رواية فوق جبال الهوان الفصل الخامس والأربعون 45 – بقلم منال سالم

رواية فوق جبال الهوان – الفصل الخامس والأربعون

الفصل الخامس والأربعون

الفصل الخامس والأربعون

الفصل الخامس والأربعون

مرة ثانية تفقد هندامه وهيئته، فرفع يده نحو رابطة عنقه ليضبطها ويحكم عقدتها، قبل أن يخفض ذراعه قليلًا ليمررها على ياقتي قميصه، ثم عدَّل من وضعية سترته الرمادية، ليلتفت بعدها ناظرًا نحو والدته التي أتت معه اليوم خصيصًا لهذا المطعم الفاخر من أجل مقابلة عروس المستقبل، حيث قام مديره المفضل بترشيحه للارتباط بإحدى معارفه التي تنتمي للعائلات الثرية، فلم يتردد، فحسبما ظن أنها وسيلة سريعة للارتقاء بوضعه على المستوى المادي والاجتماعي، بجانب توطيد العلاقات وتقويتها مع ذوي النفوذ والسلطة، ليرفع من شأنه ويحظى بكل ما رجاه يومًا.

بدت علامات القلق والارتباك ظاهرة بشكلٍ واضح على وجه “راغب”، لعق شفتيه الجافتين، وتساءل في صوتٍ متوتر:

-كده شكلي مظبوط؟

وارتفعت يده للأعلى ليسوي جانب شعره بعدما داعبت النسمات الرقيقة خصلاته الحليقة. منحته “نجاح” نظرة رضا من عينيها قبل أن تخبره مؤكدة:

-أه يا حبيبي، مظبوط وعلى سِنجة عشرة.

سألها في نفس النبرة المتوترة:

-يعني هعجبها؟

قالت بصوتٍ واثق للغاية:

-ده إنت تعجب الباشا.

امتعضت ملامحه نسبيًا وهو يعلق:

-بس دي مستوى تاني خالص غير اللي احنا متعودين عليه.

دون أن يظهر عليها أدنى تغيير في قسمات وجهها أخبرته “نجاح” بسمةٍ من العنجهية الممزوجة بالتأفف:

-وماله، إنت تستاهل بنت الباشا، مش الفقرية وش النحس اللي كنت متجوزها.

حينما تطرقت لسيرتها باح لها صراحة بمخاوفه:

-أهو أنا مقلق من الجزئية دي، لما تعرف إني كنت متجوز قبل كده.

ضحكت في مزيدٍ من الثقة قبل أن تقول:

-اطمن، أنا جاهزة بالرد.

سألها مستفهمًا باستغرابٍ حائر:

-هتقولي إيه يا ماما؟

رفعت حاجبها للأعلى، وحركته وهي تخبره في ثباتٍ يدعو للدهشة من قدرتها العجيبة على تزييف الحقائق، وخلق الأكاذيب:

-ما بتخلفش! وإنت صبرت وراعيت ربنا فيها، بس هي طلعت بنت ستين في سبعين جاحدة وناكرة للعيش والمعروف، ده غير لسانها اللي متبري منها، وإنت مكونتش عايز تظلمها، وهي اللي مصانتش العِشرة.

تهللت أساريره مرددًا في لمحةٍ من الإعجاب:

-ده إنتي عملالي فرشة حلوة.

ابتسمت في غرورٍ وهي تخاطبه:

-أومال، لازم تبقى مالي مركزك، وتتكلم بثقة.

كان على عكسها لا يزال قلقًا، متوجسًا من الأمر، لذا تنهد “راغب” متابعًا:

-المدير قايلي إن باباها من رجال الأعمال التقال، اللي بيلعبوا بالملايين، فخايف يرفض إكمني أقل من مستواها.

ردت عليه فيما يشبه التحفيز:

-هو حد طايل يجوز بنته لواحد محترم زيك، ماسك منصب كبير، والكل معتمد عليه.

قال موضحًا لها:

-دلوقت بيحسبوها بالفلوس، هتدفع كام وهتكسب كام.

كان ردها معدًا بشكلٍ مسبقًا، فأعلمته:

-وماله لو صرفت في الأول، بكرة الملايين دول يبقوا في جيبك لما تتجوزها.

أومأ برأسه قائلًا:

-يا مسهل الحال.

لتغمره موجة أخرى من القلق عندما لمحها قادمة من على بعدٍ وبصحبة والدها، فانتفض قائمًا من موضع جلوسه وهو يقول:

-أهي جت أهي.

ربتت “نجاح” على ظهره تشجعه بعزمٍ:

-افرد ضهرك كده وخليك واثق في نفسك.

قال وهو يضع على شفتيه ابتسامةٍ منمقة:

-حاضر.

تقدمت نحوهما شابة يعكس مظهرها الخارجي منذ اللحظة الأولى مدى ثرائها وذوقها الرفيع في انتقاء ما ترتديه، وما تزين به وجهها، لم تضع سوى الماركات العالمية الشهيرة على جسدها، وكذلك في صبغ بشرتها بمساحيق التجميل، تلك التي تكلف آلاف الجنيهات للحصول على هيئة كتلك. وقفت قبالتهما وهي متأنقة في ثوبٍ قصير يعلو ركبتيها بمسافة عدة سنتيمترات من اللون الأزرق، فيما عانق رقبتها عقدًا من الماس، ماثله قرطاها المتدليان من أذنيها، أما شعرها المصبوغ بدرجات اللون الأشقر فانطلق متحررًا على طول ظهرها. ألقت “فادية” عليهما التحية مبتسمة في إباءٍ وكبر دون أن تمد يدها لمصافحتهما:

-هاي.

ابتسم لها “راغب” في ارتباكٍ، قبل أن ينتقل ببصره نحو والدها الذي وقف بدوره أمامه ليبادر على الفور بالترحيب به:

-ازي حضرتك يا “مدحت” بيه؟

رد الأخير بشيءٍ من الرسمية وهو يشير نحو ابنته:

-بخير، “فادية” بنتي، ما إنت عارفها.

بالطبع كان قد التقى بها عدة مرات أثناء إنجازه للمعاملات البنكية الخاصة بكبار العملاء المهمين، وأبدى أعجابه على الفور بمدى براعتها وذكائها في إدارة أعمال والدها بإتقانٍ، قال “راغب” فيما يشبه الغزل:

-وهل يخفى القمر؟

إلا أن “فادية” اعتبرت طريقة وصفه لجمالها موحية بانخفاض طبقته الاجتماعية، فما كان منها إلا أن عبست قليلًا بملامحها لتعبر عن انزعاجها من هذا الأسلوب الشعبي غير اللائق. فيما تحدثت “نجاح” وهي تبتسم ابتسامة عريضة مبالغ فيها:

-ما شاء الله تبارك الله، هي فعلًا أحلى من القمر.

من طرف أنفها ترفعت في الرد عليها، فبدا متعجرفًا بعض الشيء عندما همهمت:

-ميرسي.

أشار لهما “مدحت” بالجلوس، فاستقر الجميع على مقاعدهم، ليبدو “راغب” أكثر توترًا عن ذي قبل، خاصة وضيفه قد استطرد مباشرةً:

-قعدتنا النهاردة حاجة مش رسمية، مجرد تعارف عادي زي ما بيقولوا.

هز رأسه معقبًا وهو لا يزال على جلسته المتحفزة:

-أكيد.

قبل سابق أعلمه مديره برغبة عميله المميز في تزويج ابنته من شخصٍ موثوق فيه، ممن يجيد التعامل في سوق العمل المحفوف بالمخاطر، فتناقش مع والدته في هذه المسألة، ورسمت له الأخيرة الخطط والمخططات ليظهر في الصورة، لعل وعسى يحدث المراد، ويرتبط بمن تنقله نقلة نوعية في كل شيء يخص حياته.

تابع “مدحت” بجديةٍ يشوبها القليل من التحذير:

-ولو حصل القبول ما بينكم نقدر نكمل الخطوبة، بس لازم تبقى عارف إني محتاج أأمن مستقبل بنتي.

تبادل “راغب” نظرة سريعة مع والدته، وعقب باختصارٍ ينم عن شعوره بالقلق والريبة:

-طبعًا.

أضاف “مدحت” مؤكدًا بما جعل لعابه يسيل:

-أنا مش هبخل عليها بحاجة، ومش عايز منك حاجة، بس على الأقل أقدر أضمن حقوقها.

تدخلت “نجاح” من تلقاء نفسها لتتحدث إليه:

-اطمن يا “مدحت” بيه، ابني كلمته زي السيف، لا يمكن يرجع عنها أبدًا.

نظر ناحيتها مرددًا باقتضابٍ:

-هنشوف.

ليعاود التحديق في وجه ابنته مسترسلًا:

-أنا معنديش غير بنت واحدة، وماعمريش أجبرتها على حاجة، وخصوصًا في الخطوبة والجواز، شباب كتير اتمنوا يرتبطوا بيها، بس أنا ليا لي نظرتي في الناس.

موجة من الخوف غمرت “راغب” حينما شرد للحظاتٍ بذهنه يفكر في مقارنته بهؤلاء الأثرياء، إلا أن القليل من شعور الارتياح تسرب إليه عندما امتدحه بشكلٍ ملحوظ:

-واللي سمعته عنك من مديرك شجعني أشوفك.

استغل تلك النقطة ليقول في حماسٍ:

-وأنا بأكدلك يا فندم هعمل كل حاجة تخليك مطمن ناحيتي.

ابتسم “مدحت” بتكلفٍ، وقال وهو يدير رأسه نحو ابنته ليخاطبها:

-المهم رأي بنتي “فادية” فيك.

توجه “راغب” بناظريه ناحيتها، ليهتف في وديةٍ مصطنعة، وهذه الابتسام السخيفة تتجسد على ثغره:

-إن شاء الله لما تعرفني أكتر هتطمن.

انعكست تعابير الجدية على وجه “مدحت” حينما قال في نبرة غامضة:

-أتمنى.

……………………………………..

مشكلة غير معلومة حدثت في شحنة المستلزمات المكتبية التي تم الاتفاق عليها مع وكلائهم في دولة الصين، مما اضطره للسفر فجأة –وبغير ترتيبٍ- إلى هناك للوقوف على أساس الأزمة؛ لكنه أثناء ذلك فقد هاتفه المحمول، مما تعذر عليه التواصل معها، وبقي فقط الرقم الدولي الموضوع في هاتفه الآخر، والمدون عليه فقط أرقام عملاء الخارج بجانب عائلته، فصارت أيامه تمر ثقيلة، وببطءٍ، لكونه عاجز عن الوصول إليها أو معرفة آخر أخبارها.

بالكاد تمكن “عادل” من توفيق الأوضاع في فترة وجيزة، بعدما بذل كامل الجهد للتأكد من إرسال الشحنة مرة ثانية بلا عقبات، ليقوم بعدها بحجز تذكرة العودة إلى أرض الوطن. ما إن أمسك بجواز سفره حتى حادث نفسه في عزمٍ:

-لازم أخد خطوة جادة معاها، مش هسيب الموضوع معلق كده تاني.

استمع إلى صوت المذياع الداخلي المنادي بضرورة التوجه إلى صالة الركوب الخاصة بطائرته تمهيدًا لاستقلالها. جرجر “عادل” حقيبة سفره، وانطلق مسرعًا نحو وجهته، وكله إصرار على خلق فرصة جادة مع تلك التي اقتحمت قلبه.

…………………………………

اصطدمت في طريق هروبها من وصلة المهانة البشعة التي نالت من سمعتها بلا رأفةٍ بشقيقتها “إيمان”، فتفاجأت الأخيرة بها تبكي بشدة، وكأن شيء ما سيء قد حدث لها بعدما اتفقت معها على الجلوس بالأعلى، فسألتها في توجسٍ عظيم وهي تتفرس وجهها بنظرتها القلقة:

-في إيه يا “دليلة”؟

جذبت الأخيرة شقيقتها من يدها، وسحبتها معها نحو الغرفة، لتتحدث إليها بغير تفسيرٍ:

-احنا لازم نمشي من هنا فورًا.

ساد الرعب على تقاسيمها بعدما وجدت منها إصرارًا عجيبًا على الذهاب، ولاحقتها بأسئلتها:

-حصل حاجة؟ ما توقعيش قلبي في رجليا؟

لم تخفِ عنها ما تعرضت له من إذلال جراء الموقف السخيف الذي وقع خلال تواجدها بمفردها مع “غيث” بسطح القصر، لتستوعب “إيمان” مدى جدية الوضع خاصة مع مرور العائلة بظروف حرجة تستدعي الابتعاد عن أي مشاكل في الوقت الراهن، لذا راحت تؤيدها في رغبتها:

-معاكي حق، احنا في الأول وفي الآخر ضيوف هنا، أكيد مش هنستنى لما نطرد.

توقفت “دليلة” عن البكاء المرير، وكفكفت دمعها، لتتساءل وهي بالكاد تحاول استعادة انتظام أنفاسها:

-هنقول لماما إيه علشان تقتنع؟

ردت عليها بحيرة مماثلة:

-هنفكر في حاجة.

استغرقت كلتاهما في نوبة من الصمت الاختياري لتقطعها “دليلة” بعد مضي بعض الوقت متشدقة بجدية:

-احنا مش المفروض لينا شقة كان “فارس” جيبهالنا؟

وكأن مصباح عقلها أضاء فجأة، فأخذت “إيمان” تقول في حماسة ظاهرة عليها:

-أيوه، اللي مع الجدع صاحبه، ده اللي اسمه “وهبة”.

هزت “دليلة” رأسها معقبة:

-صح، احنا نكلمه وهو يدلنا على مكانها، ونستقر فيها.

تساءلت “إيمان” بتحيرٍ:

-بس هنكلمه فين؟ احنا معندناش رقمه.

عبست قسماتها قائلة في قدرٍ من السخرية:

-نجيبه من الـ.. العمدة…

لتخبت نبرتها نسبيًا وهي تكمل جملتها بتشككٍ:

-ده إن وافق يدهولنا.

ما لبث أن غطى ملامح “إيمان” بعض القلق حينما هتفت بارتعابٍ:

-بس اللي ما يتسمى!!

كانت تقصد “زهير” بجملتها تلك، فتطلعت إليها “دليلة” بعينين ضيقتين لتخبرها:

-ماظنش إنه عارف سكتها، المهم نبعد عن هنا.

بدت لها الفكرة مقبولة جدًا، وقالت بتأييدٍ واضح:

-ماشي، أنا هفاتح ماما، وإن شاء الله خير.

لحظتها فُتح الباب على مصراعيه لتلج “عيشة” إلى داخل الغرفة، وهي تتساءل في استغراب بعدما التقطت أذناها كلام ابنتها الأخير:

-تفاتحيني في إيه؟

……………………………………

بتفكيرها المحدود والسطحي، ظنت أنه قال كلماته الأخيرة فقط ليكيدها، ليـحــرق كبدها، ويجعلها تغار وتلتاع أكثر وأكثر من جفاء معاملته معها فقط لأنها تدخلت في شئونه بشكلٍ سافر، وهذا ما لا يحب مطلقًا.

تجاوزت “أحلام” مشاعر خوفها ورهبتها من “غيث”، ورفضت تركه يمضي في سبيله ليلحق بمن أهانت. اندفعت تسابقه في خطاه، واعترضت طريقه، بل إنها تجرأت لتمد يدها وتمسك به من ذراعه لتستوقفه متسائلة بصوتٍ مغلول:

-رايح ترمح وراها؟

نظر إلى يدها الموضوعة عليها بعينين مشتعلتين كالجمرات، لو كانت النظرات تقـــتل لأرداها قتـــيلــة في الحال، نفض قبضتها كالمسلوع صائحًا في غلظةٍ وخشونة:

-ملكيش صالح.

اهتز كلها مع نفضته القوية، ومع ذلك لم تبتعد عن مجاله، وسألته بقلبٍ يئن من عذاب الحب الأحادي:

-اشمعنى هي يا واد عمي؟

بنفس الأسلوب المتجافي الصارم خاطبها:

-مايخصكيش.

عاندته وصرخت في وجهه بحـــرقةٍ:

-لأ يخصني، أني أولى بيك منها، ومش هسيب بت البندر تضحك عليك وتاكل بعقلك حلاوة؟

استنكر جملتها الأخيرة بشدة، وقطب جبينه هاتفًا في ازدراءٍ:

-فكراني عيل إصغير إياك؟

سرعان ما لجأت للين والدلال وهي ترجوه

-يا واد عمي اسمعني، أني ….

صمَّ أذنيه عن أي لغوٍ تقوله، وأمرها في قوةٍ مهددًا وقد تحفز في وقفته:

-بعدي عن طريجي أحسنلك.

سألته في نبرة متحدية، وهذه النظرة المليئة بالعناد والإصرار تصدح في حدقتيها:

-وإن مابعدتش؟

جاء رده مهددًا:

-يبجى ما تلوميش إلا حالك!

خشيت من تفاقم الخلاف بينهما، لذا رغمًا عنها تنحت جانبًا لتفسح المجال له ليمر، إلا أنها لاحقته بنظراتها الحانقة حتى اختفى من أمامها، لتركل الأرض بقدمها في غيظ، قبل أن تحادث نفسها فيما يشبه الوعد:

-وأني مش هسيبك تروح مني، حتى لو طار فيها رِجاب!

غادرت بعدها السطح وهي تكبت غضبها المندلع بداخلها، لتقابلها زوجة عمها في الردهة، فاندهشت من ذهابها المفاجئ، نادت عليها لتستوقفها:

-مش بعوايدك تمشي بدري يا بتي؟

ادعت أنها مضطهدة، ومغلوبة على أمرها، فاشتكت إليها:

-أني ماليش مكان إهنه يا مَرَت عمي.

شهقت “فاطمة” مصدومة، وسألتها في توجسٍ:

-ليه بتجولي إكده؟

حامت حول الحقيقة، وأخبرتها بما اعتادت على سماعه منها:

-“غيث” جاي عليا جوي، وأني عشجاه، سيباه يدوس على كرامتي لأجل عشجي ليه، بس كتير اللي بيعمله فيا.

ربتت على ظهرها تواسيها:

-اصبري يا بتي.

ردت عليها في التياعٍ واضح:

-لميتى يا مَرَت عمي؟ لميتى؟ وأبوي حلفان ليجوزني؟

وصلها ذلك الخبر اليقين من زوجها، إلا أنها فضلت عدم التطرق إليه دون أن يكون حادثًا على أرض الواقع، فاكتفت بترديد:

-لا حول ولا قوة إلا بالله.

حينما لم تجد بدًا من بقائها، انصرفت وهي تجرجر أذيال خيبتها قائلة بوجومٍ حانق:

-فوتك بعافية.

شيعتها “فاطمة” بناظريها وهي تضرب كفها بالآخر، لتتحدث في خفوتٍ آسف:

-عشج الجلوب مش بيدنا يا بتي!

……………………………………

الدقائق المعدودة التي فصلته عن اللحاق بها، جعلته يفشل في العثور عليها وإزالة سوء الفهم قبل أن يتطور الوضع للأسوأ، وهذا جلَّ ما كان يخشاه مع شخصية اندفاعية مثل “دليلة”، لن تسمح لأحدهم أبدًا بالعبث بمشاعرها أو الدعس عليها واتهامها ظلمًا وزورًا بما لم تقترفه، ولها كل الحق في ذلك، فامرأة حرة مثلها لن تقبل مطلقًا بالذل أو الهوان!

أدرك “غيث” أن الأمر لن يمر مرور الكرام، وسيكون هناك حتمًا نوعًا من التصعيد غير المرغوب فيه للأمور، لذا فكر مليًا في استباق حدوثها، ومفاتحة والده فيما يريده قبل أن يقدم فعليًا على تنفيذه، ليأخذ منه الإذن أولًا وليعطيه الأمر بالتحرك.

ضم “زكريا” كفيه معًا فوق رأس عكازه متسائلًا بلهجة هادئة، لكنها جادة:

-نويت يا ولدي خلاص؟

في نبرة ثابتة أخبره:

-إيوه يابوي.

لاح شبح ابتسامة باهتة على زاوية فم أبيه، قبل أن يعقب:

-كن أمك كانت حاسة بده من الأول إنك رايدها…

لتبدو نظرته دقيقة أكثر وهو يتم جملته:

-وجالتلي أستنى ولدك هينطج ويجولها جريب إنه عايز يتجوزها.

لم يبدُ متحرجًا من كشف أوراقه أمام والده، وقال في جديةٍ صريحة:

-أني عارف إنه مش وجته، بس لازمًا علشان نجطعوا ألسنة إبليس، محدش ضامن ممكن يتجال إيه.

هز رأسه مرددًا:

-معاك حق يا ولدي، مافيش أسهل من الخوض في الأعراض…

ليصمت لحظةٍ قبل أن يبدي دعمه له:

-على بركة الله.. اللي فيه الصالح أعمله، وأني في ضهرك.

استحسن “غيث” تأييده لما يبتغيه قائلًا في امتنانٍ بعدما انحنى ممسكًا بكف أبيه ليقبله:

-تعيش يا بوي.

…………………………………….

أظهر له أحدهم مقطعًا مرئيًا مسجلًا لقيام أحد أتباعه بافتعال ذلك الحـــريــق المروع في مطعم خصمه الشهير، لتبتلع النيران كل شيء، ويتحول المكان إلى خرابٍ وركام. ضحك “العِترة” ملء شدقيه، وبصوت مرتفع ينم عن سعادة عارمة، ليمتدح من أنجز هذا الأمر بفخرٍ:

-أيوه كده، براوة عليه الواد ده، هي دي الأخبار ولا بلاش، خليها تخرب على دماغه…

لتتحول بعدئذ تعابيره المنفرجة إلى شيءٍ آخر قاسٍ ومخيف عندما أتم كلامه فيما يشبه الوعيد:

-ولسه لما يشرف جوا اللومان، هعمل معاه الصح كله.

سأله تابعه مستعلمًا:

-ناوي على إيه يا ريسنا؟

أجابه وقد غلفت ظلمة مخيفة كامل عينيه:

-همحي اسم “الهجامة” من على وجه البسيطة.

…………………………………

لم تعارض هذه المرة رغبة ابنتيها في الرحيل عن هذا المكان، وأعدت الحقائب معهما للذهاب فورًا. نادت “عيشة” على الخادمة لتطلب منها مقابلة سيدة القصر، فأتت الأخيرة إليها وجلست معها بغرفة الصالون لتتفاجأ بعقدها العزم على المغادرة، استنكرت ما أقدمت عليه حرفيًا بقولها المنزعج:

-معجولة اللي بتجوليه ده؟ تمشوا إكده كيف؟

وألقت نظرة على الحقيبة التي بحوزتهن، لتخاطبها “عيشة” في تصميمٍ غريب:

-كتر خيرك يا ست الحاجة، احنا تقلنا عليكم، ومايصحش نشغلكم بينا أكتر من كده، والحمد لله “دليلة” بقت أحسن، ونقدر نمشي.

اعترضت “فاطمة” عليها بضيقٍ:

-والله ما ينفع واصل.

ظلت على إصرارها قائلة:

-معلش، كل حاجة وليها نهاية، وإنتو معروفكم اللي عملتوه فوق راسنا، وعمرنا ما هننساه.

لتضيف عليها “دليلة” بنبرة ذات مغزى، وكأنه بذلك تسترد اعتبارها وتثأر لكرامتها الجــريحة:

-وإن شاء الله بس الظروف تتحسن وهنردلكم كل اللي دفعتوه، احنا مابنكلش حق حد.

استهجنت للغاية ما باحت به، وعاتبتها في حزنٍ:

-إيه الحديت ده يا بتي؟

فضلت “عيشة” عدم الخوض في المزيد من التفاصيل، لتقول في أدبٍ:

-هنستأذنك يا ست الحاجة، يدوب الوقت أزف علشان نمشي.

تكلمت “إيمان” مخاطبة شقيقتها:

-احنا محتاجين نشوف مواصلة تودينا محطة القطر.

مالت عليها “دليلة” لتخبرها:

-هنشوف أي حاجة أول ما نخرج بس من هنا.

نهضت “فاطمة” قائمة من موضعها لتعلق في استياءٍ عارم:

-أني ماليش حديت في الموضوع ده، لازمًا “غيث” ولدي اللي يجول.

وتركت ثلاثتهن في الصالون لتسرع باحثة عن ابنها، فيما هتفت “دليلة” متحدثة في لهفةٍ، وهي تلقي بنظرة عابرة حولها:

-بينا يا ماما قبل ما تجيبلنا الغضنفر بتاعها يحوشنا.

هزت رأسها مرددة:

-طيب.

………………………………..

بعد إرهاقٍ طويل، وعمل دؤوب ومتواصل ليل نهار، بجانب شعوره بالانزعاج مما تعرضت له شاغلة العقل والفؤاد، بدا “غيث” متعبًا في نهاية يومه، ويحتاج إلى الراحة. جلس في غرفته، مستلقيًا على فراشه، يداعب وسادته التي كانت أكثر حظًا منه لتنال شرف احتضانها.

فكرة أن تتواجد بغرفته، بل وتتمرغ في سريره بأريحية كانت مشوقة للغاية، تنهد بعمقٍ متحسسًا ذلك الخافق الذي اضطربت دقاته بمجرد الإتيان على سيرتها.

لم يكن ليصدق أبدًا أنه سيقع ضحية لذاك الحب الذي يخطف القلب من أول نظرة، وها هو اليوم يحدق في سقف غرفته بشرودٍ، وطيفها الآسر يستحوذ على مخيلته.

غرق في نوبة من أفكاره الحائرة باحثًا عن الطريقة الملائمة التي يطرح بها عليها مسألة ارتباطه بها، كاد النوم يتسلل إلى جفنيه لولا أن اقتحمت عليه والدته الغرفة منادية في جزعٍ:

-يا ولدي..

انتفض من رقدته متسائلًا في قلقٍ:

-في إيه يامه؟

أخبرته بأنفاس لاهثة:

-إلحق يا “غيث”، الجماعة عايزين يفتونا السعادي.

قفز عن الفراش متسائلًا وهو يسحب جلبابه المتروك على المشجب:

-جماعة مين؟

قالت بنبرة حزينة وهي تشير بيدها:

-الست “عيشة” وبناتها.

دق قلبه خوفًا من فكرة رحيلها، كيف يمكن أن يسمح لها بالابتعاد عنه هكذا ببساطةٍ بعدما سرقت روحه؟ في التو ارتدى جلبابه صائحًا بتجهمٍ:

-إيه الحديت الماسخ ده؟

وانطلق مسرعًا خارج غرفته يريد منعها من الذهاب قبل فوات الأوان.

…………………………….

أمام البوابة الحديدية للقصر، ظل الخفير على موقفه رافضًا الاستجابة لثلاثتهن، والسماح لهن بالمغادرة رغم إلحاحهن المهذب عليه، عناده كان عجيبًا ومغيظًا، مما أفقد “دليلة” أعصابها، فصاحت فيه بانفعالٍ طفيف:

-افتح الباب احنا مش في سجن هنا؟

رد عليها ببرودٍ وهو يحكم قبضته على بندقيته:

-معنديش أوامر من البيه الكبير.

صاحت فيه بغضبٍ متصاعد:

-كلام البيه بتاعك يمشي عليك مش علينا.

أمسكت بها “عيشة” من ذراعها، وجذبتها نحوها قائلة بشيءٍ من التحذير:

-بالراحة يا “دليلة”.

ردت عليها في غير صبرٍ:

-يا ماما ده ما بيفهمش.

بادرت “عيشة” بالحديث مع الغفير، فخاطبته في لهجةٍ لينة:

-بص يا ابني احنا ضيافتنا خلصت في القصر ده، وعايزين نروح لحالنا، افتح الله لا يسيئك، وبعدين الست “أم غيث” عندها خبر.

ظل معاندًا، ورافضًا الانصياع بقوله المنزعج:

-يا حاجة ما تجلبيليش مع البيه بتاعنا، زعله واعر جوي.

استفزها أسلوبه السخيف في إبقائهن على غير رغبة منهن، فصاحت “دليلة” في حدةٍ:

-على نفسه مش علينا!

لتبدو شبه مغتاظة وهي تبرطم بغير حذرٍ منها:

-أل هيخوفني بالعمدة “غيث” بتاعه!

على الرغم من السخرية الظاهرة في نبرتها بوصفها المعتاد لشخصه، إلا أن تلفظها باسمه للمرة الأولى جعل داخله ينتشي، ونفسه تبتهج، يا ليتها تناديه دومًا هكذا! لكنه أخفى ببراعة ما أنعش روحه، ووضع على وجهه قناع الجدية، ليخاطب “عيشة” تحديدًا متجنبًا النظر نحو من تحدث العواصف في نفسه:

-خير يا حاجة؟ حصل مننا حاجة تزعل لا سمح الله؟

ومع ذلك تعمدت “دليلة” الرد عليه كبديلٍ عنها، فاستطردت في عصبيةٍ:

-لو سمحت قول للغفير بتاعك يفتح الباب خلينا نمشي.

حول بصره نحوها مدعيًا الجهل وهو يسألها:

-حد داسلكم على طرف؟

رأى كيف ظهر الضيق على تقاسيم وجهها، ففهم أن لسان “أحلام” السليط جرحــها بقســوة، فأقسم بداخله على حسابها، ليستدير محدقًا في وجه “عيشة” عندما كلمته:

-لأ يا ابني، ده إنتو أهل كرم وولاد أصول متأصلين، بس خلاص الحكاية بوخت.

لتضيف “دليلة” بكلماتها المنتقاة، وكأنها تلومه:

-والله يا ماما احنا مش مجبورين نقعد في مكان احنا ضيوف فيه.

لم يرغب في أن يكون أكثر تعنتًا معها، خاصة وهو يعلم جيدًا مدى الاستياء الذي تشعر به جراء صدامها مع ابنة عمه، فأبدى اعتذاره المفهوم لها دون مقدماتٍ:

-حقك على راسي لو حد ضايجك بكلمة يا ست البنات.

تفاجأت مما قال، لم تتوقع هذه البادرة أبدًا منه، فرمشت بعينيها، وتلبكت، فظهرت وكأنها غير قادرة على الرد عليه، لتتحدث “عيشة” مجددًا موضحة له:

-مش هينفع نستنى أكتر من كده هنا، وبعدين احنا راجعين عند صاحب “فارس” الله يرحمه يعرفنا مكان بيته.

التفت ناظرًا ناحيتها ليسألها في إنكارٍ:

-في أنصاص الليالي؟

اعترضت عليه “دليلة” بتعجبٍ:

-ده احنا لسه العشا.

جاء رده كنوعٍ من الممازحة:

-طالما الشمش غربت يبجى نص الليل.

كتفت ساعديها أمام صدرها، وسألته بنبرة متحفزة، ونظرة التحدي تطل من حدقتيها:

-لا والله؟ ده في عُرف مين بالظبط؟

لم يقاوم تلك البسمة الخفيفة التي استقرت على زاوية فمه وهو يناغشها:

-في عرفنا يا ست البنات!

إلا أن شيء ما غير موضوع في الحسبان قد طرأ فجــأة، حيث دوت أصوات طلقات النيران في الأرجاء، فأثارت الفزع والذعر في النفوس، لتصرخ “إيمان” في خوفٍ غريزي:

-إيه الصوت ده؟

صاح فيهن “غيث” بلهجته الصارمة:

-بعدوا عن البوابة.

جاء إليه “زكريا” على وجه السرعة متسائلًا في وجلٍ هو الآخر:

-في إيه يا ولدي؟

التفت تجاهه ليخاطبه:

-ماخبرش يا بوي.

دار “زكريا” ببصره على الثلاثة نساء متعجبًا من تواجدهن بجوار بوابة القصر، فتساءل:

-الجماعة واجفين إهنه ليه؟

كانت “عيشة” على وشك التبرير له، إلا أن الخفير “بدوي” هرول ركضًا وهو يستغيث بما لا يبشر بأي خير:

-إلحق يا بيه، بيجولوا ولاد الليل جطعوا الطريق الجِبلِي، وحالفين ليحطوا على البلد واللي فيها.

كان الأمر واضحًا، عودة هؤلاء الملاعين إلى هنا من أجل تصفية الحسابات السابقة نتيجة إبلاغ السلطات الأمنية عن نشاطهم الإجرامي. في التو أصدر “غيث” أمره غير المردود بصرامةٍ وشدة:

-جهز الرجالة أوام، مش هتجوملهم جومة السعادي.

تشبثت “إيمان” بذراع شقيقتها متسائلة في هلعٍ:

-احنا هنعمل إيه “دليلة”؟ هنمشي إزاي من هنا؟

نظرت ناحيتها ترد في تهكمٍ:

-يعني هي الحرب كان لازم تقوم دلوقت؟ أكيد مش هنخرج يعني.

ليصيح “زكريا” فيهن بصوته الأجش:

-خشوا جوا الجصر يا جماعة، الوجفة إهنه خطرة دلوجيت.

كانت “إيمان” أول من ركضت عائدة إلى الداخل وهي تحمل حقيبة الثياب، لتلحق بها “عيشة” داعية الله أن تمر تلك الليلة العصيبة على خير، بينما اعترض “غيث” طريق “دليلة” قبل أن تتمكن من المناص منه، انتابتها رعدة موترة سرت في كل جسدها، لينظر مباشرة في عينيها قائلًا بنبرة عنت الكثير:

-لسه الحديت بيناتنا مخلصش، أدعيلي أرجع بالسلامة ………………………………… !!!

………………………………………

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية فوق جبال الهوان) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق