رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل العاشر 10 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل العاشر

الفصل العاشر(سرّ لا يدركه أحد سواهم)

الفصل العاشر(سرّ لا يدركه أحد سواهم)

السعادة…
ذلك الإحساس الدافئ الذي يتسرّب إلى أرواحنا فيغمرها بهدوءٍ وطمأنينة، كنسمةٍ رقيقة في نهارٍ حار.

هي تلك اللحظة التي نشعر فيها أننا بلغنا ما حلمنا به طويلًا، أو رأينا في أعين أحبّتنا بريق فرحتهم وقد تحققت أمانيهم.

تزداد هذه السعادة عمقًا حين نشاركها مع أقرب الناس إلى قلوبنا؛ حين تتحوّل من شعور فردي إلى طاقة مشتركة تنسج خيوط المودّة بيننا وبين من نحب.

كان الخمسة منذ الصباح في حركةٍ لا تهدأ، يعملون على قدمٍ وساق في تجهيزات زفاف صديقهم سامي، الذي لم يكن مجرّد صديق، بل أخًا سادسًا في روحهم.

كان الشارع يضج بالحياة أسفل بيت سامي وموسى؛ مقاعد تُرتّب، أضواء تُعلّق، وروائح الطعام تمتزج مع أصوات الضحكات والنداءات.

ويحيى، رغم إصراره على المشاركة، كان يُبعد بلطف، فقد اتفقوا فيما بينهم أن يكونوا هم أصحاب المسؤولية من البداية حتى النهاية، زفاف سامي بالنسبة لهم ليس حدثًا عابرًا، بل فصلًا جديدًا في حكاية أخوّتهم.

في الطابق الأعلى…

كان موسى يصعد إلى شقته بعدما تأكّد أنّ كل شيء يسير كما خطّطوا له، ووجد والدته في غرفة المعيشة تُمرّر المكواة على بعض الملابس.

ألقى عليها السلام على عجلٍ ومضى إلى غرفته دون انتظار ردّها، وهي بدورها رفعت رأسها تبحث عنه، فلم ترَ إلا باب غرفته يُغلق خلفه، فأدركت أنّه مستعجل بسبب ترتيبات الزفاف، وعادت إلى ما في يدها.

لكن بعد لحظات خرج موسى مجددًا ينادي عليها:

“يا حجة!”

ردّت وهي ما تزال منحنية على المكواة:

“نعم!”

تقدّم نحوها وهو يمسك قميصًا أزرق، ملامحه متوتّرة وصوته يحمل شيئًا من الضيق:

“ماكوتيش القميص ليه؟! أنا قايلك الصبح قبل ما أنزل وسيبتهولك على السرير علشان تكويه.”

رفعت رأسها إليه بهدوءٍ استفزه، وأجابت:

“تلاقيني نسيت، أصل أنا روحت عند خالتك نادية ولسه راجعة من نص ساعة، يدوبك لميت الغسيل اللي كان على الحبل، وأديني بكويه أهو هو وهدوم أبوك اللي هيلبسها النهاردة.”

أخذ نفسًا طويلًا يحاول أن يكبح به عصبيته وقال بنبرةٍ أكثر هدوءًا:

“طب معلش، أجّلي كوي الحاجات دي، واكوي القميص ده بسرعة لحد ما أدخل أستحمي.”

هزّت رأسها دون أن تتوقف عن الكي:

“طب استنى لحد ما أخلص كوي هدوم أبوك الأول علشان هو عايزهم.”

أجابه بنفاذ صبرٍ حاول جاهدًا أن يُخفيه:

“أبويا لسه هيلبس بعد المغرب بساعة، أما أنا لازم ألبس وأنزل دلوقتي علشان التجهيزات اللي تحت.”

كرّرت كلامها بصوتٍ ثابت:

“قلتلك استنى لحد ما أخلص اللي في إيدي يا موسى، خمس دقايق بس.”

نظر إلى الملابس المكدّسة أمامها وأشار بيده في ضيق:

“خمس دقايق إيه يا حجة! أنتِ مش شايفة الجبل اللي قدامك ده؟ ده أنتِ قدامك ساعة على الأقل لحد ما تخلصي.”

ابتسمت ابتسامة صغيرة لا تخلو من الدفء وقالت:

“بيتهيألك بس، ده هما خمس دقايق مش أكتر… ادخل أنت استحمي وأول ما تطلع هتلاقيه مكوي.”

زفر موسى بضيق، وكأن الهواء المحبوس في صدره لم يعد يحتمل المزيد، ثم مرّر كفه بعنف على وجهه كمن يحاول نزع الغضب عنه بالقوة، ولم ينبس بحرفٍ آخر، بل استدار سريعًا وانصرف من أمامها بخطوات مثقلة بالانفعال.

ارتفعت عيناها نحوه بدهشةٍ ممتزجة بالضيق، وصوتها يلحق به وهي تستفهم:

“رايح فين؟!”

لم يمنحها سوى إجابة قصيرة، خرجت من بين شفتيه خشنةً كالحصى، وهو يتجه مباشرة إلى باب الشقة:

“رايح أكوي القميص… علشان هدوم الحج ماينفعش تستنى.”

لم يلتفت إليها، بل أنهى كلماته وهو يغلق الباب خلفه بعنفٍ جعل الصمت يتردد في جدران المكان.

عندها وقفت تنظر إلى الأثر الذي تركه خروجه المتسرّع، يثقل قلبها شعورٌ بالانزعاج؛ إذ رأت في تصرفاته تلك نزقًا طفوليًا لا يليق برجلٍ مثله.

_________________

_

وقف في المحل يتأفف في صمت، عيناه تتابعان حركة المكواة وهي تنساب على القماش بخطوط مستقيمة، وكأن كل ثانية تمضي أثقل من التي قبلها.

التفت نحو الرجل الذي ينحني على الطاولة وقال بنبرة تحمل استعجالًا مكتومًا:

“فاضل كتير يا صلاح؟”

رفع صلاح رأسه سريعًا، ولم يوقف يده عن الحركة وهو يجيبه بابتسامة عابرة:

“خلاص يا برنس… دقيقة وتلاقيه زي الفل.”

تمتم موسى وهو يزفر:

“بسرعة بالله عليك.”

خلع قبعته بضجر، وأخذ يفرك خصلات شعره السوداء بعصبية، كأن الوقت يتسرب من بين يديه.

وفجأة قطع صوت رنين هاتفه تيار أفكاره، فسحب الجهاز على عجل من جيبه ورد بمجرد أن لمح اسم المتصل:

“أيوه يا كارم، وصلتوا؟”

جاءه صوت صديقه من الجهة الأخرى مفعمًا بالحركة:

“وصلنا من ساعتها، وأدينا رايحين الأستوديو علشان السيشن… المهم، إنت وحسن عندكم كل حاجة ماشية تمام؟”

“تمام، ما تقلقش… أكدنا على كل التفاصيل، هنغيّر ونرجع تاني.”

“كويس… أنا أول ما نقرب هرن عليك.”

أومأ موسى وهو يردد:

“تمام.”

“يلا سلام.”

أغلق موسى الخط وأعاد الهاتف إلى جيبه، ثم التفت ليجد صلاح يرفع القميص مكويًا بدقة ويقول بابتسامة:

“خلصت يا برنس.”

تناول موسى القميص من يده وهو يبتسم بامتنانٍ قصير:

“تُشكر يا صلاح… أشوفك في الفرح يا غالي.”

قهقه صلاح قليلًا وسأله مازحًا:

“طب مش هتحاسب؟!”

غمز موسى بعفوية وهو يتراجع للخارج:

“الحساب وقت الحساب، يا غالي… سلام.”

أغلق الباب خلفه، تاركًا ضحكة صلاح تلاحقه مع تعليقٍ ساخر أطلقه وهو يهز رأسه:

“بيخاف على القرش أكتر من أمه وأبوه.”

__________________

خرج موسى من بيته بعد أن بدّل ملابسه على عجل، لكن بترتيبٍ يعكس دقته في أدق التفاصيل؛ ارتدى قميصًا أزرق قاتمًا رفع أكمامه إلى منتصف ساعديه كما اعتاد دائمًا، وبنطالًا وحذاءً أسودين يضفيان وقارًا على مظهره، فيما توّج إطلالته بقبعته المفضلة وساعة يدٍ تطابق لون قميصه بدقة، وكأنها خيطٌ آخر يربط بين أناقته وبين حرصه على كل ما يفعله.

اندفع بخطوات سريعة بين الستائر الضخمة التي غطّت المكان استعدادًا للزفاف، يزيحها بجسده بعجلةٍ حتى وصل إلى المنصّة، وهناك رفع صوته عاليًا وسط ضجيج العمال والموسيقى التجريبية:

“كله تمام يا جماعة؟”

ردّ أحد المنظمين مطمئنًا وهو يرفع يده بإشارة تأكيد:

“كله تمام يا برنس، عشر دقايق ونكون مخلصين.”

أطلق موسى تنهيدة قصيرة، وابتسم بخفة قائلاً:

“ممتاز يا رجالة… وعقبالكم جميعًا.”

انفجر آخر منهم ضاحكًا وهو يجيبه:

“كلنا متجوزين من زمان!”

قهقه موسى بدوره وأردف وهو يلوّح بيده:

“خلاص… عقبالي أنا بقى.”

أخذت الضحكات تتردد في المكان، فابتسم لهم سريعًا ثم واصل طريقه نحو ركن الدي جي، وما إن اقترب حتى ألقى التحية بصوتٍ واضح:

“السلام عليكم.”

ابتسم المسؤول وهو يرد بهدوء:

“وعليكم السلام.”

ألقى موسى نظرة على شاشة الحاسوب أمامه، ثم سأله بنبرة فاحصة:

“شغال كويس ولا علّق تاني؟”

هزّ الرجل رأسه مطمئنًا:

“لا يا برنس، شغال عال العال من ساعة ما صلحته آخر مرة.”

ارتسمت على وجه موسى راحة خفيفة، ثم قال:

“الحمد لله… طيب، جهزت قايمة الأغاني اللي قلتلك عليها؟”

“أيوه، كلها جاهزة.”

“تمام… روّقنا بقى يا غالي.”

ابتسم الرجل وهو يومئ:

“من عينيا، حاضر.”

ربّت موسى على كتفه بخفة مرددًا:

“تسلم عينك يا غالي… عن إذنك.”

فأجابه الآخر باحترامٍ وود:

“إذنك معاك يا برنس.”

أومأ له موسى بالإيجاب، ثم انصرف مبتعدًا عنه بخطواتٍ ثابتة، حتى لمح حسن يقترب منه من بين الزحام، وقد بدّل ملابسه هو الآخر، مرتديًا بنطالًا أسود وقميصًا من اللون ذاته، تعلوه سديرية باللون الأزرق القاتم، فبدت هيئته أنيقة ومتناسقة مع أجواء الليلة.

اقترب منه موسى وهو يسأله مباشرة:

“اتصلت بكارم؟”

أجابه حسن وهو يهز رأسه بتأكيد:

“آه، اتصلت بيه قبل ما ألبس، وقالي إنهم خلصوا وطالعين.”

ارتسم على وجه موسى ارتياحٌ خفيف، فأومأ ثم بادر حسن بالسؤال:

“مظبوط… هو أنت خلصت الشغل الأخير؟”

تنفّس موسى بعمق، وأجاب وهو يعقد ذراعيه للحظة:

“آه خلصته أول امبارح… بس هما طلبوا عليه شوية تعديلات، فضلت سهران عليه النهاردة لحد ما خلصته وبعته لهم.”

ظهرت ملامح القلق على وجه حسن وهو يقول:

“يعني مطبّق بقالك ليلتين؟!”

ابتسم موسى ابتسامة باهتة، ورفع يده يفرك رقبته كمن يحاول طرد التعب، ثم ردّ بنبرة هادئة وكأن الأمر عادي:

“عادي… أنا متعود على كده أصلاً… المهم، أنا سحبت الفلوس بتاعة الشغل ده واللي قبله، زي ما كنا متفقين.”

أشار حسن بقلقٍ خفيف، وسأله:

“وقلت إيه لسامي؟”

“قلتله إننا هنسحبهم علشان التحضيرات، وبعدين يبقى يحاسبنا بعدين.”

أومأ حسن بإيجاب، ثم استفسر متأكدًا:

“تمام… هما مش ٢٠٠ صح؟”

“لأ… ٢٥٠.”

توقف حسن لحظة، ثم عقد حاجبيه مستفسرًا:

“ليه؟ مش كانوا ٨٠ و١٢٠؟”

ابتسم موسى ابتسامة صغيرة وهو يشرح:

“لأ… ما هو الأخير ده اتفقنا معاه على ١٥٠ علشان طلباتهم كانت كتير، وبعدين لما طلبوا التعديل بقوا ١٧٠… كل حاجة بتمنها برده.”

أطلق حسن زفيرًا مطمئنًا وقال:

“المهم الشغل عجبهم.”

ارتسمت على وجه موسى بسمة رضا وهو يجيبه:

“سامي قالي آه… قالي إنهم مبسوطين ومقررين يشتغلوا تاني معانا.”

ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه حسن، واختلطت نبرته بالفرح:

“مش ملاحظ إن شغلنا في الفترة الأخيرة بقى أكتر… والكل مبسوط منه؟”

أشرق وجه موسى بسعادة عميقة وهو يردف:

“ملاحظ… علشان كده مبسوط أوي… إحنا تعبنا جامد علشان نوصل للمرحلة دي… سبع سنين يا صاحبي… سبع سنين كاملة.”

أومأ له حسن بالإيجاب، وارتسمت على وجهه بسمة هادئة تختلط بالفخر وهو يقول:

“مظبوط… سبع سنين، بدأنا بحتة كمبيوتر في السايبر… مين كان يصدق إننا نوصل للي إحنا فيه دلوقتي؟!”

تنهد موسى بخفة، ثم قال بصوت هادئ، صادق، وكأن قلبه يردد قبل لسانه:

“كله بفضل ربنا يا صاحبي… لولا توفيقه لينا، عمرنا ما كنا هنعدي كل اللي مرينا بيه، ولا كنا وصلنا هنا.”

هز حسن رأسه موافقًا، وابتسامة خفيفة مطمئنة لا تفارقه وهو يتمتم:

“الحمد لله على كل حاجة.”

ساد بينهما صمت قصير، لم يكن فراغًا بل امتلاءً؛ صمت حمل بين طياته كل الذكريات التي لا تحتاج إلى كلمات.

لحظة عابرة، لكنها امتلأت بالسعادة والفخر، وكأن البسمة الصغيرة التي ارتسمت على وجهيهما لم تكن مجرد تعبير، بل شهادة صامتة على ما أنجزوه.

فكل نجاح وصبر وتعب وسهر، لم يكن حكاية فردٍ أو اثنين، بل قصة ستة قلوب اجتمعت على الحلم ذاته، وحملوا سره في صدورهم كما حملوا فرحته.

نجاحٌ صاغوه وحدهم، لا يعلم عنه أحد بقدر ما يعلمون هم، سرّهم كما هو مجدهم… هم الستة فقط.

_________________

مع مرور الوقت….

بدأ المدعوون يتوافدون شيئًا فشيئًا، وجوه مألوفة وأخرى بعيدة، أقارب سامي ومعارفه، عائلات الخمسة، رجال ونساء وأطفال، يملأون المكان بخطواتهم وأحاديثهم المتقاطعة.

الزينة المعلقة والأنوار المبهجة صارت شاهدة على لحظة طال انتظارها، فيما كان موسى وحسن يسابقان الوقت للتأكد من أن كل تفصيلة في الحفل تسير كما خططا لها.

وقف موسى عند منصة الزفاف يشير بيده وهو يرفع صوته على وقع ضجيج المكان:

“علّي الإضاءة دي شوية يا غالي!”

أومأ له العامل سريعًا، ليطمئنه أن الأمر تحت السيطرة، ولم يطل التوقف، إذ التفت موسى بخطواتٍ ثابتة متجهًا نحو المدخل حيث كان حسن منشغلًا بترتيب الطاولات والكراسي مع بعض المنظمين.

ناداه موسى بصوتٍ مسموع وسط الجلبة:

“حسن!”

التفت الأخير واقترب منه، عرقه يلمع تحت الضوء وهو يرد:

“نعم؟”

“الفرقة هتيجي امتى؟”

تنفس حسن بارتياح وأجاب وهو ينفض الغبار عن كفيه:

“كلمت الريّس من شوية، قالوا خمس دقايق ويكونوا هنا… هيوصلوا قبل العروسين، ما تقلقش.”

أومأ موسى مطمئنًا ثم تابع:

“تمام… الكراسي مقضية ولا هانحتاج نزود؟”

“دلوقتي كله تمام، ولو ناقص هابعت حد يجيب من المخزن اللي على أول الشارع.”

“ممتاز… شُفت البوفيه؟ ناقصهم حاجة؟”

“شوفته، قالوا كله تمام.”

تنفّس الاثنان معًا وكأن الحمل الثقيل بدأ يخف شيئًا فشيئًا، قبل أن يعلّق موسى:

“كده تقريبًا كل حاجة جاهزة.”

ابتسم حسن وقال بثقة:

“مظبوط.”

قبل أن يكملا، جاء صوتٌ جهوري من بعيد:

“موسى!”

التفت سريعًا، فوجد والده يشير له بالقدوم، فعاد ونظر لمرةٍ أخيرة إلى حسن وقال:

“هشوفه وراجع.”

“تمام.”

اتجه بخطوات سريعة نحو الجزء المخصص للرجال، حيث اجتمع والده مع بقية العائلة ويحيى بينهم.

“نعم يا حج؟”

سأله داود مباشرة:

“أومال العروسين هيجوا إمتى؟”

“كلمتهم، قالوا ربع ساعة بالكتير ويكونوا هنا.”

هزّ داود رأسه برضا:

“تمام.”

تدخل بلال بابتسامة صادقة:

“مش محتاج مساعدة؟ أنا والشباب نيجى نساعدكم.”

ابتسم موسى وهو يهز رأسه:

“لا مالوش لزوم… أنا وحسن مظبطين كل حاجة، وقربنا نخلص.”

“ماشي، بس لو احتجتوا حاجة احنا موجودين.”

“حاضر.”

ألقى موسى نظرة شاملة على وجوههم، مزيج من الفرح والانتظار، ثم سأل باهتمام:

“طب إنتوا شربتوا حاجة؟”

أجابه داوود بهدوء وهو يصلّب ذراعيه:

“لا لسه، بس خليها لما العريس ييجي.”

أصر موسى بابتسامة لطيفة:

“لا، لازم تشربوا حاجة… أنا هابعتلكم حالًا.”

تركهم بهدوء متجهًا نحو مقهى المشروبات، وأشار للعامل وهو يحدد:

“ابعت خمسة قهوة وسبعة شاي عند الجماعة اللي هناك… وخلي الناس يوزعوا مية على الكل بسرعة.”

أومأ العامل موافقًا:

“حاضر.”

ابتسم موسى بخفة، ثم انصرف بعيدًا يذرع القاعة بخطوات ثابتة، يمرّ بين الطاولات وكأن عينيه تلتقطان أدق التفاصيل ليتأكد من أن كل شيء يسير على ما يرام.

وبينما هو كذلك، وقع بصره على طارق و دلال يقتربان بخطى هادئة، فتوقف في مكانه، ليبادره طارق بالسؤال:

“لسه ماجوش ولا إيه؟!”

ردّ موسى بلهجة واثقة، وبابتسامة خفيفة:

“على وصول يا خالو.”

أومأ طارق بإيجاب وهو يرمقه، قبل أن تلمع عينا موسى لوهلة وهو يلاحظ تناغم ألوان ثيابهما؛ طارق يرتدي بذلة زرقاء داكنة وقميصًا أبيض أنيقًا، بينما اختارت دلال فستانًا بنفس درجة اللون مع حجاب أبيض ناصع، فكان ظهورهما سمة متناسقة لافتة.

لم يستطع موسى منع نفسه من التعليق بنبرة ساخرة:

“هو إنتوا مطقمين ولا إيه؟!”

ردّ طارق بسرعة وبشيء من الحنق:

“آه، عندك مانع؟!”

هزّ موسى رأسه ساخرًا:

“لا.. وليه يكون عندي مانع؟ بالعكس، عجبتني الفكرة.”

تدخلت دلال بابتسامة جانبية وقد بدا في صوتها قصد الاستفزاز:

“ناوي تجربها؟!”

رمقها موسى بحدة، وكلماته خرجت بنبرة حادة لا تخلو من الضيق:

“ما شوفتش استفزاز أكتر من كده.”

ضحكت بخفة وهي تردّ:

“مهما حاولت عمري ما هوصل لمستواك في الاستفزاز.”

مال بجسده قليلًا نحوها وكأن كلامه رسالة أراد غرسها في عمقها:

“وأنا مهما حاولت، عمري ما هوصل لمستواك في الإزعاج، واخدة بالك.. الإزعاج، اقفلي بقك ده بقى أحسن لك… عن إذنكم.”

ثم استدار مبتعدًا عنهم بخطوات سريعة، تاركًا خلفه أثرًا من الضيق الواضح.

تبعته نظرات دلال التي ارتسمت على شفتيها بسمة جانبية صغيرة وقد أدركت تمامًا قصده وما أراد الإشارة إليه، على عكس طارق الذي وقف مذهولًا، يرمق ظهر موسى وهو يبتعد متسائلًا:

“هو ماله ده؟!”

التفتت دلال نحوه، وأجابت بنبرة هادئة لا تخلو من الغموض:

“ما تاخدش في بالك… تعالى علشان نسلم على بابا والباقي.”

قال طارق بهدوء:

“أكيد.. يلا.”

رافقها حيث والدها الذي استقبلهما مع بقية العائلة بحرارة وودّ، وبعد أن أنهت دلال إلقاء التحية عليهم، تركت زوجها بين الرجال، ثم اتجهت بخطى واثقة نحو جهة النساء، حيث تجمعت قريباتها جميعًا بالقرب من المنصة مع نادية وفيروز وعائلة ليلى أيضًا، لتجلس بينهن بعد أن ألقت التحية عليهن أيضاً.

__________________

توقفت السيارات تباعًا أمام الشارع المزين بالأضواء…

خرج العروسان أولًا، يتقدمان بخطواتٍ واثقة، يده في يدها، بينما تبعهما شقيقة ليلى وشقيقها، يرافقهما يزيد الصغير الذي كانت تحمله الأولى بين ذراعيها برفق، ومن سيارة أخرى، ترجل كارم برفقة محسن وحسين، والابتسامات تعلو وجوههم جميعًا.

سار سامي وليلى في الممر المخصص لهما وسط موجة من الزغاريط، على إيقاع الطبول ورنين المزمار وصوت الزغاريد التي ارتفعت من أفواه النساء، تتقدّمهن والدته التي غلبتها دموع الفرح.

اقترب سامي منها أولًا، وقبّل رأسها ويدها بحرارة، ثم عانقها عناقًا طويلاً وكأنما يشكرها على كل ما منحته في حياته.

فعلت ليلى الشيء ذاته، قبل أن تنحني نادية نحوها، تمسك وجنتيها بكفيها وتهمس لها بابتسامة مليئة بالمحبة:

“ألف ألف مبروك يا حبايب قلبي… طالعين زي القمر.”

ارتسمت الابتسامة على وجهيهما، وردّا التحية بحرارة، ثم اتجها معًا لمصافحة والدة ليلى وبقية الأقارب، قبل أن يكملا المسير نحو المنصة.

وما إن صعدا إليها حتى خفتت الأضواء تدريجيًا، وارتفع صوت موسيقى أغنية

“كُل وعد”

ليبدأ العروسان أولى رقصاتهما معًا، وسط جو احتفالي مبهج غمره شعور غامر بالحب والبهجة.

كان سامي يثبت نظره على عينيها معظم الوقت، بينما هي لا تزال تحاول التملص بنظراتها من عمق عينيه، والخجل يكسو ملامحها.

ابتسم بخفة وهمس في أذنها بصوتٍ هادئ دافئ اخترق جدار ارتباكها:

“أنا جوزك… يعني تقدري تبصيلي عادي.”

لم تجبه، لكنها لم تستطع منع الارتجافة الخفيفة التي سرت في قلبها، فواصل هو حديثه بنبرة أكثر دفئًا:

“تعرفي… أنا بحب الأغنية دي أوي، علشان حاسسها بتوصف اللي جوايا ليكي، كل كلمة فيها نفسي أقولها ليكي بجد، نفسي أقولك…”

توقف لثوانٍ، وكأن الكلمات عجزت عن الخروج من فرط صدقها، ثم باغتها وهو يردد كلمات الأغنية نفسها بصوتٍ هائم، متجاهلًا المقطع الحالي:

“كل وعد وعدتهولِك هافوِّيهولِك ماتخافيش… كل حلم هيجي وقته وبأوانه ماتقلقيش… مش هاقصِّر يوم معاكي صدقيني… اجمدي ده أنا بقوى بيكِ ماتضعفيش…”

كانت كلماته أشبه باعتراف عميق أكثر منها اقتباسًا من أغنية؛ خرجت صافية من قلبه، فوجدت طريقها إلى قلبها دون مقاومة.

لحظتها فقط شعرت ليلى أن الأمان يقترب منها من جديد، أن بإمكانها أن تثق به، أن تمنح قلبها فرصة أخرى بعد خيبة التجربة الأولى التي تركت بداخلها أثرًا موجعًا.

في تلك الرقصة، وتحت تلك الأنغام، كُتبت بداية قصة جديدة بينهما؛ قصة حبّ تولد من صدق، وتزهر من ثقة، وتُبنى على أمل حياة مختلفة.

_____________________

وقف بالقرب من المنصّة، وعينيه معلّقتان بها… تلك التي كانت تجلس بين بنات عمّه وعمّاته، تضحك وتشاركهنّ الأحاديث بخجلٍ رقيق.

بدا كأن ما حوله تلاشى، وكأنها وحدها من تملأ المشهد بعذوبتها، ارتسمت ابتسامة هادئة على ملامحه دون أن يدري، بينما كان يحمل يزيد الصغير بين ذراعيه، ذلك الطفل الذي جذب انتباهه حين مدّ يده الصغيرة ونزع القبعة من على رأسه بجرأة طفولية، ثم ألقاها أرضًا بلا مبالاة.

أطرق موسى برأسه ونظر للصغير باندهاشٍ ممزوج بالمرح، ثم قال بصوتٍ مازح يحمل دفئًا غير معتاد:

“ليه كده بس يا زيزو!.. مش عجباك؟!”

جلس القرفصاء، التقط القبعة وأعادها إلى رأسه، قبل أن ينظر للطفل بعينين يملؤهما الحنان الخفي، وهمس مداعبًا:

“إيه رأيك أجبلك واحدة زيها؟ واعتبرها هدية بداية صداقتي معاك، بس بيني وبينك، ماتقولش لحد… أصل هم كلهم فاكرني بخيل وجلدة، والقرش عندي أغلى من أبويا وأمي.”

قاطع صوته المرح صوت مألوف جاء من خلفه، فالتفت ليجد محسن وقد اقترب منه، وعلى شفتيه بسمة ساخرة وهو يعلّق بنبرة مليئة بالمشاكسات:

“ما دي الحقيقة.”

ارتسم الغيظ سريعًا على وجه موسى، وانبرى يرد بحنقٍ خفيف:

“اتلم يا لا.”

ضحك محسن بسخرية، بينما الأخير التفت إلى يزيد الصغير من جديد، وأخذ يخاطبه بنبرة طفولية، مرحة:

“أوعي تكبر وتبقى زي الواد ده يايزيد… أنا هخليك تقعد معايا أنا وحسن وسامي بس… علشان ما تطلعش شبه سحس الجعان، ولا شبه محسن وكارم السرسجية.”

لم يُفوّت محسن الفرصة، فانحنى نحوه بابتسامة ماكرة وقال:

“ما ممكن كده يطلع بخيل زيك يا موسى.”

تحولت ملامح موسى في لحظة، ورمقه بغيظٍ صريح وهو يزمجر:

“هموّتَك لو ما سكتش يا محسن.”

رفع محسن يده كمن يدرأ ضربة، ورد ساخرًا بنبرة متعمدة:

“الحقيقة بتوجع، صح؟!”

أطلق موسى نحوه نظرة قاتلة وعضّ على شفتيه بحنقٍ وهو يقول

محذرًا:

“ماتخلينيش أتعصّب عليك قدام الولد.”

رفع محسن كفيه باستسلام وقال سريعًا:

“خلاص ياعم… هسكت.”

ارتخت ملامح موسى قليلًا، ثم عاد بنظره نحو الطفل، كأن حضوره يعيد إليه بعض الهدوء، وأشار بيده نحو سامي وليلى اللذين جلسا على المنصة مبتسمين:

“بُص عليهم… شايفهم حلوين إزاي مع بعض؟… وهيبقوا أحلى لما تبقى معاهم، صح يا يزيدو؟!”

رفع يزيد رأسه الصغير فجأة، ونطق ببراءة:

“ما… ماما.”

ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه موسى، وهز رأسه مؤكدًا له:

“أيوه… ماما، وماما وسامي كمان، طب قول معايا كده: سا… مي…”

لكن الطفل اكتفى بالنظر إليه بعينين واسعتين صامتتين، فقهقه محسن وهو يعلّق بسخرية:

“الولد تقريبًا مخضوض منك.”

زفر موسى بنفَسٍ عميق، ورد بحماسٍ لا يخلو من عناد:

“علشان لسه مش واخد عليا… بس بكرة لما يتعوّد عليا، هأخليه ينطق اسمي قبل أي حد، بل ويتصاحب عليا قبل ما يتصاحب عليكم كلكم… مش كده يا يزيدو؟!”

هزّ محسن رأسه يائسًا، لكنه لم يستطع إخفاء ابتسامته من مشهد صديقه وهو يحاول التقرّب من الصغير بتلك الطريقة الغريبة.

مدّ يده ليداعب الطفل هو الآخر، فضحك يزيد أخيرًا بصوت طفولي عذب… لكن فجأة، انتبه محسن لظلّ شخص يقف بالقرب موسى، فارتفع حاجباه وهو يبتسم بخبث، مشيرًا بيده للخلف:

“كَلِّم…”

التفت موسى بحدة، حاجبيه معقودين:

“مين؟!”

التفت موسى بسرعة، يبحث عمّن ناداه، فلم يجد أحداً حوله، لكن صوت صديقه تسلل إلى أذنه وهو يهمس:

“بص تحت.”

خفض موسى رأسه، فإذا بعينيه تقعان على منذر، واقفًا أسفل منه مباشرة، يرمقه بنظرة غاضبة مشوبة بعتاب طفوليّ، وقد عقد ذراعيه أمام صدره في عناد واضح.

توجس موسى، ثم سأل بصوت ممتزج بالدهشة والاستفهام:

“مالك بتبصلي كده ليه؟!”

أجاب منذر بسرعة، مشيراً بذقنه إلى يزيد الذي كان بين يدي موسى:

“أنتَ شايله ليه؟!”

رمقه موسى بحيرة:

“علشان هو صغير لسه؟!”

أجاب منذر بعناد غيور:

“ماأنا كمان صغير.”

ابتسم موسى بسخرية خفيفة:

“بس انت أكبر منه بـ٣ سنين كاملين.”

لم يتراجع منذر، بل هز رأسه بإصرار:

“بس برضه صغير.”

تنهد موسى مستسلماً لذلك المنطق الطفولي:

“يعني إيه!..عايزني أشيلك زيه؟؟”

لكن منذر هز رأسه نافيًا ثم قال بجدية أثارت دهشة موسى:

“لا.. عايزك تشيلني بداله.”

تجمدت ملامح موسى للحظة، وقد عقد حاجبيه في استنكار حاد:

“يعني أحطه على الأرض وأشيلك أنتَ؟!”

أجاب منذر ببساطة وكأن الأمر بديهي:

“أيوا.. خلى حد تاني يشيله، وشيلني بداله.”

رفع موسى صوته بنفاد صبر:

“هو أنا كنت خلفتك ونسيتك!.. ماتروح لباباك يشيلك يابني.”

لكن منذر أصرّ، متمسكًا بمطلبه الغريب:

“لا.. أنتَ اللي هتشلني، انت أطول من بابا.”

انفتح فم موسى بذهول، كمن عجز عقله عن استيعاب ما يسمعه من هذا الطفل العنيد.

وفي تلك الأثناء، كان محسن يتابع المشهد على مقربة، يضحك مكتومًا من الحوار العجيب، لكنه حين رأى نظرات منذر تزداد اشتعالًا، تدخّل ليضع حدًا:

“جيب يزيد ياموسى، وشيل منذر انتَ، علشان قرب يجيب نار من عينه.”

رمق موسى منذر بنظرة استسلام ممتزجة بالامتعاض:

“وأنتَ الصادق، ده فاضل شوية ويضربني علشان شايل حد غيره.”

ضحك محسن وهو يمد يديه ليأخذ يزيد:

“طب هات يزيد… وشيله قبل مايتهور.”

ضحك موسى ضحكة قصيرة،ضحكة حملت في طياتها دهشةً أكثر مما حملت تسلية، ثم مدّ ذراعيه وأعطى يزيد لمحسن، ثم انحنى قليلًا بحركةٍ سريعة ورفع منذر إلى ذراعه، وهو يتمتم بنبرة نصف ساخرة نصف مُستسلمة:

“تعال يا سيدي قبل ما تاكلني بنظراتك دي.. مبسوط كده؟”

أومأ له منذر بحماسٍ طفولي، فارتسمت على وجه موسى ابتسامة دافئة رغم تضايقه، ثم ضحك مرة أخرى وهو يرى حركات الصغير المليئة بالفرح والانتصار وكأنّه انتزع نصرًا صغيرًا منه.

قطع عليه تلك اللحظة صوت محسن ينبهه:

“سامي بيشاورلنا.”

رفع موسى بصره فرأى سامي بالفعل يلوّح لهما، تبادل كلاهما نظرات سريعة، ثم قال موسى بهدوءٍ يفهمه محسن:

“ده عايز يايزيد.. روح اديهوله.”

أومأ محسن وابتسم ليزيد وهو يناديه:

“ماشي.. يلا يا يزيدو.”

سار محسن نحو المنصّة، وناول سامي يزيد الذي احتضنه بشوقٍ واضح، يطبع قبلة حنونة على وجنته الصغيرة ويداعبه بلطف، وكانت ليلى تقف غير بعيد، تتابع المشهد بعينين هادئتين وابتسامة صغيرة تزين ملامحها.

عاد محسن لينضم إلى إخوته وكارم، الذين كانوا يعاونون العمّال في توزيع المشروبات على المدعوين، أما موسى فحاول أن يفلت من براثن منذر ليشاركهم، لكنه شعر بذراعين صغيرتين تتمسكان برقَبته في عناد واضح.

“ماتخلي أبوك يشيلك يا منذر، وأنا أروح أساعد الجماعة.”

قالها موسى بنبرة فيها رجاء أكثر من أمر، لكن منذر هز رأسه نافيًا بإصرار طفولي عنيد:

“لا.. أنت هتشيلني، وهتفضل هنا علشان أعرف أتفرج على عمّو سامي والعروسة.”

تنهد موسى في داخله، وحاول أن يساومه بنبرة ساخرة:

“اشمعنا أنا يعني؟ أبوك والله طويل كمان، ماتخليه يشيلك.”

لكن الصغير ظل يحرّك رأسه بالسلب، وعيناه تلمعان بدهاء طفولي غريب:

“لا.. أنت اللي هتشيلني، ولو سيبتني هاروح أقول لجدو إني عايز حاجة أكلها، وهاقوله يخليك تروح تشتريلي، وساعاتها هتدفع فلوس.”

توقف موسى عن السير لثانية، يحدّق فيه بفمٍ نصف مفتوح وعينين متسعتين من هول التهديد الصغير، لم يكن يصدّق أنّ ذلك الصغير يساومه بهذه الجرأة.

رفع الصغير حاجبيه، مؤكّدًا جديته:

“هتفضل شايلني ولا أروح أقول لجدي؟!”

ابتلع موسى ريقه ببطء، ثم أشار إلى نفسه بسبابته في استنكارٍ مبالغ فيه، قائلاً بنبرة ممزوجة بالضحك والغضب:

“أنا… أتهدد من حتّة عيل زيك!.. هي وصلت للدرجة دي! كلكم عرفتوا نقطة ضعفي وبقيتوا تستخدموها ضدي.. حتى أنت يا قزعة!”

ردّ منذر بعينين متسعتين من الغضب وملامح صغيرة متجهمة، قائلاً بحدّة طفولية:

“أنا مش قزعة!.. أنا صغير بس، ولما أكبر وأكون قدّك في السن.. هبقى.. هبقى أطول منك.”

أطبق موسى جفونه في إنهاك وضرب كفّه بوجهه ثم مسحه بعنف، يتمتم بينه وبين نفسه بتأنيب واضح:

“أنا اللي عملت كده في نفسي من الأول.. ماكنش لازم أتصاحب عليكم للدرجة دي.”

لكن منذر لم يتوقف عند ذلك، بل عاجله بجديةٍ طفولية تُشعره وكأنها طعنة صغيرة في كبريائه:

“على فكرة.. كله عارف إنك بخيل.”

رمقه موسى بغيظٍ ممتزج بالسخرية وهو يردّ بحنقٍ متصنّع:

“أنت مالك؟!.. أنا عاجبني إني بخيل يا عم.. سيبني في أحزاني بقى، وخليك أنت مع العريس والعروسة.”

اكتفى منذر بهز كتفيه الصغيرتين والتفت للعروسين قائلاً ببرودٍ متصالح:

“ماشي.”

زفر موسى زفرة طويلة، ثم نظر إليه مجددًا، ولم يستطع إلا أن يبتسم رغمًا عنه وهو يرى الطفل يصفّق بكفّيه الصغيرتين مع الموسيقى ويهزّ رأسه ببراءة غامرة، غارقًا في الفرح وكأنه جزء من الحكاية.

غزته لحظة دفءٍ داخلية، جعلته يعترف في صمتٍ أن تلك البراءة الطفولية تخترق حصونه مهما قاوم، وتزيد من حبه لهم جميعًا، خصوصًا هؤلاء الصغار الذين يلتفون حوله بلا حساب.

ظلّ مأخوذًا بتأمل منذر حتى شعر بلمسة صغيرة عند قدمه، كأن شيئًا خفيفًا ينبهه.

انحنى برأسه فوجد زياد يقف بجواره، ينظر إليه بعينين متوسلتين، فابتسم موسى وسأله بنبرة مرفوعة ليسمعه وسط الضوضاء:

“مالك انتَ كمان؟!”

رفع زياد يديه البريئتين وهو يطلب بثقة:

“شيلني.”

قهقه موسى بخفة لم يستطع كتمها، ثم انحنى قليلًا ورفعه إلى ذراعه الأخرى قائلاً برضا مستسلم:

“هي جات عليك.. تعال يا سيدي.”

صار يحمل الاثنين معًا، أحدهما على يمينه والآخر على يساره، وكأنهما تاجان صغيران يلتفّان حول عنقه، بينما ظلّ يتابع العروسين وهو يبتسم.

كان الصغيران يصفّقان بحماسة، ويهزان جسديهما مع إيقاع الموسيقى، فبدت الصورة أمامه كلوحة من الفرح الخالص.

وفجأة، اخترق أذنه صوتها، رقيقًا وناعمًا، لكنه قوي بما يكفي ليهزّ قلبه ويزيد خفقاته على نحو مباغت:

“شكلكم حلوين أوي.”

تجمّد لحظة، كأن الزمن توقف عند هذه الجملة…

لم يكن صوتها عابرًا؛ بل أشبه بنغمةٍ تسللت إلى قلبه مباشرة، أربكته وأيقظت شيئًا خفيًا داخله، جعله يبتسم دون وعيٍ منه.

التفت على يمينه حيث جاء الصوت، فإذا بعينيه تقعان عليها، واقفةً هناك ببسمة هادئة تتابع الطفلين المستقرين على ذراعيه، وكأنها تبصر فيهما لوحة كاملة من البراءة والحنان.

تفلت اسمها من بين شفتيه كهمسٍ خافت، ممتزج بابتسامة هائمة لم يملك مقاومتها:

“فيروز…”

لكن وقع الموسيقى غطّى على صوته، فلم يصل إليها، لم تُدرك أنه ناداها، لكنها التفتت ناحيته وسألته باستفهام لطيف:

“هما إخوات؟!”

أفاق من شروده سريعًا، وهز رأسه نافيًا:

“إيه!.. لا.”

أعاد تأكيده وهو يعدّل نبرته:

“لا مش إخوات.”

رفعت حاجبيها بدهشة صغيرة وهي تقول:

“فكرتهم إخوات، أصلهم شبه بعض قوي.”

ارتسمت على شفتيه بسمة خفيفة، وأردف شارحًا:

“هما شبه بعض علشان صلة القرابة كبيرة بينهم… دول ولاد خال وعمة في نفس الوقت.”

أشار نحو زياد على يمينه قائلاً:

“زياد ابن بلال ونورهان، عنده ست سنين، وعندهم كمان بنوتة صغيرة اسمها نور لسه عندها سنتين.”

ثم أدار وجهه قليلاً نحو منذر على يساره:

“ومنذر ابن عزت ويمنى، عنده خمس سنين ونص.”

أومأت برأسها وهي تقول:

“يعني دول أكبر حفيدين في العيلة.”

ابتسم موسى وهو يكمل:

“تقريبًا… في قبل منذر زينة بنت مريم عندها ست سنين، وبعدهم مازن ابن فادي تلات سنين، وآخرهم نور بنت بلال ونورهان.”

“يعني لحد دلوقتي خمسة؟”

أكد لها بإيماءة واضحة قائلاً:

“بالظبط، ولسه في اتنين جايين في السكة… مريم بنت عمي وفريدة بنت عمتي، الاتنين حوامل وقربوا يولدوا.”

ابتسمت بعفوية ورددت بصدق:

“اللهم بارك.”

ضحك موسى بخفة وهو يعلق:

“شجرة عيلتنا ممتدة شوية، وبتلغبط شويتين.”

“بصراحة آه،”

قالتها بمرح خفيف قبل أن تستطرد:

“بس دلال من شوية عرّفتني على الجديد في العيلة وقالتلي مين متجوز مين وكده.. بس ماجابتش سيرة الأولاد، وخليتني كمان أسلم عليهم، علشان البنات كانوا واحشني أوي، واديتني أرقامهم كلهم علشان نعرف نتواصل.. وكمان اديتني رقمك.”

شعر قلبه يقفز فجأة في صدره، وردّ بعفوية لم يستطع كبحها، مفضوحًا فرحه قبل أن يتداركه:

“بجد؟!.. أ.. أقصد يعني دلال إدتك رقمي؟!”

ابتسمت وهي تومئ برأسها مؤكدة:

“آه.. قالتلي يبقى معاكي علشان لو احتاجتي حاجة ولا كده.”

ارتبك قليلًا لكنه أخفى ذلك بابتسامة واسعة غلبت عليه، ثم قال بحماسٍ خرج صادقًا:

“أنا تحت أمرك.. إمتى ما تحتاجيني، رني عليا بس.. أنا فاضي طول الوقت.”

ردت بخفة وعفوية:

“ماشي، هبقى أرن عليك.. بس سجل رقمي.”

مال برأسه مؤكدًا بجديةٍ محببة:

“أكيد طبعًا.”

لم يستطع منع ابتسامته العريضة التي فضحته، إذ غلبت عليه فرحته وامتنانه لرفيقة دربه التي عرف أنها تعمدت أن تمنحه تلك الهدية الصغيرة الكبيرة في معناها، خطوة تقرّب المسافات وتفتح الأبواب.

ودون وعي منه، شرد في ملامحها للحظات، كأن الزمن توقف عند تفاصيلها الدقيقة، وتلك البسمة التي تزين محياها، قبل أن يقطع سكونه صوتها الهادئ وهي تتابع الطفلين على ذراعيه:

“واضح إنهم بيحبوك أوي.”

انتبه فجأة، لكن وقع الموسيقى غطّى على همسها، فمال قليلًا وسأل مستوضحًا:

“إيه؟!”

رفعت صوتها بنبرة أكثر وضوحًا:

“بقول.. واضح إنهم بيحبوك أوي.”

ارتسمت على وجهه بسمة مرحة حاول بها التخفيف من وقع كلماتها على قلبه:

“كان نفسي أقول آه.. بس هما في الحقيقة بيستغلوني، يعني بيستغلوا طولي علشان يتفرجوا بشكل أحسن.”

ضحكت بخفة على تعليقه، لكن سرعان ما لفت انتباهها صوت زياد الطفولي وهو يعلن بصراحة:

“إحنا بنحب موسى أوي.. علشان هو بيعملنا اللي إحنا بنحبه، وبيشيلنا على طول.”

أومأ منذر بحماس، وأضاف بصوت واثق رغم طفولته:

“آه.. هو بيشيلنا على طول وإحنا بنفرح أوي لمّا بيشلنا.. علشان بنبقى طوال زيه، وأنا لما أكبر عايز أبقى طويل زيه كده.. وأبقى شبهه.. علشان أنا بحبه أوي، علشان بيسمع كلامي وبيعملي اللي أنا عايزه.”

لم يكد موسى يستوعب وقع كلمات منذر حتى قاطعه زياد وهو يكمل بحماس أكبر:

“وأنا كمان.. بيسمع كلامي وبيخليني ألعب في الموبايل بتاعه، وكمان بياخدنا عند جدو أحمد ونشتري حاجات كتير حلوة ونأكلها إحنا وهو ونور وزينة ومازن.”

شعر موسى وكأنه يتلقى طعنات متتالية، لكن من نوعٍ مختلف؛ طعنات من حنانٍ صافٍ يفتح قلبه على مصراعيه.

ذُهل من مديحهم البريء، ومن عمق حبهم الذي لم يكن يتخيله، كل كلمة تسللت إلى داخله كضوء دافئ يذيب طبقات من القسوة والإنكار اعتاد أن يخفي بها مشاعره.

لم يكن يصدق أن هؤلاء الصغار يرونه بهذه العظمة، وأنهم يتمنون أن يصيروا مثله يومًا ما.

لمع في عينيه بريق لم يختبره من قبل، مزيج من الدهشة والامتنان، لاحظت فيروز تلك اللمعة، وشعرت بما يعتمل داخله، فالتفتت نحو الطفلين قائلة بابتسامة رقيقة:

“واضح إن موسى أول مرة يسمع الكلام الحلو ده منكم.. واتأثر بيه أوي.”

انتبه إلى تعليقها، لكنه لم يجد كلمات تليق بالموقف، فقط ابتسامة مترددة ارتسمت على شفتيه، قبل أن يفاجأ بشيء لم يتوقعه.

قبلة دافئة هبطت على وجنته اليسرى، تبعتها أخرى في اللحظة نفسها على وجنته اليمنى.

تجمد مكانه، وعيناه تتسعان بدهشة، بينما صدح صوت الصغيرين معًا في آنٍ واحد:

“موسى حبيبنا!”

ارتسمت على وجهه بسمة دافئة، والدهشة ما زالت تحلّق داخله من فعلتهما العفوية، فهو لم يتخيل يومًا أن قبلة صغيرة وكلمات طفولية قد تُربك قلبه هكذا، وتُغمره بسعادة صافية كأنها تقتحم كل فراغ داخلي.

وفجأة، ضمّهما إليه بقوة أكبر، يخبئهما بين ذراعيه كمن يخشى أن يفلت منه مصدر الفرح الوحيد.

كانت هي تتابع المشهد بعينين لامعتين، ابتسامة صغيرة تتسع كلما رأت كيف يتبادلان معه ذلك العناق البريء، فأفلت منها قولٌ صادق خرج كما تشعر به تمامًا:

“حبيت علاقتكم أوي… حساك صاحبهم مش خالهم ولا عمهم.”

لم تكد تنهي عبارتها حتى بادر زياد بحماس:

“مظبوط! هو صاحبنا… علشان كده بناديله موسى.”

وأكمل منذر مؤكدًا:

“أيوه، هو صاحبنا وبنحبه أوي.”

تسربت كلماتهم إلى قلبها كما تسربت إلى قلبه، فتمتمت بدعاء صادق وهي تراهم:

“ربنا يخليكم لبعض، وتفضلوا دايمًا كده.”

رفع موسى بصره نحوها، وفي عينيه بريق ممتن، وكأنه يخبرها بنظراته أن وجودها بينهم الآن هو الجزء الناقص الذي يتمنى أن يكتمل.

ظل الصمت بينهما يتحدث أكثر من الألفاظ، حتى قطعت زينة خيوط اللحظة حين اقتربت من فيروز قائلة بصوتها الطفولي:

“خالتو…”

انحنت لها فيروز بابتسامة رقيقة، فأردفت زينة:

“تيتا نادية عايزاكي.”

تفاجأت فيروز قليلًا ثم أسرعت بالرد:

“بجد؟!… طب أنا هروحلها، استني.”

التفتت نحو موسى تستأذن:

“عن إذنك.”

أجابها بصوت هادئ:

“إذنك معاكِ.”

حملت الصغيرة بين ذراعيها وهمست لها:

“يلا بينا”

ثم غادرتا بين الزحام، بينما بقي موسى متسمّرًا للحظة يتابع أثرهما، ثم خفض رأسه نحو الصغيرين وقال بنبرة محملة بالحب:

“تعرفوا إني بحبكم أوي؟… وحبيتكم أكتر بعد الكلام الحلو اللي قلتوه قدام الشخص الصح.”

لم يدركا قصده تمامًا، فمال منذر برأسه يسأل ببراءة:

“مش فاهم.”

ابتسم موسى بخفة وربّت على كتفيهما:

“مش مهم… المهم إنكم تعرفوا إن من اللحظة دي أنا هاروق عليكم يا أبطال موسى.”

وانطلق بهما وسط الحشود حتى لمح محسن، فهتف بمرح:

“محسن!.. أربعة عصير للأبطال اللي معايا يا غالي!”

رفع الصغيرين على ذراعيه وكأنهما وسام يزينه، ثم اقترب ليستلم المشروبات، ناولهما العبوات بنفسه، وعاد يحدّثهما بابتسامة صافية:

“دي حاجة بسيطة، ولسه هجبلكم حاجات تانية كتير… بس أوعوا تقولوا لحد.”

هزّ منذر رأسه نافيًا بسرعة:

“مش هنقول لحد خالص.”

ولحقه زياد مرددًا بنبرة بريئة:

“أيوه، مش هنقول لحد إنك هتجيب لنا حاجة حلوة.”

ضحك موسى وربت على شعريهما:

“ده أنا هجبلكم حاجات حلوة كتير مش حاجة واحدة.”

انطلقت بسمة واسعة من وجهيهما، وارتميا بين ذراعيه مرة أخرى، مرددين في وقت واحد:

“إحنا بنحبك أوي يا موسى.”

شدّهما إلى صدره وهو يهمس بصدق يفضحه صوته:

“وموسى بيموت فيكم.”

كان مشهدًا بسيطًا، لكنه بالنسبة له أثمن من أي شيء؛ طفلان بريئان منحاه سعادة لا مثيل لها، بكلمات صدرت من قلوبهم الصغيرة، وحبّ لم يطلبه ولكنه وجده.

__________________

استمرت أجواء الزفاف تدقّ بإيقاع الفرح، أصوات الموسيقى والضحكات تملأ المكان، بينما انشغل الخمسة في عملهم الجاد، يوزّعون المهام بينهم بإحكام وكأنهم فريق واحد لا يعرف التراجع.

تولّى موسى وحسن مهمة توزيع المقبلات والحلوى على المدعوين، فيما احتفظ الثلاثة الآخرون بمهمة لم يفصحوا عنها بعد.

اندفع موسى بخطوات ثابتة مع بعض المضيفين نحو قسم النساء، يحمل الأطباق بيديه ويبتسم وهو يقدّمها.

مدّ يده أولًا نحو نادية ووالدته، وهو يردّد بصوت مبهج:

“اتفضلي يا خالتي… واتفضلي يا ست الكل.”

بادرت نادية بالدعاء له وهي تبتسم:

“عقبال ما نحضر فرحك يا حبيبي.”

ضحك بخفة وهو يردّ:

“تسلمي يا خالتي.”

لكن صوت والدته اخترق المشهد بنبرة هادئة:

“بقولك إيه يا موسى…”

التفت نحوها فورًا وكأن الكلمة أمر لا يمكن تأجيله:

“نعم يا ست الكل.”

“ابعت بالله عليك حاجة ساقعة لأبوك… زمانه ميت من الحر، إنت عارف بيكرهه قد إيه.”

ابتسم وهو يومئ مطمئنًا:

“هما لسه موزعين الحاجة الساقعة على الرجالة… بس هبعتلهم تاني حاضر.”

تنهدت بارتياح، وهي ترد:

“الله يخليك.”

تركها يكمل مهامه، ثم أشار لأحد المضيفين وهو يلمح بنات عمه في المقاعد الأمامية:

“وزّع هنا يا بني.”

ردّ الشاب بابتسامة خفيفة:

“حاضر يا برنس.”

أخذ موسى بعض الأطباق بيده، واتجه بنفسه نحو دلال وفيروز، انحنى قليلًا وهو يمدّ إليهما الحلوى مردّدًا بنبرة هادئة وابتسامة رقيقة:

“اتفضلوا.”

بادرت فيروز بيدها أولًا، تناولت ما قدّمه بابتسامة خجولة وهمست:

“شكرًا.”

أومأ لها بهدوء، لكن قبل أن يتحرك شعر بيد دلال تُمسك يده فجأة، فتجمّد لوهلة وهو يسألها بنبرة متفاجئة:

“فيه إيه؟!”

مدّت إليه بضع مناديل ورقية وهي تردّ بلهجة عملية، تحمل بين طياتها عطفًا لا تستطيع إخفاءه:

“خد دول.”

رمق ما في يده باستغراب، ثم رفع حاجبيه وهو يردّد:

“إيه دول؟!”

ابتسمت بخفة وهي توضّح بنبرة هادئة وإن لم تخلو من السخرية:

“دول مناديل… امسح بيهم عرقك، إنت عامل شبه الغرقان حرفيًا.”

تناول المناديل من يدها، وحركها على وجهه ليمسح العرق الذي تراكم بفعل الحر والزحام، مرددًا بنبرة خفيفة أراد بها التهوين:

“علشان الجو حر بس.”

ابتسمت دلال بخفة ثم أردفت، كأنها أم توبّخ ابنها الصغير:

“طب اقلع الطاقية دي، بدل ما إنت كاتم على نفسك كده.”

رفع حاجبيه بدهشة ساخرة وردّ بتهكم:

“يعني هي الطاقية اللي مخلياني حران!”

تدخلت فيروز بسؤال بدا عفويًا لكنه أيقظ فضولها:

“أنت لابسها ليه أساسًا؟ إحنا بالليل، مفيش شمس.”

جاءها الرد، ليس منه، بل من دلال التي بادرت بالشرح بنبرة واثقة:

“لأ، ما هو مش بيلبسها علشان الشمس… هو بيلبسها طول الوقت.. الصبح، بالليل، صيف، شتا… أول ما يطلع من باب البيت، تكون على راسه.”

رمقتها فيروز بدهشة متسائلة:

“طب السبب؟”

أجاب سريعًا وكأنه لا يريد الخوض في تفاصيل أكثر:

“بحبها… بحس بالراحة وأنا لابسها.”

قهقهت دلال بخفة وهي تتهكم عليه:

“ما إنت من كتر ما تلبسها، طلعنا عليك لقب… أبو طاقية.”

نظر إليها نظرة باردة وقال ببرود يثير غيظها:

“وماله… عاجبني اللقب.”

كزّت على شفتيها بغيظ، بينما هو حوّل نظره إلى فيروز وأومأ لها بابتسامة هادئة وهو يهم بالابتعاد:

“عن إذنك.”

ثم التفت إلى دلال، مرددًا بنبرة باردة هذه المرة، بعكس دفء صوته مع فيروز:

“شكرًا على المناديل.”

أجابته باقتضاب وقد رفعت حاجبيها:

“العفو يا سيدي.”

ارتسمت على شفتيه بسمة خفيفة لا تكاد تُرى، ثم أكمل طريقه مشرفًا على توزيع الأطباق على باقي النساء.

كانت خطواته ثابتة، وصوته يعلو بالتهنئة:

“اتفضلوا يا جماعة… عقبال عندكم جميعًا.”

تلقى المباركات والدعوات، وبادلهم إياها بوجه بشوش، بينما يده تظل تتحرك بهدوء وهو يقدم الأطباق.

لاحظ مرور أحد العمال بجواره، فأوقفه بسرعة وهو يومئ بيده:

“استنى لحظة… ابعت حاجة ساقعة للرجالة من تاني.”

أومأ العامل بابتسامة مطيعة:

“من عينيا يا برنس.”

رد موسى وهو يربت على كتفه:

“تسلم عينيك يا غالي.”

انصرف العامل ليؤدي ما طُلب منه، لكن رنين الهاتف قطع عليه إيقاع اللحظة، فأخرجه موسى من جيبه، نظر سريعًا للشاشة، ثم أجاب:

“جاهزين؟… تمام، ماشي.”

أنهى المكالمة باختصار، ثم التفت نحو منصة الدي جي، رفع يده بإشارة صغيرة، لكنها كانت كفيلة أن يفهمها الرجل الجالس أمام الأزرار، ضغط الأخير على بعض المفاتيح، وفجأة انقطع صوت الموسيقى.

ساد المكان صمت مفاجئ، تلاشى معه الضجيج، وانسحبت البهجة للحظة تاركة خلفها تساؤلات معلّقة في عيون المدعوين.

بدت علامات الدهشة على وجوه الجميع، تبادلوا النظرات، يتساءلون عمّا يحدث، عن السبب الذي أوقف هذا المدّ من الفرح.

لكن هو وأصدقاؤه… كانوا وحدهم يعرفون الحقيقة.

ما زال الحفل في بدايته، وما هو قادم مخبوء بعناية… سرّ لا يدركه أحد سواهم.

يتبع…

_______________

____

كتابة/ أمل بشر.

دمتم بخير… سلام

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق