رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثامن والأربعون 48 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثامن والأربعون

الفصل الثامن والأربعون(طرقات عنيفة)

الفصل الثامن والأربعون(طرقات عنيفة)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

ولا تَظُنَّنَّ بالسُّوءِ امرأً أبداً

ما دمتَ تَجِدُ للخيرِ مَـنـهُ مَـخْـرَجـا


.





الإمام الشافعي




____________

كانت تجلس إلى جوار والدها في البهو الواسع، المكان الذي طالما شعّ فيه الصمت… لكنها الآن، وسط هذا السكون، تسمع كلمات والدها كأنها لا تصدق أذنيها.

نظرت إليه بذهول، عيناها ترتجفان بدهشة لم تكن تتوقعها، رمشت ببطء وهمست بصوت مبحوح:

“موافق؟… بجد حضرتك موافق؟؟”

هز توفيق رأسه في بطء، وخرج صوته خافتًا، كأن كل كلمة يحملها من بئرٍ عميق من التردد:

“آه… موافق، كلميه وقوليله إني مستعد أقابله… يوم؟ يوم الجمعة مناسب.”

لحظة واحدة، لكنها كانت كافية لتلمع عينا ميرنا بفرحة خالصة، كفرحة طفل حُرم من لعبته المفضلة طويلًا ثم وجدها فجأة بين يديه، عانقته بعفوية، وقبل أن تترك ذراعيه، همست بانفعال:

“بجد شكراً يابابا… شكراً أوي، أنا.. أنا هطلع أكلمه فورًا… عن إذنك.”

ثم غادرت… لا، لم تغادر بل حلّقت، كأنها فقدت ثقلها، كأن الأرض ما عادت قادرة على حمل فرحتها، تركض درجات السلم بخفة الفراشة التي وجدت ربيعها أخيرًا.

أما توفيق… فبقي في مكانه، لا يحرك ساكنًا، فقط نظر أمامه بعينٍ واجمة، ثم تنهد تنهيدة أثقل من أن تحتملها أضلعه، وسأل _دون أن يلتفت_ للسيدة التي كانت تستمتع لهذا الحديث في الخفاء طوال الوقت:

“أنا ليه… ليه سمعت كلامك، ووافقت أقابله يا جنة؟”

اقتربت جنة بخطى هادئة، وجلست إلى جانبه، لم ترد فورًا، بل نظرت إليه كأنها تقرأ ما خلف عينيه، ثم همست بحنو:

“علشان ميرنا… علشانهّا هي، مش علشانه هو.”

ظل ينظر أمامه، دون أن يبادلها النظرات، ثم قال بصوت متردد:

“بس… هو مش مناسب ليها، وأنا حاسس ده.”

ردّت بصوت مطمئن، ثابت:

“إحساسك ممكن يكون صح، وممكن لأ، بس مش هتعرف غير لما تقعد معاه… تتكلم، تسمع، تفهم… اديله فرصة، مش علشانه، علشان تشوف إن كان يستحق بنتك ولا لأ.”

ظل صامتًا، وشيء في قلبه كان يحاول المقاومة… خوف قديم، جرح لم يندمل.

تنفس ببطء، ثم قال، وصوته يشي بتعب أبٍ خائف:

“أنا… مش عايزها تنكسر تاني يا جنة، مش عايز أشوف فيها اللي شُفته قبل كده، ميرنا لو وقعت المرة دي، مش هتقدر تقوم… دي يدوب بدأت تخرج من اللي كانت فيه.”

وضعت جنة يدها على كتفه، تضغط برقة كأنها تطمئن قلبه لا جسده، ثم قالت:

“عارف؟ هي ما رجعتش تضحك، ولا تخرج، ولا تاكل معانا… إلا من بعد ما عرفته، يمكن ما خدتش بالك علشان مشغول، بس أنا شفت ده بعيني، كنت هنا معاها كل يوم، ولاحظت ده بعيني… ممكن بقا تديه فرصة علشان خاطر بنتك؟”

ظل صامتًا، يزن كلماتها، كأن قلبه يحاورها لا عقله… ثم أخيرًا، أومأ برأسه، بخفوت:

“هحاول.”

ابتسمت جنة، ابتسامة امرأة تعرف ثقل هذا القرار، ثم مررت يدها على ظهره بحنان الأمّ، وامتنان الأنثى التي ترى الحنان في رجل أنهكه القلق.

_________________

في جهة أخرى…

كان يسير في الممرات بخطى متسارعة، مضطربة، كأن الأرض نفسها لم تعد تحتمل توتره… وخطواته لا تعرف اليقين، بل تُقاس على وقع أنفاسه المتلاحقة التي تتشابك مع نبضات قلبه في سباقٍ لا هوادة فيه.

وخلفه… كان صديقه يحاول اللحاق به، يركض بخطى أقل حدة، تخرج من شفتيه كلمات مألوفة، بصوت خافت:

“يا الله يا معين…”

توقف موسى فجأة عند أحد الطلبة الذين مرّوا بجواره، وقد بدت في عينيه استعجال لا يعرف المجاملة:

“لو سمحت… مكتب العميد فين؟”

أجابه الطالب، وهو يشير بيده جهة اليمين:

“هتلاقيه آخر أوضة في الممر ده.”

كأن الكلمات فتحت له الطريق، اندفع موسى نحو نهاية الممر، كمن وجد نقطة الضوء في نفقٍ ضاق عليه فجأة.

بينما أومأ حسن برأسه لذلك الشاب سريعًا وقال وهو يستعد للّحاق بصديقه:

“شكرًا.”

ثم ركض خلف موسى… لا ليلحق به فقط، بل ليلحق ببقايا هدوئه التي تتناثر منه مع كل خطوة.

وصل موسى إلى الغرفة المنشودة كمن يقتحمها بقلبٍ يفيض بالقلق، طرق الباب بسرعة، لم ينتظر إذنًا، دفعه بخفة ودخل، وحسن خلفه تماماً.

توقفت الأحاديث، وتحركت الرؤوس… كل العيون التفتت نحوهما، وكأن دخولهما قد قطع خيط الزمن داخل الغرفة، وبين تلك العيون، كانت عينا “لينا” تنتفضان بدموع متشبثة، وسرعان ما نهضت واقتربت نحوه، خطواتها متعثرة، وقلبها يركض قبلها… بدا كأن وجوده قد نزع عنها شيئًا من خوفها، كأنها وجدت أخيرًا ركناً تلجأ إليه.

لكن، ما إن وقعت عيناها على حسن، حتى ارتجف قلبها…

أما حسن، فقد شعر بنظرتها تلك تُوغِل فيه، فحول وجهه نحو العميد سريعًا، محاولًا أن يبدو متماسكًا، رغم أن قلبه هو الآخر لم يكن أقل اضطرابًا… لسببٍ لايعرفه.

وقف العميد، تطلّع إليهما بصرامة رسمية، لم تخلُ من تساؤل دفين:

“حضرتك مين؟”

لم يُجِب موسى فورًا، بل التفت إلى لينا أولًا… بعينيه فقط، مرّر لها طمأنينة خافتة.. كانت نظرته حنونة، لكنها قاطعة.

ثم التفت إلى العميد، وخرج صوته ثابتًا، رغم أنه كان يُخفي ارتجافة قلبٍ أخٍ يُصارع المجهول لأجل أخته:

“أنا… أخوها، أخوها الكبير.”

ساد صمت قصير، لم يُرد أن يطول، فتنفس موسى بعمق ثم قال بنبرة واضحة، لا تخلو من الجدية:

“ممكن أعرف اللي حصل بالظبط؟”

“أخت حضرتك… زميلتها متهماها بسرقة موبايلها.


تسللت كلمات العميد إلى أذن موسى كصفعة مباغتة، لا تُصدر صوتًا لكنها تترك أثرًا داخليًا لا يُمحى

.

لثوانٍ قليلة، بدا الزمن وكأنه توقف…

انعقدت نظرات موسى في مكانها، اتسعت عيناه دون وعي، كما لو أن الفكرة نفسها ترفض أن تكتمل في ذهنه… أما حسن، فبقي جامدًا، لم ترمش له عين، فقط كان واقفًا هناك، صامتًا كصخرة، يراقب الموقف بنظرة لا تُقرأ.

التفت موسى نحو لينا، عيناه تتوسلان تأكيدًا واحدًا… نفيًا واحدًا، حتى وإن كان صامتًا، ولحسن الحظ لم يتأخر الجواب، إذ أومأت برأسها نفيًا، إيماءة خافتة، لكنها كافية تمامًا له.

شعر حينها بشيء في صدره يتحرك… خليط من الغضب، والريبة، وحسّ الواجب.

لم يكن بحاجة لكلمات أكثر…

استدار ببطء نحو الفتاة التي كانت تقف على يسارهم، عيناها تتابعانهما منذ لحظة دخولهما، لكن خلف ذلك التحديق المريب، كانت هناك رجفة، صغيرة، لكنها كافية لتفضح هشاشة ادعائها.

حدّق فيها موسى… نظرة لا تحمل عداءً، لكن فيها من الصلابة ما يكفي لهز الثقة في أي قلب مضطرب… كانت نظرة محكمة، كأنها تنقب في داخلها لا في ظاهرها، ثم التفت بهدوء نحو العميد، وقال بصوت ثابت، لا يخلو من الاحترام، ولا من الإصرار:

“معلش، أستأذن حضرتك في كلمتين على انفراد مع الآنسة… جايز يبقى في سوء تفاهم، وحابب أفهمه من ناحيتها… طبعاً لو حضرتها موافقة.”

نظر العميد إلى الفتاة، ينتظر منها إشارة، قبولًا أو رفضًا، لكنها لم تطل التفكير… أومأت برأسها إيجابًا، لا بإرادة واضحة، بل كمن وافق دفعًا لا اقتناعًا.

عندها التفت إلى موسى وأومأ له بهدوء، ثم أشار نحو الباب قائلاً بلهجة مختصرة خالية من المجاملة:

“اتفضلوا… خمس دقايق بس.”

ألقى موسى نظرة مطوّلة نحو الفتاة، نظرة لا تُقرأ بسهولة، ثم تحرك بخطوات محسوبة نحو الباب، يتبعه حسن بصمته المعتاد، ولينا التي كانت تسير وكأنها تسحب قلبها الثقيل معها، ثم أخيرًا الفتاة، التي بدت جامدة الملامح لكنها مترددة في جوهرها، وكأنها تخفي ارتعاشة داخلية.

فتح موسى الباب، وخرجوا جميعًا من الغرفة إلى الممر الهادئ، ذاك الهدوء الذي يسبق العاصفة.

توقف موسى في منتصف الممر، ثم زفر زفرة طويلة وكأنها محاولة لتصفية ما تراكم في صدره، استدار ببطء، عيناه لا تلمعان بالغضب، بل بالسكون… السكون الذي يأتي من شدة الوعي، والاحتواء الصلب.

ثم قال بهدوء، لكن صدى صوته كان كضربة على الجدار:

“هسألك سؤال واحد بس… وتجاوبيني عليه بصراحة.”

رفعت الفتاة عينيها إليه، فيها بقية من عناد، خافتة، تتلاشى أمام ظل الخوف المتسلل.

لم يُمهلها، بل أشار برأسه نحو لينا التي كانت تحبس دموعها بصعوبة:

“شوفتيها… وهي بتعمل كده؟”

خرجت الكلمات ببطء، لكنها اخترقت… ارتجف جسدها رغم محاولتها في التماسك، ثم قالت بصوت ثابت مصطنع:

“آه.”

أغمض موسى عينيه للحظة، وعض على شفته السفلى كمن يكبح وحشًا داخله، ثم فتح عينيه وقال وهو يضغط على أسنانه، ونبرته أكثر صدقًا من كل شيء حولهم:

“بصي… أنا عمري ما عليت صوتي على بنت، فامتخلينيش أكسر ده دلوقتي… متخلينيش أفقد أخلاقي علشان أكشف كدبك…. لآخر مرة هسألك… شوفتِ لينا وهي بتاخد موبايلك؟ وجاوبيني من غير لف ولا دوران… ولا كدب.”

هذه المرة، لم تستطع النظر إليه… تهربت بعينيها، وتقلصت ملامحها في مواجهة الصدق الجارف في صوته.

خيم صمت ثقيل… وبدأت لينا تنهار بصمت، شهقاتها صغيرة لكنها متواصلة، كأنها تحاول أن لا يسمعها أحد، لكنها تفشل.

وحسن، الذي كان يقف بجوار موسى بعدة خطوات، يسمع كل شيء ولا يُبدي شيئًا، التفت نحوها بهدوء… اقترب بخطى ثابتة، ثم أخرج منديلًا من جيب بنطاله، وناوله لها دون كلمة.

نظرت لينا إلى المنديل، ثم إلى وجهه… أخذته بصمت، فأضاف بصوته الرخيم:

“طالما ماعملتيش حاجة… ماتعيطيش.”

قال حسن كلمته الأخيرة، ثم اتجه بخطى هادئة نحو موسى، تاركًا إياها خلفه تنظر إليه بعينين ممتلئتين بالدمع.

نظرت إلى المنديل بين يديها، وكأنها تحاول أن تفهم ما يُقال لها دون أن يُقال، ثم رفعت عينيها نحوه، فوجدته يقف بجواره، في وضع الحامي لا المهاجم، وسمعته يقول بنبرة رزينة:

“اهدأ يا موسى… احنا جايين نسمعها بهدوء، مش علشان نخوفها.”

وضع حسن يده على كتف صديقه، نظرة تفاهم عميقة مرت بينهما، ثم أردف:

“سيبني أتكلم معاها شوية… ممكن؟”

تأمله موسى لثوانٍ، ثم زفر ببطء، وكأنه يتخلى عن سيفه بإرادته، وقال:

“ماشي.”

تنهد حسن، ثم اقترب من الفتاة وخفض صوته، وكأن كلماته تُخاطب ضميرًا أكثر من أذن، ثم بدأ بهدوء:

“بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾

صدق الله العظيم.”

“ربنا بيحذرنا من سوء الظن… لأن الظن أوقات بيكون ذنب كبير، خصوصًا لما نتهم حد بحاجة إحنا مش متأكدين منها…

و

واضح إنك ماشفتيهاش وهي بتاخد الموبايل، بس مع ذلك اتهمتيها… يعني في شك جواكي،

ممكن

أعرف الشك ده جه منين؟”

و

قبل أن ترد الفتاة، تحركت لينا بخفة من مكانها، كانت دموعها ما تزال تتساقط رغم محاولتها منعها، ثم قالت بصوت مهزوز، مليء بالخجل والمرارة:

“علشان عارفة إني كنت بسرق… وكنت بتعالج.”

تجمد موسى، واتسعت عيناه بذهول لم يستطع إخفاءه، نظر إليها كمن سمع ما لم يتوقع، ثم سألها بسرعة:

“إنتِ قولتلها ليه؟”

أجابت لينا بصوت منخفض، عينيها زائغتان كأنها تتحدث من وراء حجاب من الذكريات:

“شافتني مرة… وأنا بعمل كده، ووقتها جاتلي، وقالتلي إنها شافتني

؛

فا

ضطريت أقولها… إن اللي بعمله ده غصب عني، وإني بدأت أتعالج…

وأمنتها على سري، ووعدتني إنها هتنسى اللي شافته،ومش هتقول لحد.”

سكنت اللحظة، ثم التفتت نحو الفتاة، ونظرت إليها طويلًا،

وأضافت

بنبرة عاتبة، لكنها تحمل مرارة أكبر من الغضب:

“بس واضح… إنها مانستش.”

نظرت الفتاة إلى لينا، وبدت وكأنها تدافع عن نفسها أكثر من أنها تتهم، خرجت كلماتها سريعة، مرتبكة بعض الشيء وهو تقول:

“لا… فعلاً نسيت، وماقلتش لحد، بس… بس لحد ما تليفوني اختفى، وإنتِ كنتي قاعدة جنبي!”

كانت لينا ترتجف، ليس من الخوف، بل من شعور غامر بالظلم… رفعت عينيها المبللتين نحوها، وردّت بنبرة باكية، تحاول أن تُثبت صدقها دون أن تنهار:

“أنا مااخدتهوش… والله مااخدته، أنا بطلت خلاص أعمل كده… بطلت.”

لكن الاتهام لم يزل معلقًا في الجو، فأردفت الفتاة، نبرة صوتها تميل إلى التحدي أكثر من اليقين:

“أومال مين اللي أخده؟ أنا كنت سايباه على البنش طول المحاضرة… وإنتِ اللي كنتِ قاعدة جنبي.”

لم يحتمل موسى استمرار اللهجة، فتدخل بنبرته الحادة، وكأنها سكين تُحسم بها الفوضى:

“ما قلتلك… ما أخدتوش، إنتِ مش عايزة تفهمي إيه؟؟”

كان صوته بمثابة صفعة، فتدخل حسن على الفور، صوته هادئ كالعادة، لكن فيه حسم:

“اهدأ يا موسى… الكلام أخد وعطا يا صاحبي، مش كده.”

ثم التفت نحو الفتاة، وهو يغض نظره عنها، ثم قال بهدوء:

“هو مش في كاميرات في المدرج؟ على ما أظن؟”

أجابت الفتاة بسرعة، بنبرة أقرب للضيق منها للأسى:

“مش شغالة.”

هزّ حسن رأسه ببطء، ثم قال:

“طب… جربتِ ترني على تليفونك؟”

“بعمله صامت وقت المحاضرة… ودورت عليه في المكان اللي كنت قاعدة فيه… ومالقتهوش.”

ساد صمت ثقيل للحظة، صمتٌ لم يكن يشبه الراحة بل يشبه ارتطام الأسئلة بجدران القلب.

ثم انطلقت من بين شفتي لينا ابتسامة قصيرة، مليئة بالحسرة… ضحكة خنقت الهواء.

أما موسى، فكان ظلّ واقفًا كمن يُصارع عجزه، قبل أن يرفع يده ببطء ومسح وجهه بكفه، ثم عقد حاجبيه فجأة، وكأن فكرة ما سقطت في ذهنه كالصاعقة.

التفت إلى الفتاة بسرعة وقال بنبرة حملت توتره وتعلقه بأي خيط يمكن أن يُنقذ به الموقف:

“أنتِ بتستعملي


Find My iPhone

؟”

بدت الفتاة وكأنها تفكّر للحظة، ثم أومأت برأسها وردّت بصوت منخفض قليلًا، وكأنها لا تزال تزن كلماتها:

“آه… بستعمله.”

رفع موسى حاجبيه قليلاً، وكأن شرارة أمل لمعت في ذهنه، ثم قال بنبرة جامدة، لا تحمل انفعالًا بل يقينًا متماسكًا:

“طب ليه ماجربتيش؟”

أطرقت برأسها للحظة قبل أن ترفع عينيها وتقول:

“علشان موبايلي مش متصل بالنت.”

سألها موسى وهو يضغط على أسنانه كمن يكبح ثورةً بداخله:

“امتى آخر مرة كان موبايلك متصل بالنت؟”

أجابت بعد لحظة صمت، وقد بدأ التوتر يتسلّل لنبرتها:

“قبل المحاضرة… بس أول ما الدكتور دخل، قفلت النت، وحطيت التليفون على البنش… وأول ما المحاضرة خلصت، ما لقيتهوش.”

ابتعد موسى بنظره عنها، وأخذ نفسًا عميقًا وهو يفرك رقبته، كأنّ الغضب يستعر داخله ويبحث عن منفذ، ثم همس من بين شفتيه المكبوتتين:

“استغفر الله العظيم يا رب.”

في تلك اللحظة، ضمّت الفتاة يديها إلى صدرها كمن يحتمي من الاتهام، وقالت بانفعال:

“أنتو بتعملوا كل ده علشان ماتعترفش إنها اللي أخدته؟!”

رمقت لينا بنظرة مباشرة، وكان الخزي بادٍ في عينيها أكثر من أي وقت، لكن قبل أن تتفوّه بشيء، تابعت الفتاة بحدة:

“لو ما أخدتهوش فعلاً… خليني أشوف شنطتك.”

التفت موسى نحوها كمن لُدغ، وقال بحدة خنقتها المفاجأة والحنق:

“إنتِ مستفزة كده إزاي يابت؟!”

رفع حسن يده فجأة كمن يوقف سيلًا قبل أن يجرف، وقال بثبات:

“استنى يا موسى.”

ثم التفت نحو الفتاة، وألقى عليها نظرة عابرة لكنها مشبعة بشيء جديد… شيء لم يكن في نبرته من قبل… وقال بصرامة لم يعتدها أحد منه:

“ما تفتحي شنطتك إنتِ؟”

“إيه؟!”

“افتحي شنطتك… ودوري عليه، جايز تكوني حطّيتيه فيها من غير ما تاخدي بالك.”

ردّت بسرعة وهى تشير صوب لينا:

“دورت… دورت قدامها، وما لقيتهوش!”

اقترب حسن خطوة وقال بهدوءٍ ظاهر يخفي الكثير تحته:

“معلش… دوري تاني.”

سكتت للحظة، بدت كأنها تزن الأمر في عقلها، ثم زفرت بعنف ونزعت الحقيبة من كتفها بضيق ظاهر، وبدأت تفرغ محتوياتها بعصبية…

أخرجت مقلمة صغيرة، ثم دفترها… ثم شيء ما جعل الزمن يتباطأ فجأة…

كان كتابًا منتفخًا بشكل غريب…

رمقه حسن بسرعة، عبست ملامحه في لحظة خاطفة، ثم مال بجزعه بهدوء ليُمسكه من على الأرض.

شعر الجميع بسكون غريب، كأن المكان حبسه أنفاسه في تلك اللحظة… قبل أن يفتحه حسن.

وبين طيّات الصفحات، انكشف الهاتف المحمول، مدسوسًا داخل الكتاب كما لو كان ينتظر من يعثر عليه أخيرًا.

اتسعت عينا الفتاة كأنما تلقت صفعة غير متوقعة، وتيبست أطرافها للحظة، ثم سرعان ما بدأت تُلوّح بيديها وهي تهتف بتوتر شديد:

“والله العظيم… والله العظيم ما أعرف وصل هنا إزاي!”

كانت نظرات الثلاثة مثبتة عليها… موسى يزم شفتيه بغضب متقد، حسن يحدّق في الهاتف بهدوء لا يُفسر، ولينا ما تزال واقفة في مكانها، وقد بدا قلبها يتردد بين الصدمة والخذلان.

تابعت الفتاة دفاعها بيأس، وصوتها يرتجف بين الكلمة والأخرى:

“ممكن… ممكن أكون حطّيته من غير ما آخد بالي، وأنا بقفل الكتاب بسرعة… بس أقسم بالله ما حطيته قصْد!”

ثم استدارت نحو لينا تحديدًا، وكأنها تعلّق أملها الأخير في تصديق واحدة على الأقل، ورفعت كفها كأنها تقسم للمرة الألف:

“والله العظيم يا لينا… ما حطيته قصد! أنا مش كده، صدقيني، أنا مش كده…”

لكن لينا لم ترد…

كانت تحدّق فيها بنفس العيون التي رأتها يومها في ذلك اليوم… يوم صارحتها بكل شيء وظنّت أنها وجدت في تلك الفتاة أمانًا… إنسانة و.. صديقة.

لكن أيّ صديقة؟

أي صديقة تكون أول من يشك؟

أي صديقة تُلقي عليها ثِقل التهمة في أول لحظة اختفاء، بلا دليل، بلا حتى ذرة انتظار؟

أي صديقة تنكسر ثقتها أمام أوّل عثرة، كأن ما بُني بينهما لم يكن إلا قشًّا في مهبّ ريح؟

بدت الكلمات تختنق في حلق لينا، لكن عينيها قالتا كل شيء…

لم يكن الغضب ما يسكن ملامحها، بل الخيبة. خيبة من نفسها، ومن الآخر، ومن الطريق الذي اختارته وظنّت فيه أملًا.

لم تنطق لينا بشيء، لم تجادل، لم تبرر، لم تثر، فقط مدت يدها في صمت وأخذت الهاتف من يد حسن، ثم استدارت نحو الفتاة، وبلامبالاة جامدة، وضعت الهاتف بين يديها.

لم تكن يدها ترجف، لكن برودها كان أقسى من أي صراخ، وقالت بنبرة ميتة، كأنها تنزع كل ما تبقى من دفء العلاقة:

“تلفونك أهو… ابقى دوري عليه كويس المرة الجاية.”

ولم تنتظر ردًا…

كانت خطاها واثقة، بطيئة، لكن بداخلها عاصفة.

ولجت إلى مكتب العميد، تاركة وراءها خيوطًا مقطوعة من علاقة، ووجوهًا لا تعرف بعد كيف تواجه ذاتها.

تبعها موسى بنظراته، ثم التفت فجأة إلى الفتاة، وخرج صوته مشدودًا، كأن حنجرته لم تعد تحتمل الانفعال:

“ادخلي قولي بقا اللي حصل للعميد، وفهميه إن لينا مالهاش ذنب… وإن العيب عليكِ، مش عليها.”

بدت الفتاة كما لو تلقت لكمة…

نظرت إلى الأرض، خجلها واضح، لكن قبل أن تحاول النطق بشيء، جاءها صوت هادئ… لكنه كالسهم.

“واعتذري.”

رفعت عينيها ببطء نحو مصدر الصوت، لتجد حسن، واقفًا دون أن ينظر لها، صوته ثابت لكن عينيه فيهما  حدة غريبة.

وأضاف دون أن يلين:

“واعتذري من لينا على اللي حصل، قدام العميد، وقدام أي حد اتهمتيها قدامه… حاولي تكفّري شوية عن ذنبك.”

أومأت برأسها بصمت، خجلًا وانكسارًا، تتفادى النظر في عيونهم… خفضت بصرها، وكأنها تحاول الهروب إلى قاع الأرض من خزي نفسها.

كل شيء فيها يصرخ: “كيف فعلتِ ذلك؟ كيف سمحتِ لغبائك أن يقودك؟”

راحت تلعن وساوسها، تلعن استعجالها، تلعن ظنونها التي أرشدتها منذ اللحظة الأولى نحو لينا، وكأن البراءة لم تكن خيارًا واردًا، وكأن الشك كان الحقيقة الوحيدة.

لم تفتّش حقيبتها فعليًا، لم تبحث… فقط ألقت نظرة، نظرة خادعة، مغشوشة بنية الاتهام، وكأن قلبها قد اتخذ الحكم قبل أن ينظر في الأدلة.

ومنذ أن اختفى الهاتف، لم يخطر ببالها أن تبحث بداخله الحقيبة فعليًا، لأنها ببساطة، كانت قد حسمت الأمر داخليًا: لينا هي من أخذته.

والآن…

وهي تقف تحت وطأة هذه اللحظة، تدرك فجأة حجم ما اقترفته… ليس فقط سوء ظن، بل اتهام باطل، وكسر لقلوب، وجرح لصديقة، وربما خسارة نهائية لها.

ترددت في ذهنها الآية، كأنها طعنة أخيرة من ضميرها الذي استيقظ متأخرًا:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ…”

_________________

مع مرور الوقت…

كان يقود السيارة بصمتٍ مطبق، تجلّى فيه ضيقه على ملامحه المشدودة، وأصابعه التي تقبض على المقود بقوة، وإلى جواره جلس صديقه، ساكنًا كعادته، يحرك شفتيه بذكر الله، بصوت خافت بالكاد يصل له وحده.

أما هي، فجلست في المقعد الخلفي، مطرقة الرأس، تتأمل الطريق حينًا، وموسى حينًا آخر، كلما رفعت عينيها نحوه، التقطتها عيناه عبر المرآة… وأخيرًا، سألها بصوته جاف، فيه حدة أكثر من اللين:

“عايزة تقولي إيه يا بنت سهير؟”

ترددت نظرتها عليه، ثم هبطت إلى حجرها وهي تقول بخجلٍ خافت:

“أنا آسفة إني بهدلتك معايا كده… واضطريت تتحط في موقف سخيف بسببي.”

نظر إليها موسى لثانية صامتة في المرآة، قبل أن يعيد عينيه للطريق ويتمتم بهدوء:

“ما تعتذريش… اللي حصل حصل وانتهى خلاص، بس أهم حاجة… ماتكلميش البنت دي تاني… الصداقة اللي مافيهاش ثقة، ما اسمهاش صداقة يا لينا، ابعدي عنها… عشان ما تستاهلش تبقي صاحبتك أصلاً.”

أومأت بصمت، فلم تكن تحتاج المزيد من التوبيخ، فقد أدركت الدرس وابتلعته مرة واحدة.

لمح موسى ذلك في انعكاس عينيها، فابتسم بهدوء، ثم أضاف بنبرة أخف:

“يلا روقي… ماينفعش تدخلي البيت وأنتِ شكلك كده، هيعرفوا إن في حاجة.”

مسحت عينيها بباطن كفها، في محاولة لتجفيف أثر ما جرى، لكن هاتفها اهتز فجأة، ومع أول نظرة إلى الشاشة قالت بقلق:

“دي تينا… أكيد عرفت.”

رد موسى وهو ما زال يراقب الطريق:

“هتعرف إزاي؟ وأنتِ في كلية وهي في كلية تانية.”

“إحنا نفس الدفعة… وفي صحاب مشتركين بينا، أكيد واحدة منهم بلغتها… مش عارفة أرد أقول إيه.”

زفر موسى بقوة، ثم قال بوضوح:

“ما ترديش، ابعتي لها رسالة وقولي: هفهمك كل حاجة في البيت.”

سألته لينا بتوجّس:

“هفهمها إيه في البيت؟”

رمقها من المرآة بنظرة جادة وقال:

“هنفهمها كل حاجة… أنتِ اتعافيت خلاص، واتفاقنا كان إننا نقول لهم بعد ما تتعافي… جه الوقت يا لينا.”

“بس…”

قاطعها بحدة خفيفة:

“مافيش بس… أنا هوصلك، وبعد المغرب هاجي… وأي حد يسألك عن حاجة، قولي له موسى هييجي يشرح كل حاجة، مفهوم؟”

صمتت قليلًا، ثم أومأت بتردد؛ فأشار برأسه:

“يلا ابعتي الرسالة.”

انشغلت بكتابة رسالتها، وعندما انتهت… التفتت بجسدها نحو النافذة، تتابع الطريق دون تركيز، تتحاشى النظر إلى الأمام، حيث يجلس حسن في صمته الأنيق… وكأنه لا وجود له.

لكن ذلك الهدوء انكسر حين قال فجأة بصوته الرخيم:

“نزلني هنا يا موسى.”

نظر إليه موسى بدهشة عابرة:

“ليه؟”

أجاب بابتسامة خفيفة:

“عايز أقعد شوية على الكورنيش.”

أومأ موسى بهدوء، وأوقف السيارة على جانب الطريق:

“ماشي.”

فتح حسن باب السيارة بهدوء، ترجّل منها وقال بصوته المعتاد الرزين:

“السلام عليكم.”

رد موسى بمرحه المعتاد ونصف ابتسامة:

“وعليكم السلام… وسلّملي على حمص الشام.”

ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجه حسن، ثم أغلق الباب بخفة، لكن قبل أن يتحرك، سمع نداء خافتًا، ناعمًا يحمل شيئًا من التردد:

“حسن…”

توقف في مكانه، كما التفت موسى في الوقت ذاته نحو مصدر الصوت… كانت لينا، عيناها تتحاشيان النظر المباشر، وصوتها ينبض بالخجل، لكنها قالت:

“شكرًا.”

لم يُطِل حسن الرد، بل اكتفى بابتسامة دافئة، ونظرة مائلة للأرض كما يفعل دائمًا، وقال:

“الشكر لله.”

ثم أدار ظهره ومضى، مشي بخطى هادئة صوب كورنيش النيل، تاركاً موسى يطالع لينا بنصف نظرة مائلة، لم يعلّق فورًا، لكنه ابتسم ساخرًا وقال:

“لا والله؟ بتشكريه لوحده ليه؟ أنا يعني كنت قاعد بتفرج؟ ولا كنتي ناوية تديني الاعتذار وتديه هو الشكر؟”

نظرت إليه بابتسامة خفيفة وقالت ببساطة:

“حاجة زي كده.”

ضاق بعينيه ساخرًا، وأدار المقود وهو يتمتم بصوت مصطنع الغضب:

“نفسي أرميكِ في النيل دلوقتي.”

ضحكت على كلماته، ضحكة خافتة، لكنها صادقة، وابتسم هو الآخر رغماً عنه، ثم انطلق بالسيارة من جديد…

_________________

بعد نصف ساعة…

كان يفتح باب الشقة ببصمة اصبعه بينما تقف هي بجانبه…

أوصل أولًا ابنة عمته إلى منزلها، ثم صفّ السيارة في الكراج، وأخيرًا عاد… إلى بيتها، ومعها، وإليها.

دخلت فيروز أولًا، وضعت حقيبة يدها وهاتفها على منضدة صغيرة في ركن غرفة المعيشة، ثم التفتت إليه بنبرة هادئة لكنها دافئة:

“أنا هصلي العصر وبعدين أبدأ أعمل الأكل… عايز حاجة معينة؟”

رما مفاتيحه على نفس المنضدة بحركة تلقائية، ثم اقترب منها بهدوء، أمسك يدها بين يديه، رفعها ببطء إلى شفتيه وقبّلها بحنان صادق، وعيناه لا تفارق وجهها:

“مش عايز غيرك، والله.”

ابتسمت بخجلٍ لطيف، الخجل الذي لا يظهر إلا حين يُلامس الحب شيئًا عميقًا في القلب، ثم رفعت يدها، ووضعتها برقة على وجنته؛ فابتسم حين أحس بدفء راحتها، ثم قال بنبرة أكثر جدية:

“مش عايزة تسأليني عن حاجة؟”

سكتت للحظة، نظرت إلى عينيه ثم أومأت نفيًا وهي تقول بهدوء يليق بشخصها:

“لأ… واضح إن الموضوع شخصي وسري.. ويخص لينا، وطالما هي ماقالتليش أنا والبنات، يبقى ماينفعش أنت تقولي.”

ظلّ يطالعها، وابتسامة صغيرة بدأت تتسع على شفتيه ببطء، كأنما يستوعب للمرة الألف كم هي ثمينة، ثم قال بصدق خالٍ من المجاملة:

“يا بختي إنكِ طلعتي من بختي… مش أي حد هيبقى عنده زوجة متفهمة زيك كده.”

ضحكت بخجلها المعتاد، وردّت بعيون تبرق بحنان:

“ومش أي واحدة هيكون عندها زوج حنين وعسول زيك كده.”

ابتسم أكثر، ثم مالت هي نحوه ووضعت جبينها على صدره، كأنها تلتحف بهدوءه، بينما أحاطها هو بذراعيه، كأنما العالم كله يمكن أن يُختصر في هذا العناق الصامت.

_________________

في جهة أخرى…

دخلت إلى غرفتها بخطى بطيئة، كأن جسدها أثقل من أن يحتمل، ولحسن حظها… كان البيت خاليًا.

لا والدتها التي كانت ستلاحظ  تبدّل ملامحها، ولا أختها التي كانت لتُمطرها بالأسئلة والنظرات، ولا حتى والدها المنهمك في عمله… الجميع خارج النطاق، وتركت وحدها، مع ما تحمله في قلبها من خيبة وندم وانكسار.

ألقت حقيبتها وهاتفها فوق السرير بإهمال، ثم نزعت حجابها ببطء، وما إن حررت شعرها حتى سقط جسدها على الفراش بلا حول، فردت ذراعيها على جانبيها، وراحت تحدق في السقف كأنها تبحث فيه عن تفسير لكل ما حدث… لكن لا شيء يُجاب.

كل التفاصيل كانت تتزاحم في رأسها… نظرات الجميع لها، صوت صديقتها وهي تتهمها أمام العميد، انكسارها أمام نفسها قبل أي أحد.

ثم بدأت الدموع…

لم تبكِ بصوت، ولم تهتز كتفاها، بل تساقطت دموعها بصمتٍ ثقيل، كأن عينيها قد تعبتا من المقاومة.

وبعد وقت لا تدري كم مرّ، نهضت ببطء، اتكأت على مرفقها، تحركت لتأخذ منديلًا من على المنضدة…

لكن عيناها وقعتا فجأة على ذلك الشيء الصغير الذي نسيته تمامًا…

منديله.

كان مطويًا في الجيب الأمامي لحقيبتها، تمامًا كما أخذته منه في تلك اللحظة، مدّت يدها، التقطته بهدوء، وراحت تمرر أصابعها عليه كأنه يحمل شيئًا من دفئه، وراحت تتذكر صوته حينها…

صوته الذي تسلل إلى قلبها بهدوء وهو يقول لها:

“طالما ماعملتيش حاجة… ماتعيطيش.”

شهقت شهقة قصيرة، وأخذت تطالع المنديل بين يديها بصمتٍ ثقيل، كأن كل ما فيه من نسيج يحمل بين  عزاءها الوحيد.

راحت عيناها تتنقّل عليه في شرود، تارة تتأمل زواياه المطوية بعناية، وتارة تضغطه في راحتها كأنها تتشبّث بما بقي لها من دفء هذا اليوم الصاخب.

دام الصمت طويلًا…

صمتٌ ليس ساكنًا، بل يضجّ بصوت قلبها، وبكل الأفكار التي تتصارع في رأسها…

لكن هذا الصمت انكسر فجأة، كزجاج يتناثر في فراغ الغرفة، على صوت الباب يُفتح بعنف:

“إيه اللي أنا سمعته ده يا لينا؟!”

انتفضت بجسدها، وبحركة عفوية سريعة دسّت المنديل تحت الوسادة، كأنها تخفي سرًّا دفينًا لا يخصّ أحدًا سواها.

ثم التفتت نحو الباب، عيناها متسعتان بالدهشة، وقلبها بدأ يخفق بوتيرة أسرع.

كانت الواقفة عند الباب… شقيقتها، تقف بذراعين مكتفتين، وعينين تضجان بالغضب والاستفهام.

بلعت لينا ريقها بصعوبة، لم تكن مستعدة لهذه المواجهة… لم تكن مستعدة أن تُسأل، ولا أن تشرح، ولا أن تُحاكم من جديد.

لكن السؤال أُطلق كالسهم، ولم يعد بالإمكان التراجع… لكن كما قال لها موسى، أجابت، بثبات مزيف:

“موسى هيعرفكم كل حاجة.”

_________________

جلس  في البهو، بينهم، عيناه تتنقّلان على الوجوه الثلاثة التي اصطدمت كلماتُه بها كما يصطدم السهم في صدر الهدف دون إنذار.

لم تكن لحظة عادية، ولم يكن حديثًا سهلاً، لذا أكمل بصوتٍ خافت ولكن ثابت:

“أنا عارف إنكم اتصدمتوا… بس عايزكم تعرفوا إنها خلاص اتعافت، وبقت أحسن.، صدّقوني.”

ساد الصمت، ولم يكن صمت ارتياح، بل صمت ارتجاج داخلي، تحطّمت فيه ثقة وآمال وصور محفوظة في القلب عن ابنةٍ ظنوا أنهم يعرفونها، فاكتشفوا أنهم ما كانوا يعرفون شيئًا.

قطع فاروق الصمت بصوته المكسور، كان يحاول أن يبدو هادئًا، لكنه لم ينجح في إخفاء المرارة التي تشرّبتها نبرته:

“اللي مش قادر أفهمه… ازاي متقولولناش؟ ازاي حاجة زي دي تتخبى عننا؟”

أجاب موسى بصوت مائل للاعتذار، وكأنه يختار كلماته كي لا يزيد من وجعهم:

“هي كانت رافضة تقول، علشان ما تزعلوش… كانت حابة أول ما تتعافى وتبقى كويسة، تحكيلكم بنفسها كل حاجة.”

مسحت سهير وجهها بيد مرتعشة، كأنها تمحو به غفلة الشهور، ثم تمتمت بصوت منهار:

“إحنا إزاي ما خدناش بالنا؟ إزاي ما لاحظناش اللي بتمر بيه؟”

نظرت إلى فاروق، وفي عينيها دموع الندم المتأخر، ثم قالت بشيء من جلد الذات:

“إحنا كده أبو وأم وحشين يا فاروق… علشان ما حسّيناش ببنتنا.”

مدّ فاروق يده نحو يدها وربّت عليها بحنان، لكن قبل أن ينطق، تقدّم موسى قليلًا للأمام، وألقى بكلماته بثقلها:

“يا عمتي… الموضوع مالوش علاقة بأب وأم وحشين ولا كويسين.”

قاطعته سهير بنبرة مختنقة:

“لا ليه علاقة، ليه… إحنا أبوها وأمها، وعايشين معاها في نفس البيت، ومع ذلك ما فهمناش، ما حسّيناش إنها موجوعة، إنها متغيّرة… ولا حتى سألناها مرة: مالك؟”

أغمض موسى عينيه للحظة، ثم زفر بعمق، وقال موجّهًا الحديث لفاروق:

“افهمني حضرتك يا عمي… اللي حصل خلاص حصل، واللي راح مانقدرش نرجعه، بس اللي جاي… اللي جاي هو الأهم

لو حسيتوا إنكم قصّرتوا، تقدروا تعوّضوها… وأهم تعرفوا إن اللي ودّاها للي كانت فيه هو الكتمان، كتمان المشاعر اللي خنقها… فماتخلوهاش تكتم تاني.”

أسند ظهره قليلاً، ثم أكمل بصوت مفعم بالصدق:

“قربوا منها، اسألوها دايمًا… ماتستنوش تحكيلكم، لأنها مش هتحكي  غير لما تحس إن اللي قدامها مهتم بجد.”

صمت قليلًا، ثم أدار عينيه بينهم واحدًا واحدًا، وركز على تينا التي كانت تبدو هادئة ظاهريًا، لكن يدها المرتجفة كشفت ما بداخلها.

رفعت نظرها وسألت بصوتٍ يشي بالخوف رغم هدوئه الظاهري:

“يعني… هي بقت كويسة دلوقتي؟”

أومأ موسى بثقة وابتسامة مطمئنة:

“آه والله… بقت كويسةط إحنا بطلنا الجلسات من أكتر من شهرين، والدكتورة بنفسها قالت إنها اتعافت وبقت تمام

،

حتى كلمتها قبل ما أجي، قلتلها على اللي حصل في الجامعة وسألتها إذا ممكن ده يأثر عليها تاني… لكنها طمّنتني وقالتلي: طالما عبرت وما كتمتش، وطالما عيّطت وواجهت، يبقى احنا ماشيين في السليم.”

نظر إليهم ثم تابع بنبرة رجاء:

“فاطمّنوا، وخلّيكم معاها، سند حقيقي… من غير ما تفتّحوا جراحها، عاملوها عادي، على قد ما تقدروا… عارف إنه صعب، بس مش مستحيل.”

لم ينتظر منهم جوابًا، لأنه يعرف أن الصدمة بحاجة لوقت كي تُهضم… لكنه كان واثقًا أن البذرة زُرعت، وهذا هو الأهم.

مرّر موسى نظراته عليهم من جديد، واحدة تلو الأخرى، بعينٍ تمسح وجوهًا أنهكها القلق والندم، وفي صمتٍ ثقيلٍ خيّم على المكان كستارة خفية، جلسوا جميعًا في مواجهة كلمات لم تهدأ بعد داخل رؤوسهم.

لم يقطع الصمت سوى صوت الباب الذي انفتح، صوت بسيط، لكنه ارتطم في صدورهم كما لو أنه أذن لقلوبهم أن تعود للنبض من جديد.

تناهت خطواتها الخفيفة على السلم، وكل خطوة منها كانت كأنها تقترب من قلوبهم، لا منهم.

ظهرت أخيرًا…

وقفت عند طرف البهو، عيناها تتحركان بتردد نحوهم، ثم استقرّت نظرتها على والدها…

ذلك الذي فتح ذراعيه لها، فا في لحظة خاطفة، رمت بنفسها في أحضانه، كما لو أن كل شيء انكسر فيها من قبل قد وجد ملاذه الآن.

فتح ذراعيه لها، باحتضانٍ لم يكن يحتاج شرحًا، فقط صمت ودموع وعناق طويل.

لم تنتظر سهير، انحنت إليهما واحتضنتها من الجانب الآخر، وشفتيها تمتمان بشيء لا يسمعه أحد، لكنه كان يحمل اعتذار عمرٍ كامل.

أما تينا، فنهضت دون كلمة، وانضمت إليهم، كأنها تحاول أن تلمّ كل الأجزاء المنكسرة، في حضنٍ جمعهم جميعًا، للمرة الأولى منذ زمن.

وموسى…

كان يجلس في الطرف الآخر، يراقب المشهد بعين ممتنة، ثم أخفض نظره وتنفس بعمق، لم يكن بحاجة لأن يقول شيئًا… فالعناق وحده كان كافيًا ليخبره أن الحواجز التي بُنيت قد تحطمت وأخيراً… وللأبد.

_________________

يوم الجمعة…

كانت تجلس في بهو منزلها، في صمتٍ يثقله الوجع، برفقة صديقتها الأقرب من أخواتها، رفيقة الطفولة والدراسة، المرأة الوحيدة التي من فرط محبتها لها… قدّمت لها شقيقها زوجًا.

كانت سهير  متكئة، تبدو منهكة الروح لا الجسد، بينما عبير تجلس قُبالتها تمسك كفّها برفق، تضغط عليه بحنان وهي تهمس بنبرة فيها دفء العمر:

“هوني على نفسك ياسهير، واحمدي ربك إنها عدّت وبقت بخير… قولي يا رب، وادعي ربنا يحفظهالك هي وأختها.”

رفعت سهير كفها الثانية تغطي بها وجهها، ثم قالت بصوت متهدّج:

“يا رب ياعبير… يا رب، بس اللي قاتلني… إني ماحستش ببنتي، كانت بتصرخ جواها وأنا مش سامعة، كانت بتغرق وأنا مش شايفة، ده اللي مخليني مش قادرة أسامح نفسي.”

هزّت عبير رأسها بأسى وهمست:

“مش هتستفيدي غير وجع القلب لو فضّلتي تلومي نفسك… اسأليني أنا؟ لما موسى واجهنا وعاتبنا، وقالنا إحنا فين وهو كان فين… فتح عنينا على حاجات ماكناش شايفينها، حسّيت إني خذلته، حسّيت إني مش أم حقيقية، وإنّي استعجلت على الجواز والخلفة… كرهت نفسي، وندمت على كل لحظة فاتت… بس خدي بالك، بعد كل ده، خدت إيه؟ الوجع ماخفّش، ولا الزمن رجع، بس اللي اتعلّمته إن اللي جاي أهم من اللي فات.”

مدت يدها، وربتت على كتف سهير الذي اهتزّ ببكائها الصامت، ونظرت لها بعين دامعة وقالت:

“ركزي في اللي جاي، عوّضيها، خليكِ حضنها وسندها، قوليها من غير ما تستناها تحكيلك إنك شايفة، حاسّة، وجنبها دايمًا… وربنا يفرح قلوبهم، ويجبر كسرتهم، ومايوجعنا فيهم يوم تاني يا حبيبتي.”

سكتت عبير، واكتفت بأن تبقى كفها فوق يد صديقتها في صمت دافئ…

كانت نظرة سهير زائغة قليلاً، كأنها تنظر إلى مكانٍ ما بين الجدران، أو إلى ما وراء اللحظة نفسها، بدا صدرها كأنه يحمل جبلاً لا يُزاح، وعيناها ممتلئتان بما هو أكثر من الدموع، وكأن فيهما قلق، وخوف الأم الذي لا يخبو أبدًا.

ثم

همست بدعاء صادق، بصوتٍ مرتجف:

“يارب… يارب اجبر بخاطرهم وعوضهم خير.”

خرج الدعاء كما يخرج النفس من صدرٍ متعب… لكنه صادق.

_________________

في جهةٍ أخرى…

كانت الغرفة تغمرها أشعة الصباح، تتسلل عبر الستارة لتضرب في قلب السكينة التي تسكن المكان.

وقفت فيروز أمام طاولة الكي الصغيرة، تمسك بعباءته البيضاء برفقٍ واهتمام، تمرر عليها المكواة ببطء، وكأنها تمرر دفئها إليه من خلالها.

وهو خلفها يتحرك بخفة، يبحث عن أشيائه هنا وهناك، يختار قبعة، يضع ساعة يده على طرف السرير، لكنه رغم انشغاله يستمع لها بكل جوارحه.

قالت بصوتٍ منخفض يحمل بهجة خفية:

“شعور إنك بتكوي جلابية جوزك لأول مرة طلع حلو أوي يا موسى.”

رفعت نظرها نحوه في نهاية جملتها، فوجدته ينظر إليها ويغمز مازحًا:

“مش أحلى منّك يا عيون موسى.”

ضحكت بخجلٍ ناعم، وغمرتها السعادة، ثم قالت وهي تتهرب بعينيها من نظراته:

“طب يلا… ادخل خد دوش علشان ماتتأخرش.”

“حاضر.”

رد عليها بابتسامة، وتوجه إلى الحمام المُلحق بالغرفة، دخل ثم أغلق الباب وراءه برفق، وضع ملابسه والمنشفة في مكانهما، ثم فتح الدولاب الصغير فوق الحوض… فانقسم أمامه إلى قسمين.

الجهة اليمنى بها ٣ عبوات فقط تخصه، بسيطتان كما اعتاد دائمًا.

أما اليسرى… فقد كانت قصة أخرى.

صفوف من العبوات الزاهية، أشكال وأحجام وروائح متباينة، أسماء غريبة، بعضها بلغة أجنبية.

ضاقت عيناه وهو يلتقط إحداها، يقرأ الاسم، يتفحص الاستخدام، ثم يلتقط أخرى:

“ده غسول وش… ولا ده… طب ده ايه؟؟”

تمتم، وقد عقد حاجبيه تمامًا كمن ضل طريقه وسط متجر كبير.

ثم أخيرًا، خرج من الحمام وهو يحمل إحدى العبوات وينادي بتعجب يعلوه الضيق اللطيف:

“فيروز!”

“نعم!”

قال وهو يرفع العبوة في يده ملوحًا بها بسخرية محببة:

“هو إنتِ ليه فاتحة صيدلية جوّه؟!”

ضحكت من مكانها، ضحكة تحمل مزيجًا من الإحراج والمرح، كأنها لم تتوقع أن يُمسك متلبسة بتلك “الفوضى المنظمة” التي تملأ خزانتها الصغيرة.

ردّت وهي ترفع صوتها قليلاً ليصل إليه:

“بلاش تبص على الأسرار النسائية دي يا موسى، إحنا مش زيكم يا حبيبي.”

قال بنبرةٍ متصنّعة للاتهام، تخفي ضحكة مشاكسة:

“يعني إيه؟ قصدِك إننا معفنين ولا إيه؟!”

لم تتمالك نفسها، ضحكت بقوة من طريقته، ثم وضعت المكواة جانبًا وتقدّمت نحوه، وعلى شفتيها لا تزال تضحك.

وقالت وهي تمسك بياقة ثوبه كمن تحاول أن تشرح لطفل صغير بحنان:

“لا والله… بس إحنا البنات بنحب نهتم بنفسنا شوية أكتر منكم، عندنا لكل حاجة مية حاجة… للبشرة، للشعر، للرموش، للهوى اللي بنتنفسه حتى!”

ضحك هو بدوره، ورفع حاجبه باستغراب مفتعل:

“يعني أنتِ بتستعملي كل اللي في الدولاب ده؟!”

ضحكت وهي ترفع كتفيها وتهمس بدلال:

“آه، اعتبرهم أدوات صيانة دورية… علشان نفضل حلوين في عيونكم.”

نظر إليها نظرة طويلة، فيها من الحنان أكثر مما في الكلمات، نظرة حب لا يُقاس…

اقترب بخفة وهمس بصوته الخفيض الدافئ، وكأنه يخشى أن تفرّ لحظة السكينة بينهما:

“بالنسبة ليا، إنتِ مش محتاجة أي حاجة من دول… إنتِ كده كده حلوة في عيني طول الوقت.”

ابتسمت لمرآه، لغزله، لذلك الصدق الذي تسلل إلى قلبها دون استئذان، ثم تناولت منه العبوات برقة، وهي ترد بمرح تحاول به كسر تأثرها:

“تعرف لو فاضيين كنت سيبتك تغازلني للصبح… بس في صلاة، وبعدها عزومة… يلا ادخل خد دوش بسرعة، أنا كويتلك الجلابية.”

ضحك وهو يقول متصنّعًا التذمر:

“ماشي… هاتي بس خليني أرجّعهم مكانهم.”

هزّت رأسها وهي تخفي العبوات وراء ظهرها بخفة، ثم ردّت بحزم مداعب:

“لأ، أنا اللي هاحطهم، دول كنز يا بابا!”

رفع حاجبيه بدهشةٍ تمثيلية، وتابعها وهي تدخل المرحاض وتعيد كل شيء بعناية إلى مكانه، كمن يعيد ترتيب أسرار صغيرة تخصّ عالمًا لا يُسمح له بالدخول إليه.

خرجت بعد لحظات، وأشارت له بإيماءة لطيفة وهي تقول:

“يلا، ادخل.”

تقدّم وهو يومئ برأسه، لكن قبل أن يغلق الباب خلفه تمتم مبتسمًا:

“بس الصيدلية دي… ناقصها رَفّ لقلبي، بما إنه كنز علشان بيعشقك.”

أغلقت الباب في وجهه وهي تضحك بخجل، وفي عينيها بريق من الامتنان، وكأن هذا الحب البسيط، الدافئ، العفوي… هو أجمل ما اختزنته الأيام لها.

_________________

مع مرور الوقت، خرج  من منزله، يرتدي عباءته البيضاء المكوية بعناية، يخطو بثبات نحو المسجد، حتى لمح في طريقه سامي يقف إلى جوار صغيره يزيد، وعيناه تتعلّقان بموسى ما إن لمحاه.

وقبل أن يقترب تمامًا، انطلقت صيحة طفولية عذبة من فم يزيد، ملأت الجوّ ببراءتها:

“موسى!”

ضحك موسى تلقائيًا، وتسارعت خطواته نحوه، ثم في رشاقة اختطفه بين ذراعيه وقذفه عاليًا في الهواء، قبل أن يتلقفه في حضنه وسط ضحكات الطفل المجلجلة.

أخذ يدور به وهو يقول بحماس طفولي مماثل:

“حبيبي قلب موسى! إنتَ عسل كده إزاي؟ ها؟ قول؟! إيه الطعامة دي كلها يا واد؟! وإيه الجلابية البيضا الحلوة دي؟! إنتَ خطير يا يزيد!”

ضحك سامي من المشهد وهو يراقب تفاعل يزيد مع موسى، بينما أشار يزيد بأصبعه الصغيرة نحو ساني وقال بفخر طفولي وهو ينطق الكلمات بتلعثم عذب:

“بابا سامي… اشـ…تراها أنا.”

توقف موسى عن الدوران، وخفض الطفل بين ذراعيه برفق، ثم قبّله على جبينه وقال:

“وسامي طبعًا عنده ذوق، جابلك أجمد جلابية في الحتة كلها… علشان تبقى أجمد واحد فينا.”

ضحك سامي بخفة، ناظرًا إلى المشهد الذي يجمع بين طفله وصديقه بحميمية خالصة، ثم أشار لهما بيده قائلاً بصوته الهادئ المألوف:

“يلا… علشان الشباب مستنّينا.”

أومأ موسى برأسه مبتسمًا، وأعاد يزيد إلى ذراعيه، يحمل الطفل كأنه قطعة من قلبه، وسار إلى جوار صديقه في طريقهما إلى المسجد.

وطوال الطريق، لم يتوقف موسى عن مداعبة يزيد، يلاعبه بضحكات خفيفة وهمسات، فيما سامي يكتفي بالمراقبة، سعيدًا بذلك الصباح الذي جمعهم على نية طيبة.

وما إن اقتربوا من المسجد، حتى ظهرت وجوه أصدقائهم، ينتظرونهم عند الباب، يتبادلون التحيات والمصافحات، قبل أن يدخلوا جميعًا سويًا إلى المسجد، في صفّ واحد كأنما تربطهم أخوّة لا تُرى، أوسع من الدم وأعمق من الزمن.

كانت لحظة مهيبة، لحظة الخطبة الأولى لصديقهم “حسن”، الذي وقف على المنبر بروحه الساكنة ونظرته الهادئة، لا يصطنع بلاغة، ولا يرفع صوته عن الحاجة.

وما إن صدح صوت المؤذن بالأذان، بصوته العذب، حتى خيّم السكون على الأرجاء، وكأن الكون نفسه قد مال برأسه ليستمع.

ثم بدأت الخطبة… بصوت رخيم أقرب للهمس، كأن “حسن” لا يخاطب جمعًا غفيرًا، بل يُحادث أصدقاءه، أولئك الذين يعرف قلوبهم، ويخاطب ما يثقلها.

كانت الكلمات تتسلل إلى النفوس، هادئة كنسيم الصباح، عميقة كنبض في القلب، والخطبة بعنوان:

“سوء الظن.”

وفي مكان آخر، غير بعيد عن المسجد، كانت هناك من تستمع له أيضًا.

جلست في شرفة غرفتها، شمس الظهيرة تلامس وجنتيها، تمسك بمنديله بين أصابعها، بينما صوته يصلها واضحًا عبر مكبّرات المسجد، لكنه في أذنها بدا قريبًا كأنه واقف أمامها، يخاطبها وحدها… وكأن كلماته عن الظنّ، والتأويل، وتفويض الأمر لله… كانت تخترق سكونها، تهز وجدانها، وتربت على قلبها.

.

.

.

.

ومع مرور الوقت…

انتهت خطبة الجمعة، وأقيمت الصلاة بإمامة حسن، وحين سلّم وأنهى صلاته، أغمض عينيه ودعا بكل ما اختلج في صدره من رجاءٍ وخشية، وكأن روحه وحدها هي من تبتهل، لا لسانه.

سادت لحظة سكون، سكون شفيف، فيه شيء من الطمأنينة، كأن الجميع يُتمّ صلاته في قلبه قبل أن ينهض بجسده.

ثم بدأت الحركة تعود ببطء، المصلّون ينهضون تباعًا، وعلى وجوههم أثر تلك اللحظة التي عاشوها خلف إمامهم الشاب، لحظة تركت فيهم سكينةً لم تأتِ من الكلمات وحدها، بل من صدقها.

وما إن خفّ الزحام قليلًا، حتى اندفع الأصدقاء نحو حسن، يتسابقون إليه بقلوبٍ فاضت فخرًا، وعيونٍ لمعت بفرحٍ لا يشبه سوى الفرح بنجاح الحلم حين يتحقق.

محسن يعانقه بحرارة، و سامي يربت على كتفه، وموسى يمازحه بفخر حقيقي:

“كأنك بتخطب من سنين، مش أول مرة!”

وفي زوايا الجامع، كان رجال طاعنون في السن يهمسون بالدعاء له:

“ربنا يبارك فيه… صوت هادي وعاقل، ربنا يثبّته.”

أما هو، فظل واقفًا بينهم بابتسامة خجولة ترتسم على وجهه، وعينان تطوف فيهما مشاعر كثيرة… امتنان صادق، ودهشة طفل نجح بعد توجّس طويل، وفرحة تشبه من عبر امتحانًا ثقيلًا، لكنه لم يكن وحده… كان هناك من أعانه، من سنده، من دعا له.

ونجح…

رغم الخوف… نجح، بفضل الله.

_________________

كانوا الستة آخر من خرجوا من المسجد، مضوا بخطوات هادئة، ومعهم يزيد الذي استقر بين ذراعي سامي، رأسه مستند إلى كتفه في بداية سقوطه في النوم.

نظر سامي نحو كارم وسأله بصوته الخافت:

“هتروح دلوقتي؟”

أجابه كارم بابتسامة هادئة:

“لا هروح الأول مع الحج نعزي في واحد صاحبه، وبعدين هرجع أغيّر هدومي وبعدين أمشي… ادعولي ربنا يعديها على خير.”

مدّ موسى يده وربت على ذراعه برفق قائلاً بصوت مؤازِر:

“إن شاء الله خير… اتفاءل.”

ابتسم كارم لت بامتنان، في اللحظة التي أشار له سامي برأسه مرددًا بحنو:

“يلا روح علشان ما تتأخرش.”

أومأ كارم بخفة، ثم ألقى عليهم التحية، ومضى في طريقه، وتابعوه هم بنظراتهم الصامتة، وقبل أن يسيطر الصمت، جاء صوت حسين يدفعهم إلى الحركة:

“يلا، كل واحد على بيته… تصبحوا على خير.”

التفتوا نحوه، لكن لم ينطق أحدهم، إذ كان قد استدار بالفعل، يسير بخطى سريعة باتجاه البيت القريب من الجامع، في نفس الاتجاه الذي سلكه كارم.

ثوانٍ من السكون، ثم انفجر الأربعة الآخرون بضحكة خفيفة، فيها بعض الود وبعض السخرية المحببة.

كان سامي أول من استعاد جديته، فرفع صوته وهو ينظر إليهم نظرة ودّ:

“يلا يا شباب… خلونا نسمع الكلام، وكل واحد يروح على بيته ونتقابل باللين إن شاء الله.”

أومأ له محسن، وكذلك حسن الذي قال وهو يخطو للرحيل:

“السلام عليكم.”

رد عليه كل من موسى وسامي بتحية مماثلة، ثم التفت الاثنان معًا، ومضيا في اتجاه منزل سامي، حيث كانت والدته قد أعدت عزومة صغيرة لزوج ابنتها العزيز.

وعندما اقتربا من مدخل البيت، سبقهما صوتٌ مألوف، نداء جاء واضحًا رغم ضجيج الشارع:

“موسى!”

توقف الاثنان والتفتا معًا، ليجدا مصطفى، واقفًا أمام مدخل العمارة المجاورة، يلوّح برأسه إشارةً لموسى أن يقترب.

نقل موسى نظره بسرعة إلى سامي، ثم قال بلطف واعتذار:

“اسبقني إنت يا سامي، معلش.”

أومأ سامي بتفهم دون أن ينبس بكلمة، ثم صعد خطوات البيت برفقة يزيد، تاركًا صديقه يقترب موسى من عمه، حتى وقف أمامه بهدوء، ورفع بصره نحوه قائلًا ثابتة:

“أؤمرني، يا عمي؟”

سكت مصطفى لبرهة، يشيح بعينيه عن نظرات موسى المباشرة، ثم قال بثبات يعلوه بعض التردد:

“عايزك في طلب.”

أجابه موسى دون تردد:

“اتفضل.”

ابتلع مصطفى ريقه، ثم قال بعد أن تنحنح خفيفًا، كأنه يبحث عن طريقة ألطف للكلام:

“عارف… أدهم، ابن…”

ابتسم موسى، قاطعًا عليه محاولته في مداراة الاسم:

“ابن خالتي شمس.”

ارتبك مصطفى قليلًا، ثم أومأ برأسه وهو يتمالك صوته:

“آه… كنت عايزك تشغله معاك، تدربه زي ما درّبت الشباب اللي عندك، وبعد كده تشغّله… ولو على المرتب، أنا ممكن أديهولك إنت وتديهوله، بس من غير ما يعرف.”

رد موسى ببساطة وصدق:

“لا، سيبك من المرتب والكلام ده، لو على الشغل، من الصبح يشتغل وماله؟ أدربه وأعلّمه أحسن تدريب، بس عايز أفهم… ليه؟ ليه حضرتك مهتم بيه كده؟”

سكت مصطفى للحظة، وكأن السؤال أصابه في مقتلٍ مألوف، ثم قال بنبرة حاول أن تبقيها عادية:

“علشان… علشان حبيبته، أدهم ولد طيب، ويستاهل كل خير، وكنت حابب أساعده.”

رفع موسى حاجبيه ببطء، وفي عينيه لمعة لم تُخفِها نبرته الماكرة وهو يقول:

“بس؟”

أجاب مصطفى وقد بدأ يضيق ذرعًا بنبرة التحقيق هذه:

“آه بس، هو هيكون إيه غير كده يعني؟”

ابتسم موسى بخبث أكثر وضوحًا وهمس وكأنه يلقي قنبلة صغيرة:

“جايز السبب… تاء مربوطة.”

تغيرت ملامح مصطفى فجأة، وضرب كتف موسى بيده وهمس بحزم ونفاد صبر:

“اتلم! مفيش حاجة من اللي في بالك، فاهم؟ اللي كان بيني وبينها خلص من زمان، هي دلوقتي ست متجوزة ومخلفة…”

قاطعه موسى بنبرة هادئة حملت وقعًا ثقيلًا:

“أرملة… جوز خالتي شمس متوفي من زمان، وحضرتك عارف.”

تشنجت ملامح مصطفى

و

سكت، للحظة لم يكن هناك شيء سوى أنفاسه الثقيلة ونظراته التائهة التي هربت من وجه موسى إلى الأرض.

زفر موسى بصوت مسموع، ثم قال بجدية تحمل شفقة وحزمًا:

“عمي… لو لسه بتحبها، خد خطوة… خدها، علشان خاطرك، وعلشان خاطرها كمان.”

رفع مصطفى عينيه نحوه، وفي نظرته امتزج شيء من الدهشة مع الألم، صمت لثوانٍ طويلة ثم حرّك رأسه نافيًا، وقال بنبرة حاول أن تبدو حاسمة لكنها خرجت مبللة بالعجز:

“أنت بتقول إيه؟! احنا بقالنا ٢٤ سنة مطلقين… اللي بينّا انتهى، وانتهى للأبد.”

سكت، وكأن الحديث استنزف شيئًا داخله، ثم تنحنح وغيّر نبرته فجأة:

“المهم… هتعمل اللي طلبته منك؟”

طالعه موسى طويلًا، وكأنه يقرأ ما بين السطور، أو يرى ما يُحاول مصطفى إخفاءه خلف الكلمات، ثم قال بهدوء:

“هعمل… هتغدى بس مع الجماعة، وبعدها أروحله وأتكلم معاه.”

رد مصطفى بسرعة، بنبرة تحمل رجاءً مُبطّنًا بالقلق:

“بس… اوعى تجيب سيرتي.”

ابتسم موسى ابتسامة صغيرة، كأنها تحمل أكثر من وعد، ثم قال:

“حاضر يا عمي.”

وأومأ مصطفى بامتنان، بينما طالعه موسى بصمتٍ، يتأمل ملامحه التي تحمل أكثر مما تُفصح، ويتساءل في أعماقه:

“لِمَ ينكر الإنسان حبًّا ما زال يسكنه؟

أي خوفٍ ذاك الذي يمنع القلب أن يعترف بما لم يمت فيه؟

ولِمَ نُصرّ أحيانًا أن نُغلق الأبواب حتى بعد أن نسمع من خلفها من ينادينا؟”

تنهد موسى بخفة، ومال بجسده قليلًا، وكأنّه يتخلّص من هذا السؤال الثقيل، قبل أن يبتسم ابتسامة جانبية ويقول بنبرة خفيفة:

“يلا، سلام يا عمّي… اللحمة هتبرد!”

ضحك مصطفى رغمًا عنه، ثم قال:

“طب يلا اطلع، الحقها قبب ماتبرد.”

ابتسم له موسى بخفّة، ابتسامة قصيرة لكنها دافئة، ثم استدار بصمت وبدأ يصعد الدرج نحو الطابق الثاني.

أما مصطفى، فظلّ واقفًا مكانه، يتابع ظهره وهو يبتعد، حتى زفر زفرة طويلة، بدت كأنها تحمل ثقل عمرٍ بأكمله، ثم استدار هو الآخر بوجه واجم، كأنما قد اصطدمت روحه بجدار من الذكريات القديمة… ذكريات ما زالت تتنفس رغم محاولات دفنها.

ومضى، لكن داخله لم يمضِ بعد…

_________________

مع مرور الوقت…

كان الجو هادئًا داخل بيت شمس، الإضاءة خافتة تفيض دفئًا، وصوت موسى ينساب بنبرة مطمئنة، محمّلة بالنية الطيبة والرغبة الصادقة في الدعم.

كان يجلس على الأريكة المقابلة لأدهم ووالدته، وابتسامته لا تفارق وجهه وهو يقول:

“والله العظيم مش هيتعب خالص… هيقعد على المكتب، قدامه الكمبيوتر، وكوباية الميّة توصله لحد عنده، أنا عارف إنكِ خايفة عليه، وحقك، بس لازم تعرفي إن أدهم زي أخويا، وقلبي عليه زي قلبك.”

نظرت له شمس نظرة ممتنة، لكن لم تخلُ من القلق وهي تقول:

“بس يا موسى… هو ماعندوش خلفية عن شغلكم، يعني هيتعلم إزاي؟”

هزّ موسى رأسه بتأكيد وهو يرد بهدوء:

“أنا اللي هعلمه، هعلمه كل حاجة من الألف للياء، بس المهم… يكون هو نفسه عايز.”

التفت إلى أدهم، وسأله بنبرة مزج فيها المزاح بالجد:

“عندك شغف يا أدهم؟ ولا نشتريلك واحد من برّه؟”

ضحك أدهم بخفة، لكن عينيه لمعتا بشيء يشبه الأمل وهو يقول:

“عندي، والله عندي… أنا أصلاً كنت حاطط هدفين وقت الثانوية: هندسة أو حاسبات ومعلومات.”

ابتسم موسى، ومال بجسده قليلًا للأمام كأنّه يهمس له بمفتاح خفيّ:

“أهو ده الكلامط تبقى عارف بقى… لو اشتغلت معايا، وتعلمت، ممكن تدخل معهد سنتين، تجيب فيه تقدير كويس وتحوّل لحاسبات زي ما نفسك، أو تدخل معهد خاص وتتخرج منه بشهادة معتمدة… الطرق كتير، بس البداية بإيدك، والشغل ده… مش بس هيفتحلك باب تعليم، هيفتحلك باب رزق كمان، وتكوّن نفسك خطوة خطوة.”

صمت قليلًا، ثم أضاف وهو ينظر له بجدية أخف من حدّتها الحنان:

“بس أهم حاجة… إنك تصدق إنك تستحق، وإنك تقدر.”

في تلك اللحظة، لم يكن أدهم يسمع فقط، كان يشعر… كأن الباب الذي ظل موصدًا أمامه طويلًا قد انفتح أخيرًا، وصوت موسى كان أول نسمة هواء تدخله.

لكن رغم كل الحماس الذي تملّك أدهم، كانت نظرات والدته تتسلل إليه كظلٍ من قلقٍ لا يفارقها.

لم تكن تقول شيئًا، لكن عينيها قالتا ما لم تقدر الكلمات على الإفصاح عنه… الخوف، والحنين، والحرص المفرط على ابنها الوحيد.

شعر أدهم بذلك، فالتفت إليها بنبرة حاول أن يزرع فيها بعض الطمأنينة، وبعض الرجاء، وقال:

“هو قالك إنّي مش هعمل أي مجهود… وأنا والله هاخد بالي من نفسي كويس أوي، بس لو حضرتك مش عايزة، خلاص… مش مهم.”

ساد الصمت لوهلة قصيرة بدت كأنها لحظة فاصلة، ثم لانت ملامح شمس أخيرًا، ووضعت يدها على كتفه في حنوٍ لم يتغير منذ الطفولة، وهمست بنبرة دافئة فيها ارتجافة خوف وذرة تسليم:

“رغم إني مرعوبة عليك، بس أنا واثقة في موسى… وواثقة إنه مش هياخد باله منك… وواثقة كمان إنك تقدر تحقق اللي بتتمناه.”

رفع أدهم عينيه إليها، كأنّه لا يصدق ما سمع، وقال بعينين واسعتين:

“يعني حضرتك… موافقة؟”

أومأت شمس برأسها بخفوت، وابتسامة دافئة تتسلل إلى وجهها، ابتسم أدهم بسعادة خجولة، ثم مال على يدها فقبّلها برفق، قبل أن يضمها إلى صدره في عناقٍ ملأه امتنان لم يجد له كلمات.

وموسى، يتأمل المشهد بعينين تضحكان دون صوت، لم يقل شيئًا، لكنه شعر بشيء عميق يتحرك بداخله… شيء يشبه الرضى، يشبه الطمأنينة التي يحسها الإنسان حين يعرف أنه كان جزءًا من لحظة صادقة، من بداية جديدة.

وفجأة، نهض من مكانه بحركة خفيفة وهو يربّت على ركبتيه كمن ينفض عن نفسه سكون اللحظة، ثم قال بنبرة مرحة مفعمة بالحيوية:

“يلا، أنا هستأذن بقا… ولو جاهز يا أستاذ أدهم، هعدّي عليك بكرة الساعة تمانية الصبح علشان نبدأ يا غالي.”

قالها وهو يوجه نظرة ذات مغزى إلى أدهم، تلك النظرة التي تحمل في طياتها تشجيعًا خفيًّا، وثقة لا تُشترى.

ابتسم أدهم بحماسة ووقف بسرعة، قائلاً:

“جاهز إن شاء الله… ومستنيك.”

بينما اكتفت شمس بابتسامة ممتنة، وعينين رطبتين بالحذر والدعاء.

توجّه موسى نحو الباب بخطى هادئة، تتبعه شمس وأدهم بصمت،  لكن فجأة، وقبل أن تمتد يده إلى المقبض، انقطعت خطواته على وقع طرقات عنيفة، داهمة، تقرع الباب بعنف أقرب إلى التهديد منه إلى الاستئذان…

#يتبع…

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق