رواية فوق جبال الهوان – الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الفصل الثاني والخمسون
الحسرة والخيبة الأمل هي كل ما تظفر به كلما سعت لاصطياده في شباكها، لم تفلح محاولتها اليائسة لقلب الطاولة على رأس أكثر من تبغض، من خلال حثه على تطليقها بل وزهـــق روحها انتقامًا لشرفه وسمعته التي اعتبرتها دُنست بهروبها المريب؛ لكنه خالف توقعاتها وعاملها بقســــاوة، وكأنها الملامة على رحيلها.
راحت “أحلام” تنوح إلى زوجة عمها تشتكي إليها:
-يرضيكي اللي “غيث” عامله فيا؟ ده أني أكتر واحدة رايداله الخير.
بجمودٍ أخبرتها في لهجة محذرة، مظهرة عدم تعاطفها مع دوافعها الخبيثة:
-أني جولتلك يا بتي النصيب غالب، وهو جلبه اتعلق بغيرك، فبكفياكي عاد تشعليليها نار.
اشتاطت غيظًا، وصاحت في نبرة هجومية:
-أني بردك؟ أومال تجولي إيه عن اللي خدت ديلها في سنانها وجالت يا فكيك من إهنه؟
لترد عليها زوجة عمها بهدوءٍ، متجاهلة الاتهامات الباطلة التي تحاول إدانتها بها ظلمًا وزورًا:
-محدش خابر إيه اللي حُصل وخلاها تفوتنا.
استمرت على عدائيتها نحوها بترديدها:
-دي بت فاجرة وجادرة، وحتى لو رجعت ما هخلي اللي عملته يعدي واصل.
سوء ما تضمره نفسها كان طاغيًا بشكلٍ سافر، فما كان من “فاطمة” إلا أن تأمرها:
-ارجعي دارك يا “أحلام”، ويا ريت الفترة الجاية تلزميها.
صدمها قرارها نحوها، وهتفت مستنكرة:
-جصدك إيه يا مَرَت عمي؟
قالت بغير إسهابٍ:
-اللي إنتي فهمتيه.
منعها من القدوم إلى القصر كان بمثابة أقســـى أنواع العقاب لها، فهي تتكبد عناء كل شيء من أجل رؤيته، وهي ببساطة تقرر سلبها ذلك الشيء وحرمانها بشكلٍ قطعي من رؤيته، لذا راحت تهدر في يأسٍ:
-بجي إكده؟ ماشي، مسيركم تعرفوا حجيجتها، وساعتها هتجولوا يا ريت اللي جرى ما كان.
طوحت لها بيدها في الهواء قائلة بعدم اكتراثٍ:
-لما ده يُحصل يبجالك الكلام.
كزت على أسنانها مدمدمة في غيظٍ:
-هنشوف…
واستندت على عكازها لتغادر وهي تقول في وعيدٍ لئيم:
-إن ما خليتها سواد أكتر عليها مابجاش أحلام.
…………………………………….
مدفوعًا بثورته المحمومة بداخله وكذلك مشاعره الغاضبة من تصرفها الأرعن جراء ذهابها بعيدًا عنه، وعلى غير إرادة منه، انطلق “غيث” إلى الخارج غير عابئ بالألم الذي ما زال يحز بقوة في كتفه، ليصطدم مصادفة بـ “وهبة” الذي كان في طريقه لزيارته. تفاجأ الأخير بخروجه، وصاح مندهشًا وهو يرمقه من رأسه لأخمص قدميه:
-واه يا واد عمي، إنت رايح فين إكده عاد؟ لساك جايم من آ…
قاطعه قبل أن يتم جملته ساحبًا إياه من ذراعه ليستحثه على ملاحقته سائلًا بهذه النبرة التي يعرفها جيدًا:
-عربيتك موجودة ولا جاي مواصلات؟
أجابه مشيرًا بيده:
-واجفة برا…
لينتقل في التو لسؤاله الحائر:
-خير يا كبير؟ إيه اللي حُصل؟
قال بمزيدٍ من الغموض وهو يواصل سيره المتعجل نحو الخارج متجاوزًا بوابة استقبال الطوارئ:
-هجولك في السكة.
لم يجادل كثيرًا، ورد في طاعة وهو يحاول اللحاق بخطواته السريعة:
-ماشي كلامك.
……………………………………………
على فراشها المريح، استغرق في نومٍ عميق وهانئ للدرجة التي جعلته لا ينتبه لصوت فتح قفل باب المنزل، قبل أن يتسلل أحدهم بخفةٍ على أطراف أصابعه ليفتش عنه. انتفض “زهير” كالملسوع عندما شعر بتلك القبضة على كتفه، ما لبث أن اتخذ ردة فعل سريعة، حيث سدد لكمة مباغتة لمن يقف عند رأسه ليصيبه فوجهه، فصاح الأخير متأوهًا من الألم المباغت، ليردد بعدها:
-اهدى يا كبيرنا، أنا “عباس”.
تيقظت مداركه، وضيق عينيه ليتبين ملامحه بالفعل عبر الإضاءة الباهتة المتسربة إلى الغرفة من وراء الشباك المغلق. اعتدل في رقدته، وسأله في صوت ما زال يحمل آثار النوم:
-إنت دخلت إزاي هنا؟
في رنة من التفاخر أخبره وهو يمسح على صدره بيده:
-مش صعبة عليا يا ريسنا، ما أنا حرامي قديم، وعارف إزاي أطفش أقفال البيوت.
نهض “زهير” عن الفراش، واستقام في وقفته متسائلًا:
-في حد لمحك؟
نفى مسترسلًا:
-لأ، احنا في الأمان، وعيونا راصدة كل حركة في المنطقة، ولو في عوأ هنطير أوام.
هز رأسه في استحسان معقبًا عليه باقتضابٍ:
-كويس.
خرج “زهير” من الغرفة ليتبعه “عباس” مرددًا بلؤمٍ:
-شكلك خدت راحتك في النوم يا ريس.
اتجه نحو الحمام ليغسل وجهه، وأجابه معترفًا:
-أول مرة أحس إني مش شايل هم حاجة، مع إن المفروض يكون العكس.
ليأتيه تعقيب تابعه منطقيًا:
-النومة برا السجن تستاهل برضوه.
بمجرد أن فرغ من غسل وجهه وتجفيفه تساءل “زهير” مستعلمًا:
-مافيش جديد لسه؟
جاءه رده مستفيضًا:
-أنا زارع واحد من رجالتنا وسط جماعة اللي اسمه “وهبة”، بيراقب كل تحركاته.
ليسأله بديهيًا، ولمحة من اللهفة تطفو في نبرته:
-ماظهرتش عنده؟
كانت إجابته مخيبة للآمال حين قال:
-لحد دلوقت لسه…
ليسيطر التجهم على تقاسيم وجه “زهير”؛ لكن ما لبث أن تحولت للجدية الشديدة عندما أضاف بشكلٍ عابر:
-بس في حاجة كده معرفش إن كان مهمة تعرفها ولا لأ.
تساءل باهتمامٍ:
-إيه هي؟
جاوبه موضحًا:
-راجلنا بيقول إنه سمع بسفره لحد قريبه غالي عنده في الصعيد هيتجوز.
سخر منه في ضيقٍ:
-وهي دي أخبار مهمة؟ أنا اللي يهمني “دليلة” وبس.
أطرق “عباس” رأسه للحظة، وتمتم:
-لو وصله حاجة عنها هبلغك يا زعامة.
تمطى “زهير” بذراعيه مكملًا:
-ماشي، شوفلنا هناكل إيه.
سرعان ما تشكلت ابتسامة راضية على ثغر “عباس” وهو يخبره:
-عامل حسابي يا ريسنا.
………………………………..
صدحت صافرة القطار لتعلن عن انطلاقه من محطة نحو وجهته التالية. بأعجوبة تمكنت “عيشة” من حجز ثلاثة مقاعد به بالمال المحدود الذي قامت بادخاره عندما كانت “فاطمة” تمنحها إياه بمحبة وعن طيب خاطر لتشتري ما تشتهيه نفسها خلال فترة إقامتها في القصر رغم أنها لم تكن بحاجة لذلك.
كانت كمن يحمل فوق ظهرها جبلًا من الهموم والأثقال، لا يشعر بمدى ثقله على نفسها سواها، حيث قضت ساعات الليل وهي تنتظر برفقة ابنتيها في محطة القطار ريثما يحين موعد قدومه تفكر فيما أقدمت عليه في لحظة طيش منها، وبلا حساب لمردودها المسيء على البقية، حتى حينما استقلته ظلت على تلك الحالة المهمومة، مما دفع “إيمان” الجالسة بجوارها للاستفسار منها عما يؤرقها:
-مالك يا ماما؟ في حاجة تعباكي؟
دون أن تنظر نحوها ردت بإيجازٍ شديد؛ وكأن لا رغبة لها بالكلام مُطلقًا:
-لأ.
انتابها القلق من عبوسها المريب، فسألتها في إلحاحٍ:
-أومال في إيه؟ شكلك زعلان على الآخر.
فاض بها الكيل مما تكبت، فأفاضت في نبرة تعبر عن ندمها:
-بصراحة يا “إيمان” حاسة إننا اتسرعنا لما مشينا بالشكل ده، تقولش حرامية عاملين عاملة، وخايفين لأحسن نتمسك، على الأقل كان لازم نعرف الناس اللي فتحولنا بيتهم، وبقى في بينا ارتباط رسمي إننا ماشيين…
انعكس الضيق أكثر في صوتها وهي تختتم جملتها في صيغة متسائلة:
-منظرنا إيه دلوقت قصادهم؟
تنهدت “إيمان” قائلة في تبرمٍ:
-أهوو اللي حصل يا ماما، معدتش فيها رجوع.
لترد عليها “عيشة” بعتابٍ:
-الأصول لازم تتراعى يا بنتي، أنا خدتني الحمية ساعتها، بس لما أعدت مع نفسي وفكرت لاقيت إننا غلطانين من ساسنا لراسنا.
على الجانب الآخر كانت “دليلة” جالسة خلفهما، في مقعدٍ منفرد، تعاني من ذلك الشعور المؤلم لفراق أحدهم، تكافح لئلا تبكي .. تدعي الجمود، وداخلها ممزق، تصغي بقلبٍ مفطور لكل حرف تفوه بها والدتها ولا تجرؤ على التبرير، أطبقت على جفنيها سامحة لتلك الدموع الغادرة بالتسلل من طرفيها، لتقول في صوت هادئ:
-مالوش لازمة العتاب، هي صفحة في حياتنا وعدت.
استدارت “إيمان” لتنظر تجاهها، وأيدتها في رأيها قائلة:
-بالظبط.
لحظتها وجهت “عيشة” كلامها إلى ابنتها الصغرى تلومها:
-يا بنتي ده مش لعب عيال، وبعدين ما تنسيش كلام الناس، وخصوصًا إنهم صعايدة دمهم حامي، تفتكري هيفوتوا إن مرات ابنهم هربت بعد كتب كتابها؟
في شيءٍ من الانفعال المستاء ردت:
-مش عايزة أفكر يا ماما في حاجة، خلاص معدتش ليه لازمة الكلام…
ثم تنفست بعمقٍ لتخنق نوبة بكاء تهدد بالظهور، وعمدت إلى تغيير الحوار بقولها:
-المهم دلوقت احنا محتاجين نرجع شقتنا القديمة نجيب منها حاجتنا، مش معقول هنفضل بس بالهدوم اللي علينا!!
في التو علقت عليها “إيمان” بتوجسٍ:
-بس الواحد خايف لأحسن يكون حد من طرف اللي ما يتسمى موجود هناك، واحنا مش ضامنين إيه اللي ممكن يحصل…
كانت محقة في مخاوفها، وما عزز من ذلك الشعور باقي حديثها:
-وخصوصًا من الجارة الرزلة اللي أعدة للساقطة واللاقطة، دي أول واحدة هتتصل بيه تقوله عننا لو ظهرنا.
لتخبرهما والدتهما في حسمٍ:
-ماتشلوش هم يا بنات، أنا هبيع الحلق بتاعي، وبفلوسه ندبر أمورنا الكام يوم الجايين، مافيش داعي نفتح على نفسنا باب جهنم.
اعترضت عليها “دليلة” في حزنٍ:
-بس يا ماما الحلق ده غالي عليكي، كان هدية بابا الله يرحمه ليكي.
قالت بتصميم:
-وأبوكي مكانش هيخلصه إن يشوف بناته متبهدلين علشان أتعايق بالحلق.
بشكلٍ عفوي ارتمت “إيمان” في أحضان أمها قائلة بامتنانٍ، والدمع يترقرق في حدقتيها:
-حبيبتي يا ماما، ربنا ما يحرمنا منك ويديمك في حياتنا.
……………………………………..
أول ما طرأ بباله الاتجاه إلى محطة القطار الوحيدة في البلدة، تلك التي كانت تردد دومًا أنها ستتجه إليها لتتمكن من الرحيل بعيدًا. اندفع مع “وهبة” نحو المسئول عن إدارتها واستعلم منه عن ثلاثتهن، فاستعان الأخير بكاميرات المراقبة لتفريغ ما سجلته خلال الساعات المنصرمة، لتظهر صورهن بوضوح أثناء جلوسهن على المقعد الحجري لساعات طويلة.
كور “غيث” قبضته في غيظٍ، وذلك الصوت المحتد يصرخ في أعماقه:
-بجى أنى مَرَتي تبيت في الشارع، ما تلاجيش مُطرح يلمها.
فيما تكلم أحد الموظفين المسئولين عن النوبة الليلية في المحطة، وكانت بنبرته سمة من الشماتة الخفية:
-أني شكيت يا “غيث” بيه لما شوفتهم، جولت دول جماعتك، بس مكونتش متوكد.
صاح فيه “وهبة” كأنما يوبخه:
-وما كلمتش حد من حدانا ليه تجولهم؟ على الأجّل كنا حصلناهم.
لينصدم برده شبه الفج، حينما قال:
-احنا كل ليلة بيعدي علينا أشكال ياما، مش هناخد بالنا كمان من الحريم اللي طالجة نفسها آخر الليل.
استثيرت حمية “وهبة” على الفور من تلميحاته المسيئة، فانقض عليه ممسكًا به من تلابيبه يحذره في غلظةٍ:
-ما تظبط لسانك يا جدع إنت بدل ما أجطعهولك!!
ارتاع الموظف من هجومه المباغت، وظن أن مديره سينتفض ويثور لأجله، إلا أن الأخير ظل ساكنًا، ومشغولًا بمراجعة ما سجلته كاميرات المراقبة بالمحطة، ليشعر بفداحة ما نطق به لسانه، فاستدرك الأمر معتذرًا:
-حقك عليا يا بيه، أني مجصدش.
اشتدت قبضة “وهبة” عليه وتوعده بلا هوادةٍ:
-وأني مش هستنى إنك تجصد، هجيب خبرك دلوجت.
ليتدخل بينهما “غيث” قائلًا في غير صبرٍ:
-مش وجت عركة يا “وهبة”، خلينا نشوف الأول راحوا فين.
تكلم المدير مشيرًا إلى التوقيت المدون أعلى شاشة الحاسوب التي تبث المقاطع المسجلة:
-هما ركبوا الجطر من جيمة ساعة إكده.
سأله “غيث” مستفسرًا:
-الجطر رايح فين بعد إكده؟
رد عليه وهو يفتش في الأوراق الموضوعة على سطح مكتبه:
-ثواني وهجولك بالظبط على خط سيره.
بينما استمر “وهبة” في تهديده لهذا الموظف السمج:
-عارف يا مخبول إنت لو كلمة من اللي دارت إهنه حد شم بيها خبر، ورب العزة ما هحاسب حد إلا أنت، هخليك عبرة إنت وأهلك.
ليرد مدافعًا عن نفسه، وقد هربت الدماء من وجهه رهبةً منه:
-أني غلبان يا واد عمي، ماليش في اللت والعجن.
لحظتها تركه بعدما دفعه للخلف قائلًا بتجهمٍ:
-يكون أحسن بردك.
حصل “غيث” على مبتغاه، وغادر المحطة، ليستقر مرة ثانية في سيارة رفيقه الذي حاول تهوين الأمر عليه قليلًا:
-إن شاء الله هنلحجهم يا كبير.
بجمودٍ مثير للقلق، أخبره:
-ربنا ييسر.
…………………………………….
توقف القطار في محطته التالية، ليتم الإعلان عن موعد انطلاقه مجددًا بعد نصف ساعة. أحست “إيمان” بتيبس ساقيها، فنهضت عن مقعدها، وألقت نظرة متأملة على والدتها، فوجدتها غافية في موضعها، ثم تحركت نحو شقيقتها التي كانت تستند برأسها على زجاج النافذة، مسدت برفقٍ على كتفها لتستحثها على الاعتدال والنظر ناحيتها، ثم سألتها في نبرة مهتمة:
-أنا هنزل أجيب مياه من تحت، مش عايزة أجيبلك حاجة تاكليها؟
تنهدت مليًا في إرهاقٍ قبل أن تخبرها بفتورٍ:
-ماليش نفس.
رأت ما تجسد على تعابير وجهها من علامات الحزن والألم، فحاولت مواساتها بطيب كلماتها:
-أنا حاسة بيكي يا حبيبتي، الحياة وخداكي في دوامتها، وإنتي مش بتلحقي تفوقي أبدًا من المصايب اللي نازلة عليكي، بس إنتي أدها.
لم ترغب في التطرق إلى أي شأن يزعجها، لذا همهمت قاصدة تغيير دفعة الحديث:
-اسألي ماما كده إن كانت عايزة حاجة.
عاودت النظر بصورة عفوية نحو والدتها لترد:
-هي نايمة…
منحتها نظرة متعاطفة وهي تتابع:
-يا حبة عيني تعبانة، مش واخدة على البهدلة دي، ده غير إنها طول الليل سهرانة.
هزت رأسها معقبة:
-هانت.
همَّت “إيمان” بالمغادرة قائلة، وهي تشير بيدها نحو الأمام:
-طيب أنا هروح بس علشان متأخرش عليكم.
أوجزت في ردها:
-طيب.
لتسرع في خطاها نحو بابه المعدني، هبطت على الدرجات القصيرة، وتجاوزت القضــبان الحديدية لتصعد إلى الرصيف المقابل، سارت نحو أحد الأكشاك المصفوفة على مسافة قريبة لتبتاع منه زجاجة مياه وبعض المقرمشات الخفيفة لتناولها أثناء الطريق.
………………………………
في تلك الأثناء، صف “وهبة” سيارته خارج المحطة، ولحق برفيقه الذي سبقه إلى الداخل ليفتش عن زوجته، آملًا ألا يكون قد وصل إليها متأخرًا، فيفقدها للأبد. استعلم عن مكان تواجد القطار القادم من بلدته، تنفس الصعداء حينما علم أنه لا يزال مرابطًا عند الرصيف، فأسرع تجاهه مرددًا:
-الجطر لسه في المحطة.
رد عليه “وهبة” وهو يطرح طرف شاله على كتفه:
-إن شاء الله نعتر فيهم.
ردد “غيث” في رجاءٍ:
-جول يا مسهل.
لحسن حظه استطاع أن يلمح من زاويته شقيقتها وهي تنتقي بعض الأشياء من ذلك الكشك القريب، فانزلق هاتفًا فيما يشبه السؤال:
-مش دي خيتها؟
تحول بصر “وهبة” إلى حيث أشار رفيقه؛ لكن الأخير لم يظل باقيًا في موضعه، حيث ركبت قدماه الريح واندفع تجاهها ليعترض طريقها متسائلًا بلهجةٍ لا تبدو مازحة مُطلقًا:
-فين مَرَتي؟
تفاجأت بظهوره غير المتوقع، فانتفضت، وارتدت خطوة للخلف قائلة بتلعثمٍ مصدوم:
-“غـ..غيث”.
هتف بها آمرًا:
-انطجي!
جف ريقها خوفًا منه، وأجابته وهي تشير نحو إحدى عربات القطار:
-أعدة جوا.
أعطاها أمره التالي بنفس اللهجة التي تجعل بدنها يرتجف خوفًا:
-وريني سِكتها.
ردت صاغرة دون أدنى ذرة اعتراضٍ:
-حاضر.
وتحركت أمامه بساقين مرتعشتين لترشده إلى مكان تواجد شقيقتها، تجاوزها حينما وصل إلى مقعدها لينظر إليها مليًا بنظرة محملة بمزيجٍ متجانس من العتاب والشوق واللوم واللهفة. كانت شبه غافلة، مغمضة لجفنيها، ومستندة برأسها على النافذة، يبدو الحزن مرسومًا على قسماتها. بأعجوبةٍ كبح غضبه الناجم عن رعونة تصرفها، وحجَّم من انفعالاته الهائجة، فيكفيه أن عثر عليها قبل فوات الأوان، ليمد يده نحو كتفها ليضغط عليه قليلًا، فينبهها إلى وجوده برفقٍ؛ لكنها لم تكلف نفسها عناء الحركة، والنظر ناحيته، ظلت على وضعيتها تلك، وقالت في غير مبالاة:
-قولتلك يا “إيمان” مش عايزة حاجة.
ليخفق قلبها بكل قوةٍ وهو يسألها في نبرة معاتبة ولائمة:
-من ميتى اتفجنا على الغدر؟
أحس بانتفاضة جسدها تحت لمسة يدها، قبل أن تفتح جفنيها لتنظر إليه في غير تصديقٍ، ولسانها يردد أحرف اسمه:
-“غيث”!
صدمة رؤيته واقفًا، وفي كامل عافيته غطت على أي هموم أخرى أضنت قلبها، فهبت واقفة لترمي بنفسها في حضنه، وراحت تضمه قائلة بسعادة عارمة:
-حمد لله على سلامتك.
لم يتوقع أبدًا ردة فعلها تلك، بل إن مفاجأة تصرفها العفوي محت ثورة غضبه المستعرة، وكأنها أطفأت لهيب حنقه بدفقةٍ من حنانها الذي يتلهف شوقًا لنهله.
تداركت نفسها، وانسلت من حضنه لتنظر إليه بعينين تلمع فيهما عبرات خفيفة، فقال في صوتٍ جاد؛ لكنه حازم في نفس الآن:
-لينا عتاب على اللي عملتيه بس مش إهنه…
وأمسك بمعصمها متابعًا:
-بينا نرجعوا الجصر الأول.
تخشبت في مكانها قائلة باعتراضٍ:
-احنا مالناش مكان فيه.
سألها في صوتٍ قد تغير قليلًا:
-مين جال إكده؟
هتفت في تحفزٍ:
-مش لازم نستنى لما يتقال الكلام ده في وشنا تاني.
نفخ بزفيرٍ مسموعٍ، وتابع بغير صبرٍ:
-أني مافياش حيل للمناهدة يا بت الناس، أني لسه جرحي مالمش، وطاير وراكي علشان ألحجك،
عاندته قائلة باستفزازٍ:
-محدش طلب منك تعمل كده.
هتف يحذرها:
-ماتخليش مخي يجفل معاكي السعادي!
رفعت حاجبها للأعلى واستمرت في تحديها له:
-هتعمل إيه يعني؟
أجاب بلهجةٍ تفوقها عِندًا:
-أني راجل صعيدي ودمي حامي، خلينا نمشوا بالذوق بدل ما تاجي معاي عافية.
قبل أن ترد عليه سمعت صوت شقيقتها يصرخ في جزعٍ:
-ماما، فوقي، ردي عليا لو سمحتي.
قصــف قلبها في ارتياعٍ، وسألته بنبرة عبرت عن التياعها:
-في إيه يا “إيمان”؟ ماما مالها؟
لتجدها تخبرها في رعبٍ حقيقي:
-الحقي يا “دليلة”، ماما مش بترد عليا!
كلماتها وإن كانت محدودة، إلا أنها كانت محملة بأكبر مخاوفها، خسارة أخرى لعزيز في حياتها، سرعان ما انفلتت منها شهقة منادية باسمها في حــــرقة وخوف عظيمين:
-مــامــــا …………………………. !!!
……………………………………..
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.