رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السابع والأربعون
الفصل السابع والأربعون(مكالمة استغاثة)
“الباشا عايز إيه؟”
جاءها صوته من الطرف الآخر، جادًا، حادًا، لا يحتمل التأويل:
“أنتِ عارفة أنا عايز إيه؟”
كان صوته ثقيلًا، محمّلًا بالإلحاح القديم نفسه… الإلحاح الذي تعرفه جيدًا، وتحفظه كما تحفظه نفسه.
لم تتردد، ولم تمنحه مساحة للمناورة، بل أجابته بنبرة صارمة، واضحة، تتقاطع فيها الخيبة مع الحسم:
“طلبك مرفوض يا موسى، مش هتكلم مع بابا… وهتنزل، يا موسى، احنا هنتجمع الثلاثاء… يعني بكره بالكتير لازم تكون راجعت، ويلا… سلام.”
أنهت المكالمة بضغطة قاطعة، وكأنها تُنهي بها أماله في البقاء هناك أطول.
وفي الجهة الأخرى، كان موسى يختنق بصمت، صرخ داخل نفسه، بصمتٍ لا يسمعه أحد، ثم مسح وجهه بكف غاضبة، و هتف في الهواء، بنبرة ساخرة ممتزجة بالمرارة:
“باين كده شهر عسلنا خلص.”
أما عند دلال…
فبعد أن أغلقت الهاتف، ألقت به على الطاولة بلامبالاة مُفتعلة، ثم عادت لتدوين ما تبقى،وبعدها التقطت بعض عبوات الدواء بروتينية، واتجهت نحو الرف لوضعها في مكانها.
لكن الخطى لم تكتمل…
شيء ما ارتجّ في رأسها، إحساس غريب بالدوار باغتها فجأة…
أغلقت عينيها للحظة، كأنها تحاول الإمساك بتوازنها، لكن العبوات سقطت من يدها في لحظة عجز قصيرة… وكادت أن تفقد اتزانها هي الأخرى، لولا أنها أمسكت بحافة الطاولة في اللحظة الأخيرة.
وضعت دلال يدها على صدرها، تنفست ببطء، ثم رمشت كمن يعود من عالمٍ آخر، حتى بدأت الرؤية تتضح أمام عينيها تدريجيًا، كضوء بعيد يشق ضبابًا كثيفًا.
وفي اللحظة نفسها، وصل طارق إلى المكان، كانت خطواته ثابتة لكنها سرعان ماحملت قلقًا خافتًا، وانعقد حاجباه… حدّق بها للحظة وسأل بنبرة فيها من الحدة بقدر ما فيها من خوف مكبوت:
“فيه إيه يا دلال؟”
رفعت عينيها نحوه ببطء، وكأن صوته هو الخيط الوحيد الذي أعادها للواقع… نظرت إليه ثم ابتسمت ابتسامة سريعة، لا تطمئن ولا تشرح، قبل أن تميل لتلتقط عبوات الدواء التي تبعثرت حولها:
“العلب وقعت مني بالغلط، فبلمّهم.”
لم يجب طارق، فقط أومأ إيماءة قصيرة، ثم اقترب منها وجثا بجانبها يساعدها في جمع العبوات بصمتٍ
،
وحين انتهيا، وقفا معًا في آنٍ واحد، ونظرت إليه دلال وقالت بنبرة محايدة:
“جيبهم.”
هزّ رأسه نفيًا وقال بلطف حاسم:
“لأ، قوليلي مكانهم فين وأنا أحطهم.”
نظرت إليه للحظة، ثم ابتسمت هذه المرة ابتسامة أكثر دفئًا، وأشارت بإصبعها نحو أحد الرفوف، قائلة:
“ماشي، حطهم هناك… جنب العلب الزرْقا.”
ابتسم طارق لها ابتسامته الهادئة المعتادة، ثم تقدم إلى حيث أشارت، وبدأ في ترتيب عبوات الأدوية بدقة تلقائية.
أما هي، فظلت واقفة في مكانها، تراقب ظهره المنحني أمام الرف، بانتباه صامت، وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها، هادئة… لكنها لم تكن كاملة، ولا مطمئنة، بسبب ذلك الدوار الذي لا يزال يتسلّل إليها بخفة مفاجأة.
________________
_
مع مرور الوقت
.
..
“هسبقك أنا على البيت بقى.”
قالها مصطفى وهو يلتقط هاتفه، ملتفتًا نحو شقيقه أحمد، الذي كان يجلس برفقته في المحل من بعد صلاة العصر.
أومأ له أحمد بخفوت، وابتسامة دافئة ارتسمت على محيّاه وهو يقول:
“ماشي.”
بادل مصطفى إيماءة قصيرة، ثم استدار وغادر بخطى هادئة… لكنه ما إن ابتعد بضعة أمتار عن باب المحل حتى توقفت خطواته فجأة، كأن شيئًا جذبه دون إنذار.
عبر الشارع المقابل، لمح وجهًا مألوفًا يخرج من محل “المكوجي”، كان الشاب يحمل بعض الثياب المكوية بين ذراعيه، ويتجه صوب دراجة هوائية متوقفة أمام المحل.
رمش مصطفى، حدّق قليلًا… ثم التفت بجسده كله ونادى بصوته:
“أدهم!”
انتبه أدهم للصوت، ورفع رأسه بسرعة، التقت عيناهما، ومعها اقترب مصطفى بخطوات ثابتة حتى وقف أمامه، ثم أشار بعينيه نحو الملابس وسأله بنبرة لا تخلو من الدهشة:
“أنت… بتشتغل هنا؟؟”
خفض أدهم عينيه بخجل واضح، كأنّه ارتبك لمجرد السؤال، ثم أومأ بالإيجاب
،
ابتسم مصطفى قليلًا، ثم قال بلطف:
“أنا ماسألتكش علشان تتكسف… الشغل مش عيب
،
أنا بس مستغرب إنك بتشتغل في الوقت ده من السنة… المفروض تكون في كليتك، مش كده؟ أنت صحيح… في كلية إيه؟”
تردد أدهم، وساد لحظة صمت قصيرة، كأن الكلمات علقت في حلقه، ثم قال بصوت منخفض:
“أنا مش في كلية… وقفت دراسة بعد الثانوية.”
اتّسعت عينا مصطفى بذهول خفيف، وشعر بوخزة خجل من نفسه، كأنّه لمس جرحًا دون قصد… نظر إلى أدهم مليًّا، ثم قال برفق:
“أنا مش قصدي أدخل في حياتك الشخصية… بس… ليه ما كملتش؟”
تنهد أدهم وكأن صدره ضاق فجأة، ثم قال:
“ظروفنا ما تسمحش… وكمان مجموعي ماكانش أحسن حاجة… جبت ٧٥٪، وكنت علمي رياضة.”
ضمّ مصطفى شفتيه بأسى، وسكنت عيناه للحظة، ثم قال بصوت جاد، ونبرة هادئة:
“أولًا… قول الحمد لله، مجموعك كويس جدًا، وده نصيبك… وده اللي مكتوبلك، أكيد ربنا شايلك كل خير قدّام… وبعدين الثانوية مش نهاية الدنيا، دي مجرد محطة، بنعدّي بها.. سواء جبت خمسين ولا سبعين ولا حتى تسعين… دي مجرد نسب، مش مقياس ليك… النصيب هو اللي بيقسم الطريق.”
رفع يده برفق، وربّت على وجنة أدهم لمسة خفيفة، فيها شيء من الحنو، وشيء من العطف الصادق:
“فما تزعلش… وأكيد في كلية مناسبة لمجموعك، وهتعمل فيها شغل كويس… إن شاء الله تدخلها أول ماتعمل العملية وتقوم بالسلامة.”
ابتسم أدهم ابتسامة خفيفة، ممتنّة، كأنها جاءت لتكسر شيئًا من الغصّة التي كانت تعتمل في صدره… شعر بلحظة خفيفة من الارتياح، لا بسبب الكلام فقط، بل لأنه قيل بصدق دون شفقة.
واصل مصطفى، نبرته تغيّرت قليلًا، صارت أكثر جدية، أقرب للتحذير الحنون:
“ثانيًا بقى… الشغل ده مش سهل… صعب عليك، خصوصًا بحالتك الصحية، أنت ممنوع من أي مجهود بدني، وأنا متأكد إنك عارف ده كويس، هل مامتك… تعرف إنك بتشتغل هنا؟”
ساد صمت قصير، ثم هزّ أدهم رأسه نفيًا، وقال بصوت خافت:
“لأ. أنا بقولها إني خارج أقعد مع صحابي، وجيت أشتغل هنا المنكقو علشان ماينفعش أشتغل في منطقتنا… الف مين هيقولها ويبلغها، وساعتها رد فعلها مش هيبقى كويس.”
ظلّ مصطفى ينظر إليه للحظة، ثم قال بنبرة فيها شيء من الحزم:
“ومعاها حق… في أي رد فعل تعمله، أنا لو مكانها، هعمل أكتر، هي أم، والضنا… الضنا غالي ومابيتعوضش…”
سكت قليلًا، ثم وضع يده على كتف أدهم، وضغط عليه بخفة، كأنّه يحاول تثبيت قلبه أكثر من جسده:
“بص يا أدهم… أنا عارف إنك بتشتغل علشان تساعد مامتك، وده شيء يخليك تكبر في عيني وفي عين أي حد، بس الشغل اللي بيأذيك… ما ينفعش، لو تعبت، هي مش هتزعل منك قد ما هتزعل عليك… فاهم قصدي؟”
كان صوت مصطفى أشبه برسالة تُلقى من القلب إلى القلب، بلا زخرفة، بلا محاولة للإقناع، فقط صدق نقيّ، خالٍ من العتاب، مغموس بالحب.
وأدهم… التقط الرسالة، دون أن يحتاج تفسيرًا؛ فابتسم، ابتسامة صغيرة لكنها صادقة، امتدت ببطء على وجهه، ثم أومأ برأسه بخفوت، لا وعدًا ولا استسلامًا، بل نوع من القبول… وامتنان صامت.
رأى مصطفى تلك الإيماءة، فابتسم بدوره، ابتسامة فيها طمأنينة لا تُقال، ثم مدّ يده وربت على كتف أدهم برفق، لمسة دافئة حملت كل الدعم والطمأنينة والفخر.
_________________
في اليوم التالي…
كانت الغرفة تغمرها أنفاس البحر، ضوؤ القمر يتسلل بخجل من خلف ستائر تتصارع مع الريح، والنافذة المفتوحة تصدح بصوت الموج كمعزوفة هادئة لا تكفّ عن العزف.
كانت هي تقف عند الفراش، ترتب الحقائب بإيقاع منظم، بينما كان هو يناولها الملابس بخفة ووجهه لا يُخفي تردده.
اقترب منها حاملاً بضع قطع مطوية وهو يقول بنبرة نصف مازحة، نصف حقيقية:
“إيه رأيك… أتصل بجدي وأقوله إن في سيول حصلت والطرق اتقفلت ومش هنقدر نرجع؟”
ضحكت فيروز، دون أن تلتفت، فقط مدت يدها وأخذت منه الملابس، وضعتها في الحقيبة ثم ردّت بنبرة مشاكسة:
“إحنا في الصيف… أو في عزّ الصيف يا موسى.”
سكت موسى لحظة، كأن الخيبة الصغيرة علقت في صدره، ثم قال بعد تفكير مفتعل:
“خلاص، نقوله إن حصل فيضان… احنا جنب البحر.”
رفعت حاجبيها واستدارت نحوه بخفة:
“على أساس مفيش إنترنت وتلفزيون هينقلوا الخبر؟”
زفر موسى بقوة، وجلس على طرف الفراش كمن أعلن استسلامًا خفيفًا، ثم تمتم بنبرة صادقة تختبئ خلف المزاح:
“ما هو أنا بصراحة… عندي مخططات كتير لسه، ومش عايز نرجع دلوقتي… ومش عارف إحنا راجعين ليه أصلاً، وأنا هروح… أهشتك النونة في السبوع.”
ضحكت على طريقته، على كلماته التي تشبهه تمامًا؛ اقتربت منه، واحتضنت وجهه بكفّيها بلطف، ونظرت في عينيه وقالت بسخرية حنونة:
“إحنا لو استنينا تخلص مخططاتك… مش هنرجع غير بعد سنتين، وده أقل تقدير.”
ابتسم بدوره، ثم أمسك يدها وضمّها إلى صدره، وقال بصوت خافت، كأنّه يعترف:
“بس أنا عايز أفضّل معاكِ أكتر.”
همست وهي ترفع نظرها إليه:
“ما أنا هافضل معاك على طول… هو إحنا هنفترق لما نرجع يعني؟ ماهنفضل سوا.”
هزّ رأسه قليلًا، ثم قال بعد تردد، بنبرة تحمل شيئًا من الصدق الموجِع:
“مش هنفترق… بس هنتلهي
،
الدنيا ومشاكلها… هتسرقنا من بعض
،
يعني الشغل، والمسؤوليات، وضغط الحياة… كل حاجة هتبدأ تجرّنا يمين وشمال… وأنا خايف نرجع ننسى اللحظة دي، اللحظة اللي إحنا فيها دلوقتي… اللي كل حاجة فيها بسيطة… وخفيفة.”
سكت، وترك كلماته تهوي في السكون…
كانت اللحظة تمتلئ بكل ما لم يُقل… ليست فقط خوفًا من العودة، بل من المسافة التي قد تتسلّل خفية بين قلبين… حتى وهما في بيت واحد.
لكن… هل كانت لتتركه فريسةً لخوفه؟ بالطبع لا.
هي التي عرفت قلبه عن قرب، وعرفت تلك الزوايا الصغيرة فيه التي لا يراها
القليل…
هي التي شعرت باهتزازه الخفيف خلف كلماته، وبالقلق الذي تسلل إلى صوته وهو يحاول أن يبدو واثقًا.
ولأنها تعرفه جيدًا… لم تتردد لحظة.
رفعت يدها برفق، ووضعتها أسفل وجهه، تثبّت ملامحه بكفّيها الدافئتين، ثم همست بنبرة لا تقول إلا الصدق:
“مستحيل ننسى اللحظات دي…
علشان دي من أحلى لحظات حياتنا،
وكمان إحنا لسه في البداية،
يعني لسه هنعيش لحظات أحلى… وأحلى مع بعض
،
وبالنسبة للدنيا ومشاكلها؟
حاجة عادية… بتحصل لكل الناس،
بس إحنا بنحب بعض،
فمستحيل نبعد،
مستحيل نفترق…
ومستحيل ننسى بعض
،
إنت… هتنساني؟”
نظر إليها، وفي عينيه تلك النظرة التي تحمل أكثر من ألف جواب، ثم قال بصوت اختلط فيه الجدّ بالحنين:
“ده أنا… أنسى روحي، ولا أنساكِ.”
ابتسمت على كلماته، تلك البسيطة التي اخترقت قلبها بلا استئذان… اقتربت أكثر، واحتضنت وجهه بكفيها من جديد، وكأنها تحميه من كل أفكاره، من كل ما يخيفه، ثم همست بصوت يغلفه الحب:
“وأنا… أنسى الدنيا كلها،
ولا أنساك.”
ابتسم، وفي عينيه امتنان خالص، لا يُقال، فقط يُشعر
،
ثم قال وهو لا يزال معلّقًا بها، وكأنها وطنه الوحيد:
“بحبك.”
همست بدفء، بعفوية لا تحتاج لشرح:
“وأنا… بموت فيك.”
وفي تلك اللحظة لم تكن هناك أمواج، ولا ستائر تعبث بها الريح، ولا أصوات من الخارج
،
كان هناك فقط قلبان… يحتضنان طمأنينة نادرة.
مالت برأسها قليلاً على كتفها، بعفويتها المحبّبة، وقالت بدلع طفوليّ فيه من المرح ما يكفي ليبدّد كل تعب:
“تيحي نتمشى مرة أخيرة على شاطئ البحر الأحمر؟”
لم تكن الكلمات وحدها من تسرّبت إلى قلبه، بل طريقتها، نبرتها، ذلك الضوء في عينيها…
ابتسم، وكأنه استسلم عن طيب خاطر لبهجتها، ثم ردّ بنبرة محبّة صافية:
“أجي… بكل حب أجي.”
نهض من مكانه ومدّ يده لها، فلم تكتفِ بالإمساك بها فقط، بل تعلّقت بذراعه كما لو أنها تود أن تلتصق بقلبه قبل جسده.
خرجا معًا… بهدوء العشاق الذين لا يستعجلون الزمن.
كان الليل قد استوى في السماء، والقمر يعلو في هدوء ملكيّ، يرسم فضّته على صفحة البحر، والنجوم تتناثر كرسائل قديمة بين العاشقين.
كانت
الرمال دافئة كأنها تحفظ أثر خطاهم منذ الليلة الأولى، والموج… الموج كان يعزف لهم موسيقى لا تُشبه إلا هم، وسارا معًا على الشاطئ، خطواتهما بطيئة، كأنهما يخافان أن تسبق أقدامهم قلوبهم… تلك التي حلقت من فرط السعادة.
_________________
على جهة أخرى…
كانت الأضواء خافتة، وصوت التلفاز يتصاعد بنغمة المقدمة الأولى للفيلم، فيما جلس هو مسترخيًا على الأريكة، يتناول “الفشار” الذي أعدّه منذ دقائق بيديه، كطقسٍ محبّب في لياليهم.
رفع صوته الرخيم يناديها، دون أن يشي صوته بشيء سوى الدفء:
“يلا يا دلال، الفيلم هيبدأ.”
ظلت عيناه معلقتين بالشاشة، حتى سمع وقع خطواتها الهادئة تقترب، فرفع رأسه نحوها…
كانت تقترب بخطوات ساكنة، وابتسامة شفّافة تعلو وجهها، وعيناها تبرقان بذلك اللمع الغريب… اللمع الذي يُشبه السر، أو المفاجأة، أو بداية الحكاية.
ترك ما في يده دون تفكير، والتفت بجسده قليلاً نحوها حين جلست جواره، وسألها بنبرة خافتة امتزج فيها الحنو بالقلق:
“في حاجة؟”
أومأت برأسها بهدوء، ثم همست بصوت بالكاد يُسمع:
“ممكن… تغمض عينيك؟”
رفع حاجبيه، دهشةً وفضولاً، ثم سأل وهو يبتسم:
“ليه؟ عملالي مفاجأة؟”
ردّت بخفة:
“غمّض عينيك بس.”
ابتسم ثانية، لكنه استجاب، وكأن بداخله حدسًا يخبره أن اللحظة المقبلة ليست ككل اللحظات.
أغمض عينيه كما طلبت، فقالت بعد لحظة:
“افتح إيدك.”
مدّ كفّيه نحوها دون تردد، فمدّت يدها من خلف ظهرها، ووضعت شيئًا صغيرًا بين راحتيه، قبل أن تهمس:
“يلا… افتح عينيك.”
فتح عينيه ببطء، ناظرًا لها أولًا… ثم إلى ما وضعته في يده، فــ تجمّد.
قطعت أنفاسه ثوانٍ وهو يحدّق إلى ذلك الشريط الصغير، والخطان الأحمران عليه.
توقّف الزمن…
رمش، وابتلع ريقه، ورفع عينيه نحوها متسائلًا بصوت مرتبك، لا يكاد يُصدق:
“ده… ده بجد؟”
أومأت، وكانت ابتسامتها هذه المرة تختلط بدموع الفرح:
“أنا حامل.”
ظلّ يطالعها، وكأنّ عقله يحاول اللحاق بقلبه… قبل أن يخرج صوته متقطعاً من فرط الذهول:
“إنتِ… حامل؟ حامل بجد؟”
أومأت مرة أخرى، بعينين دامعتين ومليئتين بالحب.
وفجأة، دون وعي، نهض من مكانه ورفعها بين ذراعيه، يدور بها في أرجاء الغرفة كطفلٍ تملّكه الفرح، وهو يردّد بعفوية وسعادة صافية:
“أنت حامل… حامل! يعني هبقى أب، هبقى أب يا دلال!”
تمسّكت برقبته، وضحكت بخفة وهي تهمس له:
“وهتبقى أحلى أب.”
أنزلها من بين ذراعيه برفق، كما لو كانت كنزًا يخشى عليه من النسيم، وعيناه ما تزالان عالقتين في عينيها، يوشك أن يذوب بين فرحةٍ لا تُوصف وذهولٍ لا يُصدق، ثم همس بصوته المبحوح بالعاطفة:
“وأنتِ… وأنتِ هتبقي أحلى أم… بس ده بجد؟ بجد؟”
ضحكت ضحكة دافئة، كانت مزيجًا من الفرح والحنان، وقالت وهي تمسّد على يده:
“والله بجد… بصراحة أنا بقالي يومين حاسّة بتعب مش طبيعي، وشكيت… عملت اختبار، طلع إيجابي من أول مرة، بس ما اكتفيتش، عملته مرتين كمان، وبرضه طلع إيجابي… بس لازم نروح لدكتورة كمان نتأكد.”
شهق بسعادة وهو يلوّح بيده بحماس طفولي:
“طبعًا! طبعًا نروح! نروح دلوقتي حالًا! يلا قومي البسي حاجة وأنا أجهز العربية و…”
قاطعته وهي تضع يدها على كتفه برقة، وقالت باسمه في نبرة حانية لكنها حازمة:
“طارق.”
التفت نحوها فورًا، وكأن نطقها لاسمه أعاده إلى الأرض، وقال باستفهام خافت:
“نعم؟”
ابتسمت ورفعت حاجبيها بلطافة:
“الساعة داخلة على ١٢… نروح فين دلوقتي؟”
ابتسم بخجل، وكأن حماسته السابقة صدمته للتو، فهزّ رأسه موافقًا:
“صح… صح، معاكِ حق… نروح بكرة من بدري، أول ما نصحى.”
“أنا أعرف دكتورة كويسة، نروح لها بكرة، ماشي؟”
أومأ وهو لا يزال يتأمل وجهها كأنه يراه لأول مرة، ثم كرر كأنما ليقنع قلبه بالحقيقة التي ما زالت تنمو بداخله:
“ماشي… ماشي، بكرة نروح… نروح.”
مدّت يدها برفق، تضعها على وجهه، وكأنها تربت على قلبه قبل خده، فمدّ هو كفه ليضعه في كفها، فالتقت الأصابع بينهما كما لو أنها تتعاهد من جديد على المضيّ في الرحلة، سويًا، لا يسبق أحدهما الآخر.
تبادلا نظرة طويلة… صامتة، لكنها أكثر امتلاءً من أي حوار، نظرة مليئة بالحب، بالامتنان، وبالفرحة الطازجة التي تكاد تُبكي الروح من شدّتها… فرحة من النوع الذي لا يُقال، بل يُحسّ.
ثم حوّل عينيه ببطء، ينظر نحو بطنها، كأنه يحاول أن يتخيل مَن يسكن هناك، مَن سيكون الامتداد، ثم عاد بنظره إليها وهمس بصوت اختنق بالبكاء:
“دلال…”
نظرت إليه برقة وارتباك جميل:
“نعم؟”
قال بصوت مخنوق من شدّة صدقه:
“أنا… أنا هعيّط من الفرحة.”
ضحكت بخفةٍ مشوبة بعاطفة جياشة، وكأن قلبها يحتضنه قبل ذراعيها، ثم جذبت رأسه نحوها وعانقته؛ فضمّها هو بقوة، لا بعنف، بل بذراعين مملوءتين بالدهشة والحب، ثم حملها عن الأرض، حملها كما لو كانت العالم كله، وكأن بين يديه قطعة من السماء.
ضمّها إلى صدره كأنما يخشى أن تستيقظ الحياة من حلمها الجميل وتخطفها منه، ودموعه تلمع في عينيه لا كحزن، بل كرجفة روح أدركت أن المعجزة حقيقية.
وهي أيضًا، بين ذراعيه، كانت تمسك به وكأنها تمسك بحلمها، تترك رأسها على كتفه، وتغلق عينيها… تستسلم لهذا الحُضن الذي لن ينتهي، لهذا الفرح الذي لا يريدان له أن يُقال، بل فقط… أن يُعاش.
بداية فصلٍ جديد، تُكتَب أولى كلماته بالدموع… دموع الفرح.
_________________
في اليوم التالي…
عندما كانت الشمس تتوسّط السماء، وبعد صلاة الظهر، كانت شقة كبير العائلة تضج بالحياة، كما هي العادة في مناسباتهم.
لكن هذا اليوم بالذات… كان مختلفًا قليلا، فقد عاد موسى من شهر العسل.
وما إن وطأت قدماه عتبة الباب هو وزوجته حتى تعاقبت الأذرع لاحتضانهما، اختلطت أصوات الترحاب بضحكات الشوق، وتسابقت الألسن بين الدعاء والتهاني والسؤال عمّا فاتهم، كلٌ يستقبلهما على طريقته: أمٌ تبكي من الفرح، عمةٌ تقبّل فيروز كأنها ابنتها، أبناء العمومة يمازحون موسى، وأصغر الصغار يهللون فرحاً بعودتهما.
جلس موسى أخيرًا على الأريكة، كأنما وجد استراحةً من زخم الحب، وبين ذراعي والدته التي لم تفكّ حضنها عنه منذ وطأ الباب، كأنها تخشى أن يبتعد مجددًا.
وإلى جانبه من الجهة الأخرى جلست فيروز، هادئة، تُجيب على أسئلة بنات العائلة وهمسات الفضول بحياء العروس وفرحتها.
كان البيت كأنما خلية نحل، كل ركن فيه فيه حكاية، كل صوت يعبر عن حنين أو سؤال أو نكتة، الرجال يمازحون موسى، والنساء يتحلّقن حول فيروز، والضحكات تتقاطع عبر الغرف كأنها تعزف لحناً عائليًا دافئًا.
ثم فجأة، خفتت الأصوات شيئًا فشيئًا عندما ارتفع صوت محمد بنبرته الوقورة المعتادة، وقد بدا فيه شيء من الحزم المرح:
“موسى.”
التفت موسى بخفة، وعيناه تلمعان بابتسامة لا تخلو من الحذر:
“بتنادي يا جدي؟”
نظر إليه محمد بعينين تشبهان فحص القائد في ساحة التدريب، وسأل بنبرة مباشرة:
“روحت كام بلد في شهر العسل يا حبيب جدك؟”
تجمّد موسى، ثم تمتم مرتبكًا وسط ضحكات مكتومة تسللت من هنا وهناك:
“إيه؟”
رفع محمد حاجبه بنظرة لم تخطئها جدية، وأضاف:
“أنت سمعتني كويس… روحت كام بلد؟”
خفض موسى عينيه قليلاً، يحاول النجاة من المأزق، وقال بصوت خافت:
“ثلاثة.”
زفر محمد زفرة طويلة وهو يهز رأسه، ثم قال ببطء وبنبرة أكثر صرامة:
“كام يا موسى؟”
رفع موسى نظره إليه، وكأن استسلامه بات حتمًا، وقال:
“أربعة.”
ساد الصمت للحظة، لحظة حدّق فيه محمد نحو موسى بنظرة لم تكن حادة، لكنها كافية لتفكّك كل دفاعات الأخير.
ابتلع موسى ريقه، ثم مال بجذعه للأمام قليلًا، وقال بصوت نصف هامس:
“خلاص… ستة.”
لم تمر الكلمة مرور الكرام، بل التقطها عزّت كمن سمع خبرًا عجيبًا، وقال ضاحكاً:
“ستة!… هما إيه ستة بقى؟!”
نظر موسى نحو عزت بوجه جمع بين الإحراج والفخر، ثم قال بصوت يحمل شيئًا من التبرير وشيئًا من الاستعراض:
“طلعنا من القاهرة على الفيوم، ومنها للأقصر وأسوان، وبعدها رحنا مرسى علم، ومن مرسى للغردقة، وأخيرًا شرم الشيخ… وكنا هنعملها سبعة ونروح دهب، بس حضراتكم قلتوا نرجع.”
ساد البيت لحظة من الصمت المندهش، كأن الجميع يعيد عدّ أسماء المدن في ذهنه، ثم انفجر الضحك من جديد، ضحك فيه العتاب، وضحك فيه الانبهار، وضحك فيه ذلك المزاج المصري الذي لا يعرف كيف يُخفي دهشته.
علّق محمد ساخراً وهو يهز رأسه:
“ده شهر عسل ولا جولة سياحية لوزارة الآثار؟!”
بينما مالت يمنى على أذن فيروز وهمست مازحة:
“يا بنتي انتي راجعة من شهر العسل ولا من رحلة حول مصر في ٣٠ يوم؟”
أما محمد، فقد أبقى نظراته على موسى، لكن هذه المرة بعين فيها الرضا، ثم قال بنبرة هادئة لم تخلو من سخرية محببة:
“ربنا يهنيكم… بس المرة الجاية، خطط الرحلة على خريطة جوجل بتاعكم ده الأول، مش على خريطة أحلامك… وياريت يبقى على قد فلوسك.”
ردّ موسى مباشرة، بصوت امتزج فيه بعض الدفاع عن النفس وبعض الطفولة المتأصلة في نبرته حين يخاطب جدّه:
“هو أنا بشحت؟”
رد محمد وهو يميل بجسده قليلًا للأمام، وقد ارتسمت على وجهه ملامح المكر اللطيف:
“الله يرحم، لما كنت بتنزل الصبح وقبل ما تقول صباح الخير تقولي: إيدك يا جدّ على ٢٠٠ جنيه، أصل الحالة ضنك.”
تعالت الضحكات من أركان الغرفة كلها، ضحكات صادقة، فيها دفء البيت، وحنين للمواقف الصغيرة التي لا تنسى.
أخفى موسى ابتسامته بعناء، ثم مال على فيروز وقال بنبرة خافتة أقرب للهمس:
“ما ينفعش كده يا جدي، مراتي قاعدة.”
ا
لتفت ببطء نحو فيروز، التي كانت قد بدأت تغالب ضحكتها وتحاول أن تبدو “محايدة” وسط هذه الحفلة الصغيرة.
نظر إليها نظرة طويلة ثم قال:
“هي مراتك غريبة؟ أكيد عارفة بلاويك، ولا لسه في حاجات متعرفهاش… هتعرفها دلوقتي، أو بعدين.”
انفجر الجمع ضحكًا مرة أخرى، كانت الضحكات تتصاعد وتتفرع بين أركان الغرفة كأنها موسيقى العائلة، موسيقى لا تعزفها آلات بل أرواح تعرف بعضها جيدًا.
أما موسى، فرفع كفيه وصفّق مرة واحدة بحدة مصطنعة، ثم اتخذ وضعية الجدية وهو يقول بتكلف مسرحي:
“بس بس، خلّصنا ضحك، وماحدّش يكلّمني بقى، علشان بقيت مسخرة في القعدة دي.”
ضحكوا أكثر، كأن كلماته صبّت الزيت على نار المرح، حتى فيروز، التي كانت تمسك نفسها بأدب واضح طوال الوقت، لم تتمالك نفسها، رفعت يدها سريعًا تغطي بها فمها، لكن ضحكتها خرجت خفيفة، صافية كنسيم البحر.
لم يكن موسى بحاجة لأن يلتفت، كان يشعر بها، يشعر بضحكتها التي يعرفها جيدًا، لكنه مع ذلك نظر إليها، بطرف عين تحمل كل ما في القلب من خيبةٍ متعمّدة، وقال وكأنه يلعب دور المظلوم أمام الجميع:
“حتى إنتِ؟”
ابتسم بعدها بخفة، ثم دار بعينيه على الموجودين واحدًا تلو الآخر، نظرة قصيرة لكل وجه… أمه التي كانت تضحك بصوت مكتوم، وأبوه الذي يهز رأسه بسخرية محبّة، ثم توقف عند جده، الذي كان لا يزال يحتفظ بابتسامة صغيرة، ساكنة، تليق بهدوئه المعتاد، وقلبه الذي تعوّد أن يكون مصدر الطمأنينة للجميع.
لكن فجأة، قفز شيء في عقل موسى، شيء كأنه جرس خافت، فأبدل نبرة صوته إلى الاهتمام وقال:
“صحيح… هو طارق ودلال اتأخروا كده ليه؟”
رد أحمد من مقعده، نبرته كانت حيادية كعادته:
“مش عارف، هما قالوا إنهم هيتأخروا شوية، بس فعلاً طولوا أوي.”
ساد لحظة صمت، لكنها لم تكن ثقيلة، بل مليئة بالترقّب، ثم قال الجدّ محمد بنبرة تمزج بين الحزم والقلق:
“طبّ حد يرن عليهم… يشوفهم فين؟”
تطوّع كريم فورًا، وأخرج هاتفه قائلاً:
“أنا هكلّمهم.”
لكن قبل أن يضغط زر الاتصال، قطع صوت طرقات خفيفة المشهد..
التفتت العيون نحو الباب المفتوح مسبقاً، ولم يطل الانتظار، فقد ظهر طارق أولاً، ممسكًا بيد دلال، يتقدمان بخطى هادئة، خفيفة، كأنهما يحملان سرًا صغيرًا في قلبيهما.
فقال أحمد بنبرة أقرب للتنفس المطمئن:
“أهم وصلوا أهو.”
اقترب طارق ودلال بخطًى ثابتة، يسبق حديث العيون خطوات الأقدام، وما إن وقعت عينا دلال على فيروز، حتى شعّت ملامحها بنور الاشتياق، كأن كل المسافات التي كانت تفصل بينهما تهاوت دفعة واحدة، فنهضت فيروز من مكانها كأن شيئًا فيها استيقظ من سباته، وعانقت صديقتها المقربة عناقًا طويلًا، عناقًا لم يكن مجرد تحية، بل اعتراف صامت بعمق العلاقة.
قالت دلال وهي تحتضنها بقوة ناعمة:
“وحشتيني أوي.”
ردّت فيروز بنفس الحنين، وبنبرة من يعرف تمامًا معنى الاشتياق:
“وأنتِ كمان وحشتيني… أوي أوي.”
ضحكت دلال بخفة وهي تبتعد عنها قليلًا،ثم قالت بنبرة تحمل الوعد والحنين:
“لينا قاعدة طويلة سوا تحكيلي فيها كل اللي حصل.”
كان الجميع
في تلك اللحظة
يراقب اللقاء بلطف، وموسى من بينهم، جالسًا في مكانه، يتأمل المشهد دون أن يتدخل، يراقب بعينيه، يبتسم دون صوت، لكنه فجأة انتفض قليلًا وهو يصرخ:
“آااه!”
نظر أسفل قدمه ليرى جدّه يرمقه بنظرة صارمة، رافعًا عصاه الخشبية وكأنه يهدد بجولة أخرى من الضرب، ثم قال بصوت يخلط الجدّ بالمزاح، كعادته:
“قوم سلم على خالك وعمتك يا جزمة!”
انفجر البعض في ضحك مكبوت، بينما زفر موسى بضيق تمثيلي وهو ينهض ببطء، يبالغ في حركات التثاقل، يتظاهر بالتمرد على سلطة الجد، لكنه في داخله طفلٌ يطيع دون نقاش.
اقترب من طارق، فابتسم الأخير بعفوية، وفتح ذراعيه يعانقه قائلاً:
“ألف حمد الله على السلامة يا عريس.”
رد موسى بنبرة هادئة، ناعمة، تحمل في طيّاتها الكثير مما لا يُقال:
“الله يسلمك يا خالو.”
ابتعد قليلًا، ثم التفت نحو دلال وقد ارتسمت على وجهه نظرة مشاكسة، تلك النظرة التي كانت تسبق دائمًا تعليقاته التي يعرف أنها ستثير الضحك، أو المتاعب… أو كلاهما.
“أخبار السكر إيه؟”
سألها وهو يرفع حاجبيه بمكر، ثم حدق فيها لحظة، تظاهر فيها بالتمعّن، ثم أردف:
“هو احلو في غيابي زيادة… ولا إيه؟”
وقبل أن ترد، التفت فجأة إلى طارق كمن اكتشف جريمة، وقال بنبرة تمثّل الغضب:
“عملت إيه في البت؟!”
لكن لم يمنحه محمد وقتًا ليكمل، فانهالت عصاه مرة أخرى على قدم موسى، ليصرخ الأخير مجددًا:
“آه يا جدي! فكّرني ما أقعدش قريب منك تاني!”
رد محمد، دون أن يلتفت إليه، وكأنه اعتاد الأمر:
“اقعد يا واد… اقعد.”
ضجّت الغرفة بالضحك مرة أخرى، ضحك نابع من القلب، مزيج من الألفة والسخرية المحببة.
فيما جلس موسى على الأريكة متصنعًا الضيق، أخرج زفرة درامية، ثم مدّ يده دون أن يلتفت، يلتقط كف فيروز بلطف كأنما يستند إلى يقينه بها، وقال بنبرة هامسة تحمل دفء المزاح وطفولة الحب:
“خليكِ جنبي.”
ضحكت فيروز بخفة، تلك الضحكة التي تشبه نسيمًا مرّ على جرحٍ نسي أنه يؤلم، فضحك بدوره، ضحكة قصيرة لكن حقيقية، قبل أن يقطعهما صوت محمد، بنبرته الجدية الهادئة:
“اتأخرتوا كده ليه؟”
ساد صمت خفيف، ليس ثقيلاً لكنه مشوب بالتوقع…
التفتت الأنظار نحو طارق ودلال، كان في وقفتهما ما يوحي بأن ثمة شيء مختلف، تبادلا النظرات، تلك النظرات التي تُقال فيها جمل كاملة دون نطق، ثم رفع طارق عينيه نحو محمد وقال:
“كنا في مشوار…”
توقف لحظة، ينظر كأنه يرتّب كلماته بدقة، ثم أكمل:
“مشوار يخص خبر… عايزين نقولهلكم دلوقتي.”
ارتفعت درجة الانتباه في الغرفة كأن الهواء نفسه شُحِن بالتوقع… الأعين تحدّق، الظهور انتصبت، حتى موسى، الذي كان قد فرد ذراعيه على الأريكة باتساع مَن يشعر بالأمان، انكمش قليلاً وهو يحدّق باهتمام.
بينما تبادلا طارق ودلال نظرة أخيرة، نظرة طويلة، خفيفة لكنها مشبعة بالحب، قبل أن يبتسم كلاهما معًا، وفي لحظة امتزجت فيها الرهبة بالحماس، التفت طارق نحو الجميع وهتف بصوت خفيض لكنه واضح، كأنه يقذف حجرًا صغيرًا في بحيرة ساكنة:
“دلال حامل.”
كأن الزمن توقف لثانية….
نظرات الذهول اختلطت بالفرح الذي لم يجد له مخرجًا إلا بعد صمت قصير، ثم انفجر الجميع دفعة واحدة… كلمات، صيحات، ضحكات، تهاني، دموع خفيفة في زوايا العيون، بينما كان محمد يحدق فيهما للحظة بصمت، قبل أن يبتسم تلك الابتسامة العميقة، البطيئة، التي يعرفها الجميع، ويقول بفرحة صادقة:
“بسم الله… الله يتمم بخير.”
تعالت الأصوات في الغرفة دفعة واحدة، عناقات هنا وهناك، مباركات صادقة خرجت من القلوب، أحضان تتبادل بين الأهل، وضحكات ممتزجة بدهشة الفرح.
الكل، كل فرد في الغرفة، عبّر عن سعادته بطريقة ما… حتى فيروز، التي نهضت من جوار موسى، وارتمت في حضن دلال تعانقها بسعادة خالصة، تهمس لها بكلمات التهاني وتغمرها بدفء المحبة.
أما موسى… فكان وحده في المنتصف…
كأن كل شيء تجمّد حوله، عيناه لا ترمش، حاجباه مرفوعان، وشفته السفلى تدلت قليلًا كأنه تلقى صفعة غير متوقعة.
ظل ينظر أمامه، لا يرى شيئًا مما يدور، لا يشعر بالأذرع التي تُمدّ للتهنئة، ولا بالضحكات التي تملأ الأركان، حتى هدأت الأصوات تدريجيًا، وبدأ الضجيج يخفت.
ثم فجأة… ارتفع صوته، مبحوحًا بالدهشة، كمن خرج تواً من غيبوبة:
“مين اللي حامل؟!”
ساد صمت مفاجئ، وكأن الكلمة كانت ثقيلة لدرجة أنها احتاجت ثانية لتُستوعب.
استدارت الرؤوس نحوه ببطء، يحدقون فيه بدهشة أكبر من دهشته، حتى قطعت “تينا” الصمت بصوتها الساخر، وهي تهز كتفيها بتساهل:
“لا سيبكم منه… الظاهر الإرسال عنده بطّيء.”
ضج البعض بالضحك، بينما ضحكت دلال أيضًا، ونظرت إليه نظرة مشفقة مازحة، ثم قالت بخفة:
“أنا اللي حامل يا موسى.”
حدق فيها، وعيناه تتسعان أكثر، وكأن عقله يحاول فك الشيفرة، ثم تمتم بذهول حقيقي:
“حامل إزاي؟!”
وهنا، لم يستطع طارق كتم صدمته أكثر، فرفع حاجبيه ساخرًا وهو يقول بنبرة تمثّل الاندهاش:
“يعني أنا كوز درة ولا إيه؟!”
انفجرت الضحكات مجددًا، تماوجت في الأرجاء كأنها موج البحر في يوم مرح، بعضهم ضحك من قلبه، والبعض الآخر اكتفى بكتم ضحكته خلف راحة يده، بينما جلس موسى في مكانه لا يتحرك، كأن شيئًا ما انفصل داخله عن اللحظة.
رمش بعينيه بسرعة، التفت نحو دلال، ثم تمتم بصوت خفيض، فيه شيء من السخرية، لكنه مائل إلى جدّ لا يُفهم تمامًا:
“ماينفعش تبقي حامل.”
سكتت الأصوات من حوله، التفتت دلال إليه، عقدت ذراعيها على صدرها وسألته بنبرة نصفها مزاح ونصفها استغراب:
“ليه بقا إن شاء الله؟”
تنهد، كأن الإجابة جاهزة في صدره منذ سنين، وقال بعفوية لا تخلو من المرارة:
“علشان كنت ناوي أخلف قبلك… علشان بنتي ماتتعرضش للإضطهاد من ابنك، زي ما حصل معايا زمان.”
لم يضحك أحد، لا لوهلة، فقط نظرات اندهاش حائرة، حتى فيروز التي كانت لا تزال تبتسم، انطفأ جزء صغير من بسمتها وهي تحدق فيه غير مصدقة.
أما هو، فالتفت نحوها وأكمل بنبرة فيها من الطفولة بقدر ما فيها من التحدي:
“احنا لازم نخلف قبلها.”
هنا فقط، عاد الضحك يتسلل، لكنه ضحك مكسور، ضحك لا يعرف إن كان على الكلام أم على صدقه.
وفيروز، التي أدركت أن الأمر تجاوز المزاح، جلست سريعًا إلى جواره، وضعت يدها على فمه بحركة سريعة وهي تبتسم بتوتر وتقول بنبرة خفيفة مصطنعة:
“بيهزر يا جماعة، أنتو عارفين موسى بيحب يهزر.”
لكن موسى أزاح يدها بهدوء، ناظرًا للجميع بعين ثابتة، وقال بصوت أقل خفة، كأن داخله صوتًا يريد الخروج:
“لا، أنا مش بهزر… أنا عايز أخلف قبــ”
لم تدعه يُكمل… أعادت يدها على فمه بحزم هذه المرة، ضغطت برفق لكن بحسم، وهمست في أذنه:
“كفاية يا موسى.”
ثم التفتت للباقين، وهي ترفع حاجبيها وتبتسم ببراءة فيها مسحة من التوسل:
“كملوا يا جماعة، واعتبروا نفسكم ما سمعتوش حاجة.”
تبادل الجمع النظرات في صمت وجيز، قبل أن تعود الضحكات من جديد، أشبه برد فعل عفوي يغطّي على التوتر، يسكّنه دون أن يزيله.
وموسى؟
جلس ساكنًا… لم يعد يضحك، لم يعد يتكلم، فقط عيناه كانتا تنظران نحو الفراغ، كأن ذهنه مازال يستوعب ماسمعه، ويأبى أن يصدق تلك الحقيقة.
لكن فجأة، وببطء متعمد، مد يده يزيح بها كف فيروز عن فمه برفق… ثم قال بصوت خافت، لكن يحمل خلفه ألف سؤال وسؤال:
“هو أنا… هبقى له إيه؟”
مرّت لحظة صمت قصيرة، لكنها بدت ثقيلة، كأنها اختبار لكل الحاضرين… لحظة لا تعرف هل هي حزينة أم مضحكة أم مجرد عبثية موسوية بامتياز.
ثم… انفجرت الضحكات، ضحكات بعضها صادق، وبعضها من وقع المفاجأة، ضحكات تهرب من غرابة السؤال، ضحكات يائسة منه، متعجبة من تفكيره.
وهو فقط تابع ضحكاتها في صمتٍ، حتى قال ببساطة:
“معرفتش برضه هبقى له ايه؟؟”
_________________
مع مرور الوقت….
كان السيبر فارغاً كالعادة في الاونة الاخيرة بعدما أغلقوه، ماعدا ركن جانبي، حيث جلس موسى مستندًا إلى الكرسي كمن عاد من غيبوبة، يتفحّص وجوه أصدقائه كما لو كانوا غرباء، ثم قال بانفعال ساخر، تتخلله نبرة ذهول حقيقي:
“هو في إيه ياجماعة؟ أنا أغيب شهر أرجع ألاقي واحدة حامل والتاني حب وهيتجوز؟!
هو أنا غيبت شهر ولا سنة ضوئية؟”
صمت لثوانٍ، ثم رفع حاجبيه مستنكرًا وأكمل بتهكّم:
“يا ترى بقى في حد عنده أخبار تانية؟ بما إن النهاردة هو اليوم العالمي للصدمات!”
ارتفعت ابتسامات خفيفة على الوجوه، بعضها فيها سخرية على حاله، وبعضها مسلٍّ بما فيه الكفاية.
نظر موسى إلى كارم مباشرة، كأن الدور عليه في كشف “الفضائح”، فقال كارم رافعًا يديه بإذعان:
“مفيش حاجة أزيد من اللي قولتهالك… أنا حبيت البسكوتة وطلبت إيدها، ومستني الإشارة علشان أروح أقابل أبوها.”
رمقه موسى بنظرة طويلة، لم يكن يعرف إن كان عليه أن يضحك أم يبكي، ثم قال بنبرة تشكك:
“يعني حبيت من غير ما تقولنا؟”
رد كارم سريعًا، وفي عينيه لمعة انتصار:
“على أساس إنك قلتلنا إنت يعني؟ ده إنت فضلت سنين بتحبها وماتكلمتش، ولا حتى قولت لأخوها.”
جعلت كلمات كارم موسى يلتفت بلا وعي نحو سامي، الذي كان يرمقه ببرودٍ مشوب بضيق، لكن موسى تجاهل النظرة، ثم تنحنح وقال بصوتٍ منخفض كأنّه يعفي نفسه من التورط:
“مع علينا… مفيش أي صدمات تانية تخصك؟”
ضحك كارم هازًا رأسه:
“لا، كله تمام، مفيش صدمات… لحد دلوقتي.”
هز موسى رأسه باستسلام، ثم استدار نحو حسين وسأله بنبرة مستهزئة:
“وأنت يا سحس؟ اصدمني وقولي إنك سهرت مثلاً؟”
نظر حسين إليه ببرود تام، وقال بجفاف يعرف به:
“آخر مرة سهرت كانت في فرحك… ونمت بعدها أسبوع، المرة الجاية ممكن تبقى على فرح كارم، بس مش ناوي أحضره، علشان الواد ده مش بطيقه.”
رد كارم سريعًا، دون أن يتخلّى عن ابتسامته الساخرة:
“وعلى أساس إن بموت فيك يعني يالا.”
ضحك بعض الشباب من المشاحنة المعتادة بين كارم وحسين، تلك المشاحنات التي صارت طقسًا معروفًا لا يثير القلق بقدر ما يبعث المرح، لكن الضحك بدأ يخفت تدريجيًا حين لاحظ موسى أن سامي لا يضحك… لا حتى يبتسم، كان ينظر إليه بنظرةٍ جامدة، مثقلة، كأنها تحمل آلاف الكلمات التي لم تُقال.
توقف موسى عن الضحك فجأة، وعيناه تلاقتا بنظرة سامي، رفع حاجبه بسخرية، وقال بنبرة تحدٍ مشوب بخفة مصطنعة:
“إيه يابني، بتبصلي كده ليه؟ فاكرني هخاف يعني؟”
لكن سامي لم يبتسم، لم يردّ السخرية بسخرية، بل خرج صوته مشتعلاً، كأن شيئًا كان محبوسًا بداخله منذ وقت طويل،وانفجر:
“أنا عايز أقوم أدفنك دلوقتي في مكانك!”
عمّ الصمت فجأة…
ارتفعت الرؤوس، تلاشت الابتسامات، وكل من كان في السيبر بات ينظر إلى سامي بدهشة، بينما أكمل هو بانفعال لم يستطع كبحه:
“رايح تعمل شهر عسل في مصر كلها؟ البنت قالتلك صريحة إنها مش عايزة تسافر بره، وإنها عمرها ماطلعت من القاهرة، وبتحلم تشوف البحر، وإنها عايزة تعيش أبسط حلم، تقوم إنت… تلف بيها البلد كلها!
فلوسك كتير مش عارف توديها فين يعني؟!”
جلس موسى في مكانه مأخوذًا، يحاول أن يتدارك الموقف، فهتف بنبرة دفاعية فيها ابتسامة باهتة:
“أنت مبالغ أوي يا سيمو.”
ارتفعت نبرة سامي أكثر، وفي عينيه مرارة لم تُخفها المزحة التي ختم بها:
“مبالغ بجد؟ طب تعالى لما أقوم أفتح راسك ياراس الخشب يمكن تفهم!”
ساد الصمت لحظة، قبل أن يقطعه موسى بنبرة هادئة لم تكن مألوفة منه.
لم يكن يمازح، لم يتهرب كعادته… بل تكلم من مكانٍ أعمق، مكانٍ لا يزوره كثيرًا:
“أنا عارف إنك مضايق علشان شايفني ببعزق الفلوس، بس صدقني، أنا مش ماشي من غير عقل، أنا عامل حسابي، ولازم تعرف، يا سامي، أنا عشت كل عمري بجمع فلوس علشان أسعد بيها أختك، علشان ماحرمهاش من حاجة… فلوس الدنيا كلها فدا ضحكة منها.”
لم تكن لم تكن مرتبة، لكنها خرجت صادقة، كأنها كانت تنتظر هذا الموقف كي تُقال.
نظر إليه سامي، وصدره ما زال يعلو ويهبط من الغضب، لكنه لم يتكلم فورًا، وكأن شيئًا في داخله هدأ قليلًا، ثم قال بصوت أقل حدّة، يتأرجح بين الإحراج والاعتراف:
“مش عارف أقولك إيه بعد الكلام ده بصراحة…”
لكن الحدة سرعان ما عادت لطبقة صوته وهو يضيف:
“بس والله العظيم… لو ما لمّيتش إيدك شوية ياموسى، ولو ماستنيتش لما أمور الشغل تتظبط، محدش هيحوشني عنك… هكسر دماغك الناشفة دي، فاهم؟!”
ابتسم موسى ابتسامة صغيرة، فيها بعض الامتنان، وفيها أيضًا شيء من التحدي الخفيف:
“فاهم… معندكش أخبار صادمة أنت كمان بقا؟”
رمقه سامي بنظرة ضيقة، لكن قبل أن يرد، زفر زفرة طويلة، كأنه يحاول يفرّغ بقايا توتره، ثم قال وهو يشيح بنظره:
“لا… مافيش غير إن حسن هيخطب.”
استدار موسى فجأة نحو حسن، وامتلأت ملامحه بالدهشة:
“هتخطب مين؟!”
أجابه سامي سريعًا، ونبرة خفيفة من السخرية تتسلل لصوته:
“هيخطب الجمعة يا عبقري… دماغك راحت لفين؟!”
تعالت الضحكات من جديد، حتى ردد موسى بمرح خافت:
“هي راحت لبعيد فعلاً… الواحد مابقاش ضامن حاجة اليومين دول والله.”
صمت قليلًا، ثم نظر نحو حسن، بنظرة جدية مغموسة في ودّ أخوي:
“قررت ده إمتى؟”
هزّ حسن كتفيه بخفة وقال بصوت مائل للتردد:
“أنا لسه مش شايف نفسي مستعد… بس بابا مسافر لعمي الخميس، ومش معروف هيرجع امتى، وأنت عارف من ساعة ما الشيخ مسعد عمل العملية، وهو مبقاش يقدر يخطب بالناس، فمفيش غيري… فوافقت.”
لحظة صمت قصيرة مرت، قبل أن يقول موسى، وقد بدت عليه لمحة فخر صادقة:
“أنا واثق إنك هتبدع والله… وتصدق؟ أنا هخلي العيلة كلها تروح الجامع بتاعكم المرة دي، مخصوص علشانك.”
لم يرد حسن بكلمة، بل اكتفى بابتسامة خجولة تشبه تلك التي يبتسمها من يسمع أكثر مما يستحق، وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا رغم عاصفة التوتر التي تدور داخله.
تدخل كارم عندها، بروحه العملية ونبرته الحماسية:
“وأنا ومحسن هنروح من بدري ننضف الجامع ونرتبه.”
ابتسم موسى وأضاف وهو يومئ برأسه:
“وأنا هاجي معاكم.”
رفع سامي يده وقال بهدوء:
“وأنا كمان، هاجي.”
كان الحماس يتسلل للقلوب، يوقظ دفئًا لم يتوقعه أحد، حتى حسن نفسه لم يعد يخفي تلك النظرة المشرقة في عينيه… لكن قبل أن يستسلم تمامًا لتأثره، التفت إلى شقيقه “حسين”، كأنه يبحث عن جزء آخر ناقص من الصورة.
التقط حسين النظرة في الحال، وفهم المقصود دون أن يُقال شيء، وردّ ببروده المعتادة… التي ما تلبث أن تنقلب لمزاح ساخر:
“إن شاء الله أجي معاكم… بس علشان أنام، أصل في مروحة جامدة هناك!”
انفجر الجميع بالضحك، ضحكة واحدة صافية، كأنهم جميعًا تواطأوا على أن يحملوا حسن في هذا اليوم، كلٌ بطريقته… بالكلمة، أو الضحكة، أو حتى بالحضور فقط.. كحسين.
_________________
في اليوم التالي…
كان صباحًا دافئًا هادئًا، لا ضجيج فيه سوى صوت خطواتهما المتناغمة تتردد في أرجاء الشقة، كأنها موسيقى خفية لا يسمعها سواهما.
استيقظا معًا، وتقاسما لحظات بسيطة… لكنها جميلة.
أعدّا الفطور، وضحكا وهما يتشاركان تحضير طعام الغداء، كلٌّ يضيف نكهته الخاصة، حرفيًا وعاطفيًا.
والآن، قبل الرحيل، كانا في مراحل الاستعداد الأخيرة… هي تقف أمام المرآة تضبط حجابها برقة وأناقة، وهو خلفها يحاول عبثًا أن يضبط ربطة عنقه السوداء… لكن شيئًا ما فيها يأبى الانصياع، أو ربما يداه الغير معتداتان لا تساعدانه.
راقبته من انعكاس الزجاج، ثم التفتت إليه بابتسامة صغيرة، ابتسامة امرأة تعرف جيدًا من تحب، وتعرف كيف تهون عنه كل شيء… حتى ربطة عنق مشاكسة.
اقتربت منه خطوة، وقالت برقة:
“جيب.”
أزاح يده عنها في استسلام، فتقدمت هي وأمسكت بالربطة، وأخذت ترتبها له بأصابعها الهادئة، بحركة اعتادتها، وهدوء يشبه الطمأنينة.
أما هو، فظل ساكنًا، لا يُحرك ساكنًا… سوى عينيه، كان ينظر لها بدهشة ممتنة، مزيج من الحب والانبهار، ثم سألها، بصوتٍ ناعم يشبه ما يشعر به:
“اتعلمت تربطيها إزاي؟”
رفعت عينيها إليه، وكانت نبرتها هادئة كحكاية قديمة:
“كنت بعملها لبابا… كان دايمًا بيلبس كرفتات في الشغل.”
أومأ وهو يبتسم لها، تلك الابتسامة التي لا تشبه إلا لحظة رضاٍ نادر… ثم عاد ليتأمل وجهها، كأنه يتفقد ملامحه من خلال انعكاسها فيه، ثم قال بصوت هادئ، صادق كاعتراف:
“تعرفي إن دي أول مرة ألبس فيها كرافتة؟ أنا أصلاً مش بحبهم… بس علشان دي هدية منك، حبيت أجرّبها.”
ضحكت عيناه دون أن تتحرك شفتاه، وهو يضيف بنبرة فيها مزيج من الجرأة والخجل:
“الحقيقة… أنا بحب أجرّب كل حاجة لأول مرة معاكِ، يعني مثلاً… أنا عمري ماقلعت الطاقية وأنا برّه، بس في شهر العسل، كنت بقلعها وأنا مرتاح… قلتها لنفسي كذا مرة، من غير ما أقولك.”
صمت لحظة، ثم تابع بصوت أخفض، أكثر صدقًا، وكأن الجملة التالية كانت أثقل من البقية:
“وعمري ما لبست بدلة… وأول مرة لبستها كانت في فرحي أنا وإنتِ.”
مع كل جملة، كانت دهشتها تكبر، وتبرق في عينيها، كأنها تكتشفه لأول مرة من جديد…
وحين انتهت من ترتيب الربطة، ابتعدت خطوة صغيرة، وقالت بصوت فيه بقايا اندهاش:
“أنت بتتكلم بجد؟”
ابتسم ثانية، ابتسامة لا تشي بالسخرية بل بالحقيقة العميقة، ثم قال بنبرة دافئة، أقرب إلى همس:
“جدّ الجد… والله، يمكن تشوفيني ببالغ، بس أنا لما أحب حد… بحب يكون استثنائي عندي… يعني، اللي أعمله معاه، يكون عمري ماعملته مع غيره أو لغيره.”
صمته بعدها كان أبلغ من كل الكلمات… لأنها حين نظرت إليه، شعرت أنها لم تتزوج فقط من تحبه، بل من يمنحها شعور أن كل لحظة معه…
هي الأولى
، هي إستثنائية، والأهم… أنها
لن تُنسى أبدًا.
_________________
بعد ما يُقارب الساعة
…
خرج من المصعد الذي توقف به في الطابق الذي تقع فيه شركته، يسير بخطى هادئة وواثقة، يراجع في ذهنه جدول العمل _الذي أُرسل له سابقاً_ وما فاته خلال فترة غيابه، لمح من بعيد باب الشركة مغلقًا، فتوقف لثانية، وحاجباه انعقدا باستغراب.
فهو كان قد شدّد أكثر من مرة أن يظل الباب مفتوحًا خلال ساعات العمل… فهل نسي أحدهم ذلك؟
اقترب، دفع الباب بحذر، وكأن قلبه تنبّه لشيء غير مألوف…
وما إن خطت قدماه عتبة المكتب، حتى باغتته الأصوات!
تهليلات عالية، تصفيق حار، ومفرقعات ملونة تملأ المكان،
وصيحات الترحيب تعلو من كل الزوايا:
“نورت المكان ياعريس!”
“ألف حمد لله على السلامة يا برنس !”
“الشغل كان ناقصك!”
توقف في مكانه، مصدومًا من المفاجأة، قبل أن تعلو ضحكته، تلك الضحكة التي تحمل خليطًا من الدهشة والامتنان…
نظر حوله، وإذا بكل الموظفين مصطفين أمامه، وجوههم تملؤها السعادة، وكأنهم انتظروا هذه اللحظة بلهفة.
بعضهم كان يحمل لافتات ترحيب، وآخرون يلوّحون ببالونات، وعلى الطاولة الممتدة أمامهم كعكة كبيرة كُتب عليها:
“عودًا حميدًا… اشتقنا لك.”
واحدًا تلو الآخر، تقدموا نحوه يهنئونه، يربتون على كتفه، يصافحونه بحرارة وكأنهم يعبّرون عن أكثر من مجرد ترحيب…
كانوا يرحبون بعودته
كقائد، كصديق، وكجزء من هذا المكان لا يكتمل بدونه.
وقف بينهم، يبادلهم التحية، وكل ما يدور في رأسه حينها:
“ربنا يبارك في الناس اللي بتحس بقيمتك قبل غيابك… وبعده.”
وضع يده على فمه، كمن يحاول حبس مشاعره، ثم زفر بقوة، وعيناه تتنقل بين الوجوه المحيطة به، كأن قلبه لا يجد الكلمات التي تُوفي الامتنان حقه.
قال بصوت خافت أولًا، ثم علا تدريجيًا مع ابتسامة لا تُخفى:
“أنا بجد… مش عارف أقولكم إيه.”
توقف للحظة، يتأمل المكان، الضحكات، البالونات، الكعكة، نظرات الفرح التي تلمع في أعين زملائه… ثم تابع:
“بس من قلبي… شكرًا، ما توقعتش أبدًا ألاقي استقبال بالشكل ده، والله رفعتوا روحي المعنوية بطريقة عمري ما هانساها.”
ثم ما لبث أن عدّل من وقفته، واتخذ نبرة مازحة وهو يرفع حاجبيه:
“بس أوعى تفكروا إن كده هتخدعوني… أو إن الشغل هيخف، بالعكس… إحنا هنشتغل جامد أوي!”
ضحك الجميع، بينما أضاف سريعًا، وهو يشير إلى الطاولة:
“بس نأجل الحرب دي شوية… لحد ما ناكل التورتة الأول.”
وتعالت الضحكات من جديد، في لحظة امتزجت فيها الألفة بالحب، والجدية بالدفء… لحظة يعرف فيها الجميع، أن القائد قد عاد، لا كوجه مألوف فقط، بل كنبضٍ من نبض المكان.
_________________
مع مرور الوقت…
كان يجلس في مكتبه، تتناثر حوله ملفات العنل وأوراق لم تُمس بعد، لكنه لم يكن يُفكر في شيء منها الآن.
أمال جسده للخلف قليلًا في مقعده الجلدي، واضعًا الهاتف على أذنه، وصوته يخرج منه بهدوء يشبه نسمة رقيقة في نهاية يوم طويل، تمامًا كابتسامته التي لم تفارقه:
“ماجيتيش الشغل ليه؟”
على الجهة الأخرى، جاءه صوتها، ناعمًا كما اعتاد دومًا، يحمل شيئًا من الحذر وشيئًا من العجلة:
“بابا هيرجع النهاردة من السفر، فقلت ألحق أتكلم معاك في موضوعنا قبل ما ينشغل.”
أومأ بخفة، كأنها تراه، ثم قال بنبرة خافتة فيها بعض الطمأنينة وبعض العشم:
“توقعت كده برضه… بس كنت عايز أطمن عليكِ، خوفت تبقي تعبانة ولا حاجة وخاصة إن موبايلك كان مقفول من الصبح.”
في شرفتها الصغيرة، وقفت هي تُطل على الحديقة التي كساها ضوء العصر، ومالت بجسدها على السور الحديدي البارد، وقالت وهي تبتسم كأنها تراه بعينيها:
“لا أنا كويسة، بس
My phone died
“الموبايل كان فاصل شحن”… ماتقلقش.”
رد بصوت أقرب للهمس، فيه ما يطمئنها، وفيه ما يكشف تعلقه بها:
“طالما سمعت صوتك… واطمنت… مش هقلق.”
كانت تبتسم، تلك الابتسامة الخجولة التي لا يراها، لكنها تحسها في نبرتها، حتى تلاشت ابتسامتها شيئًا فشيئًا حين رأت سيارة والدها تدخل من البوابة.
نظرت للسيارة ثم رفعت الهاتف مجددًا على عجل:
“بابا وصل يا كارم… أنا مضطرة أقفل، أوكي؟”
رد بصوته الهادئ الذي بدا وكأن فيه رجاء خفيًا:
“أوكي… بس طمنيني.”
قالت بهدوء فيه وعد صغير:
“حاضر.”
ثم انتهت المكالمة…
أغلق كارم الهاتف ببطء، كأن قلبه كان معلقًا على الطرف الآخر، وضعه على الطاولة أمامه، ونظر إليه للحظة، ثم تنفس بعمق، نفس ثقيل خرج من صدره محمّلًا برجاءٍ صامت، وغمغمة دعاء داخلي:
“يارب عديها على خير…”
لكن رغم الدعاء، ورغم الابتسامة التي لا يزال يحاول التمسك بها، كان هناك شيء خفي يثقل صدره… شعور لا اسم له، لا صوت له، لكنه حاضر بقوة، كغصة لم يعرف من أين جاءت.
أما عندها…
كانت قد نزلت الهاتف من أذنها قبل أن ينطفئ صوته حتى، وهرولت بخطوات خفيفة نحو الدرج، تنزل السلالم بسرعة، وقلبها يسبقها… هناك كلام كثير في رأسها، لكنه لا ينتظم، يتشابك كخيوط دافئة مرتبكة، تدفعها للمضي للأمام.
حين وصلت إلى الطابق الأرضي، كان الباب يُفتح… دخل والدها، توفيق، متعبًا من السفر، لكنّه انتبه لصوتها ينادي:
“بابا!”
توقف لحظة، نظر نحوها، وعقد حاجبيه بدهشة خفيفة لم تخفَ عنها، ثم ابتسم وهو يفتح ذراعيه لها، وقال بنبرة فيها عتاب خفيف واشتياق:
“بقالك كتير مانزلتيش تستقبليني.”
أسرعت إليه، وعانقته… كانت تلك لحظة احتياج حقيقي، لم تكن فقط عناقًا لوالدها، بل استمدادًا لقوة ستحتاجها الآن.
وحين ابتعدت عنه قليلًا، نظرت في عينيه مباشرة، وتحدثت بصوت بدا واثقًا رغم توتر قلبها:
“أنا… عايزة أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم.”
_________________
في جهة أخرى…
كان الزحام يمتد أمامهما كأن المدينة تبتلع الوقت بلا رحمة، كان هو يضع يده على عجلة القيادة بأريحية، وعيناه تتنقلان بين المرايا والضوء المتقطع عند الإشارة، فيما يجلس حسن إلى جواره، ويقول بتنهيدة خفيفة:
“أنت هتنزلني عند الكورنيش زي مااتفقنا، علشان تروح تجيب مراتك.”
أجابه موسى دون أن يحوّل نظره عن الطريق، نبرته هادئة لكن تحمل دفء المعزة:
“ماشي يا حسن… حاضر، بس فيروز لسه مكلماني وقالت إنها هتتأخر شوية، فممكن أوصلك وبعدين أرجع آخدها.”
رمقه حسن بنظرة ممتنة، لكنه تمتم مازحًا:
“هتخليني أندم إني رديت عليك وقلتلك إني خارج من المدرسة… مش عايز أتعبك معايا.”
ابتسم موسى، ومال برأسه إليه بخفة:
“خلاص ياسيدي، هنزلك عند الكورنيش، وأقعد معاك شوية ناكل حمص شام، وبعدها أروح أجيب مراتي لما تقرب تخلص… كده مرضي يا باشا؟”
ضحك حسن وهو يومئ بالموافقة، وساد الصمت للحظات، لا يقطعه إلا صوت السيارات حولهما، ثم سأله حسن وهو يعيد النظر في ساعته:
“صحيح، إنت مخلص شغل بدري ليه؟ مش المفروض تخلص الساعة أربعة؟”
تنهد موسى وأجابه دون تردد:
“حصل عطل في شبكة الواي فاي اللي متوصلين عليها في الشغل، كلمت صاحب العمارة قال العطل مش هيتصلح قبل بالليل، فمشيت أنا والشباب.”
أومأ حسن بتفهم، ووجهه عاد إلى الأمام، وكأنهما كلاهما استسلما لصمت الطريق.
لكن فجأة،
اخترق الصمت صوت الهاتف
… هاتف موسى، الذي سقط نظره على اسم المتصلة…
“لينا.”
ضغط على الزر بسرعة وردّ، وهو يقول بهدوء فوري:
“أيوه يا لينا؟”
لكن الرد لم يكن بكلمات واضحة، بل
بكاء
، أنين خافت من الطرف الآخر، مختلط بأنفاس متقطعة ونبرة مرتجفة:
“الحقني يا موسى… أنا في مصيبة.”
#يتبع….
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.