب شغل لأدهم… ابني.”
رفع منتصر حاجبيه قليلًا، كأن الجواب لم يكن مرضيًا تمامًا، ثم قال:
“آه… فهمت، بس ليه يروح يشتغل مع الغُرب؟ ما ييجي يشتغل مع عمّه… وتحت عينه.”
لم يمهل أدهم اللحظة أن تكتمل، إذ قذف بكلماته دون تفكير، وقد لمعت في عينيه شرارة التمرد:
“قصدك تحت رجله.”
انطلقت كلماته كالسهم، فصمت المكان لحظة، كأن الزمن ذاته انكمش…
التفتت شمس بسرعة نحو ابنها، تُسكت نظرته بحدة صامتة تنذر بالخطر، ثم نظرت إلى منتصر، فوجد عينيه جامدتين، ترمقان أدهم دون تعبير، كأنهما لا تغضبان بل تحكمان.
فقالت بسرعة، وقد شاب صوتها بعض التوتر، محاولةً ترميم الشرخ:
“هو ما يقصدش يا حج منتصر… الفكرة بس إن شغلك متعب، وأدهم مش هيستحمله.”
ظل منتصر على جموده، عيناه لا تفارقان أدهم، قبل أن يهمهم بكلمة لا تُفهم، ثم قال بإستهزاء:
“طبعاً مش هيستحمل، ماهو نسخة من المرحوم أبوه.”
احتدت نظرات أدهم له، لكنه لم يبالي، فقط أطلق زفرة طويلة، حادة، وقال وهو يشيح بوجهه:
“على العموم… ما حصلش حاجة.”
أشار إلى شهاب بحركةٍ خاطفة وأضاف:
“يلا معايا يا واد.”
لكن الخطوة لم تكتمل…
توقف الزمن لوهلة، حين صدح صوت موسى من خلفه، هادئًا في ظاهره، حاسمًا في نبرته:
“استنى يا حج.”
توقف منتصر، ثم استدار ببطء، ليجد موسى قد اقترب منه بخطًى ثابتة، حتى صار قبالته تمامًا.
لم يقل شيئًا لثوانٍ… فقط مدّ يده، وأمسك بكفه، ثم وضع فيها شيئًا صغيرًا وباردًا، قبل أن يطبق عليها برفق ويقول بثباتٍ غلفته نبرة لاذعة:
“ده… مفتاح شقة أخوك المرحوم… أقصد شقتك.”
رفع نظره إليه مباشرة، وأكمل بثبات:
“المفروض المفتاح ده يفضل معاك إنتَ… بس، وما يتستعملش غير في الأمور الطارئة… يعني لا تديه لحيوان غبي… ولا تدخل بيه على بيت فيه حرمة… من غير ما تستأذن أهله.”
حرّك عينيه صوب شهاب الذي كان الغضب ما يزال يشتعل في وجهه، نظرة واحدة فقط، اختصرت كل ما لم يُقل، قبل أن يعود ببصره نحو منتصر، وقال ببطء، كأن كل حرف له وزن:
“أتمنى… يبقى كلامي واضح، يا حج منتصر.”
خيّم الصمت على المكان
للحظةٍ مشبعة بالتوتر،
…
كانت شمس تنظر إلى الأرض، لا تهرب من وجه أحدهم، بل كأنها تخشى الانفجار، لكنها لا تعلم من أين سيأتي، وعالية، واقفة بجوارها، تتنفس بصمت، يشوبه القلق.
أما أدهم، فبقي صامتًا، كأن قلبه يدق على إيقاعٍ خاص لا يسمعه أحد سواه، إيقاع الفرح والفخر بموسى.
في الجهة الأخرى، بقي منتصر يحمل المفتاح في راحة يده، يحدق فيه بنظرة طويلة، ثم أطبق أصابعه عليه ببطء، كأنما قرأ من خلاله ما لم يُقال.
ابتسامة جانبية، باردة كحد السكين، ارتسمت على وجهه وهو يرفع عينيه صوب موسى قائلاً بنبرة متماسكة لكن مشوبة بالتهكم الخفي:
“واضح ياابن… الحاج داود.”
ابتسم له موسى، بهدوء لم يخلو من الثقة، ثم قال:
“عال، الحج منتصر… مع السلامة بقى.”
لم يرد منتصر، بل اكتفى بنظرة مطوّلة نحوه، نظرة تُخفي أكثر مما تقول، ثم استدار وهو يشير لشهاب بيده:
“يلا ياشهاب.”
لكن شهاب ظل في مكانه، كأن قدميه قد تجذرتا، يرمق موسى بنظراتٍ متوحشة، مليئة بالغليان، إلى أن جاء صوت والده، حادًا، صارمًا، قاطعًا:
“يلا ياض!”
ارتجف جسده كما لو صفعه الصوت، ثم التفت وانسحب بخطى ثقيلة، وهو لا يزال يرمق موسى بطرف عينه، كما لو يزرع فيها تهديدًا مؤجلًا.
ومع اختفائهما من أمام الباب، زفر موسى زفرة ثقيلة، ثم التفت بهدوء نحو البقية، مرر عينيه على وجوههم، وبلطفٍ مفاجئ_عكس سابقه_ قال:
“أنا هستأذن أنا بقى… أشوفك بكره ياأدهم، عن إذنكم.”
وغادر ، تاركًا خلفه صمتًا ثقيلاً يرفرف في المكان كدخانٍ لا يتبدد.
ظلّت الأعين تلاحق أثره عند الباب، حتى تقدمت عالية بخطى هادئة نحو الباب، وأغلقته بصوتٍ خافت، ثم التفتت إلى والدتها وهمست بنبرة تحمل أكثر من مجرد سؤال:
“هو احنا هنفضل لحد إمتى تحت رحمة عمه وابنه كده؟ لحد مانتفضح في الحتة كلها بسببهم؟”
لم تجب شمس على الفور، بل تنهدت تنهدًا ثقيلًا كأنها ترفع جبلًا من صدرها، ثم قالت بصوت مبحوح بالكتمان:
“سيبيني يا عالية… سيبيني أبوس إيدك… أعصابي تلفت.”
قالتها وهي تمضي نحو غرفتها، كأنها تهرب من الانهيار لا من الحوار، وحين أغلقت بابها خلفها، بدا الأمر وكأنها أغلقت العالم أيضًا، وتركت أبناءها يقفون في مواجهة الفراغ الذي خلفه غيابها.
بقي أدهم ينظر صوب الباب لحظات، قبل أن يلتفت فجأة نحو شقيقته، وعيناه تلمعان بفرح لم يُخفِه:
“بس الواد موسى ده… جامد، والله العظيم جامد! شفتي ازاي خلاهم يسكتوا؟! وخصوصًا الحيوان شهاب… ماعرفش يرد بكلمة.”
ضحكت عالية بخفة، ابتسامة هادئة تسللت إلى وجهها كنسمةٍ بعد عاصفة، ثم قالت وهي تهز رأسها:
“ما بردش قلبي غير اللي عمله في شهاب… علشان يستاهل، الحيوان اللي فاكر نفسه خاطبني ده!”
تبادلا نظرة خفيفة… دافئة، كأنها هدنة قصيرة في وسط الحرب، ثم قالت عالية وهي تسير نحو المطبخ:
“تعالى نعمل حاجة نشربها… وندخل نهون على ماما شوية.”
أجابها أدهم، وهو يسير خلفها بخفوت، مبتسم الثغر:
“ماشي.”
_________________
مع مرور الوقت…
كانت الأعين الستة موجهة نحو كارم، في صمتٍ يشوبه الترقب، داخل السايبر… كانوا قد اجتمعوا خصيصًا لسماع ما حدث بينه وبين والد “ميرنا”، والأنفاس محبوسة، كأن كل واحد منهم يخشى أن يكون ما سمعه مجرد مقدمة لكارثة.
سرد كارم ما دار بينه وبين الرجل بنبرة هادئة، دون أن يُكثر من التفاصيل، كمن يحاول أن يبدو مطمئنًا أكثر مما هو عليه.
ولم تمضِ ثوانٍ بعد انتهاء كلامه، حتى جاء صوت سامي، حادًا ومرتفعًا، قطع الصمت بحدّة:
“قلت للراجل إنكم بتحبوا بعض وهتتجوزوا حتى لو هو مش موافق؟! أنت اتجننت؟!”
أجابه كارم بنظرة باردة ونبرة غريبة:
“يعني مش بالظبط كده… قلتها له بطريقة أشيك شويتين.”
ظل سامي يحدّق فيه، مذهولًا، كأنه لا يصدّق أذنيه، قبل أن ينطق ببطء وكأنّه يُقنع نفسه بما يسمع:
“حسن… الحقني يا حسن، علشان أنا حاسس ببوادر جلطة.”
ابتسم موسى بخفّة، وكارم لم يُعلّق، بينما انفلت ضحك خافت من محسن، قبل أن يسأل بنبرة مدهوشة:
“طب… اشمعنا حسن يعني؟”
التفت سامي إليه وقال بلهجة تحمل سخرية مريرة:
“علشان هو الوحيد اللي ماعملش مصيبة أفقد بسببها حياتي.”
علّق موسى سريعًا، والذي كان يجلس بجوار سامي:
“أنا ماعملتش.”
رمقه سامي بنظرة طويلة ثم قال بامتعاض:
“إنت بالذات… تخرس خالص.”
رفع موسى حاجبيه في براءة زائفة، كمن لا يرى في نفسه ذنبًا، لكن الضحكة خرجت من الجميع، حتى من حسن نفسه الذي كان يتابع بصمت.
وفي خضم الضحك، التفت سامي مجددًا إلى كارم، وقد علت نبرة تأنيبه:
“يالا أنت، ماعندكش لا دم ولا عقل، إزاي تقول كده للراجل؟! ده مش بعيد دلوقتي يحلف مايجوّزكوش بعد ما كان بس رافض…!”
لكن كارم لم يتأثر، بل مال إلى الخلف في مقعده، وأسند رأسه على ظهر الكرسي وهو يحدّق في السقف كأنّه يرى مشهدًا أمامه لا يراه أحد غيره، ثم قال بهدوء:
“ماتخفش يا سيمو… أنا عارف أنا قلت إيه كويس، ومش ندمان… أنا كده كده هتجوزها، وافق… أو ماوافقش.”
أدار رأسه نحو صديقه، ونظر في عينيه بثقةٍ غريبة، لا تلائم الموقف، وأضاف:
“بس أنا واثق… إنه هيوافق.”
_________________
“أنتِ بتقولي إيه يا جنة؟!”
جاء صوته عاصفًا، متوترًا، كمن فُتح جرحٌ قديم على حين غفلة.
كان جالسًا على الأريكة، يداه مشبوكتان بقوة بين ركبتيه، ونظراته تستقر على وجه زوجته، وهو يغمم بغصة مكبوتة:
“أوافق على واحد زي ده؟! هو أنا مااتعلمتش من أخطائي؟”
كانت جنة تقف أمامه، في منتصف الغرفة، ساكنة الجسد، إلا من عينيها… كانت عيناها تتحركان بين وجهه وقلقه، كأنها تحاول أن تلج قلبه من نظراته.
قالت بصوت حاولت أن تُخفي فيه انفعالها:
“أنت ليه مُصر تقارن كارم بالحقير التاني؟! كارم دخل البيت من بابه، جه واتقدملك بنفسه، وحكى لك كل حاجة عنه من غير لف ولا دوران… ماخباش حاجة، وحتى إنت، بنفسك، دورت وسألت عليه… واتأكدت إنه ابن ناس محترمة.”
صمتت قليلًا، كأنها تلتقط أنفاسًا لاحتواء غضب لا تريد أن تُطلقه، ثم أردفت:
“هو بس… عصبي، وده اللي بيوقعه في مشاكل.”
نظر توفيق إليها للحظة، ثم مال بظهره إلى الوراء كمن ينهزم أمام الحقيقة لكنه لا يريد الاعتراف، وقال بصوت أخفض:
“ماشي… نفترض إنه مش شبهه فعلًا… بس أنا إيه اللي يضمنلي إنه يريح بنتي؟ ويسعدها؟ أنتِ لسه قايلا إنه عصبي… مش يمكن في يوم يتعصب عليها، يجرحها… أو حتى… يمد إيده عليها؟”
تقدمت جنة نحوه، وجلست إلى جواره برفق، كانت تلك الحركات البسيطة منها دائمًا تُسكت العاصفة في داخله، لكنها لا تُخمدها تمامًا.
ثم قالت بهدوء وهي تضع يدها على يده:
“انت بتراقبه من إمتى؟”
رد سريعًا، وكأنها فاجأته بالسؤال:
“بقالي أكتر من ٨ شهور.”
“طول الفترة دي… وصلك إنه رفع صوته عليها حتى؟”
أطرق قليلًا، ينقّب في ذاكرته كمن يبحث عن دليل يبرر قلقه، ثم همس:
“بصراحة… لأ.”
“طيب… عمل معاها حاجة مش محترمة؟ حتى ولو بالنظرة؟”
أومأ نفياً وهوويجيب بصوت خافت:
“برضه لأ.”
“طلب منها فلوس؟ استغلها بأي شكل؟”
هز رأسه نافيًا، قبل أن يقول:
“اللي بيراقبهم قالي العكس… كان دايمًا هو اللي بيعزمها، حتى لما كانت هي اللي بتعزمه على حاجة، هو اللي كان بيدفع.”
ابتسمت جنة، ابتسامة صغيرة لكنها مطمئنة، وقالت برقة:
“أهو إنت قلتها بنفسك… ده معناه إنه مش بيستغلها، ولا داخل حياتها يجرّب… ده واحد بيحبها، ومغرم بيها بجد.”
ظل توفيق يحدّق في الأرض، كأن البلاط يخفي في أعماقه ملامحًا من أيام لم تُمحَ بعد…
كان صمته مشوبًا بشيء أثقل من الرفض، شيء يشبه الذكرى حين تلسع القلب فجأة، دون استئذان.
كل كلمة قالتها جنة كانت تدق على موضع حساس…
لم يكن كارم هو المشكلة حقًا… المشكلة كانت في ذاكرته، في ثقوبه المفتوحة التي لم تُخاط.
هو لا يكره كارم، بل في قرارة نفسه يعرف أن الفتى لم يُخطئ…
لكن الخوف، الخوف وحده، كان يكفي ليجعل الرجل الجالس أمامها يتردّد، يرتبك، يهرب.
الخوف من أن تتذوق ابنته من نفس الكأس، التي تذوقت منه سابقاً.
رفعت جنة يدها بهدوء، كأنها تربّت على ألم قديم، ولمست كتفه بلطف، ثم همست بصوت لا يخلو من رجاء:
“لآخر مرة بقولك، كارم مختلف يا توفيق، كارم بيحب بنتك… وبنتك بتحبه… فعلشان خاطري، ماتحرمهاش من واحد ممكن يعوضها عن كل اللي عدت بيه.”
توقف صوتها لوهلة، كأنها تمنح الكلمات لحظة كي تستقر في قلبه، ثم قالت، وهي تضغط على كلمتها الأخيرة:
“فكّر في الموضوع، وراجع نفسك تاني… على الأقل… علشان ماتخسرهاش مرة تانية.”
مرت لحظة صمت، لكنها لم تكن فارغة…
كانت لحظة ممتلئة بالتأمل، بالمراجعة، بالندم الذي بدأ يتسلل خلسةً إلى صدره، تمامًا كما تسلل الحب إلى قلب ابنته.
وهو يعلم…
أن جنة لم تكن تبالغ، وأنه إن أصرّ على موقفه، لن يخسر كارم… بل سيخسر ابنته.
_________________
في اليوم التالي…
في صباحٍ هادئ تغمره أشعة الشمس التي تسللت من بين الستائر، كانت تجلس على طاولة المطبخ، تلفّ أصابعها حول كوب دافئ من الحليب، بينما عيناها تتبعانه بصمت وهو يتنقل بخفة بين رفوف المطبخ، يحضر الإفطار كما اعتاد أن يفعل مؤخرًا… بل منذ علم بخبر حملها.
راقبته للحظة بشيء من الامتنان… وبشيء من الضيق اللطيف، ثم قالت بنبرة تجمع بين العتاب والمزاح:
“من يوم ماعرفت بحملي وأنت مش مخليني أعمل حاجة… هتفضل على كده كتير؟”
التفت إليها طارق وهو يضع بعض الأطباق على الطاولة، وقال بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من الحسم:
“لحد ما تخلفي وتقومي بالسلامة.”
ابتسمت له نصف ابتسامة، ثم طالعته بثبات وقالت:
“طارق.”
رد دون أن يلتفت، منشغلًا بتقطيع الخبز:
“نعم!”
“أنا لسه في أول شهر… يعني أقدر أعمل شغل البيت عادي، وأنزل شغلي، وأتحرك، مينفعش تخليني أقعد وأنت تشتغل مكاني.”
توقف لحظة، ثم التفت إليها ببطء، وقال وعيناه تومضان بشيء من المزاح الجاد:
“مين قال إنك تقدري؟”
رفعت حاجبيها وقالت بثقة:
“الدكتورة.”
اقترب منها بهدوء، ثم جلس إلى أمامها وقال بابتسامة جانبية:
“يبقى لازم نغيرها.”
ضحكت رغمًا عنها، ضحكة خفيفة أشبه بزهرة تفتحت في صقيع قلقه، ثم ضربته بخفة على كتفه وقالت بنبرة مرحة تخبئ خلفها جدية حنونة:
“ماينفعش تفضل خايف عليا كده، هتعمل إيه لما تسافر؟”
تَغيَّر تعبير وجهه فجأة…
انطفأت البسمة، وعبست ملامحه كمن استُدرج إلى منطقة لا يريد دخولها، ثم قال بصوت خافت حمل من الحزن ما يكفي ليملأ المكان:
“ما تفكرنيش… أنا كل ما أفكر في الموضوع بتوتر، ومابقاش عارف أعمل إيه… مش عارف إزاي هسافر وأسيبك كده… لوحدك… وأنتِ في الحالة دي.”
كانت عيناه تقولان أكثر مما نطق به، وكأن في داخله عاصفة من الأسئلة التي لا تجد إجابة… سكت للحظة وكأنه يقيس الكلمات قبل أن يتفوّه بها، ثم قال بصوت رجاء لا يخلو من رجولة تُكابر وجعها:
“ماتسمعي كلامي… وروحي اقعدي مع باباكي في الفترة اللي هسافر فيها… علشان أبقى مطمِّن عليكِ، حتى لو من بعيد.”
نظرت إليه بهدوء، بينما قلبها يتقلّب بين تفهّم خوفه ورفض فكرة الابتعاد عن بيتها لفترات طويلة مثل هذه، وهي التي عزمت، منذ أن تزوّجته، ألا تتركه أبدًا… فهذا البيت لم يكن جدرانًا فقط، بل هو دفء الحلم الذي طالما راودها، بيت رجل أحلامها الذي أصبح وطنها.
رأت كم هو مرتبك…
كم هو صغير في قلقه رغم جسده الكبير…
وكم تحبّه أكثر كلما توتر من أجلها، كلما خاف عليها كأنها قلبه الذي ينبض خارج صدره.
مدّت يدها إليه، أمسكت بيده، ولم تفلتها… ثم قالت بعد صمت طويل، ونبرة حاولت أن تبقى ثابتة رغم رجفتها الخفيفة:
“أنا مش عايزاك تقلق عليا… أنا هبقى كويسة وهطمنك عليا كل شوية، وبخصوص روحتي عند بابا، فأنا هاروح أقعد كل يوم كام ساعة كده… وممكن أبات كمان… بس ما تستناش أسيب بيتي وأفضل مقيمة هناك.”
نظر إليها بعينين غائمتين، فيها امتنان ووجع ممزوجان، وقال بصوت خافت:
“وأنا مش عايزك تسيبي بيتك، بس أنا خايف عليكِ…”
ضغطت على يده برفق، وكأنها تطمئنه بملامستها قبل كلماتها، ثم قالت بهدوء حنون، ونظراتها تتسلل إلى قلبه بطمأنينة لا تملكها إلا امرأة تُحب من أعماقها:
“عارفة والله… بس أنا عايزاك تطمن، وطمن قلبك… هكون بخير إن شاء الله… وزي ما قلتلك، وعد مني إني أطمنك عليا كل شوية.”
كانت كلماتها كالبلسم، تنساب على خوفه المُعقّد، تُهدّئ من روعه وقلقه.
طالعها للحظة… عيناه ما بين امتنان وافتتان، ثم ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه، امتدت تدريجًا حتى أضاءت ملامحه بتلك الطمأنينة التي كان يبحث عنها.
رأت ابتسامته، فابتسمت بدورها، تلك الابتسامة التي تحمل شيئًا من دلعها الطفولي المحبب، وقالت وهي تميل برأسها في دلال:
“يلا بقى… أكلني بنفسك.”
ضحك بخفة، تلك الضحكة الخافتة التي لا يعرفها العالم، ولا يسمعها سواه، إلا عندما تكون هي قريبة… قريبة بما يكفي لتوقظ فيه الطفل والرجل في آنٍ واحد.
ثم مدّ يده بهدوء، أخذ قطعة خبز صغيرة، غمسها في “الفول” برفق كأنه يتعامل مع شيء ثمين، ثم قرّبها من فمها قائلاً بهمسٍ محب:
“بألف هنا.”
ضحكت بخجلٍ وحنان، ثم أطاعت، فتلقّت اللقمة منه وكأنها تتلقّى عهداً جديداً بالعناية والاهتمام، ومضغت في صمتٍ هادئ وهي تبتسم… ابتسامة ممتنة، لا للأكل فحسب، بل لهذا الرجل الذي يجعل من التفاصيل البسيطة طقوس حبٍ لا تُنسى.
كان يطعمها لقمةً بعد أخرى، بينما عينيه تتفقدان وجهها… يراقب ارتسام الراحة على ملامحها، وتلك اللمعة في عينيها حين تضحك.
وهي… كانت تأكل وتبتسم وتستمتع، لا لأنها جائعة فقط، بل لأنها تُغذّي روحها من رفقه، وتكتفي بوجوده القريب منها، بكل هذا الدفء الذي يسكبه فيها دون جهد.
_________________
مع مرور الوقت…
كانت خطواته واثقة، لكنها تحمل شيئًا من الحنو المبطّن، وكأنها خطوات رجل لا يأتي فقط ليراقب، بل ليُربّت على الكتف، ويمدّ يدًا تُعين وتطمئن.
اقترب من المكتب الصغير حيث يجلس أدهم، فوضع يده على كتفه بخفة، وقال بنبرة مرحة تشع بالود:
“إيه الأخبار يا أستاذ أدهم؟ وصلنا لفين؟”
رفع أدهم رأسه نحوه، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيه، تلك الابتسامة التي تقول الكثير، رغم قلّة الكلام، ثم مال بجسده قليلًا إلى الجانب وأشار نحو شاشة الحاسوب أمامه قائلًا:
“إيه رأيك؟ سليم هو اللي علّمني أعمل كده.”
أومأ موسى إعجابًا، وقال بصوت خافت فيه تشجيع صادق:
“برافو… شغل كويس جدًا بالنسبة كأول مرة.”
نظر بعدها نحو المكتب المجاور، حيث كان سليم يعمل على حاسوبه، فابتسم وقال:
“جدع يا سليم… لازم تساعدوا بعض، كده الشغل يبقى له طعم تاني.”
ابتسم الاثنان له، وفي أعينهما شيء من الامتنان… الامتنان لاهتمام لم يُطلب، وتقدير لم يتأخر.
سكت موسى لحظة، كأن شيئًا خطر بباله، ثم قال بابتسامة حنونة:
“وبما إنكم شاطرين ومتعاونين كده… فأنا هكافئكم، تاخدوا استراحة أطول بعشر دقايق من الكل… يلا قوموا، كلوا أو اشربوا حاجة تغيّروا جو.”
نهضا من مجلسيهما بسرعة فيها من الحماس والفرح ما يكفي لتغذية الروح…
نظر سليم إلى أدهم وقال بخفة:
“يلا بينا… هعزمك على بيتزا.”
ضحك أدهم وأومأ بالموافقة، ثم التفت سريعًا نحو موسى الذي همس له بودّ:
“واضح إنك كوّنت صداقات من أول يوم…”
ابتسم أدهم وهو يتابع سليم بنظره، وقال بهدوء:
“سليم قريب من سنّي… وتفكيرنا شبه بعض، ده خلى الأمور أسهل.”
“كويس… وشوية شوية هتتأقلم مع الباقي… يلا، روحوا اتغدوا، وبلاش تنسى دواك، علشان خالتك شمس ما تقتلنيش.”
ضحك أدهم تلك الضحكة الصافية، ثم مشى خلف سليم بخطى أخفّ، أما موسى… فظل واقفًا مكانه للحظة، يراقب المشهد بنظرة راضية… حتى شعر باهتزاز هاتفه في جيبه، فأخرجه بلا استعجال.
وما إن ظهر اسمها على شاشة الهاتف، حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة لم يستطع أن يخفيها… ابتسامة رجل يشعر أن قلبه قد نُودي عليه.
فتح المكالمة بسرعة، وقال بصوت محمّل بالحب والطمأنينة:
“كنت على بالي… لسه كنت هتصل بيكِ.”
لكن…
ما إن فتح الخط وقال كلماته الحنونة، حتى اصطدمت نبرته بذلك الصوت الغريب…
صوتٌ أنثوي، لا يمتّ لفيروز بأي صلة.
لا دفء فيه، ولا بحة تعرفها أذنه، بل بدا جافًا ومتوترًا، يحمل بين طبقاته شيئًا ينذر بالخطر:
“أستاذ موسى؟”
تجمدت ملامحه للحظة، وكأن الهواء اختنق في صدره، ثم سأل بسرعة، بنبرة حملت في آنٍ واحد القلق، والرعب، والحذر المكبوت:
“أنتِ مين؟ وفيروز… مراتي فين؟”
جاءه الصوت مجددًا، بنفس النبرة المتيبسة، ولكن هذه المرة حمل معه كلمات لم يكن مستعدًا لها… لا قلبه ولا عقله:
“أنا فدوى، اللي شغالة مع دكتورة فيروز في العيادة… اتصلت بحضرتك علشان… دكتورة فيروز وقعت من على السلم، وحاليًا إحنا في المستشفى.”
في تلك اللحظة، لم يعد في المكان صوت…
الضجيج حوله خفت، الكلمات تبعثرت في رأسه، والهواء ثقل في صدره.
عقله راح يُعيد الجملة الأخيرة مرارًا، وكأنها لم تدخل بوضوح، وكل ما في داخله انتفض دفعة واحدة.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.