رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل السابع 7 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السابع

الفصل السابع(لقاء طال انتظاره)

الفصل السابع(لقاء طال انتظاره)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

يسكن قلبي شوق لا يهدأ، يدفعني لطلب لقائكِ كل لحظة وآن.

“مقتبس”

____________

كان اليوم مختلفًا… ليس كأي يوم آخر مرَّ به.

فلكل إنسان يوم ينتظره بشغف، يتمنى أن يختصر له الزمن المسافات ليحضره بسرعة، يوم يحمل معنى خاصًا، ووقعًا لا يشبه غيره. واليوم… كان يوم موسى المنتظر، يوم اللقاء الذي طال أمد الحنين إليه، يوم العيون التي اشتاقت أن تلتقي، والقلب الذي لم يكفّ عن المناداة بعودتها.

وقف موسى أمام المرآة، أصابعه تنهمك في إغلاق أزرار قميصه الأبيض النظيف، الذي اجتمع بانسيابية مع بنطاله الجينز الأسود. وما إن انتهى حتى رفع يده ليمرر أصابعه في خصلات شعره السوداء، يصففها على عجل، بينما تلك الابتسامة المشرقة لم تفارق شفتيه، بل ازدادت اتساعًا حتى صارت جزءًا من ملامحه.

كانت السعادة تنضح من وجهه، وكأن كل ملامحه اتفقت على أن تفضحه أمام المرآة.

أعاد فرشاة الشعر إلى مكانها والتقط زجاجة العطر، نثر منه على نصفه الأعلى بخفة، كمن يوقّع لمسة أخيرة على لوحة اكتملت، ثم أعاد الزجاجة برفق، واقترب أكثر من المرآة، ليركّز النظر في عينيه اللتين بدا فيهما أثر الأرق، ثم تمتم وهو يميل برأسه قليلاً:

“واضح إني ما نمتش… ولا إيه؟”

أمال رأسه بالنفي سريعًا وكأنه يحاول إقناع نفسه:

“لا… مش باين، محدش هياخد باله، إن شاء الله.”

ضحك ضحكة قصيرة وهو يلتقط ياقة قميصه ليعدلها، ثم ارتدى ساعته السوداء، وأكمل طلّته بقبعة تحمل حرف (M) مرسومًا باللون الأبيض على واجهتها.

اقترب من الباب بخطوات متحمسة، التقط حذاءً أبيض لامعًا، ارتداه بسرعة، ثم أمسك بالمقبض.

لحظة صمت قصيرة مرّت قبل أن يفتح الباب، وكأن قلبه يسبق جسده إلى الخارج، ثم فتحه، وخرج… يخطو إلى يومٍ لم يعد مجرد انتظار، بل صار حاضرًا.

ترجّل عن الدرج بخطوات واثقة، تتأرجح على مهل، تحمل في طياتها شيئًا من التحدي الصامت. ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة، أقرب ما تكون إلى ابتسامة مَن يبيت في داخله نية غير معلنة.

وما إن بلغ الطابق الأول حتى اتجه مباشرةً إلى الورشة، حيث تعانق رائحة الخشب الممزوجة برائحة الغبار والورنيش، ضوضاء المطارق، وصوت المنشار الكهربائي، كلّها تُشكّل سيمفونية مألوفة في المكان.

دلف إلى الداخل، فوقع بصره على والده جالسًا خلف المكتب بجوار عمه مصطفى، فيما يتوزع حولهما العمّال منهمكين في أعمالهم.

قال موسى وهو يمدّ صوته بتحيةٍ:

“السلام عليكم.”

رد الجميع السلام باحترام، إلا أن نبرة داود جاءت مغايرة، حادةً تحمل في طياتها تبرّمًا مكتومًا:

“خير!.. البيه مشرفنا ليه؟!”

اقترب موسى، مدّ يده إلى والده بابتسامة ماكرة:

“مفتاح العربية… أمي أكيد قالتلك.”

لم يُجبه داود، وإنما زفر بضيق وهو يسحب المفتاح من جيب عباءته، ومدّه له وكأنه يسلّم سلاحًا لخصمٍ لا لابن، ثم أردف بحنقٍ واضح:

“خد… وعالله يحصلها حاجة، أو تتخدش خدش واحد.”

تلقّف موسى المفتاح ببرود، ثم رفع حاجبيه بوقاحة قائلاً:

“ماتخافش، عربيتك في إيد أمينة، بس إيدك بقى على ٢٠٠ جنيه.”

نظر له داود باستنكار، وخرج صوته يقطر غضبًا:

“وده ليه إن شاء الله؟!”

“علشان أنضّف العربية، شكلها بجد يقرف.. مترّبة جدًا.”

قهقه داود بسخرية قصيرة، وقال بحنقٍ:

“مش مترّبة ولا حاجة، أنت بس عايز تلهف الفلوس.”

رفع موسى يده متظاهرًا بالبراءة:

“طب والله عايزهم عشان العربية… هو أنا هكدب عليك؟!”

“وأنا مش عايز أغسلها… ريّح بقى!”

رمقه موسى بابتسامة ساخرة، ثم غمز قائلاً:

“ياحج… دي ٢٠٠ جنيه! محسسني إني بطلب ورثي ليه؟!.”

هنا تدخل مصطفى بنبرة هادئة، أقرب للمصالحة:

“خلاص ياداود… ريّحه واديله، مش هيبطل زن غير كده.”

ظل داود صامتًا لبرهة، يتأمل ملامح ابنه التي لا يرى فيها سوى مرآة عنادٍ مستفز، ثم أخرج حافظة نقوده على مضض، التقط ورقة من فئة المائتين وألقاها أمامه بنفَسٍ يقطر غضبًا:

“خد.. واختفي من قدامي يلا.”

التقطها موسى بسرعة، وهو يبتسم ابتسامة خبيثة:

“تشكر ياحج داود… مالاقيش كمان معاك واحدة تانسة أختها.. ليا!”

انفجر مصطفى ضاحكًا على مزاحه الوقح، بينما احمرّ وجه داود غضبًا وأشار إليه بعصبية:

“امشي يا ض.. امشي قبل ما أرجّع الفلوس من جيبك غصب!”

زمّ موسى شفتيه بضيق، ثم التفت إلى عمه بخبثٍ مصطنع:

“طب إنت يا عمي اديني… إنت عمرك ما زعلتني.”

ابتسم له مصطفى ومدّ يده إلى جيبه، غير أن داود قاطعه بصوتٍ خشن كالرعد:

“موسى!”

تجمّد موسى في مكانه، ثم نظر إليه ببرود متكلف:

“نعم؟”

“اختفي.. وإلا مش بس هاخد الفلوس اللي اديتهالك، هتزود لي فوقيها كمان.”

ابتسم موسى ابتسامة سخرية، وقال وهو يلوّح بالورقة:

“وبتقولوا عليا بخيل!”

“امشي يا ض!”

“ماشي، ماشي أهو… مستخسر في ابنك ٢٠٠ جنيه! شوف يازمن وصلنا لإيه.”

دار بجسده مستعدًا للمغادرة، وألقى كلماته الأخيرة بغلٍّ مكتوم:

“عن إذنكم.. سلام عليكم.”

“وعليكم السلام.. يا ريت ما أشوفش خلقتك باقي اليوم!”

رد موسى من الخارج بصوتٍ مرتفع وحانق:

“هتشوفها.. حتى في الأحلام هتشوف خلقتي ياحج داود.”

فجاء صوت والده حادًا كسكين:

“هشوفها في الكوابيس أكيد.”

خرج موسى من الورشة، تاركًا وراءه ثِقَلًا من الغضب والمرارة، وأصوات المطارق التي واصلت عزفها كأن شيئًا لم يحدث.

خرجت ضحكة من مصطفى، ولم تكن مجرد رد فعل عابر، بل محاولة للهرب من ثِقَل الموقف، ومع ذلك سرعان ما اصطدمت بعينَي أخيه المتحفزتين.

التفت داود نحوه بحدة، وصوته يقطر استنكارًا:

“بتضحك؟!”

ارتسمت على شفتي مصطفى ابتسامة ساخرة، محاولًا التخفيف من وطأة الجدية:

“ماهو انتوا مسخرة بصراحة وينضحك عليكوا.”

لكن داود لم يتقبل الأمر بخفة، بل انفجر وهو يفرغ ما ينهشه من الداخل:

“مسخرة بس؟! ده أنا اتبهدلت يااخويا.. والبركة في أبو طاقية ده! أنا بقت كل يوم أقعد مع نفسي وأفكر.. لو كان عندي عيل ولا اتنين غيره كنت هعمل إيه؟ وأنا مش قادر على واحد!”

ساد الصمت للحظة، قبل أن يرد مصطفى بنبرة هادئة تشي بتسليم:

“ماأكيد دي حكمة ربنا.. إنك ماخلفتش غيره.”

أطرق داود رأسه، وزفر تنهيدة حملت بين طياتها تعب السنين:

“أقولك إيه بس يامصطفى؟ أنا ساعات بييجي عليا لحظات بندم فيها إني خلفت.. كل ما أبص لوضعه، بحس إني بتقطع من جوه.. بفتكر تعب السنين اللي راح، وألاقي نفسي بسرح وأقول: يا ريتني ماخلفتش.. كان أهون من إني أشوف ابني بالشكل ده. ساعات بقول في سري.. يا ريتني عملت زيك وماجبتش ولاد.. كنت هاعيش ملك زماني زيك.”

ظل مصطفى يستمع في صمت، ثم حرك رأسه ببطء وكأنه يسترجع شيئًا من داخله، وأردف بصوت امتزج فيه الحزن بالحكمة:

“اللي عنده ولاد مش عاجبه.. واللي معندوش برده مش عاجبه.. الدنيا دي غريبة يااخويا، صدق اللي قال ماحدش عاجبه حاله.”

رفع داود بصره نحوه، وقد فهم الإشارة المخفية في كلام شقيقه، فقال بلطف مشفق:

“ليه ما فكرتش في الجواز يامصطفى؟ كان ممكن تتجوز تاني بعدها وتكمل حياتك زي الناس.”

طالع مصطفى أخاه نظرة طويلة، كأنه يقلب جرحًا قديمًا لا يندمل، ثم قال:

“مابقاش ليا نفس للجواز… تقدر تقول نفسي انسدت عنه خلاص.”

ابتسم داود ابتسامة صغيرة فيها مزيج من التعجب واليقين:

“نفسك انسدت؟ ولا مش قادر تحب واحدة غيرها؟”

لم يجب مصطفى، بل توارى خلف صمته الذي فضحه أكثر من أي كلام، وعندها ضغط داود عليه:

“إيه؟ مش عايز تجاوب ليه؟”

هز مصطفى رأسه قليلًا ثم قال بصوت خافت:

“لأني مش عارف.. مش عارف ياداود.”

تنفس داود بعمق قبل أن ينطق بما كان يؤجله:

“ماكنتش عايز أقول كده.. بس الحقيقة إنك دمرت حياتك بيدك يامصطفى.. انت اللي بعدتها عنك بإرادتك.”

أطرق مصطفى رأسه للحظة، ثم رفع عينيه وفيهما ثِقَل القرار الذي لا يُروى:

“كنت مُضطر.. كان عندي أسبابي اللي تخليني أبعد عنها وأبعدها عني.”

“إيه الأسباب اللي تخليك تبعد عن الإنسانة اللي بتحبها؟!”

ابتلع مصطفى ريقه بصعوبة، ثم أجاب بصوت متكسر:

“أسباب صعب إنها تتقال.. صعب حتى أعترف بيها بيني وبين نفسي.”

“يعني مصر تفضل محتفظ بيها لنفسك؟”

“غصب عني.. في حقايق لو اتقالت بتكسر صاحبها قبل ما تكسر اللي بيسمعها.”

نظر إليه داود بحنان لم يخلُ من العجز:

“كنت عايز أساعدك وأخليك تفتح قلبك ليا.. بس الواضح إنك رافض، بس عايزك تفضل فاكر حاجة واحدة.. دلوقتي، زمان، قدام.. أنا موجود… منين ما تحتاج تتكلم، أنا في الخدمة يااخويا.”

ارتسمت على وجه مصطفى ابتسامة شاحبة، لكنها صادقة، وقال بإمتنان:

“تسلملي ياداود.. ربنا يخليك ليا.”

“ويخليك ليا انت كمان يااخويا.. ويخلينا كلنا لبعض دايمًا.. يا ولاد محمد عمران.”

أومأ مصطفى وهو يتمتم بخشوع:

ـ “آمين.”

أخي!

حين تضيق الدنيا عليّ، وحين تثقلني هموم الحياة.. أجد بجانبي سندًا لا يملّ من الاستماع، ولا يتعب من المساندة.

___________________

أوقف موسى سيارته أمام المتجر المملوك لعمه، ثم ترجّل بخفة وهو يرتسم على وجهه ابتسامة عريضة، وما أن دلف إلى الداخل حتى صدح صوته:

“السلام عليكم.”

رفع أحمد رأسه ، وردّ السلام، وتبعه عوض الذي كان ينظم بعض البضائع، أما موسى فقد اتجه مباشرة نحو ثلاجة المشروبات، عينيه تتنقلان بين العبوات بلهفة باحثٍ عن شيء محدد، وهو يدندن بنغمة خفيفة، كطفل وجد لعبته الضائعة:

“دومتي دومتي إيه.. دومتي دومتي آه.. لقيته أهو.”

مد يده والتقط عبوتين من مشروب “دومتي” بنكهة الجوافة، ثم تحرك نحو ثلاجة أخرى وأخرج منها زجاجة “فيروز”، وكأن طقوس انتقاء المشروبات جزء لا يتجزأ من طبيعته.

لم يلبث عمه أن تنهد بضيق وهو يتابعه بنظرة ممتزجة بين السخرية والقلق:

“لا حول ولا قوة إلا بالله… عمرك ما هتعقل.”

رد موسى بابتسامة ساخرة مقتضبة:

“عارف.”

واصل جولته داخل المتجر، وانتزع عبوتين من البسكويت المفضل لديه، بينما عين عمه لا تكف عن التحديق فيه، وشيئًا ما في مظهره أثار دهشته، فانكمشت ملامحه وهو يسأل:

“إيه ده!.. متشيك كده ليه؟ مفيش مناسبة عندنا.”

توقف موسى عند المكتب، وألقى عليه نظرة نافذة قبل أن يرد بحدّة مكتومة:

“هو أنا عمري ما لبست كويس غير في المناسبات؟!”

ابتسم أحمد ابتسامة نصف ساخرة وأومأ برأسه قائلاً:

“أيوه… طول عمرك يا إما بيجامة يا ترينج والشبشب… ولو الدنيا حنّت عليك تلبس كوتشي.. إنما قميص وبنطلون مكوي؟ دي ما تحصلش غير في المناسبات.. إيه المناسبة بقى؟”

تنفّس موسى ببطء، وكأن في صدره سرًا أكبر من أن يُفصح عنه، ثم قال:

“مناسبة تستحق الشياكة دي… وأضعافها كمان.”

ازدادت نظرات أحمد ريبةً، وقال متحزرًا:

“إلا تكون رايح مقابلة شغل؟!”

قهقه موسى بخفة متضجرة:

“مقابلة شغل إيه يا عم؟ دي ما تِستاهلش ألبس لها كده.. ده أدفن نفسي علشانها.”

انفجر أحمد ضاحكًا من أسلوبه، ثم سأله بفضول لا يهدأ:

“طب خلاص… قول، رايح فين؟”

أجاب موسى بلهجة جادّة، وهو يرتب أغراضه ببطء وكأنه يُمهّد للإعلان:

“رايح المطار.”

قال أحمد بسرعة، وقد اتسعت عيناه بلمعة دهشة:

“هتسافر؟!”

صفع موسى الهواء بكلمة حادة:

“أسافر إيه بس! تِف من بقك… أنا رايح أستقبل حد من المطار.”

تجمدت ملامح أحمد للحظة، وهو يحاول الربط:

“مين؟!.. عمك هنا… ما عندناش حد مسافر حالياً أصلاً.”

ابتسم موسى ابتسامة مراوغة، كمن يخبّئ ورقة رابحة في جيبه:

“طالما مش فاكر، خليك على كده.. لو فارقة معاك، اسأل أبويا… هو عارف… المهم أنا همشي بقا قبل ما أتأخر.”

مد يده بسرعة، خطف عبوة بسكويت إضافية من على مكتب عمه، ثم استدار بخفة وخرج من المتجر، تاركًا خلفه رنين الخطوات وصدى الغموض.

بينما بقي أحمد جالساً في مكانه، يحدق في الباب أمامه، ثم تمتم ببطء وهو يعقد حاجبيه:

“يا ترى مين اللي راجع من السفر ده؟ العيلة كلها هنا… ليكون بيضحك عليا ابن داود؟!”

هز رأسه موافقًا على ظنه، وهو يتمتم بابتسامة ساخرة:

“مش مهم… هابقي أسأل أبوه بعدين… ما بخدش منه حاجة مفيدة ابن داوود… حتى المعلومة.”

_____________________

كان يقود سيارته بخطى متأنية على الطريق المؤدي للخروج من المنطقة، يده اليسرى مستقرة على عجلة القيادة، بينما اليمنى تمسك بعبوة العصير التي كان يجرع منها على فترات قصيرة.

لكن فجأة، لمح أمامه سيارة قادمة من الاتجاه الآخر. لم يكن بحاجة لكثير من التركيز ليعرف صاحبها، فقد اعتاد على تلك السيارة، وعلى وجهٍ لا يتغير مهما مرّت السنوات.

أوقف سيارته، وما هي إلا لحظات حتى توقفت الأخرى مقابلة له، خرج رأس عمه محمود من النافذة، بعينين تلمعان بالصرامة وشيء من المكر.

أخرج موسى رأسه بدوره، لكن على شفتيه ارتسمت بسمة واسعة وقال بخفة:

“إزيك يا عمي حودة؟”

رد الآخر بصرامة مباشرة:

“رايح فين يا ض؟”

وفي لحظة، ذابت ابتسامة موسى وكأنها لم تكن، وحل محلها انزعاج واضح، فتمتم بامتعاض:

“يا دي النيلة السودة!”

رفع محمود حاجبيه مستفزًا:

“سودة على دماغك يا كلب.. واخد عربية أبوك ورايح على فين؟”

زفر موسى بضيق، وترك الكلمات تنفلت من بين شفتيه بحدة مكتومة:

“مشوار.”

رد عليه محمود بلهجة لا تعرف التنازل:

“مشوار فين يعني؟!”

أدار موسى عينيه بانزعاج ثم أردف:

“مشوار وخلاص يا عمي.. هو لازم التفاصيل يعني؟”

ابتسم محمود بسخرية خفيفة، أومأ برأسه قائلاً:

“آه.. أنا أحب التفاصيل.”

لم يتردد موسى في الرد بسلاحه المعتاد، التهرب والتهكم:

“طب روح اسأل أخوك عليها بقى.. هو اللي ها يقولك.”

ارتفعت نبرة محمود وهو يهز رأسه بامتعاض:

“آه منك يا بن داود.. عمرك ما هتريح اللي قدامك، ولا حتى بعد ميت سنة!”

جاءه الرد بارداً، قاطعًا كالسيف:

“لما تريحوني.. هريحكم يا عمي.”

شعر محمود بالغليان يتصاعد داخله، فضرب بيده على عجلة القيادة وهو يزجره:

“طب وسّع من خلقتي يلا علشان أعدي!”

أشار موسى بيده إلى الطريق أمامه ببرود متعمد، وهو يترك جملته تتساقط كطعنة هادئة:

“ما الطريق واسع أهو.. اتفضل!”

رمقه محمود بنظرة يائسة كأنما يعرف أن الجدال معه عبث لا ينتهي، ثم حرك سيارته ليمضي في طريقه، وتبعه موسى، كل منهما يسلك اتجاهًا معاكسًا للآخر، بينما تمتم موسى لنفسه بابتسامة جانبية:

“عيلة كلها فضولية!”

_____________________

انطلقت الكلمات العذبة من جهاز التشغيل، تتهادى في أجواء السيارة كأنها تصافح قلبه مباشرة:

-سواح!

وأنا ماشي ليالي

سواح!

ولا داري بحالي

سواح!

من الفرقى ياغالي

سواح!

ايه اللي جرالي

وسنين!

وسنين وانا ذايب شوق وحنين

عايز أعرف بس طريقه منين!

وسنين وانا ذايب شوق وحنين

عايز أعرف بس طريقه منين!

وإن لقاكم حبيبي.. سلمولي عليه

وإن لقاكم حبيبي.. سلمولي عليه

طمنوني الأسمراني

عامله ايه الغربة فيه

طمنوني الاسمراني

عامله ايه الغربة فيه.

“الله ياعبده الله”

كان صوته يتداخل مع صوت عبد الحليم، يردّد المقطع بحماس طفولي، حتى ارتجف الزجاج على إيقاع أنامله التي أخذت تنقر على عجلة القيادة، وكأنها تعزف معه لحنًا يعرفه الجسد قبل الأذن.

ابتسامة واسعة سكنت وجهه، تتسع مع كل جملة، وملامحه تفيض بنشوة لا يمكن إخفاؤها. وقد بدا كمن وجد نفسه فجأة في قلب عيد صغير، لا يحتاج سوى الطريق الفارغ أمامه وصوت الأغنية التي تسرق منه عقله ووعيه.

ضحك بخفة، وكأنه يعتذر من روح الفنان الذي يهزه من الداخل:

“صوتي تلوث سمعي.. معلش يا عبده، حقك عليّا.”

مد يده ليعيد تشغيل الأغنية من بدايتها، كطفل عنيد لا يشبع من حلاوة قطعة حلوى، ثم عاد يصرخ باللحن وكأنه وحده من يملكه:


“سواح!.. وأنا ماشي ليالي.. سواح!…”

لكن أي وصف للسعادة يمكن أن يحيط به الآن؟

إنه ليس مجرد سعيد، بل مبهور بنفسه، بالحياة، باللحظة التي تسحبه من بين هموم الدنيا إلى فضاء واسع لا نهاية له… كاد أن يحلّق من شدة النشوة، كأن الطريق تحوّل إلى جناحين ممتدين أمامه.

فإذا كانت حالته هكذا وهو لم يرها بعد، فكيف ستكون حين تقع عيناه عليها؟

أي زلزال داخلي سيهز كيانه إذا كانت مجرد فكرة اللقاء بها قد أطلقته في هذا الجنون البهيج!

لقد وقع قلبه بالفعل، وقع بعمق، وما ينتظره هو فقط اللحظة التي يُثبت له أن كل هذا الشوق لم يكن عبثًا.

_____________________

ترجل محمود من سيارته بخطوات ثابتة، رفع بصره فالتقت عيناه بنظرة شقيقه داود الذي يجلس في الورشة، وأشار إليه بيده محركًا شفتيه بنبرة ودودة:

“محمود..”

ارتسمت على وجه محمود ابتسامة سريعة، وأجاب بحركة من رأسه قبل أن يتوجه إلى الداخل.

“سلام عليكم”

ارتفعت الأصوات مرحبة، وأجابه الجميع بسلام مماثل، ثم جلس في مواجهة شقيقه مصطفى الذي سأله، وهو يميل بجسده للأمام:

“أومال جاي النهاردة بدري ليه؟.. فيه حاجة حصلت؟”

هز محمود رأسه نافياً، ثم أطلق تنهيدة صغيرة، وأجاب بصدق عفوي:

“لا ولا حاجة.. خلقي ضاق من قعدة المكتب، خلصت شوية حاجات وسيبت كريم يكمل هناك.. قلت أجي هنا يمكن نفسي تتعدل، وعلى فكرة.. قابلت ابنك وأنا جاي، كان سايق عربيتك.”

لمعت عينا داود وهو يضع ما بيده جانبًا، وردّ بنبرة هادئة لكنها واثقة:

“آه.. واخدها علشان يروح يجيب يحيى وبنته من المطار.”

ارتسمت الدهشة على وجهي محمود ومصطفى في آن واحد، وكأن الخبر أثار داخلهما تساؤلات دفينة.

وأسرع محمود بنبرة مدهوشة:

“يحيى مين! يحيى جارنا؟”

ابتسم داود ابتسامة خفيفة شابها شيء من التذكير:

“اللي كان جارنا.. ده داخل على 12 سنة برا البلد.”

تدخل مصطفى بدهشة حقيقية، وقد رفع حاجبيه:

“وايه اللي مرجعه دلوقتي بقى؟”

تبادل داود النظرات مع مصطفى، ثم أجاب بصوت منخفض لكن واضح:

“راجع علشان يحضر فرح ابنه يا بني.. ناسي إن كتب كتاب الواد بعد بكره؟”

ارتخى جسد مصطفى للخلف وهو يربت على فخذه مرددًا:

“آه صحيح..”

أما محمود، فلم يقتنع بسهولة، بل ارتسم على وجهه ارتباك حقيقي وهو يقول:

“بس أنا كنت سامع إنه مش جاي.. هبة مراتي كانت بتقول كده.”

تغيرت نبرة داود قليلًا وهو ينظر مباشرة في عينيه، كأنه يزن كلماته بعناية:

“ما هو فعلاً ماكانش ناوي ينزل.”

“وليه بقى؟! إيه السبب اللي يخليه مايحضرش فرح ابنه الوحيد؟”

ساد لحظة صمت ثقيل، لم يقطعها سوى حركة داود وهو يشيح ببصره نحو مصطفى الذي ألقى السؤال، ثم قال بنبرة حاسمة يختلط فيها الأسف بالواقعية:

“علشان ماكنش موافق على الجوازة.. لحد آخر لحظة كان رافض إن سامي يخطب البنت اللي هيتجوزها.”

انعقد حاجبا محمود، وأطلق سؤاله بدهشة صافية:

“ليه مالها البنت يعني؟”

تردد صوت داود هذه المرة ببطء، كأنه يُلقي حجراً في بحيرة راكدة:

“مطلقة.. ومعاها ولد.”

اتسعت حدقتا مصطفى وهو يحدّق بدهشة في ملامح شقيقه، قبل أن يردف بصوت متحشرج:

“أنت بتتكلم بجد؟!”

أجابه داود بنبرة جازمة وقد اعتدل في جلسته:

“أومال هكون بهزر في حاجة زي دي يا مصطفى؟”

ظلّ مصطفى واجمًا لحظات، كأن عقله يحاول استيعاب ما سمعه، ثم تمتم في تردد:

“أنا مندهش بس… يعني إيه اللي يخلي واحد زي سامي يتجوز واحدة مطلقة ومعاها ولد؟ ليه يرمي نفسه في مسؤولية تقيلة كده بدري؟”

تنحنح داود وألقى بنظرة جانبية نحو محمود، ثم قال:

“اهي دي بالظبط النقطة اللي أبوه كان واقف عندها… ليه؟ وليه عايز يشيل شيلة تقيلة بالشكل ده من دلوقتي؟… يحيى ما سيبش باب للنقاش إلا وطرقه معاه، حاول يقنعه يرجع عن قراره لكن الواد ما رجعش، بالعكس… راح خطبها بنفسه وحدد الفرح وكل التفاصيل.. ساعتها يحيى اتعصب وقال له: أنا مش موافق ومش حاضر فرحك حتى.”

سكت للحظة ثم تابع بلهجة متزنة:

“بس من يومين نادية اتصلت بيه… قدرت تلين قلبه بالكلام، وحكِت له إن مهما كان، ده ابنه الوحيد، في الآخر وافق ينزل هو وبنته ويحضر الفرح.”

هز مصطفى رأسه في حيرة، ما زال غير قادر على استيعاب الصورة:

“بس برضه… ليه سامي عمل كده؟ الواد موظف في البنك، حالته كويسة، ولسه في عز شبابه… إيه اللي يخليه يشيل شيلة مش بتاعته؟!”

أطلق محمود تنهيدة طويلة، ثم قال برتابة كأنه يذكّرهم بما يعرفونه جميعًا:

“سامي طول عمره شايل المسؤولية… من يوم ما اتطلقوا أبوه وأمه، وحياته كلها اتشقلبت.. أبوه سافر وخد أخته معاه، وسامي بقى راجل البيت من يومها.. شال الحمل مع أمه في كل حاجة، خصوصًا لما النفقة اللي أبوه كان بيبعتها ما كانتش مكفية حتى مصروف أسبوع، ساعتها بدأ يشتغل وهو لسه بيدرس… كان يطلع من المدرسة ويروح السوبر ماركت عند أخوك أحمد الفترة المسائية، والجمعة والسبت يشتغل عند داود باليومية.. كل ده وهو لسه عنده سبعة عشر سنة… بس علشان يخفف على أمه ويوقف جنبها… هي كانت لسه في أول مشوارها في الخياطة وما كانش ليها اسم زي دلوقتي.”

ساد الصمت لبرهة، قبل أن يهمس مصطفى بإعجاب لم يستطع إخفاءه:

“ده طلع راجل بجد…”

ابتسم داود ابتسامة صغيرة، وعيناه فيهما قدر من الفخر:

“قول بمية راجل… قليل أوي اللي زيه في الزمن ده، ربنا يحفظه ويسعده ويخليه سند لأهله.”

لم يترددا لحظة، فالتقت أصواتهما معًا في دعاء واحد:

“آمين.”

_____________________

وقف بجوار سيارة والده، والهواء من حوله مشحون بمزيج غريب من التوتر والحماسة والفرحة المخبأة في قلبه منذ زمن.

خطواته لم تعرف السكون، راح يذرع المكان ذهاباً وإياباً بعينين تتعلقان بباب الخروج، وكأن العالم كله قد انحصر في تلك اللحظة التي ستظهر فيها وجه من انتظرها.

لم يكن يعرف كيف تبدو فيروز بعد كل هذه السنوات، كل ما يملكه عنها مجرد صور متخيلة رسمها عقله مراراً: ملامح أنثى تتشكل على مهل، تتبدل تفاصيلها كل مرة وفقاً لشوقه وحنينه… لكنه اليوم سيضع نهاية لتلك التخيلات، اليوم سيرى الحقيقة.

وفجأة، تجمدت قدماه في مكانه حين لمح هيئة مألوفة وسط الخارجين… ملامح يحيى التي لم تغيرها السنوات، وكأن الزمن مرّ بجانبه وترك خطوطاً خفيفة فقط، لا تمس أصله ولا هيبته.

خرج الرجل بخطوات ثابتة وهو يسحب حقيبة متوسطة الحجم تعلوها حقيبة صغيرة سوداء.

غير أن أنفاس موسى اختنقت حين انصبت عيناه على من كانت تسير خلف والدها… هي.

التي لم يرها منذ اثنتي عشرة سنة كاملة…

تقدمت بخطوات رقيقة تمسك بذراع والدها، فبدت كأنها جزء منه لا ينفصل، كانت فتاة متوسطة الطول، قمحية البشرة، عيناها البنيتان الداكنتان تُرى من بعيد كأنهما سوداوان، تحفهما رموش كثيفة تزيد من عمقهما.

ثيابها بسيطة، لكنها كانت تحمل حضوراً خاصاً: تيشرت أبيض وفوقه سترة قماشية بلون بيج، وبنطال فضفاض من اللون نفسه، حجاب متناسق، وحذاء رياضي أبيض بدا كأنه يكمل الصورة ببراءة وهدوء.

وقفت بجوار والدها تنتظر من سيأتي لاصطحابهما، غير عالمة أن من تترقبه عيناها من بعيد هو نفسه الذي ظل قلبه معلقاً بها لسنوات.

أما موسى، فكان يطالعها بعينين ممتلئتين بحنين مؤلم، وبسمة لم يستطع أن يخفيها مهما حاول.. قلبه يخفق بعنف، يكاد يندفع من صدره، وهو يردد داخله:

ها هي… أخيراً

.

لكن سرعان ما استعاد وعيه، أدرك أنه لا بد أن يخطو أولى خطوات اللقاء، فاقترب قليلاً، رفع صوته ليستجمع انتباههما قائلاً:

“عمي يحيى!”

التفت الاثنان نحوه، فتقدم معرفاً بنفسه بابتسامة هادئة حاول أن يُخفي بها ارتباكه:

“أنا موسى… موسى داود… أظن خالتي نادية قالت لحضرتك إني هاستقبلكم.”

ابتسمت فيروز فور أن رأته أمامها، عيناها اتسعتا بدهشة امتزجت بتصديق بطيء، أما يحيى فارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وهو يمد يده مصافحاً بحرارة قائلاً:

“أهلاً! والله ما عرفتك… كبرت وطولت يا موسى! ده أنا سايبك ولد صغير ما يوصلش لكتفي.. عامل إيه؟ وأبوك بخير؟ أخباركم كلكم إيه؟”

ابتسم موسى بخجل ممزوج بالفرح وأجاب بصوت ثابت رغم خفقانه:

“الحمد لله كلنا بخير… حمد الله على السلامة.”

“الله يسلمك… مش مصدق إنك موسى لحد دلوقتي، اتغيرت كتير بجد.”

رد موسى بابتسامة خفيفة وفي عينيه بريق ماضٍ لا يغيب:

“طبيعي أتغير… دول مش سنة ولا اتنين، دول اتناشر سنة.”

هز يحيى رأسه موافقاً، وكأن قلبه هو الآخر استشعر وطأة الغياب:

“مظبوط… العمر عدى بسرعة.”

أومأ موسى برأسه مبتسمًا ابتسامة هادئة، ثم سحب يده برفق من يد يحيى، لينقل نظره إلى فيروز التي كانت واقفة على مقربة، وقال بنبرة رصينة مهذبة:

“حمد لله عالسلامة يا فيروز.”

ابتسمت له ابتسامة صغيرة، يتخللها شيء من الدهشة، وردّت بخفوت:

“الله يسلمك يا موسى.. اتغيرت أوي فعلًا.”

لم يتردد موسى وهو يجيبها بعفوية طفولية تسللت رغماً عنه:

“وإنتِ كمان اتغيرتِ.. وبقيتِ أحلى… قصدي كبرتي.. كبرتي أوي.”

وفي نهاية جملته بدا التوتر واضحًا في صوته، وكأن الكلمات أفلتت من قلبه قبل لسانه. حاول التدارك سريعًا، فابتسم وهو يشير بيده نحو سيارته المصطفة بجوار الرصيف:

“هنمشي؟.. العربية هِي.”

رد يحيى بهزّة رأس مقتضبة:

“أكيد.. يلا.”

قال موسى بأدب وهو يخطو نحو السيارة:

“اتفضلوا.”

تحرّك يحيى نحو الحقائب ليرفعها، لكن يد موسى سبقت يده لتوقفه بلطف:

“عنك يا عمي.. أنا هشيلها.”

اعترض يحيى بابتسامة متواضعة:

“مالوش لزوم.. مش تقال، أنا هشيلهم عادي.”

لكن موسى أصرّ، وصوته يحمل ما يشبه الرجاء:

“لا لا.. أنا هشيلهم.. عنك.”

لم يرد يحيى أكثر، فاكتفى بالتنحي جانبًا، تاركًا موسى ينحنى ويحمل الحقائب واحدة تلو الأخرى بخفة ملحوظة، وضعها في الحقيبة الخلفية للسيارة، ثم استقام واقفًا وهو يلتقط أنفاسه القصيرة.

تقدّم الثلاثة نحو السيارة، فأسرع موسى ليفتح الباب لفيروز بابتسامة رقيقة كأنها تحكي سنوات من الود المكبوت:

“اتفضلي.”

بادلته فيروز ابتسامة خجولة وهي تهمّ بالصعود:

“شكرًا.”

هزّ رأسه مبتسمًا وأغلق الباب خلفها برفق، ثم دار حول السيارة وصعد إلى مقعده بعد أن تأكد من جلوس الجميع. وانطلقت السيارة بهدوء، وصوت المحرّك يكسر لحظات الصمت المتكلفة.

وبينما كان موسى يركّز عينيه على الطريق، لم يستطع أن يمنع نفسه من إلقاء نظرة خاطفة عبر المرآة الخلفية… هناك، جلست فيروز ساكنة، شفتيها ترتسمان بابتسامة خافتة وهي تراقب ملامحه.

هي تراه صديق الطفولة، الرفيق الذي شاركته ألعابها وضحكاتها البريئة… أما هو، فكان قلبه يراه شيئًا آخر.. لم تكن مجرد صديقة في عينيه، بل هي الحلم الذي ظلّ يراوده، الحبيبة التي لطالما تمنّاها، والتي ما زال يحتفظ بها في داخله كسرٍّ لا يبوح به.

_____________________

في جهة أخري…

كانت دلال تتحرك بهدوء في أرجاء شقتها، تنفض الوسادات برفق وتعيد ترتيبها على المقاعد في غرفة المعيشة، كأنها تسعى أن يظل كل شيء مرتبًا كما تحب.

التقطت الأطباق الفارغة عن الطاولة، وسارت بها إلى المطبخ بخطوات اعتيادية، لكن فجأة قاطعها صوت رنين هاتفها القادم من الخارج.

وضعت الأطباق على عجل فوق الطاولة، ثم أسرعت نحو الأريكة لتلتقط الهاتف، فإذا بالاسم المضيء على الشاشة:

“عبير.. زوجة أخيها.”

فتحت الخط سريعًا، وجاء صوتها ودودًا:

“ألو!”

“ألو يا دلال.. عاملة إيه يا حبيبتي؟”

ابتسمت دلال بدفأ، وقالت بحنو:

“الحمد لله يا عبير.. إنتِ عاملة إيه واللي عندك عاملين إزاي؟”

ردّت عبير بنبرة مطمئنة:

“الحمد لله كلنا بخير.. أنا بس كنت عايزة أسألك عن دوا الضغط بتاع أخوكي، موجود في الصيدلية ولا خلص؟”

قطّبت دلال جبينها قليلًا، ثم أسرعت تقول:

“دوا الضغط!.. آه موجود لسه منه.. لو محتجاه ضروري ممكن أنزل أجيبهولك دلوقتي، علشان البنت في الصيدلية واخدة أجازة.”

قاطعتها عبير بلطف حازم:

“لا لا، تنزلي إيه دلوقتي!.. بصي، موسى كده كده جاي لك النهاردة.. اديله المفتاح وهو يجيبه، هو عارف اسمه وشكل العلبة.”

تنفست دلال بارتياح، وقالت:

ـ “تمام، مفيش مشكلة.. طب هو هييجي إمتى تقريبًا؟”

ترددت عبير للحظة ثم قالت:

“مش عارفة بالظبط.. هو دلوقتي راح يجيب فيروز وأبوها من المطار، يمكن لما يخلص يعدي عليك.”

توقفت أنفاس دلال لحظة، وعيناها اتسعتا بدهشة وهي تكرر:

“ثانية.. إنتي قلتي فيروز؟!”

ابتسم صوت عبير على الطرف الآخر:

“أيوه، فيروز.. نزلت هي وأبوها علشان يحضروا فرح أخوها سامي.”

لم تتمالك دلال نفسها، ارتسمت على وجهها ابتسامة صادقة وهي تقول:

“بجد؟! يا خبر.. دي مفاجأة حلوة أوي.. هشوفها بعد السنين دي كلها!”

أجابت عبير متذكرة:

“صح، ما إنتوا كنتوا أصحاب وإنتوا صغيرين.”

أخفضت دلال صوتها قليلًا، وهي تنطق بخبث رقيق:

“مظبوط.. كنت أنا وهي.. و موسى.”

ضحكت عبير بخفة، وقالت:

“خلاص، جاتلكم الفرصة تشوفوا بعض تاني بعد السنين دي كلها.”

“فرصة جميلة.. جميلة أوي.”

ثم قالت عبير على عجل:

“طيب أنا هقفل دلوقتي، علشان الأكل على النار.”

“ماشي يا حبيبتي.. مع السلامة.”

“مع السلامة.”

أنهت دلال المكالمة ببطء، وضعت الهاتف على المنضدة أمامها، ثم جلست على الأريكة، وراحت تبتسم ابتسامة عريضة، تتأمل شيئًا لا يراه أحد سواها، ثم همست لنفسها بفرح واضح:

“فيروز رجعت.. آه.. هو دلوقتي أكيد طاير من الفرحة.. وأنا مبسوطة له بجد.”

كانت تلك البسمة الواسعة على شفتيها، وتلك اللمعة اللامعة في عينيها، أكبر دليل على صدق مشاعرها.. لقد كانت فرحته تسعدها من أعماقها، كأنها تخصها هي أيضًا.. وكيف لا؟.. وهو توأم روحها.

_______________

____

في جهة أخرى….

كان موسى يقود السيارة بهدوء، وبسمة خفيفة مستقرة على شفتيه، كأنها وُلدت من طمأنينة داخلية أكثر من كونها مجرّد مظهر.

كان بين الحين والآخر يسرق نظرة سريعة إلى المرآة، حيث تنعكس ملامحها، وكأنه يتأكد من وجودها إلى جواره، بينما هي كانت منشغلة بمتابعة الطريق الممتد حولهما، تسترجع بعينيها كل زاوية من تلك البلدة التي غابت عنها طويلًا.

قطع والدها الصمت، خرج صوته هادئًا لكن يحمل في نبراته حنينًا مترددًا:

“قولي يا موسى… المنطقة اتغيرت ولا لسه زي ما هي؟”

ألقى موسى نظرة عابرة على المقعد المجاور، ثم عاد بعينيه إلى الطريق الممدود أمامه قبل أن يجيب:

“آه ولأ… يعني ما اتغيرتش كتير.. في بيوت جديدة اتبنت، ومحلات اتجدّدت… حاجات بسيطة كده.”

أومأ يحيى برأسه كأنه يقيس الكلمات بميزان الذكريات، ثم تابع بصوت أكثر دفئًا:

“طب أبوك!.. أبوك لسه شغال مع جدك في الورشة؟”

“لا… بقى هو المسؤول عن الورشة… جدي خلاص بطل شغل.”

ارتسمت على ملامح يحيى دهشة مشوبة بإعجاب:

“يعني جدك ساب الورشة لأبوك!”

“أيوه.”

“طب أعمامك؟!.. ما اعترضوش ولا حاجة؟”

أجاب موسى بابتسامة صغيرة بدت أقرب إلى الرضا:

“لا خالص… كل واحد فتح مشروعه الخاص برأس المال اللي جدي عطاه ليه.. اتفقوا إن كل واحد خد نصيبه وخلاص.”

ظل يحيى يتابع بخيط من الفضول الحيّ، يفتش عن صورة العائلة في رأسه قطعة قطعة:

“طب وعمّاتك؟”

ارتسم شيء من الاحترام على ملامح موسى وهو يرد:

“جدي فتح لكل واحدة حساب في البنك وعطاها نصيبها، وكل واحدة تتصرّف فيه زي ما تحب.”

هزّ يحيى رأسه متمتمًا وكأنه يحدث نفسه:

“يعني جدك عطى لكل واحد نصيبه… طب والعمارة! مين هياخدها؟”

تحرّكت يد موسى بخفوت على المقود، وعاد صوته أكثر حذرًا:

“مفيش حد… كل واحد شقته ملكه.”

تقلّب وجه يحيى بالفضول من جديد:

“طب شقة عمك مصطفى… فاضية ولا أجرتوها؟”

ضحك موسى ضحكة قصيرة نفى بها الأمر:

“إيجار إيه بس! هو بييجي كل مناسبة يقعد فيها فترة وبعدين يمشي.. ولما بيمشي بتتقفل، حتى لو قرر يقعد على طول بعدين هتفضل موجودة.. جدي أصلًا رافض فكرة الإيجار.”

تأمل يحيى المعلومة، ثم عاد بنبرة متسائلة:

“ما كان ممكن حد من ولاد عمك يسكن فيها!”

هزّ موسى رأسه وهو يعيد عينيه للطريق:

“ولاد عمي كل واحد اتجوز وسكن في منطقة.. مفيش غير بلال وعزت ساكنين في نفس العمارة.. أما كريم وفادي، كل واحد فيهم ساكن في منطقة تانية.”

“طب… وأنت؟”

التفت موسى قليلًا كأنه فوجئ بالسؤال:

“أنا إيه؟!”

“أنت تسكن فيها لما تتجوز، إيه… أنت خاطب ولا مرتبط؟”

ساد لحظة صمت قصيرة قبل أن يرد موسى بهدوء متعمد:

“لا… لا خاطب ولا مرتبط، وبالنسبة للشقة… لسه ما عنديش خطط.. لسه ما قررتش.”

“يعني لسه مفيش نصيب؟”

أومأ موسى بنفي بسيط وهي يجيب ببسمة هادئة:

“لا… لسه ربنا ما أرادش.”

“ربنا يبعتلك بنت الحلال، ونفرح بيك قريب.”

ابتسم له موسى بإمتنان قبل أن ينظر صوب المرآة ببريقٍ واضح، ثم تمتم بنبرة بالكاد تُسمع:

“ما تبعتت خلاص.”

قطّب يحيى حاجبيه، وسأل:

“قلت حاجة؟”

تدارك موسى الأمر سريعًا، مشدودًا إلى الطريق أمامه:

“بقول يا رب… بقول يا رب يجمعني بنصيبي قريب.”

ابتسم يحيى ابتسامة راضية، وردّد بصوت خافت:

“يا رب.”

تسللت لحظة صمت أخرى، كأنها مساحة للتأمل، قبل أن يقطعها يحيى مستفسرًا:

“هو انت صحيح خريج إيه يا موسى؟”

لاحظت فيروز _التي انتبهت للحديث منذ البداية_ من مقعدها كيف تلاشت ابتسامة موسى على الفور، كأن السؤال مسّ وترًا خفيًا.

التفت سريعًا نحو يحيى ثم أعاد بصره للطريق مرددًا:

“أنا… دبلوم، ما كملتش بعد التجارة.”

ارتفع صوت يحيى باستنكار لطيف:

“ليه كده؟! ما دخلتش كلية ليه؟”

أخرج موسى زفرة طويلة، بدت أثقل من مجرد جواب:

“تقدر تقول نصيب.. ما كانش ليا هوى لأي كلية بعد التجارة.. فقررت أكتفي بالدبلوم وخلاص.”

ظل يحيى يتأمله لحظة، قبل أن يتابع فضوله بصوت أكثر جدية:

“طب… أنت شغال إيه دلوقتي؟”

سكت موسى قليلًا، كأنه يبحث عن الكلمات المناسبة، ثم قال بصوت متزن:

“مش شغال يعني.. أنا فاتح مشروع.. أنا وسامي وصحابنا فاتحين مشروع.”

رفع يحيى حاجبيه بدهشة مصطنعة:

“ثانية!..انت قصدك علي السايبر؟!..سامي كان قايلي.”

أومأ موسى بالإيجاب، ثم أردف بجدية هادئة:

“آه.. السايبر.”

ضحك يحيى بخفة ممزوجة بالاستنكار:

“طب مفيش حاجة جنب السايبر ده.. مش شغال مع ابوك ولا حد من أعمامك حتى؟!”

هز موسى رأسه بثقة، ثم أجاب:

“لا… مش حابب الشغل مع حد من العيلة.. تقدر تقول عايز أعتمد على نفسي.”

التفت يحيى نحوه، وصوته حمل شيئًا من التحذير:

“هتعتمد على نفسك إزاي يابني بالفلوس اللي بتطلعلك من السايبر؟ يعني أكيد الفلوس اللي بتطلع مش بتكفي.”

رفع موسى عينيه سريعًا، كأنه يرفض التشكيك داخله، ثم قال بجدية صلبة لا تخلو من الإصرار:

“بتكفي.. ممكن حضرتك شايفه مجرد سايبر.. بس أنا مش شايفه كده خالص.”

ابتسم يحيى بسخرية باهتة، وهو يحاول استفزازه:

“شايفه إيه يعني؟.. شركة؟”

كاد موسى أن يرد برد يحمل كل ما بداخله من حماس، لكن صوته اختنق للحظة، قبل أن تقطع فيروز الصمت بنبرة حاولت أن تكون جسرًا بينهم:

“خلاص بقى يابابا.. أكيد موسى عنده وجهة نظر وترتيبات مختلفة مخلياه يقول كده.. مش لازم نعرفها يعني.”

أنهت كلامها وهي تميل بنظراتها قليلًا نحو موسى، نظرة دعم واضحة انعكست في عينيها، فابتسم لها بإمتنان عميق، وهو يطالعها من خلال المرآة وكأنها أنقذته من مواجهة لم يرغب فيها.

التفت يحيى سريعًا لتبرير نبرته السابقة، كأنه استشعر حدّته:

“أنا ماكنش قصدي أضغط عليه، أنا سألت بس من دافع الفضول مش أكتر… أوعي تكون زعلت ياموسى.”

أجابه موسى بابتسامة هادئة ونبرة ثابتة:

“لأ عادي ياعمي… أزعل ليه بس.. حضرتك سألت وأنا جاوبت، ممكن إجابتي غامضة بس جاوبت في النهاية.”

ضحك يحيى ضحكة قصيرة وقال بنبرة إعجاب خفية:

“انت مش سهل ياواد… بتعرف تلعب بالكلام، واخد الصفة دي من جدك.”

رفع موسى رأسه بفخر، وكأن ذكر الجد أيقظ فيه الاعتزاز:

“ده أنا أفتخر إني واخدها بقى.”

قهقه يحيى بخفة، ثم أعاد النظر إليه متأملًا:

“حفيد محمد عمران بجد.. شبهه أوي.”

ابتسم موسى ابتسامة واسعة، وعيناه تتألقان بشيء من العزة:

“برده أفتخر بده.”

ضحك يحيى مرة أخرى بخفة، ثم عاد يطالع الطريق أمامه ببسمة هادئة. أما موسى، فقد ظلّ يسرق النظر إلى المرآة بين الحين والآخر، حيث كانت فيروز تجلس في المقعد الخلفي، تبتسم له بهدوء.. ابتسامة خفيفة لكنها تحمل له طمأنينة غريبة.

_____________________

مع مرور الوقت…

وصلت السيارة إلى وجهتها، وتوقفت بهدوء أمام بيت موسى، حيث يقابله بيت يحيى.

ترجل الثلاثة تباعاً، وفي اللحظة التي لامست فيها قدما يحيى أرض الحارة، تجمد لثوانٍ يتأمل المكان بعينين مثقلتين بالغياب، وكأن الجدران القديمة والأبواب الموصدة تهمس له بحكايات رحيله الطويل.

أما فيروز، فقد توقفت أنظارها على شقتهم، وتلبست ملامحها مسحة من حزن شفيف ممتزج بشوق دفين، حتى بدا وكأنها تحاور المنزل بصمت، تسترجع معه أياماً لم تعد كما كانت.

انحنى موسى نحو السيارة، يسحب الحقائب بيديه، إلا أن يداً أخرى امتدت لمساعدته، وصوت مألوف قال وهو يلتقط إحدى الحقائب:

“عنك يا موسى.”

رفع موسى رأسه نحو الصوت، ليجد أمامه تامر، أحد عمال الورشة. ابتسم موسى بعفوية، وسرعان ما بادر قائلاً:

“مالوش لزوم يا تامر.. أنا هطلعهم.”

حاول تامر الاعتراض بهدوء:

“لا لا.. أنا هطلعهم.. بس دي شقة الأستاذ سامي، صح؟”

أومأ موسى بثقة وهو يتشبث بالحقائب:

“أيوه، شقة الأستاذ سامي.”

التفت موسى بعينيه نحو الورشة، ثم عاد يسأل:

“طيب.. اومال فين الحاج؟”

أجابه تامر وهو ما يزال ممسكاً بالشنط:

“راح هو واعمامك يصلوا العصر.”

اكتفى موسى بهزة رأس خفيفة، بينما تابع تامر بحماسة:

“أنا هطلع الشنط فوق.. متشيلش هم.”

وفي تلك اللحظة، التفت تامر نحو يحيى، وبسط ابتسامة ودودة وهو يقول باحترام:

“حمد لله على السلامة يا أستاذ يحيى.. نورتوا المنطقة.”

أجابه يحيى بابتسامة هادئة امتزجت فيها لمسة دفء:

“منورة بأهلها دايماً.”

أضاءت ابتسامة سريعة وجه تامر، ثم اعتذر قائلاً:

“عن إذنك.”

ومضى بخطوات نشيطة يصعد بالحقائب، بينما وقف موسى بجوار السيارة يتابع المشهد للحظة، قبل أن يلتفت نحو يحيى قائلاً بنبرة أقرب للفخر:

“ده تامر.. شغال في الورشة من أيام ما كان عيل في ابتدائي.. علشان كده عارف حضرتك.”

أومأ يحيى برأسه موافقاً، ثم تنهد قائلاً:

“آه.. قول كده.”

التفت موسى بعدها ليتأمل فيروز للحظة، رآها متسمّرة في مكانها تحدّق في شقتهم وكأن الزمن توقف عند عتبة ذلك الباب القديم.

فالتفت نحو يحيى بصوت خافت يشوبه دفء مكتوم:

“أظن لازم تطلعوا دلوقتي، علشان في حد هنا مشتاق.”

فهمت فيروز على الفور أنّه يقصدها، فحركت نظراتها نحوه ببطء، ثم رسمت ابتسامة هادئة على شفتيها، ابتسامة لم تكن عابرة بل مثقلة بما تحمله من حنين.

وتلك اللحظة كانت كافية لتعيد قلب موسى إلى خفقانه الأول، قلبه الذي حاول مرارًا أن يروضه، فإذا به يرتجف أمام نظرة واحدة منها.

دام الصمت بينهما كأنهما وحدهما في العالم، لولا صوت يحيى الذي شقّ تلك اللحظة الهشة وهو يقول برقة الأب:

“يلا نطلع يا فيروز.”

استدارت فيروز نحو والدها، أطاعته بإيماءة هادئة وهمست:

“يلا.”

أما موسى، فكان واقفًا يلتهمها بعينيه دون أن يجرؤ على قول كلمة، حتى قاطعه صوت يحيى:

“طب عن إذنك يا موسى.”

أجاب موسى ببرود يخفي اضطرابه، دون أن ينظر إليه:

“إذنك معاك يا عمي.”

“أشوفك بعدين.”

أومأ موسى فقط، ثم راح يتابع بخطوات بطيئة أثر فيروز وهي تختفي مع والدها عبر مدخل البيت. عيناه تتبعانها حتى آخر لحظة، وبسمة صغيرة، شبه هائمة، رسمت على وجهه وكأنها اعتراف صامت لم يستطع أن يبوح به.

لكن صوت أقدام تامر قطع شروده، فنظر له وقال بإمتنان:

“تشكر يا تيمو.”

ابتسم تامر بخفة وهو يلوّح:

“العفو يا برنس.”

اتجه نحو الورشة، بينما ظل موسى واقفًا للحظة أخرى، يسرق نظرة أخيرة نحو المدخل قبل أن تناديه والدته فجأة من الشرفة:

“جيت من إمتى؟!”

رفع رأسه نحوها وأجاب:

“من شوية.”

“كويس.. روح عند عمتك وخد منها مفتاح الصيدلية علشان تجيب دوا الضغط بتاع أبوك.”

زفر بضيق، وكأن المهمة أثقلت على قلبٍ مشغول بغيرها:

“ضروري يعني؟!”

ردّت بصرامة:

“موسى!”

أخفض رأسه مستسلمًا، ثم قال:

“خلاص ماشي.. هاروح، هاصلي بس العصر وبعدين أبقى أعدي عليها.”

أومأت بارتياح، ثم أضافت محذّرة:

“ما تنساش!”

ابتسم بتململ، وقال:

“ما تخافيش.. مش هنسي. يلا ادخلي.”

ظل يراقبها وهي تدخل الشقة، ثم التفت ببطء، ألقى نظرة جانبية أخيرة على شقة صديقه، تنهد تنهيدة طويلة حملت شيئًا من الشجن، ثم تحرّك إلى الجامع ليصلي العصر.

بعد دقائق قليلة…

خرج من المسجد، واتجه نحو بيت عمته، التي كانت جالسة في غرفة المعيشة، غارقة في أجواء التلفاز وضوءه الهادئ ينعكس على ملامحها.

كان الجو ساكنًا، حتى اخترقه صوت الجرس فجأة…

وضعت جهاز التحكم على الطاولة أمامها، ونهضت بخطوات هادئة نحو الباب… وفتحته، وما إن وقع بصرها على الطارق حتى رسمت على وجهها ابتسامة تحمل شيئًا من الترقب، وقالت بهدوء مائل إلى الدفء:

“كنت مستنياك…”

#يتبع…

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق