رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثامن 8 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثامن

الفصل الثامن(واقع في الحُبِ)

الفصل الثامن(واقع في الحُبِ)

صلوا علي شفيعنا يوم القيامة…

فولو وفوت وكومنت برأيكم ياقمرات…

نبدأ بسم الله…

_____________________

قد نتعب من الحديث مع الآخرين، بل ونمل أحيانًا من حوارنا مع أنفسنا، لكن هناك أشخاصٌ بعينهم يختلفون عن الجميع؛ لا يثقلنا الحديث معهم ولا نعرف معهم الملل.

أشبه بكتاب نكتبه بأحرفنا، نضع فيه ما نُخفيه في قلوبنا قبل أن يُترجم على ألسنتنا… هو الصديق الذي يسمعنا أكثر مما نسمع أنفسنا، الصديق الذي نلجأ إليه كملاذٍ عزيز.

كانت دلال جالسة في غرفة المعيشة بعد صلاة العصر، غارقة في أجواء فيلمٍ قديم يُعرض على شاشة التلفاز، عينان ثابتتان وابتسامة عابرة تلوح كلما مر مشهدٌ يأسرها.

بدا وكأن اللحظة تحتضنها في هدوئها حتى جاء صوت رنين الجرس ليشق السكون… مدت يدها ووضعت جهاز التحكم على المنضدة الصغيرة أمامها، ثم نهضت بخطى متأنية نحو الباب.

وما إن فتحته حتى ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة ممزوجة بالارتياح وهي تهمس:

“كنت مستنياك.”

وقف موسى أمامها بملامح متجهمة ويدٍ ممدودة بضجر:

“جيبي المفتاح… خلصيني يلا!”

أشارت له بيدها تدعوه إلى الداخل:

“ادخل الأول.”

هز رأسه نافد الصبر:

“مش عايز أدخل.. يلا جيبه خليني أنزل.”

تشبثت بلهجتها الجادة رغم ابتسامتها الصغيرة:

“ادخل، عايزاك في كلمتين مهمين والله.”

“من إمتى وكلامك مهم؟”

زفرت بضيق ثم ردت بحزمٍ خفيف:

“بلاش غتاتة وادخل يلا.”

دخل موسى كمن استسلم للأمر الواقع، ورمى بجسده على الأريكة قائلاً باستياء:

“هدخل وأمري لله.. عالله يطلع الموضوع تافه زي كل مرة.”

أغلقت دلال الباب، ثم استدارت نحوه بلمعة خبثٍ في عينيها وهي تقول:

“من ناحية إنه تافه، فهو مش تافه خالص.. وبالذات بالنسبة لك.”

انعقد حاجباه في استغراب، وقال:

“مش فاهم! وضحي كلامك.”

اقتربت منه بخطواتٍ محسوبة ثم غيّرت نبرتها فجأة:

“هاوضحه حاضر.. بس الأول، تحب تشرب إيه؟”

لوّح بيده، ورد ببرود:

“مش عايز أشرب حاجة.”

“تمام.. هاقدملك عصير مانجا.”

ولجت إلى المطبخ بخفةٍ متعمدة، بينما موسى يرمقها بعينين ضيقتين ويتمتم بضيق:

“إنتِ ما فهمتنيش.. ولا حتى سمعتي اللي قلته.”

ارتد صوتها من المطبخ بمرحٍ متعمد:

“كلامك معجبنيش، فعملت نفسي ما سمعتوش.”

هز رأسه متنهداً، وخرجت من بين شفتيه كلمة هامسة:

“علشان مستفزة.”

وفي تلك اللحظة عادت دلال من المطبخ تحمل صينية أنيقة عليها كوب عصير بارد، وضعتها أمامه بابتسامة هادئة، وقالت بنبرة خفيفة فيها شيء من الثقة:

“اتفضل.”

تناول موسى الكوب من يدها دون أن يكلف نفسه عناء شكرها، وارتشف العصير دفعة واحدة حتى فرغ الكوب بين يديه قبل أن تأخذ دلال مكانها على المقعد.

ضحكت بخفة وقالت وهي ترفع حاجبها:

“تحب أجيبلك واحد كمان؟”

وضع الكوب على المنضدة وأجاب ببرودٍ مُتعمد:

“لا، ده كفاية.”

جلست دلال مقابله، تراقبه بصمت، بينما مد موسى يده إلى جيب بنطاله وأخرج عبوة عصير بنكهة الجوافة، ووضعها أمامها قائلاً بنبرة فاترة:

“خدي.”

نظرت دلال إلى العبوة بدهشة وقد ارتسمت على ملامحها علامات استغراب:

“إيه ده؟!”

رد باقتضاب وهو يشيح ببصره عنها:

“عصير، مش شايفة؟”

ضحكت بسخرية لطيفة وقالت:

“عارفة إنه عصير، بس إيه مناسبة إنك تجيبهولي يعني؟!”

أعاد نظره نحو الأرض، وأجاب ببرودٍ أكثر:

“مفيش… كنت شاريه من عند أخوكي وفاض مني… قلت أجيبهولك بدل ما أرميه.”

ضيّقت عينيها بخبث وهي تقول:

“ترميه وأنت بتحبه؟!”

زفر بضجر، وكأنه يحاول الهروب من نظراتها النافذة:

“كفاية كلام… هتاخديه ولا أديه لحد تاني؟”

خطفته من يده بسرعة وهي تبتسم:

“هاخده طبعًا، إنت عارف قد إيه بحب عصير الجوافة.”

بدأت تحتسيه ببطء بينما عيناه تلاحقانها في صمت، حاول أن يخفي ما يعتمل داخله، أن يتقمص وجه البرود المعتاد، لكن رغمًا عنه ارتسمت ابتسامة هادئة على محياه، ثم تدارك نفسه سريعًا وأعاد القناع البارد إلى وجهه حين سمعها تقول بخفة:

“طعمه حلو أوي… هو سخن شوية بس لذيذ برده.”

غمغم مستفزًا:

“طب جيبي تمنه بقى.”

تسمرت في مكانها وعيناها متسعتان من الدهشة، بينما هو أكمل بابتسامة جانبية:

“مش عايز تمنه خلاص… هاعتبره صدقة.”

ضحكت وهي ترفع العبوة لتحتسي مجددًا:

“وأنا بحب الصدقة.”

أنهت العبوة ووضعتها على المنضدة ببطء، ثم التفتت نحوه لتجده يحدق فيها وهو يقول بلهجة جادة هذه المرة:

“يلا بقى… قوليلي إيه الكلمتين اللي عايزة تقوليهم.”

ارتكنت للخلف في جلستها، وارتسمت على شفتيها ابتسامة غامضة قبل أن تقول بهدوءٍ عميق:

“كنت عايزة أقولك… مبروك لقلبك.”

أغمض موسى عينيه وضحك بخفة، ثم فتحهما وحدّق فيها قائلاً:

“أمي اللي قالتلك… صح؟”

أومأت برأسها إيجابًا، فهز رأسه بالنفي متنهداً:

“مفيش حاجة بتستخبى في المنطقة دي.”

تقدمت نحوه قليلًا وسألت بجدية:

“طب… إيه؟”

رفع حاجبيه، وهو يردد:

“إيه إيه؟!”

“حاسس بإيه بعد ما شوفتها بعد كل الوقت ده؟”

انخفضت عيناه إلى الأرض ثم أطلق تنهيدة طويلة، قبل أن يرفع بصره من جديد ويجيب بصوتٍ شارد:

“لو قلتلك إني طاير من الفرح… هيبقى قليل، أنا في قمة سعادتي دلوقتي.”

لمعت عيناه وهو يكمل، فابتسمت دلال بدورها وقالت بهدوء:

“طبيعي… دي اللي قلبك استناها اتناشر سنة.”

رفع سبابته مصححًا:

“اتناشر سنة… وأربع شهور… وتسع أيام.”

شهقت بدهشة قبل أن تضحك بخفة:

“كنت بتعدهم؟!”

أومأ بإصرار مرددًا بنبرة عميقة:

“آه.. من يوم ما سافرت وأنا بعدهم… مفيش يوم مر عليا أصلاً من غير ما أفتكرها وأفكر فيها، من غير ما أدعي إنها ترجع، من غير ما أتمنى إنها تكون من نصيبي، وإنتِ… إنتِ أكتر واحدة عارفة ده.”

قالت دلال وعيناها تلينان:

“عارفة… وشاهدة كمان، شاهدة على بداية القصة دي.. وبجد بتمنى من قلبي ربنا يجمعكم في الحلال قريب.”

ابتسم موسى ابتسامة صغيرة وهو يرد:

“وأنا كمان بتمنى أوي… أتمنى ييجي اليوم اللي تبقى فيه مراتي… مش بس حبيبتي.”

تنهدت دلال، ثم وضعت يدها على كتفه وربتت بخفة، وقالت:

“أنا مش عايزة أحبطك، بس لازم أفكرك إنها مش هتفضل هنا كتير، كلها كام يوم وترجع تاني، لو ناوي تعمل حاجة… لازم تستعجل.”

ابتلع ريقه وأجاب ببطءٍ هادئ:

“عارف… مفكرتش في الخطوة الجاية لسه، بس مش ناسيها.. دلوقتي كل اللي عايزه إني أفرح برجوعها.. رجوعها في حد ذاته كان حلم… وحصل، وعايز أعيشه بكل تفاصيله، وبعدين… هشوف.”

أومأت له وهي تبتسم بطمأنينة:

“ربنا يحققلك اللي بتتمناه، وأحضر فرحكم قريب… قول يارب.”

رفع نظره نحوها وارتسمت على وجهه بسمة صافية أخفى وراءها كل عناء السنين، وقال بهدوءٍ مفعم بالرجاء:

“يارب… يسمع من بقك ربنا.”

فقط معها كان البرود ينهار.. معها وحدها يعود موسى إلى طبيعته، يحكي ويبوح ويترك قلبه يتكلم…

كانت دلال رفيقته وصندوق أسراره… توأم روحه التي لم يتغير وجودها في حياته مهما طال الزمن

. نعم أصبح هناك حواجز بينهما، لكن مازلت مكانة كل منهما محفوظة في قلب الأخر.

___________________

في جهة أخرى….

كان طريق العودة من الجامع عامراً بالتحايا والابتسامات، بينما سامي وطارق يسيران بخطى هادئة، يتبادلان السلام مع كل وجه يعرفانه، أما طارق، بوجهه المشرق وعينيه المتلألئتين، يتلقى التهاني بزواجه كأنها قطرات ندى تتساقط على قلبه فتنعشه.

“الله يبارك فيك.. عقبالك”

قالها طارق بابتسامة صافية لجاره، ثم أكمل السير إلى جوار سامي الذي لم يستطع كتمان مرح داخلي:

“هو أنا هيحصل معايا كده بعد ما اتجوز؟”

ضحكة خفيفة انطلقت من طارق، كأنها ترد على التساؤل قبل الكلمات:

“ده العادي يا حبيبي، أي عريس في منطقتنا يفضلوا يباركوله لحد ما يخلف تقريباً.”

التقط سامي الخيط، وسخرية مرحة ارتسمت على لسانه:

“وبعدين يباركوله على المولود.”

“بالظبط كده.”

انفجرا في ضحكة قصيرة، ثم عاد سامي بنبرة أهدأ تحمل شيئاً من الصدق:

“بس تعرف.. مفيش أجمل من الفرحة، خصوصاً لما تشاركها مع غيرك، بيبقى ليها طعم تاني.”

هز طارق رأسه موافقاً، ونظراته تلمع بحب حقيقي:

“دي حقيقة فعلاً.. كل حاجة لما بتشاركها بيكون ليها طعم مختلف، الفرحة أصلاً حلوة، زي فرحتي دلوقتي وأنا متجوز اللي بحبها، عقبالك.. كلهم يومين وتكتب كتابك وتدخل نادي المتجوزين.”

تنفس سامي بعمق، وفي صوته خليط من الحماسة والرهبة:

“مظبوط، كلهم يومين ويبقى حالي من حالك.. وأسيبني بقى من شلة المراهقين اللي أنا فيها.”

قهقه طارق وهو يربت على كتف صديقه:

“مش هتقدر.. دول عشرة عمر… إنت وموسى وكارم صحاب من أكتر من عشرين سنة، إزاي تقدر تبعد عنهم؟ ده إنت خلاص بقيت متعلق بيهم.”

خفض سامي صوته قليلًا، وكأن قلبه ينطق قبل لسانه:

“هكدب لو قلت لأ.. الخمسة دول مش صحابي بس، دول إخواتي، بحبهم وبخاف عليهم أكتر من نفسي حتى.. بقيت أحس إنهم مسؤولين مني.”

ابتسم طارق برضا، كأنه يرى صدق المشاعر يتجلى أمامه:

“يمكن علشان إنت أكبرهم وأعقلهم.. وبعدين هما كمان بيحبوك، صداقتكم فيها روح حلوة بجد… أنا شخصياً بحبها.”

ضحك سامي وهو يربت على كتف طارق:

“ما أنت كمان تعتبر صاحبنا يا طاروقة.. بلاش حكاية إنك خال صحابنا دي.”

أطلق طارق تنهيدة متململة، ثم قال ساخراً:

“بالله عليك ما تفكرنيش.. كل ما أفتكر إني خال المخلوق ده بحس إني محتاج أغير اسمي في البطاقة… الواد ناوي يجيب أجلنا واحد واحد، مش هيرتاح غير لما نقول البقاء لله.”

انفجر سامي في ضحك صادق، صوته يتخلل هدوء الشارع:

“بس والله موسى طيب وغلبان.”

رد طارق بسرعة، بعينين مازحتين:

“قصدك تِعبان.”

وصلا إلى باب بيت سامي، فتوقفا… ومع لحظة صمت قصيرة خفت فيها وقع الضحك، تحدث سامي بجدية صافية:

“إنت واخد فكرة غلط عنه… هو مستفز ساعات، آه، لكن طيب والله.”

ربت طارق على كتفه بصدق هذه المرة، وعيناه تلينان:

“ده إنت اللي طيب يا سامي… ربنا يسهلك ويقويك عليه، ويحميك من تقل دمه واستفزازه.”

ضحك سامي مرة أخرى، تلك الضحكة التي خففت من ثقل الموقف، ثم أومأ برأسه وهو يردف بصوت خافت رزين:

“رغم إنه مستفز، بس برده طيب…. يلا عن إذنك، أشوفك بعدين.”

“مع السلامة.”

“مع السلامة.”

استدار طارق ليواصل طريقه، بينما اتجه سامي نحو مدخل بيته، ارتفعت خطواته فوق الدَّرجات ببطء، حتى وصل إلى شقته في الطابق الثاني.

أخرج المفتاح من جيب بنطاله القماشي، وأدخله في الباب، دفعه قليلًا ودخل وهو يخفض رأسه:

“السلام عليكم.”

“وعليكم السلام.”

تجمد مكانه لوهلة، يعرف هذا الصوت، يحفظه كما يحفظ دقات قلبه… رفع نظره، لكن المفاجأة لم تترك له وقتًا، إذ ارتطم به جسد صغير ملأ صدره دفئًا، وتردد في أذنه صوت طالما اشتاق إليه:

“وحشتني أوي!”

انفرجت ابتسامته على اتساعها، واحتضن شقيقته الصغيرة بذراعين اشتاقا إليها أكثر مما كان يظن:

“وأنتِ كمان وحشتيني… وحشتيني أوي يا فيروز.”

ابتعدت عنه قليلًا، وملامحها تحمل عتابًا طفوليًا محببًا:

“أومال ماكلمتنيش بقالك أسبوع ليه؟!”

تنهد سامي، وكأن كلمتها أصابت قلبه مباشرة، ثم قال بنبرة حانية صادقة:

“حقك عليا يا نور عيني، والله غصب عني… انشغلت في الشغل أوي غير تحضيرات الفرح، بس كنت ناوي أكلمك النهاردة فيديو كول… لكن إنتِ سبقتيني، وفاجئتيني فرحت قلبي بشوفتك قدامي دلوقتي.”

ارتسمت بسمة صغيرة على وجهها وهي تهمس:

“يعني عجبتك المفاجأة؟!”

ضحك بحنان، وعينيه تتلألأ فيهما الفرح:

“عجبتني… كفاية إني شايفك قدامي… تعالي في حضني تاني.”

لم تتردد، فالاشتياق كان أقوى من أي شيء آخر.. ارتمت في ذراعيه من جديد، بينما تحرك والدهما من مجلسه بهدوء، يتأمل المشهد بعينين يملؤهما الحنين. تركت فيروز ذراعيه لتفسح المجال للرجل الذي حمل اسمه وملامحه.

اقترب يحيى، وضع كفيه على وجه ابنه بلطف، وصوته يرتجف بالعاطفة:

“وحشتني يا بطل.”

اغرورقت عينا سامي بابتسامة ناعمة:

“وإنت كمان وحشتيني يا بابا.”

احتضنه يحيى بكل ما أوتي من حنان أبوي، وربت على ظهره بلمسات دافئة، وكأنما يعوضه عن غياب طويل.

عانقه سامي بدوره، يبتسم ابتسامة صافية نادرة، ثم تمتم بصوت تغلبه السعادة:

“أنا مبسوط أوي إنك غيرت رأيك وقررت تيجي تحضر الفرح… كنت هزعل جدًا لو ماجتش.”

ابتعد يحيى قليلًا عنه، وعيناه تحملان مزيجًا من الحب والصرامة، وقال بجدية واضحة:

“كان لازم أجي وأحضر فرح ابني الوحيد… مناسبة زي دي ماقدرش أفوّتها.”

توهجت عينا سامي بأملٍ عارم، فسأله بلهفة:

“يعني حضرتك كده موافق؟!”

لكن الأمل سرعان ما خفت، إذ اختفت الابتسامة عن وجه والده، وأردف بصرامة:

“لأ… أنا لسه مش موافق على جوازتك دي.. بس عارف إن رأيي مالوش أهمية دلوقتي، وإنك واخد قرارك ومصمم على اللي في دماغك.”

تنهد، ثم أضاف بصوت أكثر هدوءًا:

“بصراحة… أنا ماكنتش ناوي أحضر، زي ما قلتلك قبل كده، لكن…”

نظر إلى نادية نظرة طويلة، ثم أكمل:

“والدتك رجعت اتكلمت معايا.. أقنعتني إن لازم أكون جنبك في يوم زي ده، حتى لو مش موافق على اللي هتعمله.”

طالع سامي والدته بعينٍ مبلّلة بالعتاب؛ عتابٌ لم يلفظه لسانه، لكنه ارتسم في ملامحه بوضوح. كانت نظرته لها تحمل خليطًا من الألم واللوم، وكأنّه يقول لها بصمت:

لم يكن عليكِ أن تفعلي ذلك.

تنهد بعمق، وأغمض عينيه لثوانٍ محاولًا أن يستجمع نفسه، ثم فتحهما ببطء، وأدار بصره نحو والده من جديد، قبل أن يتحدث بنبرة هادئة ثابتة، كعادته حين يخفي عاصفة الغضب في داخله:

“أنا كنت فعلا هزعل لو ماجتش، وفرحت أوي إنك جيت.. بس كنت هفرح أكتر لو جيت وأنت مقتنع وموافق علي الجوازة.. ولو كنت أعرف من قبل إنك هتيجي علشان أمي كلمتك، كنت هتصل بيك وأمنعك إن تيجي، عارف ليه؟.. علشان أنا مش عايزك تجرح الإنسانة اللي هتجوزها أو أهلها بكلمة أو نظرة منك، تقولهم فيها إن ابني كتير عليكم.. مش عايز أخليهم يحسّوا إنهم قليلين.. لأنهم مش كده.. أنا اخترت “ليلى” بإقتناع، ولما قررت اتجوزها اتعهدت على نفسي إني أسعدها وأعوضها عن كل اللي عاشته.. فمش عايزها تحس ولو للحظة إنها قليلة وإن ما تستاهلنيش.. مش عايز إن نظرة أو كلمة منك تحسسها بده.”

ساد صمت ثقيل للحظة، قبل أن يرد يحيى ببرودٍ قاسٍ كعادته، وكأن صوته يقطّع الهواء جمودًا:

“هي فعلا ما تستاهلكش.. أنت تستاهل واحدة أحسن منها.. أنت مش مضطر تتجوز واحدة مطلقة وتربي ابنها.. أنت ممكن زي باقي الشباب في سنك تتجوز واحدة مناسبة ليك، واحدة تستاهلك بجد.. أنت لسه في بداية حياتك، شاب عنده 28 سنة وموظف في بنك، وحالتك المادية كويسة وضامن مستقبلك، تستاهل واحدة من مقامك مش واحدة زي اللي أنت عايز تتجوزها.. كان ينفع تتجوزها فعلا لو مطلق زيها أو أرمل أو عندك ولد أو أيًا كان.. أما أنت غيرها وأحسن منها بكثير، فتستاهل واحدة أحسن منها فعلا.”

ارتجف قلب سامي من قسوة كلماته، إلا أنّه كبَت غضبه بصعوبة، وأخذ نفسًا عميقًا حتى هدأت أنفاسه، ثم قال بصوتٍ منخفض متزن، لكنّه يخفي جمرة في أعماقه:

“فات الأوان عن الكلام ده خلاص يا أستاذ يحيى.. كلها يومين بس واكتب كتابي عليها وتبقى مراتي رسمي، وابنها هيبقى في مقام ابني، ووقتها لو حد فكر بس يضايقهم بأي شكل من الأشكال.. أنا اللي هقف له، لأنهم هيبقوا وقتها مسؤولين مني.. ولآخر مرة هقولك.. ليلى هي اللي كتير عليّا، مش أنا اللي كتير عليها.. ولحد هنا كفاية جدال في الموضوع ده، لأنه قراري.. قرار نهائي.. هتجوزها يعني هتجوزها.”

أنهى كلماته بابتسامة مُرغمة، ابتسامة تُخفي خلفها مرارة ثقيلة، ثم أضاف وهو ينظر لوالده بعينٍ مثقلة بالخذلان:

“ودلوقتي حمد لله على السلامة يا بابا.. اتفضل ارتاح، البيت بيتك في النهاية.”

التفت بعدها بخطواتٍ واثقة، وإن كان قلبه يترنّح من الداخل، وغادر نحو غرفته، ولحقت به والدته وشقيقته كأنهما ظلّه، بينما بقي يحيى في مكانه جامدًا، متصلب الملامح، تائهًا بين غضبه وعناده، وهو يظن أنّ ابنه يلقي بنفسه في هاويةٍ لا خلاص منها.

وفي الغرفة، جلس سامي على طرف الفراش بثقلٍ واضح، وجلسَت والدته وشقيقته كلٌ منهما في جهة.

نظرت إليه والدته بعينٍ دامعة وقالت بهدوءٍ متردد:

“أنت زعلان مني صح؟”

التفت إليها، ثم حرّك رأسه نافيًا بلطف وهو يتمتم:

“لأ.. أنا بس عاتب عليكي إنك صغّرْتي من نفسك وكلمتيه علشان ييجي.”

أطرقت برأسها قليلًا ثم همست بصوتٍ مرتعش:

“أنا عملت كده علشان عارفة إنك هتزعل لو محضرش فرحك.”

ارتسمت ابتسامة مُرهقة على وجهه، وقال وهو ينظر إليها بعطف:

“عارف.. أنا عارف كويس إنك عملتي كده علشان خايفة على زعلي، علشان كده أنا مش زعلان منك.. مستحيل أصلا أزعل منك يا ماما.. ده أنتِ حبيبة قلبي.”

اقترب منها، واحتضن وجهها بكل دفء، ثم طبع قبلة حانية على جبينها؛ فارتسمت ابتسامة راضية على ملامحها وهي تربت على ظهره بحنان أمومي، بينما ابتعد هو قليلًا ليتجه ببصره نحو شقيقته التي بادرت بلهجة مازحة يملؤها الدلال:

“طب وأنا!.. أنا مش حبيبة قلبك؟!”

قهقه بخفة، ومد ذراعيه نحوها وهو يقول بحبٍ صادق:

“دي إنتِ قلبي كله ونور عيني كمان.. تعالي في حضني يا ست البنات.”

أسرعت نحوه ترتمي بين ذراعيه، فشدّد عناقه لها بقوة، كأنّه يحاول أن يذيب اشتياقه في هذا الحضن.

وكانت نادية تتابعهما بنظرة دافئة مطمئنة، وبسمة رقيقة ارتسمت على شفتيها، وهي ترى أمامها مشهدًا يتجاوز كل الجراح.

_____________________

في جهة أخري..

خرج لتوّه من المرحاض، رائحة البخار ما تزال عالقة بجلده، وقطرات الماء تتساقط من أطراف شعره بينما يمسحها بالمنشفة الملتفة بين يديه، وقد ارتدى بنطالًا أبيض فضفاضًا وتيشيرتًا أسود بسيطًا، خطواته تتثاقل قليلًا من تعب يومه، لكنه في داخله كان يحمل خفة لا تشبه الخمول.

وفي اللحظة التي أوشك فيها أن يدخل غرفته، سمع صوت المفتاح وهو يدور في الباب، فالتفت على الفور، لتقع عيناه على والدته وهي تدلف للبيت.

وما إن وقع بصرها عليه حتى باغتته بسؤالها:

“انت جيت؟!”

رفع حاجبه، وابتسم بخفة ساخرة قبل أن يجيبها:

“لأ لسه في الطريق، أنتِ بتكلمي خيالي دلوقتي.”

زفرت بملل واقتربت منه وهي تقول بضجر:

“أنت عمرك ماهترد زي الناس.”

أجابها بنفس البرود المستفز:

“ما أنا برد زي الناس، شيفاني بنونو ولا بهوهو؟”

رمقته بنظرة غيظ ثم تمتمت وهي تمر بجواره:

“استغفر الله العظيم يارب.”

لم يفوّت الفرصة ليلقي تعليقًا لاذعًا، وهو يرمقها بطرف عينيه:

“بتكسبوا حسنات بسببي والله.. مش عارفين قيمتي.”

توقفت فجأة، استدارت نحوه وقالت بنبرة أكثر حدة:

“طب ياأبو قيمة، كنت فين واتأخرت كده ليه؟”

ابتسم بخبث، وكأنه يستمتع باستفزازها، ثم أجاب ببرود مرتب وكأنه يقرأ تقريرًا يوميًا:

“صليت العصر وروحت عند دلال زي ما حضرتك طلبتي، أخدت منها المفتاح ونزلت الصيدلية جبت دوا للحج واديتهوله وأنا طالع.. بعدين قفلت الصيدلية ورجعت المفتاح، روحت للشباب قعدنا شوية، وبعدها رحنا الجامع صلينا المغرب وقعدنا لحد العشا، صليناها ورجعت على هنا… بس كده.”

رمقته والدته بنظرة ضيق، وقالت بسخرية واضحة:

“بتحكيلي قصة حياتك؟”

ضحك بخفة وزاد من استفزازه:

“لأ.. دول الساعتين اللي حضرتك سألتيني عنهم.. مش حضرتك اللي قولتي كنت فين؟ أهو جاوبتك بالتفصيل… إيه رأيك؟”

ارتسمت على شفتيه بسمة واسعة، بينما هي طالعته بضجر، وردت بحنقٍ:

“رأيي إنك هتجيب أجلي بالبرود والاستفزاز ده.”

مال برأسه قليلًا كأنه يتمنى لها العمر الطويل، وقال بنفس نبرته الخفيفة:

“بعد الشر عنك ياست الكل… طيب، وأنتِ كنتي فين بقى؟”

أجابته ببرود مماثل وهي تتجه نحو المطبخ:

“كنت عند نادية علشان أسلم على فيروز.”

قفزت ابتسامة عريضة على ملامحه فجأة، عيناه اتسعتا بالانتباه، وصوته خرج مشبعًا باللهفة:

“شوفتيها!”

أتاه صوتها من المطبخ بلا اكتراث، ممزوجًا بالضجر:

“بقولك روحت أسلم عليها، أكيد شوفتها يعني… ليه في حاجة؟”

أسرع بالرد، رافعًا نبرته وكأنه يحاول إخفاء ارتباكه:

“لا خالص… أنا كنت بسأل كده، من باب الفضول يعني.”

لم تعره انتباهًا، اكتفت بالقول:

“ماشي تمام… لو عايز تريح لحد ما أبوك ييجي ونتعشى، روح ناملك شوية.”

ضحك بخفة وقال ساخرًا:

“ماشي… هروح آخد قيلولة.”

ردت عليه بنفس طريقته:

“روح يا أخويا روح… روح خد قيلولة.”

تركها وهو يبتسم بارتياح، ثم دخل غرفته وأغلق الباب وراءه.. ألقى المنشفة على الكرسي القريب، وترك جسده يسقط على الفراش بخفة، ثم ابتسم ابتسامة حالمة، عينيه تلمعان بأثر ذكرها، وقلبه يتسع بنبض جديد… فمجرد أن ذُكر اسمها فقط، يشعل بداخله ما لا يخمد.

___________________

على جهة أخرى….

خطت

فيروز

نحو غرفتها القديمة، الغرفة التي حملت بين جدرانها طفولتها وأسرارها الصغيرة.

توقفت لبرهة عند العتبة، وعينيها تتجولان في أركان المكان، لم يتغير شيء تقريبًا… نفس الفراش المرتب بعناية، نفس الأرفف النظيفة، حتى الستائر بدت وكأنها نفضت الغبار عنها للتو.

وأدركت على الفور أن والدتها ظلت طوال السنوات الماضية تواظب على تنظيفها وترتيبها، وكأنها كانت تحافظ على ذكرى ابنتها حيّة داخل البيت.

جرّت حقيبتها خلفها حتى وصلت إلى الفراش، رفعتهـا لتضعها فوقه، ثم جلست وأخذت تفتح السحّاب ببطء. وراحت تخرج محتوياتها قطعة بعد أخرى، ملابس مطوية بعناية، أدوات صغيرة… حتى توقفت يداها فجأة عند كتاب قديم.

“قصة: مغامرات في أعماق البحار”

ارتسمت الابتسامة تلقائيًا على وجهها… لمست سطحه بأطراف أصابعها كما لو كانت تلامس ذاكرة بعيدة، وتدفقت إلى صدرها دفعة من الحنين، ذكريات طفولة لاتنسى.

لكن لحظتها لم تدم طويلًا، إذ قطعها طرقٌ مفاجئ على باب الغرفة.. ارتبكت على الفور، وأسرعت تخبئ الكتاب داخل الحقيبة وأغلقتها بسرعة، ثم اعتدلت جالسة وهي تقول بصوت ثابت:

“اتفضل.”

انفتح الباب ودلفت منه

دلال

، صديقتها الأقرب، تحمل نفس الدفء الذي لم يتبدد مهما طال الفراق.

أسرعت إليها بخطوات شغوفة وفتحت ذراعيها لتعانقها:

“فيروز!”

قفز اسمها من شفتي فيروز مصحوبًا بابتسامة عريضة:

“دلال!”

انغمرتا في عناق طويل، كأن كل السنوات التي قضيتاها بعيدتين تلاشت في لحظة:

“وحشتيني وحشتيني وحشتيني.”

ردت فيروز بنفس الاشتياق:

“أنت كمان وحشتيني أوي… أوي… بجد وحشاني.”

ابتعدتا قليلًا، لكن نظراتهما كانت ما تزال معلّقة ببعضهما، تأملتها دلال من أعلى لأسفل وقالت بدهشة ممزوجة بالحب:

“اتغيرتي أوي… وحلويتي، كنتِ حلوة قبل كده، بس دلوقتي… بقيتي زي القمر.”

ضحكت فيروز بفرح حقيقي، وأجابت بحماس مماثل:

“وأنتِ كمان اتغيرتي، مش محتاجة أقول إنك طول عمرك زي القمر، بس دلوقتي بقيتي

عروسة زي القمر

.”

أحمر وجه دلال خجلًا:

“أنتِ عرفتي؟”

أومأت فيروز وهي تقول:

“آه… سامي قالي، وكنت فرحانة لك أوي، ونفسي بجد أحضر فرحك… بس الظروف للأسف.”

ربتت دلال على يدها برفق:

“أنا مقدّرة ظروفك، علشان كده مش زعلانة منك.”

لكن فيروز لم تتمالك فضولها، فانحنت نحوها تقول بنبرة دهشة صافية:

“طب قوليلي… أنا لحد دلوقتي مش مصدقة، أنتِ فعلًا اتجوزتي

طارق

؟ اللي أنا وأنتِ وكلنا نعرفه؟!”

ارتسمت ابتسامة خجولة على وجه دلال، وانخفضت عيناها للحظة، ثم أومأت بالإيجاب؛ فقفزت الكلمات من فيروز بلهفة أكبر:

“أنا عايزة أعرف التفاصيل كلها! إزاي حصل ده؟! إزاي اتحولتوا من قرايب وصحاب… لزوجين؟”

ترددت دلال قليلًا، ثم أشارت نحو الشرفة:

“هحكيلك كل حاجة، بس تعالي نطلع البلكونة… الجو بقى حر هنا.”

“تمام… يلا.”

خرجتا معًا إلى شرفة الغرفة، أسندتا جسديهما إلى السور، والهواء العليل يلامس وجهيهما.

تنهدت فيروز بشغف، وقطعت الصوت، قائلة:

“يلا… احكي.”

ابتسمت دلال ابتسامة تحمل مزيجًا من الخجل والسعادة، ثم قالت:

“الموضوع بدأ لما…”

وبينما كانت الكلمات تتدفق، والضحكات تتخلل الحديث، لم تنتبها عين تراقبهما من شرفة في الأعلى… هناك كان

موسى

، يبتسم ابتسامة اتسعت شيئًا فشيئًا وهو يلمح تفاصيل المشهد.

لم يمكث طويلًا؛ تحرك بخطوات سريعة، أقرب إلى الركض، حتى خرج من غرفته وتوجه مباشرة نحو باب الشقة.

لكن خطواته لم تكتمل، إذ اعترضه صوت أمه من غرفة المعيشة:

“رايح فين؟”

توقّف، التفت ببطء، محاولًا أن يبدو عاديًا قدر استطاعته:

“نازل عند جدي.”

رفعت حاجبها بدهشة، وعيناها تفتّشان في ملامحه:

“ليه؟ في إيه؟”

“هنام عنده الليلة دي.”

جاء صوتها ثابتًا لكن فيه طرف من استنكار:

“عمك مصطفى هينام معاه النهارده.”

رد بعناد، بعينين متقدتين بشيء يصعب تفسيره:

“لأ، أنا اللي هنام معاه… هاخلي عمي يطلع شقته وأنا اللي هانام مع جدي.”

رفعت حاحبها بإستنكار، ثم سألت مترددة:

“مش فاهمة… ليه فجأة عايز تنام عنده؟”

خفض بصره قليلًا، وصوته خرج هادئًا لكنه محمّل بشيء خفي:

“وحشني… وحشني أوي… فقولت أنزل أبيت معاه.”

ارتسمت الدهشة على وجهها أكثر:

“وحشك إزاي وانت بتشوفه كل يوم؟!”

تنفّس بعصبية، وصوته ارتفع بلا وعي:

“وحشني يا ست الكل… جدي ووحشني! فيها إيه يعني؟!”

عندها زفرت باستسلام، تخلّت عن كل محاولات الفهم، وقالت بنبرة مهادِنة:

“لا… مفيهاش حاجة.”

أدار جسده سريعًا نحو الباب، وفي داخله إصرار صامت، وتمتم وهو يمد يده إلى المقبض:

“طب أنا نازل.”

نادته وهي تحاول الإمساك بخيط طبيعي من الحوار:

“طب اتعشى الأول.”

لكن صوته جاء قصيرًا، باردًا، كأن لا مكان في داخله الآن إلا لوجه واحد:

“مش جعان.”

ثم خرج وأغلق الباب خلفه بقوة طفيفة، تاركًا خلفه عبير وحدها، تنظر إلى الفراغ للحظة، قبل أن تهز رأسها بأسى وتهمس بمرارة ساخرة:

“مجنون… أنا مخلفة واحد مجنون.”

___________________

“وبس يا ستي… بعد ما اكتشف أخيرًا إنه بيحبني من زمان، وماكانش حب أخوات ولا حاجة… راح وكلم أخته علشان تفاتح داود في الموضوع.. وفعلاً، داود جه وكلم بابا وقاله. وبابا وافق… فطارق جه اتقدملّي، وقارينا الفاتحة… ولبّسنا الدبل يوم تخرّجي بالظبط.. ويادوب من كام يوم كتبنا كتابنا واتجوّزنا، ولسه راجعين من شهر أو أسبوع العسل أول امبارح.”

اتسعت عينا فيروز بدهشة عفوية وهي تردد:

“يعني هو كان بيحبك من زمان أصلاً… وما اكتشفش ده غير لما جه عريس واتقدملك؟”

أومأت دلال برأسها، ابتسامة هادئة ترتسم على وجهها، لكنها تخفي خلفها مزيجًا من الامتنان والحنين:

“بالظبط.. لما العريس اتقدملّي وقتها… هو حس بغيرة مش طبيعية، ولما أخد رأي واحد صاجبه… فهمه إن غيرته مش غيرة أخوات، وإنه بيحبني… فكر كتير، وفي الآخر أخد القرار واتقدملّي، ونجح… اجتاز كل المنافسين، وفاز بيا.. بعد حب سنين… بعد مايزيد عن خمسة وعشرين سنة.”

ضحكت فيروز بخفة وقد رفعت حاجبها بدهشة أكبر:

“يعني حبك من أول ما اتولدتي؟!”

أطرقت دلال برأسها، وعادت بصوتٍ يحمل شيئًا من الدفء:

“هو قالي… إنه مش عارف يحدد حبنّي إمتى، بس اللي متأكد منه إنه من أول مرة شالني فيها وأنا بيبي، حس بدفا غريب… ومن وقتها بقى عايز يفضل جنبي على طول، كان فاكر إن ده حب إخوات وكده… لكنه في الآخر اكتشف إنه كان عشقان.”

ارتفع صوته فيروز بخفة مشاكسة:

“طب… وإنتِ؟”

ارتبكت دلال قليلًا، وقالت:

“أنا إيه؟”

“أنتِ… حبيتيه إزاي؟”

ساد الصمت لحظة.. رفّت عينا دلال بخجل، ثم أطلقت تنهيدة صغيرة كأنها تبحث عن الكلمات المناسبة:

“حبيت اهتمامه بيا… عارفة شعور إن حد يحبك أوي لدرجة إنك تبقي محور حياته؟… يحسسك إنك أهم وأغلى حاجة عنده؟… إنك الأولى، والباقي بعدك؟… أهو ده اللي حسيته مع طارق، وده اللي خلاني أنا كمان… أحبّه.”

ابتسمت فيروز برفق، وهي تهمس:

“فاهمــاكِ… فاهمــاكِ أوي.”

لم تُفوّت دلال لحظة، سألتها بعينين تلمعان بالفضول واللهفة:

“ليه؟… إنت كمان عندِك شخص كده في حياتك؟”

ترددت فيروز، أبعدت نظرها سريعًا، وكأن السؤال مسّ منطقة لم تكن تود الاقتراب منها:

“مش لازم أجاوب.”

لكن دلال أصرّت، بعناد حنون:

“لا… لازم، أنا جاوبتك، يبقى إنتِ كمان تجاوبيني.”

عادت عينا فيروز لتلتقيا بعينيها، نظرة طويلة مترددة، قبل أن تهمس بصوتٍ خفيض:

“بصي…”

لكنها توقفت فجأة، عندما سمعَتا معًا صوت باب خشبي يُفتح…

التفتتا في آنٍ واحد…

وهناك، على الشرفة المقابلة، كان يقف… كأنما خرج من فراغ الليل. عيناه مرفوعتان نحو السماء، يدّعي أنه لا يراهم، لا يسمعهم، لكن ملامح وجهه الفاضحة كانت تكشف أكثر مما تُخفي.

ويتسأل الناس: ماذا يفعل الحب بالإنسان؟ الإجابات كثيرة، ولكن أصدقها وأقساها معًا… أنه يُجنّنه.

وهذا ما حدث مع بطلنا… فقد ازداد جنونًا، لا لشيء… إلا لأنه واقع في الحب.

يتبع…

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق