رواية فوق جبال الهوان الفصل الخمسون 50 – بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان – الفصل الخمسون

الفصل الخمسون

الفصل الخمسون

الفصل الخمسون

كلمات عفوية أطلقها لسانه مادحًا تلك الحسناء الفاتنة التي ضمها في أحضانه ليحميها من نسمة الهواء العابرة قبل أن تمسها، لتتورد وجنتاها بحمرة مشتعلة ساخنة ومتأثرة بسحر عذوبة حديثه غير الزائف، إلا أن ذلك الشيء المزعج في عقلها ظل يؤرقها وينبهها ويحذرها بشدة ألا تتمادى وتنساق وراء ما يداعب قلبها، لئلا تصبح الأمور أسوأ وأكثر تعقيدًا عند الانفصــال.

تداركت “دليلة” نفسها، واستفاقت من اللحظة الرومانسية الحالمة، لتدفع “غيث” بقبضتيها من صدره، وتتمكن من الابتعاد عنه، لتقول في لجلجة محسوسة في نبرتها:

-شكرًا، أنا كان ممكن أروح فيها.

انتصب في وقفته الشامخة، وخاطبها بغير مزاح رغم كون نبرته هادئة، ودون أن يحيد بنظرته العميقة عنها:

-وأني مش هسمح لحاجة تمسك واصل.

تضاعف إحساسها بالارتباك، وخفضت من بصرها لتتجنب نظرته تلك التي تزيد من زلزلة شعورها، لتقول:

-عمومًا.. أنا كنت جاية أطيب بخاطرك، ومش عايزاك تكون زعلان.

غازلها في عذوبةٍ جعلت نبضات قلبها تتسارع للغاية:

-وحد يكون حداه الجمر ويفضل متنكد إكده؟

حمحمت هاتفة في مزاحٍ لطيف قبل أن تفر هاربة من حصاره الذي يؤثر عليها بشكلٍ غير متوقع

-احم.. أنا هخش جوا، بدل ما يطلع عليا المرادي أسد.

صاح من ورائها مؤكدًا وهو يضع يده على صدره:

-ولو مليون سبع، أني جادر عليهم بعون الله.

توقفت عن المسير لتنظر إليه بنظرة أخيرة ناعسة، وخاطبته باسمة في رقة:

-تصبح على خير.

بادلها البسمة بأخرى أكثر اتساعًا حين رد:

-وإنتي من أهل الخير

شيعها بنظرته المتشوقة إلى أن اختفت بداخل القصر، فقال بعد تنهيدة مطولة معبأة بالآمال والأمنيات:

-ربنا يجرب البعيد، وتكوني في حضني على طول.

أثناء التفافه لمح مصادفة خادمته “سنية” وهي تسترق النظر خلسة نحوهما، فقست تعابيره، وبدا متشككًا من وجودها، لم يدع الأمر يمر، وناداها بصوتٍ مرتفع أفزعها:

-بت يا “سنية”، واجفة عندك إكده ليه؟

ارتجف كامل بدنها، وخرجت من مخبأها لتدنو منه، ثم ردت وهي بالكاد تحاول التماسك أمامه:

-سـ..ست الحاجة بعتاني أشوف إن.. إن كنتو محتاجين حاجة يا سيدي البيه.

زجرها بلهجةٍ صارمة:

-لع، اتخفي جوا.

في التو ركضت لتنفذ أمره بعدما ردت بإذعانٍ كامل:

-حـ… حاضر.

……………………………….

لم يكن من السهل عليها التأقلم على فراقه بعدما تخطت سنوات زواجهما حاجز الثلاثين بمنتصفها تقريبًا، بدا الاعتياد على غيابه مؤلمًا للغاية، فغرقت “سميحة” في أحزانها أكثر، للدرجة التي جعلتها تهمل في الانتباه إلى صحتها. جلس “عادل” إلى جوارها على الأريكة، وناولها كوب المشروب الذي أعده لها قائلًا:

-اشربي يا ماما الليمون ده كويس علشانك.

هزت رأسها رافضة بتمنعٍ:

-ماليش نفس يا ابني…

لتنخرط في نوبة بكاءٍ أخرى وهي تكمل في أسى:

-فراق أبوك قطع بيا، ده احنا عشرة سنين مع بعض.

رد عليها مواسيًا:

-هو في مكان أحسن دلوقت، بس علشان خاطري اشربيه.

على مضضٍ تناول الكوب منه لتبدأ في ارتشاف المشروب ببطءٍ، لينتبه كلاهما إلى صوت قرع الجرس، فتساءلت “سميحة” في استغرابٍ وهي تمسح دموعها المسالة بمنشفةٍ ورقية:

-مين اللي جاي السعادي؟

رد عليها وقد قام من موضع جلوسه:

-خليكي مرتاحة، أنا هشوف مين.

اتجه نحو باب البيت ليفتحه، فتفاجأ بوجود عمه “ناصر” عند عتبته، بادر الأخير ملقيًا التحية:

-سلام عليكم.

تجاوز “عادل” عن دهشته اللحظية من زيارته غير المتوقعة في هذا التوقيت المتأخر، ورد عليه بتهذيبٍ:

-وعليكم السلام، اتفضل يا عمي.

سمح له بالدخول ليعرج إلى الداخل هاتفًا في صوتٍ جاف:

-إزيك يا “سميحة”؟

نهضت لاستقباله قائلة بشيءٍ من التحير والدهشة:

-الحمد لله يا “ناصر”، حصل حاجة؟

أجابها بنفس الأسلوب المتجافي:

-هما كلمتين جاي أقولهم وأمشي.

زادت الحيرة بداخل الأم وابنها، ليسترسل “ناصر” متحدثًا بجمود:

-أعمامك مفوضني إنهم عايزين حقهم الشرعي من شراكتهم مع أبوك.

لن ينكر “عادل” أنه انزعج للغاية من ذلك الأسلوب غير المراعي في مطلبهم، واعترض مبررًا سبب ضيقه:

-أبويا لسه ميت من كام يوم، واحنا مفوقناش من اللي حصله.

ليتفاجأ به يخبره ببرود مستفز، وكأن رابط الــدم قد انقطع بينهما:

-أبوك مات وادفن، والمثل بيقول الحي أبقى من الميت، ودي حقوق ناس…

بدت نبرته متهمة أكثر عندما اتهمه صراحةً:

-إيه هتلهفوا الورث وتاكلوه؟

رد عليه “عادل” مدافعًا:

-حاشا لله، بس يا عمي…

لم يمهله “ناصر” الفرصة لاستكمال حديثه، وحذره بلهجةٍ مالت للتهديد:

-أحسنلك ماتعديناش وترجع الحقوق، بدل ما نجيبها بطريقتنا.

كانت “سميحة” على وشك الاعتراض عليه ومهاجمته لفظيًا، إلا أن “عادل” استوقفها بالإمساك بيدها، فاختتم ضيفهما حديثه:

-أنا قولت اللي عندي، سلام عليكم.

وغادر بعدها لتصيح “سميحة” في استنكارٍ جم:

-شايف أعمامك يا “عادل”؟ هما دول اللي أبوك كان بيطفح الدم سنين عشانهم، اقسم بالله العظيم ما دفعوش جنية في الشركة اللي بيقولوا إنهم شركا فيها…

فاضت عيناها بالدمع الغزير وهي تخبره بما ظنت أنه لا علم له به:

-عمك “ناصر” ده بالذات كان بيجي يعيطله علشان يسلفه، ويسترجاه يسد عنه دينه، فأبوك مخلصوش يفضل طول عمره مديون، وفكر يعمل شركة يجمعهم فيها، واتحمل كل حاجة، وطلعلهم زي دخل شهري من أرباح توكيل البضاعة اللي كان بيجيبها من الصين ويوزعها على المكتبات، هما نسيوا ده كله وافتكروا نفسهم أصحابها بجد؟

كانت لديه خلفية تامة عن كل شيء، فهو من يتولى مسائل استيراد المنتجات وتوريدها، وتوزيع الأرباح لاحقًا على العائلة، فقال بعد زفرة ثقيلة:

-اهدي يا ماما، أنا هحل كل حاجة.

انهارت “سميحة” جالسة على الأريكة صائحة في ألمٍ وحنق:

-حسبي الله ونعم الوكيل، دي أخرت المعروف مع ناس ماتستهلش!

…………………………………..

قدمت لها والدتها يد المساعدة في تغيير ثوب عقد القران لتكمل ارتداء قميصها المنزلي، وتجلس على حافة الفراش تصغي إلى تعليقات شقيقتها الكبرى وكذلك أمها عن اليوم. واصلت “عيشة” الحديث، فأضافت وهي تطوي الثياب غير النظيفة لتضعها معًا تمهيدًا لغسلها في وقتٍ لاحق:

-والله كانت ليلة جميلة وخفيفة…

لتتوجه بالكلام إلى “دليلة” فتخاطبها في رنة من الحزن:

-أبوكي لو كان عايش كان فرح بيكي.

ابتلعت الأخيرة غصة علقت تلقائيًا في حلقها تأثرًا بذكراه التي لا تزال حاضرة في قلبها ووجدانها، وردت:

-الله يرحمه برحمته الواسعة…

لتصبح نبرتها أكثر جدية وهي تخبرهما:

-بس كل ده تمثيل، حدوتة وهتخلص بعد كام يوم.

أيدتها “إيمان” في تعليقها الأخير، وزادت عليها:

-بالظبط، احنا خلاص معانا عنوان الشقة بتاعتنا، ونقدر نطلع من هنا على هناك، ونكمل حياتنا في هدوء.

ليقطع عليهن استرسالهن في الحديث الطرقات المستأذنة على الباب، قبل أن تقوم “فاطمة” بفتحه متسائلة في أدبٍ:

-ممكن أخش؟

في التو استقبلتها “عيشة” ودعتها للدخول قائلة بترحابٍ شديد:

-اتفضلي يا ست الحاجة، ده بيتك ومطرحك واحنا اللي ضيوف هنا.

صححت لها في محبةٍ ولطافة:

-ماتجوليش إكده، احنا بجينا أهل دلوجيت.

لتقترب بعدها من “دليلة” التي نهضت لاستقبالها هي الأخرى، فوجدتها تمد لها يدها برزمة من النقود قائلة:

-خدي يا بتي.

ترددت في أخذها منها، وسألتها في استغرابٍ:

-إيه دول؟

أصرت على وضعها في يدها موضحة:

-نقوط الحاج “زكريا”، هو كان عايز يجيبهم بنفسه، بس اتحرج لتكوني غفيتي.

سرعان ما تبادلت نظرة حائرة مع والدتها قبل أن ترفض هديتها في تحرجٍ:

-مالوش لازمة، أنا أصلًا مش عايزة الفلوس دي كلها ولا …

قاطعتها بشيءٍ من العتاب:

-هتكسفي كبير العيلة؟ ما تفهميها يا ست “عيشة”؟ مش احنا اتحددتا في ده؟

لتتفاجأ بدعم والدتها لحماتها في رغبتها قائلة بلهجة الأم الحازمة:

-خديهم يا “دليلة”.

اعترضت عليها بشيءٍ من الضيق:

-بس يا ماما…

أخبرتها حاسمة الجدال:

-اسمعي الكلام.

اضطرت أن تقبل بالهدية، لتربت “فاطمة” على كتفها في حنانٍ وهي تدعو لها بصدقٍ كبير:

-وعجبال فرحتنا بعوضك يا بتي.

……………………………………

لم تستطع التحرك من فراشها بعدما طال الأذى قدميها جراء التقريع التأديبي الذي نالته من أبيها في وقتٍ سابق، فأصبحت مضطرة للاستلقاء عليه ريثما تتعافى، وبالتالي تعذر عليها رؤية خطتها الدنيئة وهي تنفذ فعليًا خلال مراسم عقد القران. ظلت الأفكار والهواجس تتصارع في رأس “أحلام”، ضجرت من الانتظار الطويل، وبات صبرها معدومًا، فصاحت في خادمتها تسألها:

-مافيش خبر إكده يا بت؟

نظرت الأخيرة إلى شاشة هاتفها المحمول قبل أن ترد وهي تهز رأسها بالنفي:

-لسه يا ست “أحلام”.

عقدت الأخيرة منديل رأسها الأسود، وهمهمت في نبرة مغلولة ساخطة:

-إياكش يكون الحنش جاب أجلها.

علقت “نعمة” مؤمنة عليها:

-يـــا رب يا ستي.

نضب مخزون صبرها، وأمرتها وهي تشير لها بيدها:

-اطلبي البت “سنية” اسأليها، أني مش هفضل إكده جاعدة على ناري.

أظهرت شاشة هاتفها قبالتها وهي تخبرها:

-أني بكلمها أهوو.

في التو اختطفت “أحلام” الهاتف من يدها، ودمدمت في حنقٍ آخذ في التصاعد:

-ردي يا بت المركوب.

بمجرد أن فُتح إرسال الطرف الآخر حتى صاحت بها بلا أي مقدمات:

-جوليلي يا به في جديد؟

عرفت المتصلة من صوتها، وأجابتها في نبرة صوتٍ مدعية بها الحزن:

-نفدت منها بت الرفدي يا ست “أحلام”.

انفلتت منها صرخة عالية منددة، لتلقي بعدها بالهاتف في عصبية على الأرضية وهي تصيح في استنكارٍ غاضبٍ للغاية:

-محــروجة هي واللي جابوها.

جزعت “نعمة” لكون هاتفها قد تعرض للتحطيم، وانحنت لتجمع أجزائه قائلة في تبرمٍ:

-اهدي يا ست “أحلام”…

كانت تعلم أن سيدتها ستعوضها عنه ببديلٍ أفضل، مثل كل مرة تنفعل فيها وتتسبب في خسارتها لأشيائها، حاولت إعادة القطع المنفصلة معًا وهي تكمل تحذيرها:

-بالله عليكي ما تصوتي، لأحسن البيه “راشد” يسمعنا وتبجى ليلة.

تجاهلت توسلها وراحت تلطم تارة على صدغيها، وتارة أخرى على رأسها:

-يا مُرك يا “أحلام”! يا جهرة جلبك يا “أحلام”.

على ما يبدو كان والدها قد عاد من الخارج ويمر في الردهة بجوار غرفتها، سمع من الفرجة المواربة لبابها صوت عويلها، فدفع الكتلة الخشبية بعكازه مقتحمًا المكان وصوته المستفهم يسبقه ليسألها:

-بتندبي ليه يا بت؟

كفكفت دمعها بظهر كفها، والتفتت ناظرة إليه بعينين حادتين وهي تجاوبه كذبًا:

-مافيش يا بوي.

وكأنه يتعمد إغاظتها، وإشعال نيران الغيرة بداخلها، فقال مبتسمًا ابتسامة عريضة:

-أما كانت ليلة حلوة صُح…

رمقها بهذه النظرة الشامتة قبل أن يواصل الكلام:

-كانت نجصاكي.

لم تتحمل استفزازه الصريح لها، وسألته في حنقٍ متعاظم:

-إنت بتكيدني يا بوي؟

بدا غير مبالٍ على الإطلاق بمشاعرها المستثارة، وأومأ برأسه قائلًا:

-إيوه، كان زمان ليلتك أجدع لو كان ولد “فتيح” بخير، بس إنتي وش فَقر.

على الفور اِربد وجهها بحمرة نارية لتصيح مستهجنة:

-بجى إكده يا بوي؟

قبل أن تنفجـــر عصبيتها في وجهه، ضرب بطرف عكازه المدبب الأرضية ينذرها:

-مش عايز أسمع صوت ندب، أني حيلي مهدود وعايز أنام في هدوء.

من ورائه سألته “نعمة”:

-ماعملكش حاجة تاكلها يا سيدي؟

نظر إليها من زاويته قائلًا بعبوسٍ:

-لع، أني شبعان.

ليغادر بعدها الغرفة و”أحلام” تنكوي بحقــدها وغضبها، انتزعت من على رأسها ذلك المنديل القماشي الذي ترتديه، وعبثت في خصلاته ليبدو فوضويًا وهي تهدر في عجزٍ مشوب بالغل:

-آه لو كانت رجلي سليمة، كنت خربتها على دماغها، وخليت ليلتها سودة ومجندلة عليها وعلى اللي جابوها.

كزت على أسنانها بغيظٍ أكبر، لتضيف في تحسرٍ:

-نجول إيه، ما أني زي مابوي جال، فقر!

دار بخلد “نعمة” فكرة ما خبيثة، فطرحتها علنًا لعلها بذلك تساعد سيدتها المكلومة، فبدا سؤالها كما لو كانت تستفهم منها عن مدى معرفتها من عدمه:

-على إكده يا ست “أحلام” البت دي خابرة بجوازة البيه “غيث” الأولانية؟

وكأنها وسوست لها بأسلوبها اللئيم بشيءٍ يمكن أن تستخدمه في إفساد ما بينهما قبل أن ينشأ من الأساس، فهتفت في تحفزٍ وعيناها تلمعان بالشر:

-ولو معندهاش خبر أني هجولها .. بس على طريجتي.

………………………………….

خاصمه النوم وجافاه رغم الإرهــاق الذي نال من كل عظمة في جسده بعد مشقة هذا اليوم، إلا أن مجرد التفكير فيها وهو يضمها، وحضنه يحتويها، جعلت حواسه ومشاعره في أوج يقظتها. لم يعايش “غيث” مثل تلك السعادة من قبل، حتى في زواجه السابق، كان يؤدي دوره المنوط به فقط، متجردًا من أبسط الأحاسيس.

استلقى على ظهره، وحدق في السقف السابح في الظلام مليًا، كم كان يأمل أن تسلم “دليلة” مفتاح قلبها إليه، وتضع ثقتها به، فيمنحها كل شيء يملكه، ارتسمت ابتسامة راجية على ثغره وهو يخاطب نفسه:

-بس لو تحني عليا شوية!

شعر بالضجر من بقائه على تلك الحالة القلقة، فقرر النهوض والصعود إلى السطح ليجلس في الهواء العليل، لعل وعسى ما بقلبه يهدأ.

………………………………….

حينما صعد إلى الأعلى، لم يتوقع وجودها بهنا، حيث كانت غافية على الأرجوحة، مستلقية تحت ضوء القمر، تعبث النسمات الخفيفة بشعرها الذي انساب وتسلل من خلف حجابها. سار “غيث” على أطراف أصابعه وهو يقترب منها، يخشى أن توقظها خطوات قدميه، فتفسد عليه تأمل ملامحها البريئة والاستمتاع بوجوده بقربها الفاتن.

جثا بحذرٍ على ركبته أمام وجهها النائم، وابتسم وهو يجوب بنظرته الممعنة على تفاصيل وجهها، شعر بتلك الوخزة في يده وهي تستجديه لأن يشعر بملمس بشرتها الناعمة على جلد أصابعه، قاوم بأعجوبة ما يعتريه من رغبات، وراح يتأملها في هدوءٍ، حتى وجدها تحرك جفنيها لتفتح عينيها.

انتفضت مذعورة لرؤيته قريبًا منها إلى هذا الحد، فأثناء اندفاعتها المباغتة تلك ضربت برأسها فكه، فتأوه من الألم، وطُرح إلا الخلف، إلا أنه نجح في الحفاظ على اتزانه، ولم يتمدد أرضًا. قفزت “دليلة” من على الأرجوحة لتقف على قدميها، وسألته في نبرة حرجة متحفزة:

-إنت بتعمل إيه هنا؟

قام واقفًا، وخاطبها في هدوءٍ وهو يدس يديه في جيبي جلبابه:

-جاي أشم الهوا، وإنتي طالعة بالليل إهنه ليه؟

تأكدت من ضبط حجاب رأسها المحلول على شعرها، وتهربت من الرد بقولها:

-عادي يعني.

تقدم ناحيتها، ورمقها بهذه النظرة الدافئة، وهو يستعرض فارق الطول بينهما قائلًا:

-وأني كمان عادي.

أولته ظهرها، وسألته في ترددٍ:

-هو أنت كنت قريب مني ليه؟

شاكسها بمزاحه اللطيف، إذ ربما تسقط قناع الجدية الزائف الذي تختبئ خلفه:

-افتكرت في زرزور ماشي عليكي.

استرعى الأمر انتباهها، واستدارت تنظر إليه متسائلة في ريبة:

-قصدك صرصار؟

هز رأسه مؤكدًا:

-إيوه.

اقشعر بدنها لمجرد تخيل تلك الحشرة تتحرك بأقدامها اللزجة على جسدها، فأخذت كالخرقاء تتقافز أمامه تنفض عنها ما ظنت أنه هاجمها، فأخبرها وهو بالكاد يمنع نفسه من الضحك:

-بكفاياكي عاد، أني جتلته.

تنفست الصعداء، واسترسلت معه بعفويةٍ:

-الحمدلله، أنا بترعب منهم، بعد كده هبقى أعمل حسابي أجيب رش معايا لما أطلع هنا.

رد عليها باسمًا:

-متجلجيش عندنا من الرش كتير، وبعدين ما أني مش هسيبك لحالك معاهم، هخلصلك عليهم أول بأول.

ابتسمت في رقة حينما عقبت:

-كويس.

لتسأله بعدها وقد تحركت صوب حافة السور لتقف ملتصقة بها:

-هو أخوك ومراته هيفضلوا موجودين ولا هيمشوا؟

تبعها ليجاورها في وقفتها، وأخبرها:

-إن كان على أمي الحاجة فهي نفسها يجعد على طول إهنه، بس لازمًا يرجع لأجل ما يتابع مصالحنا في البر التاني.

تطلعت إلى الظلام الدامس الذي تتخلله بعض الإضاءات الضعيفة لإنارة الطريق الزراعي الذي تسير عليه المركبات، وتحدثت:

-بصراحة مراته طيبة أوي.

رد عليها بعد تنهيدة نمت عن شيءٍ مزعج:

-ربنا كرمه وعوضه خير، الحمد لله حظه كان أحسن مني.

لحظتها التفتت برأسها إليه لتسأله في فضولٍ:

-اشمعنى؟

صمت للحظةٍ قبل أن يدير وجهه لينظر إليها وهو يمنحها الجواب الصادم:

-جوازتي الأولى مكانتش أحسن حاجة حصلتلي.

بهتت ملامحها من رده الصادم الذي لم تتوقعه، وتلعثم لسانها وهي تتساءل في صدمة ملحوظة:

-هو.. هو إنت.. كنت متجوز قبل كده؟

أكد لها ما أوغر قلبها:

-أيوه.

وكأن لمحة من التعاسة أصابتها، غامت تعبيراتها، وشعرت بشيءٍ ثقيل يجثم على صدرها، باعدت نظرتها المتألمة عنه، وسألته:

-كانت عاملة إزاي؟

لاحظ ما انعكس عليها من استياءٍ، وقال وهو ينظر أمامه:

-حُرمة زي أي حُرمة.

ردت متسائلة بشيء يعطيها المزيد من التفاصيل:

-قصدي يعني شبه مين؟

جاء رده مقتضبًا، وساخرًا بعض الشيء:

-شبه الحريم.

لاحقته بسؤالها التالي:

-حلوة ولا وحشة؟

أتاها رده عاديًا وغير مبالٍ:

-مافرجاش، أهي حُرمة والسلام.

وكأن قدرًا من الألم قد نزل بقلبها، فسألته بصوتٍ جاهدت ألا يبدو متأثرًا:

-وليه طلقتها؟

تردد الجواب بين جنبات نفسه:

-أصلها ماتطقش.

لكن ما سمعته منه كان موجزًا للغاية:

-النصيب.

استحثها فضولها كأنثى، بجانب غيرتها التي اندلعت بداخلها أن تلح عليه مستفسرة:

-مش فاهمة؟!

قال بلهجةٍ صارمة لينهي الحديث عن شأنها:

-مالوش لازمة نحكي عنها، هي راحت لحال سبيلها، الله يبعدها عنا ويكفينا شرها.

كان صادقًا معها في اعترافه، ومع ذلك شعرت بأن جهلها عما يخصه قد أصابها بالضيق، بل إن الغضب قد راح يعتمل في داخلها. لئلا تحرج نفسها أكثر من ذلك خاطبته بتلك الكلمات التي لا يستسيغ على الإطلاق سماعها:

-عمومًا الموضوع مايفرقش معايا، دي حياتك وإنت حر فيها، تتجوز واحدة ولا عشرة، أو حتى تطلقهم كلهم، براحتك يعني.

أحس بما اعتراها من مشاعر مستاءة، ولجوئها لمثل تلك العبارات القاسية فقط لإحزانه، فعمد إلى ممازحتها:

-الشرع جايل أربعة بس، وأني مخالفش شر ربنا!

رفعت حاجبها للأعلى قائلة:

-يا سلام؟

رد مبتسمًا:

-أومال إيه، هما أربعة وبس!

تعاملت مع الأمر بتحيزٍ شخصي، فأخبرته:

-خلاص لما تطلقهم اتجوز غيرهم، الموضوع ما يهمنيش، أنا مجرد ضيفة هنا عندكم، وشوية وكل حاجة ما بينا هتخلص.

لحظتها فقط توقف عن المزاح ليناديها باسمها مجردًا، وبلهجةٍ خشنة جعلتها تخشاه للمرة الأولى:

-“دلـــيلة!

رفع سبابته في وجهها يحذرها بلا لين:

-إياكي تنطجي الكلام المـــاسخ ده عـــاد.

ليُسمع بعد ذلك صوت دوي طلقة غــادرة، فخفق قلبها بذعرٍ قوي، قبل أن يتكرر نفس الصوت المرعب، ليعلن عن وجود أخرى قد نجحت وشقت طريقها في وسط العتمة الحالكة قاصدة إياه على وجه الخصوص، لتصيبه من الخلف، ومع ذلك أسرع “غيث” بجذبها معه بعيدًا عن مصدر الخطر، قبل أن ينطرح أرضًا، ويستلقي على جانبه وهو مضرجٍ في دمـــائه.

صرخت “دليلة” تناديه في فـــزعٍ وخــــوف:

-“غـــــيث”!

……………………………………

بدأ الأمر معه بعدما تناول ذلك القرص الدوائي بألمٍ بسيط، وفي غضون عدة دقائق تحول إلى وخــزات عنيفة لا تُحتمل، فصــرخ عاليًا بشكلٍ جنوني وهو يمسك معدته يعتصرها، مما جعل من كان متواجدًا معه في عنبر الاحتجـــاز يستدعون أحد أفراد التأمين لتفقده على وجه السرعة.

جاء مأمور السجن إلى “زهير”، وألقى نظرة تفقدية عليه، فوجد فمه يزبد ويرغي بطريقة مثيرة للشبهات، وحول فراشه قيء وعصارة معدة، غطى فمه من الرائحة المنفرة، وأصدر أوامره على الفور:

-يتنقل مستشفى السجن حالًا.

حمله أفراد الأمن خارج عنبر الاحتجاز وهو في حالة إعياءٍ شديدة، ليتوجه المأمور بسؤاله التقليدي لمن تواجدوا بصحبته:

-حصله ده من إيه؟

نفى أحد السجناء تورطهم في تعرضه للتسمم شارحًا ما جرى:

-مانعرفش يا باشا، فجأة أعد يصرخ ويقول بطني بتتقطع، ومش قادر، وحالته بقت زي ما شوفت كده.

رد عليه المأمور مشيرًا بسبابته:

-في تحقيق هيتعمل، وهتتعرف الحقيقة.

أكد له السجين بجديةٍ:

-احنا مالناش يد في حواره يا باشا.

مرر المأمور نظراته على الجميع، وأعطاهم أمره الذي لا يرد:

-كله يرجع مكانه.

تحركوا عائدين إلى أسرتهم، وهم يتبادلون همهمات خافتة، فيما ظل المأمور على شكوكه الحائرة بشأن ذلك السجين المريب.

……………………………………

خارج أسوار السجن المرتفعة، وعلى مسافة تبعد عشرات الأمتار، اجتمع عدد من الرجال الملثمين بالأقنعة والأوشحة السوداء معًا، يراجعون فيما بينهم الخطوات الأخيرة لتنفيذ خطة الاقتحام المباغتة. تحدث أحدهم قائلًا وهو يلوح بيده في الهواء:

-أول ما نخش على قوة التأمين، إنت تدوس بنزين على الآخر، وإنت تفتح النـــار عليهم.

ليتوجه بباقي أوامره لمجموعة من رجاله:

-أما إنتو فهتهجموا من الناحية التانية.

استدار برأسه نحو الجهة الأخرى، وتساءل:

-معاكو المــدافع والـ أر بي جي؟

تولى أحدهم الإجابة وأكد له:

-كله تمام يا ريس.

رد مشددًا بغير تساهلٍ:

-مش عايز ولا غلطة فيه، الحوار ده كبير، واحنا عايزين نخلصه.

لينهي حديثه مؤكدًا:

-واللي يتمسك عارف هيتصرف إزاي، مفهوم؟

اتخذوا بعدها وضعية الهجوم، وأكملوا استعدادهم ليأتيهم أمره الأخير وهو يعلق بندقية آلية حديثة الصنع على كتفه:

-يالا يا رجالة، على العربيات!

……………………………………

جاءت ساعة الصفر، واندفعت سيارات الدفع الرباعي على أقصى سرعتها تجاه البوابة الحديدية الرئيسية للسجن العمومي تريد اقتحامه، فتحفزت على الفور قوات التأمين المرابطة أمامه لتصد الهجوم المباغت بكل قوةٍ، تلاحم الفريقان، وارتفع دوي إطلاقات الطلــقات النارية، فيما وقف أحدهم واضعًا مدفع الأر بي جي على كتفه، ليطلق منه قــــذيفة مباشرة نحو السور فتسبب في هدم جزءٍ حجري كبير منه، وإحداث الفوضى بأرجائه.

في أقل من لحظاتٍ تحول الوضع إلى شيء جنوني، وانطلقت صافرات الإنذار لتشير إلى حجم الخطر الجسيم الواقع في محيط المكان، واشتد اشتباك الفريقان معًا، ليغدو كذلك من الداخل أيضًا، حيث قام “عباس” بتحفيز رجاله المندسين سرًا في كافة عنابر الحجز لافتعال المشاجرات مع السجناء وإشعال النيران بموادٍ خفية، فأصبحت الأمور على المحك، بل تكاد تخرج عن السيطرة، ليستغل الظروف، ويبحث عن مهربٍ له وسط ذلك الخـــراب والتدمير.

………………………………..

أثناء انقلاب الأوضـــاع بداخل السجن، تحركت سيارات أخرى تجاه المشفى الملحق به، لتتولى مهمة اقتحامه، وتهريب “زهير” بعدما نجح في الذهاب إلى هناك بحجة إبقائه لتلقي العلاج والرعاية اللازمة جراء تعرضه للتسمم.

حاول “زهير” تخليص نفسه من الأغلال الحديدية التي تقيده بالفراش إلا أنه عجز، فنادى على أحد رجاله ليعاونه في التحرر منها بعدما لمحه:

-فك الكلبشات دي أوام.

بالفعل، بحركة احترافية بسيطة تمكن من فك القفل، وتحريره، ليقفز من عليه راكضًا نحو الخارج، إلا أن أحد الممرضين اعترض طريقه من أجل إيقافه، فسدد له لكمة في وجهه أفقدته الوعي على الفور، وخاطب من معه قائلًا، وكأن فكرة جنونية قد قفزت إلى عقله فجــأة خاصة مع تشابه ثياب حبسه احتياطيًا البيضاء بما يرتديه الممرض:

-حطه على السرير مكاني، عايزهم يفتكروا إني أنا اللي مت هنا.

استجاب لأمره، وعاونه على حمله، وألقاه على الفراش، ثم أعاد تقييده بالأصفاد، ليصدر أمره التالي:

-ولع في المكان كله.

لم يكترث بأيٍ من المرضى الصارخين بطلب النجدة، واشتعلت النـــيران لتأتي على كل شيءٍ، وتلتهمه بلا هوادة، ليعدو نحو الحرية التي خطط للحصول عليها، فيتسنى له تحقيق ذلك الأمر الذي لطالما رجا حدوثه .. الزواج من “دليلة” …………………………………. !!!!

………………………………..

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق