رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السادس
الفصل السادس (خبر أسعد قلبه)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
ذلك الضوء المتسلّل عبر النوافذ… خيوط ذهبية اخترقت الزجاج بهدوء، لتفضح سكون الغرفة.
في الأسفل، صخب الشارع لا يهدأ؛ أصوات الباعة، صرير السيارات، وقع خطواتٍ مستعجلة، حتى الطابق السادس لم يسلم من ضجيج الحياة… كان ذلك هو صوت الصباح، مزيجه المألوف الذي لا يُخطئ إعلان بداية يوم جديد.
جلس داود على طاولة غرفة المعيشة، منكفئًا على جريدته، عيناه تتحركان ببرود بين السطور، كأنه يقرأ ليقتل الوقت لا ليغذّي عقله.
وفي الخلفية، كانت عبير تتحرك بخفة داخل المطبخ؛ رائحة الخبز الساخن تفوح في المكان، وصوت الأطباق وهي تُرتّب على الطاولة يملأ الصمت المعلق بينهما.
عادت تحمل كوب الشاي الذي اعتاد عليه زوجها كل صباح، ووقفت أمامه قائلة بنبرة حيادية:
“اتفضل.”
رفع داود بصره عن الجريدة قليلًا، ثم وضعها جانبًا، تناول الكوب بيده الخشنة وردّ بهدوء متكلف:
“تسلم إيدك يا ست الكل… ممكن بقى تروحي تصحي رجل الكرسي اللي نايم جوه ده؟”
تجمدت ملامح عبير للحظة، قبل أن تنطق مستنكرة:
“اخص عليك يا داود… ماتقولش كده على الواد.”
ابتسم داود بفتور، وقال ساخرًا دون أن ينظر إليها:
“هو أنا قلت حاجة غلط؟ مش دي الحقيقة؟ مش هو زيه زي رجل الكرسي في البيت… مالوش أي فايدة.”
جاء صوت موسى فجأة من خلفهما، عميقًا رغم هدوئه:
“مش صح يا حج.”
التفت كلاهما نحوه… كان هو يقف عند باب غرفته، شعره غير مرتب، وجهه هادئ لكن عينيه تحملان تحديًا صامتًا.
تقدّم بخطوات ثابتة وهو يقول:
“رجل الكرسي ليها فايدة… حضرتك ماتقدرش تقعد على كرسي بتلات رجول بس، هيقع بيك على طول، يعني… رجل الكرسي مهمة ولا لأ؟”
مدّ يده بخفة، أخذ قطعة خيار من الطبق على الطاولة، وبدأ يتناولها بعفوية باردة، بينما عيناه مثبتتان على والده بثقة صامتة.
شدّ داود قبضته أسفل الطاولة، ونبرته خرجت مغموسة بالحنق:
“تصدق معاك حق… رجل الكرسي فعلاً ليها فايدة عنك… أنا آسف إني حطيتها في مقارنة معاك… هي تكسب.”
لم يعلّق موسى، اكتفى بتجاهل جملة والده، وأدار وجهه نحو والدته متسائلًا ببرود:
“صح يا حجة… هو خالي ودلال هيرجعوا النهاردة؟”
جلست عبير على مقعدها أخيرًا، محاولة كسر حدّة الجو:
“أيوه… هيرجعوا النهاردة إن شاء الله… أسبوع العسل خلص خلاص.”
ابتسم موسى بخفة ساخرة وقال:
“مش فاهم شهر عسل إيه ده اللي في أسبوع؟! وإزاي أصلًا!”
رفع داود كوب الشاي، ثم أنزله بعنف على الطاولة وهو يردّ:
“بلاش التناكة دي يا واد… بكرة نشوف هتودي حبيبة القلب المستقبلية فين.”
أسند ذقنه إلى كفه، وأردف بسخرية لاذعة:
“وأدي دقني لو قدرت توديها حتى مطعم… مش شهر عسل يا حيلتها.”
أدار موسى وجهه نحوه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية هادئة، لكن صوته حمل ثقة ثابتة:
“كل بكرة هيشوف يا حج… أنا هعملها إيه، مش بس حضرتك اللي هتشوف لوحدك.”
قهقه داود بسخرية عالية، وقال بازدراء:
“وده هتعمله إزاي يا عين أمك؟ من القرشين اللي بتاخدهم من السايبر وبتدفع نصهم إيجار؟ ولا من الفلوس اللي بتشحتها مني كل فترة؟”
أعاد موسى الجملة ذاتها، بنفس الثبات، وكأنها وعد لا رجعة فيه:
“برده… كل بكرة يشوف يا حج.”
ساد صمت قصير مشحون بالعداء، قطعته عبير بقولها:
“روح اغسل إيدك ووشك وتعالى افطر!”
أجاب ببساطة، مع إماذة خفيفة:
“حاضر.”
لكن صوت داود أوقفه قبل أن يتحرك:
“استنى يا واد!”
توقف موسى في منتصف خطوته، وزفر ببطء، ثم التفت نحو والده بعينين فارغتين من أي انفعال:
“نعم؟”
قال داود بلهجة آمرة حاسمة:
“من بكرة… هتنزل المعرض مع بلال ابن عمك، وده كلام نهائي.”
انقبض صدر موسى مع أولى كلمات والده، كأنها صفعة خفية أيقظت داخله شيئًا من الرفض المكبوت، فقال بحدة لم يستطع كبحها:
“ومين قال إني موافق أنزل!”
رفع داود قطعة الخبز إلى فمه بهدوء متعمَّد، وكأن الأمر لا يستحق انفعالًا، ثم قال ببرود يثير الجنون:
“أنا مش مستني رأيك… موافق أو لأ… غصب عنك هتنزل تشتغل من بكره، وده آخر كلام.”
ارتسمت على وجه موسى ابتسامة ساخرة ممزوجة بالغضب:
“لأ في نقاش يا حاج… أنا مش نازل لأي مكان.”
لم يبدُ أن كلمات موسى أثرت في داود، فقد أجاب بنفس البرود القاتل:
“وأنا سبق وقلت إني مش مستني رأيك يا موسى.”
كانت تلك اللحظة كمن يشعل عود ثقاب في برميل بارود؛ فقد موسى أعصابه، وهدر بإنفعال:
“مش مستني رأيي إزاي؟!… مش أنا اللي هتنيل أشتغل!”
ترك داود قطعة الخبز جانبًا، واشتعلت ملامحه بنيران مكبوتة، وردّ بانفجار مماثل:
“ما هو لو حضرتك إنسان يعتمد عليه كنت خدت رأيك! بس للأسف… كل اللي بتعرف تعمله هو النوم واللف في الشوارع! وكم مرة حاولت أكلمك بالراحة؟ كذا مرة! عرضت عليك تشتغل معايا… أو مع أي حد من أعمامك… وكل مرة تتهرب وتزوغ زي العيال! دلوقتي ماعنديش طريقة غير إني أفرض عليك الشغل غصب عنك.”
انتفض موسى، وصوته حمل كل ما فيه من تمرد:
“مفيش حاجة اسمها غصب عني يا حاج! وسبق وقلت لحضرتك… مش عايز أشتغل لا معاك ولا مع حد من العيلة… ولسه عند رأيي!”
هنا، نفد صبر داود؛ نهض بعنف، وضرب الطاولة بيده بقوة كادت تُسقط ما عليها، وانفجر صوته كبركان ظل ساكنًا سنوات ثم قرر أن يثور دفعة واحدة:
“رأيك مالوش ستين لازمة… زيك بالظبط! وأنا ماعدتش أهتم برأيك ولا حتى عايز أسمعه! اللي أنا عايزه هو اللي هيحصل يا موسى… كفاية دلع بقى! استحملت فوق طاقتي! لحد النهاردة كنت سايبك براحتك… قلت مش عايز تدخل كلية بعد التجارة؟ قلتلك حاضر! كنت فاكر إنك هتنزل تشتغل معايا في الورشة… نزلت يومين وبعدين اختفيت! قلت مش عاجبك الشغل معايا، اشتغل مع حد من العيلة… حضرتك اتنكت وقلت لأ! سيبتك سنة واتنين وتلاتة… وفي الآخر؟ روحت فتحت سايبر مع صحابك… بيطلعلك منه قرشين مايفتحوش بيت في الزمن ده! كل اللي حواليك بيخططوا لمستقبلهم… وانت واقف محلك سر! ولاد عمك شايلين نفسهم وفتحين بيوت… حتى صحابك اللي بتقعد معاهم كل واحد فيهم عنده شغل ثابت، بيصرف على نفسه وعلى أهله… وانت؟ انت الوحيد اللي عايش عالة! أخرك تاخد فلوس مني ومن جدك وتصرفها على حاجات تافهة زيك! ولا عامل حساب للمستقبل، ولا لليوم اللي تبقى فيه مسؤول عن بيت وست! وده أصلًا لو عرفت تفتح بيت من أساسه! ولا ناوي تتجوز جنبنا ومصرف عليك وعليها؟!”
كانت الكلمات تنهال على موسى كالرصاص؛ كل جملة تخترق كبرياءه، كل اتهام يلتف حول عنقه كسلسلة حديدية تخنقه.
حاول أن يرد… أن يصرخ… أن يقول شيئًا يبرر به نفسه، لكن صوته اختنق في صدره. شعر أن الغرفة تضيق، أن الهواء أصبح ثقيلًا، أن والده لم يعد مجرد شخص يصرخ في وجهه، بل جدار هائل يسد كل الطرق أمامه.
صمت… وترك الصمت يصرخ نيابة عنه
، ثم
تنفّس بعمق، كأن صدره يئنّ من ثقل العالم كله، وعيناه متعلقتان بذلك الوجه المتصلّب أمامه… وجه أبيه، الذي احمرّ غضبًا وتصلّبت قسماته كصخر لا تلينه الرياح.
اقتربت عبير بخطوات سريعة، يداها المرتجفتان امتدتا لتلامسا كتفي داود، وصوتها المبحوح يخرج متوسلًا:
“اهدى يا داود… علشان خاطري… العصبية دي غلط على صحتك ياحبيبي.”
لكن داود لم يهدأ، صوته انفجر كالرعد:
“صحتي؟! صحتي راحت بسبب المصون ده… ابنك اللي طول عمره عايش عالبركة، لا راجل ولا يعرف يعني إيه يشيل مسؤولية!”
ارتجفت عبير، لكنها تماسكت، وربتت على صدره بعطف:
“معلش… أهدى… حرام عليك.”
بدأ داود يلتقط أنفاسه بصعوبة، وكأن الغضب استنزف ما تبقى من قوته. أما موسى… فكان واقفًا، جسدُه ساكن لكن عينيه فاضحتا كل شيء… كسرة صامتة، لمعة قهر، شيء يشبه الانكسار وهو يحدّق في الاثنين؛ في أم تحاول حماية رجل لم يفهمه يومًا، وفي أب لا يرى فيه إلا خيبة أمل متحركة.
ابتلع ريقه بغصة حارقة، ثم أدار ظهره دون كلمة…
كانت خطواته ثابتة لكن كل خطوة كانت طعنة في قلبه هو… لا قلبهم. دخل غرفته للحظات، وخرج حاملًا بعض الملابس في يده.
لم ينظر لأحد، ولم يردّ على صراخ أمه التي لحقته بعينين مرتعبتين:
“موسى! رايح فين؟!”
لم يجب…
ارتطم باب الشقة بعنف وهو يخرج، كأن صدى إغلاقه أعلن انتهاء الحديث، ولو مؤقتاً.
جلس داود منهكًا على المقعد، صوته ما زال يحمل ذرات الغضب رغم وهنه:
“سيبيه… يروح مطرح ما يروح… في ستين داهية! أنا رميت توبته خلاص.”
التفتت عبير نحوه بعينين دامعتين، لكنها لم تقل شيئًا، فقط نظرت نحو الباب المغلق…
_____________________
ترجل الدرج بخطوات سريعة متوترة، كأن الأرض تحت قدميه تضيق شيئًا فشيئًا. وصل إلى شقة جده، وبدأ يطرق الباب بعجلة، طرقات متلاحقة تحمل في طياتها ما يعتمل داخله من اضطراب.
جاءه صوت جده الرتيب من الداخل:
“مين؟”
رد موسى بصوت مرتفع، يخالطه شيء من الرجاء والضيق:
“أنا يا جدي… افتح!”
ثوانٍ مرت ببطء قبل أن يُفتح الباب، كأنها دهور مرت عليه في تلك اللحظة. وقف جده، يفتح له المجال للدخول، متكئًا على عكازه، وعيناه تتفحصان ملامح حفيده.
دخل موسى بخطوات سريعة، وخلفه محمد يسير برتابة، قبل أن يسأله بنبرة تحمل مزيجًا من الاستنكار والقلق:
“اللي حصل تاني؟… صوتكم واصللي لحد هنا!”
توقف موسى في منتصف الطريق، استدار نحو جده، وعيناه تعكسان ما يختلج داخله من غضب مكبوت وانكسار دفين، وقال بصوت مبحوح تكاد الغصّة تخنقه:
“اسأل ابنك… هو هيحكيلك كل حاجة، المهم… في حد في الحمام؟”
رمقه محمد للحظة، ثم هز رأسه نافيًا:
“لا، مفيش… ما بقاش في غيري في البيت، لو ناسي.”
أومأ موسى برأسه، صوته يأتي خافتًا هذه المرة، كأن التعب نال من روحه:
“مظبوط.”
أشار له الجد نحو المرحاض دون كلمة أخرى:
“لو عايز تدخل… ادخل.”
“ماشي.”
تحرك موسى إلى المرحاض وأغلق بابه وراءه، فيما توجه محمد إلى أقرب مقعد وجلس ببطء.
أسند عكازه إلى جانبه، وأطلق تنهيدة ثقيلة شابها الأسى، وعيناه تتبعان أثر حفيده، ثم همس لنفسه، بنبرة مليئة بالرجاء:
“ربنا يهديك… إنت وأبوك.”
__________________
مع مرور الوقت….
كان المسجد البعيد مأواه في كل مرة يشتد فيها الخلاف، ملاذه الذي يهرب إليه من أعين أبيه ومن صوته العالي الذي يلاحقه حتى في صمته.
منذ أن خرج من شقة جده وهو يتجنب الطرق التي يمكن أن تضعه وجهًا لوجه مع أبيه؛ فاختار هذا المسجد، البعيد عن البيت، كمن يختار المنفى طوعًا.
جلس على الأرض بعد صلاة طويلة فقد معها عدّ الركعات، كأنما كان يحاول أن يغرق في الدعاء ليطفئ شيئًا ما بداخله.
أنهى صلاته بهمسة خافتة:
“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… السلام عليكم ورحمة الله.”
جاءه صوت مألوف من الخلف:
“حرماً.”
رفع موسى رأسه، فالتقى بعيني الشيخ سالم، ذلك الرجل الذي رآه أكثر مما رأى نفسه في المرآة خلال سنواته الماضية.
ابتسم له ابتسامة باهتة وأجاب بهدوء:
“جمعاً يا شيخ سالم.”
اقترب الشيخ وجلس إلى جواره، ثم سأله بصراحة لم تفاجئه:
“اتخانقت مع أبوك؟”
أطرق موسى رأسه، وأومأ بالإيجاب، فاختفت الابتسامة من وجه الشيخ، وضغط شفتيه قليلاً قبل أن يقول بنبرة العارف:
“نفس السبب مش كده؟”
رفع موسى نظره للحظة، ثم أعاد إيماءة الموافقة، مرددًا بصوت مبحوح:
“آه.”
أكمل الشيخ كمن يسرد تفاصيل يعرفها عن ظهر قلب:
“اتعصب وزعقلك… وإنت مردتش… وسيبته ومشيت بهدوء.”
رفع موسى رأسه بدهشة مصحوبة بحزن دفين:
“إزاي قادر تعرف كل ده؟”
ابتسم الشيخ سالم بهدوء، وقال وهو يضع يده على ركبته:
“لأني حفظتك خلاص، من أيام الإعدادية وإنت على ده الحال… كل ما تتخانق مع أبوك تيجي هنا، تصلي قبل وقت الأذان بساعة، وتغرق في الركعات لحد ما ييجي وقت الصلاة، فبقيت لما ألاقيك هنا في وقت مش وقته… أعرف إن في حاجة وجواك وجع كبير.”
ظل موسى يحدق فيه بصمت طويل، كأنما يبحث في وجهه عن شيء من الطمأنينة، ثم تكلم أخيرًا، بصوت متهدج، يختلط فيه الغضب بالخذلان:
“أنت عارفني أكتر من أبويا نفسه.”
هز الشيخ رأسه نافيًا بقوة، وقال بحزم ممزوج بالعاطفة:
“غلط… مهما عرفت عنك، عمري ما هبقى عارفك أكتر من أبوك، لأنه في النهاية… أبوك.”
ضحك موسى بسخرية باهتة، ثم أردف بنبرة منكسرة كسوط على قلبه:
“أبويا!… أبويا مش بيعمل حاجة غير إنه يزعقلي… ويعايرني… ويحطني في مقارنة مع أي حد غيري… دايمًا لازم أكون أقل في عينه، أبويا عمره ما سمعني… ولا فهمني، كل اللي بيربطني بيه… الدم… والاسم اللي بحمله… غير كده؟ مفيش.”
ساد صمت قصير كأن الهواء نفسه توقف ليستمع، ثم قال الشيخ سالم بصوتٍ هادئ يحمل صرامة الحكيم:
“أنت عارف كويس إنه بيعمل كل ده علشانك… علشان عايزك تبقى أحسن من الكل.”
رفع موسى رأسه نحوه بعينين تغليان بشيءٍ بين الغضب والحزن، وقال بصوتٍ مبحوح:
“وبقيت أحسن منهم؟!.. لأ… كل اللي عمله حضرته علشاني… هو اللي خلاني النهاردة أبان قدامهم… أقل منهم كلهم… وأبان قدام نفسي في وقت من الأوقات… ولا حاجة… أشوف نفسي… ولا حاجة.”
تنهد الشيخ سالم بعمق، كمن يزن الكلمات قبل إطلاقها، ثم قال بنبرة أبٍ صبور:
“ممكن أسلوبه غلط… بس النية سليمة، غرضه الأساسي إنه يشوفك سعيد، هو أبوك… وإنت ابنه… وأي أب في الدنيا دي بيتمنى ابنه يكون سعيد وأحسن منه كمان.”
هز موسى رأسه في استنكار صامت، ثم قال بصوتٍ ينكسر كلما مضى:
“ممكن!… ممكن تكون نيته طيبة وسليمة… بس أسلوبه معايا… بيغطي على نيته دي… وبيخليني أفكر في حاجات تانية… أنا مش عايز أفكر فيها.”
نظر إليه الشيخ سالم بثبات، وسأله مباشرة:
“بتفكر إنه بيكرهك… صح؟”
لم ينطق موسى، فقط أومأ برأسه في بطءٍ يعكس ثِقَل الاعتراف، فابتسم الشيخ سالم ابتسامة حزينة، وأردف:
“بس إنت عارف… مفيش أب بيكره ابنه… صح؟”
أومأ موسى مجددًا، لكن دون يقين، فقال الشيخ سالم وقد اعتدل في جلسته:
“بص يا بني… أبوك مهما عمل… هيفضل أبوك في الآخر، لا إنت تقدر تغيّر ده، ولا هو يقدر يغيّره. وأبوك في النهاية بشر… زينا… طبيعي يغلط زي ما كلنا بنغلط. ومن واجبك… زي ما كان بيصححلك أغلاطك وإنت صغير… إنك تصححه دلوقتي. يمكن بيتعامل معاك بقسوة علشان شايف إنها الطريقة الوحيدة يمسك بيها زمامك. بس ده معناه إنك لازم تقوله… لازم تفهمه إن القسوة عمرها ما نفعت معاك. لازم تفتحله قلبك… وتخليه يسمعك… يسمع اللي جواك. صدقني، لما تعمل كده… هيعرف إنه غلط… وهيعرف إن ابنه محتاج اللي يسمعه… مش اللي يفرض عليه ويتحكم فيه وبس.”
ظلت كلمات الشيخ سالم تتردد في أذن موسى كسريان ماء بارد على جمرٍ متقد…
ظل يستمع في صمت، حتى قال بصوتٍ خافت يقطعه غُصّة:
“أنا حاولت… والله حاولت أخليه يسمعني… بس هو رفض… رفض يسمع رغباتي… أحلامي… رفض حتى يدّي لنفسه فرصة يسمعني.”
ارتعشت يداه وهو يمسح دموعه التي باغتته، وكأنه يخجل من ضعفه، فقال الشيخ سالم بحزمٍ يختلط باللين:
“حاول تاني!… ما تستسلمش!… خليه يسمعك!… لما يسمعك هيدرك حاجات كتير كان غافل عنها… هيعيد حساباته كلها. وفي نفس الوقت… إنت هترتاح… هتحس إن الحمل اللي شايله من زمان اتشال… وإن قلبك أخيرًا لقى طريقه للراحة.”
رمق موسى الشيخ سالم بنظرة مترددة، ثم سأل بصوتٍ يكاد يكون همسًا:
“يعني… رأيك أحاول تاني؟”
ابتسم الشيخ سالم وربت على كتفه قائلًا:
“أيوه… ده الحل الوحيد… علشان ترتاح إنت… ويرتاح هو كمان. صدقني… فكّر في كلامي وخد القرار اللي يرضي ضميرك، واللي يريح قلبك.”
ظل موسى صامتًا لحظة كأنه يغوص في أعماق نفسه، ثم أومأ موافقًا، فنظر الشيخ سالم إلى ساعته وقال بابتسامة دافئة:
“الظهر هيأذن… تحب تأذنه إنت النهاردة؟”
ارتسمت على وجه موسى ابتسامة هادئة للمرة الأولى منذ زمن:
“أحب أوي.”
نهض الاثنان معًا متوجهين إلى موضع الميكروفون، وما إن رفع موسى الأذان حتى شعر بأن شيئًا ثقيلًا قد انزاح عن صدره. ركعاته الأخيرة كانت بوحًا للخالق، وكلمات الشيخ سالم كانت مرهمًا على جراحه… وفي ذلك المكان الطاهر، وجد راحةً لم يعرفها منذ وقتٍ طويل.
_____________________
غابت شمس النهار بهدوء، تاركة خلفها خيوطًا برتقالية باهتة في الأفق، سرعان ما ابتلعتها العتمة ليحل محلها قمر وحيد يعتلي السماء تتناثر حوله نجوم صغيرة، كأنها عيون تراقب الأرض من بعيد، تعلن قدوم الليل واقتراب نهاية يوم آخر.
فتح الباب بمفتاحه الخاص، ودلف إلى الشقة التي استقبلته بصمت ثقيل، صمت يخبره قبل أن يرى شيئًا أنهما ليسا هنا. لا أصوات ولا حركة… فقط ظلام يمتد في كل ركن.
ألقى نظرة سريعة على المكان، ثم توجه بخطوات متزنة نحو غرفته، أغلق الباب خلفه بهدوء، كأنه لا يريد إزعاج الفراغ نفسه.
اقترب من المنضدة بجوار الفراش، خلع قبعته ووضعها بعناية بجانب المفاتيح ومحفظته، كعادة متأصلة فيه، ثم التفت، فتح خزانت، أخرج ملابس نظيفة، وغادر الغرفة إلى المرحاض.
لم تمضِ دقائق حتى عاد وقد تبدل ثوبه، وأطفأ الأنوار في غرفته قبل أن يستلقي على الفراش.
أسند رأسه إلى الوسادة وحدّق في السقف بعينين شاردتين، عقله مثقل بأفكار تتصارع داخله، قضايا مؤجلة، قرارات لم يحسمها، ومشاعر متشابكة لا يعرف لها مخرجًا… ظل هكذا حتى باغته النوم، وأخذه إلى سبات عميق دون أن يشعر، في اللحظة ذاتها التي عاد فيها والداه إلى الشقة.
أدار داود مفتاح الإنارة، فغمر الضوء المكان، تقدم إلى غرفة المعيشة وجلس على الأريكة بتعب ظاهر، بينما توقفت زوجته أمام غرفة ابنهما، أطالت النظر إلى الباب للحظات، ثم حسمت أمرها وفتحته برفق.
كان نائمًا بعمق، وجهه ساكن كطفل، وكأنه لم يعرف في حياته ما يثقل قلبه ويؤرقه.
ارتسمت على وجهها ابتسامة دافئة خافتة، ثم أغلقت الباب بهدوء وعادت إلى زوجها.
سألها داود بصوت منخفض:
“جوه؟”
جلست إلى يمينه وأجابته بهدوء:
“آه، نايم.”
قال بتنهيدة امتزجت فيها الراحة بالعتاب:
“مش كان المفروض يجي معانا يسلم على خاله وعمته؟”
ابتسمت بأسى وهي تهمس:
“تلاقيه نسي يا داود…”
هز رأسه وأردف:
“بكره فَكريه… خليه يروح يسلم عليهم.”
أومأت بصوت خافت:
“ماشي.”
نهض داود متثاقلًا وهو يقول:
“ماشي… أنا هادخل أغير هدومي وأنام، تعبت من الشغل… هتيجي إنتِ كمان؟”
“لا، شوية كده… هظبط حاجات في المطبخ وبعدين أجي.”
أومأ لها ثم رحل إلى غرفته، بينما تابعت أثره بنظرة عابرة قبل أن تنهض متجهة إلى المطبخ.
فتحت الثلاجة فرأت أواني الطعام التي أعدتها باقية كما تركتها، لم تُمس. شعور ضيق اجتاحها، وحزن ارتسم على قسمات وجهها؛ وأدركت أن ابنها لم يأكل شيئًا طوال اليوم.
أغلقت الباب وتنهدت، ثم وجدت نفسها تعود أدراجها إلى غرفته، دخلت بخطوات مترددة، اقتربت من جسده المستسلم للنوم، مدت يدها لتوقظه، لتسأله، لتطعم قلبها قلقًا أقل… لكنها توقفت فجأة، تراجعت خطوة إلى الوراء، واكتفت بالنظر إليه. كان هادئًا، وكأن النوم وحده قادر على احتوائه حين يعجز الجميع عن ذلك.
تأملت ملامحه بحزن وحنان في آن، ثم تنفست بعمق، واستدارت خارجة، أغلقت الباب خلفها برفق حتى لا تزعج سكونه.
ونعم هذه هي الحياة، فالحب الذي يحمله الوالدان لابنهما لا يخفّ ولا يزول، مهما بدت القسوة على وجوههما… لكن، يا عزيزي، القسوة لا تربي القلوب، بل تكسرها أحيانًا، وتترك فيها شقوقًا لا تلتئم بسهولة.
_____________________
استيقظت باكرًا كعادتها، والهدوء ما زال يخيّم على أرجاء الشقة. أعدّت فطور زوجها بعناية؛ رائحة الخبز الدافئ والشاي المنعنع ملأت المطبخ، بينما يديها تتحركان بخفة وخبرة سنوات طويلة.
وضعت الأطباق على الطاولة الصغيرة في غرفة الطعام، ثم رفعت صوتها قليلًا وهي تناديه:
“تعالى يا داود.. يلا.”
جاءها صوته من الشرفة، حيث كان يجلس بارتخاء يتصفح الجريدة:
“حاضر.”
طوى الجريدة بعناية، ووضعها على المنضدة الصغيرة بجانبه، ثم دخل بخطوات هادئة نحو الطاولة، بينما اتجهت هي إلى غرفة ابنهما.
طرقت الباب طرقات خفيفة، وانتظرت لحظة قبل أن تفتح وتدخل قائلة بنبرة اعتيادية:
“موسى، اصحى…”
لكن الكلمات انقطعت في حلقها حين وقعت عيناها على الفراش المرتب بعناية، والغرفة الخالية تمامًا.
تجهم وجهها وانكمش حاجباها باستغراب:
“راح فين بدري كده؟!”
خطت نحو شرفته الداخلية، أملًا في أن تجده واقفًا هناك يستنشق هواء الصباح، لكنها وجدتها فارغة أيضًا.
خرجت من الغرفة بخطوات سريعة نحو زوجها الذي كان يرفع كوب الشاي إلى شفتيه، وقالت بحدة خافتة:
“هو ابنك راح فين؟!”
توقف داود عن الشرب لحظة، وضع الكوب على الطاولة، وردّ مستغربًا:
“هو مش جوه؟!”
أجابت بنبرة قلق تتسلل إليها:
“لأ.”
رفع داود حاجبيه ونظر إليها بجدية، ثم قال بنبرة حائرة:
“أومال هيكون راح فين؟!”
_____________________
“والله يا جدي الفطار معاك بيبقى ليه طعم تاني خالص.. تحسه كده سُكر.”
قالها موسى الذي جلس أمام جده محمد، على الطاولة، التي حملت إفطار بسيط لكن رائحته تعبق المكان.
ارتسمت ابتسامة على وجه محمد، قبل أن يجيب:
“دي عمايل مرات عمك أحمد… هي اللي عاملة الفطار النهاردة.. ابقى أشكرها بقى.”
رفع موسى حاجبيه وكأنه اكتشف الأمر لتوه، ثم مال بجسده للأمام هامسًا:
“كنت حاسس إنها هي.. أقولك على سر؟!”
“قول يا سيدي.”
ضحك موسى بخبث طفولي وقال:
“خالتي منيرة أحلى واحدة بتعرف تعمل أكل في العمارة كلها.. نفسها في الأكل تحفة!”
ارتفع حاجب محمد وسأله بنبرة مازحة:
“وأمك؟! نفسها في الأكل وحش يعني؟!”
أسرع موسى يهز يديه نافيًا وكأنه يخشى أن يُفهم خطأ:
“أنا ماقولتش وحش… نفسها حلو بس.. نفسها خالتي منيرة أحلى.. فاهمني؟!”
هز محمد رأسه بتفهم وبسمة دافئة تزين وجهه وهو يردد:
“فاهمك يا ابن داود.”
قضم موسى قطعة من البيض وهو يقول بنبرة مرحة:
“ابن داود هيموت من الجوع!”
ظل محمد يراقب حفيده للحظات، بعينين تحملان مزيجًا من الحب والحنين، قبل أن يعلق:
“كويس إنك رايق النهاردة.. امبارح كنت ضارب وش خشب.”
ابتلع موسى اللقمة بتمهل ثم رفع نظره لجده وأجاب بهدوء فيه حكمة أكبر من عمره:
“امبارح غير النهاردة.. والنهاردة غير امبارح يا جدي.”
انعقدت ابتسامة رضا على وجه محمد، وقال وكأنه يختبر حفيده:
“قصدك تقول إنك نسيت اللي حصل امبارح… ومركز في اللي هيحصل النهاردة.”
أشار موسى بإبهامه لأعلى مؤكدًا:
“الله ينور عليك.”
ضحك محمد بخفة ثم أشار له نحو الطعام:
“طب يلا كمل أكل!.. علشان لما تخلص تقوم تعملنا كوبيتين شاي صعيدي من تحت إيديك.”
رفع موسى إصبعيه إلى عينيه في حركة عفوية مرحة وقال بابتسامة واسعة:
“من عينيا الاتنين يا جدو.”
_________________
بعد دقائق…
جلس
محمد كعادته في شرفة شقته يتأمل السماء الزرقاء في صمتٍ، لايقطعه سوا حركة الحياة في الأسفل.
ثوانٍ قليلة، ودخل موسى، بخطوات خفيفة، يحمل صينية صغيرة عليها كوبان من الشاي، وبخار كل منهما يتراقص في الهواء.
وضعهما على الطاولة الخشبية الصغيرة أمام جده، ثم التقط أحد الكوبين وقدّمه إليه بابتسامة عريضة قائلاً:
“اتفضل يا جدي… أحلى كوباية شاي هتشربها بإذن الله.”
رفع محمد حاجبيه بسخرية وهو يتناول الكوب:
“حاسس إنها هتبقى آخر كوباية شاي في حياتي.”
عبس موسى فورًا وهز رأسه مستنكرًا:
“بعد الشر! ما تقولش كده… دوق الأول، لو حصل حاجة بعدها ابقى قول اللي انت عايزه.”
ضحك محمد من ردة فعل حفيده، ثم أخذ رشفة هادئة من الكوب، بينما جلس موسى إلى جواره، يراقبه بترقب طفولي حتى سأله بنبرة متلهفة:
“ها؟… إيه رأيك؟”
ابتعد محمد بالكوب عن فمه، وجهه جامد للحظة، وكأن المذاق لم يعجبه، لكن ما لبثت أن ارتسمت ابتسامة هادئةة على ملامحه وهو يقول:
“يجي منك يا ابن داود… أحلى من الشاي اللي أبوك نفسه بيعمله.”
توهجت عينا موسى بفخر، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة صادقة:
“علشان تعرف إني مش بقول أي كلام يا جدي.”
ضحك محمد بخفة، وأشار إلى الكوب الآخر:
“طب اشرب شايك انت كمان قبل ما يبرد.”
“حاضر.”
رفع موسى كوبه وارتشف منه جرعة صغيرة، ثم أدار بصره إلى الأمام… إلى حيث تقع شقة صديقه سامي، وتحديداً… إلى شرفة الصغيرة معلقة في قلبه أكثر مما هي معلقة في البناية؛ شرفة صاحبة قلبه التي تسكنه في صمت.
ارتسمت على وجهه ابتسامة وادعة، تلك التي لا يصنعها إلا الحنين… لاحظها محمد فورًا، كعادته في قراءة الوجوه، فسأله بحدة مازحة:
“بتبتسم ليه؟!”
ارتبك موسى قليلًا، ثم أعاد نظره إلى الكوب في يده وقال:
“إيه؟!.. لا مفيش حاجة… بس الشاي طلع حلو، ده كل اللي فيها.”
قهقه محمد، ثم هز رأسه في عدم تصديق:
“مجنون بجد!”
“عارف.”
قالها ثم أعاد بصره إلى هناك، إلى تلك الشرفة… عيناه لمعان خافت من حبٍّ لا يجرؤ على البوح به، وصدره يضج بكلمات يدفنها في داخله كل يوم… لكن صمت اللحظة انكسر فجأة برنين هاتفه.
أخرجه من جيبه ونظر إلى الشاشة… “سامي يتصل.”
زفر بخفة، ثم نظر إلى جده قبل أن يقول:
“بعد إذنك يا جدي.”
أومأ محمد موافقًا، فضغط موسى على زر الرد ووضع الهاتف على أذنه:
“ألو.”
جاءه صوت سامي مرحًا كعادته:
“أيوه يا برنس! مختفي فين؟ محدش شافك امبارح.”
“مفيش… كنت بفصل شوية، المهم… إنت فين دلوقتي؟”
“أنا في البنك، النهاردة آخر يوم ليا قبل إجازة الفرح.”
أومأ موسى وقال بتذكر:
“مظبوط… كنت ناسي.”
“طب خليني أدخل في المهم عشان عندي شغل.”
“خير؟”
“في عميل اتواصل معايا وعايز مننا شغل.”
“ماشي.”
ساد صمت قصير من الطرف الآخر، قبل أن يقول سامي باستغراب:
“هو إيه اللي ماشي كده وبس؟!.. ثانية واحدة… في حد جنبك؟”
“آه.”
ضحك سامي بصوت منخفض وكأنه فهم أكثر مما قيل:
“فهمت.. طيب اسمع، التفاصيل لما نتجمع بالليل في السايبر، تمام؟”
“ماشي.”
“خلاص… يلا سلام.”
“سلام.”
أنهى المكالمة وأعاد الهاتف إلى جيبه، ثم نظر إلى جده وقال بهدوء:
“سامي بيسلم عليك يا جدي.”
أجاب محمد وهو يرفع الكوب مجددًا:
“عليك وعليه السلام… هو لسه ماخدش إجازة للفرح؟”
“النهاردة آخر يوم ليه في الشغل… لسه قايللي.”
هز محمد رأسه بتفهم، ثم غاص كلاهما في صمتهما مجددًا.. محمد يحتسي شايه ببطء، وموسى يعود بعينيه إلى هناك… حيث كان يسكن قلبه.
_____________________
مع مرور الوقت…
اجتمع الستة في غرفة المكتب داخل السايبر، أُغلِق الباب خلفهم بإحكام، بينما ضجّت الأصوات في الخارج من صخب الأطفال والشباب الذين يلعبون على أجهزة الحاسوب، غير مدركين لما يجري خلف هذا الباب المغلق.
لكن على شاشة صغيرة معلقة في زاوية الغرفة، ظهرت صور من كاميرات المراقبة التي نصبوها بعناية في أرجاء المكان؛ عينٌ تراقب كل حركة لتضمن لهم مساحة من الخصوصية.
جلس موسى متكئًا على الكرسي الدوّار في منتصف الغرفة، بينما وقف كارم قرب المكتب الخشبي، يقلب بين أصابعه قلماً بلاستيكيًا، قبل أن يقطع الصمت:
“يعني هو عايز يدفع مية وعشرين ألف علشان نعمله دعايا للمنتج بتاعه!”
التفتت الأنظار إلى سامي، الذي اعتدل في جلسته وأجاب بهدوء:
“آه.. هو قالي المبلغ ده، وقال كمان لو عايز أكتر ما عندهوش مانع… كل اللي يهمه إن الإعلان يضرب صح، أنا قلتله أستأذنكم الأول قبل ما أوافق… فإيه؟ رأيكم إيه؟”
انبرى حسن قائلاً، وهو ينظر ناحية موسى:
“هو القرار في إيد موسى في الآخر… هو اللي هيشتغل.”
توجهت العيون نحو موسى، الذي كان صامتًا حتى الآن، عيناه مثبتتان على شاشة الكاميرا وكأنه يقيس الأمور بميزان خفي، حتى قطع سامي الصمت، بقوله الرتيب:
“إيه رأيك يا موسى؟ موافق ولا إيه؟”
رفع موسى نظره ببطء، وقال بصوت هادئ وحاسم:
“قالك اسم المنتج؟”
أومأ سامي بالإيجاب:
“آه.”
أطلق موسى زفرة قصيرة ثم قال:
“تمام، يبقى نعمل بحثنا المعتاد عليه، لو طلع أمان.. نوافق يا غالي.”
سأل حسين بابتسامة جانبية:
“يعني زي كل مرة؟”
رد موسى بثقة دون أن يلتفت إليه:
“بالظبط، زي ما اتفقنا من أول يوم: نتأكد من جودة أي حاجة قبل ما نحط اسمنا عليها.”
قال كارم بهدوء محسوب، وهو يراقب ملامح موسى:
“يبقى الخطة كالعادة: أنا والتوأم الثلاثي هننزل السوق ونشوف المنتج على أرض الواقع.”
أومأ موسى موافقًا، وقال بتروٍ:
“بالظبط… وهاتوا كذا عينة، من أماكن مختلفة، بأحجام مختلفة لو ليه أحجام… لازم نحكم صح.”
ضحك محسن بخفة، وقال:
“الحاجات دي بقت عندنا روتين يا برنس، ما تقلقش.”
أشار موسى نحو سامي، ثم قال:
“وأنت يا سيمو، لو كلموك تاني… ما تديهمش رد، ماطل معاهم زي ما بتعرف.”
ابتسم سامي ابتسامة واثقة، وأجاب:
“حاضر.. خلصانة يا برنس.”
مسح موسى بنظره وجوههم جميعًا، واحدًا تلو الآخر، ثم قال بنبرة حاسمة:
“يبقى اتفقنا؟”
ارتفعت أصواتهم في وقت واحد:
“اتفقنا يا برنس.”
حينها فقط ارتسمت على وجه موسى ابتسامة هادئة، وهو يرد بصوت منخفض:
“ممتاز.”
_____________________
مع دخول الليل، ولج موسى إلى البناية بخطوات هادئة، وكأن تعب النهار ألقى بثقله على كتفيه.
أخرج مفتاحه من جيبه وفتح الباب بخفة معتادة، ليقابله دفء المنزل ورائحة طعام باقٍ من العشاء. وما إن خطا إلى الداخل حتى وقعت عيناه على والديه في غرفة المعيشة؛ يجلسان أمام التلفاز، يحيط بهما صمت ثقيل لا يقطعه إلا صوت المذيع من الشاشة.
التفتا إليه فور سماعهما صوت الباب، وارتسمت على وجه داود ملامح حزم كامن خلفها قلق دفين، فسأله بصوتٍ منخفض لكنه نافذ:
“كنت فين من الصبح؟.. وبترُدّش على تلفونك ليه؟”
أغلق موسى الباب خلفه بهدوء، ثم تقدّم نحو الغرفة بخطوات متزنة ووقف أمامهما، محاولًا أن يبدو طبيعيًّا وهو يجيب بصوت هادئ لا يخلو من برود:
“الأول نزلت عند جدي، وبعدين صليت الضهر… ومن الجامع روحت على السايبر.”
ترك داود جهاز التحكم على المنضدة أمامه واعتدل في جلسته، نبرته هذه المرة أكثر حدة:
“قلت السايبر؟.. طب روحت سلّمت على خالك وعمتك؟”
تردّد موسى لحظة قبل أن يرد بلا مبالاة واضحة:
“نسيت.. خالص.”
زفر داود بضيق وأردف بنبرة تحمل اللوم:
“ماهو لو كنت رديت على مكالمات أمك ماكنتش هتنسى.”
خفض موسى نظره للحظة ثم قال بصوت خافت وكأنه يحاول تبرير نفسه:
“آسف… أنا عامل التلفون صامت، وما شفتوش من ساعة ما كنت عند جدي الصبح.”
تدخلت عبير بنبرة ناعمة، محاولة أن تهدئ التوتر الذي بدأ يتصاعد في الغرفة:
“مفيش مشكلة.. بكرة روحلهم وخلاص.”
رمقها داود بنظرة صامتة ثم لم يقل شيئًا، وعندها أنهى موسى الحديث بجملة مقتضبة وهو يتحرك نحو غرفته:
“إن شاء الله.. هدخل أغير هدومي.. عن إذنكم.”
اختفى خلف باب غرفته، وهناك، في عزلة بسيطة، ألقى بقبعته على المنضدة كعادته ورتّب أشياءه ببطء، ثم اتجه نحو الخزانة… وقبل أن يفتحها، طرق أحدهم الباب بخفة.
التفت نحو الباب وأجاب ببرود عادي:
“ادخل.”
فُتح الباب ودخلت والدته بخطوات هادئة تحمل مزيجًا من الحنان والفضول. اقتربت منه قليلًا وسألت بصوت منخفض وكأنها تخشى إزعاج شيء داخله:
“إنت كويس؟”
تفاجأ بالسؤال لثانية، لكنه سرعان ما تدارك اندهاشه وأجاب ببساطة:
“آه.. كويس.”
تابعت هي، وكأنها تقيس صدقه من خلال تفاصيل عادية:
“طب أكلت؟”
أومأ برأسه وهو يخلع ساعته ويضعها على الطاولة:
“آه.. فطرت مع جدي الصبح.. ومن شوية اتعشيت أنا والشباب.”
“يعني مش عايز تاكل دلوقتي؟”
“لأ، شبعان.”
ابتسمت بخفة، وكأن الاطمئنان بدأ يتسلل إليها، ثم قالت:
“ماشي.. على العموم لو جعت في أكل في التلاجة.. ما تنمش من غير أكل تاني.”
ابتسم هو الآخر، مدركًا قصدها الخفي، ورد بلطف:
“حاضر.”
سادت لحظة صمت قصيرة بينهما قبل أن تسأله بصوت طبيعي:
“هتنام دلوقتي؟”
“لأ.. شوية كده.. هستحمي وأغير هدومي، وممكن أسهر على اللاب.”
هزت رأسها بالموافقة وقالت:
“ماشي.. بس ما تطولش في السهرة.”
“حاضر.”
استدارت نحو الباب لتغادر، لكنها توقفت فجأة عند العتبة، التفتت إليه مجددًا بنظرة تحمل شيئًا مختلفًا، ثم قالت وكأنها تذكرت أمرًا مهمًا:
“صح.. في حاجة مهمة عايزة أقولك عليها.”
رفع حاجبيه مستفسرًا:
“خير؟”
ابتسمت لتخفف وطأة المفاجأة وقالت ببساطة:
“خير خير.. بكرة عايزاك تاخد عربية أبوك وتروح المطار… تجيب فيروز وأبوها.”
اتسعت حدقتا موسى حتى بدا وكأنهما ستقفزان من مكانهما، وتراجع بجذعه قليلًا إلى الخلف وهو يردد بصوت مخنوق بالدهشة:
“فيروز مين؟!”
رفعت والدته حاجبيها باستغراب من ردة فعله، ثم قالت بنبرة تحمل شيئًا من التوبيخ:
“فيروز يا موسى.. معقول مش فاكرها؟! أخت سامي الصغيرة.. بنت خالتك نادية.. وصحبتك إنت ودلال لما كنتوا صغيرين.”
أحنى موسى رأسه لحظة، ثم رفع عينيه فجأة وقال بصوت متلعثم:
“أنا عارف فيروز مين.. بس مش.. مش مصدق إنها راجعة.. يعني بقالها سنين مسافرة!”
ابتسمت أمه ابتسامة خفيفة، وأجابت ببساطة وكأنها تُعلن أمرًا عاديًّا:
“ماهي راجعة مع أبوها علشان يحضروا فرح أخوها سامي.”
ارتجف قلب موسى مع كلماتها، وخرجت منه عبارة قصيرة، شبه هذيان:
“يعني.. هي راجعة بجد؟!”
“أيوه يا بني.. انت اتجننت ولا إيه؟! بقولك راجعة.. وبعدين إنت اللي هتروح تستقبلهم بكرة.”
ظل موسى لحظات يحدق في الفراغ، وكأنه يسمع صدى الكلمات يتردد في أعماقه.. ثم همس بدهشة ممزوجة بتعجب:
“غريبة!.. أنا كنت مع سامي من شوية وماجبليش سيرة.”
أجابت عبير وهي ترفع كتفيها:
“ماهو علشان سامي ما يعرفش.”
انتفض موسى فجأة، وقد عقد حاجبيه بشدة:
“مايعرفش إزاي؟!”
تنهدت والدته وأردفت:
“الموضوع طويل.. إنت عارف إن يحيى مكنش موافق على الجوازة، وكان قايل إنه مش هيحضر.. لكن نادية كلمته من يومين، وأقنعته هي وفيروز إنه لازم يحضر فرح ابنه الوحيد.. حتى لو كان معارض.. ماينفعش ما يحضرش. وبعد محايلة طويلة وافق ينزل هو وفيروز بكرة إن شاء الله. ونادية طلبت مني أخليك تروح تجيبهم.. علشان مش عايزة تطلب من سامي بنفسه.. هي مش عارفة تقوله إزاي، ومستنية أبوه ييجي وتبقى تحكيله كل حاجة بالراحة.. فهمت دلوقتي؟!”
ساد الصمت للحظة، قبل أن يرتسم على شفتي موسى نصف ابتسامة جانبية تحمل أكثر مما تُظهر:
“فهمت.. طبعًا فهمت.”
“طب هتروح تجيبهم بكرة؟”
جاء رده سريعًا، متسرعًا، يكشف ما يحاول إخفاءه:
“طبعًا!.. قصدي.. ماشي.. هاروح.. ماشي.”
هزّت عبير رأسها برضا، وقالت وهي تتحرك نحو الباب:
“ماشي.. هتصل بيها وأقولها إنك وافقت.”
أجابها ببرود مصطنع، يكاد يفضحه:
“تمام.”
ابتسمت وهي تغادر الغرفة:
“هطلع أتصل بيها.”
“اتفضلي.”
أغلقت الباب خلفها بهدوء، تاركة ابنها هناك…
جامد الملامح لثوانٍ، عيناه مثبتتان على نقطة في الفراغ.. ثم، فجأة، كأنما انشقّت ابتسامته عن قلبه مباشرة؛ ابتسامة عريضة، صادقة، تكاد تصل إلى أذنيه.
بدأ يلتفت في الغرفة بعشوائية، يدور بنظره في كل زاوية، كأنه يختبر الواقع، ثم توقف عند نقطة معينة، رمش سريعًا، وترك الكلمات تتدفق منه بلا وعي، بصوت خافت وحماسة متوهجة:
“راجعة!.. راجعة بجد!.. فيروز راجعة!.. فيــ.. فيــ.. فيروز راجعة بجد!.. فيروز راجعة بجد!.. يااااه!.. يا الله!”
أسند يده إلى وجهه، وارتجف جسده من فرط الفرح، قبل أن تنفلت منه ضحكة خافتة مكتومة، ضحكة عاشقٍ تجرّع الانتظار طويلًا حتى كاد يفقد الأمل.. وها هي الآن، التي لم تغادر قلبه يومًا، عائدة…
عائدة إليه.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.