رواية فوق جبال الهوان – الفصل الحادي والخمسون
الفصل الحادي والخمسون
الفصل الحادي والخمسون
عنصر المفاجأة ساهم كثيرًا في تحقيق الأفضلية لجماعته، فتمكن بمساعدتهم المهولة من الفرار من أسوار السجن الذي يحتجزه، وهرول ركضًا تجاه إحدى سيارات الدفع الرباعي، ليقفز “عباس” داخلها، ويطرق بيدها على بابها المعدني صائحًا بصوته الأجش:
-يالا يا رجالة من هنا، عملتوا الواجب وزيادة.
اتسعت ابتسامته اللئيمة على الأخير، حيث علم أن سيده قد نجح هو الآخر في الهروب من المشفى الذي يشتعل الآن بمن لا يزال متواجدًا فيه، لذا ازداد شعوره بالانتشاء والفرحة، فمثل تلك الأمور الجنونية والخارجة عن القانون تحفزه كثيرًا، وتبث طاقة هائلة من الأدرينالين في عروقه.
انطلقت سيارته تشق طريقها بعيدًا عن السجن العمومي، فمن المفترض أن يلتقي بـ “زهير” في مكان سبق الاتفاق عليه بعدما تهدأ الأوضــاع قليلًا.
……………………………………
بمجرد أن أصبح بالخارج اصطحبه حفنة من رجاله الأوفياء داخل حافلة صغيرة بيضاء اللون، تلك المخصصة للرحلات العائلية لئلا يثيروا الشبهات. مضى “زهير” في طريقه بعدما بدل ثيابه وتخلص من كل ما له علاقة بالسجن، ليستدير السائق بوجهه ناحيته متسائلًا:
-على المكان إياه يا ريسنا؟
أومأ برأسه إيجابًا وقد التمعت عيناه بهذا الوهج المخيف:
-أيوه.
وجهته النهائية لم تكن معلومة سوى لعددٍ محدودٍ للغاية من رجاله، لمنع تسريب أخباره لرجال الشرطة، ومعرفة مكان تواجده فيتم إلقاء القبض عليه، وتبوء كل مجهوداته بالفشل الذريع ويتورط أكثر في قضايا أخرى تدينه بشكل حاسم.
وفقًا لتفكيره الجهنمي، وقع اختيار “زهير” على منزل “فهيم” المغلق للاختباء به، فهو البقعة المثالية للتواري عن الأنظار، وفي نفس الوقت تمكنه من التحرك بحرية حسبما يريد.
تهيأ المكان قبل مجيئه للإقامة فيه، وتم تغطية كافة النوافذ بالستائر الداكنة لحجب الضوء، وكذلك عزل من يتواجد بالداخل عن أعين المتلصصين، ورغم ذلك لم يهتم السكان بمن ينتقل للعيش ومن يغادر، فيكفيهم ما عايشوه من مواقف وأحداث دامية جعلت السُكنى في هذه المنطقة غير هينة، ومؤرقة للمضاجع.
ترجل “زهير” من الحافلة الصغيرة وقد تلفح بوشاحٍ أخفى معظم ملامح وجهه، وولج إلى مدخل العمارة صاعدًا الدرج بخطواتٍ شبه سريعة، ليمر على بيت “إعتدال” فحانت منه نظرة جانبية خاطفة، متذكرًا كيف أنهى حياتها بدفعها من الشرفة دون أن يرأف بها، لم يبدُ نادمًا على ما اقترف، وواصل صعوده للأعلى حتى بلغ الطابق المنشود.
لحظتها بقي في موضع وقوفه متسمرًا للحظاتٍ، مستعيدًا لمحاتٍ خاطفة من الماضي قبل أن يخرج المفتاح من جيبه ويدسه في قفله. حينما انفتح الباب هبت عليه كتلة من الهواء المكتوم، فتنفسها بعمقٍ آملًا أن يكون البيت لا يزال محتفظًا ببقايا رائحة من يتحـرَّق لاستعادتها.
وطأت قدماه الصالة، وبحث بيده عن مفتاح الإنارة ليضيء المكان قبل أن يغلق الباب ورائه. راح يلقي بعدها نظرة متأنية على تفاصيله، لم يتغير أي شيءٍ منذ أن كان هنا آخر مرةٍ قبل أن يتلقى ذاك الخبر المشؤوم عن شقيقه، سرعان ما هاجت دمائه تأثرًا بالذكرى غير السارة، فقاوم تأثيرها بصعوبةٍ ومشى متجهًا نحو غرفة “دليلة”، وكيف لها ألا يعرف مكانها وقد حملها بين ذراعيه إليها سابقًا؟
دفع الباب الموارب بيده، وأضاء الغرفة، ليتطلع ببطءٍ إلى محتوياتها، كانت متعلقاتها الشخصية متروكة كما هي، فحينما رحلت فجأة تركت كل شيء يخصها خلفها، اقترب من فراشها، وانحنى قليلًا ليتلمس طرفه، فازدادت اللوعة في قلبه، اعتدل في وقفته، وسار صوب الدولاب، ومد يده ليمسك بالضلفة وفتحها، حيث وجد ثيابًا نسائية معلقة، مرر أصابعه عليها بتمهلٍ، وقرب تلك البلوزة التي رآها بها أول مرة من أنفه ليستنشقها، أغمض عينيه لهنيهةٍ محاولًا تذكر ملامح وجهها، مما استحث بشدة رغبته في استعادتها، وكأن في نيلها مكسبًا عظيمًا يعوض به ما تكبده من خسائر مادية، ومعنوية، وبشرية.
أغلق بعدها الضلفة والتفت ناظرًا إلى الحائط، فوقعت عيناه على صورة لها مع عائلتها، من فوره اندفع تجاهها، وانتزعها من المسمار المعلقة عليه، ليحتضنها بين يديه وهو يحدق فيها مليًا. رفع “زهير” إصبعه للأعلى، وتلمس به وجهها الضاحك، لتصير ملامحها واجمة كليًا.
اشتدت قبضته على الإطار الخشبي، وكذلك فكه السفلي، وأخذ يهسهس متوعدًا:
-هقضي على كل حد حرمني منك.
أصبحت تعابيره مرعبة للغاية، وأيضًا نظراته وهو يتم كلامه:
-مش هتكوني غير معايا أنا وبس!
ثم ألقى بالصورة أرضًا في عنفٍ، لينكسر إطارها الخشبي، ويتهشم زجاجها وتتناثر أجزائه في شكلٍ فوضوي. انحنى نافضًا القطع الزجاجية عن صورتها، والتقطها بين أصابعه معاودًا التحديق فيها بنظرة مطولة أكثر إرعابًا، ليتحرك بعدها نحو فراشها ملقيًا بجسده المرهق عليه، رفع الصورة نصب عينيه قبل أن يطبق على جفنيه، وكله عزم وإرادة على إعادتها إليه مهما تكلف الأمر، وكأنه شاغله الوحيد والأهم.
………………………………..
لم يكن من عادته الإسهاب مع أحد رفاقه في أي شأن يخصه، وتحديدًا تلك المرتبطة بمصيره ومستقبله المهني، إلا أن تحذير رفيقه الصريح بخصوص زواجه من ابنة رجل الأعمال المعروف كان كناقوس الخطر بالنسبة له، خاصة وهو لم يكشف عن حقيقة نواياه الفعلية والمتعلقة بمحاولته لاستنزاف “مدحت” ماديًا، واستغلاله بكل الطرق للاستفادة منه وليس العكس مثلما يتوهم الجميع، فهو لديه من الأوراق والأدلة القانونية ما يزج به في السجن لأعوامٍ ويدفعه لإشهار إفلاسه، ورغم هذا تعمد إخفاء ما لديه من معلومات من أجل مصلحته الشخصية فقط.
استمر رفيقه ينذره بغير ممازحة:
-إنت حبيبي، وأنا مقدرش أشوفك بتتورط في حاجة مش مضمونة، ومانصحكش.
رد عليه “راغب” في نبرة واثقة:
-متقلقش عليا، أنا عارف بعمل إيه كويس.
أصر على نصحه للنهاية:
-ده راجل مش سهل، خد بالك منه.
ليخبره مؤكدًا في سمةٍ من الغرور:
-وأنا جايبها من تحت خالص.
وانتقل بعدها للحديث في مواضيع أخرى ليلهيه عن أمره.
في تلك الأثناء، كانت “نجاح” في طريقها من غرفة نومها إلى المطبخ، عندما رأت ابنها جالسًا بغرفة المعيشة يتحدث في الهاتف، تعجبت من بقائه يقظًا حتى تلك الساعة المتأخرة من الليل، خاصة مع سفره في الغد لحضور فعاليات تدريب جديد يخص المدراء. ظنت في البداية أنه يتبادل أحاديث غرامية مع خطيبته؛ لكن حينما استرقت السمع للمكالمة، حثها فضولها على معرفة التفاصيل.
انتظرت بصبر انتهاء المكالمة لتسأله:
-في إيه يا “راغب”؟ حصلت مشكلة ولا حاجة؟
حاول المراوغة والهروب من إجابتها، فقال بغير مبالاة، رغم أن تعبيرات وجهه وشت بالعكس:
-متحطيش في بالك.
سألته مباشرة بناءً على ما سمعته:
-الحوار يخص جوازك؟
قال في اقتضابٍ وهو يلوي ثغره:
-يعني.
جلست إلى جواره على الأريكة، وألحت عليه بتصميمٍ لتسبر أغواره:
-صارحني، أنا أمك وأكتر حد عايز مصلحتك.
استسلم أمام إصرارها، وباح لها بامتعاضٍ منزعج:
-في كلام داير عن حمايا إنه بيورط اللي معاه، ويسهله شغله، وبعد كده يزبله ويرميه.
في التو لاحقته بسؤالها المستريب:
-إنت خايف ليعمل معاك كده؟ ولا مش عايز تكمل الجوازة؟
أتاها جوابه جادًا:
-بالعكس أنا عجباني “فادية”، وعاوز أتجوزها، البت حكاية وحاجة مالهاش زي، وعلشان أضمن ده يحصل فأنا مش هخلصله أي مصلحة إلا لما أضمن إنها بقت مراتي.
استحسنت طريقة تفكيره الماكرة، وأثنت عليه بابتسامة راضية:
-برافو عليك، خليك ناصح كده زي أمك، محدش يستكردك.
اكتفى بهز رأسه، فمدت يدها وربتت على كتفه قائلة باهتمامٍ أمومي:
-قوم نام وارتاح، إنت لسه وراك مشوار سفر وهدة حيل.
همَّ بالنهوض مرددًا في طاعة:
-حاضر يا ماما.
تبعته هي الأخرى قائلة محافظة على ابتسامتها الصغيرة:
-يحضرلك الخير يا حبيبي.
ثم رانت إليه بنظرة متابعة إلى أن ولج إلى داخل غرفته وأغلق الباب من ورائه، فما زالت خواطره تحيره حول الدوافع الخفية وراء زيجته تلك.
………………………………….
أُثير ذعرها عندما وجدت الدمــاء تنزّ بغزارة من ظهره، وهي عاجزة عن إيقافها، صرخت “دليلة” منادية باسمه لأكثر من مرة، إلا أن “غيث” لم يستجب لها، فانقبض قلبها بقوةٍ، وارتاعت من فكرة أن يكون فارق الحياة، حاولت رفع ثقل جسده إلى صدرها، وصاحت في صوتٍ أعلى مستنجدة:
-إلحقوني يا جماعة، ضربوا نـــار على “غيث”.
خوفها الحقيقي النابع من داخلها عليه، دفعها لاستجماع رباطة جأشها، والذهاب فورًا لإحضار المساعدة، فأسندته بحذرٍ على الأرضية الباردة، وانتفضت تركض تجاه باب السطح، لتهبط إلى الأسفل، ويداها ملطختان بذلك اللون القـــاني، سبقها صوتها المستغيث للأسفل:
-ضربــوا نـــار على “غيث”، الحقونا يا نــاس.
كانت “فاطمة” أول من انتبهت إلى صياحها المفزع، فذعرت كليًا، وقذف قلبها في رعبٍ وهي تردد بهلعٍ قبل أن تسابق الزمن لتصعد إليه:
-ولدي.
ليلحق بها “سليمان”، وأبيه الذي لم يكف لسانه عن ترديد الذكر، وكذلك بقية من في القصر من الخدم والخفراء، فيما تخشبت “دليلة” في مكانها تستعيد في ذاكرتها تلك المشاهد المؤسفة المتعلقة بكل من يصبح على صلة وثيقة بها. هرعت أيضًا والدتها إليها تسألها في توجسٍ:
-في إيه يا “دليلة”؟
تقطعت أنفاسها، ولهثت بصعوبةٍ وهي تحاول إخبارها بما جرى:
-قــتلـــوه يا ماما، قـــتلوه!
تجسدت أمارات الخوف على تقاسيم وجه “عيشة”، وسألتها مستفهمة وهي بالكاد تحاول تماسك أعصابها:
-مين ده يا بنتي؟
انهمرت الدموع بغزارة من طرفيها وهي تجيبها بصوتٍ مرتعش:
-“غـ..غيث”!
ما إن سمعت اسمه حتى دقت على صدرها بقوة ورددت في ذهولٍ مشوبٍ بالارتياع:
-يا مصيبتي!
………………………………………
متسترًا بظلمات الليل الحالكة، تمكن ذلك الملثم من المرور بين أعواد القصب المزروعة حتى وصل إلى أطراف البلدة، خفض من لثامه ليلتقط أنفاسه، وتلفت حوله يمينًا ويسارًا باحثًا عن آخر ينتظره هناك، حتى يفر قبل أن يتم الإمساك به بعدما أصاب هدفه، ونـــال من ذلك الذي تعاون مع الداخلية، وشتت جمع عُصبة المطاردين وفرق شملهم وجعلهم ما بين قــــتيل، وسجين.
اقترب منه زميله متسائلًا في لهجة مستفهمة، وعيناه تنطقان بالشـــر:
-جبت أجله؟
جاء رده مترددًا:
-مخابرش عاد.
ليستشيط الأخير غضبًا وهو يمسك به من تلابيبه متسائلًا في انفعالٍ رغم انخفاض نبرته:
-يعني جتلته ولا لع؟
أوضح له وهو يزيح يده عن ياقة جلبابه:
-أني طخيته، والعيار صابه، وسمعت حريمه بيولولوا عليه.
دمدم في حقدٍ وحنق:
-إن شاءالله نسمع خبره جريب.
فيما تحدث الأول محذرًا:
-بينا جبل ما الحكومة تطب علينا، كلها دجايق وياجوا إهنه.
اعترض عليه بمزيدٍ من الشـــر الذي يعم نفسه المريضة، وقد انتزع غطاء وعاء ما بلاستيكي يحمله في يده:
-مش جبل ما أولع في أم البلد دي، هو جَتــل كبيرنا بالساهل إكده عاد؟
وراح يسكب مادة الكيروسين على الحقول المزروعة، ليشعل عود الثقاب ويلقيه على الأرض، فأضرمت النيران في تلك البقعة، وارتفعت ألسنتها الجائعة عنان السماء، وما هي إلا ثوانٍ معدودة وأخذت تنتشر بسرعة البرق لتلتهم ما حولها بشراهةٍ كبيرة، ليركض الاثنان بعدها نحو الطريق الجبلي الوعر للاحتماء هناك.
…………………………………….
وصلته الأنباء السيئة بمحاولة اغتيــــال “غيث”، ونقله بشكلٍ فوري وعاجل إلى المشفى العام بمركز المدينة لإنقاذ حياته، فهرع “راشد” إلى تبديل ثيابه على الفور، للحاق بشقيقه ومؤازرته في هذا المصاب الجلل والخطير.
اندهشت “أحلام” من تأهب والدها لمغادرة المنزل في جنح الليل، وعلى غير العادة، فارتابت لذلك، ودنت منه متسائلة وهي تستندٍ بيدها على عكاز طبي يساعدها على الحركة:
-حُصل إيه يابا؟
أخبرها وهو يلقي بوشاحه على كتفه:
-ولاد الحـــرام طخوا واد عمك، ونجلوه على المشتشفى في المركز.
جزع قلبها واعتصر فجــأة، فسألته لتتأكد من شكوكها التي تثير الرعب في نفسها:
-تجصد مين يا بوي؟
سكت الأخير ولم يقل شيئًا، فوقفت قبالته لتعترض طريقه متسائلة في نبرة وجلة، غير عابئة بالألم الذي يعصف بساقيها:
-انطق يا بوي؟ ماتخلعش جلبي إكده؟
رد في غير صبرٍ، وبتعبيرٍ غائم:
-هو في غيره، “غيث”!
فور أن علمت بالفاجعة، حتى تركت العكاز الطبي من يدها، وانهارت جاثية على الأرض، لتنفــــجر صارخة عاليًا، وهي تلطم على صدغها في حـــرقة والتياع:
-يــــا حـــــرجِة جلبي عليك يا واد عمي! كان مستخبيلك ده فين يا غــــالي!
نهرها عما تفعل في حدةٍ:
-بطلي ولولة عاد.
ثم همَّ بتجاوزها للذهاب، إلا أنه ألقت بنفسها ناحيته، وأمسكت به من ساقه لتستوقفه عنوةٍ، وأخذت تتوسله في بكاءٍ:
-خدني معاك يا بوي، ما تفوتنيش إكده على ناري، أني عايزة أطمنُ عليه.
نفض قبضتها عنه قائلًا في غلاظةٍ:
-وأني ناجص عطلة، خليكي إهنه.
طُرحت أرضًا جراء دفعته القوية، وزاد نشيج بكائها وهي تناديه:
-يا بـــوي!
لكنه تجاهلها ورحل سريعًا، فصرخت منادية بغضبٍ وهي تكفكف دموعها المسالة:
-بت يا “نعمة”!
جاءت إليها الأخيرة التي كانت تراقب المشهد كعهدها خلسة لتساعدها على النهوض، فأمرتها “أحلام” وقد اِربد وجهها بحمرة شديدة:
-اسنديني يا به، ونادي على حد من الغفر ياجي معاي على المشتشفى أوام.
اعترضت عليها فيما يشبه التحذير:
-بس سيدي “راشد” هـ…
قاطعتها بعنادٍ وإصرار:
-ملكيش صالح بأبوي، أني مش هفوت واد عمي من غير ما أكون جاره.
لتصير نظرتها أكثر إظلامًا وهي تبرطم في غلٍ صريح:
-هو مافيش غيرها جَدم الفَجر اللي ما تتسمى، داخلتها عليها جت بالموت والخراب، إلهي تُرجد مطرحه بنت الـ…..!!!!
……………………………………..
كان الوقت لا يزال مبكرًا على معرفة آخر تطورات حالته الصحية، ومع ذلك احتشد المشفى العام بعشرات الأشخاص رجالًا ونساءً وحتى من الأطفال، ممن أتوا من كل جهة وناحية للوقوف مع عائلة الحاج “زكريا”، وكيف لا يفعلون ذلك والأخير كبيرهم المحبوب؟
من بين هؤلاء، وقفت “دليلة” مع عائلتها في منطقة انتظار أهل المرضى، بجوار نساء البلدة، تترقب على أحر من الجمر سماع ما يطمئن قلبها، يا للوعة فؤادها! نفس المشاهد تُعاد عليها مع اختلاف الأشخاص!
ارتعب للغاية من احتمالية خسارته لحياته، فكيف لها أن تتحمل فقدان عزيز آخر قد تعلقت به، وبات قلبها ينبض لأجله، لن تستطيع التعايش مع شعور الذنب القــــاتل.
انخرطت “دليلة” في بكاءٍ مرير وصامت، فقط استشعرت يد والدتها التي كانت تربت عليها بين الفنية والأخرى، وبعض العبارات اللطيفة المتعاطفة من شقيقتها و”عبير” زوجة “سليمان”، تلك التي كانت تتحرك في خفة لتخفف عن حماتها وجيعتها، وتعود إليها لتبث الطمأنينة في نفسها المرتاعة.
كانت الأجواء رغم توترها إلى حدٍ ما هادئة، لكن ما لبث أن التقطت أذناها بعض الهمس اللئيم والمغلوط، وما يثير الضغائن، والأحقاد، بل ويعكر النفوس بخصوص كونها نذير شؤمٍ عليه. لم تلقِ بالا لما يُثار حولها، فجلَّ ما كانت تنشده في الوقت الحالي رؤيته سليمًا ومعافيًا، ولترحل بعدها وتتركه يعيش وسط أهله وأحبابه في سلامٍ ووئام.
بحضور “أحلام” –على غير رغبة أبيها- اشتعلت الأجواء أكثر، وزادت اضطرابًا وسخونة، فلم تكف لسانها عنها، وانطلق تلومها وتدينها علنًا:
-إنتي السبب يا بت البندر، جيتي وجبتي الموت والخراب على يدك.
في التو تدخلت “عبير” لتلزمها حدها:
-ما تجوليش إكده يا “أحلام”، ما يصحش الحديت ده إهنه.
إلا أنها لم ترتدع، وواصلت تعنيفها لفظيًا:
-عايزة إيه منينا؟ جيتي حدانا ليه؟
لم تستطع “عيشة” الوقوف صامتة وابنتها تتعرض لمثل ذلك الإذلال، فقالت في نبرة حازمة:
-عيب يا بنتي الكلام اللي بتقوليه، ما يصحش أبدًا يطلع منك.
ليأتيها ردها الوقح المهين وغير المراعي للفارق العمري بينهما:
-هو إنتو تعرفوا العيبة من الأساس؟
ثم تحولت ببصرها نحو “دليلة” وحدجتها بنظرة نــــارية قـــاتلة قبل أن تزعق فيها بكلماتٍ مسيئة:
-مش دي بتك اللي طلجتيها على واد عمي من غير خشى ولا حيا علشان تاكل بعجله حلاوة وتتجوزه في الآخر، ولما ده حُصل كانت هتجيب أجله.
دافعت “عبير” عنها بضراوةٍ:
-بكفياكي عاد، هي مالهاش ذنب في حاجة، ده جَضا ربنا، إيه هتدخلي في الغيب كمان؟
وقبل أن تنبس “أحلام” بكلمةٍ أخرى بغيضة تهاجم بها من تكره، أكملت “عبير” بمنطقيةٍ:
-وبعدين محدش يعرف ده حُصل إزاي وعلشان إيه أصلًا؟ ليه بتلوميها هي بالذات.
أخبرتها بوقاحةٍ وتبجح:
-الناس أجدام، وهي جدمها جاي بالموت علينا.
هنا صاحت “فاطمة” لتخرسها بلهجتها الصارمة:
-بكفاياكي يا “أحلام”، اجفلي خاشمك.
لئلا تخسر ودها، تحركت ببطءٍ صوبها مستندة بيدٍ على خادمتها، وبالأخرى على عكازها الطبي. جلست ملتصقة بها، وقالت في نبرة جاهدت لتبدو متأثرة:
-متزعليش مني يا مَرَت عمي، بس ده من خلعتي على واد عمي.
لم تسمح لها “فاطمة” باستغلال الموقف وإظهار أحقادها تجاه غيرها لمجرد تصفية حسابات سابقة خلال غياب ابنها، خاصة وهي تعلم تمام العلم بمدى تعلقه بتلك الفتاة الطيبة التي صارت زوجته حاليًا، فأخبرتها بنفس النبرة الحازمة:
-مش عايزة أسمع حِس في إهنه، اللي عايزة تخربط بالكلام تطلع برا.
تأملت “أحلام” ملامحها الجامدة، وأدركت أنها لا تمزح في هذا الشأن، فتراجعت عما تفعل لتقول بصوتٍ خفيض:
-حجك عليا مَرت عمي، وربنا يسمعنا خير.
تمتمت بلا أدنى تغيير في تقاسيمها المشدودة
-يا رب.
………………………………………….
في الجهة المقابلة، تجمع الرجال، وبات همسهم أقرب إلى دعوات وصلوات مهموسة للمولى عز وجل، طامعين أن يمن عليه بالشفاء، وينجيه من كربه. لمح “سليمان” الطبيب وهو يسير في الردهة متجهًا إليهم، فصاح مشيرًا ناحيته:
-الضاكتور طلع من جوه.
لينتفض “زكريا” قائمًا من مجلسه ولسانه يلهج بالدعاء:
-استرها معانا يا رب، عديها على خير يا كريم.
تقدم الطبيب ناحيته، ليبادر بسؤاله المتعجل وقد حبس أنفاسه في ترقبٍ:
-خير يا حالضاكتور؟ ولدي كيفه؟
تبتسم الطبيب قليلًا ليخفف من وطأة الأمر، وخاطبه في هدوءٍ:
-اطمن يا حاج، الحمدلله، ربنا نجاه، وعدى منها على خير.
فور أن فاه بتلك الكلمات السحرية، تنفس “زكريا” الصعداء، فيما ارتفعت أصوات الشكر والدعاء للمولى بين جموع الحاضرين:، ليردد “سليمان” عاليًا:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب.
بينما قال “راشد” في ارتياح:
-اللهم لك الحمد والشكر
بالطبع وصلت كلماته المثلجة للصدور إلى “فاطمة” فراحت تردد بعينين تبكيان فرحًا:
-يا ما إنت كريم يا رب.
لتقول “أحلام” في سعادة:
-الحمدلله.
مدفوعة بغريزتها الأمومية، اخترقت “فاطمة” الحشد المتزاحم هاتفة في لوعةٍ ولهفة:
-ولدي، أني عاوزة أشوف ولدي.
حول الطبيب بصره ناحيتها قائلًا:
-حاضر يا حاجة، ننقله بس أوضته ويفوق، وهتقدروا تشوفوه، بس بالراحة عليه.
عاد “راشد” ليخاطب شقيقه قائلًا
-أني عملت زي ما جولت وكلمت المركز يا خوي، والمأمور بنفسه جاي على إهنه.
رد عليه في استحسانٍ:
-خير إن شاء الله، وأهوو نعرفوا مين واد الحــــرام اللي اترجدله.
ليصيح “سليمان” محتجًا في تحفزٍ وانحياز:
-ورب العزة ما هفوته حي، هجيب خبره بيدي.
مد “زكريا” ذراعه ناحيته ليمسك به من عضده قائلًا:
-اهدى يا “سليمان”، الحكومة هتتصرفوا في الحكاية دي.
اعترض في استنكارٍ غاضب:
-ومن ميتى الحكومة بتاخد بتارنا؟
أسكته بكلامه الحازم الذي لا يُمكن مراجعته فيه:
-من وَجت ما خوك جال إكده.
احتضنت “دليلة” والدتها بمجرد أن سمعت ذلك النبأ المطمئن، لتربت الأخيرة على ظهرها وتمسح عليه برفقٍ وهي تقول:
-الحمد لله يا رب.
استلت نفسها من حضنها الذي احتواها في لحظة ماسة كانت تحتاج فيه إليه لتخبرها بعزمٍ مريب:
-ماما أنا عايزة أمشي من هنا.
ظنت أنها تريد الابتعاد عن الزحام الخانق، وتجنب الصراع مع تلك المرأة المستفزة المسماة بـ “أحلام”، فعقبت دون ممانعة:
-بيتهيألي ده أحسن بعد ما اطمنا عليه.
لتصدمها بقرارها النهائي:
-لأ، أنا عايزة أسيب البلد وأمشي خالص.
رفعت حاجبيها للأعلى في اندهاشٍ، وأبدت اعتراضٍ لحظي:
-بس آ…
قاطعتها قائلة بتبريرٍ، وهي تبتلع تلك الغصة المريرة في حلقها:
-مالوش لازمة نفضل هنا ونعمل مشاكل أكتر من كده…
أحست باختناقٍ عجيب في صدرها، بشيءٍ قاسٍ وموجع يفطر قلبها وهي تتم جملتها:
-أنا حكايتي معاه خلصت.
نفرت الدموع رغمًا عنها من طرفيها تأثرًا بذلك، ولم تتحرج من البكاء علنًا، لا يهم أي شيءٍ حاليًا، يكفي ألا تعايش معاناة هذا النوع من الألم الذي يفتك بروحها ويمــزقها من الداخل قبل الخارج. مسحت بظهر كفها عبراتها، وقالت في ثباتٍ زائف، أخفت خلفه نفسًا محطمة ومنكسرة:
-خلينا نطلع على المحطة على طول قبل ما حد ياخد باله مننا ويمنعونا بالعافية.
لتؤيدها “إيمان” في موقفها قائلة:
-أنا من رأي “دليلة”، احنا أصلًا مالناش حاجة هنا، احنا نطلع على الشقة اللي “فارس” جهزهالنا.
هزت “دليلة” رأسها مضيفة أيضًا:
-أيوه، وزي ما جينا ضيوف وخفاف، نمشي خفاف.
غالبت بصعوبة تامة هذا الشعور الجـــارح الذي ينهشها عندما نطقت بحزنٍ ظاهر في نبرتها:
-وبعد كده لما الدنيا تهدى هكلمه أطلب منه يطلقني.
نظرت إليها “عيشة” بإشفاقٍ، ولم تجد ما تخبرها به، فهي لن تتزحزح عن موقفها مهما حدث، لتنسحبن في تتابع خارج المشفى دون أن يعترض أحدهم طريقهن، فالكل قد انشغل عنهن تمامًا، وعدن كما جئت بلا رفيق أو أنيس. توقفت “دليلة” عن السير للحظةٍ، التفتت برأسها للخلف ناظرة إلى المدخل، تخليت طيفه متجسدًا في الفراغ، وهمست تودعه بشفتين مرتعشتين في ألمٍ، ودمعها قد سال بغزارةٍ:
-أشوف وشك على خير.
………………………………………
ضمتها الحنون، والمصحوبة بالنداء عليه، كانت آخر ما اصطحبه معه من ذكرى قبل أن يغرق في ذلك الظلام العجيب، ليبزغ النور بعد تلك العتمة، وتبدأ مداركه في الاستفاقة. تململ “غيث” في سريره الطبي وهو يرقد على جانبه متأوهًا من الألم الذي حـــز بقوة فيه عندما حاول تحريك جسده والاستلقاء على ظهره، ليستيقظ بعدها تمامًا.
وقتما فتح عينيه رأى أبويه جالسين قبالته؛ والدته ممسكة بالمصحف الشريف تقرأ فيه، ووالده يدير مسبحته في يده مرددًا الأذكار، ليحرك شفتيه مناديًا في صوتٍ خافت:
-أماه، بوي.
ما إن سمعت نبرته حتى أنهت “فاطمة” تلاوتها الهامسة لتسأله في لهفةٍ:
-كيفك دلوجيت يا ولدي؟
ليردد “زكريا” شاكرًا:
-الحمدلله إنك فوجت يا ولدي.
بحيطةٍ وحذر حاول “غيث” الاستدارة والنوم على ظهره متسائلًا:
-مسكتوا واد الفرطوش اللي طخني؟
نفى والده هاتفًا:
-لسه يا ولدي، وبعدين ماتشغلش بالك بالحكاية دي، خوك “سليمان” وعمك بيتابعوا مع المأمور.
هز رأسه باهتزازة خفيفة، فأضاف “زكريا” وهو يتأهب للمغادرة:
-هطلع أطمنهم عليك برا، لأحسن من ليلة امبارح مجالهومش نوم.
لم يعلق عليه، وحاول تحريك ذراعه فعصفت به موجة من الألم، فأطبق على شفتيه بقوةٍ، لتشعر “فاطمة” بما يعتمل في جسد ابنها، انخلعت عليه متسائلة في وجلٍ:
-حاسس بحاجة يا ولدي؟ أنادم على الضاكتور ياجي يشوفك؟
قال وهو يدعي الابتسام:
-أني بخير يامه…
سكت لهنيهةٍ، ثم استطرد على مهلٍ، وكأنه يحاول انتقاء كلماته ليستعلم بها عن أحوال فاتنته التي افترق عن أحضانها مضطرًا:
-بس.. كنت عايز أطمن على مَرَتي، كانت إمعاي وجت ما ده حُصل.
أخبرته باسمة:
-اطمن، هي بخير، ماتجلجش عليها.
سألها في اشتياقٍ ملحوظ في نبرته:
-طب هي فين؟ مجاتش معاكو؟
منحته الجواب الذي أراحه للحظةٍ قبل أن تساوره الشكوك مجددًا:
-كانت موجودة يا ولدي لحد ما الضاكتور طلع من عندك وطمنا، وبعد إكده الظاهر تعبت ورجعت الجصر مع أمها وخيتها.
سألها ليتأكد:
-إنتي شوفتيها؟
ردت بعد صمت لحظي:
-الشهادة لله أني انشغلت عنها بيك، بس “عبير” مَرَت أخوك مافرجتهاش واصل…
لتخبره بعدها وقد مالت عليه:
-دي اتخلعت عليك خلعة، ربنا ما يوريهالنا تاني.
خفق قلبه لمعرفته بمدى اهتمامها به، وبرزت ابتسامة مستمتعة وهو يسألها في تلهفٍ مشتاق:
-صُح يامه؟
أكدت له بإيماءة من رأسها:
-صُح يا ولدي.
تدلل عليها كالأطفال ليطلب منها:
-طب ما تشيعي لحد يطمنها بدل ما تفضلوا إكده؟
استجابت لرغبته المحسوسة، وأخبرته فيما يشبه الدعم وهي تبتسم في حبورٍ:
-أجولك هخلي “بدوي” يجيبها حداك أحسن، وأهوو جلبها يطمن لما تشوفك بعينيها.
لمعت عيناه ببريق سعيد للغاية وهو يدعو لها بصدقٍ وحب:
-ربنا يخليكي ليا.
مسحت على كتفه قائلة في تضرعٍ:
-وما يضرنيش فيك واصل يا ولدي.
…………………………………..
الوقت بدون وجودها كان لا يمضي أبدًا، بدا “غيث” ممتنًا من زيارة مأمور القسم له، وإلا لما استطاع أن يظل ساكنًا في مكانه، ولا يهرع إليها لرؤيتها. حادثه المأمور مشجعًا وهو ينتصب في وقفته عند طرف فراشه:
-اجمد كده يا “غيث”، مش حتت رصـــاصة هتخليك تطول في رقدتك.
قال في هدوءٍ:
-كله على الله يا سيادة المأمور.
أضاف مستفيضًا في إيضاح ملابسات الحادث:
-مش عايزك تقلق، أنا بنفسي هتابع مع المديرية الموضوع ده، وهيتمسك اللي عملها، وخصوصًا إن في شهود شافوا اتنين ملثمين هربوا على الجبل في نفس التوقيت اللي إنت اتصابت فيه، واتحرقت فيه الغيطان، ومن المرجح إنهم يكونوا ورا اللي حصلك، وتبع المطاريد، ما تنساش هما أكيد عارفين إنك ورا حملة القبض عليهم.
تعكرت ملامح “غيث” بشكلٍ ملحوظ، واستطرد مستهجنًا فعلتهما:
-هما حرجوا البلد كمان ولاد الأبـــالسة؟
رد عليه في ضيقٍ:
-للأسف أيوه، وطبعًا الخساير كتير.
لحظتها شرد “غيث” ليفكر فيما قاله المأمور، وطيف “دليلة” يتجسد في فضاءات عقله، ارتعب من فكرة تعرضها للخطر في وجوده، خاصة إن كانت تلك المحاولة مدبرة من قِبل هؤلاء الخارجين عن القانون، فماذا إن أخطأت الرصـــاصة هدفها ونالت منها بدلًا منه؟ كيف يمكنه التعامل مع الوضع حينئذ؟ بدأت دمائه في الاستثارة، حاول جاهدًا التخلص من الشعور الذي انتابه، وراح يقوده للجنون ويدفعه للقيام بعملٍ متهور من أجل ضمان سلامتها.
انتشله من دوامة سرحانه المؤقتة صوت أبيه القائل:
-احنا مطمنين بوجودك يا سيادة المأمور إنك هتحل كل حاجة بعون الله.
اكتفى بالمشاركة الفاترة فيما تبقى من الحوار، وظل يترقب بصبرٍ شبه محدود خبر مجيء زوجته إليه.
…………………………
لم تتوقع “فاطمة” أن ترى “عبير” قادمة مع الخفير بدلًا من زوجة ابنها، فأقبلت عليها تستعلم منها عما دار خلال ساعات الليل الأخيرة، لتتفاجأ باختفاء “دليلة” تمامًا عن المشهد، وكأنها لم تكن موجودة من الأساس. تساءلت في جزعٍ وهي تسحبها للجانب بعيدًا عن البقية لئلا تثير الانتباه:
-كيف ده حُصل؟ يعني إيه مابيتتش هي وأهلها في الجصر؟
خفضت “عبير” من نبرتها قائلة بتحيرٍ:
-ماخبراش، أني فوت أشأر عليها في أوضتها، ملاجتهاش لا هي ولا أهلها.
بينما لاحظت “أحلام” ما يدور في فضولٍ، لذا تعمدت أن ترهف السمع لتعرف حقيقة الأمر.
تقلصت تعابير وجه “فاطمة” قلقًا، وتساءلت في توجسٍ:
-هتكون راحت فين بس؟ طب هجول لـ “غيث” ولدي إيه؟
لتعلق “عبير” فيما يشبه التخمين:
-الخوف لأحسن يكونوا طفشوا.
آنئذ غطت علامات الخوف وجهها، وتمتمت في قلقٍ مضاعف:
-يا وجعة سودة! عديها على خير يا رب.
أصبح ما تخشاه حاليًا هو ردة فعل ابنها حينما يصل إليه الأمر، حتمًا لن يدعه يمر على خير، سيقيم الدنيا ولن يقعدها.
بينما تلصصت “أحلام” عليهما كعادتها، واستمعت لكل حرفٍ نطقت به “عبير” وقلبها يرقص طربًا لرحيل تلك اللعينة عن البلدة بأسرها، تنهدت مليًا، وهتفت مع نفسها في نشوة عارمة لم تسعَ لإخفائها:
-الحمدلله إنها حست على دمـها وغارت، داهية لا ترجعها.
………………………..
قدمت قدمًا وأخرت الأخرى وهي تلج إليه في غرفته، محاولة البحث عن عبارات ملائمة تُعلمه فيها برحيل زوجته للأبد. رأى “غيث” ما ينعكس على وجه أمه من تعابيرٍ غير مريحه، فسألها مباشرة وهو يتفرس بإمعانٍ فيها:
-في إيه يامه؟ وفينها مَرَتي؟ حصلها حاجة ومش عايزة تجولي؟
بالكاد استجمعت جأشها لتخبره:
-مَرتك مش موجودة في الجصر يا ولدي.
انتفض في رقدته مرددًا بصياحٍ مستنكر:
-بتجولي إيه يامه؟
أوضحت له بأسفٍ، وهي تشير بيدها نحو “عبير” التي انضمت إليها لتطلعه على ذلك:
-مَرَت أخوك بتجول إنها مابيتتش في الجصر من إمبارح.
انتقل ببصره ناحيتها موجهًا سؤاله لها:
-كيف ده؟
تولت “أحلام” دفة الكلام هذه المرة، وقالت بما يشبه الشماتة:
-مَرَت عمي تجصد إن بت البندر، اللي المفروض تحمد ربها ألف مرة إنها اتجوزتك، مهمهاش سمعتك ولا شرفك، وخدت ديلها في سنانها، وجالت يا فكيك، وغارت في داهية برا البلد، ومحدش يعرفلها مُطرح.
وكأنها انتزعت عن عمدٍ فتيل قنــبلة موقوتة لتنفجــــر في أوجه الجميع. قفز “غيث” عن الفراش غير مبالٍ بالأجهزة الطبية الموصولة به، وانقض على عنق “أحلام” قابضًا عليه، ضغط عليه بكل قوته مانعًا مجرى الهواء عنها، أحست بأصابعه تدك عظام رقبتها وهو يسألها في خشونةٍ:
-إنتي بتجولي إيه؟
تدخلت “فاطمة” لتبعده عنها قائلة في رجاءٍ:
-بالراحة يا ولدي؟ هتـــموت في يدك.
وبذلت كل جهدها لتحريرها من بين أصابعه المتشبثة بجلد عنقها، لتسعل بقوةٍ بمجرد أن تحررت من قبضته محاولة استعادة انتظام أنفاسها. رفع “غيث” سبابته في وجهها يهددها بلا هوادةٍ:
-قسمًا بالله لو كنتي ورا طفشانها ما هرحمك.
ثم انتزع الإبرة الطبية الموصولة في كفه، واتجه إلى خزانة الثياب الصغيرة باحثًا عن جلبابه ليرتديه، تحركت “فاطمة” ورائه لتسأله في دهشةٍ ممزوجة بالخوف والقلق:
-استنى يا ولدي رايح فين إكده وإنت لساك تعبان؟
استدار برأسه ناحيتها ليخبرها بما يشبه اليمين الغليظ، وهذه النظرة المشتعلة تحتل حدقتيه:
-رايح أرجع مَرَتي يامه، مش هفوتها لحالها واصـــــل ………………………………….!!!
……………………………………..
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.