رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الخامس 5 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخامس

الفصل الخامس(MF)

الفصل الخامس(MF)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

خلف تلك الستائر الثقيلة التي امتدت لعشرات الأمتار، حيث صخب فرحة عائلة عمران يتغلغل في الهواء، يتناثر بين التحيات والزغاريط والرقصات، وقف موسى وطارق بعيدًا عن الضجة، على بعد خطوات قليلة فقط من الفرح الذي يكتسح المكان.

كان الصمت بينهما مشحونًا، صمت يزن أكثر من الكلمات، كل منهما يراقب الآخر بعناية، وكأن كل نظرة تحمل سؤالًا وتوقعًا.

تحرك طارق بتوتر، وصرخ بنبرة حادة محاولًا كسر الجدار الصامت بينهما:

“أدينا بعدنا… انجز وقول اللي عندك يلا!”

ظل موسى هادئًا، صامدًا، يحدق فيه بنظرات جادة أثارت ريبة طارق، فارتفع صوته مرة أخرى، هذه المرة بضيق أكثر:

“في ايه يابني؟!.. هو انت واخدني من عروستي علشان تتنح فيا؟!.. ماتنجز وقول اللي عندك يلا ياموسى!”

رد موسى بصوت منخفض، هادئ، لكنه يحمل ثقلًا غريبًا:

“إياك!”

اقترب طارق أكثر، حاجباه مشدودان بدهشة:

“ايه؟!”

تنهد موسى ببطء، وكأنه يزن كلماته قبل أن ينطق بها، ثم قال مجددًا بنفس النبرة الجادة:

“إياك!.. إياك تزعلّها منك في يوم من الأيام!.. إياك تنزل دمعة من عينيها بسببك!.. لو في يوم حصل ولقيتها زعلانة منك أو بسببك.. هنسي وقتها إنك خالي.. وحتشوف مني اللي مش هيعجبك خالص.”

وقف طارق مذهولًا، عيناه تتسعان، ورفرفة جفونه تتنقل بين الصدمة والدهشة، ثم ابتسم بسخرية جانبية، ورفع يده لوضعها على جبهة موسى، مرددًا:

“أنت سخن ياض.. ولا شارب حتة بـ ٢٠٠؟!”

أبعد موسى يده عن الأخير بهدوء، ونطق بصوت ثابت:

“ماهو مش معقول تبقى واعي للي بتقوله.. وخاصة يعني إنك لسه إمبارح كنت بتحذرني منها قبل كتب الكتاب وتقول لي اهرب.”

هز طارق رأسه، كما لو أن كلمات موسى أعادت ترتيب أفكاره:

“أنا واعي للي بقوله.. وواعي أوي كمان.. وصدقيني يا خالو.. لو حصل ودلال زعلت في يوم بسببك.. هنسي بجد إنك خالي وقتها.”

ظل طارق يراقبه للحظات، صامتًا، ثم اتسعت ابتسامته، ووضع يده على كتف موسى بحنان وحزم في آن واحد:

“ما أنت طلعت بتخاف عليها ومهتم بيها أهو.. أومال بقى كنت عامل نفسك مش مهتم بأي حاجة تخصها ليه؟!.. كنت بتعاملها زي أي حد ليه؟!.. وأنت عارف إنها مش أي حد بالنسبة لك.. دي دلال.. توأم الروح.. اللي كانت إيدك في إيدها من أول ما تولدتوا.”

أبعد موسى نظره، صوته منخفض هادئ:

“عندي أسبابي الخاصة اللي مخلياني أتعامل معاها كده.. ومش مضطر أقولها.”

ابتسم طارق بخبث، رافضًا قبول الصمت:

“بس أنا عايز أعرفها.”

نظر موسى إليه، بعينين ثابتتين، مرددًا:

“وانا قولت مش مضطر أقولها.. وبلاش تضغط عليا علشان ماعملش حاجة تزعلك.”

رفع موسى هاتفه في وجهه، وكأن الكلمات الأخيرة كانت أداة تحذير:

“حاجة تزعلك.. فاهم؟”

فهم طارق ما يرمي له موسى بحديثه، بينما أضاف الأخير:

“طبعا انت مش عايز يتنكد عليك في ليلة دخلتك.. صح؟”

ضغط طارق على أسنانه بغضب، وقال بضيق:

“هايجي يوم وأكسر التلفون ده، صدقني.”

أجاب موسى بسخرية، وخفة في نبرة صوته:

“لم يجي اليوم ده ابقي قولي..”

ثم وضع يده على كتف طارق، وابتسم ابتسامة مستفزة:

“ودلوقتي عن إذنك.. روح بقى لعروستك.. بس خد بالك.. اللي حصل دلوقتي مايتقالش لحد، وإلا أنت عارف هعمل إيه.. تمام يا طاروقة؟”

لم يجب طارق، اكتفى بنظرات مغتاظة، بينما ابتسم موسى بخفة، وخفّض يده عن كتفه، ثم قال:

“تمام.. هعتبر سكوتك موافقة على كلامي.. يلا عن إذنك يا خالو.”

تقدم موسى بخطوات هادئة نحو الفرح، تاركًا خلفه طارق واقفًا، يراقبه بغضب مختلط بالاستسلام، حرك رأسه بيأس وتنهد قليلاً، قائلاً في نفسه:

“عمر ماحد هيفهم دماغه… ربنا يهديه.”

ثم تحرك واقتحم طارق الفرح من جديد، يضع يديه في جيوبه، محاولًا أن يتناسى كلمات موسى المستفزة، ليكمل فرحة هذه الليلة… ليلة العمر التي لن تتكرر أبدًا.

_____________________

صعد طارق إلى المنصة بخطوات هادئة، وجلس بجوار عروسته التي التفتت إليه بنظرة تجمع بين الفضول والحنان، وسألته بخفوت:

“ايه اللي حصل؟”

أجابها طارق سريعًا، محاولًا أن يبدو هادئًا:

“مفيش.. كان بيكلمني في موضوع تافه.. سيبك منه.”

نظرت له دلال بشك طفيف، لكنها اختارت أن تصدق كلامه، فأومأت برأسها مبتسمة بهدوء.

تبادلا الابتسامة، ثم أمسك طارق يدها بخفة، ونطق بخبث محب:

“مسموح أمسكها صح؟.. أنا جوزك دلوقتي.”

ابتعدت دلال عن نظره بخجل، وقالت بصوت هادئ:

“مسموحلك.”

ابتسم بخفة، ومال على يدها ليطبع قبلة عليها، ما جعل قلبها يخفق أسرع، ولم يكتفِ بذلك بل أضاف بنبرة هيام واضحة:

“أنا بحلم باللحظة دي من زمان أوي يا دلال..”

التفتت إليه بعينيها اللامعتين، فتابع كلامه بهدوء وحب:

“اللحظة دي كنت بتمنى من ربنا إنها تحصل من زمان.. لحظة إني أمسك إيدك.. لحظة إني أقعد جنبك وأتكلم معاكي من غير حرج.. لحظة ارتباط اسمك باسمي.. لحظة جوازنا.. اللي كان حلم.. ودلوقتي بقى حقيقة وواقع.”

أحست دلال بدفء الكلام يملأ قلبها، فابتسمت ابتسامة هادئة وخجولة، وقالت وهي ترفرف قلبها بالسعادة:

“وأنا كمان.. أنا كمان كنت مستنية اللحظة دي من زمان يا طارق.. وكنت دايمًا بدعي ربنا إنك تكون من نصيبي.. والحمد لله.. ربنا

استجاب.”

قبّل

طارق يدها من جديد، مرددًا بصوت مليء بالهيام:

“ده

أنا اتمنيتك من ربنا كتير، ودعيت إن ينكتب لي معاكِ الخير… الحمد لله، إن طلعتي من نصيبي.”

أخفضت

رأسها بخجل، وابتسمت وهي تشعر بخفق قلبها الذي كان يرفرف بسعادة، فهي الآن جالسة بجواره، بين يديه، في حفل زفافهما الذي طال انتظاره، جالسة بجوار حبيبها وزوجها ومسكن قلبها…

طارق

.

كل هذا تحت أعين محمود الذي كان جالسًا في بداية الجهة الأخرى المخصصة لاستقبال المدعوين، يراقب شقيقته الصغرى ومدللته

دلال

بعينين مليئتين بالحنان، وبسمة صغيرة ارتسمت على وجهه حين رأى ابتسامتها الصافية، ابتسامتها التي كانت تفيض فرحًا وسعادة في ليلة زفافها.

مال محمود إلى أذن شقيقه مصطفى الذي جلس بجواره، وعيناه تتجهان نحو المنصة المضيئة، وقال بسعادة خفية:

“شايف وشها منور ازاي!.. فاضل شوية وتطير من فرحتها علشان اتجوزته.”

لم يرد مصطفى على الفور، كان شارد الذهن، فقد غاص في ذكريات ومشاعر مختلطة، حتى نادى عليه محمود محاولًا إعادته:

“مصطفى!.. مصطفى!”

أفاق مصطفى من شروده، ورفع رأسه ليتبادل النظر مع شقيقه، مرددًا بصوت هادئ:

“نعم!”

ابتسم محمود بخفة وقال، وقد لاحظ توتره:

“نعم!.. أنا بقالي ساعة بكلمك وانادي عليك وانت مش معايا.. مالك يا بني؟.. عقلك فين؟”

حرك مصطفى رأسه بالنفي وقال بخفوت:

“مفيش.. أنا بس مصدّع شوية.. أنت عارف بقي أنا مش متعود على الدوشة دي.”

ضحك محمود بخفة، وأردف:

“طبعا!.. الكويت مفيهاش المورستان ده.”

ابتسم مصطفى، وبدأ يستشعر الفرق بين المكانين، بين هدوء مدينته وصخب هذه الفرحة الكبيرة:

“مصر غير الكل يا أخويا.. وخاصة في طريقة تعبيرهم عن الفرحة.. كل بلد بتفرح بطريقتها.. بس طريقتنا غير.”

هز محمود رأسه موافقًا، وقال:

“طبعا.. دي فيها جدال.”

ضحك كلاهما بخفة، مستمتعين بلحظة الصفاء القصيرة وسط الزحام، حتى عبر من أمامهما كريم، فنادى عليه محمود:

“كريم!”

انتبه كريم لوالده واقترب منه قائلاً:

“نعم يا بابا!”

سأله محمود عن آخر المستجدات:

“حليتوا مشكلة الدي جي؟.. كان بلال بيقول إن الكمبيوتر بتاع الراجل فيه مشكلة.”

أجاب كريم بارتياح:

“أيوه الحمد لله اتحلت.. لما كنا بندور على رقم حد يجي يصلحه على السريع، الراجل بتاع الدي جي رن علينا وقال إن في شاب كان معدي شاف المشكلة وحلها.”

أومأ محمود مبتسمًا، مرددًا:

“طب الحمد لله.”

نظر مصطفى إليه، متسائلًا بفضول:

“معرفتش مين الشاب ده؟”

هز كريم كتفيه، وقال:

“لا.. الراجل قال إنه نسى يسأله عن اسمه.”

ابتسم مصطفى وأومأ:

“يالا.. ربنا يجزيه خير ويوفقه على اللي عمله.. ولو عرفت هو مين بأي طريقة ابقي اشكره.”

أجاب كريم بثقة:

“أكيد.”

في تلك اللحظة، نادى فادي على كريم قائلاً

مشيرًا له بالقدوم

:

“كريم!”

نظر كريم لوالده قبل أن يتحرك، فقال محمود:

“روح شوفه.”

“حاضر يا بابا.. عن إذنكم.”

اتجه نحو ابن عمه بخطوات واثقة، بينما ظل والده يراقبه بنظراته الحانية، ثم أعاد عينيه صوب المنصة مرة أخرى، حيث كانت دلال تتألق بابتسامتها، وحيث عاد مصطفى مرة أخرى إلى شروده، غارقًا في لحظة عاطفية عميقة، لحظة لقائه بها بعد كل تلك السنوات، لحظة عادت بها الذكريات إلى قلبه وأيقظت فيه مشاعر قديمة.

_____________________

في الجهة الأخرى، وصل موسى إلى أصدقائه الذين كانوا يقفون بالقرب من أعمامه وجده، فاقترب منهم على الفور، ولاحظ كارم وجوده فسأله بحنق ممزوج بالفضول:

“كنت فين يابرنس؟”

نظر موسى إلى السيجارة في يد كارم بعينين متقطبتين، وقال بحنق:

“ارمي السيجارة الأول وبعدين هاجاوبك!”

زفر كارم بضيق، وألقى السيجارة على الأرض وأطفأها بقدمه، مرددًا ساخراً:

“أبويا نفسه مش بيعاملني كده.”

ابتسم موسى بخفة، وحاول تخفيف الجو قائلاً:

“سيبك منه يا موسى.. قلنا اختفيت فين فجأة كده؟”

نظر موسى إلى سامي بجدية، وأجاب:

“مفيش.. كنت بتكلم كلمتين جد مع العريس.”

ضحك حسن بسخرية، وقال:

“عالله تبقى نكدت عليه!”

رد موسى ببراءة مصطنعة:

“كان نفسي.. بس مجاليش قلب.. انتوا عارفيني طيب بقى!”

ضحك الجميع بصوت عالٍ، حتى موسى نفسه الذي توقف فجأة عن الضحك ونظر إلى سامي بجدية:

“صحيح.. أنت مافضلتش مع أهل خطيبتك ليه؟”

أجاب سامي بهدوء:

“مشيوا من شوية”

“مالحقوش يقعدوا يابني.”

“حاولت أنا وأبوك نخليهم يقعدوا شوية، بس هما أصروا يمشوا بدري علشان زحمة الطريق وكده.”

ابتسم الجميع، ورد موسى بتروٍ:

“يلا يوصلوا على خير.”

ثم عاد نظره إلى أصدقائه فوجد محسن هادئًا على غير العادة، فتعجب وسأل:

“ماله ده؟ مكشر كده ليه؟”

تحدث حسين مبتسمًا بسخرية، صوته يفيض باللامبالة:

“عايز يرقص.. من ساعتها عايز يطلع على المسرح ويرقص، وحسن قاله إنه ماينفعش يطلع والعريس مش موجود.”

رد موسى بابتسامة متحكمة بالوضع:

“طب والعريس جه أهو.”

رفع محسن حاجبيه بحماس، وسأل بلهفة:

“يعني أطلع عادي؟”

ابتسم موسى بحزم، واضعًا خطة واضحة:

“لأ.. هنطلع كلنا.. خلونا بس ننادي على بلال والبقية علشان نطلع مع بعض.”

هتف محسن بسرعة، كأن قلبه يسبق كلامه:

“هاروح أجيبهم فورا.”

أومأ موسى برضا، ومضى محسن ليجلب أولاد عمومة موسى، بينما ظل الأخير ينظر إلى سامي بجدية، سائلاً:

“صحيح يا سيمو.. عملت اللي اتفقنا عليه؟”

ابتسم سامي بخفة، مطمئنًا:

“عيب عليك يا صاحبي.. كله تمام.. هتلاقيهم هنا على المعاد.”

أومأ موسى برضا، وهو يبتسم بدهاءٍ:

“حلو أوي.”

سرعان ما عاد محسن، مصطحبًا الشباب الأربعة، فتجمع العشرة جميعًا، واندفعوا نحو المنصة واحدًا تلو الآخر. اقترب كريم من طارق، أمسك بيده بحماس، وجذبه نحوهم، بينما أشار بلال للمسؤول عن الموسيقى لتبديل الأغنية، وكأن الهواء نفسه اهتز مع توقع لحظة الفرح القادمة.

تجمعوا حول طارق، وانطلقت أجسادهم على أنغام الأغنية الشعبية، خطواتهم تتماوج مع الإيقاع، وابتساماتهم الواسعة تعكس سعادة صافية لا تخفى على أحد. الضحكات والمزاح بينهم كانت تتناثر في الهواء، مزيج من حيوية الشباب ونقاء الفرح.

في الجهة الأخرى، اقتربت نورهان برفقة بقية فتيات العائلة من دلال، وبدأن المزاح والقرص اللطيف معها، محققات توازنًا بين مرح الشباب وحيوية البنات.

كل هذا وسط تصفيق الحاضرين، وزغاريط النساء، وصفير بعض الشباب، فتشكلت أجواء الفرح في المكان كما لو أنها تتلألأ بطاقة لا يمكن إنكارها، فرحة تملأ المكان، وتحرك القلوب.

كانت تلك اللحظة التي يختلط فيها الصخب بالحب، والمرح بالمودة، والفرح بالانتماء، لحظة تتخطى حدود الموسيقى والرقص لتصبح ذكرى محفورة في قلوب الجميع، ليلة لا تُنسى من فرحة لم تتكرر ولن تتكرر.

_____________________

مع مرور الوقت خف الصخب شيئًا فشيئًا، وانتهى حفل الزفاف بعد ساعات من الضحك والرقص والتهاني. غادر معظم المدعوين، ولم يتبق سوى العائلة والمقرّبين، الذين كانوا ينتظرون لحظة “زفّة” العروسين إلى بيتهما الجديد.

على المنصّة، تراجعت الفتيات والشباب الذين أحيوا فقرة الرقص الطويلة، تاركين العروسين بمفردهما يستعدان للنزول… غير أن الاستعدادات توقفت فجأة عندما دوّى في الأرجاء صوت طبل عميق تبعه صفير حاد لمزمار شعبي.

التفت الجميع بدهشة نحو المدخل، وإذ بثلاثة رجال يتقدّمون؛ اثنان يقرعان الطبول بإيقاع متلاحق، والثالث ينفخ في مزمار يتراقص صوته في الجو كدعوة صريحة للفرح.

تبادلت العائلة النظرات، وفي عيونهم تساؤل واضح، حتى قطع محمد حيرة الصمت متسائلًا بصوت مرتفع:

“مين اللي طلبهم؟!”

ساد الوجوم بين الأبناء والأحفاد؛ لا أحد يعرف… لكن صوتًا مألوفاً، واثقًا، كسر الصمت:

“سامي يا جدو.”

التفتت الأنظار إلى موسى، الذي أكمل مبتسمًا وهو يشير إلى صديقه الواقف بين الحاضرين:

“سامي هو اللي جابهم.. معرفة قديمة ليه، حب يوجب معايا ويعمل زفة لخالي وعمتي.”

ارتسمت على وجه محمد ابتسامة رضا، ثم أومأ برأسه نحو سامي وقال:

“ماكنش ليه لزوم يا سامي.”

ابتسم سامي بثقة وأجاب بود:

“ماتقولش كده يا حج… دي حاجة بسيطة، اعتبرها هديتي للعروسين.”

ضحك محمد بخفة، وردّ عليه بنبرة ودّ مغطاة بجدية الأب الحنون:

“ومالو؟ هاعتبرها… بس خد بالك، فرحك جاي ومردودالك.”

رفع سامي حاجبيه ممازحًا:

“وقتها تفرج يا حج… دلوقتي خلينا نعيش اللحظة الحلوة دي.”

ابتسم محمد ثانية، ابتسامة تحمل رضا وامتنانًا:

“مظبوط.”

أشار موسى إلى المسؤول عن الدي جي ليوقف الموسيقى الغربية، فخبت أصوات الأجهزة شيئًا فشيئًا، وحلّت محلها تلك الإيقاعات الشرقية الصاخبة.

بدأ العروسان بالنزول، يتوسطهما الفرح، بينما يلتف حولهما الشباب يرقصون بحماس، والنساء يطلقن الزغاريد التي تخترق السقف كصوت فرح صريح.

اقترب العروسان من محمد أولًا… عانق طارق بحرارة، ثم احتضن دلال مطولًا وقبّل جبينها بدموع محبوسة لم تسعفه كبرياؤه في كتمانها تمامًا، وقد بدا في تلك اللحظة وكأنه يودّع أعز ما يملك.

تمالك نفسه سريعًا، ثم وضع يده على كتف طارق وقال بلهجة حازمة يغلفها حنان الأبوة:

“بص يا طارق.. أنا مش بسلمك بنتي بس.. أنا بسلمك حتة من روحي.. يمكن تكون هي روحي كلها، خد بالك منها وحطها جوه عنيك.. وأوعى تزعلها يوم.. مفهوم؟”

تأمل طارق زوجته لحظة، ثم عاد بنظره إلى محمد، وأجاب بصوت واثق لا يخلو من العاطفة:

“دلال في عيني يا حج زي ما كانت طول عمرها في قلبي.. ما تخافش عليها.. دي بقت بنتي قبل ما تبقى مراتي.”

ارتسمت على وجه محمد ابتسامة مطمئنة وهو يردّ بهدوء:

“أنا مش خايف عليها.. ومستحيل أخاف عليها.. لأني مسلمها لراجل هيصونها ويحميها.”

مال طارق على يد محمد ولثمها احترامًا وامتنانًا. وفي تلك الأثناء كانت دلال تودّع إخوتها واحدًا تلو الآخر، وطارق يشاركها الوداع.

وما إن انتهت لحظات العناق الأخيرة حتى توجها إلى سيارتهما، وسط نظرات الجميع التي امتزجت بين دموع الفرح والدعاء لهما بالتوفيق.

تحرك موكب السيارات ببطء في الشارع المضاء، تتقدمه سيارة العروسين، وخلفها الأحبة. أما موسى وأصدقاؤه وأبناء العمومة، فقد ظلوا يسيرون على الأقدام، يرقصون ويغنون على إيقاع الطبول والمزمار، حتى بدا الحي كله وكأنه يرقص معهم في وداع هذه الليلة التي لن تُنسى.

_____________________

انفضّ صخب الليلة الماضية شيئًا فشيئًا، ومع رحيل آخر المهنئين وإغلاق الأبواب، عاد السكون ليغلف المكان.

انسحب العروسان إلى شقتهما المتواضعة، بينما انشغل الآخرون إمّا بالعودة إلى منازلهم منهكين، أو بالبقاء قليلًا لمساعدة العمال على رفع بقايا الاحتفال… وكان موسى من بين هؤلاء، يؤدي مهمته بجدية واضحة تنفيذًا لرغبة والده.

وبينما كانت المدينة تستعد لاستقبال صباح جديد، كانت الشمس تتسلل عبر النوافذ، تبعث دفئها على وجوه المتعبين.

في شقة العروسين، خيّم الهدوء التام، لا يُسمع سوى أنفاسهما المتناغمة في سبات عميق، جسدان أرهقهما الفرح والرقص والأحاديث الطويلة حتى ساعة متأخرة من الليل.

لكن هذا السكون لم يدم طويلًا… فجأة، دوى طرق متتابع على باب الشقة، تبعه رنين جرس حاد اخترق أجواء الهدوء، كصفعة توقظ الحواس عنوة.

تأوه طارق بامتعاض، فتح عينيه ببطء تحت وطأة الضوء المتسلل من الستائر، وتمتم بحدّة، صوته يقطر انزعاجًا:

“مين المتخلف اللي جاي يخبط على عروسين في الوقت ده؟!”

تحركت دلال بجانبه، ترفع رأسها بصعوبة، وعيناها نصف مغمضتين من أثر النوم، وسألت بصوت خافت يثقل عليه النعاس:

“هي الساعة كام دلوقتي أصلاً؟”

مد يده نحو هاتفه الموضوع على الطاولة الجانبية، وحين وقعت عيناه على الشاشة، اتسعت حدقتاه دهشة، قبل أن يخرج صوته بنبرة غير مصدقة:

“تسعة… الساعة تسعة!”

رفعت دلال حاجبيها ببطء، وكأن المعلومة تحتاج لحظة لتستوعبها، فتابع طارق بغضب ساخر:

“في حد ييجي يخبط على عروسين يوم صباحيتهم الساعة تسعة؟!”

هزت كتفيها وهي تتثاءب:

“مش عارفة يا طارق… مين المتخلف اللي ممكن يعمل كده؟”

زفر بضيق وهو يزيح الغطاء عن جسده، ثم قال بعزم:

“هقوم أشوف مين معدوم الذوق ده.”

خطا خارج غرفة النوم بخطوات متثاقلة لكنها غاضبة في الوقت ذاته، حتى وصل إلى باب الشقة.

أمسك المقبض، فتحه دفعة واحدة، ليصطدم بصوت مرح وابتسامة واسعة تحمل استفزازًا مقصودًا:

“صباح الخير يا خالو.”

تشنجت ملامح طارق، وعينيه تتسعان من فرط الدهشة وهو يحدق في القادم وكأنه شبح خرج من كابوسه الشخصي.

ثوانٍ قليلة فقط، قبل أن يفيق من صدمته ويهتف بحدة:

“إنت؟!”

ابتسم موسى ابتسامة واسعة تفيض استفزازًا وهو يخطو بخطوات واثقة داخل الشقة دون استئذان:

“هيكون مين غيري يعني؟”

مر بجوار طارق متجاهلًا نظراته الغاضبة، واتجه مباشرة نحو الأريكة في غرفة المعيشة، جلس عليها براحة تامة وكأنه في بيته.

لحقه طارق وأغلق الباب خلفه بقوة، ثم استدار نحوه متسائلًا بنبرة مزيج بين الغضب والدهشة:

“إنت عارف الساعة كام؟”

أجابه موسى ببرود قاتل:

“تسعة.”

تقدم طارق نحوه خطوة، وكأنه غير مصدق لما يسمعه:

“يعني عارف إنها تسعة الصبح؟”

أومأ موسى مؤكدًا بابتسامة خفيفة لا تخلو من السخرية:

“آه.”

ارتفع صوت طارق قليلًا، حدة نبرته تتضح أكثر:

“وطبعًا عارف إننا لسه عرسان جداد… والنهاردة صباحيتنا؟”

أومأ موسى مجددًا، بنفس البرود:

“آه عارف… ما أنا كنت حاضر فرحكم امبارح.”

رد طارق، وقد بدأ يفقد أعصابه:

“طب محدش قالك إن ماينفعش تزور عروسين في وقت زي ده؟!”

هز موسى رأسه نافيًا، ونبرة صوته لا تزال هادئة كمن يسكب الزيت على النار:

“لا، محدش قالي… تقريبًا نسوا يبلغوني.”

اشتعل طارق تمامًا، واندفعت الكلمات منه بانفعال:

“يبلغوك! في بني آدم عاقل يخبط على عروسين جداد الساعة دي؟! بذمتك؟!”

رفع موسى حاجبًا بابتسامة ساخرة، وجاء رده ليصبغ المشهد بمزيد من الاستفزاز:

“مين قالك إني بني آدم عاقل أصلاً؟”

أجاب طارق، ساخرًا بغضب:

“مظبوط… صح… الخلقة اللي قدامي دي عمرها ما كانت خلقة عاقل… خلقة عيل عبيط مش فاهم حاجة.”

ابتسم موسى ببرود أكثر، وقال:

“اغلط براحتك يا خالو… مسامحك علشان النهاردة صباحيتك بس.”

صاح طارق، صارخًا وقد كاد يختنق من الغيظ:

“هو إنت خليت فيها صباحية يا ابن الـ…!”

قاطعه موسى بسرعة، بصوت حاد لكن ساخر:

“إيه؟! ابن إيه؟! هتشتم أختك؟ ولا هتشتم أخو مراتك؟”

رد طارق، بنبرة حانقة، ممتلئة بالغيظ:

“هشتم نفسي… المفروض أشتم نفسي إني خالك.”

رد موسى، واضعًا قدمًا فوق الأخرى براحة مستفزة:

“اتفضل اشتم نفسك… مش همنعك!”

“نزل رجلك يا قذر!”

زفر موسى بضجر، لكن قبل أن يرد، ظهرت دلال في الغرفة بعد أن بدلت ملابسها، نظرت إليهما، ثم صوبت عينيها مباشرة نحو موسى وقالت بسخرية واضحة:

“كنت حاسة إن البجاحة دي مش هتيجي غير منك.”

رد موسى، ملوحًا بكفه وكأنه يهنئها:

“شاطرة… برافو عليكِ… طلع إحساسك صح.”

شبكت دلال ذراعيها على صدرها، وقالت بحدة:

“طب جيت ليه يا مستفز؟”

“جيت أطمن عليكِ يا عمتي إنتِ وخالو حبيبي… بس كده.”

أشاح طارق بوجهه عنه ووهو يتمتم بصوت مبحوح من شدة الغضب:

“الصبر يا رب!”

أجاب موسى بخبث ظاهر:

“اهدى يا خالو… علشان صحتك.”

التفت طارق نحوه مجددًا، عيناه تكادان تشتعلان:

“حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا بعيد!”

رد موسى، مقلدًا ملامح الاستغراب:

“فيه إيه يا خالو؟! كل ده علشان جاي أطمن عليكم؟!”

“واطمنت؟”

أومأ موسى، بنفس اللامبالاة:

“آه… يعني.”

صاح طارق، صارخًا وهو يشير نحو الباب:

“حلو… يلا برا! ومش عايز أشوف وشك ده غير بعد أسبوعين… شهرين… سنتين… يلا من وشي!”

أشار موسى إلى نفسه بتمثيل حزين، وقال:

“بتطردني يا خالو؟”

أومأ طارق بنفس الإصرار، وقال:

“آه بطردك… يلا بره يا روح خالو!”

تنهد موسى، ونهض ببطء متعمد وكأنه يريد إطالة عذابهما، ثم قال بلا مبالاة:

“كده كده كنت ماشي.”

علقت دلال بنبرة غيظ صريح:

“كنت جاي تغلس مش كده؟”

ابتسم موسى وقال ملوحًا لها بإعجاب ساخر:

“برافو… تاني مرة.”

نظر إلى طارق، ثم ألقى كلماته الأخيرة كمسمار في نعش أعصابه:

“شايف مراتك؟ عرفاني أكتر منك.”

“اطلع بره يا ض!”

رد موسى وهو يسير نحو الباب:

“هطلع يا خالو هطلع… بس بمزاجي… فاهم؟ بمزاجي! أصل لو ماكنش بمزاجي… كنت هقعد… ومحدش كان هيقدر يمنعني… أظن فهمت قصدي كويس؟”

تجمد طارق للحظة، وقد فهم المعنى الخفي وراء كلماته، فاشتعلت ملامحه غضبًا، بينما اكتفى موسى بابتسامة باردة قبل أن يفتح الباب ويغادر، مرددًا بصوت مسموع قبل أن يختفي:

“صباحية مباركة!”

ظل طارق واقفًا مكانه، ينظر إلى الباب المغلق بغليان، قبل أن يلتفت إلى دلال ويقول بصدق مطلق:

“إنتِ كنتِ مستحملة البني آدم ده خمسة وعشرين سنة إزاي؟!”

ابتسمت دلال بهدوء، وقالت ببساطة:

“إرادة ربنا.”

جلس طارق على الأريكة منهكًا، واضعًا يده على رأسه:

“أنا قربت أتشل منه.”

اقتربت دلال منه وجلست بجواره، أمسكت ذراعه برفق وقالت بحنان:

“معلش… هتتعود عليه مع الوقت… لازم تتعود… وإلا مش هتعرف تعيش وسطنا.”

رمقها طارق بعينين متعبتين قبل أن يهمس:

“يارب… وإلا مش هعمر في الدنيا كده… ربنا يهديه قبل ما يجيب أجل حد فينا.”

ضحكت دلال بخفة وهي تهمس محاولة كتم ضحكتها:

“آمين.”

_____________________

مع مرور الوقت….

استيقظ من نومه بعد أن غلبه النعاس قليلًا عقب عودته من بيت خاله وعمته. فتح عينيه بتثاقل، ثم نهض متكاسلًا من سريره، وسحب خطواته بتباطؤ نحو المطبخ… وهناك، فتح باب الثلاجة وأمسك بزجاجة الماء البارد، رفعها إلى فمه وشرب جرعات طويلة كأنها تروي عطشًا متراكمًا، ثم أعادها إلى مكانها وهو يمسح فمه بظهر يده.

أخذت عيناه تتفحصان رفوف الثلاجة بتمعن، يتنقلان بين العلب والصحون المغطاة، وكأنه يبحث عن شيء محدد، لكن سرعان ما عبس ملامحه وأغلق الباب بقوة خفيفة، وتمتم بنبرة ممتلئة بالحنق:

“هو مفيش فطار النهاردة ولا إيه؟”

خطا خارج المطبخ، وصوته يعلو في أرجاء الشقة الخالية إلا منه:

“ياست الكل!.. يا عبير!.. يا أم موسى!.. يا مرات داود!.. طيب يا حجة حتى!”

انتظر لحظة، لم يجبه أحد، فرفع حاجبيه متسائلًا بامتعاض:

“هي راحت فين دي؟”

وأتته أجابه مباشرة، إذ سُمع صوت مفتاح يدور في قفل الباب، ليفتح بعده باب الشقة، وتدخل والدته حاملة بيديها عدة أكياس بلاستيكية ثقيلة.

كانت ملامح وجهها متعبة، وعيناها توحيان بليلة لم تنمها كاملة، وضعت الأكياس على المنضدة في منتصف الغرفة، ثم قالت له بحدة امتزجت بشيء من السخرية:

“لسه فاكر تصحي؟!”

أدار رأسه نحوها باستنكار:

“أنتِ كنتِ فين؟.. وجايبة الحاجات دي منين؟”

ردت دون أن تنظر إليه وهي تفرغ بعض الأغراض من الكيس الأول:

“دي طلبات البيت.. نزلت أجيبهم قبل ما الشمس تولع فينا، عارفة محدش في البيت ده هيتحرك يعمل حاجة غيري.”

تقدم خطوة نحوها قائلًا بلهجة توحي وكأنه يحاول الدفاع عن نفسه:

“كنتِ قوليلي، وكنت هنزل أجيبهم أنا!”

توقفت عن إخراج المشتريات، التفتت إليه بعينين ثابتتين ونبرة حادة وجادة:

“كنت هتدفع تمنهم؟”

سكت هو، وأخذ يدير بصره في أرجاء الغرفة كمن يبحث عن مهرب من نظرتها، بينما يده تفرك رقبته في حركة عصبية واضحة.

ابتسمت هي بسخرية خافتة قبل أن تردف بواقعية جافة:

“طبعًا لا.. محلتكش غير القرشين اللي بيطلعلوك من السايبر… ودول ما يقضوش عيل في يومين.”

زفر بضيق، وألقى عليها نظرة متثاقلة قبل أن يقول ببرود، محاولًا تجاهل كل ما قالته:

“أنا عايز أفطر.. في فالأكياس دي فطار ليا؟”

رفعت رأسها نحوه بسرعة، وقالت بصرامة وشيء من الاستهزاء:

“لا.. وحتي لو في، ما تستاهلهوش.”

زفر موسى بضيق مجددًا، وكأن أنفاسه تتثاقل في صدره، ثم قال بنبرة ممتزجة بالضجر واللامبالاة:

“أنا عايز أفهم… إيه اللي معصبك علي الصبح كده؟ ومخليكي مش طيقاني؟”

جاءه الرد كصفعة، حادًا، ينفجر من بين شفتي أمه كحمم بركان مكبوت:

“أنت… أنت اللي معصبني ومضايقني يا موسى! حالك ووضعك اللي يغيظ… ده طبيعي على أي أم في مكاني! ابنها قاعد في البيت من غير شغلة ولا مشغلة… عندك بدل الفرصة عشرة، لكن رافض تشتغل! مش حاسس بأي مسؤولية، مش فارق معاك غير الأكل والشرب والنوم! ناسي إنك في سن الجواز؟! اللي زيك دلوقتي مأسس بيت، شايل مسؤولية عيلة، سواء أهله أو مراته!… أما حضرتك؟ طول النهار يا نايم… يا في المحروق السايبر! إمتى بقى هتحس على دمك؟ إمتى هتنزل تشتغل وتسعى وتجيب القرش؟ قولّي… إمتى؟!”

أبعد موسى نظراته عنها، وكأن كلماتها تتساقط على أذنيه بلا أثر، بينما الضجر يتصاعد في ملامحه.

وفي تلك اللحظة، دلف داود إلى الشقة، وعلى وجهه عبوس مشوب بالحنق:

“مالك يا عبير؟ صوتك طالع ليه؟”

رمقته بنظرة مشحونة بالخذلان قبل أن تردّ بنبرة أخف حدّة لكنها لا تخلو من الألم:

“هيكون طالع ليه؟! في غيره ابنك؟”

اقترب داود بخطوات متثاقلة، يسأل بنبرة ساخرة أكثر منها مستفهمة:

“عمل إيه الأستاذ المرة دي؟”

ردّت عبير، وقد بدت كلماتها أثقل من أن تُقال:

“ما عملش… بس أنا ماعدتش قادرة أتحمل قعدته كده يا داود… نزلت عند مرات أخوك أحمد قبل ما أروح السوق، لقيت بلال جايب لها طلبات البيت كلها، من الألف للياء… ومن غير حتى ما تطلب منه! رغم إنه عايش في منطقة وهي في منطقة تانية…”

سحب داود كرسيًا وجلس متكئًا عليه، ثم قال ببرود يائس:

“طب بلال متربي… أما الأستاذ ده؟ ماشمّهاش.. ملوش أي قيمة في الحياة… آخره ياكل ويشرب وينام وينزل يقعد مع صحابه وبس… أما يشتغل زي باقي الخلق؟ لأ… بيخاف يشتغل ليموت ولا حاجة!”

شهقت عبير بوجعٍ مكتوم، ثم قالت وهي تضع يدها على جبينها كأنها تستند على ما تبقى من صبرها:

“أنا تعبت يا داود… والله تعبت… كل ما أبص لوضعه أتحسر على تربيتنا ليه… كل ما أشوف ولاد عمه واللي وصلوا له… قلبي يوجعني أكتر من استهتاره… مش فاهمة إزاي مش غيران منهم؟! ولو حتى ذرة غيرة؟!… معندوش إحساس… ما بيحسش إني عايزاه يبقى زيهم أو أحسن منهم! بس… عاجبه حاله ده…”

رد داود ساخرًا وهو يشير بيده تجاه موسى:

“اسأليه… عندك أهو… ياما اتكلمنا وصرخنا لحد ما صوتنا راح… مفيش فايدة! فرحان بقعدته… تقريبا مستني يتجوز واحدة تصرف عليه زي ما أنا بصرف عليه!”

تنهدت عبير تنهيدة خذلان طويلة، نظرت بعدها إلى ابنها نظرة تحمل خليطًا من الأسى والخذلان، بينما بادلها موسى نظرة باردة، كمن يقف في الضفة الأخرى تمامًا، ثم قال بسخرية لاذعة:

“خلصتوا الفقرة اليومية؟ هتأكلوني بقى ولا إيه؟”

صفقت عبير بكفيها معبرة عن يأسها، ورددت بمرارة:

“عليه العوض ومنه العوض في تربيتي…”

تجمّد الغضب على ملامح داود وهو يحدّق في ابنه بغضب مكتوم قبل أن ينفجر بحدة:

“روح منك لله يا بعيد على حرقة الدم دي!”

عاد موسى يرمقهما بنظرة باردة لا حياة فيها، ثم قال بنفس البرود القاتل:

“يعني مش هتأكلوني… تمام.”

نهض متجهًا إلى غرفته، وبعد ثوانٍ خرج مرتديًا قبعته المعهودة، متوجهًا نحو الباب، فسأله والده بنبرة فيها مزيج من السخرية والشك:

“رايح فين؟”

“رايح أفطر… عن إذنكم.”

قالها ببرودٍ متعمد، ثم أغلق الباب خلفه دون أن يلتفت، فيما ظلت عبير تحدق في الباب المغلق، قبل أن تقول بحسرة تخنقها العبرة:

“مش نافع غير إنه يلبسلي الطاقية دي وينزل…”

سحبت كرسيًا وجلست أمام زوجها كمن أُنهك تمامًا، مرددة بصوت خافت يائس:

“عليه العوض يا رب…”

_____________________

ترجل موسى على الدرج بخطوات ثابتة، تحمل في طياتها شيئًا من الاعتياد، كمن يعرف وجهته جيدًا ويقصدها بلا تردد. وحين بلغ باب شقة الجد، رفع يده وطرق الباب طرقات متتابعة، لم تكد تهدأ أصداؤها حتى انفتح الباب على وجه صغير مشرق.

“موسى!”

صاح زياد بفرحة صافية، بعينيه اللامعتين كأنما وجد كنزًا، بينما أخفض موسى رأسه قليلًا، وطالع الصغير بنظرة حانية، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة صادقة:

“الله، إنت هنا!”

هز زياد رأسه بحماس:

“آه.. وماما وبابا وأختي.. وعمو فادي ومراته.. ومازن.”

رفع موسى حاجبيه بدهشة مصطنعة وهو يردد:

“كله دول هنا!”

ضحك زياد وأومأ بالإيجاب، فمد موسى يده وحمله بخفة على كتفه، ودلف إلى الداخل كأنه في بيته، أو ربما أكثر من ذلك.

في الصالة، كان محمد يجلس بوقار تحيط به دائرة من أبنائه وأحفاده؛ عماه أحمد ومصطفى، أولاد عمومته بلال وفادي مع زوجاتهم وأولادهم… كان المكان يعج بدفء العائلة، وصوت الأحاديث المتقاطعة وضحكات خافتة تملأ الجو.

“السلام عليكم”

قالها موسى بصوت جهوري، فردوا جميعًا التحية بابتسامات مرحبة، ثم انحنى هو قليلًا وأنزل زياد الذي ركض فورًا نحو والده، بينما اتجهت عينا موسى نحو جده، وقال بعفوية لا تخلو من الصراحة:

“أنا جعان يا جدي.. عندك حاجة تتاكل؟”

التفت إليه محمد، وقال ساخرًا بسرعة:

“يعني نازل من شقتكم مخصوص علشان عايز تاكل؟”

رد موسى ببرود ساخر مماثل:

“أومال هنزل ليه يعني يا جدي؟”

ابتسم محمد بخفة، مشيرًا نحو المطبخ:

“صح! هتنزل ليه يعني؟!.. ادخل يا موسى، كل اللي يعجبك من التلاجة.”

أومأ موسى ممتنًا، وابتسم:

“حلو.. عن إذنكم يا جماعة.”

وقبل أن يتحرك، جاءه صوت زياد من جديد، حماسيًا كعادته:

“استنى يا موسى.. أنا عايز أجي معاك!”

التفت موسى إليه مبتسمًا وقال بمودة ممزوجة بالمشاكسة:

“تعالى يا زيزو.. تعالى نخلص على أكل جدو اللي في التلاجة.”

أمسك بيد الصغير، وسارا معًا نحو المطبخ، فيما تعالت خلفهما ضحكات خافتة من البقية الذين تبادلوا النظرات وكأن المشهد بأكمله صار تقليدًا ليس غريباً لديهم.

_________________

بعد دقائق…

كان الجو يعج بالأحاديث المتفرقة، ضحكات خافتة تتخللها نبرات جدية بين الحين والآخر.. بينما في المطبخ، ظل موسى برفقة زياد، منشغل بتذوق كل ما تقع عليه يده.

في الصالة، مال محمد نحو بلال قائلاً:

“صح يا بلال!.. مظبوط، حصلت مشكلة في الكمبيوتر بتاع الـDJ امبارح.”

رفع بلال رأسه من انشغاله بحديث جانبي مع أحدهم، وأجاب جده بنبرة مطمئنة:

“آه يا جدي… بس الحمد لله اتحلت، واحد ابن حلال كان معدّي وعرف يصلحها.”

سأل محمد بفضول مشوب بالامتنان:

“معرفتش مين هو؟”

هز بلال رأسه نافياً:

“لا والله يا جدي… سألت الراجل واللي معاه، قالولي ميعرفهوش.”

أومأ محمد بإيجاب، بينما تدخل أحمد قائلاً:

“المهم الحمد لله إن الشاب ده كان موجود وقتها… لو المشكلة طولت، كان ممكن تعطل الفرح كله.”

أيده مصطفى وهو يعقد ذراعيه:

“مظبوط، الأجهزة دي رغم إنها مهمة ومفيدة، بس ساعات تبقى سبب في صداع ما لوش آخر… خصوصاً لما تختار توقيت مش مناسب.”

ضحك فادي بخفة مؤيداً:

“ده حصل معايا يا عمي والله، اللابتوب بتاعي عمل فيا حركة قذرة أول امبارح.”

التفتت الأنظار نحوه، فسأله أحمد:

“حصل إيه؟”

تنفس فادي بعمق قبل أن يجيب، وكأنه يستعيد الإحباط نفسه:

“كنت شغال على تصميم لعميل بقاله أيام، كل التفاصيل متعبة ومتقنة… وفجأة اللابتوب فصل لوحده… ولما فتحته تاني، كل حاجة كانت اتمسحت.. دلوقتي مضطر أعيد الشغل كله من الأول، وما فيش قدامي غير يومين على التسليم.”

رمقه بلال بتفهم، ثم قال:

“جربت توديه لحد شاطر يشوفه؟”

“نفسي والله يا بلال، بس ماعرفش حد أقدر أثق فيه.”

وقبل أن يرد أحد، قاطعهم صوت موسى من خلفهم، قادم بخطوات ثابتة من المطبخ، يحمل في يده طبقاً من الشطائر:

“أنا أعرف.”

التفتوا جميعاً إليه في آن واحد، وكأن تدخله جاء في اللحظة الحاسمة، بينما تقدم هو ووضع الطبق على الطاولة، ثم تابع بهدوء الواثق:

“أعرف حد موثوق… ممكن يرجعلك كل اللي اتمسح بسهولة.”

عادت الحياة إلى وجه فادي المرهق، وقال:

“بجد؟!”

أومأ موسى بثقة، وهو يجيب بهدوء:

“آه. صاحبي وشاطر جداً في الحاجات دي… هاته وأنا أوصلهوله دلوقتي.”

“تبقى عملت معايا جميل ما يتنساش.”

“ما تقولش كده… أنا مجرد وسيط، المهم هو معاك دلوقتي؟”

مدّ فادي يده إلى الحقيبة السوداء بجانبه، وأخرج منها الحاسوب وهو يقول بامتنان:

“آه، أهو… بس بالله ما يتأخرش عنده.”

أخذ موسى الجهاز منه بابتسامة هادئة وهو يرد:

“اطمّن… قبل أذان العصر هيكون عندك، وبعدين… أنا ضامن صاحبي ده برقبتي.”

تبادل فادي معه نظرة ثقة صافية، ثم قال:

“طالما كده… يبقى أمان.”

“تمام يا مان… عن إذنكم.”

_____________________

وصل موسى إلى السايبر متجاوزًا واجهته الزجاجية المتسخة قليلًا، دَفَع الباب المعدني فصدر صرير خافت، ودلف إلى الداخل حيث وصله صوت المراوح الصغيرة ممتزج بضحكات مكتومة من خلف الغرفة التي اعتاد أن يجتمع فيها أصدقاؤه الخمسة.

وقف للحظة أمام باب الغرفة قبل أن يدفعه برفق، فوقع بصره عليهم جالسين في أنحاء الغرفة، كلٌّ في وضعه المعتاد: سامي يتبادل الحديث مع حسن، بينما كارم يستند للخلف على الكرسي بإهمال، وحسين مستلقي على الاريكة يشاهد أفضل الأحلام، ومحسن يعبث في الحاسوب على الطاولة.

قال بصوت منخفض لكنه مسموع:

“سلام عليكم.”

رفعوا رؤوسهم نحوه في آنٍ واحد، وردوا التحية، لكن أعينهم سرعان ما استقرت على الحاسوب المحمول في يده.

تبادلت نظرات سريعة بينهم، لتظهر على وجوههم ابتسامة جانبية متشابهة، قبل أن يعلق كارم بصوته المتهكم المحبب:

“إيه ده.. مصلحة جديدة؟”

أجاب موسى بابتسامة مقتضبة:

“يعني.. حاجة زي كده.”

هز كارم رأسه بتفهم، ثم قال ببساطة:

“تمام.”

لم يلبث سامي أن تدخل وهو ينهض قليلًا عن كرسيه:

“طب يلا ادخل.. وإحنا هنظبط المكان هنا.”

أومأ موسى، وهو يكتفي بكلمة قصيرة:

“تمام.”

تحرك بخطوات واثقة نحو الجدار الأيمن للغرفة، عيناه مثبتتان على ملصق كبير مُعلق على الحائط… ملصق قديم لفريق موسيقي لم يعد أحد يستمع إليه، لكنه لم يكن هناك عبثًا.

مد يده وسحب أطرافه بحركة حاسمة، فانكشف خلفه باب حديدي خفي، بارد الملمس. التفت سريعًا نحو البقية، لمح في أعينهم لمعة يعرفها جيدًا، ثم أعاد بصره إلى الباب، وأداره بمفتاح صغير كان بحوزته، فصدر صوت انفتاحه المعدني في الغرفة الصامتة.

دلف إلى الداخل، وأغلق الباب خلفه، ضغط على مفتاح الإضاءة، فانسكب نور أصفر باهت على المكان ليكشف عن غرفة متوسطة الحجم لكنها مرتبة بدقة… مكتب خشبي كبير يحتل منتصفها، فوقه ثلاثة أجهزة إلكترونية تتنفس بضوءها الأزرق، وخلفه شاشة ضخمة مثبتة على الحائط. .

وعلى الجدران الأخرى عُلقت ملصقات متنوعة؛ رموز، خرائط، مقاطع من شيفرات مطبوعة، لكن أبرز ما يجذب النظر هو لوح خشبي داكن اللون حُفرت عليه أحرف كبيرة واضحة: (MF).

اقترب موسى بخطوات هادئة من المكتب، جلس على الكرسي الدوّار أمامه، وضع الحاسوب المحمول بجانبه، وبدأ بتشغيل الأجهزة واحدًا تلو الآخر.

مد يده إلى حاسوب فادي الصغير، ضغط زر التشغيل، وتركه بجانب بقية الأجهزة، ثم ظل لثوانٍ يتأمل الأضواء المتوهجة، قبل أن تميل شفتاه إلى ابتسامة جانبية باردة، ويهمس لنفسه بصوت منخفض، كمن يعلن بداية معركة سرية:

“جت اللحظة اللي بحبها… جت لحظة… MF.”

ثم وضع أصابعه على لوحة المفاتيح بثبات، وكأنها امتداد طبيعي ليده، وبدأت الأصوات الميكانيكية للنقر تتعالى، معلنة عن تحوّله من موسى… إلى ذلك الاسم الذي يعرفه كثيرون ولا يعرف أحد صاحبه حقًا:

MF

.

_____________________

كتابة/أمل بشر.

آرائكم؟

توقعاتكم؟

دمتم بخير.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق