رواية فوق جبال الهوان – الفصل الثالث والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
الفصل الثالث والخمسون
بكل ما فيها من مشاعر خائفة وملتاعة، اندفعت بلا تفكير نحو والدتها تهز بدنها بقوةٍ لعلها تستجيب لهزاتها المتواترة وتستفيق من حالة الإغماء الفجائية المسيطرة عليها. أمسكت “دليلة” بها من كف يدها البارد، واحتضنته بين راحتيها لتفركه وتبث فيه الدفء، وراحت تتوسلها بعدما تفـــجرت الدموع في عينيها:
-فوقي يا ماما، ردي عليا، بالله عليكي ما تعملي فيا كده.
ليزداد عويلها وندبها أكثر، فيما أخذت “إيمان” تولول في تحسرٍ، ليقوم “غيث” بنهرهما في نبرة حازمة:
-حاسبي إنتي وهي، خليني أشوف مالها.
انصاعت كلتاهما إليه، وتراجعتا للخلف، ليتمكن من المرور وتفحصها، استشعر النبض في عنقها، وإن كان ضعيفًا؛ لكن ذلك أكد بقائها على قيد الحياة، وأنها لم تفارقها بعد.
اخترق صوت “دليلة” الراجي أذنيه حينما سألته:
-“غيث”، ماما مش هتروح مني صح؟ طمني أرجوك.
التفت ناظرًا إليها بملامحٍ جادة قبل أن يخاطبها:
-اهدي بس وخليني أتصرف.
ليلحق به “وهبة” متسائلًا في تحيرٍ، خاصة وعيناها تطوفان سريعًا على المشهد غير المفهوم المتجسد أمامه:
-خير يا واد عمي؟
في التو أمره “غيث” دون أن يمنحه أدنى تفسير:
-اطلب الإسعاف جوام.
لم يكلف نفسه عناء البحث عن الأسباب لينفذ مطلبه، بل رد في طاعة تامة:
-ماشي.
فيما قامت “إيمان” باحتضان شقيقتها المنهارة كليًا أمامها، وكلتاهما تحاولان البحث عن بصيص أملٍ وسط تلك العتمة التي تغلف عالمهما.
……………………………………
أعمى حقدها العميق، بجانب غليل نفسها الأمارة بالسوء، بصرها وبصيرتها، فقررت إحــــراق الأرض بمن عليها، فقط لترضي تلك النزعة المريضة بداخلها، غير عابئة بالعواقب الوخيمة لهذا التصرف الخطير. حينما عادت “أحلام” إلى بيت أبيها، نادت بأعلى صوتٍ، وبنبرة لا توحي إلا بكل ما هو شرير:
-بت يا “نعمة”! إنتي يا جالوس الطين!
لم تكن الأخيرة قد بدلت ملحفتها السوداء بعد، فهرولت عائدة إليها تسألها، وقد استشعرت من عصبيتها الظاهرة أنها في حالة مزاجية متعكرة للغاية:
-أيوه يا ست “أحلام”.
بتعابير وجه قاسية للغاية، ليس فيها ثمة شيء من الرحمة، استطردت تأمرها:
-عايزاكي تفوتي أي حاجة في يدك، وتعملي اللي عقولك عليه.
توجست خادمتها خيفة من أسلوبها المريب، وتساءلت بحذرٍ:
-خير يا ستي؟
ليأتيها إسهابها صادمًا:
-فوتي على حريم البلد كلياتهم، في أي مطرح يتجمعوا فيه، عند الطابونة، في الغيط، في أي داهية، تجوليلهم إن مرت كبيرهم “غيث” هَربت عشي، ومحدش يعرفلها مُطرح، من جَبْل ما الكبير يخش عليها.
لطمت على صدرها مرددة في صدمةٍ ممزوجة بالخوف:
-يا نصيبتي!
لتعترض “أحلام” بحنقٍ على ردة فعلها الطبيعية تلك:
-نصيبة تاخدك يا بعيدة.
حاولت “نعمة” إقناعها بالتخلي عن فكرتها تلك، فقالت في شيءٍ من الاحتجاج، وإن كان يشوبه الحيطة:
-بس يا ستي آ…
أخرستها بقولها الحاسم:
-اكتمي، واسمعي للآخر.
فما كان منها إلا وضعت يدها على فمها بعدما اقتضب في ردها:
-أهوو.
بينما استمرت ” أحلام” في إخبارها بما يجب عليها تنفيذه دون ردٍ أو مجادلة:
-وعتجوليهم كمان، إنها هربت جبل ما فضيحتها تتكشف، والمستور يبان، ويتعرف إنها مش بت بنوت!
جملتها الأخيرة ضاعفت من مخاوف خادمتها، فانزلق لسانها يهمس برعبٍ:
-يا واجعة مطينة بطين!
سرعان ما تجسدت ابتسامة شيطانية وضيعة على ثغر “أحلام” وهي تتخيل قيـــام “غيث” بالانتقام لعــرضه من تلك اللعينة التي سلبتها حب حياتها، وخاطبت نفسها في نشوةٍ مريضة:
-وتوريني هتطلع منيها كيف.
لتنصحها خادمتها للمرة الأخيرة، على أمل أن تصغي لصوت العقل، وتترك انفعالاتها الثائرة جانبًا:
-دي فيها جطع رجـــاب يا ستي، وخصوصي لو سيدي “راشد” عرف، ولا حتى سيدي “غيث”.
في عنادٍ أشد خطورة أخبرتها:
-ملكيش صالح، إنتي عتعملي اللي عجولك عليه وبس!
همهمت “نعمة” في توجسٍ متعاظم:
-استر يا رب.
ظلت متخشبة في موضعها، مترددة في الذهاب، لتنفض كليًا عندما كررت عليها “أحلام” أمرها بنبرة متعصبة:
-إنتي لسه واجفة مُطرحك؟ غوري نفذي اللي جولتلك عليه.
لم يكن أمامها سوى تلبية رغباتها، فقالت وهي تقدم قدمًا وتؤخر الأخرى:
-ماشي…
ما لبث أن انخفضت نبرتها للغاية وهي تتم كلامها:
-عديها على خير يا رب.
فيما افترشت “أحلام” الأريكة، وجلست عليها باسترخاءٍ، وقد امتدت يدها لتدلك ساقها التي ما تزال عليلة، وهي تهسهس بسخطٍ:
-عجبال ما يجيني خبرك!
………………………………….
مستخدمًا معارفه، وصلاته القوية، أرسلت عربة إسعاف مجهزة بأحداث الوسائل الطبية، لتقوم بنقل “عيشة” على الفور إلى أقرب مشفى متخصص لإسعافها قبل فوات الأوان، خاصة مع تحذير المسعف بأن حياتها على المحك.
طوال تلك اللحظات الحاسمة، لم تستطع “دليلة” التحكم في أعصابها، كانت تبكي بلا توقف، تتمتم بعباراتٍ متحسرة ومتوسلة، ترجو فيها والدتها ألا تفارقها، وتتركها في هذه الحياة التعيسة بلا سندٍ أو معيل.
مرت عليها الدقائق كأنها سنوات، ظلت نظراتها معلقة بباب الطوارئ وهي تجلس بجوار شقيقتها في صالة الانتظار تترقب عودة الطبيب من الداخل لطمأنتها، وقد كان بالفعل، فمجرد أن لمحته هبت قائمة لتهرع ناحيته متسائلة:
-ماما عاملة إيه دلوقت؟
أجابها موضحًا ظروفها المرضية:
-الحمدلله لحقناها، غيبوبة سكر، ولو كانت فضلت كده، الله أعلم كان ممكن إيه اللي يحصل.
وقتئذ أحست بنغزة قاسية في قلبها تؤنبها على تصرفها المتهور، فنظرًا للقرار المفاجئ بالرحيل، لم تضع “دليلة” في الحسبان حاجة والدتها لدوائها الذي تتناوله بانتظامٍ، وأغفلت عن ذلك الأمر الهام، مما أدى إلى تعرضها لذلك الوضع الخطير. عادت من شرودها اللحظي على صوت الطبيب القائل:
-هي محطوطة دلوقت تحت الملاحظة، وأول ما تفوق هنسمحلكم بالزيارة.
بينما سألته “إيمان” بنبرة لهفى:
-يعني هتقدر تخرج من هنا؟
نظر ناحيتها موصيًا:
-بأمر الله، بس لازم نراعي سنها، وعدم تعرضها للإجهاد، وقبل ده كله انتظامها في مواعيد الدواء، وخصوصًا إن ده مرض مزمن.
ردت عليه في طاعة:
-حاضر يا دكتور، هعمل كل اللي حضرتك تقول عليه.
لينهي معهما الكلام قائلًا بنبرة رسمية:
-ألف سلامة على الست الوالدة، عن إذنكم.
أفسحتا المجال له ليمر، لتردد “إيمان” في تنهيدة ارتياحٍ:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب.
فيما ارتمت “دليلة” على المقعد مجددًا ولسانها يلهج بترديد عبارات الشكر والثناء للمولى عز وجل لأنه –سبحانه وتعالى- منَّ عليها بنعمة الشفاء.
………………………………………
من ناحية أخرى، انتهى “غيث” من سداد المستحقات المادية، وإكمال الإجراءات المطلوبة لضمان تلقيها الرعاية الطبية الملائمة.
مال عليه رفيقه “وهبة” الذي لم يفارقه ليخاطبه في صوتٍ شبه خافت:
-كيف أحوالك يا كبيرنا؟ إنت كمان جايم من تعب واعر، ومحتاج ترتاح.
رد عليه وهو يسير معه عائدًا إلى صالة انتظار أهل المرضى:
-نطمنُ بس على أهل جماعتي، وربك يسهلها.
أضاف “وهبة” في شيء من الشهامة والمروءة:
-أني موجود لو محتاج أيتها حاجة، مش هتنجل من إهنه إلا لما تؤمرني بده.
ربت على كتفه في استحسانٍ مرددًا:
-أد الجول.
عندما وصل الاثنان إلى وجهتهما، ابتعد “وهبة” قليلًا مجريًا بعض المكالمات الخاصة بأعماله، بينما تحرك “غيث” نحو المقعد المعدني ليجلس بجوار زوجته، فنهضت “إيمان” قائلة بعد تنهيدة سريعة:
-هروح الحمام وراجعة.
سألتها “دليلة” وهي تكفكف بقايا دمعها العالق بأهدابها بمنديلها الورقي:
-أجي معاكي؟
هزت رأسها رافضة بلطفٍ:
-لأ يا حبيبتي، ده هناك في آخر الطرقة.
أرادت بذهابها أن تمنح قدرًا من الخصوصية للزوجين من أجل الحديث معًا، وربما المعاتبة إن تطلب الأمر ذلك، ودون أن تكون طرفًا حاضرًا في حوارهما الخاص.
بقي “غيث” صامتًا، مراقبًا لزوجته، ولم يبادر بالكلام، ليجدها تقول من تلقاء نفسها، كأنما تلقي باللوم على حالها:
-أنا تاعبة كل اللي حواليا.
ضيقت نظرته نحوها متسائلًا في استغرابٍ:
-ليه بتجولي إكده؟
كان ردها محبطًا ويائسًا بدرجةٍ كبيرة:
-محدش عرفني إلا وسببتله الأذى، يا ريت ربنا ياخدني علشان الكل يرتاح.
هتف في وجلٍ:
-بعد الشر عنِك، ماتجوليش إكده، الأعمار بيد الله…
ثم مد يده ليمسك برسغها قائلًا، وقد اشتدت أصابعه إلى حدٍ ما حول معصمها:
-وإياكي تجيبي سيرة الموت واصل…
نظرت إلى موضع أصابعه فأرخاهم، وتابع وهو يحرر يدها:
-صحيح لكل أجل كتاب، بس ربنا أمرنا طول ما فينا النفس نِكِدوا ونتعبوا، ونعمروا الأرض.
استعادت يدها منه، وعقبت عليه في حزنٍ واضح:
-مش عايزة أتوجع تاني ولا أوجع حد معايا.
قال في شيءٍ من الاستعتابٍ وقد بدت نبرته شبه منزعجة:
-وأني مش أي حد، أني جوزك، يعني إنتي ملزمة مني، مش حد غريب عنك.
عادت لتكرر على مسامعه ما أوغر صدره، وجعل قلبه ينقبض:
-أيوه جوزي، بس على الورق، وده وضع مؤقت، مسيره ينتهي في يوم.
رغم أن نبرته لم ترتفع، إلا أن صوته كان معبرًا عن مدى استيائه من كلماتها السخيفة:
-رجعنا تاني للكلام الماسخ اللي مامنوش فايدة عاد.
لئلا يزيد من توتر الأجواء بينهما، تأوه بصوتٍ شبه مسموع، ليوحي بتألمه، فيصرف ذهنها عن التفكير بتشاؤم، وفي نفس الوقت ينهي الجدال بينهما في هذه النقطة المحسومة مسبقًا.
انتفضت في تخوفٍ حقيقي عندما رأته يتحسس موضع إصابته، وسألته في لهفةٍ:
-مالك؟ حاسس بحاجة تعباك؟
أطبق على جفنيه ليمعن في إتقان دوره، وقال وهو يكز على أسنانه، ليوحي لها بأنه يقاوم وخزات الألم:
-الجرح شادد عليا هبابة.
هبت واقفة على قدميها تسأله:
-أناديلك دكتور يشوفك؟
فتح عينيه قائلًا:
-مالوش لازمة.
احتجت على رفضه قائلة بإصرارٍ:
-لأ إزاي، ده ممكن يحصلك مضاعفات لو طنشنا.
وانطلقت تبحث عن ممرضة بالجوار لتسألها في اهتمامٍ وهي تشير بيدها نحوه:
-لو سمحتي عايزة دكتور يشوف جوزي لأحسن تعبان شوية.
نظرت إليه قائلة:
-حاضر، هاتيه وتعالوا ورايا.
عادت إليه “دليلة” لتستحثه على النهوض والذهاب معها، فاعترض بتذمرٍ:
-مامنهاش لازمة الخايلة دي عاد.
أصرت عليه بتصميمٍ:
-علشان نطمن.
استسلم أمام إلحاحها، ونهض بحذرٍ مستشعرًا هذه المرة بآلامٍ موجعة تحــز في جانب كتفه، تسمر في مكانه للحظةٍ حتى يتخطى ذلك الشعور، فتوهمت “دليلة” أنه يعاني من الدوار، لذا اقترحت عليه:
-اسند عليا لو مش قادر تمشي.
وكأنها منحته فرصة ذهبية للاقتراب منها، والتنعم بشيءٍ من جنتها التي يتوق لدخولها، فقال وهو يدعي الإعياءٍ:
-إيوه، أني تعبان.
هتفت تعاتبه في تبرمٍ:
-ما أنا قولتلك من الأول، وإنت كنت عايز تطنش.
لم يصغِ لحرفٍ مما تفوه به، كان مشغول البال بشأن آخر، حيث راح يفرد ذراعه على طول كتفيها، لتظن مجازًا أنها تسنده؛ لكن في حقيقة الأمر كان يحتويها بضمها إلى ملاذه الآمن.
…………………………………
رافقتهما الممرضة إلى غرفة للكشف، وطلبت منهما الدخول إليها، ثم أشارت نحو السرير الطبي الموجود في الزاوية، ووجهت حديثها إلى “دليلة” في لهجةٍ شبه آمرة:
-خليه يخلع خلجاته، ويفرد جتته على السرير، والدكتور عيجيه كمان خمس دجايق.
أومأت برأسها قائلة:
-ماشي.
استراح “غيث” على طرف الفراش بعدما أبعد ذراعه عن كتفيها، لتسأله في شيءٍ من التردد:
-هتعرف تقلع لواحدك ولا أساعدك؟
فرصة أخرى واتته دون أدنى عناء للتودد إليها تحت ستار التعب، فاستغلها تمام الاستغلال قائلًا بصوتٍ واهن:
-مش جادر أحرك دراعي.
دنت منه مرة ثانية، وقالت وهي تمسك بكم جلبابه المتسع:
-طب عنك.
وأخذت تستل ذراعه برفقٍ منه، فشعر بها في أحضانه، وإن لم تضمه فعليًا مثل تلك المرة السابقة التي فاجأته بها عندما التقى بها بداخل عربة القطار، يا ليتها تفعل ذلك مجددًا! شرد في خيالاته الحالمة، فأحست بانفصاله ذهنيًا عنها، لتسأله في توجسٍ:
-لو وجعتك قولي، ماشي؟
استفاق من سرحانه على صوتها الرقيق، فقال:
-طيب.
التفتت بوجهها ناحيته، فناظرته عن قربٍ شديد، وقتئذ التقت الأعين العاشقة، بالأعين الخجلة، في لقاء تحده عواصف التوق والشوق والاشتياق، راحت القلوب تدق بكل قوتها، تنادي بأن يسمع طرفاها صوت الحب الساحر ويستسلم لقواه العجيبة، آه لو استمر اللقاء أكثر قليلًا لباح الفؤاد بخبيئته! إلا أنها بددت حالة الوله تلك بانسلالها بعيدًا عنه، فغامت قسماته، وانتشر عليها ذلك التعبير الواجم، لذا سألته في اندهاشٍ:
-إنت كويس؟
قال بعبوسٍ:
-الحمد لله.
استغربت من تبدل أحواله، ولم تحاول الضغط عليه لمعرفة ما الذي أصابه ليصبح على ذلك القدر من التجهم. أخذت تطوي جلبابه، وتضعه على حافة الفراش وهي لا تزال تخاطبه:
-حاول تفرد ضهرك.
رد في امتنانٍ وهو ينفذ الأمر:
-تعبتك إمعاي.
ابتسمت وهي تعلق عليه:
-متقولش كده.
ليسمع كلاهما طرقات قوية على الباب أعقبها صوت أحدهم القائل:
-السلام عليكم…
ولج الطبيب –ذي العِقد السادس من العمر- إلى الداخل ملقيًا التحية على مريضه الذي يعرفه جيدًا:
-منور المستشفى كلها يا “غيث” بيه.
بادله الأخير التحية متسائلًا في نبرة مهتمة:
-حالضاكتور “مالك”، رجعت ميتى لإهنه؟
استفاض في الرد عليه:
-بقالي شهرين، إنت عارف مقدرش أستغنى عن البلد دي ولا ناسها الطيبين، أخري يدوب كام شهر أتعلم فيهم حاجة جديدة وأرجع تاني أطبقها هنا.
قال “غيث” في حبورٍ:
-أصيل طول عمرك يا ضاكتور.
ارتدى الطبيب “مالك” قفازه الطبي، وبدأ في الفحص الجسدي لمريضه متسائلًا في نبرة غلفها المرح:
-قولي بقى حصلك إيه في غيابي؟
تهرب من الجواب برده المختصر:
-كل خير الحمدلله.
لينتبه إلى وجود إحدى السيدات معه، فاعتذر منها مبتسمًا بوقارٍ:
-لا مؤاخذة، ماشوفتش حضرتك يا هانم.
راح “غيث” يعرفه بها مشيرًا بعينيه إليها:
-دي مَرَتي يا ضاكتور.
بنفس الأسلوب المرح رحب بها بوديةٍ:
-أهلًا وسهلًا بيكي يا هانم.
وأكمل فحصه المدقق لمريضه، ليوجه بعدها سؤاله إليها:
-مزعلين كبير الناحية في إيه بس؟
ظنت أنه جاد في حديثه، فقالت نافية التهمة على الفور، وقد هربت الدماء من وجهها:
-أنا ملحقتش أعمل حاجة أصلًا.
في التو تدخل “غيث” موضحًا وهو يضع بسمة باهتة على محياه:
-ماتنخلعيش إكده، ده بيهزر إمعاكي.
ضحك الطبيب في تسليةٍ، ومازحه بمكرٍ وهو يغمز له بطرف عينه:
-الظاهر الهانم قلبها خفيف، مش مستحملة حاجة عليك، وإنت المفروض تراعي ده، وتاخد بالك من نفسك أكتر من كده.
رد عليه قائلًا:
-ربنا الحافظ.
خيم الصمت الغرفة لعدة لحظاتٍ أكمل فيها الطبيب عمله، قبل أن يخلع قفازه مرددًا:
-شوف يا “غيث” بيه، الجرح ملحقش يلم وحضرتك مطنش كالعادة، فطبيعي إنه يتفتح.
لحظتها توجه ببصره نحو “دليلة” ليقول، وكأنه يعنيها بكلامه:
-ورايا حاجات ماينفعش أفوتها حتى لو فيها موتي.
ردت بتلقائيةٍ، وقد انقبض قلبها:
-بعد الشر.
ليعلق الطبيب مضيفًا في لهجةٍ جادة:
-إن شاء الله ما توصلش لكده…
سكت بعدها لثانيةٍ، ثم أكمل مخاطبًا “دليلة” في شيءٍ من النصيحة الجادة:
-يا هانم جوزك ده محتاج يرتاح، ما يطلعش برا البيت قبل أسبوع على الأقل.
ردت عليه مشيرة بيدها نحو “غيث”، كأنما تخلي مسئوليتها من تصرفاته المندفعة:
-حضرتك قوله، وهو المفروض يعمل بكلامك ده.
ليقول في جديةٍ ممزوجة بالمزاح:
-دي شطارتك معاه يا هانم، مش إنتي مراته؟ يعني تعتبري الحكومة بالمعنى الدارج، وكلامك ليه تأثيره برضوه، ولا أنا غلطان؟
قبل أن تنطق بشيءٍ، اقتحم “وهبة” الغرفة متسائلًا في وجلٍ:
-خير يا كبيرنا؟ حصلك إيه؟ ملاجتكش برا، فجلجت، والممرضة جالتلي إنك إهنه.
أشار له “غيث” وهو يخاطبه:
-تعالى يا “وهبة”، الضاكتور “مالك” بيطمن على الجرح.
فيما تكلم الطبيب وهو يدون بعض الأشياء في وصفته الطبية:
-صاحبك عايز يرتاح، مش هوصيكم عليه.
سار “وهبة” ناحيته هاتفًا:
-أؤمر يا ضاكتور، وأنا رجبتي سدادة.
ناوله الوصفة الدوائية مشددًا:
-في أدوية المفروض تمشي عليها يا “غيث” بيه الأيام الجاية، أنا خلاص كتبتهالك في الروشتة دي، وطبعًا لازم نهتم بالأكل كويس جدًا.
نظر “وهبة” بتعجبٍ إلى الورقة المكتوبة بلغةٍ لا يُجيدها، وتساءل في حيرةٍ:
-والأدوية دي نجيبوها منين يا ضاكتور؟
رد عليه الطبيب وهو يربت على كتفه ليحثه على الذهاب معه:
-من الصيدلية تحت، تعالى أوريهالك.
علق بغير ممانعة:
-ماشي يا ضاكتور.
حينما انصرف كلاهما من الغرفة، تقدمت “دليلة” من “غيث”، وضمت شفتيها معًا لهنيهةٍ قبل أن تستجمع جأشها، وتعترف له في ندمٍ:
-حقك عليا، أنا السبب في تعبك ده.
رسم ابتسامة صغيرة على محياه معلقًا عليها:
-تعبك راحة يا ست البنات…
ثم مد يده ليمسك برسغها، جذبها منه نحوه بشيءٍ من القوة، فشهقت في ذهولٍ من حركته المباغتة تلك، وكادت تسقط في أحضانه، إلا أنها تمالكت نفسها، واستندت بيدها الأخرى على حافة الفراش، ومع ذلك بدت قريبة منه للغاية، تستشعر حرارة أنفاسه المحمومة على بشرة وجهها، طالعته بنظراتٍ متوترة ومرتبكة، فبادلها بأخرى جادة وهو يشدد عليها:
-بس ما تكرريهاش تاني عاد.
افترت شفتاها في مزيدٍ من التلبك، وظلت تحدق فيه بلا كلامٍ، ليتابع وصاياه إليها:
-وإياكي تفارجيني، وإلا أني مش ضامن إيه اللي عيُحصل.
هزت رأسها بالإيجاب كتعبيرٍ عن امتثالها له، فسألها مرة أخرى ليؤكد عليها عدم ممازحته في هذا الشأن تحديدًا:
-اتفجنا؟ ولا حديت عيال؟
ازدردت ريقها، وأجابته بصوتٍ شبه مهتز:
-اتفقنا.
أرخى قبضته عنها لتعتدل في وقفتها، وأضاف باسمًا وفي نبرة موحية، كأنما يستمتع بإرباكها:
-على بركة الله، يا مَرَت الكبير!
…………………………………..
عادة، كانت غالبية نساء البلدة تجتمع في السوق المحلي لابتياع ما يحتجن إليه من الباعة المتكدسين بجوار المسجد الكبير، فاستغلت “نعمة” احتشادهن هناك لتنفذ ما أُمرت به مسبقًا، حيث انتقت مجموعة من النسوة المعروفات بعشقهن للنميمة والقيل والقال، وبتطفلهن على شئون الغير بلا حياء، كن بالفعل ممن ينقلن كل شاردة وواردة بوضع المزيدٍ من الإضافات المثيرة، ولا يندمن على اغتياب هذه، وسب تلك، فهن كالبلاء اللعين الذي يحط بالخراب العاجل على من يقع فريسة لألسنتهن.
تحركت “نعمة” صوبهن، وادعت انشغالها بتنقية الخضراوات، لتقول بشكلٍ عابر، كأنما تتحدث لمن تقف بجوارها:
-دريتي باللي حُصل في جصر البيه “غيث”؟
ردت المرأة بعدم اهتمامٍ وهي تمد يدها بما انتقت من ثمارٍ للبائع ليقوم بوضعها على الميزان ثنائي الكفة:
-إيوه، سِمعت إن حد واد حـــرام طخه في نص الليل.
قالت في استهزاءٍ ساخر:
-لع، أخبارك بايتة وحمضانة.
استشعرت وراء جملتها تلك أخبارًا أخرى مثيرة، فسألتها في فضولٍ:
-هو في جديد ولا إيه؟
عند هذه الجزئية حاذرت في نبرتها، فجعلتها شبه مسموعة لمن حولها:
-إيوه، بيجولوا مَرَتوا الجديدة طفشت، جبل ما يكشف سرها.
التصقت بها المرأة لتسألها بتطفلٍ، وقد سال لعابها للخبر المثير:
-ســر إيه؟
هزت كتفيها رافضة بتمنعٍ لتضمن وصول مغزى ما تفقه إليه ذهنها، بكون الأمر له صلة بالسمعة والشرف إليها:
-لا ياختي مش عجول، دي أعراض ولايا، وأني مش نجالة كلام.
أسلوبها الملتوي في نقل الأخبار الساخنة جعلها تظن بالفعل أن امرأته الجديدة سيئة السمعة، ولا ترتقي لأن تكون زوجته المصون، فهتفت في استنكارٍ:
-هي حصلت لإكده؟ استرها علينا يا رب.
حذرتها “نعمة” بعدما تركت الخضار، كما لو كان لا يعجبها:
-كنك ماسمعتيش حاجة مني.
قوست المرأة حاجبيها هاتفة في احتجاجٍ مستهجن:
-بــاه! دي أعراض ناس!
لتضيف “نعمة” في لؤمٍ، وكأنها تزيد من إشعال الجمر بسكب الوقود عليه:
-ومش أي ناس، دول أسياد البلد!
نجحت ببساطة في أن تسترعي انتباه البقية، فانتقلت واحدة من هؤلاء النسوة إلى المرأة تسألها في تطفلٍ متبجح:
-حُصل إيه؟ البت “نعمة” جالتلك إيه؟
خفضت الأخيرة من نبرتها وهي تهمس لها بتحمسٍ:
-عجولك، بس محدش ياخد خبر بالحديت ده واصل.
التمعت عيناها بخبثٍ وهي ترد:
-سِرك في بير ياخيتي.
وهكذا حققت مطلب سيدتها بنشر الشائعات المشينة عن “دليلة”، لتخوض تلك النساء في عــرضــها بلا حياءٍ، بعدما أصبحت مستباحة للنيل من سمعتها. وقتها غادرت “نعمة” السوق لتعود إلى ربة عملها وتزف إليها ما وصفته بالبشرى السارة ……………………………………..
…………………………………………
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.