رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الحادي عشر
الفصل الحادي عشر(إعتذار)
“جاهزين؟… تمام، ماشي.”
أنهى المكالمة باختصار، ثم التفت نحو منصة الدي جي، رفع يده بإشارة صغيرة، لكنها كانت كفيلة أن يفهمها الرجل الجالس أمام الأزرار، ضغط الأخير على بعض المفاتيح، وفجأة انقطع صوت الموسيقى.
ساد المكان صمت مفاجئ، تلاشى معه الضجيج، وانسحبت البهجة للحظة تاركة خلفها تساؤلات معلّقة في عيون المدعوين.
بدت علامات الدهشة على وجوه الجميع، تبادلوا النظرات، يتساءلون عمّا يحدث، عن السبب الذي أوقف هذا المدّ من الفرح.
لكن هو وأصدقاؤه… كانوا وحدهم يعرفون الحقيقة.
ما زال الحفل في بدايته، وما هو قادم مخبوء بعناية… سرّ لا يدركه أحد سواهم.
وقبل أن يُدرك أحدهم ما يجري، انطلقت من بعيد دقّات الطبول وزمجرة المزمار، كأن الحارة بأكملها تستيقظ على نغمة قديمة تعرفها الروح قبل الأذن.
استدار الجميع بفضول نحو المدخل، فإذا بكارم يطل ممتطيًا حصانًا أسود يلمع تحت الأضواء، يتبعه محسن وحسين على صهوة حصان آخر، يتقدمان بخطوات واثقة بين صفوف الرجال والنساء، وخلفهم أربعة من العازفين تهدر أياديهم على الطبول والمزمار، كأنهم يعلنون بداية عيد جديد.
ارتسمت الابتسامات على وجوه الحضور، مفاجأة أربكت اللحظة وملأتها بهجة، وكان سامي أكثرهم دهشة، اتسعت عيناه وهو يطالع رفاقه.
صحيح أنهم وعدوه بمفاجآت، لكنه لم يتخيل قط أن يُزف بهذا الشكل الأسطوري، كأنه بطل في موكب مهيب.
اقترب كارم بحصانه حتى بلغ حيث يقف موسى، ومد له يده بصلابة أخوية، فما لبث موسى أن قبض عليها وقفز خلفه بخفة، ثم ارتفع صوته صادقًا يهتف:
“صلّوا على النبي!”
انطلقت ضحكات وهتافات الجموع مع تلك الكلمات، كأنها كانت الإشارة السحرية لانفجار الفرح الحقيقي.
علا صهيل الخيل حين شدّ كارم ومحسن لجاميهما، ثم انطلقا بخطوات رشيقة إلى قلب الساحة، تصدح خلفهم آلات الفرقة، وعندما بلغوا المنصة، ترجل موسى وحسين ومحسن، وصعد الثاني برفقة حسن إلى سامي، فانتزعوا عنه سترته بخفة صاخبة، وأخذوه نحو الحصان ليصعد فوقه.
وفي لحظة خاطفة، كان سامي يشارك كارم رقص الخيل وسط الحشود، بينما الثالث يحيطون بهم بالتصفيق الحار، أما محسن فقد خطف طبلة من يد أحد العازفين وأخذ يضرب عليها بجنون، كأن قلبه يترجم فرحته في كل دقة.
لم تمض سوى لحظات حتى أوقف سامي حصانه فجأة، مما أثار دهشة الجميع…
تبادلت العيون نظرات حائرة قبل أن يلمحوا إشارته إلى موسى، اقترب الأخير فأمال سامي رأسه نحو أذنه وهمس ببضع كلمات قصيرة، تكفلت بإيضاح مراده.
أومأ موسى موافقًا، ثم صعد بخطوات ثابتة إلى المنصة حيث جلست ليلى تحتضن صغيرها.
كلّمها بهدوء، متجنبًا النظر إلى عينيها احترامًا:
“سامي عايز يزيد.. وبيقولك ما تخافيش عليه.”
لم تنبس ليلى بكلمة، بل رفعت نظرها إلى سامي مباشرة، تبحث في وجهه عن الطمأنينة، فبادرها بإيماءة صادقة، كأنه يقول لها: “ثقي بي…” عندها هدأ قلبها، تنفست براحة، وسلمت صغيرها إلى موسى الذي حمله برفق ثم ناوله إلى سامي.
جلس يزيد أمامه على ظهر الحصان، محاطًا بذراعيه الحاميتين، ليبدأ سامي في الرقص بالحصان من جديد، هذه المرة بخطوات أهدأ، كأن كل حركة محسوبة من أجل ذلك الطفل الصغير.
وفي المقابل ظل كارم يرقص بمهارة لا تُجارى، يرفع لجام حصانه ويناور بخفة فارسٍ وُلد فوق السرج، فهو الأبرع بينهم والأستاذ الذي علمهم جميعًا ركوب الخيل.
تدفقت موجات الفرح في كل اتجاه، الرجال والنساء تفاعلوا كلٌّ على طريقته: أولاد عم موسى اندفعوا للرقص معهم وسط الساحة، كبار العائلة اكتفوا بالتصفيق مبتسمين من مجالسهم، النساء أطلقن زغاريد متتالية اخترقت ليل الحفل، وعلى رأسهن نادية وعبير، ودلال وفيروز اللواتي صعدن إلى المنصة ووقفن إلى جوار ليلى برفقة شقيقتها، يشاركنها لحظة الفرح والبهجة التي لم يكن ليتخيلها أحد.
_________________
مرّت دقائق بدت أطول من المعتاد بعد انتهاء فقرة الخيل، وكأن الحفل أخذ أنفاسه ليستعد لمفاجأة أخرى…
ترجّل الجميع عن الأحصنة وسط تصفيق وزغاريد متفرقة، وانسحبت الفرقة الموسيقية بخطوات بطيئة، لتعود الأجواء شيئًا فشيئًا إلى هدوئها المؤقت.
كان سامي ما يزال يحمل يزيد على ذراعه، صعد برفقة كارم والتوأم إلى المنصّة، حيث أحضر لهم أحد العاملين مشروبات غازية باردة، فجلسوا لالتقاط أنفاسهم وضحكاتهم تملأ الجو.
على الجانب الآخر، اختار موسى أن يبتعد قليلًا، واتجه نحو المقصف، خلع قبعته ومسح عرقه بمناديل ورقية، ثم قال لأحد العاملين بصوت منخفض لكنه حازم:
“فنجان قهوة مظبوط لو سمحت.”
ابتسم العامل مجيبًا:
“من عينا يابرنس، ثواني بس.”
أومأ موسى في صمت، ورمى المناديل في أقرب سلة ثم أعاد القبعة إلى مكانها على رأسه، كأنها جزء منه لا يكتمل بدونه.
لم تمر لحظات حتى وضع العامل أمامه الكوب الساخن، فتناوله موسى بابتسامة هادئة قائلاً:
“تسلم ياغالي.”
وقبل أن يذوق الرشفة الأولى حتى، جاءه صوت كارم يخترق الأجواء بضجة مألوفة:
“بتعمل إيه ياموسى؟!.. تعال يلا يابرنس!”
زفر موسى بملل وأبعد الكوب عن فمه، وتمتم مع نفسه بضجرٍ:
“ده أنا ما لحقتش أدوقها حتى!”
لكن صوت كارم عاد يحثّه:
“يالا يابني!”
التفت موسى نحوه ورفع صوته حتى يصله:
“حاضر حاضر… جاي.”
ترك الكوب على الطاولة مضطرًا، ثم تحرّك بخطوات مترددة نحو المنصّة، وما إن صعد حتى وقعت عيناه على عصيّ خشبية يحملها أصدقاؤه، ثلاثة فقط، غليظة وثقيلة، وكأنها تنتظر أن تشتعل بالرقص.
رفع حاجبيه بدهشة وهو يتأملها قبل أن يعلّق بنبرة استنكار واضحة:
“دول ٣ عصيان بس!”
تقدّم حسين موضحًا:
“ماهو دول اللي عرفنا نجيبهم، ومنهم واحدة بتاعة جدي الله يرحمه.”
تجهم وجه موسى قليلًا، ثم أضاف بحدة لا تخلو من اهتمام:
“مين اللي هيرقص بيهم؟!.. احنا كده محتاجين واحدة كمان على الأقل.”
تدخّل كارم قائلاً بثقة:
“أنا عندي حل…”
ثم التفت نحو الصف الأول حيث يجلس كبار العائلة وأهل المنطقة، ونادى بصوت مرتفع:
“حاج محمد!”
رفع محمد رأسه فتابعه كارم وهو يشير إلى العكاز في يده:
“معلش نستأذنك في العكاز بتاع حضرتك، علشان موسى يرقص بيه.”
ارتسمت على وجه محمد ملامح رفض واضحة وهو يرد بحزم:
“ده بعينك إني أدهوله! العكاز ده غالي عليا، أنا وارثه من أبويا.. عايزني أديهوله يكسره؟!”
ابتسم كارم محاولًا استمالته:
“ياحج ما تخافش، ده حفيدك اللي هيرقص بيه.”
لكن محمد أصرّ:
“ماهو علشان حفيدي، عارف إنه مش هيحافظ عليه.”
اقترب كارم خطوة وأردف بنبرة استعطاف:
“علشان خاطري أنا ياحج، وعلى ضمانتي… لو ماكنش علشاني، يبقى علشان خاطر العريس القمر ده.”
أنهى جملته وهو يشير إلى سامي الذي كان يبتسم من فوق المنصة، تردد الحاج محمد لحظة، ثم ضرب بعكازه الأرض بقوة وقال:
“تعال خده… بس إياك يحصل له حاجة.”
نهض موسى من مكانه واقترب من جده، ومد يده ليتناول العكاز قائلاً بجدية هادئة:
“اطمن ياحج، مش هيحصله حاجة إن شاء الله… ثق فيا.”
أجابه محمد وهو يهز رأسه:
“الثقة في اللي زيك صعبة… بس مع لينا، خده علشان العريس بس.”
رمقه موسى بلمحة استنكار خافتة، ثم اكتفى بإيماءة جادة قائلاً:
“تشكر ياحج.”
قالها ومضى إلى المنصة مجددًا واجتمع برفاقه، حتى دوّت أنغام الأغنية الصعيدية في المكان، فاشتعلت الأجواء دفعة واحدة.
رفع موسى وسامي وكارم ومحسن العصي بين أيديهم، وتمايلوا بخطوات مدروسة على الإيقاع، بينما دار حسين وحسن حولهم يصفقان ويرددون كلمات الأغنية بحماسة، فتردد الصوت كأنه صدى جماعي يملأ المكان.
–
بص على الحلاوة حلاوة
دي بلدي ونقاوة نقاوة
تعالى دوق يا حلو بلدي
تعالى دوق خدلك صندوق
يا حلوة يا شايلة البلاص
من فضلك دلي اسقيني
يا حلوة يا شايلة البلاص
من فضلك دلي اسقيني
ده قلبي يحبك بإخلاص
زي ما حبك حبيني
زي ما ودك وديني
لمي الملاس لمي يا حلوة يا زينة
عقلي شرد مني من جمالك يا حلوة يا زينة
تقاطعت عصا موسى مع عصا سامي بقوة، فارتفعت صيحات التشجيع من الحضور، فيما كان كارم ومحسن يرقصان منفردين بخطوات صاخبة تزيد المشهد صخبًا.
انسحب محسن فجأة من الدائرة واتجه إلى الشباب بين الصفوف، مشيرًا إليهم بالصعود، قاوموا قليلًا، لكن إصراره لم يترك لهم خيارًا؛ فصعد طارق ورؤوف وأبناء عمومة موسى، ليكوّنوا حلقة أوسع حول المركز، حيث يقف موسى وسامي.
أخذ الجمع يرقص في دائرة متراصة، يهتفون ويرددون الأغنية بصوت واحد، بينما العصي تتقاطع وتتأرجح، وكأنها جزء من إيقاع الطبول.
– يا اللي جمالك عجب عجب
يا محلى خلخالك
جمال وعقل وأدب
ومشرفة خالك
ميل واسقيني يا واد عمي
ميل واسقيني
أنا مش عطشانة يا واد عمي
حبك يرويني
يا واد يا واد يا واد يا ولا
من صغري سني وأنا في الهوى
أنا العليل وأنت الدوا
يا واد يا واد يا واد يا ولا
دقي يا ساعة وقولي بالحق
قولي بالحق
والله يا قلبي أنا سامع دق
سامع دق
الساعة كام عَ باب السيما
الساعة كام الساعة كام
ومع كل حركة، كانت الحماسة تزداد والضحكات تعلو…
خلع طارق سترته وسلّمها لدلال، قبل أن يندفع إلى قلب الدائرة مع البقية، وفي لحظة اندماج جماعي، رفعوا سامي عاليًا فوق أكتافهم، يهتفون باسمه ويضحكون، فيما ضج المكان بصفير وزغاريد النساء.
وبينما كانت الضحكات تعلو وتتصاعد الزغاريد، وقفت ليلى تتابع المشهد بعينين تلمعان… شعرت كأن قلبها يتسع على إيقاع تلك الخطوات، وكأن دفء العائلة يلتف حولها، يبدّد بعض من وحشة الأيام الماضية.
كل هذا، ودلال وفيروز لم يتوقفا عن توثيق المشهد بعدسات هواتفهما، تلتقطان كل لحظة من فرحة نادرة، بينما الأطفال اندفعوا يشاركون الكبار مرحهم.
حمل سامي يزيد على كتفيه وسط التصفيق، وتبعه الآخرون برفع أبنائهم، لتكتمل الصورة ببهجة صافية؛ خليط من الفرح العائلي، ورقص جماعي، وأغانٍ صعيدية تهدر بالحياة.
كانت لحظة الفرح تلك أوسع من مجرد احتفال، بدت كأنها هدية توزعت على القلوب جميعًا…
فرح صديق، وابن، وأخ، فارتسمت ابتسامة صافية على وجوه من أحبوه بصدق، كأن انعكاس سعادته تسلل إليهم جميعًا، حتى صاروا مرآةً لبهجته.
___________________
تفرّق الناس تباعًا بعد أن دخل العروسان عشّهما الجديد، فانطفأت الضحكات شيئًا فشيئًا حتى خلا الطريق، ولم يبقَ سوى موسى ورفاقه والعمال الذين انهمكوا في نزع الزينة وإعادة المكان إلى صمته القديم.
أصوات خفيفة لاحتكاك المقاعد ببعضها ووقع الأيدي وهي تفكّ الأشرطة الملوّنة كانت تشهد وحدها على أن ليلة عامرة مرّت من هنا.
اقترب موسى من رئيس العمال، يناوله المال ويطمئن على الحساب، وحين ردّ الرجل بابتسامة مطمئنة:
“مظبوط يابرنس.”
هزّ موسى رأسه وهو يسأله بنبرة عملية:
“تمام.. فاضلكم قد إيه وتخلصوا؟”
أجابه الرجل وهو يضع النقود في جيبه:
“قبل الفجر نكون مخلّصين إن شاء الله.”
صافحه موسى بحرارة، يتلقّى حديثه بإيجاب:
“تسلم ياغالي.”
وبينما انصرف الرجل، لمح موسى عمّ سعد يجمع أغراض المقصف، فبادره مازحًا وهو يمد يده لمصافحته:
“لسه فاكر تيجي؟! سايب الرجالة يشتغلوا وهربت إنت؟”
قهقه سعد وهو يردّ:
“ولا هربت ولا حاجة، كنت ورا مع الرجالة.. بس بعد أبوك بصفّين.”
ضحك موسى، ثم أخرج حزمة من النقود يناوله إيّاها:
“ده حقك يا عم سعد، إنت والرجالة.. شكرًا على تعبكم.”
“ماتخلي يا برنس.”
أصرّ موسى بابتسامة ودودة:
“الله يخليك، شغل زي ده تتشكر عليه.”
كاد سعد يمد يده ليأخذ المال، لولا صوت يحيى الذي قطع المشهد فجأة وهو يقترب بخطوات ثابتة، يده في جيب بدلته وعيناه تتجهان نحوهما:
“استنّى يا موسى…”
التفت كلاهما إليه، فتابع يحيى بجدية وهو يواجه سعد:
“حسابك كام يا عمنا؟”
تقدّم يحيى بخطوات وئيدة، يخرج المال من جيبه كأنه يريد أن يتولّى الأمر بنفسه، لكن موسى مد يده سريعًا وأوقفه قائلاً بحزم هادئ:
“لا يا عمي.. خلي فلوسك.”
قطّب يحيى حاجبيه وهو يردّ بجدية:
“مايصحش يا ابني.. أنا اللي لازم أحاسب.”
ابتسم موسى ابتسامة خفيفة تحمل شيئًا من الاطمئنان، وأردف:
“مين قالك إني اللي بحاسب؟.. الفلوس دي فلوس سامي، هو اللي إدانا من كام يوم علشان نحاسب الرجالة، لو هتحاسب حد.. حاسب سامي.”
تجمّدت نظرة يحيى عليه لثوانٍ، يتأمل صدق كلامه قبل أن يردّ بدهشة خفيفة:
“سامي اللي إدّاكم الفلوس دي؟”
أومأ موسى مؤكدًا، ثم التفت إلى سعد ودفع المال في يده بحزم ودود:
“اتفضل يا عم سعد.. وشكرًا مرة تانية.”
ابتسم الرجل وهو يغلق كفّه على النقود:
“العفو يا بني.. ألف مبروك.”
ردّ موسى بحرارة:
“الله يبارك فيك يا غالي.”
غادر سعد بخطوات بطيئة، تاركًا وراءه موسى التي التفت نحو يحيى مجددًا، وصوته هذه المرة أكثر لطفًا:
“تقدر تطلع ترتاح دلوقتي يا عمي، أنا والشباب هنا هنخلص الباقي، ماتقلقش.”
هزّ يحيى رأسه نافيًا، صوته ممتزج بالجدّ والامتنان:
“لا، أنا هافضل معاكم لحد ما تخلّصوا، ده أقل حاجة أقدر أعملها، انتوا عملتوا الواجب وزيادة، تقريبا إنتوا اللي شايلين الفرح كله… سامي محظوظ بصحاب زيكم.”
انحنى موسى قليلًا برأسه احترامًا، وردّ بنبرة متأثرة:
“كلامك على راسي والله يا عمي.. وسامي أخونا وصاحبنا، وده أقل حاجة نعملهاله في يوم زي ده… ربنا يسعده، وألف مبروك.”
ابتسم يحيى وهو يتمتم:
“الله يبارك فيك يا موسى.. وعقبالك.”
سكت موسى لحظة، ثم ارتسمت على وجهه بسمة هادئة شابها دعاء داخلي:
“يا رب.”
لم يكد ينتهي حتى ظهر حسن وهو يلوّح بيده:
“موسى!.. أنا حاسبت الفرقة، وحسين حاسب الدي جي وخلصوا ومشوا، وكارم ومحسن بيساعدوا عمال الفراشة.”
تنفّس موسى براحة وأجاب:
“ممتاز.. كده كله أخد حسابه، وأنا سألت الريس وقال قبل الفجر هيكونوا مخلصين إن شاء الله.”
“أنا وحسين هانروح نساعدهم، جايز نخلّص أسرع شوية.”
ابتسم موسى وأردف:
“وأنا كمان هاجي معاكم.”
ثم التفت إلى يحيى مجددًا، وأضاف:
“تقدر تطلع انت يا عمي.. احنا خلاص قربنا نخلص، وبعدها هنطلع على طول.”
لكن يحيى أصرّ بنبرة جادّة:
“مش هاعرف أساعدكم، بس خليني واقف معاكم على الأقل يا ابني.”
اقترب موسى منه، وصوته هذه المرة يحمل مزيجًا من الاحترام والرجاء:
“والله نشيلك على راسنا يا عمي، بس اليوم كان طويل ومتعب.. لازم ترتاح، كلها ساعة ونبقى مخلصين.”
أيّد حسن كلامه وهو يبتسم بإخلاص:
“مظبوط يا عمي، إحنا هنخلص ونطلع على طول.. حضرتك اطلع ارتاح، الليلة دي خدّت مننا كلنا مجهود كبير.”
تنفّس يحيى تنهيدة طويلة، كأنها تحمل استسلامًا أكثر مما تحمل اقتناعًا، ثم وزّع نظراته بين موسى وحسن، وفي صوته امتنان واضح:
“خلاص طالما مُصرّين.. تصبحوا على خير، وألف شكر على كل اللي عملتوه.. ربنا يباركلكم.”
ابتسم حسن ابتسامة هادئة وهو يردّ:
“تسلم يا عمي.. وألف مبروك.”
قال يحيى وهو يلوّح بكفّه:
“الله يبارك فيك.. وعقبالكم إنتوا الخمسة، تصبحوا على خير.”
ارتفع صوتهما معًا، في تناغمٍ طبيعي يدل على عمق المودة:
“وأنت من أهله.”
أومأ لهما يحيى مبتسمًا، ثم استدار بخطوات هادئة حتى غاب عن أنظارهما داخل بيته، بينما ظلّ موسى وحسن يطالعانه للحظات، ثم التفت حسن نحو صديقه، ووضع يده على كتفه مرددًا بلطف:
“ماتطلع إنت كمان يا موسى ترتاح… بقالك يومين مانمتش كويس.”
رمقه موسى بنظرة واثقة، وردّ بابتسامة صغيرة:
“لا، أنا هافضل معاكم لحد ما نخلص… وبعدين أنا قايلك قبل كده إني متعوّد على قلة النوم، غير كده.. خلاص قربنا ننهي، نصلي الفجر وبعدين نرتاح كلنا مع بعض يا سيدي.”
أطلق حسن زفرة خفيفة، ثم قال:
“يعني مُصر برضه؟”
“آه مُصر… يلا نساعد الشباب ونكسب وقت.”
ضحك حسن بخفة وهو يرفع حاجبيه استسلامًا:
“ماشي، أمري لله… يلا بينا.”
“يلا.”
مرّر موسى ذراعه حول عنق صديقه في حركة ودّ أخوي، وتقدّما معًا نحو البقية.
وفي دقائق انخرطوا جميعًا في العمل، كتفًا إلى كتف، والجدية على وجوههم تخالطها ابتسامات تعب ورضا.
وبعد ساعة، كانت الساحة قد عادت إلى صمتها الأول، خالية من كل أثرٍ للزينة والاحتفال.
رحل العمّال، وجمع الخمسة أنفاسهم، ثم اتجهوا إلى الجامع القريب، وصلاتهم للفجر في تلك اللحظة بدت لهم أصدق ختامٍ لليلةٍ طويلة.
خرجوا بعدها وكل واحد يسلك طريقه إلى بيته، مثقلين بالتعب لكن مغمورين بالرضا، فما كان الإرهاق ليُذكر أمام الفرح الذي ظلّ عالقًا في قلوبهم، كضوءٍ ممتدّ من ليلةٍ لن تُنسى.
__________________
في الصباح…
اشتد ضوء الشمس المتسلل من النافذة عبر الستائر حتى صار يثقل جفونه المغلقة، كأنه يُصرّ على إيقاظه من سباته العميق بعد ليلةٍ أرهقته حتى العظم.
كان جسده مستسلمًا لراحةٍ ثقيلة، لكن فجأة اخترق السكون صوت رنين هاتفه الموضوع على الطاولة بجواره، يهزّ المكان بنغمته المتكررة.
ارتجف قليلاً، ثم بدأ يتحرك ببطء كمن يقاوم الغرق، فتح عينيه نصف فتحة، فرأى شاشة الهاتف تومض باسم “كارم”.
مد يده بتثاقل والتقط الجهاز، وأجاب وهو يفرك عينيه بنبرة متعبة وكسولة:
“ألو.”
جاءه صوت صديقه مفعمًا بالحيوية:
“صباح الخير يا برنس.. لسه نايم ولا إيه؟”
أجاب موسى بصدق، وصوته أثقل من النوم نفسه:
“آه لسه والله.”
ضحك كارم بخفة، وقتل:
“يا بختك يا عم.. أنا صاحي من بدري، الحج صحاني ونزلني أشتري طلبات البيت.. وها أنا قاعد بفطر… المهم، أنا متصل أسألك هنروح لسامي إمتى؟”
حك موسى رأسه ومرر أصابعه بين خصلات شعره الفوضوية، ثم تمتم بنفس النبرة الكسولة:
“مش دلوقتي خالص يا بني.. ده عريس جديد وعايز مساحته.”
سأله كارم بجدية أكبر:
“يعني نخليها لبكرة ولا إيه؟”
سكت موسى قليلًا، عقله يحاول أن يستفيق، ثم قال وهو يزفر:
“بص.. خليها على الله، ممكن نروح له بالليل، نقعد ربع ساعة كده بس.. علشان ما يزعلش لو اتأخرنا.”
“ماشي، مفيش مشكلة.. هبلّغ الباقي.”
“تمام.”
“يلا سلام.. أشوفك في صلاة الضهر.”
“إن شاء الله.. مع السلامة.”
أنهى المكالمة وألقى الهاتف بجواره، ثم غطى وجهه بكفيه وأطلق تنهيدة طويلة، كمن يحاول طرد ما تبقى من ثِقَل الليل… لكن فجأة سمع صوت الباب يُفتح، وصوت أمه يعلو بنبرتها المعتادة التي تحمل حنانًا ممزوجًا بعَتبٍ رقيق:
“موسى!”
أبعد يديه عن وجهه وردّ بصوت مبحوح:
“يا نعم!”
تقدمت إلى الشرفة وأزاحت الستائر دفعة واحدة، فاندفع نور النهار إلى الغرفة بقوة، وأردفت:
“إنت صاحي؟”
ابتسم بتعب وهو يدفن رأسه في الوسادة، ثم قال ساخرًا:
“لا.. بكلمك من أحلامي دلوقتي.”
زفرت بضيق من سخريته، ثم تابعت وهي تلوّح بيدها بتبرم:
“طب قوم يلا يا سخيف، كفاياك نوم كده.”
رفع رأسه قليلًا، يرمقها بعينين مثقلتين:
“هي الساعة كام أصلاً؟”
“فاضل نص ساعة على الضهر.. قوم اغسل وشك وافطر، هتلاقي الفطار على تربيزة المطبخ.. أنا وأبوك فطرنا من بدري.”
أجاب بفتور، وهو يمسح وجهه:
“ماشي.”
همّت بالخروج وهي تربت على الباب:
“أنا هنزل دلوقتي عند خالتك نادية، وممكن أتأخر.”
“ماشي.”
رمقته نظرة أخيرة وكأنها تتحقق من قيامه:
“يلا قوم بقى!”
ألقى تنهيدة قصيرة، ثم قال بتثاقل:
“حاضر.”
غادرت الغرفة بخطوات ثابتة بعدها، بينما بقي هو وحيدًا وسط صمتٍ ثقيل…
حاول أن ينهض من الفراش، لكن ما إن حرّك جسده حتى اجتاحه ألم مباغت جعل ملامحه تنقبض، فتمتم بصدمة:
“آه.. هو جسمي بيوجعني كده ليه؟”
جلس على طرف الفراش، يضغط بكفّه الخلفي على جبينه، الحرارة المتصاعدة من جسده أربكته، فتأفف بضجر:
“مش معقول.. أوف.”
لم يكن وجعه جسديًا فحسب، بل بدا كأن الإرهاق يثقل عظامه من الداخل…
أطلق زفرة متعبة، ثم وقف ببطء، يمدّ يده نحو الخزانة، يلتقط بعض الثياب بحركة متكاسلة، ثم خطا خارج الغرفة متجهًا إلى المرحاض، يسحب جسده كمن يجر ثقلًا لا يراه أحد سواه.
__________________
وقفت في الصيدلية وسط رفوفٍ تلمع تحت ضوءٍ أبيضٍ هادئ، تعبق الأجواء برائحة المطهّرات والدواء.
كانت تمسك بقائمةٍ طويلة تراجع من خلالها ما وصلها منذ قليل من عبواتٍ وأدويةٍ جديدة، بينما الفتاة التي تعمل معها تنحني لترتّب الصناديق في أماكنها.
قالت دلال بنبرةٍ عملية وهي تشير إلى ما تبقّى من الأدوية:
“خلّصي دول، وبعدين رتّبي دول جنبهم.”
رمقتها الفتاة سريعاً، ثم أجابت وهي تواصل ترتيب العبوات على الرفوف:
“حاضر.”
تابعتا العمل في صمتٍ يسوده صوت البلاستيك حين يُمزَّق والعلب حين تُوضع مكانها، وقد اقتربت دلال لتساعدها، لكنّ صوت الباب الزجاجي وهو يُفتح قطع سكون المكان، لتلتفتا معاً نحو الداخل.
كان هو _موسى_ يدخل بخطواتٍ بطيئة، وصوته المنهك يسبق ابتسامته الخافتة:
“السلام عليكم.”
ردّتا التحية معاً، وتقدّمت دلال نحوه، بينما جلس هو على أول مقعدٍ صادفه، واضعاً كفّه على ركبته كأنّه يستجمع أنفاسه.
ثم
قال بنبرةٍ فيها شيء من الإرهاق:
“نازلة النهارده ليه؟”
ابتسمت دلال بخفة وهي تتوقف على مقربة منه:
“كنت بعمل جَرد وبرتّب الحاجات اللي وصلت، وكده كده كنت هنزل من بكره أصلاً، ما فرقتش يعني بكره من النهارده.”
هزّ رأسه موافقًا، وقال:
“مظبوط، علشان طارق مسافر بكره.”
أومأت وهي تتابع بهدوء:
“أيوا، هيمشي بكره بالليل.”
“يروح ويرجع بالسلامة، هاجي أسلّم عليه قبل ما يمشي، أنا والحاجة.”
ابتسمت بخفة، وأجابت:
“ماشي، هستناكم.”
ساد بينهما صمتٌ قصير، لكنّ سرعان مالاحظت هي الشحوب في وجهه، والعَرَق الذي يتجمّع عند صدغيه، اقتربت حينها قليلاً منه وسألت بقلقٍ صادق:
“قولي… إنت كويس؟ باين على وشك إنك تعبان.”
رفع موسى يده ليفرك رقبته بتوترٍ واضح، فاقتربت هي في لحظةٍ خاطفة، ومدّت يدها تتحسّ جبهته، فشعرت بحرارته العالية وقالت بخوفٍ واضح:
“إنت سخن!”
تراجع قليلًا، وأبعد رأسه عن يدها قائلاً بصوتٍ مبحوح:
“ما أنا جيت علشان كده… شوفيلي حاجة تخلي الحرارة دي تنزل.”
سألته بجديةٍ:
“إنت قيستها؟”
“لأ.”
قالت بسرعةٍ وهي تبتعد نحو مكتبها:
“طب استنى.”
فتحت أحد الأدراج تبحث بعجلة، ثم عادت تمسك بمقياس الحرارة، ناولته إياه قائلةً وهي تشير إليه:
“خده، حطّه في بُقّك!”
رفع حاجبه بتعبٍ ساخر، وسأل بنبرةٍ واهنةٍ فيها بقايا ابتسامة:
“نضيف؟”
زفرت دلال بضيقٍ واضح، ونظرت إليه بنفاد صبرٍ وهي تقول بحدةٍ لم تخلو من قلق حقيقي:
“أه نضيف، ما تخافش… يلا حطّه!”
ابتسم موسى ابتسامةً باهتة، ثم قال بخضوعٍ بسيط:
“حاضر.”
أخذ المقياس ووضعه في فمه بينما كانت عيناها لا تفارقانه، تتابع ملامحه المتعبة بنظراتها التي تحمل مزيجًا من التوتر والعطف.
وبعد لحظاتٍ بدت لها طويلة أكثر مما هي عليه، مدت يدها نحوه وقالت بنبرةٍ متوترة:
“هات… جيبه!”
أخرجه من فمه بتكاسلٍ، ومدّه إليها دون اهتمامٍ يُذكر. أمّا هي، فما إن وقع بصرها على القراءة حتى اتسعت حدقتاها وهتفت بصوتٍ يملؤه الذعر:
“تسعة وتلاتين!”
نظر إليها موسى دون اكتراثٍ وقال ببرودٍ مصطنع:
“وبعدين؟”
رمقته بنظرةٍ حادة وقالت بانفعالٍ لم تستطع كبحه:
“هو إيه اللي بعدين! إنت سخن كده من إمتى؟”
هزّ كتفيه بعجزٍ وهو يجيب بصوتٍ متعب:
“معرفش، صحيت من النوم لقيت جسمي بيوجعني وحسّيت إني سخن… وبس.”
اقتربت منه بخطواتٍ متوترة وسألته بقلقٍ متزايد:
“حاسس بحاجة تانية؟ دايخ مثلاً؟”
أجابها ببطءٍ وصوتٍ خافت:
“شوية… جسمي تقيل ومش قادر أتحرك.”
هزّت رأسها بإدراكٍ سريع وهي تقول بنبرةٍ عملية:
“فهمت، دي الحرارة اللي عاملة فيك كده، محتاج خافض فوراً.”
قال بلا اهتمامٍ وكأنه يسلّم بالأمر:
“تمام، شوفي الدوا وجيبيه.”
ترددت للحظة، ثم أجابت بجديةٍ حاسمة:
“لأ، هو مش دوا… إنت هتاخد حقنة.”
رفع حاجبيه في صدمةٍ وانقبض وجهه للحظات قبل أن يقول بحدةٍ متوترة:
“حقنة إيه؟!”
أجابت بثقةٍ وهي تنظر إليه مباشرة:
“حقنة عشان حرارتك تنزل بسرعة.”
زمّ شفتيه بعنادٍ وقال متهكمًا:
“مفيش الكلام ده، أنا مش واخد حقنة، هاتي حبوب أو دوا… لكن حقن لأ!”
ارتفع صوتها قليلًا وهي ترد بصرامةٍ امتزجت بالخوف عليه:
“هو إيه اللي لأ! لازم تاخد حقنة علشان الحرارة تنزل بسرعة، دي غلط عليك بالشكل ده!”
نظر إليها في تحدٍ صامت، قبل أن يقول بجفاءٍ متعمّد:
“مش واخد حقن يا دلال… ومين اللي هيديهالي يعني؟”
اقتربت منه بخطوةٍ هادئة، وابتسامةٍ خفيفة ارتسمت على شفتيها، ثم قالت ببساطةٍ:
“أنا.”
زفر موسى بضيقٍ واضح، وحدّق فيها بعينين متعبتين قبل أن يقول بنبرةٍ حادةٍ نفد منها صبره:
“جيبي دوا أو حبوب يا دلال… قبل ما أغلط.”
ارتفع حاجباها دهشةً من لهجته، وردّت بنبرةٍ فيها عتابٌ ممزوجٌ بالاستغراب:
“فيه إيه يا ابني؟ أنا عمتك!”
أجابها بنبرةٍ أكثر جفافًا وهو يشيح بوجهه عنها:
“ما دي المشكلة، ما تخلّينيش أتعصّب بقى… يلا، جيبي الدوا علشان أمشي.”
رمقته لوهلةٍ بصمتٍ، تحاول كبح انفعالها وهي تدرك أن عناده أقوى من أي إقناعٍ يمكنها أن تقدمه، ثم قالت بتنهيدةٍ متعبة:
“الدوا هياخد وقت.”
ردّ فورًا، وكأنه لا يريد سماع أي تبرير:
“وماله، أنا موافق… يلا جيبي.”
رفعت حاجبيها وقالت بتأكيدٍ:
“آخر كلام؟”
“آخر كلام… ومعنديش غيره.”
صمتت لحظة، ثم هزّت رأسها بيأسٍ خفيف وقالت بنبرةٍ هادئةٍ تحمل استسلامًا أكثر من رضا:
“أمري لله، هجيبلك حبوب… استنى.”
ابتسم ابتسامةً خفيفة مازحة وهو يرد ساخرًا:
“اديني مستني يا أختي.”
ابتعدت عنه بخطواتٍ سريعة، واختفت خلف أحد الأرفف لبضع ثوانٍ، قبل أن تعود تحمل عبوتين من الأقراص في يديها.
وضعتْهما أمامه على الطاولة الزجاجية، ثم أشارت إلى كل منهما بالتتابع وهي تشرح له بهدوءٍ:
“دي تاخدها أول ما تروح، بس لازم تاكل حاجة قبلها، هتبقى كل ١٢ ساعة… ودي التانية ٣ مرات في اليوم.”
هزّ رأسه باهتمامٍ خفيف وسأل:
“يعني آخد قرص منه دلوقتي؟”
“أه تاخد، بس كُلّ الأول حاجة بسيطة وبعدين خدهم واستريح شوية، وتابع حرارتك كل شوية… تمام؟”
“تمام.”
أخذت كيسًا بلاستيكيًا، وضعت فيه العبوتين بعنايةٍ وقدّمت له الكيس وهي تقول بجدّيةٍ رقيقة:
“اتفضل، وأوعي تنسى اللي قولتهولك، وابقى طمّني عليك… ماشي؟”
تناول منها الكيس دون أن يلتفت إليها كثيرًا، ثم نهض من مكانه بتثاقلٍ وهو يرد باقتضابٍ بارد:
“حاضر.”
شدّت على كلماتها هذه المرة وقالت بحزمٍ فيه قلقٌ واضح:
“هتكلّمني يا موسى وتطمنّي عليك، مفهوم؟”
أجابها من غير أن ينظر إليها، بصوتٍ واهنٍ لكنه حاسم:
“قلت حاضر… ماشي.”
ابتسمت بخفةٍ لا إرادية، وقالت وهي تراقبه يعدل قبعته:
“تمام… خد بالك وانت ماشي، ولا أجي أوصلك؟”
استدار نحوها بعينين نصف غاضبتين، وقال ساخرًا:
“توصّليني إيه يا دلال! إنتِ شايفاني عيّل صغير؟”
ضحكت بخفةٍ وهي تردّ عليه بنفس نبرته الساخرة:
“لأ يا سيدي، شايفاك عيّل كبير… وتعبان كمان.”
رمقها بنظرةٍ حادةٍ متبرّمة، ثم هزّ رأسه وقال بضجرٍ وهو يلتفت نحو الباب:
“أنا همشي أحسن.”
“مع السلامة.”
“سلام يا أختي.”
غادر الصيدلية بخطواتٍ متثاقلة، بينما التفتت هي وجلست أمام شاشة الحاسوب، وفتحت كاميرا المراقبة الخارجية تتابعه في صمتٍ، تتتبع خطواته التي تبتعد شيئًا فشيئًا عن المكان، تاركًا قلبها مثقلًا بالقلق.
___________________
سار في الطريق بخطواتٍ متثاقلةٍ تجرّها الأرض جرًّا، وكأن كل خطوةٍ منه تُنتزع من جسده انتزاعًا.
كان التعب بادياً على وجهه بوضوح؛ أنفاسه المتقطعة تتصاعد بحرارةٍ في الهواء، وجفناه يهبطان شيئًا فشيئًا رغم محاولاته المستميتة لإبقائهما مفتوحي، والعرق تسلّل من صدغيه إلى عنقه، بينما قبضته تشد على الكيس البلاستيكي.
وبينما هو غارقٌ في محاولاته لمجاراة الطريق، لمحها من بعيد وهي تخرج من مدخل منزلها، تحمل على ذراعها الصغير يزيد الذي بدا منشغلاً بضحكٍ طفولي لا يعرف التعب.
تجمّد موسى في مكانه للحظة، ثم سرعان ما اعتدل في وقفته، وسحب الكيس خلف ظهره بخفةٍ متوترة، وعدّل قبّعته بإيماءةٍ سريعة كمن يحاول أن يخفي آثار إرهاقه.
لاحظت فيروز وجوده في اللحظة ذاتها، فارتسمت على وجهها ابتسامةٌ مشرقة بدّدت شيئًا من كآبته، ولو للحظات.
اقتربت منه بخطواتٍ واثقة وهي تناديه بصوتٍ مفعمٍ بالدفء:
“موسى!”
أجابها بابتسامةٍ متعبة لكنها حقيقية:
“إزيِّك؟”
“الحمد لله، وإنت عامل إيه؟”
“الحمد لله، كويس.”
تأمّلته قليلاً، كانت عيناه تقولان غير ما تقول كلماته، فتساءلت بقلقٍ لطيف:
“بس باين عليك تعبان… متأكد إنك كويس؟”
هزّ رأسه سريعًا محاولًا تبديد شكوكها، وقال بابتسامةٍ هزيلةٍ امتزجت بمحاولةٍ للفكاهة:
“آه كويس، ما تخافيش… أنا بس مرهق من رقص إمبارح، إحنا خربناها!”
ضحكت فيروز بخفةٍ صافية، فكان لصوتها وقع الموسيقى في أذنه، ثم قالت وهي تحاول مجاراته:
“بس عملتوا جو حلو أوي في الفرح، بجد لولاكم ماكنش هيبقى الجو ممتع كده!”
ابتسم موسى بهدوءٍ يشوبه شيء من الخجل، وردّ بصوتٍ منخفضٍ وودود:
“مبسوط جدًا إنه عجبك.”
أضافت فيروز بعفويةٍ مرحة وهي تنظر ليزيد:
“هو الحقيقة عجبنا كلنا، وأكيد عجب يزيد كمان!”
التفت موسى نحو الصغير، فرآه يبتسم له بعينين تلمعان بالبراءة، فتسلّل إلى صدره دفءٌ غريب، ثم قال بابتسامةٍ دافئةٍ امتزجت بشيءٍ من الحنين:
“واضح إنه اتعود عليكِ بسرعة!”
ضحكت فيروز وقالت بفخرٍ خفيف وهي تنظر للصبي الذي تشبث برقبتها:
“أظن آه، وبعدين إحنا بقينا أصحاب ونمنا مع بعض إمبارح كمان… صح يا يزيدو؟”
هزّ الصغير رأسه بحماسٍ بريء، فضحكت هي وقبّلت وجنته بحبٍ خالص، بينما موسى كان يقف يراقبهما بعينٍ يملؤها الحنين، وابتسامةٍ صافيةٍ لم تفارقه.
وقد شعر لوهلةٍ أن المشهد أمامه يفوق قدرته على الاحتمال، وكأنه يرى الحياة كما كان يتمناها ذات يوم، بسيطة، دافئة… ومليئة بضحكتها الدافئة.
ثم قطع سكون اللحظة صوته الهادئ وهو يسأل بصدقٍ لطيف:
“مظبوط… إنتوا كنتوا رايحين فين؟”
نظرت فيروز إليه مجددًا وهي تُعدل الصغير على ذراعها، ثم قالت بابتسامةٍ خفيفة:
“كنا رايحين نجيب حاجة حلوة من المحل ليزيد.”
رفع حاجبه بابتسامةٍ مازحةٍ تخفي وراءها رغبةً في البقاء قربها أكثر، وقال بنبرةٍ هادئةٍ:
“طب حابة أوصلكم؟… علشان ممكن تتوهي عن المحل ولا حاجة.”
ضحكت بخفوت، وكان في ضحكتها شيءٌ من الحنين والامتنان، ثم أجابته بثقةٍ ممزوجةٍ بلطف:
“لا، شكرًا ليك… أنا عارفة محل عمو أحمد كويس، صحيح بقالي كتير غايبة عن المنطقة، بس أكيد لسه فاكرها، وأكيد مش هتوه فيها يعني.”
أومأ برأسه موافقًا، وصوته يخرج متعبًا لكنه دافئ:
“عندِك حق، المنطقة ما اتغيّرتش كتير فعلاً.”
قالت بنبرةٍ حالمةٍ وكأنها تتأمل شيئًا أبعد من البيوت والطرقات:
“مظبوط… لسه روحها حلوة زي ما هي.”
ابتسم موسى ابتسامةً خافتةً، تحمل شيئًا من الحنين الذي لا يُقال، فقط يُحَسّ، وأومأ برأسه مؤيدًا كلامها، بينما عيناه بقيتا معلقتين بملامحها التي يضيئها ضوء النهار.
بادلتْه الابتسامة ذاتها، تلك التي لا تطول لكنها تترك أثرًا في القلب، ثم قالت وهي تهمّ بالرحيل:
“أشوفك بعدين… مع السلامة.”
“مع السلامة.”
ثم مال قليلًا نحو يزيد ولوّح له بيده قائلًا بنبرةٍ ودودةٍ دافئة:
“سلام يا يزيدو!”
نظرت فيروز للصغير وقالت له بمرحٍ رقيق:
“يلا، اعمله باي!”
رفع يزيد يده الصغيرة ولوّح بها بحماسٍ طفولي، فارتسمت على وجه موسى ابتسامةٌ واسعة، ثم اقترب بخطوةٍ خفيفةٍ وانحنى نحوه، أمسك بيده الصغيرة وطبع قبلةً عليها في حنانٍ واضحٍ لا يخلو من الشجن.
رفع رأسه بعدها لينظر إلى فيروز، وقال بهدوءٍ وكأن الكلمة تخرج من مكانٍ عميق في صدره:
“باي.”
أجابته بابتسامةٍ دافئةٍ لا تخلو من ارتباكٍ خفيف:
“باي.”
تراجع خطوةً إلى الوراء، فاتحًا الطريق أمامها، فمرّت بجواره وهي تشده في صمتٍ لا يسمعه أحد، كأن شيئًا خفيفًا عالقًا بينهما لم يُقال بعد.
تابعها بعينيه وهي تمضي في طريقها نحو متجر عمّه، والطفل يتأرجح في ذراعها بسعادةٍ بريئة، حتى اختفى ظلّها بين الزحام.
تنهد موسى بعمقٍ، كأن الهواء خرج من صدره مثقلًا بكل ما لم يُفصح عنه، ثم أدار وجهه ناحية بيته، وبدأ يصعد الدرج بخطواتٍ بطيئة
.
ومع كل درجةٍ يصعدها، كانت تتسرب إلى قلبه تلك الصورة العالقة لها _نظرتها، نبرتها، وابتسامتها الخفيفة_ حتى غلبته ابتسامة دافئة، كأنها اعترافٌ خافت بأن رؤيتها _كالعادة_ لم تمرّ عليه مرور العابرين.
___________________
وصل إلى الطابق الثاني وهو يلهث بثقلٍ، يتشبث بدرابزين السلم كأن خطواته صارت أثقل من العادة، ثم تمتم متذمرًا بصوتٍ خافتٍ متقطع الأنفاس:
“هو السلم بقى طويل كده ليه فجأة!”
جاءه صوتٌ خشنٌ متهكم من ناحية الباب المفتوح:
“بتكلم نفسك ولا إيه يا عبيط؟!”
التفت موسى بدهشةٍ نحو مصدر الصوت، ليجد جده محمد جالسًا على مقعدٍ خشبيٍّ بجانب الباب، المسبحة تتدحرج بين أصابعه ببطء، وعيناه تتابعانه بقلقٍ مكتوم، وما لبث أن قال بلهجةٍ يغلب عليها القلق الممزوج بالعِتاب:
“وشّك مخطوف كده ليه يا ض؟!”
رفع موسى يده لوجهه، يتحسس ملامحه المتعبة قبل أن يجيب بسخريةٍ باهتة:
“مين اللي خطفه؟”
زفر محمد بضيقٍ، وضرب كفّه بكفّه قائلاً بنفاد صبر:
“إنت عمرك ما هتجاوب زي الناس يا بني! ما تنطق وتقول مالك؟”
خفض موسى نظره وقال بصوتٍ خافت:
“تعبان شوية يا جدي.”
رد محمد سريعًا وقد ارتسمت على وجهه ملامح اهتمامٍ حقيقي:
“طب ما رُحتش لعمتك تديك حاجة؟”
“ما أنا لسه جاي من عندها، واديتني دول.”
أشار إلى الحقيبة البلاستيكية التي كان يحملها بيده، فأومأ محمد برأسه بإيجاب وهو يقول بنبرةٍ أخف:
“ماشي، اطلع خُد دواك وارتاح.”
“ماشي، عن إذنك.”
“إذنك معاك… خد بالك وإنت طالع، حاسب تقع.”
ابتسم موسى ابتسامة صغيرة وهو يجيبه:
“حاضر.”
ثم واصل صعوده بخطواتٍ متعبة نحو شقته، فتح الباب بمفتاحه ودلف إلى الداخل في صمتٍ ثقيلٍ، كأن جدران البيت تنتظره لتحتضن تعبه.
اتجه مباشرة إلى المطبخ، تناول كوبًا من الماء، ابتلع دواءه بجرعةٍ سريعة، ثم وضع الكوب بجوار الحقيبة على الطاولة.
لم يُعر شيئًا حوله انتباهًا، فقط ترك كل شيء كما هو ودلف إلى غرفته، ألقى بنفسه على الفراش، سحب الغطاء السميك فوق جسده المرتجف من البرد، وأغمض عينيه ببطء، محاولًا الاحتماء من الألم الذي يسكنه.
_________________
_
في جهة أخرى….
وقفت خلف منضدة الصيدلية، يحيط بها صفٌ طويل من العلب الزجاجية والزجاجات الصغيرة، لكن تركيزها لم يكن على أيٍّ منها.
كانت يداها تتحركان آليًّا، ترتّب الأدوية وتراجع القائمة أمامها، بينما عقلها يسبح في مكانٍ آخر… تحديدًا عند موسى.
تنهّدت بقلقٍ مكتوم، ثم تركت الورقة من يدها وأمسكت بهاتفها بخفةٍ، قبل أن تضغط على أحد الأسماء المألوفة في سجلها.
وما إن جاءها الصوت من الطرف الآخر حتى قالت بسرعةٍ ملحوظة، يسبقها القلق:
“ألو يا عبير، هو أنتِ في البيت؟”
جاءها الرد الهادئ:
“لأ، أنا عند نادية، في حاجة؟”
ترددت دلال لحظة، ثم قالت بنبرةٍ تجمع بين الحذر والاهتمام:
“لا مفيش… الموضوع بس إن موسى كان تعبان وجِه أخد دوا من شوية.”
ارتفع صوت عبير على الفور بنغمةٍ متوترة:
“تعبان؟ ماله؟!”
أسرعت دلال بتهدئتها:
“اهدي، ماتخافيش… هو بس حرارته كانت عالية شويةد أنا اديته دوا وكنت بس عايزة أتأكد إذا أخده ولا لأ، علشان كده اتصلت بيكِ… على العموم، هكلمه وأطمن عليه، تمام؟”
“ماشي، بس ابقي طمنيني كمان.”
“حاضر… مع السلامة.”
أنهت دلال المكالمة ببطءٍ، وأبقت الهاتف في يدها للحظة، كأنها تنتظر أن ينبض منه صوت يطمئنها… لكن الصمت كان أصدق من أي رد.
مرّت ثوانٍ قصيرة قبل أن تتخذ قرارها، وتستقيم فجأة، التقطت حقيبتها من المقعد القريب، ثم التفتت إلى الفتاة قائلة بنبرةٍ حاسمة:
“أنا همشي يا إيمان، لو احتاجتي حاجة ابقي كلميني.”
رفعت الفتاة رأسها من خلف الطاولة وقالت ببساطة:
“ماشي.”
اكتفت دلال بإيماءةٍ سريعة، ثم خرجت من الصيدلية بخطًى متسارعة، وكل ما يشغلها في تلك اللحظة كان الوصول إليه… هو فقط.
_________________
بعد عدة دقائق…
وقفت أمام باب شقة شقيقها في الطابق الأخير، تتنفس بعمقٍ بعد صعود الدرجات الطويلة، ثم طرقت الباب ثلاث طرقات متتابعة، ناعمة لكنها تحمل استعجالًا خفيفًا.
لم تمضِ ثوانٍ حتى جاءها صوته من الداخل، مبحوحًا متعبًا:
“مين؟!”
رفعت صوتها قليلًا لتصل كلماتها إليه بوضوح:
“أنا دلال يا موسى… افتح!”
سادت لحظة صمت قصيرة، ثم فتح الباب ببطء، وظهر هو أمامها، شاحب الملامح، شعره مبعثر ونظراته نصف يقِظة، ورغم ذلك لم سألها بحنقٍ:
“إيه اللي جابك؟ مش أنا لسه سايبك في الصيدلية؟”
تجاهلت نبرته تلك تمامًا، ودخلت بخطواتٍ واثقة حتى وقفت أمامه مباشرة، لترفع يدها نحو جبينه وتتحسّسه برفقٍ حذر، بينما قالت بصوتٍ منخفضٍ يقطر قلقًا:
“تعال كده…”
عبس قليلًا متجهّمًا:
“أجي فين؟!”
أبعدت يدها عنه بعد أن شعرت بحرارته المرتفعة وقالت بجديةٍ ناعمة:
“واضح إن الحرارة مأثرة عليك فعلًا… ادخل استريح على السرير، وأنا جاية وراك.”
تنهد بضيقٍ واضح، وصوته يخرج متقطعًا من التعب:
“أنا كنت مستريح أصلًا، لولا إن حضرتك جيتي وخلّيتيني أمشي المشوار ده كله علشان أفتحلك الباب!”
اكتفت بابتسامة صغيرة تحمل صبرًا اعتادت عليه منه، وردّت بهدوءٍ رتيب:
“معلش… ادخل استريح يلا، بس قولي الأول الترمومتر بتاعكم فين؟”
رد بلا مبالاة وهو يزيح شعره عن وجهه:
“مش عارف، يمكن تلاقيه في المطبخ.”
رفعت حاجبها باستغرابٍ وهي تسأله:
“بيعمل إيه في المطبخ؟!”
أجاب بخفّةٍ رغم تعبه، وابتسامة ساخرة بالكاد تُرى:
“تلاقيه بياكل ولا حاجة.”
ابتسمت دلال بخفة على نبرته الساخرة، ثم وضعت يدها على كتفه تدفعه برفق نحو غرفته وهي تقول بنغمةٍ تجمع بين الجدّة والحنان:
“طب ادخل يلا واستريح.”
أدار وجهه إليها بعنادٍ طفولي وقال:
“هدخل علشان أنا عايز بس.”
كتمت ضحكة صغيرة وأومأت له مستسلمة:
“ماشي يلا، زي ما تقول.”
دخل موسى الغرفة متثاقل الخطى، كأن كل خطوة تسحب منه ما تبقى من طاقته.
جلس على حافة السرير أولًا، ثم تمدد ببطء، محاولًا التخفيف من ألم جسده الذي بدا وكأنه ينتفض كله دفعة واحدة.
رفع رأسه قليلًا، وأسند يده إلى جبهته وهو يتأوه بتنهيدات متقطعة:
“آه… آه يا دماغي… آه يا رجلي… آه يا ضهري… آه يا جسمي… هو فيه قطر داسني ولا إيه يا جدعان؟!”
دخلت دلال الغرفة وهي ترفع حاجبها بسخريةٍ رقيقة وقالت:
“علشان ما تهدّتش امبارح، فضلت تروح هنا وهناك، وترقص هنا وهنا، وما ارتحتش دقيقة على بعضها! طبيعي تتعب بالشكل ده.”
أدار وجهه إليها مبتسمًا رغم الإعياء، وردّ بخفّةٍ يحاول أن يخفي بها وجعه:
“وأنتِ الصادقة… ده أكيد من الحسّاد، واللي إنتِ منهــ…”
لم تُمهله لتكمل سخريته، إذ دفعت بيدها مقياس الحرارة إلى فمه بحزمٍ وهي تقول بصرامةٍ ناعمة:
“مش عايزة أسمع صوتك، إياك تتكلم وهو في بقك.”
رمقها بنظرةٍ ممتزجة بالغيظ والاستسلام، واضطر للصمت، بينما جلست هي بجواره تتابعه بعينٍ قلقة، وعقلٍ لا يكفّ عن الحساب، تتفقد ساعة يدها كل بضع ثوانٍ.
وحين انتهت المدة، مالت نحوه ومدت يدها قائلة بحزمٍ معتاد:
“جيب!”
فتح فمه ببطء فأخذت منه الجهاز، وما إن نظرت إلى الشاشة حتى اتسعت عيناها بفزعٍ مكبوت، وهتفت بنبرةٍ حادة ممزوجة باللوم:
“بقت تسعة وتلاتين ونص! عاجبك كده؟! قلتلك تاخد حقنة بدل الدوا، لكن حضرتك لا… ما وافقتش!”
رفع حاجبيه متعبًا وقال بصوتٍ واهنٍ لا يخلو من العناد:
“أكيد مش هوافق يعني! عايزاني أوافق أخليكي تديني حقنة؟”
وضعت يديها على خصرها قائلة بحدةٍ خفيفة:
“أنا عمتك على فكرة.”
أجابها على الفور ببرودٍ متعمد:
“ولا أعرفك.”
كظمت غيظها وعضت شفتها السفلى قبل أن ترد بصوتٍ هادئ لكنه مشحون بالتحذير:
“طب اللي متعرفهاش دي مضطرة تاخد بالها منك… أوعى تتحرك من مكانك لحد ما أرجع!”
ثم أسرعت بالخروج من الغرفة بخطواتٍ سريعة، وهي تحاول كبح انفعالها، بينما هو أغمض عينيه وأطلق زفرة طويلة مرددًا بصوتٍ خافتٍ منهك:
“هو أنا قادر أقوم أصلًا…”
.
.
.
.
جلست على طرف الفراش في صمتٍ يشوبه القلق، تنظر إلى موسى الممدّد بجوارها، جسده يرتجف تحت الغطاء السميك كطفلٍ يحاول الاحتماء من بردٍ يتسلل من داخله لا من الجو.
كانت يده متيبسة على أطراف الغطاء، وجهه شاحب، وشفتيه تجفّان مع كل نفسٍ يخرج بصعوبة.
بلّلت القماشة في الماء البارد، ثم وضعتها برفقٍ على جبهته، بينما همس هو بصوتٍ واهنٍ متقطّع:
“جسمي بيوجعني أوي…”
ابتلعت ريقها وهي تحاول أن تُخفي ارتجاف نبرتها:
“معلش… لما الحرارة تنزل هتخف ومش هتحس بالألم، بس استحمل شوية.”
أومأ برأسه بخفةٍ كأنه يُسلِّم لها أمره، لكنه ظلّ مغمض العينين، يتنفس بصعوبة، مدت هي يدها تمسح على وجنته بحنانٍ صادق، وقالت بصوتٍ مبحوحٍ بالحزن:
“لازم تتعب وتزعلني عليك كده؟!”
فتح عينيه قليلًا، وارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة لم تكتمل:
“هو أنا تعبت بإرادتي يعني؟”
زفرت بخفّةٍ وهي تهز رأسها بأسى:
“بس كان لازم تحافظ على صحتك شوية يا موسى… عاجبك حالتك دلوقتي؟!”
هزّ رأسه بالنفي، بلا قدرةٍ على الرد، بينما أعادت هي القماشة إلى الإناء الصغير المملوء بالماء الفاتر، ثم أعادت وضعها فوق جبهته من جديد، تُنصت لأنفاسه المتقطعة، تُحاول أن تبدد قلقها بتلك الرعاية البسيطة.
وفي لحظةٍ هادئة بينهما، فتح عينيه نصف فتحة وطالعها بصوتٍ خافتٍ متعب:
“دلال…”
رفعت رأسها نحوه بسرعةٍ قلقة:
“يا نعم؟”
تردد للحظة، ثم قال بصوتٍ أقرب إلى الهمس:
“أنتِ… أنتِ جيتي ليه؟”
نظرت إليه بدهشةٍ لم تخلُ من العتاب:
“إيه السؤال الغبي ده؟ أكيد جايه علشانك يعني!”
حاول أن يبتسم، فخرجت ضحكة مبحوحة من بين شفتيه وهو يتمتم:
“سيبتي مذاكرتك وجيتي علشاني…”
تجهم وجهها فجأة، انعقد حاجباها بدهشة حقيقية وهي تقول باستغرابٍ:
“مذاكرة إيه؟!”
ردّ بصوتٍ خافتٍ مشوش، كأنه يغوص في دوامةٍ من الهذيان:
“مش إنتِ… عندك امتحان في الكلية بكرة…”
حدقت فيه لثوانٍ صامتة، ثم لم تملك إلا أن تبتسم بمرارةٍ خفيفة وهي تهمس:
“امتحان!… هي الهلاوس بدأت؟!”
أرخى جفنيه من جديد وكأن التعب أثقل جفونه، لكن صوته المبحوح سرعان ما شق الصمت من حولها:
“دلال!”
رفعت رأسها نحوه، ما زالت تبلل القماشة بين يديها، وقالت بنبرة هادئة يغلفها القلق:
“نعم!”
أخذ نفساً متقطعاً قبل أن يتمتم:
“أنا قابلتها… أنا اللي رُحت جبتها من المطار… كانت جميلة قوي… وكبرت زيك كده… وأقدر أتجوزها كمان.”
تسللت ضحكة صغيرة من شفتيها رغماً عنها، كان في صوته شيء طفولي يثير الشفقة أكثر مما يثير الغضب، ضحكت بخفة بينما تراقبه يحاول فتح عينيه بصعوبة، ليواصل كمن يتشبث بخيط واهٍ من الوعي:
“هتجوزها صح؟!”
بادلته نظرة دافئة، وأومأت بإيجابٍ هادئ، ثم قالت وهي تمسح العرق عن جبينه:
“هتتجوزها يا موسى، قول يارب وهو إن شاء الله يستجيب لدعائك.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة، بالكاد تُرى، وقال بصوت متعب متقطع:
“يارب… إن شاء الله هتجوزها… وهتحضري فرحنا… كلكم هتحضروا فرحنا…”
“إن شاء الله يا حبيبي.”
رفعت القماشة من على رأسه، وغمرتها من جديد في الماء، بينما كان يراقبها بعينين نصف مغمضتين، ثم ناداها مرة أخرى بصوت خافت بالكاد سُمع:
“دلال!”
ابتسمت بهدوء، وقد صارت تتعامل مع مناداته المتكررة كنداء طمأنينة، وردّت وهي تعصر القماشة بين يديها:
“نعم يا موسى!”
لكن هذه المرة لم يتبع النداء سوى كلمة واحدة خرجت من بين شفتيه المرتجفتين بصدقٍ مدهش:
“آسف.”
توقفت أنفاسها لحظة، كأن الزمن ذاته جمد مع سقوط تلك الكلمة في فضاء الغرفة…
ظلت تحدق به في صمتٍ ثقيل، كل ما حولها اختفى، لم يبقَ سوى صوته وهو يهمس بتلك الحروف الثلاثة التي اخترقت جدار صبرها وأثارت شيئًا عميقًا في داخلها.
تسارعت نبضات قلبها حتى شعرت بها تصطدم بصدرها، بينما عقلهـا بدأ يفتش عن سببٍ نطقه لتلك الكلمة.
__________________
كتابة/ أمل عبد الرحمن.
أتمنى يبقى البارت عجبكم ومستنية أعرف رأيكم وتوقعاتكم يا قمرات.
دمتم بخير.. سلام.
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.