رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع والأربعون 47 – بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان – الفصل السابع والأربعون

الفصل السابع والأربعون

الفصل السابع والأربعون

الفصل السابع والأربعون

قد يبدو الأمر مزاحًا بالنسبة لها، وسيلة للثــأر وإغاظة من تعمدت إهانتها وجرح كبريائها، إلا أن المسألة كانت على النقيض تمامًا معه، فإن كان قبولها قائمًا على تلك الأسباب اللحظية حاليًا، فإنه سيبذل قصارى جهده ليظهر لها مدى صدق مشاعره ناحيتها، لعل وعسى يتمكن من اختراق ثنايا قلبها، والتربع على عرش حبها.

الصرخة المدوية التي نالت من “أحلام” والمصحوبة بسقطة أرضية قوية جعلت كافة الأنظار تتجه إليها، كانت “فاطمة” أول من هرع ناحيتها، انحنت جاثية على ركبتيها، ومدت يديها لترفع جسدها نحوها متسائلة في جزعٍ:

-حصلك إيه يا بتي؟

وراحت تهزها برفقٍ حتى تستفيق من غيبوبتها الفجائية، فيما تلكأ “غيث” في خطاه وهو يسير تجاههما قائلًا بغير مبالاة:

-دلوجت تبجى كويسة يامه، ماتنخرعيش عليها.

رفعت رأسها لتنظر إليه هاتفة في توجسٍ:

-دي كانت بخير من شوي.

مسح “غيث” على صدره متمتمًا بابتسامةٍ صغيرة لم يمانع من ظهورها على محياه:

-معلش مستحملتش الخبر.

قطبت “فاطمة” جبينها متسائلة بتعجبٍ:

-خبر إيه؟

انتقل ببصره نحو “دليلة” التي انضمت إلى والدتها وشقيقتها الكبرى، ليقول في شيءٍ من السرور:

-إن ست البنات وافجت على إننا نكتبُ الكتاب.

ابتهجت أسارير والدته، وقالت في فرحةٍ غير زائفة:

-ما شاء الله، لولا الظروف يا بتي كنت زغرطت.

لتتدخل “عيشة” في الحوار قائلة بلمحةٍ من التجهم، وكأن الحديث عن هذا الشأن يزعجها بعض الشيء:

-مالوش لزوم يا ست الحاجة، احنا مقدرين الوضع كويس.

فيما مالت “إيمان” على شقيقتها تسألها وهي تجذبها من ذراعها لتثير انتباهها:

-إيه الكلام ده يا “دليلة”؟ مش كنا هنمشي من هنا؟

انخفضت نبرتها إلى حدٍ كبير حينما أجابتها بغموضٍ مشوبٍ بالحيرة:

-ده حل مؤقت، لما نكون لوحدنا هفهمك كل حاجة.

لم يهدأ قلبها، ولا خواطرها، واكتفت بالترديد المقتضب:

-ربنا يستر.

لتتوجه “عيشة” بأمرها إلى ابنتيها وهي تشير لكلتيهما بهذه النظرة الصارمة من عينيها:

-اطلعوا فوق.

تولت “إيمان” الرد، وامتثلت في طاعة:

-حاضر يا ماما.

لتغادر الاثنتان وهما تتهامسان بكلامٍ غير مسموعٍ، بينما صاح “غيث” موجهًا أمره للخادمة التي كانت تقف على مسافة قريبة:

-بت يا “سنية”، هاتي فحل بصل أوام، نفوجوا بيه بت عمي.

أومأت برأسها في انصياعٍ، وقبل أن تركض تسمرت في مكانها عندما أتاها أمره:

-استني يا به

فقد لاحظ أن “أحلام” بدأت تتململ في أحضان والدته، وكأن الأخيرة كانت تتحين فرصة رحيل تلك الكارثة التي تلتصق بابن عمها لتستفيق من إغماءتها العجيبة، حركت رأسها للجانبين هاتفة بصوتٍ واهن، ممزوجٍ بالأنين وهي لا تزال مطبقة على جفنيها:

-آه يا نافوخي.

لم يقتنع للحظةٍ بهذه التمثيلية المكشوفة التي تؤديها بسذاجةٍ، سرعان ما التوى ثغره بابتسامة ساخرة وهو يعقب:

-أهي فاجت أهي من غير حاجة.

في حين قامت “فاطمة” بالمسح على وجهها بلطفٍ وهي تسألها في حنانٍ أمومي:

-مالك يا بتي؟

فتحت عينيها على اتساعهما، وثبتت نظرتها اللائمة على وجه ابن عمها قائلة في ألمٍ وحزن:

-مش جادرة يا مَرَت عمي، سمعت خبر عفش جَوي.

من فوره رد عليها “غيث” ليحبس دمها ويغيظها أكثر:

-ربنا مايجيبش حاجة وحشة، ده الفرح منتظرنا كلياتنا!

اِربد وجهها بحمرة حانقة للغاية، جعلته يتأكد أنها كانت تدعي فقدانها للوعي لتفسد عليه سعادته، مثلما اعتادت في الآونة الأخيرة. رماها بنظرة قاسية قبل أن يستدير مخاطبًا حماته المستقبلية:

-بينا نتكلموا بعيد يا ست “عيشة”.

ترددت في الذهاب، وسألته في قلقٍ:

-وبنت عمك؟

قال متهكمًا وهو يستحثها على الانصراف معه:

-دي فيها صحة وعافية عن الكل….

ليمرق بجوار الخادمة ويعطيها أمره الصارم:

-وإنتي يا به خليكي جار الحاجة وبت عمي، جايز يحتاجوا حاجة.

أحنت رأسها على صدرها مرددة:

-حاضر يا بيه.

لتتابعه عينا “أحلام” الناريتين حتى اختفى عن ناظريها، فاعتدل في رقدتها، وصاحت مستنكرة وشاكية:

-شايفة يا مَرَت عمي اللي بيعمله فيا؟ يرضيكي إكده عاد؟

اندهشت للغاية من ردة فعلها، فكيف لها أن تبدو بهذه الصحة والقوة وهي قبل ثوانٍ معدودة كانت لا تقوى على رفع ثقل جسدها، تراجعت عنها، ونهضت من موضعها متسائلة:

-وماله “غيث” بيكي؟

وقفت “أحلام” بدورها، وهدرت في عصبيةٍ:

-سابني وراح يتجوز الغريبة، اللي لا ليها أصل ولا فصل.

لتنصدم برد “فاطمة” البديهي، والداعم لرغبة ابنها الذي كان عازفًا عن مسألة الزواج برمتها:

-الجلب وما يريد يا بتي.

استشاطت “أحلام” غضبًا مما اعتبرته ردًا مستفزًا وغير مراعٍ لمشاعرها، فهاجمتها بلا حياءٍ:

-خلاص بجيتي بتعومي على عومه يا مَرَت عمي؟

نظرت لها الأخيرة شزرًا، وقالت وهي تضبط حجاب رأسها الذي تجعد:

-كنك فوجتي ومعدتش لوجودي جارك عازة…

وقبل أن تنطق بكلمةٍ لترد عليها، أضافت صائحة في خادمتها:

-بت يا “سنية”، خلي حد من الغفر يوصلوا “أحلام” لدارها.

ثم تركتها وغادرت، لتضرب بقدمها الأرض في عصبيةٍ، ولسانها يدمدم:

-حتى إنتي يا مَرَت عمي؟

ما لبث أن أخرجت خصلة من شعرها من أسفل حجابها، لتلفها حول إصبعها وهي تهسهس بتوعدٍ، وعيناها تلمعان بالشر والبغض:

-طب وحياة مجاصيصي دول، ما هتكمل الجوازة!

…………………………………

أدهشتها موافقة شقيقتها على عرض الزواج المفاجئ، وهي التي كانت دومًا تعارض أي شيء لا يتفق مع رغباتها. تولت “عيشة” إيضاح الأسباب والمبررات لابنتها الكبرى، وما دفعها لتشجيعها على المضي قدمًا في هذا الأمر، لتظل “إيمان” على اعتراضها بخوفٍ طبيعي:

-بس يا ماما احنا كده بنورطها!!

رغم ما يبدو عليها من تحيزٍ وانزعاج، إلا أنها تحدثت إليها بهدوءٍ ومنطقية:

-الناس هنا مختلفين عن أي حد، وده أنسب حل لوضعها، وإنتي ما يرضكيش إن يطلع كلام على أختك بالباطل.

هتفت دون تفكيرٍ:

-لأ طبعًا.

أكدت لها بنفس رنة الصوت الهادئة:

-ده حل مؤقت، وبعد كده هنفض الموضوع…

ثم التفتت مخاطبة “دليلة” التي كانت صامتة غالبية الوقت:

-مش كده ولا إيه؟

لحظتها شعرت بغصة غريبة تضرب في صدرها، تداركت نفسها، لترد باقتضابٍ:

-أيوه.

لن تنكر أن هناك شيء ما في أعماقها قد تحرك مناهضًا لما فاهت به، حيث تمنت ألا ينكث بقسمه، ويتخلى عنها عندما تستقر الأمور، فقد استأنست لطريقته المثيرة للاهتمام في محاولة حمايتها دون أن يعاملها بعنفٍ، أو قســوة، أو يجبرها حتى على فعل ما تكره قسرًا.

……………………………………

بداخل أحد المحال الشهيرة المتخصصة في تصميم وبيع المجوهرات الفريدة، وقف “راغب” يتصبب عرقًا وهو يرى ما تنتقيه خطيبته –باعتبار ما سيكون- كهدية من بين تلك المجموعة النادرة لتقديمها في حفل الخطوبة المتكفل به والدها، خشي ألا يكفي ما معه من مال لابتياعها لها، برغم استخدامه لكافة ما حصل عليه جراء بيعه لشقته السابقة.

لفت “فادية” ذلك السوار اللامع حول معصمها، وتساءلت وهي تتأمل أحجاره البراقة:

-إيه رأيك يا دادي؟

قوس “مدحت” فمه في تجهمٍ، وعلق:

-مش بطال.

لتمط شفتيها للحظةٍ قبل أن تعترض في دلالٍ:

-بس

I like it

(عجبني)،

I will take it

(هخده).

تنفس “راغب” الصعداء لأن تكلفة شراء ذلك السوار تعادل قيمة كل ما يملك من مدخرات، إلا أنه لاحظت في نفس الوقت ما انعكس على ملامح رجل الأعمال المخضرم من امتعاضٍ جلي، فاستطرد من تلقاء نفسه مبررًا:

-أنا عارف إنها حاجة ماتلقش بـ “فادية” هانم، بس آ…

قاطعه “مدحت” بصوتٍ مرتفع قبل أن يتم جملته هازئًا منه ومحقرًا من شأنه:

-ولما هي ما تلقش بيها بتجيبها ليه؟

غامت تعابيره على الأخير من إهانته الصريحة أمام الجميع، فما كان من “فادية” إلا أن تدخلت ملطفة الأجواء:

-مافيش داعي تحرجه يا دادي؟ إنت عارف الحاجات دي مش بتفرق معايا.

حفظًا لماء وجهه تحدث “راغب” وهو يشد من طرفي ياقة قميصه، كأنما يضبطها:

-إن شاء الله في المستقبل هجيب الأحسن والأغلي.

لتضيف “فادية” هي الأخرى وهي تتعلق بذراع أبيها، كأنما تمارس دلالها الناعم عليه:

-خلاص يا دادي، مافيش داعي تتضايق،

It’s okay for me

(عادي بالنسبالي).

قال حاسمًا الجدال، ودون ترك أدنى مساحة للمناقشة أو الاعتراض:

-زي ما بتحبي، بس أنا هزود عليها اللي يليق باسم عيلتنا.

ارتسمت ابتسامة مشرقة على ثغرها وهي تقول بغير ممانعة:

sure

(طبعًا).

ورغم ذلك ظل حنق “راغب” يستعر بداخله، فلو كان في منزلة حماه الراحل وتصرف معه بهذا الأسلوب الفظ لنال منه بأسلوبه المتعجرف، وأذاقه من سوط لسانه ما يستحق، إلا أنه يقف اليوم كالمذنب الذليل فقط من أجل أن يحظى بالوجاهة الاجتماعية.

……………………………………

منذ أن انتشر في الأوساط خبر عقد قران كبير عائلة الحاج “زكريا” على تلك المنتسبة –مجازًا- إلى عائلة “وهبة العرباني”، ولم تتوقف التهنئات ولا المباركات، ومع ذلك قام “غيث” بالتشديد على الجميع بعدم المبالغة في الاحتفال مراعاة لمشاعر العائلة التي لا تزال في فترة الحداد على فقيدها “فارس”، وتم الاتفاق على أن يقتصر الاحتفاء بالعروسين على إقامة سرادق يشدو فيه كبار المنشدين بالتواشيح الدينية، وكأنها ليلة يناجي فيها عباد الرحمن ربهم.

فيما غاصت “أحلام” في أحزانها، تنوح وتندب بعويلٍ وشجن كأنما تجلس في مأتم للعزاء، رأى “راشد” حالة ابنته البائسة فور أن عاد من الخارج، رمقها بنظرة غير راضية، فقد كانت تتشح بالسواد من رأسها لأخمص قدميها، وتدق على صدرها تارة، وعلى فخذيها تارة أخرى، اقترب منها ووكزها بطرف عكازه في قدمها هاتفًا في نبرة مستاءة:

-جعدة في عزا ولا إيه يا به؟

كفكفت دمعها، وردت وهي تستند بطرف ذقنها على مرفقها:

-سيبني في حالي يابوي.

جلس في مواجهتها على الأريكة يطالعها بهذه النظرة الناقمة، واستطرد:

-المفروض تكوني مع مَرَت عمك تساعديها في الجصر!

أتاه تعليقها ساخطًا:

-هو اللي حداها جِليل؟!

لوى ثغره تأففًا، وخاطبها وهو يضم كفيه فوق رأس عكازه:

-لولا حظك الفقري كان زمانك عتتجوزي ابن الحاج “فتيح”، بس الواد انصاب في العاركة الأخيرة، وعايزله يجي شهر ولا تانين عجبال ما يجف على حيله.

خفضت من نبرتها وهي تهسهس داعية عليه:

-إلهي ما يجوم واصل.

واستمرت في نواحها المستفز، لينهض والدها من مكانه مكررًا وكزه لها في جانب ذراعها بقبضته التي كورها قبل أن يأمرها بصرامةٍ:

-فزي وروحي لمَرَت عمك ساعديها، عايزة عمك يجول إننا مش راضيين عن الجوازة؟

أجهشت بالبكاء المرير أمامه، وأعادت على مسامعه ما سئم من سماعه:

-أني المفروض اللي أكون مُطرحها يابوي؟ مش أخدم عليها!

ضجر من لغوها الذي لا تكف عن ترديده، ونهرها مهددًا بغير رأفة:

-بـــاه، ما كفاية حديتك الماسخ ده عاد، خلاص جفلنا على السيرة دي، واسمك انعجد على ابن الحاج “فتيح”، ولو خاشمك نطق باسم راجل تاني غيره، أني هجطعهولك!

ولعنها بلفظٍ نابٍ قبل أن يغادر المكان، فبكت أكثر في حرقةٍ وكمد، وهي تكاد لا تصدق أن غيثها يتزوج بأخرى غيرها!

……………………………………

وفقًا للتقاليد والأعراف المتبعة من قِبل عائلته، تعمد “غيث” مغادرة القصر والمكوث لدى شقيقه طوال الفترة التي تسبق عقد القران بحجة إنجاز ما لديه من أعمال؛ لكن الغرض الحقيقي من ابتعاده منع ألسنة السوء من استغلال ظروف إقامته مع عروسه في نفس المكان، لنسج حكايات غير واقعية قد تمس الشرف وتطال من السمعة، وما أسهل انتشار أقاويل الباطل والخوض في الأعراض!

وعلى الرغم من كون الأمر عسيرًا عليه، إلا أنه استحسن البقاء في تلك العزلة الاختيارية، فكيف له أن يقاوم تيار عواطفه إن جرفه الشوق أكثر إليها؟ ومع هذا لم يكف للحظة عن التفكير فيها، يكفيه أن يعيد خياله نسج مشهد ابتسامته الناعمة وهي تمنحه موافقتها أثناء مناكفتها لابنة عمه المزعجة، فهذه هي الإفادة الوحيدة التي حظى بها من وجودها غير المرغوب فيه، أن حفزتها على القبول نكاية بها.

حاول أن يركز ذهنه على أي شيء آخر باستثنائها، ولكن كان يزداد لهفة إليها. غاص في شروده لبعض الوقت حتى تنبه لصوت زوجة شقيقه وهي تسأله في مرحٍ:

-إيه ياخوي، هتفضل حدانا كتير، مش لازمًا تكون ويا عروستك، ترتبوا لفرحكم؟

اعتدل في جلسته المسترخية على المصطبة احترامًا لوجودها، وأجابها موضحًا:

-احنا هنعجدوا الأول بس.

ردت عليه وهي تناوله كوب الشاي بعدما صبته:

-وماله، اعجدوا، وبعديها تاجي الليلة الكبيرة.

ارتشف جزءًا منه ليقول بعدها:

-لما ربنا يأذن…

ثم نظر إليها مضيفًا في شيءٍ من المزاح:

-كنك زهجتي مني يا مَرت خوي! جولي وأني أفوت الدار.

ظنت “عبير” أنه جاد في قوله، ففزعت ملامحها، وأخبرته وهي تلطم على صدرها توجسًا:

-ينجطع لساني جَبل ما أنطجها، ده إن ماشليتكش الأرض أشيلك فوج راسي يا خوي.

ابتسم في حبورٍ، وقال:

-أصيلة يا “أم البنين”.

كانت تسعد للغاية من ترديده لذلك اللقب المحبب إلى قلبها، فقد منَّ عليها المولى عز وجل بثلاثة من الأبناء الذكور، جاءوا تباعًا، وهم على نفس القدر من التفضيل والمحبة لديه. دعت له بصدقٍ وهي ترفع بصرها للسماء:

-عجبال ربنا ما يكرمك ويرزجك بالخلف الصالح من عروستك…

لتنخفض نبرتها وهي تسأله في شيءٍ من الفضول:

-هي زينة صُح؟

كأنما تجسد طيفها في الفراغ أمامه، فراح يصفها باسمًا:

-كيف البدر في ليلة التمام.

لم تره “عبير” هكذا من قبل، فاسترعى ذلك اهتمامها، وتوالت أسئلتها عليه:

-وعرفتها كيف؟

تحرج من التطرق إلى شأن يخصه، وإن كان يشعر بالراحة في الحديث عمن هواها القلب والعقل، فقال محافظًا على بسمته الصغيرة:

-النصيب جابها لحد عندي.

كانت تفهم طبيعة شخصيته المحافظة، لذلك لم تضغط عليه كثيرًا، واكتفت بالدعاء له:

-ربنا يبختهالك بالخير.

لتخرج من صدره تنهيدة راجية وهو يتمتم في خفوت:

-يا رب.

…………………………………….

ما بين إجراءات روتينية سقيمة ومعقدة، ووساطات مُلحة هنا وهناك، حاول “عادل” بذل أقصى ما يستطيع لتوفير سبل العلاج المناسبة لوضع أبيه خاصة بعدما تدهورت حالته الصحية في الأيام الأخيرة، وحاجته للتدخل الجراحي الفوري لإنقاذه.

جلس مرهقًا في صالة الانتظار، فأتت إليه “سميحة” تسأله في توترٍ:

-مافيش جديد لسه؟

رد وهو يضع يده على منحنى عنقه ليدلكه:

-الحمدلله لاقيت متبرعين بالـدم، واسم بابا نزل في جدول عمليات الأسبوع ده.

تنفست الصعداء، وهمهمت:

-ربنا يسمعنا خير.

ليتفاجأ كلاهما بوجود الطبيب المتابع لحالة أبيه الصحية، وعلى وجهه هذه التكشيرة المريبة، على الفور نهض “عادل” من موضعه متسائلًا:

-في حاجة يا دكتور؟

لم يعرف الطبيب كيف يمهد لحديثه؛ لكنه مضطرًا إلى ذلك، فمشيئة الله تنفذ قبل أي شيء، ابتلع ريقه الجاف في حلقه، وتشدق:

-إنتو ناس مؤمنين بالله..

دون الحاجة للمزيد من الإيضاح استطاعت “سميحة” أن تستشف ما يريد قوله، فهتف تسأله في جزعٍ، ودموعها الساخنة تطفر بقوةٍ من عينيها:

-لأ، متقولش، جوزي مات؟

طأطأ الطبيب رأسه مرددًا في نبرة مواسية وهو يمد يده ليربت على كتف “عادل”:

-البقاء والدوام لله عزوجل.

هبط الخبر المؤسف عليه كالصاعقة، فتخشب في موضعه غير مصدقٍ الأمر، فيما ارتفع صوت “سميحة” الباكي فراق زوجها:

-آه يا حبيبي، يا عِشرة العمر، آه!

وكأن عالمه بالكامل قد اهتز دفعة واحدة، وبغير توقع بإعلان وفاته، لم يقوَ “عادل” على الوقوف، وترنح قليلًا، ليسرع بالجلوس على المقعد المعدني، ولسانه يردد في حسرةٍ وألم:

-إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمتك يا رب!

………………………………….

تظاهر بالاستغراق في الاستماع إلى نصائح محاميه الجادة بشأن طبيعة وضعه القانوني طوال فترة بقاء مأمور السجن معهما أثناء زيارته الأسبوعية له، بمجرد أن غادر الأخير لمباشرة عمله بالسجن وتفقد أحوال السجناء، مال عليه وناوله خلسة ذلك القرص الدوائي، فأخفاه “زهير” توًا بداخل جيب سرواله الأبيض، وأصغى إليه وهو يخبره هامسًا:

-الحباية دي مفعولها بيظهر بعد ساعة، فشوف هتاخدها امتى.

سألها مستفهمًا، وبلهجةٍ طغت عليها رنة الاستخفاف:

-ونتيجتها مضمونة؟ ولا هتجيب أجلي وتديني تذكرة للآخرة؟

رد عليه بثقةٍ:

-اطمن، أنا عارف بعمل إيه كويس.

رفع “زهير” يده للأعلى، ومررها على شعره الحليق متابعًا في غموضٍ:

-وأنا مظبط مع “عباس” هيعمل إيه هنا!

ليكمل المحامي قائلًا بنفس الصوت الخافت:

-ووقت ما هتكون في المستشفى يا “زهير” بيه، هنمشي في باقي إجراءات هروبك.

استحسن ذلك التدبير الذي استقر عليه معه معقبًا:

-ماشي الكلام.

حرصًا على حياته، كان بحاجة ماسة للفرار من هذا المحبس اللعين، فالمال وحده لا يضمن بقائه حيًا هنا مهما أنفق واشترى من أتباع، خاصة مع وجود من يضمرون له الشر من قدامى أعدائه ………………………………. !!!

………………………………………

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق