رواية فوق جبال الهوان – الفصل الثامن والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
الفصل الثامن والأربعون
منذ أن بات الجميع يعلم عن مسألة عقد قرانها قبل عدة أيام، والقصر لم يهدأ للحظة، فالنساء تأتي تباعًا، وطوال فترة النهار، لتهنئ وتبلغها تحيات باقي أفراد عائلاتهن، وكأنها على معرفة سابقة بالجميع، ومع ذلك تعاملت بلطافةٍ وتهذيب مع كل من جاء إليها، لتدرك لاحقًا أن تصرف هؤلاء نابع عن احترام الكل العميق للعائلة وخاصة لرجالها الأشداء ذي الصيت الذائع في الأرجاء.
لاحقًا، عندما أصبحت الأجواء إلى حدٍ ما هادئة، صعدت “دليلة” إلى السطح لتجلس بمفردها على الأريكة المريحة، تتطلع بشرودٍ عميق إلى المساحات الخضراء الممتدة على مرمى بصرها، وتفكر فيما آلت إليه أوضاعها خلال الفترة المنصرمة.
كانت مُطاردة، مطرودة، تكافح للبقاء على قيد الحياة، وفي نفس الآن تقـــاتل للابتعاد عن أخطر أنواع البشر، واليوم هي هنا، في أقصى بقعة يمكن لها أن تتخيل وجودها بها، تتنعم بالسكينة والسلام، وسط أناس لم تربطها بهم سوى الألفة والمحبة الخالصة لوجه الله.
رغمًا عنها صار تفكيرها مؤخرًا يدور حوله تحديدًا، لا تدري كيف استحوذ على اهتمامها بهذه الطريقة العجيبة، وكأنه يملك عصا سحرية تمكن بها من فرض حضوره المهيب عليها، وغدا شأنه يهمها، وهي التي لم تكترث يومًا لرأي الجنــس الآخر بها، بل إنها لم تعايش أبدًا هذا القدر الملبك من المشاعر الغريبة المربكة للكيان والوجدان.
لم تتخيل فيما مضى أن تشعر بالضيق لغيابه عنها، فقد رحل للإقامة عند شقيقه –كوضعٍ مؤقت- ريثما يحين موعد عقد القران، لتعلم أنه فعل ذلك تجنبًا للقيل والقال من ذوي النفوس الخبيثة، وكذلك لمنحها الفرصة لتكون على أريحيتها للتحرك في المكان دون أن تشعر أنها مراقبة منه وتحت حصار أنظاره.
لن تنكر أنها افتقدت إلى مشاكستها معه، ومعاندتها المستفزة له، تلك التي كان يقابلها بتعقل ورحابة صدر، ومع ذلك أوغر صدرها هذا الهاجس المزعج باحتمالية تعريضه للخطر إن ارتبط فعليًا بها، وربما فقدانه للأبد مثلما حدث مع “فارس” إن وقع ما تخشاه، وتواجه مع ذلك اللعين “زهير”.
سرعان ما انقلبت سِحنتها، وأصبح داخلها أكثر اضطرابًا وانزعاجًا، فكيف لها أن تتحمل توريطه في مشاكلٍ لا تخصه ربما تفضي في النهاية إلى مقــتله أو تعرضه لإصابة جسيمة؟ وما ذنب عائلته في هذا الأمر أيضًا؟ ألا يحق له أن يستقر ويحظى بزوجة لا تجره إلى حربها الخاصة؟ غامت أفكارها، وانعكس ذلك التعبير الواجم على كامل قسماتها لتبدو متجهمة للغاية.
تحدثت “دليلة” إلى نفسها بصوتٍ شبه مرتفع نسبيًا، كأنما توضح مبرراتها:
-ما هو ده وضع مؤقت، بعد كده هنمشي، ومافيش أي صلة هتربطني بيه.
للغرابة شعرت بغصة في صدرها، فقالت وهي تقاوم رغبة أعجب في البكاء:
-كأنها حدوتة وهتخلص، بلاش أتعشم على الفاضي.
انتشلتها من دوامة أحزانها قبل أن تنخرط فيها حماتها المستقبلية، حيث انضمت إليها لتجلس مجاورة لها وهي تسألها في حنان أمومي:
-جعدة لحالك ليه يا بتي؟
تصنعت الابتسام، فظهرت ابتسامتها باهتة ومهزوزة حين ردت:
-مافيش حاجة.
ظنت “فاطمة” أنها تعاني من الإرهاق بسبب الزيارات المتوالية لأهل البلدة، فقالت كأنما تهون عليها تعبها:
-أني خابرة إن الناس ماعتبطلش تاجي تهني، بس دي عوايدنا، شوية وهنرتاحوا.
في وداعة وألفة علقت:
-ربنا يجعلك بيتكم عامر ومفتوح دايمًا لكل الناس.
ليأتيها تعقيبها لطيفًا مثلها:
-بوجودك فيه وسطنا يا زينة البنات.
ردت مجاملة:
-شكرًا لحضرتك.
في البداية لم تكن “دليلة” قد انتبهت للصندوق الخزفي الذي وضعته “فاطمة” بجوارها جراء شرودها، لتجدها تحركه من موضعه وتنقلها ناحيتها قائلة في شيءٍ من التبرير:
-كان بودي يا بتي أعملك حنة كبيرة، بس علشان ظروف الحداد اللي حداكم، وكمان علشان محدش من الخلق يعيب علينا.
حينها تحدثت “دليلة” بينها وبين نفسها، في صوت لم يخرج أبدًا من جوفها:
-الحكاية كلها تمثيلية أونطة.
تنبهت إليها عندما طلبت منها:
-مدي يدك وخدي هديتك من ولدي.
سألتها وقد وضعت الصندوق الخزفي في حجرها:
-هدية إيه دي؟
أخبرتها فيما يشبه الأمر المشوب بقدرٍ من الرجاء:
-افتحيها، ويا رب تعجبك، ده موصيني أجيبلك حاجة مفتخرة.
فتحت “دليلة” الصندوق بحماسٍ لتتفاجأ بوجود قلادة ضخمة مصنوعة من الذهب الخالص، يكاد حجمها الكبير يغطي كامل صدرها، أظهرتها نصب عينيها مرددة في انبهارٍ تام:
-ما شاء الله.
لقد تذكرت أنها رأت مثيلاتها في المسلسلات التلفزيونية القديمة، ولم تتوقع أن تتلقى واحدة مثلها في حياتها مُطلقًا، كانت بالفعل ثقيلة الوزن، ومغرية لأبعد الحدود. أعادت وضعها بالداخل الصندوق وأغلقته، لتقول معترضة:
-بس ده كتير أوي.
اتسعت ابتسامة “فاطمة” المنشرحة وردت في راحة بعدما تيقنت من حوز الهدية على إعجاب العروس:
-ولا كتير ولا حاجة، دي مش من جيمتك.
لتتفاجأ بـ “دليلة” تعيد الصندوق إليها في إصرار رافض:
-أنا مش هينفع أقبلها.
سرعان ما ساد وجهها تعبيرًا واجمًا وهي تسألها مستنكرة:
-بــه، هتزعليني، وتكسري بخاطر ولدي؟
على الفور نفت موضحة:
-لأ طبعًا، أنا مقدرش أزعل حضرتك بعد كل اللي عملتوه معانا، بس والله ما ينفع أخدها.
لتسألها في مكرٍ، وكأنها تحاول سبر أغوارها واستنباط حقيقة مشاعرها تجاه ابنها البكري:
-ويهون عليكي زعل ولدي؟
توردت وجنتاها خجلًا عندما أتت على سيرته، وقالت وهي تطرق رأسها تحرجًا، متحاشية نظرتها الدافئة التي تغمرها بها:
-أكيد لأ.
تنهدت في ارتياح لكون حدسها كأمٍ أصاب غرضه، وقالت لتشجعها على عدم رفض هدية ابنها:
-وبعدين النبي جِبل الهدية.
عقبت وهي تبتسم في صفاء:
-عليه الصلاة والسلام.
………………………………..
في تلك الأثناء، سارت “أحلام” على أطراف أصابعها بمجرد أن علمت من “سنية” بجلوس الاثنتين معًا في سطح القصر، تسللت بحذرٍ لتتلصص عليهما، وترهف السمع لكل ما تقولاه بأريحية تامة، وهذه الفكرة الشيطانية قد اختمرت كليًا في رأسها، لما لا تسرق أحد مقتنيات “دليلة” وتعطيها لتلك الغجرية لتقوم بممارسة السحر الأسود عليها فتصب عليها كل ما هو ملعون حتى تزهق روحها؟!
بررت لنفسها أن كل شيء مباح طالما أنها ستظفر بما ترغب في حدوثه في نهاية الأمر. ما لبث أن غلت الدماء في عروقها وقد رأت الهدية القيمة التي تلقتها، لم تتمالك نفسها، واقتحمت المكان هاتفة في نبرة تنم عن حقدٍ صريح:
-بــــه! إيه ده كله؟
النظرة الحاسدة التي برزت في مقلتيها أجبرت “فاطمة” على نهرها بشيءٍ من الحزم:
-جولي ما شاء الله يا “أحلام”!
لتعلق “دليلة” هي الأخرى وقد أغلقت الصندوق الخزفي ووضعت يديها عليه لتواريه عن ناظريها:
-ومن شر حاسدٍ إذا حسد.
لم تحد “أحلام” بنظرتها النارية عن غريمتها، وجلست في مواجهتها قائلة بصوتٍ شبه حانق:
-بوي بعتني أساعدك يا مَرَت عمي.
نسمات الهواء التي هبت فجأة، جعلت حجاب رأس “دليلة” المحلول يتطاير ويسقط على كتفيها، ولم تهتم بإعادته فوق رأسها، باعتبارها ترتدي قطعة أخرى من القماش عليها، تلك التي تساعدها في ضبط حجابها الحريري وتحول دون وقوعه. اكتفت بتغطية الصندوق بأكمام عباءتها لتحجب نظرات “أحلام” الحاقدة عنه، بينما رأت “فاطمة” علامات الغيظ جلية على وجه الأخيرة، ومع ذلك حاولت أن تبدو لطيفة معها، لكونها تعلم جيدًا طبيعة تصرفها بهذا الأسلوب المتحيز، واكتفت بقولها:
-فيه الخير.
فيما أثرت “دليلة” عدم الانخراط في أي مشاكل قد تعكر صفو الأجواء مع تلك التي لا تتوانى عن خلق الذرائع لتقول وهي تنهض قائمة دون أن تنتبه لسقوط حجابها من على كتفها، وتكومه على الأريكة:
-هستأذن حضرتك أشوف ماما.
استحسنت “فاطمة” فطنتها، وقالت وهي تبتسم لها:
-خدي راحتك يا بتي…
لتشدد عليها في اهتمامٍ:
-وماتنسيش هدية ولدي.
التفتت متطلعة نحو “أحلام”، كأنما تغيظها، وردت وهي تزيد من ضمها للصندوق الخزفي:
-اطمني، هشيلها في الحفظ والصون.
حينما غادرت السطح، صاحت “أحلام” في كمدٍ وبُغض:
-مش كتير ده يا مَرَت عمي؟
تجاوزت عن المغزى وراء عتابها المتواري، وقالت باسمة وهي تربت على ذراعها:
-عجبال ما نهادوكي نهار جوازك إنتي التانية.
هدرت في سخطٍ، وقد عمَّت قسماتها تكشيرة عظيمة:
-جولي جنازتي!
تفلت قائلة في وجلٍ:
-بعد الشر عنك يا بتي؟ ما تجوليش إكده.
وقعت عينا “أحلام” على الحجاب المتروك، فبدت الفرصة مثالية لها لأخذه خلسة، فانتقلت إلى جوار زوجة عمها، ومالت عليها لتحدثها بصوتٍ خافت، ويدها الأخرى تسحب الحجاب لتكوره وتخفيه بين طيات ملحفتها:
-حجه يا مَرت عمي عتجيبوا صَييتة من مصر؟
أومأت “فاطمة” برأسها مؤكدة:
-إيوه، عمك جال إكده، وخلاص الفِراشة نصبوها الرجالة حدا الجصر، وأهل البلد كلياتهم معزومين.
لتبرطم “أحلام” في نبرة خفيضة وبنقمٍ وحقد أكبر وهي تبصر بعينيها مدى البذخ الواضح والاهتمام المتزايد بليلة عقد القران:
-ده اللي هيعجدوا على الضيق، أومال لو مكانتش وش بومة وفَقر!
لم تتبين “فاطمة” ما فاهت به، فسألها:
-بتجولي إيه يا “أحلام”؟ أني مش سامعة حديتك.
ردت عليها وهي تسحبها من ذراعها لتنهض:
-بجول بينا جوا يا مَرت عمي، لأحسن الشمش سيحت نافوخي.
تنهدت “فاطمة” وهي تتجاوب معها مرددة:
-ماشي يا بتي، وبالمرة نساعدوا البنات تحت، لأحسن الوقت بيفوت جوام.
أخفت “أحلام” الحجاب جيدًا، وتمتمت بنبرة خبيثة، وهذه اللمعة الشيطانية تتراقص في حدقتيها:
-عجبال ما نساعدوا في عزاها!
………………………………………
في سريةٍ تامة، وبعيدًا عن المتلصصين وذوي المصالح المزدوجة، انفرد “زهير” بتابعه الموثوق فيه “عباس” في مكتبة السجن ليتناقش معه حول كيفية تنفيذ خطته القادمة للفرار من السجن، حيث أطلعه على دوره المنوط بفعله في الداخل حينما يصله الخبر بنقله إلى المشفى لإصابته بالتسمم الزائف، وقتها عليه افتعال مشاجرة دامية مع بقية السجناء، لتتصاعد الأمور وتصل إلى حالة من الشغب والفوضى، ولا يهم فيها عدد الضحايا أو الخسائر، فالأمر الأكثر جللًا وأهمية هو إرباك النظام الأمني، وإحداث الدمار بالمنشأة، فيما سيقوم آخرون مدججون بالعدة والعتاد بمحاولة اقتحام المكان من الخارج لزيادة جرعة التوتر والتخريب.
مجددًا سأله “زهير” بعدما راجع معه التفاصيل الدقيقة:
-عرفت هتعمل إيه؟
أومأ برأسه مؤكدًا في شيءٍ من العنجهية:
-اطمن يا ريسنا، هي دي أول مرة، ده احنا ياما ولعنــاها.
شدد عليه بغير ممازحة:
-المرادي غير يا “عباس”.
رفع إبهامه للأعلى قائلًا:
-وأنا جاهز يا كبيرنا.
تقوس شفتاه عن ابتسامة راضية ليردد بعدها وهو يسترخي في جلسته على المقعد الخشبي:
-حلو الكلام.
غاص بعدها محلقًا في بوتقة تطلعاته وآماله التي ينشد حدوثها، ولما لا وقد أصبحت بينه وبين حريته بابًا وهو على وشك اختراقه؟!
…………………………………….
أمسكت بمِبْرَد الأظافر تهذب به أطراف أصابعها في حركة متكررة أثناء جلوسها على الأريكة باسترخاءٍ، راحت “فادية” تهز ساقها المتدلية من على المسند في دلالٍ، لتخاطب والدها باستعتابٍ ممزوج بالتحذير:
-ما تخف عليه يا دادي شوية بدل ما يهرب مننا.
جمع “مدحت” أوراقه التي فرغ من متابعتها بداخل حقيبته الجلدية، وأخبرها دون أن ينظر نحوها:
-أنا لو معملتش كده يا حبيبتي هيشك، وأنا لازم أحسسه أنه حقير وما يسواش…
توقف للحظة عن الكلام ليكور قبضته متابعًا في عزمٍ، وهذه اللمعة الشريرة تبرز في عينيه:
-لحد بس ما أقدر أخليه يسهلي ورق القرض، وساعتها يبقى يدور على اللي ينجده من الحبس.
ما لم يعلمه “راغب” أن اختيار “مدحت” له ليكون ضحيته الجديدة للاحتيال على البنك وذلك عن طريق تسهيل الإجراءات المطلوبة للحصول على قروض مالية ضخمة، يعقبها الهروب خارج البلاد.
وجَّه بعدها الحديث إلى ابنته في لهجةٍ جادة وهو ينظر نحوها:
-وإنتي حرة معاه، حابة تكملي للآخر براحتك، عايزة تخلعي تمام، أنا مجهز كل حاجة، التأشيرات وجوازات السفر.
نفخت في أظافرها قائلة بنعومةٍ:
-بصراحة يا دادي هو عاجبني، الصنف البلدي بتاعه مجربتوش قبل كده.
باعد عينيه عنها قائلًا:
-عمومًا وقت ما تزهقي إنتي عارفة هتعملي إيه.
استمرت في هز ساقها وهي تعقب بإيجازٍ:
-طبعًا
Sure)
).
………………………………..
في ذلك المقهى الشعبي، التقى كلاهما بعد غياب قد طال لفترة من الزمن عند مقدمته يتشاركان معًا الأخبار والهموم. وضع الصبي المسئول عن تلبية طلبات الزبائن كوبي الشاي أمامهما بجانب قدح السكر قبل أن ينصرف ليباشر عمله. سحب “وهبة” نفسًا عميقًا من المبسم الخاص بنارجيلته، ليحرر بعدها الدخان من أنفه على مراحل في دوائر متعاقبة، ليدير بعدها رأسه نحو “غيث” ليكلمه وهو يرميه بهذه النظرة شبه المنزعجة:
-مبارك يا واد عمي، ولو إني عاتب عليك إنك تتجوز جبل ما ناخدوا بتار “فارس”.
في نبرة تبدو مماثلة لتعبيره الصارم والجاد أخبره:
-هيحصل، بس لازمًا أحمي أهله الأول، ومافيش طريجة غير إكده، ولا نسيبوه حريمه لكلاب السكك ينهشوا في عرضهم؟
لئلا يسيء فهم نواياه في رغبته العارمة لتحقيق العدالة والثأر من ذلك الوضيع علق عليه في التو:
-ده احنا نطيروا رجاب اللي يفكر يمسهم، وأني واثق إنك هتصون الأمانة يا واد عمي، وهتجيب حق اللي اتغدر بيه.
اكتفى “غيث” بهز رأسه ليتساءل بعدها بتحفزٍ:
-مافيش خبر عن واد المحـــروق إياه؟
أجابه وهو يضع المبسم على طرف الطاولة الصغيرة:
-لساته مجبوض عليه من الحَكومة…
صارت تقاسيم وجهه مشدودة نسبيًا وهو يتمم باقي حديثه:
-ومافيش سِكة نخشلوا بيها اللومان نجيب أجله من غير ما يد الحَكومة تحط علينا.
علق عليه “غيث” بهذا الوجه القاسي:
-ليه وجته يا “عُرباني”، اصبر.
استشف من طريقته المتحفزة تلك عزمه على الخلاص منه قريبًا، فقال مبديًا استحسانه لعدم تراخيه عن الأمر:
-أد الجول يا واد عمي…
أخرج “وهبة” من جيبه سلسلة مفاتيح تبدو جديدة، طرحها أمامه على السطح الخشبي للطاولة قائلًا في ثمةٍ من الغموض:
-بجولك، خد الأمانة دي وصلها لجماعة “فارس”.
رفع المفاتيح نصب عينيه متسائلًا:
-إيه دول؟
أجابه مسترسلًا في الإيضاح:
-مفاتيح المُطرح بتاعه ودي ورقة بعنوانه، ما هو قبل ما الحق ياخد حقه كان موصيني أظبطلهم مكان يسكنوا فيه قصاد بعض، وكان رايح يوصلهم هناك لولا الأجل سبقه.
وكأن في الأمر شيء أزعجه، خاصة جملته الأخيرة، حيث أضرمت في قلبه –وعلى غير توقعٍ- مشاعر الغيرة، لذا رد بعد زفرة سريعة أراد بها وأد ما يراوده من أحاسيسٍ غير مرغوب فيها:
-الله يرحمه…
ساد الصمت بينهما لبضعة ثوانٍ، ليفكر “غيث” في مسألة ما لفتت انتباهه، دون تأجيل تساءل عما تبادر إلى ذهنه:
-كان عليه دين ولا حاجة؟
وضع “وهبة” يده على عمامته ليضبطها، وقال بغير مبالاةٍ:
-ما تحطش في بالك يا واد عمي، بسيطة.
فيما أصر عليه “غيث” بتصميمٍ:
-والله ما يحصل، لو ليه جنية عندك جولي، وأنا هسد دينه.
احتج عليه بعنادٍ مماثل له:
-ده كان واحد من رجالتي.
فاقه في عِنده مظهرًا المزيد من الإصرار:
-ويعتبر نسيبي دلوجت، يعني اللي يخصه بجى يخصني.
حاول المناص من هذا الأمر بقوله المحايد:
-سيبها على الله يا واد عمي.
ليرد عليه بغير ممازحةٍ:
-إلا الحقوق يا “عُرباني”، شوف كان مديون بكام، وأنا هخلص اللي كان عليه….
ثم رفع إصبعه في وجهه محذرًا بلهجةٍ شديدة:
-ومحدش ياخد خبر واصل من جماعته بحديتنا عن الدين ده.
أومأ برأسه مرددًا في طاعة:
-ماشي كلامك يا واد عمي.
صمت ولم يقل المزيد، لكن هذا الشعور المزعج ظل ملازمًا له، يؤرق تفكيره، وينغص عليه سكينته.
………………………………………
حاربت كثيرًا من أجل الظفر به، ولن تتراجع أو تستسلم مهما كلفها الأمر، لذلك انتهزت “أحلام” فرصة مغادرة والدها للبيت لترسل خادمتها للغجرية لإحضارها. كانت تدور حول نفسها في توترٍ وهي تعتصر كفيها معًا، حينما رأتها مقبلة عليها صرخت في وجهها بنفاد صبرٍ وفي عصبيةٍ جمة:
-كل ده تأخير يا بت المركوب؟
على النقيض بدت “سحر” هادئة للغاية وهي ترد عليها:
-أني جيت أول ما شيعتلي البت “نعمة” يا ست البنات.
جذبتها “أحلام” من يدها نحوها، وأجبرتها على الجلوس عند قدميها فور أن استقرت جالسة على الأريكة، لتتساءل الأخيرة بخبثٍ:
-أؤمري يا غالية!
مالت عليها لتهمس لها في نبرة مغلولة:
-عايزاكي تعملي عمل لواحدة بت حـــرام منغصة عليا عيشتي.
برقت عينا “سحر” بلؤمٍ وهي تسألها:
-أذية بس؟ ولا نعملولها عمل بالضبة والمفتاح؟
أصابتها الحيرة فتساءلت مستفهمة:
-وإيه الفرق؟
هزت كتفيها وهي تخبرها ببساطةٍ:
-الأول سهل يتفك، التاني هيبجى مستحيل.
وكأنها تعرف تحديدًا كيف تثير اهتمامها بكلماتها المنتقاة، رفعت “أحلام” حاجبها للأعلى متسائلة بمزيدٍ من الفضول والانتشاء:
-ليه؟
أصبح صوت “سحر” كالفحيح حين جاوبتها:
-هنحطوه في جتت حد لسه ميت، يدفن معاه، ويجيب خبر اللي مزعلك.
انشغلت كلتاهما في الحديث ولم تنتبها لـ “راشد” الذي عاد لتوه من الخارج بعدما لمح مصادفة تلك الغجرية القميئة وهي تسير نحو الطريق المؤدي إلى بيته، تبعها دون أن تلاحظه، فثارت ثائرته لوطئها منزله الذي حُرم على مثيلاتها من خبثاء البشر. سار بخطوات حثيثة وخفيفة، فتمكن من معرفة ما تدبران له في الخفاء، لحظتها انفجر غاضبًا فيهما، وقد نضح وجهه بحمرة منفعلة:
-إيه اللي أني سامعه ده؟
انتفضت قائمة في فزعٍ على إثر صوته الصادح، وحدقت فيه متمتمة بتلعثمٍ وبارتعابٍ شديد وكأنها رأت شبحًا:
-بوي!
أشار “راشد” بعكازه نحو “سحر” التي هبت واقفة متسائلًا في استحقارٍ صريح:
-بتعمل إيه بنت الأبالسة دي هنا؟
بالطبع جاءت الخادمة “نعمة” تدلدل رأسها في خزيٍ، ورب عملها يوبخها بغلظةٍ:
-مش أني محرم دخولها الدار عندي؟
تلعثمت وهي تحاول اختلاق كذبة سريعة:
-أصل يا سعادت البيه آ….
فيما تدخلت “أحلام” قائلة بخوفٍ ظاهر عليها:
-هفهمك يا بوي.
إلا أنه انهال بعكازه على ظهرها ليؤدبها هادرًا في عصبيةٍ مبررة:
-ومن ميتى لينا في الأعمال يا بت الكلب؟
تأوهت من الألم الشديد، وصرخت منددة:
-بـــوي!
كرر ضربه لها قبل أن يستدير مخاطبًا الغجرية في تهديد والتي هرولت ركضًا نحو الباب هربًا من غضبه الأكيد:
-وإنتي يا ملعونة ملكيش جعدة في البلد، لا إنتي ولا ناسك، ومابجاش الحاج “راشد” إن ما حرمت دخولكم البلد يا ملاعين.
ثم التفت صائحًا في وجه ابنته التي كانت تمد يدها لتدلك موضع الألم:
-بتخرجي عن طوعي يا بت الـ…..؟
تفاجأت به ينهال عليها ضربًا بعكازه مجددًا، فانطرحت على الأريكة صارخة من الوجع الذي عصف ببدنها وهي تعتذر منه لعله يهدأ:
-حجك عليا يابوي، غصب عني.
وقف قبالتها منددًا ومهددًا في نفس الآن:
-ما أني معرفتش أربيكي من الأول، بس عكازي ده اللي هيظبط العوج فيكي.
وراح يكيل لها من الضربات المتلاحقة ما قد يساعد في تهذيبها وإعادة الصواب إلى رأسها، توسلته في أنينٍ وهي تبكي بحـــرقةٍ:
-وه يا بـــوي! بكفياك عاد، هموت تحت يدك.
لم تأخذه بها شفقة أو رأفة، وقال وهو يوكزها أكثر بالطرف المدبب لعكازه:
-يكون أحسن!
كذلك نالت “نعمة” جرعة لا بأس بها من التقريع والتأديب بالعصا لئلا تشارك سيدتها في أفعالها النكراء، ليصدر بعدها “راشد” أمره غير المردود وسط بكائها المرير والمتحسر:
-رجلك مش هتخطي برا الدار واصــل إلا على بيت جوزك، يا الجَبر ……………………………. !!!
………………………………………
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.