رواية فوق جبال الهوان – الفصل السادس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
الفصل السادس والأربعون
تلك النظرة القوية المفعمة بشيءٍ لم تتبين ماهيته بعد، والتي أرسلها إليها من عينيه الثاقبتين، جعلتها تشعر وكأنها محاصرة تمامًا من قِبله، لا تجرؤ على معارضته، أو حتى الهروب من محيطه، وكأن مقاومتها تهتز مع وجوده الملبك لكيانها.
ابتلعت “دليلة” ريقها، وهمست في صوتٍ خرج مهتزًا، رغم محاولتها عدم التخلي عن تحفظها معه:
-ربنا يبعد عنك أي شر.
كلمات بسيطة، عفوية، نابعة بصدقٍ منها، نطقت بها لتودعه قبل مغادرته كانت كفيلة بمد “غيث” بطاقة هائلة للانطلاق بشجاعةٍ وإقدام لدحر هؤلاء الفارين من الجبل مهما كانت قوتهم، متسلحًا أولًا بيقينه بالمولى عز وجل في تيسير أمره، ثم برغبته الشديدة في نيل وصالها.
لا تعلم لماذا انقبض قلبها بقوة فجأة، بل إنها ارتعبت من التفكير في احتمالية إصابته وتعرضه للخطر، تخبطت في أفكارها، هل بسبب شعورها بالذنب وتأنيب الضمير جراء ما أصاب ابن عمها، فتخشى أن تكون نهاية “غيث” مثله مأساوية؟ أم أنها لاحظت أنه الوحيد الذي تعامل مع عصبيتها وهياجها بهدوء؟ حيث كان يتقبل ما يصدر عنها دون تعنيف أو قسوة، يُعاتبها بلين الكلام، ويحول الأمر إلى مزاح لطيف فيجبرها على الابتسام ونسيان ما كان يثير أعصابها، حقًا كان مختلفًا عن البقية.
لقد أحست للمرة الأولى بالخوف عليه، فخسارة أخرى لشخصية متفردة مثله، تحمل سمات الشهامة والرجولة لن تحتمل أو تعوض، خاصة بين أحبائه، وهم كُثر.
كانت مرتبكة، شاردة الذهن، فهي لم تعتد على معايشة تلك الأحاسيس الغريبة بعد.
انتشلها من دوامة سرحانها الفجائية في محاولة إيجاد التفسير لما تمر به صوت “فاطمة” المتسائل:
-إنتي بخير يا بتي؟
على ما يبدو كانت تناديها لأكثر من مرة لتطلب منها الدخول إلى القصر والاحتماء بين جدرانه، فلم تنتبه لها، هزت رأسها قائلة وقد دنت منها:
-أيوه..
ثم استجمعت نفسها، وتشجعت لتسألها بعدما وجدتها توصد الباب بالمفتاح والأقفال:
-هما هيقدروا على الناس دي؟
ابتسمت وهي تجاوبها بهدوءٍ واثق:
-إنتي لسه ماتعرفيش ولدي صُح، اللي يخل باتفاج معاه، يبجى نهايته الجَبر.
جملتها كانت مريبة، مليئة بالتهديدات الخفية، فسألتها:
-وأنا المفروض كده أطمن ولا أخاف؟
ربتت على كتفها بترفقٍ، وحادثتها باسترسالٍ دون أن تفتر ابتسامتها الودودة:
-يا بتي ولدي راجل من ضهر راجل، يحامي للضعيف، ويجف ضد الجوي، طالما في الحق، وولاد الليل دول ولاد حـــرام، ياما طلعوا على أهل البلد الغلابة ينهبوا رزق عيالهم ومالهم، وهو وجف مع الحكومة وساعدهم يجبضوا على كبيرهم، تلاجيهم جايين ياخدوا بتارهم، بس إن شاءالله ربنا هينصره من تاني عليهم.
كانت تقدم لها وصفًا مستفيضًا لشخصيته التي استحوذت على اهتمامها، فتشجعت لتسألها في قلقٍ:
-إنتي مش خايفة عليه لأحسن لا قدر الله آ…؟!!
قاطعتها قبل أن تتم كلامها قائلة بصرامةٍ رغم رنة الهدوء السائدة في صوتها:
-ما تنطجيهاش، الأعمار بيد الله، ومحدش عارف ميتى ميعاده هيجي، المهم حسن الختام.
أحنت رأسها قليلًا وتمتمت:
-ربنا يستر…
ثم خفضت من نبرتها قدر المستطاع، كأنما تحادث نفسها وهي تتم دعائها المتضرع:
-ويحفظه.
……………………………
لم يكن ذلك السيناريو الذي توقع حدثه فور عودته إلى أرض الوطن، فقد كانت هناك مخططات أخرى يرجو الشروع في إتمامها، ليجد نفسه مشغولًا بتفقد حالة والده الحرجة، حيث عانى من تبعات انحباس البول في جسده لفترة طويلة، مما أدى لتدهور وضعه الصحي، واحتجازه بغرفة الرعاية الحرجة، ريثما يسترد عافيته.
بكت “سميحة” فور أن رأت ابنها مقبلًا عليها، وألقت برأسها على كتفه تشتكي في حزنٍ وحسرة:
-أبوك هيروح مني يا “عادل”.
كان لا يزال على صدمته الموجعة، فاحتضنها وهو يشعر بالأسى مما سمع من أخبارٍ لا تبشر بخير، ومع ذلك حاول أن يطمئنها قائلًا:
-إن شاء الله هيبقى كويس…
ليتراجع عنها ناظرًا إليها، ومتسائلًا في جديةٍ:
-بس إزاي مقالش إنه تعبان؟
كفكفت دمعها وهي تخبره:
-إنت عارف إنه عنيد، ومابيحبش يقول إنه تعبان أبدًا.
رد عليها معترضًا على تبريرها:
-أيوه، بس في الآخر وصلنا لإيه؟
تنهدت قائلة في قلة حيلة:
-اللي حصل يا ابني.
لم يقف عند تلك النقطة كثيرًا، وتابع:
-خلينا دلوقتي في المهم، أنا هدور على الدكتور وأسأله عن آخر أخبار حالته.
أومأت برأسها موافقة، وقالت:
-ماشي، وأنا أعدة مستنياك هنا.
مستخدمًا يده في الإشارة نحو أحد المقاعد المعدنية خاطب “عادل” والدته:
-ارتاحي يا ماما، وأنا راجعلك تاني.
ردت عليه وهي تتجه إلى حيث أشار:
-طيب.
ليسير بعدها متجهًا نحو المصعد ليبحث عن الطبيب المسئول عن مراقبة تطور وضعه الصحي ليستعلم منه عن المزيد.
………………………….
ما ضير أن تتواجد قربه رغم جفائه لها؟ ألا تعرف ذلك المثل الشعبي الدارج بأن (الزن على الودان أمر من السحر)؟ وأيضًا (وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا)؟ إذًا ما الخطأ في إصرارها ومثابرتها لتحقيق ما تريد؟ هكذا أقنعت “أحلام” نفسها –وكذلك والدها- بضرورة الذهاب إلى قصر عمها للمكوث فيه بأمانٍ وسلام مع بقية نساء العائلة، حتى تنتهي الحملة الأمنية المكبرة التي تستهدف الخارجين عن القانون ممن أحاطوا بالبلدة، فإن عاد “غيث” وجدها في استقباله، تظهر لهفتها إليه، وتشعره بالذنب لتجاهله حبها الظاهر كالشمس في كبد السماء، بدا تفكيرها سطحيًا، محدودًا، ومقتصرًا على ما تفكر فيه فقط، لا تضع في حسبانها رغبات الطرف الآخر، ولا حتى مقدرته على مبادلتها المشاعر الحسية النبيلة!
والأهم من ذلك طمعت “أحلام” في أن تستغل فرصة غياب ابن عمها لتستفرد بمن تشكل تهديدًا عليها، فتمعن في إهانتها كيفما تشاء، لتدفعها للمغادرة فورًا.
استقبلتها “فاطمة” بوديةٍ وترحاب، فطلبت منها الجلوس مع ضيفاتها بالصالون، إلا أن تعليقها جاء سخيفًا ومحرجًا عندما التقن بهن:
-كيف أجعد يا مَرَت عمي، واحنا بجينا ضيوف في مُطرحنا؟
في التو عاتبتها “فاطمة” للغوها المسيء:
-عيب الكلام ده يا بتي!!
تحفزت “دليلة” في جلستها، وانزعجت للغاية من وقاحتها الواضحة، ولاذت بالصمت مرغمة، إلا أن “أحلام” لم ترتدع، وواصلت الهجوم العدائي نحوهن، فقالت بغير اكتراثٍ متعمدة الاستمرار في جرح مشاعرهن وكبريائهن:
-العيب إن ناس لا ليها أصل ولا فصل يتعملهم اعتبار عننا!
لم تتحمل “عيشة” بشــاعة ما تقوم به من تلميحات فجة تطالها مع ابنتيها بلا داعٍ، فأمرتهما بحزمٍ:
-تعالوا يا بنات، هنطلع فوق…
استجابت الاثنتان لها دون نقاشٍ، فأضافت مخاطبة “فاطمة” في هدوءٍ حاسم:
-خدي راحتك في بيتك يا حاجة، وأعذرينا على طول وجودنا هنا، احنا خلاص هنمشي وقت ما أهل المكان يوصلوا.
احتجت عليها بوجومٍ:
-والله ما يُحصل عاد.
لكن “عيشة” تشبثت أكثر برأيها، وفضلت تجنب النقاش معها في أمر مفروغ منه، فقالت في أدبٍ:
-عن إذنك.
لتنصرف بعدها من غرفة الصالون ونظرات الاستياء مسيطرة على ثلاثتهن، فهتفت “فاطمة” في ضيقٍ وهي تشيعهن بنظرتها الآسفة:
-إكده بردك يا بتي؟
رفعت أنفها للأعلى، وصاحت عاليًا بوضاعةٍ، لعل صوتها المرتفع يصل إلى مسامعهن:
-دول جِبلات، إياكش يحسوا على دمهم، ويغوروا من إهنه!
جذبتها “فاطمة” من ذراعها بقوةٍ، ووبختها في حدةٍ:
-مايصحش، من مِيتى واحنا قلالات الأصل مع أهلنا؟
اندفع لسانها يهين بفجاجةٍ غير مسبوقة:
-دول مش ناسنا، ولا يجربولنا بحاجة يا مَرَت عمي، إنتو بس اللي عملتوا للجِلة جيمة وسعر.
ردت بتعبيرٍ مستاء:
-لا يا بتي، إنتي غلطانة، وأني عاتبة عليكي.
ساد تعبيرات وجهها ظلمة نابعة من نفسها اللئيمة وهي تخبرها:
-إنتي اللي جلبك طيب يا مَرَت عمي، بس أني غير، واعية لمكر الشيطان اللي جواهم.
كانت تقصد بكلماتها الأخيرة “دليلة” على وجه الخصوص، وقبل أن تقول زوجة عمها شيئًا متحيزًا لهن، عَمِدت إلى تغيير الموضوع بإرعابها:
-ربنا يستر على واد عمي ورجالتنا من ولاد الحـــرام، بيجولوا طايحين في المكان.
غريزيًا انتفضت مشاعرها الأمومية تجاه ابنها بمجرد أن تطرقت إلى سيرته، وراحت تدعو المولى برجاءٍ كبير:
-عديها على خير يا رب.
ادعت لهفتها عليه، فرفعت كفيها للأعلى قائلة بلوعةٍ مبالغ فيها:
-يا رب أمــــــين!
أخفت “أحلام” ابتسامة خبيثة لاحت على زاوية فمها كنوعٍ من إبداء إعجابها بنفسها الماكرة القادرة على خداع صاحبة القلب الطيب والنية الصافية.
………………………………….
باستخدام المعلومات التي جمعتها القوات الأمنية، وبالتعاون مع كبار أهل البلدة، تمكن الجميع من نصب فخٍ محكم للإيقاع بالشرذمة المتبقية من هؤلاء المجرمــين المختبئين في الجبال والوديان واستدراجهم نحو البلدة لإلقاء القبض عليهم.
وقف “غيث” مع رجال الشرطة يتلقى التعليمات اللازمة لضمان سلامة المشاركين في هذه الحملة المكبرة للإطاحة بفطاحل الإجــرام، ليبدأ بعدها الالتحام والمواجهة المباشرة معهم. لم يكن الوضع هينًا، دوى صوت طلقات البنادق والأسلحة الآلية عاليًا، فأفزع الطير والدواب، وكذلك البشر. لم يكن عدد أولئك الأشــرار قليلًا، حيث جاءوا بالعدة والعتاد متسلحين للقيام بهجوم ضارٍ وكاسح، ليذيع صيتهم، ويفرضوا سطوتهم، بجانب بث الرعب في النفوس، إلا أن شجاعة الرجال وقفت كالسد المنيع أمام أطماعهم الدنيئة، فأطاحوا بهم، فتشتت جمعهم، وتفرقوا ما بين قـــتيـل وجريح، وقلة معدودة فرت عائدة إلى الجبل لتختبئ به.
أثنى قائد الحملة الأمنية على مجهودات “غيث” في مده بالكثير من المعلومات خاصة خلال سفرته الأخيرة، فقد كان ينتقل في محيط الجبل بحجة متابعة أعماله، إلا أنه كان يتربص بهؤلاء الأوغاد ويتجسس على أتباعهم، ويستدرجهم بدهاءٍ لنيل أي معلومة عابرة، بل ونقل أيضًا معلومات خاطئة تفيد في خطة إيقاعهم.
ربت “زكريا” على كتف ابنه مادحًا ما قام به:
-تطول عمرك راجل يا ولدي.
ابتسم “غيث” في سرورٍ، وعلق رافعًا بصره للسماء:
-كله بفضل الله وكرمه يابوي.
لاحظ “زكريا” خط الدم النـــازف بطول مرفقه، فأمره بشيءٍ من القلق:
-نضف جرحك ده.
نظر إلى تلك الإصابة التي تعرض لها أثناء اشتباكه بالعصا مع أحد أولئك المجــرمين، وقال باسمًا بغير مبالاة، وكأنه لا يشعر بالألم مُطلقًا:
-ماتخافش يا بوي، ده خربوش إصغير، مش حاجة واعرة.
ليتدخل “راشد” في حوارهما قائلًا بعدما فرغ من الحديث إلى القيادات الأمنية:
-أني بعت “أحلام” على الجصر، خوفت تجعد لحالها.
استحسن شقيقه تصرفه قائلًا:
-خير ما عملت.
على النقيض بدا “غيث” منزعجًا فور أن علم بتواجدها هناك، حتمًا لن تمرر الأمر على خير، وستلجأ إلى تكدير صفو من يهتم لشأنها، لتعزز من رغبتها في الرحيل، وهو لم يقم بعد بأي خطوة رسمية، لذا قال بتعجلٍ وهو يشير نحو سيارته المرابطة في الخلفية:
-خلونا نرجعوا ونطمنوا الجماعة، لتلاجيهم جلجانين.
رد عليه والده وهو يهم بالتحرك:
-معاك حق.
تسارعت خطوات “غيث” نحو السيارة، فكل دقيقة تمضي بعيدًا عن “دليلة” تعني خسارته لها.
………………………………….
قوة المال منحته القليل من الحصانة أثناء فترة حبسه احتياطيًا، لكنها ليست كفيلة لحمايته طوال الوقت، فكان من الطبيعي أن يفكر في وسائل بديلة لتخليص نفسه. أنهى “زهير” علبة سجائره الثانية وهو يتطلع إلى النافذة الحديدية العالية الموجودة في عنبر احتجازه بالسجن، قبل أن يدير رأسه نحو تابعه المخلص ليهمس له بعدما جلس على مقربة منه على فراشه القاسي والخشن:
-أنا مش ضامن عمري هنا.
تساءل “عباس” بصوتٍ خافت وهو يحك جبينه:
-ناوي على إيه يا ريسنا؟
أجابه بغير توضيحٍ، وهذه اللمعة الغريبة تنضح من عينيه:
-مظبط حاجة كده في دماغي تطلعني من هنا.
لم يعبأ تابعه بتفسير مقصده، فهو سيكون شريكه على أي حال فيما يقوم به، لذلك أبدى طاعته العمياء له بقوله المؤكد:
-وماله، اللي تؤمر بيه هيتعمل على طول.
رد عليه وهو يستند بظهره على عارضة سريره المعدني الباردة:
-أمن إنت بس ضهري لحد ما يجي وقت التنفيذ.
نهض من جواره قائلًا بعزمٍ:
-ماشي يا كبيرنا.
………………………………….
لم يهمها يومًا شعور الآخرين، المهم أن تحظى باهتمامه هو وفقط؛ لكن ذلك بدا مستحيلًا مع تجافيه المتواصل. ظنت “أحلام” عندما يعود “غيث” من الخارج سيفرح باستقبالها له، اتجهت إليه وهي تطلق زغرودة مبتهجة لرؤياه سالمًا، قبل أن تهلل فرحًا:
-بركة إنك بخير يا واد عمي.
لم يزيف حقيقة مشاعره نحوها، حيث زجرها هادرًا بجمودٍ صريح:
-بَاه، إيه اللي عتعمليه ده؟
تجاهلت ما رأته من جفاء وبرود، وقالت في لهفة مزعجة:
-فرحانة برجوعك سالم غانم يا كبير الكل.
رماها بنظرة مزدرية قبل أن يدير وجهه نحو والدته التي أقبلت عليه لتحتضنه، وتقبله من أعلى كتفه وهي تقول في سعادة عامرة:
-حمد لله على السلامة يا ولدي.
قبَّل أعلى رأسها، قائلًا في امتنانٍ وقد لانت نبرته وأصبحت ودية:
-الله يسلمك يامه.
نظرت إليه ملء عينيها، وأخبرته:
-الواحد لازمًا يطلعوا حاجة لله فدا رجوعك لينا يا غالي بألف خير.
أومأ برأسه مؤيدًا اقتراحها:
-هنعملوا إكده…
لتدور عيناه بشيءٍ من اللهفة والشوق باحثة عنها تحديدًا، جاهد ليخفي تعابيره المتعطشة لرؤياها متسائلًا:
-أومال فين الجماعة؟
التقطت أذناه تعليق “أحلام” الوقح:
-إلهي يروحوا في الوبا.
لحظتها استدار نحو عمه ليخاطبه بملامحٍ جامدة كالصخر:
-إنت تعبت معانا يا عمي النهاردة، خد بت عمي وارجعوا داركم ترتاحوا فيها.
هز “راشد” رأسه قائلًا بنبرة مرهقة:
-إمعاك حق يا “غيث”، بينا يا “أحلام”.
إلا أنها اعترضت عليه قائلة في عنادٍ:
-مش جبل ما أطمنوا على واد عمي.
نظر إليها شزرًا وهو يرد بملامح قاسية:
-ما أني واجف أهوو كيف الجبل جصادك.
سرعان ما استنفرت حواسه، وساد كيانه اضطرابًا عظيمًا عندما سمع “عيشة” تقول بنبرة من يقرر لا من يخير وهي تتجه صوبه:
-احنا جاهزين نمشي، الحمد لله إن الكل بخير.
قفزت نظرته تلقائيًا نحو “دليلة” التي كانت تقف خلف والدتها، كأنما تحتمي بها، لم يتبين ماهية ملامحها، فقال في شيءٍ من التصميم المحتج:
-اتكلم يا بوي، جول حاجة.
لحظتها وجه “زكريا” كلامه إلى “عيشة” مبديًا اعتراضه على مغادرتها بهذا الشكل المريب:
-مايصحش اللي عتجوليه ده يا حاجة.
أصرت على ذهابها مع ابنتيها قائلة بملامحٍ تأرجحت بين الجدية والحزن:
-معلش، وجودنا طول وبقى بايخ، واحنا لينا رب اسمه الكريم، مش هينسانا أكيد…
لتشعر بتلك الغصة المريرة تجتاح حلقها وهي تكمل بنبرة جاهدت ألا تظهر فيها ضيقها من الإساءة التي تعرضت لها قبل برهةٍ:
-إنتو كتر خيركم على كل حاجة طيبة عملتوها معانا، احنا مش هننسى معروفكم ده أبدًا، ولو ربنا قدرنا في يوم هنرده.
استغرب “زكريا” للغاية من هذا الأسلوب غير المألوف الذي تتحدث به، وعاتبها:
-عيب الكلام ده يا حاجة.
لم يترك “غيث” الأمر معلقًا ما بين الإقناع والرفض، فقال في نبرة حاسمة:
-بعد إذنك يا بوي، أني هتكلم مع الحاجة في اللي جولتلك عليه جبل سابق.
فهم تلميحه المتواري، وأيده مومئًا برأسه:
-وماله يا ولدي.
فيما تساءلت “عيشة” في تعجبٍ وحيرة:
-حاجة إيه دي؟
أشار إليها “غيث” لتسير معه نحو غرفة الصالون قائلًا:
-اتفضلي من إهنه.
تبعته مرغمة لتفك طلاسم ذلك السر الذي يأبى الكشف عنه إلا بالحديث معها منفردًا، في حين ظلت “أحلام” باقية بحجة مساعدة زوجة عمها في إعداد الطعام لعمها والبقية لكونها متعبة، مستغلة فرصة تواجدها لتحاول بشتى الطرق معرفة نواياه التي يطمح بإصرارٍ على تحقيقها.
…………………………..
رتب أفكاره في رأسه أولًا، قبل أن يطلق العنان للسانه ليُعلمها بما يريد، فأصغت “عيشة” إلى كل كلمة يقولها “غيث”، فقد أخبرها صراحة عن رغبته في الزواج من ابنتها وذلك لضمان حمايتها أولًا من المخاطر، وثانيًا للتأكد من بقائها مع عائلتها بقصره، دون أن تكون هناك أي حجة مزعجة تدفعهن للمغادرة.
راح رأسها يعمل بأقصى طاقاته ليحلل كل شيء تستمع إليه بالمنطق والعقل، لتحادثه بعدما انتهى من البوح بما في صدره:
-كلامك على عيني وراسي، بس أنا ماليش رأي في الموضوع ده بالذات…
لتبدو أكثر جديةً وهي تتم جملتها:
-ومقدرش أغصب على “دليلة” إنها تتجوز حد مش عايزاه.
رد عليه في نبرة هادئة، لكنها مشبعة بالثقة التامة:
-وأني مش عاوز غير بس موافجتك، وسيبي الباقي عليا.
لم ترغب “عيشة” في استغلال الظروف والاستفادة منها بما يحقق جلَّ المآرب لها، كانت تفكر أولًا وأخيرًا في ابنتها، فتكرار نفس المأساة والمعاناة بإكراهها على ما لا تريد لن يكون محمودًا، لذلك أخبرته صراحةٍ عله يتراجع عن الأمر:
-والله يا ابني إنت تستاهل أحسن واحدة في الدنيا، بس إنت عارف ظروفنا ووضعنا كويس، فبلاش تضطر تعمل حاجة ترجع تندم عليها بعدين.
تفهم سبب خوفها وقلقها من إتمام تلك الزيجة السريعة بهذا الشكل الغامض، فهي لا تعلم بعد برغبته فيها من صميم قلبه، ولهذا أكد لها بوعدٍ نافذ لئلا يخسر سلفًا:
-وأني أجسملك إني هراعي ربنا فيها.
تملصت من منحه الرد النهائي بقولها:
-عمومًا هي صاحبة القرار في الموضوع ده بالذات.
فما كان منه إلا أن طلب منها بأدبٍ:
-طب تسمحيلي أتكلمو معاها.
سكتت للحظاتٍ، ثم ردت مستسلمة لمطلبه:
-طيب.
…………………………
كما هو دأبها، لم تكف “أحلام” عن إلقاء نظرات الازدراء والاحتقار للشقيقتين وهي تنتظر معهما في الردهة، لتتحفز الثلاثة في وقفتهن عندما عادت “عيشة” إلى ابنتيها وبصحبتها “غيث”. على الفور تساءلت “إيمان” في لهفةٍ:
-ها يا ماما، هنمشي إمتى؟
لتتفاجأ بها تركز بصرها على شقيقتها الصغرى قبل أن تقول في مزيدٍ من الغموض:
-الأول بس “غيث” هيتكلم مع “دليلة”.
خفق قلب الأخيرة في توترٍ، وضيقت عينيها متسائلة في ارتباكٍ عجيب:
-يتكلم معايا في إيه؟ هو احنا في بينا حاجة؟
أتاها رده قائلًا بابتسامة صغيرة، لكنها ساحرة:
-كل خير إن شاء الله يا ست البنات.
ثم أشار لها لتذهب معه إلى غرفة الصالون، فيما وقفت “أحلام” في موضعها تعض على أناملها غيظًا وغضبًا، كان داخلها يغلي بحرقة، بل إنها شعرت بدمائها الفائرة تتصاعد من أوردتها وتندفع نحو رأسها، لقد ارتاعت كليًا من فكرة أن يفاتحها في مسألة الارتباط بها، ستموت حتمًا قبل أن تشهد ذلك يحدث.
…………………………….
على نحوٍ هادئ، استطرد “غيث” متطرقًا إلى لب الموضوع مباشرة فور أن جلس بمفرده مع “دليلة”، ليخبرها وهو ينظر بثباتٍ إلى تقاسيم وجهها:
-من غير مجدمات، أني رايد أعقد عليكي.
حسنًا، لم تتبين في البداية مقصد جملته، فسألته بعفويةٍ وقد تقلص وجهها:
-يعني إيه؟
بلا ابتسامٍ قال مفسرًا ببساطةٍ:
-أجصد إني عايز أكتب كتابي عليكي.
هبت واقفة ومعترضة باندفاعٍ:
-نعم! إيه الكلام الفارغ ده؟
قام بدوره، وحادثها في شيءٍ من الرجاء:
-استهدي بالله الأول يا بت الناس واسمعيني للآخر.
تشبثت برأيها رافضة بعنادٍ كبير:
-من غير ما أسمع، أنا مش عايزة أتجوز حد غصب عني.
هتف مؤكدًا لها دون أن تتبدل نبرته الهادئة:
-ومش هيحصل غير إكده، بس اجعدي واسمعي اللي هجوله، وبعد كده اعترضي براحتك.
عاودت الجلوس على الأريكة، وأصغت إلى مبرراته والتي سبق وأن أخبرها إلى والدتها، لم تقاطعه حتى فرغ من الحديث، لتلوي ثغرها معقبة في امتعاضٍ:
-والمطلوب مني إيه؟ أريح الناس وأتعب نفسي؟
رد مصححًا وهو يحرك رأسه:
-لع، بس نعملوا اللي فيه الصالح ليكي وللكل.
في لمحة من الشك سألته:
-وجوازي منك هيعمل ده؟
لم تتبدل ملامحه الهادئة مطلقًا حين استفاض محاولًا تبديد ما يساورها من شكوك:
-إيوه، أني هجدر أحميكي من اللي ما يتسمى، وفي نفس الوجت محدش يجدر يفتح خاشمه بجعادك إنتي وأهلك إهنه.
ردت معترضة عليه بانفعالٍ شبه بائن:
-ونقعد هنا ليه واحنا لينا مكان تاني؟
لحظتها فقط أصبحت نبرته حادة نسبيًا وهو يبين لها خطورة وضعها:
-وساعتها يوصلك المجصوف على عمره ويخطفك ولا يخسرك أهلك، وجايز يعمل فيكي الأسوأ، يدبحك ولا ياخد شــرفك.
ارتاعت لمجرد التفكير في تلك التصورات المخيفة، وشردت لوهلةٍ، ليستغل “غيث” سرحانها ويناقشها بهدوءٍ جاد:
-مش إنتي عايزة مصلحتهم، وتطمني إنهم بخير وفي أمان ويكونوا على طول إمعاكي؟
لم تفكر مرتين وهي تخبره توًا:
-أه طبعًا.
تابع على نفس الوتيرة لإقناعها:
-جوازي منك هيعمل ده كله، وبعدين لما هعجد عليكي، جصدي يعني نكتبوا الكتاب، هيكون بس كلام، حبر على ورج زي ما بيجولوا، من غير دخلة ولا غيره….
نظرت إليه باسترابةٍ، فأضاف مشيرًا بيده:
-ولما نطمنوا إن واد المحروج ده مالوش جومة من تاني هحلك من العقد ده، وتروحي لحال سبيلك، وتعيشي مع أمك وخيتك في أي مطرح أمان ليكم.
لن تنكر “دليلة” أنها كانت تشعر أثناء وجودها معه بالحماية والاحتواء حتى في غمرة الفوضى والاضطراب، كان يبذل أقصى ما يستطيع لإبقائها في منأى عن الخطر. لقد أدركت عن تجربه أنه لم يكن من أولئك الرجال الذين يتهربون من واجباتهم أو ينكثون بعهد قد قطعوه على أنفسهم، ومع ذلك سألته لتتأكد:
-وإيه اللي يضمنلي إنك ما ترجعش في كلامك؟
قال بثقةٍ وهو ينتصب بكتفيه في جلسته الشامخة:
-أني راجل، وكلمتي زي السيف.
رمقته بهذه النظرة الغريبة، كأنما تستكشف جانبًا جديدًا فيه، ليميل نحوها قليلًا وهو يسألها في رنة من الشوق:
-ها، جولتي إيه يا بت الحلال؟
من موضع جلوسها لمحت “أحلام” وهي تقف متلصصة عليهما، تحاول استراق السمع بوقاحةٍ وتبجح، أمسكت بها وهي تنظر لها بهذه النظرة الحقود البغيضة، فتشدقت قائلة بغير وعيٍ، كأنما تنتقم مما فعلته بها في وقت سابق:
-ماشي.
شكك “غيث” في ردها المقتضب، فهي لم تمنحه موافقة صريحة، لذلك تساءل مستفهمًا حتى يستريح قلبه المتحرق شوقًا للظفر بكلمة القبول منها:
-ماشي دي يعني إيه؟
جاء ردها مبهجًا له بشدة:
-موافقة.
سرعان ما تهللت أساريره، وارتسمت ابتسامة عريضة على محياه بعدما أعلنت عن موافقتها للارتباط رسميًا به، وإن كان يعني مجاراتها مؤقتًا لمخططاته؛ لكنها ستمنحه الفرصة للتودد إليها في إطار شرعي، واكتشاف حقيقة مشاعره نحوها، إن لم تكن مثله أيضًا، ليأتي صوت صرخة منددة من “أحلام” مصحوبة بلطمٍ عنـــيف على صدرها قبل أن تخر أرضــًا فاقدة لوعيها:
-يا خـــــرابي ……………………….!!!!!
………………………………………
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.