رواية فوق جبال الهوان – الفصل التاسع والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
الفصل التاسع والأربعون
كلما انتهت من إعداد طبقٍ مما طهته في المطبخ، أسرعت لوضعه على مائدة السفرة، لتملأها بكل ما لذ وطاب حتى تضمن تناول ابنها المفضل لكل ما يشتهيه بعدما غاب عنها لعدة أيام. دس “راغب” الملعقة في صحن الأرز، ووضعها في جوفه ليبتلعها دفعة واحدة قبل أن يخاطبها في نبرة مادحة:
-نفسك في الأكل حلو أوي يا ماما…
غرز الشوكة في قطعة اللحم، ولاكها باستمتاعٍ وهو يتابع:
-بصراحة بستنى أجازة آخر الأسبوع علشان أكل من إيدك، خلاص معدتي تعبت من كتر الأكل الجاهز.
انتشت لأن مجهودها لم يضع هباءً، وراحت تربت على كتفه بحنوٍ وهي تعلق عليه بنبرة توحي بطمعها:
-كلها حاجة بسيطة وتتجوز وتعيش في يغمة نسايبك إياهم.
ابتسم لها قائلًا:
-هانت.
جلست لتشاركه تناول الطعام، إلا أن صوت قرع الجرس أفسد عليهما وقتهما اللطيف، فتساءل “راغب” وهو قاطب لجبينه:
-ده مين اللي جاي السعادي؟
لوت ثغرها قائلة في تحيرٍ:
-مظنش أبوك، كان قال هيقضي اليوم مع أصحابه في النادي.
لاحقها بسؤالها التالي:
-أومال مين؟
أخبرته وهي تنهض من موضع جلوسها على مضضٍ:
-هروح أشوف، كمل إنت أكلك يا حبيبي.
واصل تناول ما أعدته بتلذذٍ، فيما اتجهت “نجاح” لباب البيت لتفتحه، كعادتها تعاملت بجمودٍ مع زائرها الغريب، فسألته في نبرة شبه محققة::
-أيوه، إنت مين؟
بادلها السؤال بآخر مستفهم:
-ده منزل الأستاذ “راغب ….”؟
رفعت حاجبها للأعلى، وتفرس في وجهه، وما معه من أوراق مؤكدة:
-أه بيته.
انشغل في البداية بتفحص ما معه بتركيزٍ، لينتقل لسؤاله التالي وهو يخرج ورقة ما من بين دفتر أوراقه المرصوصة بانتظامٍ:
-هو موجود؟
كتفت ساعديها أمام صدرها، واتخذت وقفة هجومية وهي تسأله في تحفزٍ:
-ليه؟ مين عايزه؟
استرسل في رده:
-معايا إعلام مسجل الوصول من المحكمة بجلسة رفعاها عليه طليقته…
على الفور استطاعت أن تستشف سبب مجيء هذا الزائر غير المرغوب فيه، فلم تكن المرة الأولى التي يطرق أحد هؤلاء المحضرين بابها، لذا قبل أن يتم جملته للنهاية اختطفت الورقة الرسمية من بين أصابعه قائلة بملامحٍ واجمة للغاية:
-هاته، أنا أمه.
رد عليها ممانعًا:
-بس لازمًا يستلم هو.
قالت في إصرارٍ، وقد ازدادت تعبيراتها وجومًا:
-هو مسافر، مش هنا.
بنبرة رسمية خاطبها بعدما سمح لها بأخذ الورقة:
-طيب امضي مكانه في الدفتر ده.
-ماشي.
أمسكت “نجاح” بالقلم الحبري، ووقعت حيث أشار لها، لتطويها دون أن تنظر إلى فحواها، ثم أغلقت الباب في وجهه بوقاحةٍ، لتعاود أدراجها إلى الداخل وهي تبرطم بسبابٍ مغتاظ.
لاحظ “راغب” ما بدا على وجه والدته من علامات الضيق، فسألها في استرابةٍ:
-في إيه يا ماما؟
أجابته في عبوسٍ وهي تلقي بالورقة بإهمالٍ بداخل أحد الأدراج:
-أهو وجع دماغ من ناحية اللي ما تتسمى…
لم يتفقه ذهنه عمن تتحدث، فسألها مستوضحًا:
-مين؟
نفخت بصوتٍ مسموع قبل أن تزيح ستارة الغموض في طريقة مزدرية ومستحقرة:
-اللي ربنا بلانا بيها، هباب البرك “إيمان”.
تجرع ما تبقى من حساء الشوربة على فمٍ واحد، وسألها بعدما تجشأ:
-إيه جلسة جديدة في المحكمة؟
غمغمت قائلة في حنقٍ:
-هي وراها إلا كده، إياكش تولع مطرح ما هي أعدة…
لتغلف نبرتها المزيد من العدائية وهي تواصل الكلام:
-تبقى تقابلني إن عرفت تاخد حاجة منك…
سرعان ما ارتسمت ابتسامة متهكمة على زاوية فمها وهي تختتم حديثها:
-ده يوم المحكمة بسنة.
ضيق “راغب” عينيه معقبًا بشيءٍ من التحذير:
-بس أنا سمعت إن في طلعوا قرار من الجهات العليا إن قضايا الأسرة تخلص أوام.
ردت باستخفافٍ صريح:
-ده كلام على الفاضي، مافيش حاجة من دي هتحصل…
ثم قامت بتغيير مجرى الحديث وهي تعيد ملء صحنه بالمزيد من قطع اللحم المشوية بقولها:
-وبعدين خلينا في اللي يخصك يا حبيبي، إنت داخل على وضع جديد، عايز كل تركيزك.
أيدها في رأيها مرددًا:
-في دي معاكي حق، وخصوصًا إني لسه مش مرتاح لحمايا ده، شكله مش سهل.
قالت كمن يشجعه:
-وإنت أد عشرة من عينته، يجي هو إيه جمب دماغك دي؟!!
انتشى من ثنائها الدائم عليه، وقال باسمًا:
-أكتر واحدة مدياني وضعي في البلد دي!
تبدل عبوسها لابتسامةٍ عريضة، وأضافت وهي تتأهب لتناول طعامها هي الأخرى:
-هو أنا عندي أغلى منك؟ ده إنت الحِيلة!
…………………………………………
ازدانت البلدة عن بكرة أبيها وأضيئت بعناقيد الإنارة البيضاء، فبات ليلها الحالك كالنهار الساطع، تتلألأ فيه الزينة، وتصدح فيه أصوات الأناشيد والابتهالات، كما ازدحم السرادق المقام على مقربة من القصر بغالبية الأهالي وعائلاتهم ليشهدوا جميعًا على مراسم عقد القران.
لم تهدأ الحركة في صحن القصر ولا بهوه على الأخير، فكانت النساء تنتشر في كل مكانٍ، يصفقن، ويطلقن الزغاريد بين الفنية والأخرى، ويتمازحن فيما بينهن، ونظراتهن الفضولية معلقة بالأعلى، حيث كن ينتظرن بلهفةٍ وشوق رؤية العروس التي كانت لا تزال غائبة عنهن.
على الجانب الآخر، جلست “دليلة” على طرف الفراش بعدما ارتدت ثوبها المحتشم زي اللون الكريمي، كانت قد تطلعت في وقتٍ سابق إلى ألبوم صور يحوي بعض التصاميم الخاصة بأثواب الأعراس، حيث أصرت “فاطمة” على أن تبتاع واحدًا لها، فاختارت بعد إلحاحٍ وضغط ما ناسبها، لتأتي المصممة لاحقًا وتضبط مقاسات الثوب ليتلاءم مع حجم جسدها.
تبقى لها فقط أن تضع حجاب رأسها؛ لكنها أرجأت ذلك ريثما تفرغ من وضع لمحاتٍ خفيفة من مساحيق التجميل. قبل أن تبادر “إيمان” بوضع الفرشاة على وجنتها أبعدت يدها، وتحدثت إلى أمها بما يشبه الشكاية:
-أنا قلقانة أوي يا ماما، متوقعتش الزحمة دي كلها…
تطلعت إليها “عيشة” في صمت، بينما استمرت “دليلة” في التعبير عما يزعجها:
-وبعدين احنا المفروض متفقين مافيش حاجة هتتعمل، لا هيصة ولا دوشة، ولا أي حاجة، وشوفي الدنيا عاملة إيه تحت؟
ردت عليها والدتها مبررة بشيءٍ من المنطقية:
-و”غيث” نفذ اتفاقه، ومافيش حاجة اتعملت، بس الظاهر دي عوايد الناس هنا إنها تيجي تبارك وتهني.
ليأتيها تعليقها ساخرًا بعض الشيء:
-وكانوا الأيام اللي فاتت دي بيعملوا إيه؟ بيسخنوا مثلًا؟
لاحظت “إيمان” ما انعكس على وجه شقيقتها من تعابير مستاءة تفسد جمالها، فقالت وهي تبتسم لها:
-اهدي بس يا “دليلة”، الحكاية كام ساعة وهيتفض المولد.
طرقات الباب جعلت ثلاثتهن يتوقفن عن الثرثرة، لتلج “فاطمة” إلى الداخل، فقد كانت تعرج عليهن كل برهةٍ لتتفقد أحوالهن، رأت كيف ظهر الامتعاض على تقاسيمها، وكيف انعقد حاجباها بشكلٍ ملحوظ، فتوجست خيفة من احتمالية حدوث خطب ما ربما أفسد عليها فرحتها، فسألتها على الفور برنة قلق ظاهرة في صوتها:
-خير يا بتي؟ في حاجة حُصلت ضايجتك؟
تولت “إيمان” الرد، فقالت وهي لا تزال تبتسم في رقةٍ:
-هي بس مش بتحب الزحمة.
أخبرتها “فاطمة” بجدية وهي تحدق في وجه “دليلة”:
-دول حبايبنا وأهلنا وناسنا، مافيش حد غريب.
لتنتفض الأخيرة قائمة ومبدية اعتراضها الصريح:
-هو احنا مش كنا متفقين هنعمل حاجة بسيطة؟
أومأت برأسها مؤكدة:
-حُصل.
لتهتف مستنكرة في تبرمٍ:
-أومال ده إيه؟
لم تبدُ “فاطمة” منفعلة بأي حالٍ من ردة فعل العروس المضطربة، بل على العكس سعت إلى تهدئتها، فخاطبتها بلين الكلام:
-مش هنجدروا نمنعوا الناس يفرحوا، دول غلابة وما بيصدجوا يلاجوا حاجة تسعد جلوبهم…
صمتت ولم تعلق على ما فاهت به، لتضيف حماتها في وديةٍ:
-وبعدين يا بتي متجلجيش، وقت ما انعجد الكتاب، كلهم هياخدوا واجبهم ويمشوا، والمأذون جاعد تحت مستني وصول ولدي “سليمان” علشان نفرحوا كلياتنا.
اكتفت بهز رأسها، فواصلت “فاطمة” إخبارها في لطافة:
-بس التوب ما شاء الله حلو جوي عليكي.
أومأت مرة ثانية برأسها، لتوصيها في جديةٍ:
-ماتنسيش تلبسي الكردان عليه.
سألتها في تحيرٍ:
-ليه؟
قالت بلا مزاحٍ:
-عوايدنا يا بتي، ما يصحش العروسة تظهر بأجل من جِيمتها.
لم تفهم سبب إصرارها على الأمر، إلا أن “عيشة” أيدتها في رغبتها تفهمًا لبعض الأعراف والتقاليد التي تتبعها بعض الأماكن فيما يخص مظهر العروس أمام الغير، وطلبت من ابنتها بلهجة الأم الحازمة:
-اسمعي الكلام يا “دليلة”.
رضخت دون جدالٍ:
-طيب.
استحسنت “فاطمة” ردها، وقالت وهي تضمها إلى صدرها لتحتضنها في تِحنانٍ:
-هنستنوكي تحت تطلي علينا يا حبيبة جلبي.
لتتراجع بعدها عنها وتتوجه بحديثها إلى أمها:
-وما تنسيش يا حاجة “عيشة” تقري المعوذتين، وربنا يكفينا شر الحاسدين.
قالت مؤمِّنة عليها:
-أمين يا رب العالمين.
عاودت “دليلة” الجلوس على حافة الفراش، فاقتربت منها “إيمان” وهي تحمل الفرشاة في يدها، لتحذرها الأولى بنبرةٍ جادة:
-مش عايزة ميك آب أوفر يتحط.
تقوست شفتا شقيقتها ببسمةٍ متسلية وهي تخبرها:
-إنتي أصلًا حلوة من غير حاجة.
ثم مدت يدها الأخرى وقرصتها في وجنتها لتلتهب وتشتعل بحمرة ساخنة، فتأوهت من الألم وعاتبتها:
-آه بتعملي إيه؟
ضحكت “إيمان” في استمتاعٍ، وبررت لها تصرفها:
-بلون خدودك طالما مش عايزة تحطي حاجة.
دلكت “دليلة” صدغها مرددة في تبرمٍ:
-إنتي كده بتورميهم.
-دي قرصة خفيفة.
-يا سلام
ظلت كلتاهما تتمازحان بأريحية، لتضجر “عيشة” من مماطلتهما السخيفة، فنهرتهما في جديةٍ:
-يالا يا بنات بلاش دلع.
ردت “إيمان” في طاعةٍ وهي تستعد لاستئناف مهمتها:
-حاضر يا ماما.
…………………………….
في بداية السرادق، وقف “غيث” مرتديًا جلبابه الأسود الفاخر، وإلى جواره أبيه، وعمه، يصافحون ويقبلون كل من جاء للتهنئة وحضور مراسم عقد القران، ازدحم المكان على آخره، ولم يعد هناك موضع قدم لأحدهم، ففي حضور مثل تلك الأفراح بهجة ومَسرة للجميع، حيث يشدو أشهر المبتهلين بالقصائد الرنانة المحفزة، كذلك تكون موائد الطعام عامرة بأشهى المأكولات وأكثرها دسمًا ولحمًا، فتمتلئ البطون، وتُطرب الآذان.
تقدم أحدهم لتحية “غيث” مهنئًا:
-مبروك يا كبير الناحية.
مد يده لمصافحته قبل جذبه ناحيته لضمه:
-الله يبارك فيك.
ابتعد عنه داعيًا:
-عجبال الليلة الكبيرة إن شاء الله.
قال مبتسمًا في وقارٍ:
-يا رب.
فيما دنا “وهبة” من رفيقه العزيز قائلًا:
-المأذون مستني نعجدوا يا واد عمي.
رد عليه وعيناه معلقتان بمدخل القصر:
-لما ياجي “سليمان” خوي.
سأله رفيقه مستفهمًا:
-مش كنتوا جيتوا سوا؟
أوضح له وهو يصافح آخر قد أتى لمشاركته فرحته:
-صمم يفوت على أهل مَرَته الأول جبل ما ياجي حدانا، بجالهم ياما ماشوفهاش ولا طلوا على العيال.
أبدى “وهبة” إعجابه بتصرف شقيقه الذي ينم دومًا عن أخلاقه الدمثة، وقال:
-طول عمره حنين وجلبه طيب، بيراعي الكل، الصغير والكبير.
ليصدح بعدها صوت أحد الخفراء مهللًا في سعادةٍ:
-سيدي “سليمان” جه يا “غيث” بيه.
ومن ورائه ظهر أحدهم يبدو مشابهًا له في ملامحه، وهيئته الجسمانية، إلا أنه أقصر منه في الطول قليلًا، وكان يحمل على ذراعه أصغر أبنائه، تقدم نحوه هاتفًا:
-مبــــروك يا خوي.
احتضنه “غيث” في محبةٍ كبيرة، ورد باسمًا في سعادة مماثلة:
-الله يبارك فيك.
ليتساءل بعدها عن زوجته:
-أومال جماعتك فين؟
أجابه وهو يناوله الصغير ليحمله:
-دخلتهم عند الحريم.
ليقوم بعدها بإلقاء التحية على أبيه وعمه، ومن ورائه طفليه، ليقول “غيث” في حماسٍ:
-على بركة الله نبدأ.
صاح بعدها “زكريًا في صوتٍ أجش صارم مخاطبًا خفرائه المنتشرين من حولهم:
-نادم على المأذون يا واد.
قال “وهدان” في طاعة وهو يركض نحو الزاوية التي يجلس عندها المأذون لاستدعائه لإتمام المراسم:
-ماشي يا كبيرنا.
………………………………..
في تلك الأثناء، كانت “إيمان” قد انتهت من وضع اللمسات الأخيرة على شقيقتها، لتبدو في غاية الجمال والفُتنة. أدمعت عيناها في فرحةٍ حقيقية لرؤيتها كعروس بهية الطلة، وإن كان الأمر مزيفًا؛ لكنها لن تنكر أنها شعرت بالسعادة لمشاركتها أصغر تفاصيل هذا اليوم.
لم تضع “دليلة” حجابًا للرأس بعد، وطرحت على شعرها المعقود على هيئة ذيل حصان وشاحًا مماثلًا للون الثوب، لكونها تعلم أن غالبية الحاضرات بالأسفل من النساء، ومحظور على الرجال الدخول أثناء اجتماعهن، لذلك استجابت للاقتراح بأن تكون على قدر من الأريحية في مثل تلك الجلسة النسائية. طرقة خفيفة على الباب أدارت الأعناق نحوه، لتفتحه إحداهن وتطل منه متسائلة في أدبٍ:
-سلام عليكم، ممكن أدخل؟
استقبلتها “عيشة” قائلة بابتسامة منمقة:
-اتفضلي.
بادرت بتعريف نفسها وهي تبتسم بخجلٍ تاركة باب الغرفة مواربًا خلفها:
-أنا “عبير” مَرت “سليمان” أخو “غيث” الصغير.
بعدما عرفت بهويتها، في التو صارت نبرتها أكثر حرارة في الترحيب بها:
-يا أهلًا وسهلًا بيكي يا بنتي، على طول الحاجة “أم غيث” في سيرتك الطيبة.
قالت في نبرة مالت للدعاء:
-الله يباركلنا في عمرها.
لتتقدم نحو الفراش وترى العروس التي نهضت للترحيب بها، طافت عليها بنظرة متأملة قبل أن تهمهم في حماسٍ:
-ما شاء الله، تبارك الله، إنتي “دليلة” العروسة؟
هزت رأسها مرددة:
-أيوه.
أضافت في نبرة تعبر عن إعجابها الشديد بمظهرها الرائع:
-سبحان من صور وأبدع.
قالت في وداعةٍ كردٍ على مجاملتها اللطيفة:
-تسلمي يا رب.
تفاجأت بها تخبرها بعد ضحكة فرحة:
-ليه حق كبيرنا عجله يطير بيكي، ما هو الجمر ساب مكانه في السما ونزل حدانا.
تحرجت “دليلة” للغاية من هذا الاعتراف غير المتوقع، لتقول “إيمان” في تسليةٍ وقد أبصرت ما انعكس على ملامح شقيقتها من تلبكٍ وارتباك:
-يا سيدي على الكلام.
ثم غمزت لها بطرف عينها وكأنها تناكفها، لتهمس لها الأخيرة محذرة بعبوسٍ مصطنع:
-بطلي يا “إيمي”.
وزعت “عبير” نظراتها بين ثلاثتهن قائلة في شيءٍ من الحرج:
-أني عارفة إني مجصرة معاكو، وكان المفروض أجي أساعد من بدري، بس والله العيال الله يهديهم ما مخليني جادرة أغمض عيني.
ردت عليها “عيشة” في تفهمٍ، وبرحابة صدر:
-ربنا يعينك عليهم ويحفظهوملك.
لتسألها “إيمان” بفضول:
-هما فين صحيح؟
أجابتها وهي تنظر مجددًا إلى العروس الرقيقة:
-مع عمهم الكبير وسط الرجالة.
لتقتحم “سنية” الغرفة هاتفة بنبرة عالية:
-يا ست “عيشة”، الحاجة الكبيرة بتجولكم المأذون جه.
تحولت كافة الأنظار تجاهها، وخاطبتها “عيشة” وهي تشير بيدها:
-احنا نازلين أهوو.
لتقوم “عبير” بتعديل وضعية الوشاح الخفيف على وجه “دليلة” لتحجب ملامحها الجذابة قائلة باهتمامٍ:
-يالا يا عروستنا، داري بس وشك علشان عيون الناس، وربنا يحفظك من كل سوء.
…………………………………
عودة مرة أخرى إلى داخل السرادق، حيث جلس “غيث” عند يمين الطاولة المستطيلة الموضوعة أمام كافة الحاضرين وإلى جواره والده وعمه، فيما استقر المأذون في المنتصف، وعلى يساره تموضع “وهبة” وبعض كبار عائلته، ليستهل المأذون حديثه بالدعاء قبل أن يتساءل بصوتٍ مسموعٍ للجميع:
-مين وكيل العروس؟
أجاب “وهبة” وهو ينظر إليه:
-هي وكلتني.
تساءل بعدها وهو يمرر بصره على كافة الوثائق الرسمية ليتأكد من صحتها:
-فين بطايج الشهود؟
ناوله أحدهم الهويات مرددًا:
-اتفضل.
تطلع إلى صاحبيها، وتابع وهو يحرك رأسه بإيماءاتٍ خفيفة متواترة:
-على بركة الله نبدأ.
…………………………………
بمجرد أن فرغت “دليلة” من التوقيع على وثيقة الزواج حتى انطلقت الزغاريد عاليًا لتشعر وكأنها ستصاب بالصمم من فرط قوتها، إلا أنها لم تعترض على ما يجري احترامًا لما أسمته بالأعراف المتبعة هنا، وفضلت أن تظل مختبئة خلف وشاحها لتتجنب النظرات الفاحصة لها، ليتحول هدوئها الزائف إلى تلبكٍ عظيم حينما هتفت “فاطمة” في بهجةٍ كبيرة:
-الكبير جاي يا حريم يسلم على عروسته.
قامت النساء بضبط أوضاعهن، لتجلسن بوقارٍ وحشمة، فيما غطت مجموعة منهن وجوههن، فهدأت الأجواء فور وصوله، كإعلان صريح عن احترامهن الشديد لشخصه المهيب، لتبادر واحدة منه بتهنئته:
-مبروك يا “غيث” بيه، الله يتمم بخير.
بينما أضافت أخرى وهي تتوارى خلف طرف حجابها:
-عجبال الليلة الكبيرة.
اكتفى بهز رأسه، وعيناه تبحثان بلهفةٍ واشتياق إلى العروس التي اختبأت خلف أجساد النساء، وكأنهن شكلن حاجزًا بشريًا لمنعه من رؤيتها. أقبلت عليه “فاطمة” لتهنئته بسعادة عارمة:
-ألف مبروك يا ولدي، ربنا يفرح جلبك.
انحنى ليقبل كفها أولًا، ثم استقام واقفًا، وقبل أعلى رأسها مرددًا:
-الله يبارك فيكي يامه.
أخذته في أحضانها، وقبلت كتفيه في مزيدٍ من السعادة، لتتراجع عنه هاتفة فيمن حولهما بلهجتها الحازمة المسموعة:
-تعالوا يا حبايب، الوكل جاهز، وخلوا العريس يجعد لحاله مع عروسته شوية.
بغير مجهودٍ نجحت في صرفهن جميعًا، وإخلاء المكان من كل ذلك الزحام الذي حال بينه وبين عروسه، واصطحاب حماته وابنتها الكبرى أيضًا، ليختلي أخيرًا بها.
للحظة ظن أن ذلك لن يحدث أبدًا، خاصة أنه حُرم من رؤيتها لأيامٍ طوال مرت عليه كالدهر. وجدها تجلس على الأريكة، تفرك أصابعها معًا، ويظهر عليها التوتر والربكة، ابتسم لرؤيتها على تلك الحالة الخجلى، فكل ما يصدر منها يسره ويرضيه بشكلٍ لا يمكن وصفه.
تضاعفت فرحته أضعافًا عندما أبصر القلادة التي أهداها لها ترتديها، كانت تليق بها، ولا تستحق أقل منها. لم ينسَ أنه استمر في الضغط على الصائغ الذي تتعامل معه عائلته لصنع واحدة مميزة، لم تضعها أنثى من قبلها، فتكون لها ولأجلها.
ازدادت “دليلة” توترًا مع خطواته التي تقترب منها، شعرت بتلاحق دقات قلبها، بارتفاع صوتها، وكأنها ستصرخ من فرط انفعالها، لم تتوقع أن تصيبها هذه الحالة العجيبة من المشاعر غير المفهومة، إلا أنها لم تمانع معايشتها رغم الهواجس التي كانت تراودها بين الحين والآخر بعدم الانسياق وراء تلك التجربة بكامل جوارحها، فكلاهما سيضطران إلى الافتراق في يومٍ ما.
استفاقت من سرحانها اللحظي على صوته الذي راح يمتدحها:
-بسم الله ما شاء الله.
نهضت من موضع جلوسها لتواجهه، فحادثها في صوتٍ خفيض:
-مبروك.
ردت في خجلٍ متصاعد:
-الله يبارك فيك.
مد يده ليزيح الحجاب الذي يمنعه عن تأمل وجهها، فانبهر أكثر عندما رأى جمالها غير المتكلف، والذي لم تبذل أي عناء في إظهاره، شعرت بحرارة أنفاسه وهو يهمس في تشوقٍ:
-يا بــــوي! ما شاء الله!
كلماته وإن كانت بسيطة إلا أنها عكست تأثيرها عليها، فاصطبغت وجنتاها بحمرة ساخنة، ولم تجرؤ على رفع عينيها والنظر إليه، ليهيم في تأملها بشكلٍ مفرط:
-أني أمي فعلًا كانت دعيالي.
لئلا يستمر في التغزل بها، وإرباكها بأسلوبه السلس في اجتذاب الحديث معها تسلحت “دليلة” بالجدية وخاطبته وهي توليه ظهرها:
-ما تنساس، احنا على اتفقنا..
أرادت تذكيره بالواقع المرير إن كان يتعمد التغاضي عنه، فاستمرت تضيف وهي تتحاشى النظر ناحيته:
-كل ده وضع مؤقت.
تفاجأت به يدور حولها ليكون في مواجهتها مجددًا، قبل أن يخبرها باسمًا بسرورٍ:
-خلينا في دلوجيت، نفرحوا شوية.
ثم أسبل عينيه نحوها، فرأت فيهما ما لا يمكن للقلب أن يشكك في وجوده، إنه العشق المتيم، الوله الذي لطالما حلمت به الفتيات، قاومت ما يحاول إظهاره لها عبر نظراته بالالتفاف للجانب، وتحدثت بصوتٍ جاهد ألا يبدو مرتبكًا فيفضح أمرها:
-صحيح الأمانة بتاعة الريس “وهبة” وصلت، شكرًا على كل حاجة عملتوها علشانا.
مرة أخرى تحرك من موضعه ليغدو في مواجهتها، وحافظ على ثبات ابتسامته عندما عقب:
-ما تجوليش إكده، احنا فداكي يا ست البنات.
ليتفاجأ بها تهم بالمغادرة، فانتفض كالملسوع ليستوقفها متسائلًا في عتابٍ منزعج:
-واه، رايحة فين؟
رأت ذراعه العريض الذي بسطه أمامها ليقطع عليها طريقها، فارتبكت في وقفتها، وأجابته في صوتٍ شبه مهتز وهي تشير بيدها:
-هطلع فوق، الناس مشت.
خفض من ذراعه متابعًا في نبرة تحمل التمني في طياتها:
-مش هتاكلي معاي؟
لم تعرف بماذا تجيبه، فأكمل متصنعًا العبوس:
-ده أني محطتش الزاد في جوفي من الصبح.
وكأن عقلها قد أرهق من عناء مجهود ذلك اليوم الطويل، فلم تستوعب مقصده، فرددت بشكلٍ عفوي:
-إيه؟
ببساطةٍ أخبرها:
-مكالتش يعني.
ردت عليها بسجيتها:
-الأكل كتير ماشاء الله، كل براحتك اللي يعجبك.
زوى ما بين حاجبيه متسائلًا في استغراب:
-وأنا هاكل لحالي إكده؟
لتفاجئه بردها الأعجب:
-أناديلك حد من برا طيب؟
لم يعلم حقًا إن كانت تحاول الهروب من محيطه خجلًا منه، أم أنها لا تستسيغ البقاء بجواره، ومع ذلك ترك ما يحير خلده جانبًا، وطلب منها صراحةٍ، وفي شيءٍ من الرجاء:
-أني عايزك تجعدي معايا شوية، هتكسري بخاطري؟
كانت على وشك رفض مطلبه بتهذيبٍ، استطاع أن يستشف ذلك من تعبير وجهها، فلجأ في التو إلى وسيلة أخرى تستحثها على القبول، بل إنه كان واثقًا من نجاح تأثيرها عليها، فاسترسل في نبرة شبه متهكمة:
-وبعدين لو حد شافك طالعة لحالك عيجولوا مزعلها ودبحلها الجطة من أول يوم.
استفزتها جملته الأخيرة، فتحفزت في وقفتها، وخف ارتباكها للغاية، لتقول في حدةٍ طفيفة:
-إيه دابحلي القطة دي كمان؟
ادعى البراءة قائلًا وهو يرفع كفيه للأعلى:
-هما اللي عيجولوا إكده مش أني!
ليزيد من الضغط عليها بلؤمٍ، أضاف:
-والصراحة دي حاجة تضايج.
في التو قالت بعنادٍ وتحدٍ:
-وأنا مش هسمح حد يقول عني كلمة بالغلط، وأدي أعدة.
لتتجه بعدها إلى الأريكة لتجلس عليها، ومن ورائها يتابعها “غيث” وهو يحاول جاهدًا إخفاء ابتسامته المستمتعة بالأمر.
بعد لحظاتٍ جاءت “سنية” وهي تحمل صينية الطعام، وضعتها على المائدة القصيرة المستديرة أمام العروس، وانصرفت بعدما رأت نظرة “غيث” الصارمة التي تأمرها بلا كلامٍ، ليقوم بالجلوس مجاورًا لها، وقلبه يرقص طربًا من فرط سعادته.
…………………………………….
لاذت “دليلة” بالصمت، وحدقت في أي شيء إلا وجه “غيث” الذي بدا مترددًا هو الآخر في محاولة جرها للحديث معه، ظل على هدوئه المصطنع قائلًا وهو يقتطع جزءًا من لحم الدجاج المشوي الموضوع في الصحن ليُطعمها إياه:
-اتفضلي.
نظرت إلى يده الممدودة إليها قائلة بابتسامةٍ مترددة:
-مش جعانة، خد راحتك في الأكل.
أصر عليها بتصميمٍ:
-هتكسفي يدي؟
اعتقدت “دليلة” في نفسها أنها إن أصرت على الرفض لظن أنها تترفع عنه، وتتأفف منه، والحال على النقيض، فهي تخشى أن تصنع المزيد من الذكريات اللطيفة معه، فيصبح الأمر مؤلمًا للغاية عندما يبلغ منتهاه، وتضطر للانفصال والرحيل بعيدًا. حسمت أمرها وأخذتها منه لتأكلها قائلة بابتسامة مهتزة:
-شكرًا.
قرأ ما يظهر على تعبيراتها من حيرةٍ وتخبط، فسعى لترسيخ علاقتهما بدفعها للاستجابة لما يمليه عليها القلب، فطلب منها باسمًا:
-وأني نفسي أدوق دي من يدك.
اتسعت عيناها على الأخير في ذهولٍ، وراحت تخبره في جزعٍ وهي تشير بيدها نحو أصناف الطعام المختلفة التي بدت بالنسبة لها أكثر تعقيدًا من معادلات الفيزياء:
-بس أنا مابعرفش أعمل الأكلات دي، خبرتي على أدي في المطبخ، ده أنا أفشل واحدة تطبخ.
بالكاد منع نفسه من الضحك على طريقتها الخرقاء في وصف مهارتها المتواضعة في الطهي، وقال موضحًا:
-ومين جال إكده؟ أني عايزك تدوجيني الشوربة، أصل يدي مش نضيفة، وخايف أبهدل خلجاتي.
حملقت فيه لجزء من الثانية في صدمةٍ، لتقول بعدما تداركت ما يرغب فيه:
-تمام حاضر.
التقطت الملعقة بيدها، ووضعتها في حساء الشوربة، وقربتها منه بحذرٍ وهي تخاطبه:
-اتفضل.
شاكستها في مكرٍ:
-باين عليها سخنة جوي، برديها الله يكرمك بدل لساني ما يتلسع.
رمشت بعينيها متسائلة في دهشةٍ:
-أنفخ فيها يعني؟ مش هتقرف؟
قال مؤكدًا بهدوءٍ:
-ماتجوليش إكده، ده إنتي مَرتي.
وانتظر على أحر من الجمر أن تستجيب لمطلبه وتنفذه، فاجأته حينما قربت الملعقة من شفتيها الشهيتين، وبدأت تبث أنفاسها فيها بهدوءٍ، ليثور قلبه ويزأر طامعًا في تذوق حبتي الكرز والاستمتاع بمذاقهما على شفتيه، أرجأ أحلامه مؤقتًا، وبذل كل الجهد ليبدو ثابتًا قبالتها إلى أن مدت الملعقة تجاهه، فمال عليها ليرتشف ما فيها بتلذذٍ وشوق.
زادت ابتسامته اتساعًا، وأخذ يخبرها فيما يشبه الغزل:
-يا بــــوي، مافيش أطعم من إكده.
لتأتي “فاطمة” على حين غرة وتفسد مخططته في قضاء بعض الوقت مع زوجته، فوزعت نظراتها السعيدة بينهما قائلة في ألفةٍ ومحبة:
-ما شاء الله، ربنا يحرسكم من العين.
نظر “غيث” نحوها يحادثها:
-تعالي يامه حدايا.
ردت باسمة وهي تلتصق بـ “دليلة”، لتجبرها على التحرك قليلًا، والاقتراب من ابنها في حركة لئيمة:
-لع، أني هجعد جار عروسة ابني.
لامس جانبها جسده، فاشتعلت الأشواق بداخله، فادعى انشغاله بتناول الطعام، على أمل تنطفئ جمرات التوق المتأججة فيه، فيما تساءلت “فاطمة” في نبرة أمومية:
-ناجصك حاجة يا بتي؟
التفتت أكثر لتنظر إليها عن قرب وهي تخاطبها:
-لأ، الحمد لله كله تمام.
ومع حركتها اللا إرادية تلك، التصقت بجانبه، وكأنها على وشك السقوط في أحضانه إن استدار فقط قليلًا، ويا لها من رغبة يرجو حدوثها فيضمها من ظهرها ويشدها ناحيته ليجلسها فوق حجره! لقد أصبح كمن يجلس على أتون متقد، بل إنه وجد صعوبة في ضبط انفعالاته، وكبح مشاعره الثائرة.
تحدثت “فاطمة” في جدية وهي تناولها حقيبة قماشية صغيرة:
-اتفضلي.
نظرت إلى ما بداخل الحقيقة، فارتسمت علامات الصدمة الجلية على تعبيراتها، وهتفت كمن لدغه عقرب:
-إيه ده؟
أجابتها مبتسمة وكأنه أمر عابر ومعتاد الحدوث:
-نجوطك من الحبايب.
في التو أعادت الحقيبة إليها، وردت رافضة بإصرارٍ:
-أنا ماينفعش أخد الحاجات دي، مش من حقي ده أولًا، ده غير إن جوازنا المفروض إنه صوري، على الورق بس.
لن ينكر “غيث” أنه انزعج من كلامها هذا، فقال في ضيق، وقد انقلبت سِحنته إلى حدٍ كبير:
-حتى لو على الورج، ده عوايد، واحنا ناس نفهموا في الأصول كويس، وعارفين اللي لينا واللي علينا…
التفتت ناظرة إليه، فوجدته يناظرها عن قربٍ بعينين حادتين، فارتاعت من نظرته تلك، خاصة وهو يخبرها:
-وكفاية إن جبلت إنك ماتخديش مهر، بس ربنا عالم إنه دين في رجبتي، وهدهولك.
ظلت على موقفها هاتفة بتصميمٍ:
-على فكرة إنتو مكبرين الموضوع، والله ما في داعي لكل ده، أنا مش عايزة حاجة.
لتنضم إليهم “عيشة”، فكان مجيئها كالنجدة، فخاطبها “غيث” وقد هب واقفًا:
-احضرينا يا حاجة.
انقبض قلبها من طريقته المغايرة لما كان عليه قبل لحظاتٍ، وتساءلت بتوجسٍ:
-في إيه يا “دليلة”؟ حصل حاجة؟
أجابتها بجديةٍ:
-عايزيني أخد نقوط الجواز، وده ما ينفعش.
تفهمت “عيشة” سبب إصرار ابنتها على عدم تلقي أي أموالٍ أو هدايا من العائلة، وبدت تؤيدها إلى حدٍ ما في موقفها الرافض عندما تحدثت:
-أنا شايفة إن حوار النقطة وغيرها سابق لأوانه، يعني الظروف والوضع…
قاطعها “غيث” بحسمٍ وحزم:
-ولا جنية هيرجع منهم، عن إذنكم.
وغادر بعدها وعلامات الاستياء تظهر جلية عليه، لتتساءل “دليلة” في استغرابٍ حائر:
-هو زعل ولا إيه؟
ربتت “فاطمة” على كتفها تستحثها على اللحاق به قائلة بقلقٍ:
-ورا جوزك يا بتي، طيبي بخاطره.
لتتدخل “عيشة” موضحة أسبابها:
-الحاجات دي مافيهاش زعل، واحنا المفروض آ…
لم تدعها تكمل حديثها، وقاطعتها بنبرة جادة:
-خلينا نتحددتوا سوا، وهي تشوف جوزها.
هزت رأسها موافقة، ووجهت كلامها إلى ابنتها:
-معلش يا “دليلة” راضيه، مافيش داعي يكون في زعل على الفاضي.
أطاعتها قائلة وهي تتحرك من موضعها لتذهب في إثره:
-طيب.
……………………………….
قبل أن تخرج إلى فناء القصر الأمامي، تأكدت “دليلة” من لف حجابها حول رأسها، لتغطي عنقها الذي كان ظاهرًا، كان المكان من حولها هادئًا، وخاليًا من البشر، والسبب بالطبع معروف، فالكل مجتمع خارج أسوار القصر في السرادق ليحتفلوا معًا.
تجولت بغير هدى في محيط الفناء متسائلة مع نفسها بتحيرٍ:
-هو راح فين كده؟
وراحت ترفع من نبرة صوتها لتناديه:
-يا عمدة!
تلفتت حولها باحثة عنه وهي لا تزال تتحدث إلى نفسها في نبرة هزلية:
-حتى الغفر مش موجودين، كلهم أكيد بياكلوا في الصوان برا، ودي حاجة تتساب أصلًا.
حاذرت في خطواتها لئلا تتعثر وهي ترتدي حذائها ذي الكعب العالي، واستمرت تنادي:
-يا عمـــدة!
لتتفاجأ به من خلفها يعاتبها:
-في واحدة تجول لجوزها يا عمدة؟
قفزت في ذعرٍ على ظهوره المفاجئ والتفتت تنظر إليه بنظرة لائمة، فتابع بغير ابتسامٍ:
-أني اسمي “غيث”.
ردت عليه تستعتبه:
-على فكرة إنت خضتني.
باعد ناظريه عنها، والتف للجانب ثم رفع وجهه للسماء متسائلًا في تحفزٍ:
-جاية ورايا ليه؟ وإياكي تجولي ماعوزاش النجوط، مش هنتحدتوا في الموضوع ده.
هذه المرة تحركت من موضعها نحوه لتقف في مواجهته، وقالت في تحدٍ:
-ماشي براحتك، أنا هشيلهم أمانة عندي مع الكردان ده، وفي الوقت المناسب هرجعهم.
في تلك الأثناء، نجحت “سنية” في التسلل بحذرٍ تحت أستار الظلام لتتمكن من وضع ذلك الشيء الذي أوصتها “نعمة” بتركه على مقربة من تلك اللعينة بعدما تلقت نفحة لا بأس بها من النقود، استجابة لأمر “أحلام” بالتخلص منها دون أن تثير الشكوك أو الشبهات.
حلت وثاق الكيس القماشي، فتحررت تلك الأفعى السامة مما كان يحتجزها، لتنطلق زحفًا للأمام، وفي اتجاه “دليلة” التي كانت توليها ظهرها، وصوت “سنية” الخافت يهسهس في شرٍ:
-إياكش تلدغها وتجيب أجلها.
اختلست نظرة سريعة نحوها لتتأكد من اقترابه منها قبل أن تخاطب نفسها:
-أما أدارى لأحسن سيدي يشوفني ويجطع خبري.
فيما نظر “غيث” إلى “دليلة” قائلًا بغير تساهل:
-إنتي حرة، اعملي فيهم ما بدالك.
ردت بعنادٍ وهي تشبك ساعديها أمام صدرها:
-أه طبعًا أنا حرة.
لتتفاجأ به وقد قست نظرته وصارت ملامحه جامدة للغاية، خفضت من مرفقيها متسائلة في توترٍ، خاصة بعدما لمحته وهو يستل مســدسه الناري من جيب جلبابه:
-في إيه؟
لوهلةٍ ظنت أن عنادها أتى بنتائج عكسية معه، فتراجعت بتوترٍ خطوة للخلف، وأشارت له بكفيها قائلة في صوتٍ مرتجف:
-إنت شكلك متعصب، مش هنكبر الموضوع على الفاضي.
أشهر فوهته للأعلى، فهوى قلبها في قدميها هلعًا، وسألته بغير تصديق، وهي بالكاد تحاول إظهار شجاعة زائفة أمامه:
-إنت هتعمل إيه؟ ماينفعش تجبرني على حاجة مش عايزاها.
خرج صوته آمرًا:
-ما تتحركيش.
تجمدت في موضعها متسائلة بارتعابٍ:
-هتمــوتني؟!!!
لتخبئ وجهها خلف يديها وهي تحادثه بصوتٍ مال للاختناق، وكأنها على وشك البكاء:
-أنا معملتش حاجة!
تفاجأت به يقبض على معصمها، ويجذبها بغتة منه وبقوته ناحيتها، لترتمي في أحضانه وتلتصق به، وصوته المحذر يجلجل:
-حاسبي.
ليضغط بعدها على الزنـــاد، فتخترق الطلقة رأس تلك الأفعى التي قفزت تأهبًا للدغها غدرًا. صرخت “دليلة” ذعرًا كردة فعل طبيعية للموقف المهول، وضمت “غيث” بغير وعي، فطوقها بذراعه، ليزيد من احتوائه لها، لتهتف في نبرة ذاهلة بعدما عرفت الدافع الحقيقي لاستلاله ســـلاحه:
-إيه ده كمان؟ تعبان؟!!!
ظل يحاوطها رافضًا تركها، وسألها في نبرة ممازحة محاولًا تخفيف أجواء ذلك التوتر الرهيب الذي عايشته:
-أني مش عارف ليه إنتي بالذات دونًا عن مخاليق ربنا الحيوانات بتجي حداكي؟
ردت عليه ساخرة، وبتلقائيةٍ ساحرة:
-مغناطيس، شكلي بيعجبهم الظاهر.
لحظتها فقط طالعها من هذا القرب الخطير قائلًا بهمسٍ عذب، كان متأكدًا من نفاذ تأثيره إلى أكثر حصونها تعقيدًا:
-وإنتي تعجبي السلطان في زمـــانه …………………. !!!
………………………………………
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.