رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل التاسع
الفصل التاسع(تَعَهَّدَ لها بقلبه)
ولا تنسوا الدعاء لاخواتنا في بلادنا العربية.
آهٍ من قلبٍ أرهقه العشق وأضعفه، حتى صار أسيرًا لنظراتها، يرتجف كوترٍ مشدودٍ كلما وقعت عيناه عليها. تتحول دقاته لطبولٍ متسارعة، كأنها تُعلن حضرة الحبيبة، ويغدو كل ما يتمناه في تلك اللحظات أن تكون له… أن يسكنها وتكون مأواه ما دام قلبه يخفق.
كان يهبط الدرج بخطوات متسارعة، كأن قلبه يسبقه إلى هناك، يكاد ينفلت من بين أضلعه ويصل إليها قبل أن يطرق الباب.
رفع يده وطرق بعجلة، كأنفاسه اللاهثة.. ثوانٍ معدودة، فإذا بالباب يُفتح أمامه، وعمّه مصطفى يطلّ عليه بملامح متعجبة:
“مالك بتنهج كده ليه؟!”
لم يمنحه فرصة للاستفهام، تسلل للداخل وهو يتمتم بعبارة مقتضبة:
“مفيش.. أنا هنام مع جدي النهاردة.”
أغلق مصطفى الباب خلفه وهو يحدّق فيه حائرًا، ثم همّ بالردّ:
“بس أنا اللي هنـ…”
لكنه توقف بعدما رآه يختفي سريعًا في اتجاه الشرفة…
هز رأسه بيأسٍ، وزفر متنهّدًا وهو يتجه لمجلس والده الذي سأله بتعحب:
“ماله ده؟”
جلس بجواره مرددًا بأسلوب يشي بالحيرة:
“والله ما عارف ياحج، قال إنه هينام معاك الليلة وطار على البلكونة!… ربنا يستر.”
ابتسم محمد بخفة، ثم قال بهدوء:
“يارب يكون خير.”
“يارب”
في تلك اللحظة، كان موسى يقف في الشرفة، يشرق وجهه بابتسامة عريضة ما إن أبصرهما هناك.. انتفض قلبه لرؤيتهما، وبخفةٍ مصطنعة رفع رأسه نحو السماء كأنه يتأمل الغيم، محاولًا إخفاء اضطرابه.
لكن صوتهـــــا… ذلك النداء العذب الذي طرق مسامعه، جعله يتجمّد لحظة، ثم يلتفت فجأة:
“موسى!”
نطق اسميهما معًا متصنعًا الدهشة، كأنه لم يكن ينتظرهما بشغف منذ اللحظة الأولى:
“فيروز!.. دلال!”
غلب الضحك دلال، فأخفت فمها بكفها محاولة كبحه، بينما ظلت فيروز متماسكة، تحدثه بجدية وهدوء:
“هو أنت لسه بتنام مع جدك؟”
هز رأسه نافياً وقد ارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهه:
“مش دايمًا.. أيام أنا وأيام عمي مصطفى.”
“هو عمو مصطفى هنا؟”
أجابها على الفور:
“أيوه.. نازل إجازة عشان فرح دلال، وهيسافر كمان أسبوعين.”
أشرق وجهها وهي تقول:
“كويس.. عايزة أسلم عليه، وكمان على جدو محمد.”
انفلتت الكلمات من لسانه بعفويةٍ فضحت شوقه:
“ومالو.. تقدري تيجي في أي وقت.. وأنا هكون في انتظـ… قصدي.. هقول لجدي.. هدّيله خبر.”
ابتسمت له بهدوء، وبدت في عينيها لمعةٌ ود، وهي تردّ بلطف:
“ماشي.”
ابتسم هو الآخر، يتابعها بعينين لا تفلتان من ملامحها، بينما كانت دلال تتأمل المشهد بصمتٍ خفي، تراقب كل حركة ونظرة بينهما.
وحين طال الصمت، وتوقف الكلام، واكتفى الجميع بتلك النظرات الثقيلة بالمعاني، حمحمت دلال بخفة، لتكسر السكون وتستعيد زمام اللحظة، قائلة:
“صحيح يا فيروز… هو انتوا هتفضلوا قد إيه؟”
رفعت فيروز عينيها إليها وأجابت بهدوء:
“لسه بابا ماحددش المدة… بس أظن مش هنقعد أكتر من أسبوعين.”
تنهدت دلال، ثم قالت بلهجةٍ حاولت أن تجعلها مرحة، لكن الحنين تسلل بين حروفها:
“أنا كده مش هشبع منك، ولا أنا ولا م…”
توقفت فجأة حين التقت نظرات موسى الحادة، وكأنها لمحت في عينيه إنذارًا صامتًا بألا يُذكر اسمه على لسانها، فتراجعت عن إكمال الجملة، وأعادت ابتسامتها المكسورة وهي توجه الحديث من جديد لفيروز:
“قصدي كلنا… كلنا مش هنشبع منك.. لا أنا، ولا طنط نادية، ولا حتى سامي… هتوحشينا كلنا أول ما تمشي.”
أطلقت فيروز تنهيدة عميقة، ودار بصرها على أرجاء المكان كمن يخبئ دمعًا في عينيه، قبل أن تعود إليها بكلماتٍ هادئة امتزج فيها الشجن بالصدق:
“وانتوا كمان هتوحشوني جدًا… أنا لما صدقت أرجع وأشوفكم تاني، بحس بالدفا وأنا وسطكم… على عكس وأنا هناك.”
سكتت ثم أكملت بصوتٍ متهدج:
“هناك… الوضع مختلف تمامًا، عندي ناس قليلين أتكلم معاهم، ولو حصل، بيكون كلام رسمي وبارد… الأيام هناك كلها روتين… تدريب بالنهار، وبابا في الشغل، لما يرجع ب نتعشا سوا، وبعدين ننام… حتى الإجازات بابا بيكون مشغول فيها، وأنا… بحاول أضيع الوقت بالمذاكرة أو القراءة.. بإختصار كل حاجة مملة
،
لكن هنا… هنا أنا بعرف أتكلم بحرية، ببساطة… هنا مش بحس بالوحدة، لأن الناس اللي بحبهم حواليا… أصلاً من ساعة ما جيت وأنا حاسة براحة… يمكن علشان رجعت وسط اللي وحشوني بجد: ماما… سامي… إنتِ… و…”
توقفت عند موسى، وقد اصطادت عينيها عينيه المعلقتين بها بتركيزٍ لا يلين، فسكتت لحظة قبل أن تُكمل كأنها تستدرك:
“وصحابنا… هنا معظم اللي بحبهم موجودين، حتى لو حسيت بالملل، بلقى حد أتكلم معاه.”
ثم التفتت إلى دلال من جديد، تكمل بصدقٍ أكثر مما تحتمل اللحظة:
“وعامةً، أنا مش عايزة أفكر في السفر دلوقتي.. مش عايزة أزعل نفسي.. أنا عايزة أفرح باللحظة دي… أفرح إن أخويا هيبقى عريس بعد أيام قليلة.. أفرح إني رجعتلكم.. مش عايزة أنكد على نفسي وأنا لسه بينكم… أنا عايزة أفضل مبسوطة زي دلوقتي.”
أنهت كلماتها بابتسامة رقيقة، ابتسامة حملت كل ما لم تقله، وبادلتها دلال ابتسامة متأثرة، واقتربت منها تُمسك يدها بكفيها بحنان، قائلة بصوتٍ مرتجف بالشوق:
“أنا بجد مش عايزاكي تمشي تاني… نفسي تفضلي جمبي على طول.. بتمنى تحصل معجزة تخليكي معانا دايمًا.”
ومع كل كلمة، كان موسى يتابعها بعينيه المشتعلتين بصمتٍ ثقيل.. بدا عليه التأثر العميق، وكأن ما سمعه للتو لم يكن مجرد كلام عابر، بل إشارة خفية تُنبهه إلى ضرورة التمسك بها أكثر… أن يجد سبيلًا ليُبقيها هنا، في المكان الذي تحبّه وتتنفس فيه الحياة.
لكن كيف؟… ذلك ما لم يتضح له بعد.
أما دلال، فمدت يدها وربتت على كف فيروز برفق، كأنها تعيد إليها شيئًا من الطمأنينة المفقودة، ثم تبادلت معها نظرات دافئة، وابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتي فيروز، امتنانًا لوجود صديقة ظلت رغم البُعد سندًا لا يخيب.
في تلك اللحظة العابرة، كان للصمت وقع أبلغ من كل الكلمات، كأنهما تُجدِّدان عهدًا قديمًا لم يُفسده الزمن ولا المسافة.
لكن رنين الحياة لم يُمهلهما طويلًا، إذ قطعت “نادية” خيط اللحظة بدخولها الشرفة بمرحها المعهود:
“يلا يا بنات، العشا جاهز.”
تباعدت الأيادي، وعاد كل طرف لواقعه، وبادرتها دلال بلطف واعتذار:
“لا والله، ألف هنا وصحة عليكم… بس لازم أمشي علشان طارق.”
“لا تمشي إزاي! أنا استعجلت في الأكل مخصوص علشان تاكلي معانا.”
ابتسمت دلال باعتذار صادق:
“ده على عيني والله، إنتِ عارفة أنا بموت في أكلِك… بس ماينفعش أسيب طارق يتعشى لوحده، متنسيش إن إحنا لسه عرسان جداد.. وبعدين أنا جيت علشان أسلم على فيروز… كانت وحشاني جدًا.”
توقفت لحظة، نظرت لفيروز نظرة محبة صافية، ثم التفتت إلى نادية التي تراجعت قليلًا عن إصرارها، وقالت بنبرة أقرب للوصية:
“ماشي… بس المرة الجاية تجيبيه معاك.. عايزين ناكل سوا.”
ردت دلال وقد بدا على وجهها امتنان وصدق:
“من عينيا، بس المرة الأولى لازم تبقى عند بابا… هو عايز يكون أول حد يجمعنا.”
ارتخت ملامح نادية وتنهدت، ثم قالت مستسلمة:
“خلاص… إحنا نبقى التاني.”
ضحكت دلال بخفة، ثم قالت:
“إن شاء الله… تصبحوا على خير.”
ثم نظرت لفيروز من جديد، بنظرة امتدادها وعد:
“هاجيلك تاني.”
لكن فيروز لم تدعها تكمل، لترد بابتسامة ملؤها حنين:
“لأ، أنا اللي هاجيلك… أباركلك إنتِ وطارق.”
أجابتها دلال بعينين لامعتين:
“وأنا هستناكي.”
“أول ما تيجي الفرصة، هتلاقيني عندك.”
ابتسمت دلال، وكأن قلبها ازداد خفة بتلك الكلمات:
“ماشي.”
دلف الثلاثة إلى الداخل، تاركين خلفهم هواء الشرفة محمّلًا بأثر وجودهم، وقد لوحت نادية لموسى وهي تهم بالمغادرة:
“تصبح على خير يا موسى.”
ابتسم بفتور، يرد تلقائيًا:
“وإنتِ من أهله يا خالتي.”
انطفأ أثرهم تدريجيًا من أمامه، ليبقى هو وحده في فضاءٍ ضيّق، ينظر إلى العدم بينما أفكاره تشتعل. وقد كان عقله غارقًا في دوامة لا تنتهي، أسئلة تتناسل من بعضها، وهاجس واحد يتصدرها جميعًا: كيف له أن يجعلها تبقى؟
__________________
أشرقت الشمس ببطء، وبدأت خيوطها الذهبية تتسلل عبر النوافذ والأبواب، تطرق بعذوبة على أعين النائمين لتخبرهم أن نهارًا جديدًا قد بدأ، محمّلًا بما لا يعلمه إلا الله.
كان سامي غارقًا في نومٍ ثقيل، فليلته الماضية امتدت حتى ساعة متأخرة، جلس خلالها مع شقيقته يتبادلان الأحاديث التي طالت كل شيء.
لم يكد جسده يستسلم للراحة حتى اخترق السكون صوت هاتفه يرن بإلحاحٍ مزعج.
ضغط زر الإيقاف متأففًا، لكن الهاتف لم يرحمه، فعاد للرنين مرة أخرى، ثم ثالثة… عندها لم يجد بُدًّا من الاستيقاظ، زفر بضيق، وفتح عينيه نصف فتحة، يمد يده نحو الهاتف بتكاسل.
مسح عينيه براحة كفه محاولًا أن يرى بوضوح، فإذا باسم المتصل “كارم” يسطع على الشاشة.
وما إن أجاب حتى باغته صوت صديقه:
“اطلع بسرعة.. إحنا على باب شقتك.”
تجعد جبين سامي متعجبًا، ولم يملك سوى أن يسأل بارتباك:
“إيه؟!”
جاء صوت كارم أكثر حدّة:
“بقولك اطلع فورًا.. إحنا واقفين عند الباب.. يلا خلص.”
ثم أغلق الخط بلا مقدمات…
فيما ظل سامي يحدق في الهاتف مذهولًا، يحاول استيعاب ما يجري، لكن عقله لم يتحرر بعد من غشاوة النوم.
نهض بتثاقل، مسح وجهه بيده، وضع الهاتف على الفراش، ثم خرج متوجسًا نحو باب الشقة، يردد في سره:
“يا رب استر.”
وما إن فتح الباب حتى وجد أمامه كارم ومحسن واقفين في انتظاره، لم يمنحاه فرصة للسؤال، إذ جذباه من ذراعيه إلى الخارج بعجلة، وكارم يردد وهو يجره:
“تعالى معانا بسرعة.”
ارتبك سامي وسرت في جسده قشعريرة قلق:
“أجي فين؟! إيه اللي حصل؟”
أغلق محسن الباب خلفه بحذر كي لا يوقظ أهل البيت، ثم أجابه بصوت خافت مشوب بالتوتر:
“فيه مصيبة.”
توقف سامي بذهول، ضرب الهواء بكلماته المرتجفة:
“مصيبة إيه؟! إنتو اللي حصل؟!”
انحدروا معًا على الدرج، وكارم يرمي كلماته سريعًا:
“المأذون مات.”
شهق سامي وقد تجمدت نظراته:
“إيه؟!”
أردف كارم دون توقف:
“الفرح اتأجّل.”
ازدادت حيرة سامي، فتشبث بمحسن يسأله بهلع:
“فرح مين اللي اتأجّل؟! ومأذون مين اللي مات؟! فهموني ياجماعة اللي بيحصل.”
اكتفى كارم بالقول، وهو يبتسم بمكر:
“هتعرف كل حاجة دلوقتي.”
وصلوا إلى أسفل العمارة، حيث كانت سيارة والد موسى تنتظر، يجلس فيها موسى خلف المقود، بينما يقف حسين بجوارها مع حسن يفتحان الأبواب.
أدخلوا سامي إلى المقعد الخلفي رغم اعتراضاته، وجلس بجواره محسن وحسين، في حين صعد حسن إلى جانبهم، أما كارم فاستقر بجوار موسى… وما إن أُغلقت الأبواب حتى انطلقت السيارة بسرعة.
وسامي فقط ظل يصرخ مستشيطًا:
“إنتو بتتهبوا ايه ؟! في إيه؟! حد فيكم يشرحلي!”
لكن حسن التفت إليه بابتسامة هادئة تستفز الأعصاب، وقال بهدوء مستفز:
“مفيش يا سامي.. إحنا بس خطفناك.”
تجمد سامي في مقعده، عيناه متسعتان، وشفته ترتجف دون أن تنطق.. شعر ببرودة تتسلل إلى أطرافه، قلبه يخفق كطبول حرب، وقد كان على وشك أن يفقد وعيه من هول المفاجأة.
بينما انفجر رفاقه بالضحك، يتسابقون في الاستمتاع برؤية ملامحه المذعورة التي لم يسبق لهم أن شاهدوها من قبل.
___________________
جلس داود إلى المائدة، يقطع لقيماته بعصبية ظاهرة، وكأن قطعة الخبز بين أصابعه هي المتسببة في ضيقه.
وفجأة، انفرجت شفتاه بحدة وقال وهو يرمق الفراغ بعينين مشدودتين:
“يعني هو اتعود ياخد العربية كده كل يوم!”
كانت النبرة ثقيلة، تحمل من الانزعاج أكثر مما تحتمل الكلمات، بينما رفعت عبير رأسها عن فنجانها، نظرت إليه بعينين يغشاهما هدوءٌ متعمد، كمن يسكب الماء على جمر مشتعل، ثم أجابته بصوت هادئ يوازن حرارة كلامه:
“ماهو أخدها علشان مشوار مهم يخص سامي، وبعدين يعني ماتقلقش… أخدها امبارح ورجعها صاغ سليم، وإن شاء الله يرجعها المرة دي برضه زي ما هي.”
زفر داود بقوة، ثم قال بنبرة أشد حدّةً من سابقتها، تحرك معها حاجباه المتجهمان:
“يارب… وإلا لو حصلها حاجة، هارميه من فوق السطح من غير ما أفكر!”
أمالت عبير رأسها قليلًا، وكأنها تحاول كبح موجة انفعاله بابتسامة صغيرة رسمتها على وجهها، وقالت بحزمٍ رقيق:
“ماتقولش كده يا داود.. هو بيعتبرها أمانة في إيده، وهيحافظ عليها.. روق بقى واهدا، وبالمناسبة… قولي، هتروحوا تسلّموا على يحيى امتى؟”
أرخى كتفيه قليلًا، وانخفضت حدّة صوته، بدا وكأنه يسلّم أمام صبرها الذي اعتاد أن يكسر حدة غضبه، فأجاب وهو يزيح كوب الشاي أمامه:
“كمان ساعة كده.. نستنى لما نتجمع إحنا الأربعة، وأحمد يجهّز الحاجة… وبعدها نروح.”
هزّت رأسها موافقة، وقالت بدعاء خافت:
“على خير إن شاء الله… يلا كمل أكلك.”
أطاعها في صمت، والتقط قطعة خبز جديدة وغمسها في الجبن، بينما ارتشف جرعة من الشاي الساخن كعادته كل صباح.. أما عبير، فجلست بدورها ترتشف شايها ببطء، تراقب بخفة حركة بخارٍ يتصاعد من فنجانها، وكأنهما معًا يحاولان استعادة صفاء اللحظة بعد موجة توتر قصيرة.
_____________________
في جهة الاخري…
كان الصباح ينساب بهدوء على بيت يحيى، الذي يصعد الدرج في تلك اللحظة نحو الطابق الثاني، بعد ليلة طويلة قضاها في غرفة الضيافة بالطابق الأول.
وحين بلغ الطابق الثاني، رفع يده وطرق الباب طرقات خفيفة، ثم ولج وهو يردد بصوتٍ دافئ:
“السلام عليكم.”
ترددت التحية في الغرفة بصوت نادية وابنتها فيروز، وقد كانتا منهمكتين في ترتيب مائدة الفطور.
وسرعان ما ابتسم وجهه حين استقبله صوت ابنته الحبيبة، فيروز، وهي تقول بمرح ممزوج بالحنان:
“صباح الخير يا بابا.”
اقترب منها وربت على كتفها بحنو، قائلاً:
“صباح النور يا عيوني.. شايفكم مجهزين الفطار من بدري.”
جلس متصدرًا الطاولة، ونظر إليهما بإعجابٍ حين أجابت فيروز بابتسامة تحمل شيئًا من الفخر:
“أنا وماما صحينا بدري وقررنا نعمل الأكل مع بعض… كنت عايزة أجرب أساعدها وأعيش الشعور ده معاها.”
أضاءت
كلماتها وجهه بإبتسامة خفيفة، وقد التفت سريعًا إلى نادية التي تبادلت مع ابنتها نظرةً صافية مفعمة بالحنان والرضا، ابتسامة أمٍّ تحتضن ابنتها بعينيها قبل ذراعيها.
لكن صوت يحيى قطع هذا الخيط الدافئ فجأة، وقد بدا فيه تساؤل مشوب بالقلق:
“أومال فين سامي؟!.. لسه نايم؟!”
رفعت نادية نظرها نحوه، وأجابت بلهجة خفيفة تميل للرتابة:
“سامي نزل من بدري مع صحابه… موسى بعتلي رسالة وقالي ماقلقش عليه، وهو معاهم، وقال كمان ممكن يتأخروا شوية على ما يرجعوا.”
انعقد حاجبا يحيى في لحظة ارتباك:
“ليه؟! هما رايحين فين؟!”
هزّت نادية كتفيها ببساطة، وقالت:
“معرفش والله، هو ماقالش.”
مال بجسده قليلًا للأمام، وصوته اكتسب شيئًا من الحدة القلقة:
“طب ما اتصلتيش بيه؟!”
تدخّلت فيروز سريعًا، بنبرةٍ هادئة لكنها واضحة:
“لا، هو سايب موبايله هنا.. أنا شوفته على السرير وأنا داخلة أصحيه.”
أحاط الصمت الطاولة للحظة، قبل أن يقطعه يحيى بحدةٍ ممزوجة بالدهشة:
“هو إزاي يسيب تلفونه كده! هو متعود يعمل كده يا نادية؟!”
حاولت نادية أن تبسط الأمر، وكأنها تخشى أن يأخذ يحيى الأمور أكبر من حجمها:
“لا مش من عادته.. بس عادي في الأيام دي ينسى، متنساش إن في ضغط بسبب تحضيرات الفرح، ودماغه مشغولة على طول.”
أومأ يحيى برأسه في صمتٍ، وكأن عقله يلتقط الكلمات لكنه لا يقتنع بها تمامًا. تبادلت عيناه نظرةً عابرة مع نادية، نظرة تحمل ما بين الاطمئنان والتساؤل الذي لم يجد بعدُ إجابة.
حتى
قطعت نادية هذا التوتر الخفيف بنبرةٍ حانية، وهي تنظر إلى ابنتها:
“اقعدي يا فيروز جنبي.”
جلست فيروز إلى يسار والدها، وعلى يمينها والدتها، ثم شرعوا جميعًا في تناول الطعام.. كان الجو عائليًا بحق، لكن الغياب الصامت لسامي ظلّ حاضرًا على الطاولة
رغم ذلك
.
___________________
على جهة أخرى….
ها هو المشهد وقد انبسط على الشاطئ، حيث وقفت المجموعة المكوّنة من ستة شبّان كصفٍ متماسك على الرمال الناعمة، يتقدمهم البحر بامتداده اللامحدود، مياهه تلمع تحت وهج الشمس كقطع البلور، والأمواج تتلاطم بانتظامٍ يشبه ضربات قلب المدينة الساحلية.
وهناك.. كانت لافتةٌ معلّقة على طرف الشاطئ تذكّرهم بالمكان:
الإسكندرية
، عروس البحر الأبيض المتوسط، التي تحمل في كل زاويةٍ من زواياها عبق التاريخ وروح المتعة.
وفي وسط هذا المشهد الآسر، كان وجه سامي أبعد ما يكون عن السعادة…
شفتاه متصلبتان بغضب، وصوته خرج كطلقةٍ حادّة، متصدّعاً في فضاء البحر وصخب العائلات المحيطة بهم:
“يعني أنا كان هيجيلي ذبحة صدرية علشان حضرتكم تجوبني إسكندرية؟!”
لم يكن اعتراضه مجرد كلمات؛ بل كان انفجاراً لعاصفةٍ حبيسة في صدره.. عيناه زاغتا بينهم، يتفحّص الوجوه الخمسة الذين رافقوه، يقرأ ملامحهم التي حاولت الاحتماء وراء أقنعة البراءة.
إلا أن صمتهم المتعمّد لم يزد غضبه إلا اشتعالاً، ليصرخ مجدداً وقد ألهب الهواء بحدّ نبرته:
“انقطع لسانكم دلوقتي.. ماحد فيكم يتنيل يجاوبني؟!”
التقت العيون الخمس سريعاً، ومضات من كبت الضحك والارتباك تعبر بينهم، وكأنهم صبية ضبطوا في مغامرةٍ غير محسوبة.
تقدّم موسى أولاً، محاولاً تهدئة الجو بنبرةٍ وديعة لكنها بدت مصطنعة:
“احنا كنا عايزين نحتفل بيك، بما إنك أول واحد اتخطفت مننا وهتتجوز.”
لكن كلمات موسى، بدلاً من أن تخفف، زادت من احتقان سامي الذي رد بعصبيةٍ أشدّ، وصوته يخرج متقطعاً كمن يلهث تحت ضغط انفعالٍ جارف:
“فقلتوا تخطفوني بجد! وبالمرة يعني تجيبولي صرع أو نوبة!”
اقترب كارم منه بخطواتٍ واثقة، ومدّ يده إلى كتفه في محاولةٍ لتلطيف الجو، صوته الأجشّ كأنه يريد أن يثبّت الأرض تحت قدميه:
“خلاص بقى يا صاحبي، فك كده… احنا عملنا كده علشان نفرحك.”
لكن لم يكن سامي في مزاجٍ يسمح له بالتصالح؛ فجذب جسده بعيداً عنه بحدةٍ، كأن لمسة اليد صارت عبئاً لا يحتمل، وردّ بحدة:
“ابعد إيدك عني! أوعى تلمسني!”
أطلق كارم ضحكة ساخرة، وهو يرد رافعاً حاجبه:
“هو أنا بكتيريا!”
كان الرد أقرب إلى صب الزيت على النار، فقد استدار سامي إليهم، وأشار إليهم بإصبعه واحداً تلو الآخر، كمن يحاكمهم في قاعة صامتة، وصوته يهدر بمرارةٍ ممزوجة بغضبٍ صادق:
“أنتوا صحاب انتوا؟! في صحاب بذمتكم يعملوا اللي عملتوه ده؟ كنتوا ناويين تجيبولي جلطة علشان تفاجؤني؟! انتوا مجانين!.. مفيش حد فيكم عاقل فكر إن كان ممكن يحصللي حاجة بسبب هزاركم الرخم ده؟!”
رد محسن وهو يرفع حاجبيه ببراءةٍ زائفة، يحاول إخفاء الشرارة التي تلمع في عينيه:
“احنا كنا عايزين نفرحك يا سيمو.”
تسعّر الغضب في صوت سامي وهو يلوّح بيده بانفعال:
“تفرحوني!.. الحاجة الوحيدة الحلوة في اللي عملتوه إنكم جبتوني إسكندرية، غير كده كله مصيبة فوق دماغي!”
شدّ بطرف ثيابه المبللة بالعرق والغبار، كأنه يريد أن يُريهم مهزلة الموقف:
“ده حتى نزلتوني بالبيجاما!.. وانتوا كل واحد لابس أحسن قميص عنده.. يا كلاب!”
قهقه موسى بخبثٍ وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة مريبة:
“ماتقلقش.. هدومك وهدومنا رايحين نفس المكان.”
تجمدت ملامح سامي، وقطب حاجبيه بدهشة وارتباك:
“تقصد إيه؟!”
لم يجيبه أحد مباشرة، بل تبادل الخمسة نظرات سريعة وابتسامات جانبية حملت كل معاني التواطؤ والاتفاق… كان الأمر أشبه بمكيدة حيكت بعناية.
وفجأة، وقبل أن يلتقط سامي أنفاسه، اندفعوا جميعًا نحوه كعاصفة بشرية، التفوا حوله ورفعوه عن الأرض دفعة واحدة، وسط صرخاته الغاضبة وركلاته العشوائية في الهواء:
“بتعملوا إيه! نزلوني يا كلاب!.. نزلوني حالًا!”
لكن صوته الضائع بين ضحكاتهم لم يكن له أي صدى يُنقذه، فقد اندفعوا به نحو البحر بخطوات سريعة، والرمال تتناثر من تحت أقدامهم، حتى وصلوا إلى حافة الموج، أطلقوا ضحكة جماعية عالية وألقوا به في المياه دفعة واحدة.
ارتفع صوت ارتطامه بالموج، ومعه صرخاته الغاضبة التي تحولت سريعًا إلى محاولات فاشلة للنجاة من “موجة الأصدقاء”.
كانوا يترصدونه من كل جانب، كلما نهض ليخرج أوقعوه من جديد، وكلما استجمع أنفاسه رشّوا وجهه بالمياه حتى يختنق بالضحك.
لم يمضِ وقت طويل حتى انكسر حاجز الغضب، ووجد نفسه مستسلمًا لتيار لعبهم، ينضم إليهم ويبادلهم رشق المياه، يتقاذفون الضحكات كما يتقاذفون الأمواج.
وفي تلك اللحظة، صدحت ضحكات الستة معًا، عاليةً، صافيةً، امتزجت بأصوات البحر ولفتت أنظار من على الشاطئ.
كان المشهد لوحةً من البهجة الطفولية الصافية، حيث لا يبقى من المشهد سوى الصداقة التي غلبت الغضب، وصوت الموج الذي احتضن ضحكاتهم في حضن الإسكندرية.
________________
_
مع مرور الوقت….
تحت ضوء المصباح الأصفر الخافت، كان المشهد أشبه بزاوية دافئة وسط برودة الليل…
نسمة البحر تتلاعب بخصلاتهم، ورائحة الملح تلتصق بالجلد والملابس، بينما جلسوا في دائرة غير منتظمة على الرمال الرطبة، كل واحد منهم متكئ بطريقة مختلفة وكأنهم وجدوا أخيراً مكانهم الطبيعي… أصوات ضحكاتهم تتعالى بين الحين والآخر، متقطعة كأمواج صغيرة تتلاحق ثم تهدأ.
كان سامي جالسًا بينهم، يطالع وجوه أصدقائه بابتسامة واسعة، عينيه تلمعان من خليط غريب بين الامتنان والضيق المصطنع، قبل أن يقطع صمتهم المليء بالذكريات قائلاً بنبرة نصف جادة نصف هازئة:
“أنا مش عارف بجد المفروض أفرح ولا أزعل ولا أتعصب من اللي عملتوه!”
لم ينتظر كارم كثيرًا، كعادته في أخذ زمام المبادرة، فانبرى يرد بحماسة وهو يلوح بيده كأنه يعدد إنجازات عسكرية:
“المفروض تفرح ياصاحبي! ده احنا خليناك تقضي يوم صعب يتكرر تاني.. جيبناك إسكندرية، نزلناك البحر، أكلناك أحلى أكلة سمك وجمبري، وفريسكا وأيس كريم… وأدينا قاعدين بنقزقز لب في أحلى جو.”
ابتسم سامي وهو يهز رأسه، ثم أردف بتهكم خفيف:
“تصحيح بسيط… أنتم خاطفني لإسكندرية، ومغرقني في البحر… أما باقي الحاجات تشفعلكم فعلاً.”
ضحكة خافتة انفجرت من حسين وهو يمدد جسده مستمتعًا بالهواء:
“وبالذات أكلة السمك والجمبري، كانت جامدة بصراحة.”
التفت إليه سامي سريعًا وهو يربت بخفة على معدته قائلاً بمكر:
“ده رد طبيعي منك، إنت طول عمرك همك على بطنك.”
ارتفعت ضحكاتهم جميعًا كأنها موجة اجتاحت الدائرة، حتى خفت قليلًا، فاعتدل سامي وسأل بنبرة تحمل فضولًا حقيقيًا هذه المرة:
“على كده بقى… فكرة مين الرحلة دي؟”
أجاب حسن بهدوء وصدق:
“كلنا… احنا كلنا كنا مخططين للموضوع ده من زمان.”
لم يكد يفرغ من كلماته حتى تدخل سامي بنصف ابتسامة وهو يرفع حاجبه:
“ومين بقى اللي شايل تكاليف الليلة دي؟”
رد موسى سريعًا، كأن الجواب جاهز على طرف لسانه:
“كلنا… كلنا هندفع يا غالي، حتى إنت.”
تجهم حسن قليلًا وهو يعتدل في جلسته معترضًا بجدية:
“يابني ماينفعش، ده عريس برده!”
هنا، انحنى سامي إلى الأمام قليلًا، رفع يده في الهواء ساخرًا بنبرة تجمع بين المزاح والاحتجاج:
“هو إنتوا خلتوا فيها عريس! قولوا غريق بقى… أو مخطوف.”
تقدّم موسى في الحديث وهو يلوّح بيده بعفوية:
“أنا ماليش دعوة عريس ولا عتريس، أنا عايز كل قرش دفعناه في الرحلة دي يتقسم علينا كلنا، حتى البنزين بتاع العربية.. مش مال حرام هو!”
رفع سامي حاجبيه مستنكرًا، وقال بحنقٍ يغلّفه شيء من المزاح:
“يعني إيه؟ عايزني أحاسبك دلوقتي ولا إيه؟!”
ابتسم موسى، ثم أضاف وهو يحاول تهدئة الجو:
“لأ مش دلوقتي يا سيدي.. ممكن نستنى لحد بعد الفرح، أنت عريس وأكيد مزنوق، وأنا هخلي قلبي طيب وأسيبك لحد ما تروق… وقتها نحسب الحساب وتشوف المفروض تدفع كام علشان تبقى زينا.”
تنفّس سامي بحدة وهو يمدّ يديه كأنه يستسلم:
“أنا مش فاهم والله! إيه الرحلة اللي لازم أشارك في تكاليفها دي وأنا أصلاً ماكنتش أعرف إنها موجودة!”
انحنى موسى قليلًا إلى الأمام وهو يعدّد وكأنه يوجّه الحجة الأخيرة:
“بس كنت جزء منها يا غالي.. مش ركبت معانا العربية؟ ونزلت البحر؟ وأكلت السمك والجمبري؟ وكان في استاكوزاية مخصوص ليك، و المحروس حسين اللي خلّص عليها.”
انفجر سامي قائلاً وهو يشير إليه كمن يُستفَز:
“إيه ده؟ أنت بتزلني يابني؟!”
ابتسم موسى ابتسامة خبيثة ممزوجة بالمرح:
“مش بزلك يا صاحبي، أنا بس بفكّرك باللي أكلته.. الرحلة دي كنت واحد فيها، فاهتدفع زينا، سواء رضيت أو لأ.”
وضع سامي يده على صدره بتصنّع، وأخذ نفسًا عميقًا، ثم قال بضيقٍ ساخر:
“خلاص يا أخويا.. متشكرين أوي على الرحلة اللذيذة التحفة دي… بس اسمحولي أسأل سؤال مهم.. هل في مكان هنبات فيه الليلة دي ولا هترجعونا آخر الليل؟!”
أتى صوت حسن هادئًا كعادته، كأنه صخرة تتكئ عليها ضوضاء الآخرين:
“لا ما تقلقش، موسى مظبّط الموضوع ده.”
التفت سامي نحوه ببطء، ثم صوب نظره إلى موسى مباشرةً، متعمّدًا تثبيت عينيه فيه:
“قولي يا أستاذ موسى.. هننام فين بالظبط؟”
أجاب موسى بثقة:
“هننام عند عمتي سامية… أنا كلمت عمي كمال وبلغته إننا هنا النهارده، فراح قايل إنه هيجهزلنا الشقة اللي في الدور الأول… هنبات هناك ونفطر معاهم الصبح، وبعدها نرجع القاهرة.”
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه سامي وهو يحرّك رأسه يمنة ويسرة:
“لا بقى.. أنتوا طلعتوا مخططين لكل حاجة من قبلها! ده حتى عاملين حسابكم في هدوم بديلة.”
ساد بينهم صمت قصير لم يقطعه سوى
سامي الذي أمسك بطرف قميصه ثانية، وكأن الفضول الذي يلحّ على ذهنه لم يترك له مجالاً للصمت، ثم قال مستفسراً بنبرة ممتزجة بالدهشة:
“صحيح بقا! قميص مين اللي انا لابسه ده؟!”
التفت كارم نحوه وهو يشيح بعينيه إلى موسى، كاشفاً الأمر بإيماءة صامتة قبل أن يرد:
“ده قميص موسى، بما إنكم أقرب اتنين لبعض في المقاس، فهو جابلك قميص زيادة من عنده.”
حدّق سامي في القميص ثم تساءل وهو يقطّب حاجبيه:
“على كده جديد ولا مستعمل؟!”
أجابه موسى ببرودٍ متعمد، لم يخلو من السخرية:
“جايبه من الغسيل، ما لحقش يتغسل.”
انعقدت ملامح سامي في لحظة خاطفة، وعيناه تتسعان بالاستغراب قبل أن يرميه بنظرة مصدومة، لكن سرعان ما كسر هذا الصمت بضحكة ساخرة قال معها:
“علشان كده شامم ريحة من ساعتها.”
انفجروا جميعاً بالضحك، لكن سامي لم يترك لنفسه أن يستسلم لذلك المرح طويلاً، إذ ما لبث أن أعاد ملامحه إلى الجدية، وطالع موسى مباشرة بعينٍ فاحصة:
“أنا شوفت التيكت وأنا بلبسه.. القميص جديد يابرنس، لتكون شاريه مخصوص ليا؟!”
ارتبك موسى للحظة، لكنه تدارك الأمر ورد سريعاً ببرودٍ مصطنع:
“وأشتريه ليه!.. ده أمي اللي كانت جايباهولي ومعجبنيش، فقلت أسيبه لصاحب نصيبه، وأهو طلع من نصيبك ومظبوط عليك.”
ثبت سامي نظره عليه مطولاً، وكأن عينيه تنفذان إلى أعماقه، ثم ابتسم ابتسامة هادئة لم تُخفِ شيئاً مما يكنّه داخله، وقال بنبرة رتيبة عميقة:
“هتفضل كده على طول وعمرك ما هتتغير، لما تعمل الحلو تداريه، ولما تعمل الوحش تبوح بيه… زي ما عملت كده امبارح، وخبيت عني إنك هتروح تجيب بابا وفيروز من المطار.”
سارع موسى في الدفاع عن نفسه، وقد بدا صوته مشوباً بالتوتر:
“أنا خبيت عنك علشان…”
لكن سامي قاطعه بتمهل وهو يردّد بهدوءٍ يشي بالفهم:
“عارف.. عارف إنك عملت كده علشان عايز فرحتي تبقى كاملة بوجود الناس اللي بحبها، وعارف كويس إنك خبيت عني الموضوع بسبب ده، علشان كده مش زعلان منك.. وبرضه ما أنكرش إني امبارح لما عرفت من فيروز إنك اللي وصلتهم كنت متعصب ومتضايق منك، بس لما راجعت نفسي وفكرت عرفت إنك عملت ده علشاني.. علشان كده ما رضيتش أجيب سيرة الموضوع أو أفاتحك فيه لحد دلوقت… بس كان لازم أفهمك إني مش مضايق منك يا موسى، وعارف أنت خبيت عليا ليه… وأنا بصراحة لو في مكانك كنت هعمل نفس اللي عملته.. فمقدّر موقفك أوي يا صاحبي، ومتشكر على كل حاجة.”
انعكس كلامه على وجه موسى كظلٍّ من راحة غامرة، فأجاب بنبرة دافئة ابتسم معها بصدق:
“أوعي تشكرني يا سامي، ده إحنا عشرة عمر يا صاحبي، ما فيش شكر بينا… ده إنتوا كلكم إخواتي والله، وربنا يعلم اللي في قلبي ليكم يا جدعان.”
ساد بينهم صمت قصير، لكنه لم يكن صمتاً فارغاً، بل صمت محمّل بدفء اللحظة التي جمعت قلوبهم في نادِر ما يجتمعون عليه… ارتسمت ابتسامات لطيفة على وجوههم، كلٌّ منهم يغرق في معناه الخاص لهذا الترابط.
قطع سامي هذا الجو وهو يلتفت نحو محسن، الذي كان متشبثاً بذراعه بلا هوادة، وقال له بحنقٍ ساخر:
“يا بني ابعد عن دراع اللي خلفوني، أنا مش أعرف أتأثر بالكلمتين اللي قالهم الراجل.”
ضحك الأربعة معًا، وكان ضحكهم يحمل تلك الخفة التي تُشعرك أنّ بين القلوب ألف رابط غير مرئي.
وحده محسن هزّ رأسه نافياً وهو يقول بعفوية طفل:
“لا.. أنا مش هسيبك، عايز أشبع منك قبل ما تتجوز وتبعد عنّا وتسيبنا.”
ارتسمت على وجه سامي ابتسامة ممتزجة بالغضب وهو يردّ:
“أسيبكم وأروح فين؟!.. ما أنا لسه قاعد معاكم في نفس الشارع، بدل ما كنت في الدور التاني بقيت في التالت.. هي هي نفس الخمس دقايق اللي بيني وبينكم.. ولسه زي ما أنا، بابي في وش باب الأستاذ.”
قالها ثم التفت إلى موسى الذي كان يضحك مثل البقية، ثم عاد إلى محسن، لكن محسن ظلّ مُصرًّا على براءته وهو يوضح:
“إنت هتبعد عنّا روح يا صاحبي، مش جسد.”
رفع سامي حاجبيه ساخراً:
“روح مين يا حيلتها؟!”
“أقصد إنك لما تتجوز هتبعد عنّا بروحك.. يعني الوقت اللي كنت بتيجي فيه من الشغل وتقعد معانا، بعد الجواز هتروح البيت، تاكل وتنام وتونسها.. ولما تفكر تنزل، هتبقى قاعد معانا بس تفكيرك معاها.”
سكت سامي لحظة، ثم زفر بعمق وكأن الكلمات دخلت قلبه على مضض، حتى خرج صوته هذه المرة أهدأ:
“يعني أنت زعلان علشان هبعد عنكم؟!”
أومأ محسن ببساطة:
“آه.”
ابتسم سامي بسخرية خفيفة وهو يرد:
“يعني ما اتجوزش؟ وأفركش كتب الكتاب اللي بكرة ده ولا إيه؟!”
انفجروا جميعًا بالضحك، بينما ظل محسن على وداعته يقول بصدق:
“اتجوز.. بس ماتبعدش عنّا.”
مال سامي برأسه، ونبرة صوته اكتسبت شيئًا من الرقة، من العمق:
“يا بني ماقدرش والله أبعد عنكم… إنتوا إخواتي يا محسن.”
أدار بصره ناحية كارم وموسى الجالسين أمامه، كأنه يُثبت المعنى أكثر مما ينطق به:
“كارم وموسى.. عشرة أكتر من عشرين سنة.”
ثم عاد يواجه محسن وهو يضيف:
“وإنت وإخواتك من 15 سنة من ساعة ما جيتوا منطقتنا.. ومن يومها وأنتوا جزء من شلتنا.. إحنا الستة مضلّع سداسي.. كل ضلع ماسك في اللي قبله، لو ضلع وقع.. كله ينهار.. ماينفعش ينقص واحد، وإلا يبقى فقدنا التماسك والترابط والهوية.”
تنقّل بعينيه بين وجوههم جميعًا، وأكمل بلهجة حاسمة لكنها مغموسة بالحنان:
“من الآخر يا محسن.. مهما اتغيّرت حياتنا، ومهما دخل ناس جداد فيها، هنفضل زي ما إحنا.. صحاب وإخوات.”
سكت لحظة، ثم رفع صوته يسألهم بنبرة أشبه بالنداء:
“ولا إيه يا رجالة؟! مش أي واحد فينا لو اتجوز هيبقى مكاننا محفوظ عنده زي ما كان دايمًا؟!”
التقت أعينهم ببعضهم، لحظة صمت قصيرة جمعتهم كأنها ميثاق غير مكتوب، ثم جاء الجواب بصوت واحد:
“ده أكيد.”
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه سامي، وردّد معهم بتصديق داخلي:
“ده أكيد.”
و
كانوا جميعًا يدركون أن هذه المشاعر لم تولد فجأة… إنها ثمرة سنوات طويلة، مرّت بحلاوتها ومرارتها، بضحكاتهم وسهراتهم، بأسرار دفنوها في صدور بعضهم، وبأيام شاركوا فيها الهمّ قبل الفرح.
لقد نسجت السنين بينهم خيطًا لا ينقطع، حتى صاروا روحًا واحدة موزّعة على ستة أجساد… روح متينة كالأوتاد، ثابتة في الأرض مهما عصفت بها الرياح.
الصداقة!
ليست مجرد كلمة.. بل دفء وسند.
ليست مجرد رابطة.. بل ملاذ وأمان.
إنها الماء حين يظمأ القلب، والدواء حين يئنّ من الوحدة.
إنها أثمن مما يقدّره الناس.. أثمن من كل شيء.
____________________
_
“بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.”
بهذه الكلمات المقتضبة، الحاسمة، أعلن الشيخ اكتمال عقد القران…
كلمات بدت بسيطة في ظاهرها، لكنها كانت كفيلة بأن تغيّر مسار حياتين، وتجمع قلبين تحت سقف واحد، لحظة علّقت فيها أنفاس “سامي”، وارتجف لها قلب “ليلى”.
انطلقت الزغاريد تمزّق جدار الصمت، تعلن الفرح وتُغطي على كل همس، بينما اندفع الأقارب يتسابقون لتهنئة العروسين؛ وجوه كثيرة تتزاحم، بعضها يفيض صِدقًا ومحبة، وبعضها يكتفي بارتداء ابتسامة مُستعارة، ومن بين هذه الوجوه كان “يحيى” الذي بدا وكأنه يبتلع غصّة، يحاول جاهدًا أن يخفيها خلف قناع مجاملةٍ متكلّف، خاصة حين التقت عيناه بعيني “ليلى” وأهلها، وقد كان واضحًا أن قلبه لم يتقبل الأمر بعد، وأن هذا الزواج بالنسبة له ما زال جرحًا غضًا لم يلتئم.
بعيدًا عن ظلال الحرج تلك، كان الأصدقاء الخمسة يندفعون نحو صديقهم، يتعاقبون في عناقه واحدًا تلو الآخر، كأنهم يسابقون الزمن ليثبتوا أن الفرح فرحهم جميعًا.
ضحكاتهم الصافية امتزجت بمباركاتهم الصاخبة، إلى أن وصل الدور إلى “موسى”، الذي ضم سامي بقوة، ثم ابتعد مشاكسًا:
“كده اتدبست رسمي.”
ابتسم سامي ابتسامة مملوءة بالرضا:
“أحلى تدبيسة في العمر، صدّقني… عقبالك.”
لكن عين موسى لم تذهب إلى سامي هذه المرة، بل تسللت دون وعي لتستقر عند “فيروو” وهي تعانق “ليلى”، فانعكست في بؤبؤه ابتسامة لم يستطع إخفاءها.
وعندها قال سامي وهو يلتفت نحو رفاقه:
“عقبالكم كلكم يا شباب.”
فأجابوه بصوت واحد كأنها دعوة جماعية:
“آمين يا رب.”
ضحك بخفة على انسجامهم العجيب، ثم استدار نحو زوجته وأخته اللتين كانتا تتبادلان الكلام بفرحٍ عفوي.
تحدثت فيروز بحماس:
“إحنا عايزين نبقى صحاب يا ليلى… عايزة أبقى قريبة منك أكتر ما أنا قريبة من سامي.”
ابتسمت ليلى بخجل وحنان، وأومأت برأسها:
“وده يفرحني أوي.”
تدخّل سامي بصوت متصنّع الغيرة:
“بعتيني كده بسرعة يا فيروز؟!”
رمقته فيروز بحركة طفولية وهي تضم شفتيها وكأنها تفكر، ثم أجابت بخفّة:
“مقدرش أزعلك… بص، أنا هبقى قريبة منكم انتوا الاتنين.”
ضحكوا جميعًا من قلبهم، وكأن الجوّ كله صار لوحة من ألفة صافية.
وفي خضم ذلك، تقدمت والدة ليلى تحمل طفلها الصغير “يزيد”، وعلى وجهه علامات الاستيقاظ، عينان نصف مغمضتين وشعر منكوش، كأنه لم يستعد بعد لمواجهة هذا الضجيج.
تناولته ليلى بحنو الأم الثانية، قبّلت وجنته، ثم فوجئت بسامي يقترب هو الآخر، يطبع قبلة على نفس الوجنة، ويقول بابتسامة صادقة:
“أهلا بيك يا يزيد في عيلتك الجديدة.. طبعا أنت عارف ماما، بس لسه ما اتعرفتش على أختي… اللي هتبقى بمقام عمتك.”
في اللحظة نفسها مدّت فيروز يديها لتأخذ الصغير، وبدأت تلاعبه بحبٍ فطري:
“شفتوا الصغنن الحلو ده؟! إيه القمر ده! إيه الشوكولاتة دي!”
ضحك الجميع على حركاتها المبالغ فيها، إلا موسى الذي ظلّ يراقبها في صمتٍ، وعيناه تتكلمان أكثر مما يُقال.
تابعت فيروز تداعب الطفل بصوت حنون:
“أنا هخليك تتعود عليا بسرعة، وهتنطق اسمي كمان… عارف إنه صعب، بس هتنطقه صح يا يزيدو؟!”
ثم رفعت رأسها تسأل ليلى بجدية ناعمة:
“هو عنده سنتين، صح؟”
“لأ… سنتين ونص.”
“واضح إنه تأخر شوية في النطق.”
أجابت ليلى بصوت بدا فيه القلق:
“هو مش بينطق غير ماما وبابا وجدو… وشوية كلام كده مش مترتب.”
هزّت فيروز رأسها بتفهم:
“عادي، لما يقعد وسط ناس كتير هيلقط الكلام أسرع… أما وزنه، فأنا هديكي شوية وصفات تخليه مقلبظ زي سامي وهو صغير.”
أطلقوا جميعًا ضحكة جماعية على تعليقها، حتى سامي الذي التفت إلى ليلى ساخرًا:
“من حسن حظك إن صاحبتك دكتورة أطفال… هتفيدك أوي.”
احمرّت وجنتا ليلى من الخجل، ثم همست وهي تبتسم:
“أنا محظوظة بالعيلة كلها أصلا.”
تجمّد الزمن لحظة وهو يطالعها، نظراته تنطق بما عجز لسانه عن قوله، لكن سرعان ما قطع الصمت بينهما صوت الميكروفون وهو يعلن انتهاء المراسم رسميًا، ويعيد ذكر الأسماء أمام الحضور.
وهناك، وبين الجموع، اقتر سامي بخطوة جريئة، مدّ يده ليقبض على يدها في أول إعلان عملي لارتباطهما.
تفاجأت من لمسته، ارتبكت من جرأته، لكنها فوجئت أكثر حين قال لها هامسًا:
“ممكن تيجي معايا دقيقة؟”
ترددت لثوانٍ، ثم نظرت لوالدتها فأومأت لها بخفّة موافقة، فأومأت ليلى بابتسامة مرتعشة ووافقت.
ابتسم سامي ابتسامة تخلو من الخجل هذه المرّة، ثم قادها بهدوءٍ نحو إحدى الغرف الفارغة في البيت، مكان هادئ بعيدًا عن زحام التهاني والزغاريد.
أغلق الباب خلفهما، وصار الصدى الخافت للفرح خلف الجدران وكأنّهما في عالمٍ آخر كله للاثنين فقط.
قادها إلى أريكة موضوعة بجانب النافذة، جعلها تجلس، واتكأ أمامها وهو يقدّم يديها بين كفيه كمن يسلّم لأغلى هدية.
ظلّ ينظر إلى عينيها طويلاً، نظرة مليئة بامتنانٍ وخوفٍ وفرحٍ معاً؛ كأنّ تلك العيون كانت مجرى كل وعوده التي بقيت تراكم في صدره إلى أن انفجرت.
تنفّس بعمق، وخفض بصره للحظة نحو كفيها، ثم بدأ يتكلم بصوتٍ هادئٍ، يتخلّله خجلٌ طريّ:
“عارفة إنك مستغربة من اللي عملته ده، بس أنا كنت مستنّي اللحظة دي من زمان… كنت مستنّي اللحظة اللي تبقي فيها حلالي رسمي، عشان أقدر أمسك إيدك وأقولك الكلمتين دول، واللي مهم ليا إنك تسمعيهم.”
وقفت الكلمات على شفتيه للحظة، ابتلع ريقه، ثم استرسل وهو يبحث عن كل صراحةٍ وحبٍ في صوته:
“أنا وقعت فيكِ صدفة… كنت بدوّر على واحدة تكون زوجة وصاحبة وبنت ناس، وفي اللحظة اللي سمعت فيها عنك من الشيخ سالم، قلبي ماطلّعش غير إني أجرب حظي… جيت وطلبت إيدك وأنا عارف ظروفك كويس… قلت أجرب، احتمال تبقي أنتِ نصيبي، ولما شُفتك بقيت متأكّد إنك اللي قلبي بيدوّر عليها.”
سكت للحظة ثم تنهد بخفوت وتابع:
“عايز أوعدك… أوعدك إني هريح قلبك، ومش هخلي اللي عيشتيه ينعاد… ابنك ده من دلوقتي أعتبرته ابني، وقلبي ده مش هيبقى لغيرك، وعد مني يا ليلى… وعمري ما هخلِف وعدي.”
عجز…
عجز لسانها أن ينطق بحرف، وكأن الكلمات جميعها قد تبعثرت داخل صدرها ورفضت أن تخرج، مهما حاولت أن تجمعها.
ما سمعته للتو كان أثقل من قدرتها على التعبير، أعمق من حدود اللغة نفسها. كيف تُخبره أنّها شعرت براحةٍ لم تعرفها منذ زمن؟ كيف تقول له إن قلبها الذي أرهقته التجارب القاسية وجد فجأة مأمنه بين يديه؟
ظلت ساكنة، وصوتها مكبّل، لكن عينيها خانت صمتها؛ دمعة دافئة انسلت على وجنتها، ولم تكن دمعة ألمٍ بل دمعة طمأنينةٍ وامتنان. في بريقها أخبرته بكل ما عجز لسانها عن قوله: “أثق بك… أصدقك… وأطمئن لوعدك.”
رآها هو، وفهم دون أن تحتاج لشرح… تلك الدموع لم تكن ضعفًا، بل كانت اعترافًا أبلغ من أي كلمة.
ابتسم بحنان، واقترب يمسح دمعتها برفقٍ كأنها أثمن ما تملك، فارتجف قلبها لحركةٍ صغيرة حملت معها ألف وعدٍ جديد.
في تلك اللحظة، لم يعد للصمت ثقل، بل صار لغةً كاملة بينهما، لغةٌ صافية تقول إنّ الأرواح حين تتعاهد بصدق، لا تحتاج الكلمات لتشهد.
لقد تَعَهَّدَ لها بقلبه، وتعهدت له بنظرتها، وكان ذلك كافيًا ليؤسّس لبداية حياةٍ يملؤها الأمان والحب.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.