رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل الحادي عشر 11 – ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل الحادي عشر 11

الفصل الحادي عشر❤️🤫

[ بعنوان: بين دفتي النسيان ]

نظرت له ماسة باستغراب: إحنا في 2004 يا بيه، هو مين حضرتك؟!

تجمدت العيون عليها: الطبيب بدهشة، وسليم أصابه الصدمة. ومكي بعينين واسعتين.

وضعت ماسة يدها على جبينها، تتلفت حولها بعينين مرتجفتين خائفتين اضافت متسائلة: آني فين؟! إيه اللي حصل؟! وسلوى فين؟!

هرول سليم فجأة، نحو الطبيب بخطوات متوترة وقال بنبرة هامسه: دكتور هي مالها؟ مستحيل يكون اللي في بالي.!

أمسكه مكي من ذراعه، يحاول تهدئته: اهدى يا سليم.

الطبيب بصوت هادئ لكنه حذر وهو يشير بيديه: اهدى يا سليم بيه، اديني فرصه افحصها علشان اقدر أقيم الحاله.

تنهد سليم تنهيدة مثقلة بالوجع، وهز رأسه ببطء، والقلق ينهش ما تبقى من صموده.

التفت الطبيب لماسة مرة أخري وتابع بنبره هادئه ليطمئنها: أنا عايزه أسألك شويه اسئله وتجاوبي عليها ماشي؟

ماسة بصوت واهن، ونظرات ضائعة ممزوجة بالتوتر: آني مش فاهمه حاجه، انتم مين؟ وآني فين؟
ثم ارتفع صوتها قليلا: حد يرد عليا.

حاول الطبيب تهدئتها وهو يشير بيديه: طيب اهدى، مفيش أى حاجه، أنت بس وقعتي من على السلم وسليم بيه جابك هنا، وإحنا دلوقتي في المستشفى، وحابين نطمن عليكي، يلا ردي عليا، أنت اسمك ايه؟ وعندك كام سنة؟

تنهدت ماسة وخفضت رأسها، ثم همست: آني اسمى ماسه، وعندي 15سنه.

امسك الأشعه الخاصه بها التى كانت موضوعه بجانبها وقام بتدقيق النظر فيها، ثم تابع اسئلته: طب أنتِ عايشه فين ومع مين دلوقتي؟

ماسه بهدوء: آني شغاله خدامه في مزرعه سيدى منصور بيه، وعايشين عنده أنا وأمي وأبويا وأخواتي.

اتسعت عينا سليم، كأن العالم توقف للحظة، رفع كفيه يغطي بهما فمه، ودموعه تتجمع في صمت موجع، غير مصدق لما يسمعه الآن، أما مكي، فكان في حالة صدمة لا تقل عن صدمته.

وضع الطبيب الاشعه جانبا بعد أن قام بفحصها وأشار بيده تجاه سليم وقال: طب أنتِ عارفه مين اللى واقف هناك ده؟

رفعت ماسة عينيها نحو سليم، تحدق النظر فيه بارتباك يختلط بالرهبة، وأجابت بصوت مرتجف بالكاد يتسلل من بين شفتيها: آني معرفوش، آني أول مره أشوفه!

وقف سليم يستمع للحديث بعينين مصدومتين، وقلب يعصف بداخله كإعصار هائج لا يرحم، فماسة البريئة عادت، لكنها عادت إلى زمن لم يكن هو فيه، زمن يسبق حتى لحظة لقائهما الأولى.

اومأ الطبيب بتفهم وتابع: طيب أنتِ حاسه بايه دلوقتي

ضغط ماسة بيديها على جبينها بصوت متعب: حاسه إني دايخه ودماغي وچعانى ومصدعه، وايدى كمان وچعانى، وچسمى كله مكسر.

الطبيب بهدوء: معلش دى من أثر الوقعه بس، ارتاحي شويه والممرضه معاكى اهى هتديكى مسكن ومش هتحسي بوجع.

ثم التفت إلى سليم وقال بعمليه: ممكن تتفضل معايا خمس دقايق يا سليم بيه.

تحرك سليم مع الطبيب بخطوات متعثرة، يترنح كمن أثقلته صدمة لا يطيق حملها، فيما لحق بهم مكي، وقبل أن يغادر سليم الغرفه، التفت بعجلة نحو ماسة، وقال بصوت مبحوح: دقيقة واحدة وجايلك تاني.

أخفضت ماسة رأسها، ثم أمالت وجهها بخفة، وملامحها تنكمش ببراءة كما كانت تفعل قديما، وهمست بصوت مرتبك يحمل لمحة مزاح طفولي: هو آني نعرفه علشان نستناه!؟

توقف سليم عن الحركة حين استمع لجملتها، ارتسمت على شفتيه ابتسامة حنين دافئة، ثم التفت إليها ببطء، عيناه تلمعان وهو يغرق في تأملها، يرى فيها الآن تلك الطفلة الصغيرة التي سكنت قلبه يوما، وخطفت صلابته ببراءتها ونظراتها الطفولية، كان يعرفها جيدا، ويحفظ كل تعابير وجهها عن ظهر قلب.

رفعت صوتها بضجر وهى تنظر له واصلت: آني عايزة أمي.

ابتسم سليم بصوت يفيض حنانا، كأنه يهمس لطفلته:
حاضر هجيبلك مامتك وأختك وكل اللي بتحبيهم، بس خدى العلاج وارتاحي.

تركها مع الممرضه، وقال وهو يغادر الغرفه: بعد اذنك خدى بالك منها.

ثم غادر الغرفه، فاقتربت الممرضه منها، وقالت بلطف: اجبلك عصير؟

هزت ماسة رأسها بإيجاب.

في الممر

تساءل سليم بتوتر، وصوته يخرج متقطعا: فهمنى بقي ايه الوضع؟! أنا مش فاهم حاجه؟

الطبيب بعمليه: لأسف الشديد حصل لها فقدان جزئي في الذاكرة، الأشعه بتاعتها كويسه مفيهاش أى حاجه عضويه خطرة، فعلى الاغلب فقدان الذاكره دى نفسي أكتر ما إنه عضوى، والخبطه اكيد ساعدت في ده، لكن مفيش أى حاجه عضويه نقلق أو نخاف منها.

مكي بقلق: يعني كده خلاص، نسيت كل حاجة؟

الطبيب بتوضيح: لا، مش بشكل دائم، دى فقدان مؤقت في الذاكره، ورجوع الذاكره فيه مش بياخد وقت كبير ممكن أيام أو شهور وترجع تفتكر كل حاجه عادى، بس أهم حاجه متضغطوش عليها علشان تفتكر، وكمان لازم تتعرض على دكتور نفسي وهو هيساعدها بشكل كبير إنها تستعيد ذاكرتها بشكل صحي، وكمان هيقدر يمهد لها الخبر، وطبعا وجود أهلها معاها شيء مهم، وهيخليها تطمن أكتر لأنك بالنسبه لها دلوقت حد هى متعرفوش يا سليم بيه.

مسح سليم وجهه في محاولة لاستيعاب الأمر: بس دى رجعت لسن 15سنه، يعنى أكتر من 10سنين راحوا !!!

الطبيب بمواساه: حاول تهدى يا سليم بيه وتتمالك أعصابك شويه، لأن وجودك معاها مهم حتى لو هي مش فكراك، وإن شاء الله فتره وتعدى وألف سلامه عليها.

سليم بتنهيده: طب أنا بتابع مع دكتور نفسي، ايه رأيك اكلمه يجي ينقلها الخبر، ويتابع معاها.

الطبيب مؤيدا: فكره كويسه جدا، لو حضرتك بتابع مع دكتور وعارف التاريخ المرضي لحضرتك، فاكيد بالتبعيه هيبقي عارف بعض جوانب شخصيتها، فهو الانسب فعلا، وكلمه يجي حالا.

هز سليم رأسه إيجابا، وهو يردد: شكرا يا دكتور.

تحرك الطبيب مبتعدا.

انهى سليم حديثه مع الطبيب، ثم تحرك بخطوات هادئة ومتثاقلة حتى جلس على أحد المقاعد بانهاك، ويده لا تزال ترتجف قليلا من القلق، ثم رفع هاتفه واجري اتصال بطبيبه النفسي: ألو إزيك يا دكتور؟ أنا بخير، أنا بس كنت عايز حضرتك تيجيلي دلوقتي في مستشفى المعادي، ماسة وقعت من على السلم والدكتور قال إنها فقدت الذاكرة بشكل مؤقت، وانها لازم تتابع مع دكتور نفسي، وهو اللي ينقل لها الخبر، وأنا حسيت إن الأفضل حضرتك اللي تيجي وتتابعها وتنقل لها الخبر، لأنك عارف كل حاجة، … لا مش هينفع لازم دلوقتي … خلاص تمام .. التقارير الطبيه! اه حاضر هجهزهم لحضرتك على ما توصل…متشكر جدا، مع السلامة.

أغلق سليم الهاتف وأسند ظهره إلى المقعد، مغمضا عينيه لثواني وأنفاسه تتقطع من شدة الضغط، بدا عاجزا عن الاحتمال، ارتخت كتفاه وكأن ما حوله ينهار ببطء، ثم فتح عينيه من جديد يبحث عن ذرة قوة يتشبث بها وسط هذا الانهيار.

اقترب منه مكي، ووضع يده على كتفه هامسا بدعم ومواساه: فتره وهتعدى يا سليم، هي محتاجك جنبها هادي ومتماسك مش خايف ومتوتر، مينفعش تشوفك مهزوز كده.

هز سليم رأسه بالإيجاب، والدموع مازالت عالقه بعينيه: اكيد يعني مش هبين لها كل ده، بس مش قادره استوعب يا مكي، مش عارف ليه بيحصل لنا كده !؟ احنا مش بنلحق نرتاح خالص، كل ما بنتقدم خطوه تحصل حاجه ترجعنا 100 لورا.

مكي بعقلانية: مايمكن اللي حصل ده يكون في صالحك !

نظر له سليم باستغراب وضجر: ايه الصالح في إن ماسه تنساني، دي حتى مش فاكره الفتره اللي عرفتني فيها قبل الجواز!!

مكي بهدوء وحكمه: ربنا بيعمل كل شيء بحكمه وقدر، يمكن تكون فتره هدنه ربنا بيديهالك علشان تستغلها صح وتقدر تستعيد ثقتها وتحسن صورتك اللى اتهزت في عينيها ! تعالى بس ندخلها دلوقتي ونتكلم بعدين، كمان الدكتور النفسي لما يتكلم معانا اكيد هنفهم اكثر.

هز سليم برأسه بالموافقه وزفر بتعب وهو يمسح على وجهه: طب كلم عشرى يروح يجيب أهلها وأول ما يوصلوا المستشفي يكلمنى وياريت ميعرفهمش أى حاجه.

ثم تحرك مع مكى ودخلا الغرفه مع أخرى.

كانت ماسة جالسه على السرير تحتسي العصير الذى اعطته لها الممرضه، وفور أن لمحت سليم ومكى يدخلان، رفعت وجهها إليهم، وتساءلت بارتباك: هو حضرتك مش هتقولي بقى أنت مين يا بيه؟

تنهد سليم قبل أن يقدم نفسه بهدوء: أنا سليم، أنا ابن فايزة هانم وعزت باشا.

هزت ماسة رأسها بارتباك: آني منعرفكش، آني نعرفهم كلهم … استنى استنى، أنت بقى اللي كنت مسافر اديلك ياما امريكا؟! ومكنتش بتحب تيجي كتير صح؟

ابتسم سليم بابتسامة اختلط فيها الألم بالحنين، فهي تكرر نفس الكلمات التي قالتها قبل سنوات، عاد إلى ذاكرته ذلك المشهد حين نطقت اسمه بالفصحى للمرة الأولى، فابتسمت ذاكرته قبل شفتيه، ورد مثلها بصوت خافت يفيض حنينا: أيوه أنا سَلِيم، يا ماسة.

ماسه بغضب طفولي: آني حاسه إنك بتتنقور عليا.

امسك سليم ضحكته المريرة: مقدرش.

ماسه بتساؤل واستغراب: طيب وآني ازاي يعني أمي وأختي سابوني معاك كده لوحدي!؟

طمأنها سليم: هما جايين دلوقتي، متخافيش.

ثم وجهت نظراتها لمكي بتساؤل: وأنت مين أنت كمان؟! آني منعرفكش برضو.

حاول مكي أن يلطف الأجواء، فرد مازحا بنفس لهجتها الفلاحي معرفا نفسه: آني ابقى صديق سليم والحارس الشخصي بتاعه.

زغده سليم في جنبه وهو يحاول كتم ضحكته: يابني بس، هو ده وقته.

ماسة بغضب وحزن: أنت كمان بتتنقور عليا.

مكي بابتسامه: لا والله مش بتنقور، بهزر معاكي بس.

هزت ماسه رأسها بصمت، ثم وضعت يدها خلف رأسها عند محل الخبطة، وكان الألم واضحا على ملامحها، وتساءلت بارتباك وعيناها معلقتان بالباب: هو أمي وأختي هيتأخروا ولا إيه؟!

ابتسم مكي بلطف ليطمئنها: لا مش هيتأخروا، أنتِ عارفة منصور جاحد إزاي، مرضيش يخليهم يجوا غير لما يخلصوا اللي وراهم.

هزت ماسة رأسها إيجابا ببراءه، وتساءلت بإبتسامة رقيقه وهي تنظر لسليم: وأنت بقى اللي انقذتني لما وقعت وجبتنى هنا !؟

هز سليم رأسه ايجابا بإبتسامة.

ابتسمت ماسة برقه، وقالت ببراءه: شكرا يا …
ثم توقفت فجأه وضيقت عينيها بتساؤل: هو أنت قولت أسمك ايه؟!

سليم بإبتسامة: سليم.

ماسة بامتنان: شكرا يا سليم بيه.

ثم ساد الصمت في الغرفه، جلس سليم متصلبا، عيناه تائهتان وقلبه يعصف بألم لا يعرف له عنوانا، لم يدري أيفرح لأنها نسيت كل المشاكل والأوجاع التي جمعتهما، أم يحزن لأنها نسيت كل شيء وتعرضت لما تعرضت له، كل فكرة تصطدم في عقله، وكل ذكرى تلسع قلبه، لكنه حاول الحفاظ علي ثباته، وهو ينظر إليها بابتسامة صغيرة تكاد تخفي موجة التوتر والألم معا.

ظل ينظر إليها بابتسامة صغيرة، دون أن يحاول فتح أي حديث معها، اكتفى فقط بالجلوس أمامها الغرق في تأملها، يرى فيها الآن تلك الطفلة البريئة التي عشقها، ها هي تعود تدريجيا إلى شخصيتها التي أحبها، ربما تغيرت بعض ملامحها، لكن البراءة مازالت تتلألأ في عينيها، فهي الآن طفلة بريئة في جسد أنثى، يفكر في كيفية التعامل معها، وكيف سيكون تأثير الخبر عليها.

أما مكي، فظل يراقب بصمت، عيناه حائرتان بين القلق والدهشة.

أما ماسة، فلم تتبادل معه كلمة واحدة؛ فهو بالنسبة لها رجل غريب، فالزمن الذي ربطهما أصبح مفقودا، وحتى الفترة التي عرفته فيها قبل زواجهما، فقدت من ذاكرتها كأنها حلم بعيد.
💞______________بقلمي_ليلةعادل。⁠◕⁠‿⁠◕⁠。

منزل مي، الثامنة مساء

كان والد مي وأشقائها يقفون عند المدخل ليستقبلوا عزت وفايزة ورشدي الذي كان يحمل بين يديه باقة من الزهور.

ابتسم راشد بترحاب وهو يمد يده لمصافحتهم: أهلا وسهلا، نورتونا، اتفضلوا.

دخلوا الصالون، فجلس عزت بجانب فايزة على الأريكة، بينما جلس رشدي على مقعد منفصل، وإلى جواره راشد ثم حاتم، أما حازم فذهب يستدعي مي، التي دخلت بعد لحظات تحمل صينية القهوة بخطوات مترددة، وهي ترتدي فستان أوف وايت أنيقا وحجابا زادها رقة وجمالا، قدمت القهوة للضيوف، ثم توقفت عند رشدي الذي ناولها باقة الورد بابتسامة ودودة، فتناولتها بخجل وجلست في مكانها بجوار والدها.

ابتسم عزت برضا: حقيقي يا باشمهندس، مي بنت حضرتك في منتهى الاحترام، وأنا مش هلاقي لابني أحسن منها.

راشد بهدوء: شكرا يا عزت بيه، أهم حاجة عندي إنه يحافظ عليها ويكون صادق في وعوده ليها.

ابتسم رشدي بثقة: متقلقش يا عمي، في عنيا.

عزت بعملية: طبعا أكيد مش هنختلف في التفاصيل، بس لازم تبقى عارف إن مي هتقعد معانا في القصر، كل ولادي ليهم جناح في القصر، وصحيح بيكون ليهم فيلا منفصلة، لكن وجودهم في القصر شيء أساسي.

ابتسم راشد بدبلوماسية: الموضوع ده يرجع لمي، هي اللي تقرر، اذا كانت حابه تقعد معاكم في القصر او تحب يبقي لها بيت منفصل.

تدخلت فايزة قائلة بنبرة الاستقراطيه: أكيد يا باشمهندس، بس أظن برضو عروستنا مش هتكره تعيش في قصر الراوي، ومتقلقيش يا مي، إحنا مش زي العائلات التانية اللي بتتدخل في الخصوصيات، هو مجرد تقليد عندنا.

أجابت مي بخجل: مدام هو تقليد، أنا معنديش أي مشكلة.

عزت بحسم: خلاص مادام كده نقرا الفاتحة.

وبالفعل بدأ الجميع في قراءة الفاتحة، وكانت مي تشعر بخجل ممزوج بالفرحة، وكذلك رشدي الذي لم تفارق الابتسامة وجهه، وبعد الانتهاء، أطلقت كريمة زغرودة عالية، وهي تردد بفرحه: ألف مبروك يا حبيبتي.

أخرج رشدي خاتم ألماس، ونظر إلى مي وهو يقول: مدي إيدك يا عروستي.

مدت له يدها بخجل، فألبسها الخاتم وسط دهشتها: الله شكله حلو خالص، ميرسي.

رشدى بابتسامه: مش أحلى منك.

ثم اقترح بحماس: إيه رأيكم نخلي الخطوبة اخر الاسبوع جاي؟

حاتم بمداعبه: مستعجل كده ليه يا عريس؟

رشدي بحماس: ونتأخر ليه، ما دام كل حاجة جاهزة؟
إيه رأيك يا مي؟

مي بخجل: معنديش مانع، إيه رأيك يا بابا؟

مد راشد وجهه بموافقه: معنديش مانع برضه، اتفقوا مع بعض على اليوم المناسب وبلغوني.

فايزة بارستقراطيه: خلاص ممكن بكره تشرفونا على العشاء، وهنكلم حد من الجواهرجيه الخاصة بينا يجيب مجموعة من الألماسات المختلفة، تشوفيهم وتختاري شبكتك، إيه رأيك يا مي؟

ابتسمت مي بخجل: أنا معنديش مانع، بس الرأي الأخير لبابا طبعا.

عزت موجها كلامه لراشد: إيه رأيك يا باشمهندس، بكره تكونوا معانا على العشاء؟ كمان تشوفوا القصر.

هز راشد رأسه بإيجاب: مفيش أي مانع.

تردد رشدي قليلا قبل أن يقول: بعد إذنك يا عمي، ممكن آخد مي نقف شوية في البلكونة ونتكلم؟

ابتسم راشد موافقا: اتفضل.

في الشرفة المطلة على الحديقة.

كانت مي تشعر بخجل شديد، عيناها مثبتتان إلى الأسفل وابتسامة صغيرة ترتسم على وجهها، بينما تلعب بخاتمها الجديد بين أصابعها.

ظل رشدي يتأملها وابتسامة صغيرة لا تفارق شفتيه، ثم قال بنبرة مازحة: هو أنت فيه حاجه ضايعه منك على الأرض وبتدورى عليها؟!

رفعت إليه مي نظراتها باستغراب: لا !!

رشدى بمرح: أومال من ساعه واقفنا وأنت عينك في الأرض ومش بتتكلمي ليه، مهو متقوليش أنك مكسوفه مني؟!

ابتسمت بخجل، وقالت بخفوت: أيوه مكسوفة، متكسفش ليه مش عروسه ومن حقي اتكسف!؟

ضحك بخفة وهو يهز رأسه: كسوف ايه بس يا مشمش، دي إحنا بقلنا شهرين رايحين جايين، أكلين، شاربين، قاعدين مع بعض.

تنفست مي بعمق وهي ترفع عينيها نحوه مرة أخرى وقالت بتلعثم خجول: عارفة إن المفروض أكون واخدة عليك، بس برضو حاسة إني مكسوفة.

اقترب منها خطوة صغيرة، صوته يملؤه صدق غريب: أنا حاسس بشعور غريب، عارفة يعني إيه آخد خطوة زي دي معاكي!؟ حاسس بإحساس حلو اوي، مش عارفله وصف.

صمت لحظة، ثم أضاف وهو يشيح بنظره ناحية الحديقة: أحساس إن أنا هخطب، وهتجوز، واستقر، وهيبقى ليا حياة وشخص مسئول مني وابقي أنا كل حياته!؟ احساس غريب عليا، بس حلو.

ابتسمت مي بهدوء، قلبها يخفق وهي تهمس: وأنا كمان حاسة بكده، يمكن عشان دي البداية.

ابتسم رشدى ومد يده في جيبه وأخرج علبة صغيرة مخملية، فتحها بهدوء أمام مي، لتظهر سلسلة رقيقة يتدلى منها قلب من الألماس، وقال بابتسامة واسعة: ممكن بقى أقدم لست البنات، الهدية المتواضعة دي، أنا اللى عاملك تصميمها بنفسي، تصميم مخصوص للأميرة مي، أميرة قلبي.

ابتسمت مي بخجل وهي تمد يدها وتأخذ السلسلة:
الله حلوة اوي، بس شكلها غاليه يا رشدي، كان كفايه الخاتم؟ قولتلك أنا مش بيستهويني الهدايا الغالية.

ضحك رشدي بخفة وهو يرمقها بعينين عاشقتين: ولا حتى مني؟

أطرقت رأسها قليلا، ثم همست بابتسامة رقيقة: منك هقبل أي حاجة.

اقترب منها قليلا وقال بحماس صادق: طب ممكن تلبسيها وأشوفها عليكي؟

أومأت مي برأسها: حاضر ثانية واحدة.

بدأت ترتدي السلسلة بأناملها المرتجفة، بينما عينا رشدي لا تفارقها، يتأملها وكأنه يراها لأول مرة، وما أن انتهت حتى ابتسم وهو ينظر إليها بإعجاب: شكلها حلو عليكي، هي كده بقت في مكانها الصح.

خفضت مي رأسها بخجل شديد، حتي احمرت وجنتيها وقالت ابتسامتها مرتبكة، وهى تنظر لأسفل: بس بقي.

ضحك رشدي، ووضع يده على قلبه كأنه يتألم بدلع: أموت أنا في الخجلان يا ناس!

ضحكت مي بخفة، والهواء العليل يمر بينهما، يحمل معه فرحة لحظة لن تنسى، ظل رشدي ينظر إليها طويلا، ثم تنهد بعمق واقترب منها خطوة إضافية، وصوته خرج دافئا وصادقا: مي، أنا بحبك، يمكن مقولتهاش قبل كده، علشان كنت مستني الوقت اللي أكون فعلا حاسسها ومتأكد منها، مش عارف حبيتك إمتى وإزاي وليه!؟ بس لقيت نفسي فجأه بحبك ومش متخيل يومي يعدى من غيرك، بقيتي شيء أساسي في حياتي.

ارتجفت أنامل مي وهي تمسك السلسلة على صدرها، ورفعت عينيها إليه ببطء، بينما أكمل رشدي بنبرة أقرب للرجاء: كل اللي بتمناه من قلبي إني أقدر أسعدك، وأكون الإنسان اللي يستاهلك ويقدرك، كل اللي بطلبه منك تصبري علي لحد ما أكون فعلا رشدي اللي أنتِ عايزاه.

شعرت مي بمزيج من السعادة والخجل، ولم تستطع النظر في عينيه طويلا، فخفضت بصرها تعبث بسلسلتها وقلبها يخفق بشدة، فأي فتاة تسمع مثل هذا الحديث لا بد أن يطير قلبها فرحا، فاكتفت بالتحديق في الحديقة أمامها، والخجل يزيد وجهها جمالا ورقة واحمرارا.

اسند رشدى يديه على السور بجانبها، ثم نظر إليها مبتسما وهو يقول بمرح: طب إيه، الكلام الحلو ده محركش جواكي أي حاجه، هتفضلي ساكته كده، مفيش أي رد؟

رفعت مي عينيها إليه بخجل شديد، وتلعثمت الكلمات على شفتيها قبل أن تقول بصوت منخفض: شكرا.

ضحك رشدي بعلو صوته، ورد مازحا: شكرا؟ دى اللى ربنا قدرك عليه يا مفتريه، ماشي يا ستي الشكر لله.

نظرا أمامهما بابتسامة خفيفة، كأنهما يريان في الأفق بداية جديدة، ثم التفتا إلى بعضهما وتبادلا الابتسامة ذاتها، كأنهما يتعاهدان بصمت على المضي معا دون حاجة إلى كلام.
💞________________بقلمي_ليلةعادل

المشفي التى تمكث بها ماسة التاسعة مساء.

مازالت ماسة ممددة علي الفراش تحاول الاستيعاب، وسليم يجلس أمامها صامتا، ومكي خلفه، حتى فتح الباب فجأة ودخل عشري بخطوات سريعة قائلا بصوت خافت: الأمانه وصلت يا ملك.

نهض سليم، ثم نظر اليها وقال بنبرة حانية: ثواني وجايلك تاني

غادر الغرفه ومكي خلفه، وبقيت ماسة وحدها

في الخارج.

اجتمعت العائلة، والقلق ظاهر على وجوههم، وبعد لحظات، خرج سليم، فاقترب مجاهد منه يتساءل بقلق: هو في ايه يا ابني، بنتي حصلها حاجه؟

صاح عمار باتهام: أختي فين؟! عملت فيها أيه؟!

سليم بهدوء متعلثم: وقعت على رأسها وجالها فقدان ذاكرة مؤقت، بس الحمد لله مفيش خطورة.

رفعت سعدية يدها إلى صدرها وصرخت بارتباك: يعني إيه؟ مش فاهمة؟! بنتي مالها؟!

سليم بتوضيح، وهو يضغط على كل كلمة بمرارة، كأن الألم الذي يعتصر قلبه تسلل من بين كلماته: يعني نسيت كل الفترة اللي كنا متجوزين فيها؟! آخر حاجة فاكرها إنها دخلت تعمل القهوة لرشدي يوم الحفلة.

رمقه مجاهد بنظرة تحمل مزيجا من عدم الفهم والخوف، واقترب منه يتساءل بقلق: هو في حد يقع على نفوخه ينسى؟ متفهمني يا ابني، متقلقنيش على البت.

أجاب سليم بنبرة يغلفها الأسف: أه بس الحالات دي نادرة، بس الدكتور طمني وقال إنها كويسه، وهترجع تفتكر تاني.

تقدم يوسف نحوه بعينين مشتعلة، صوته يعلو وهو يقذف الاتهام: انطق وقول الحقيقة! عملت في أختي ايه؟! أنا مش مصدقك.

رفع سليم رأسه ببطء، ونظر في عينيه بثبات ثقيل بعينين تشتعلان بنبرة رجولية: أنا معملتش حاجة، كنا بنتكلم، واتعصبت، فوقعت من على السلم.

عندها انفجر عمار غاضبا، صوته يخترق الممر كالرعد باتهام لازع: يعني وقعت لوحدها؟! أكيد أنت السبب، أنت اللي وقعتها!

غص قلب سليم واشتدت ملامحه، قبض كفه محاولا كبح غضبه، ورد بصوت جهوري حاسم، كمن يحاكم ظلما ويحاول نفي التهمة عنه بقوة: قولتلك أنا معملتش حاجة! وقعت لوحدها.

تدخلت سلوى بسخرية مرة، وقالت بضجر: كل مصيبة بتحصل لماسة بتبقي أنت السبب فيها! حرام عليك، حتى عقلها خليته يهرب منك، نسيتك عشان تخلص من وجعك.

اشتعل صدر سليم غضبا، وغامت عيناه بالسواد، مسح وجهه ببطء، وصمته كان أبلغ من أي انفجار، حاول كبح العاصفة داخله، لكن الاتهامات كانت كالسياط على قلبه، يعلم أنهم محقون في جزء من غضبهم، فماضيه معهم لم يكن بريئا، يدرك شعورهم، لذا عجز عن الرد أو الدفاع عن نفسه خوفا من أن يفعل ما يندم عليه، ومع ذلك كانت مرارة الظلم تمزقه الآن.

وهنا ارتفع صوت سعدية محاولة تهدئة التوتر، بنبرة خائفه: اصبروا شوية، خلونا نفهم، هي وقعت إزاي؟ فهمنا ايه اللي حصل.

رفع سليم رأسه ببطء، وعيناه تتنقلان بين الجميع واحدا تلو الآخر، وهو يضغط على كفي يده بصمت، قبل أن يقول: كنا بنتكلم، ولما عرفت إني عملت العملية ومقولتلهاش، اتعصبت وقررت تمشي، حاولت أمسك إيدها، سحبت إيدها مني جامد، كانت واقفة على السلم فاختل توازنها ووقعت، لما جبتها هنا، الدكتور قال إنها نسيت آخر عشر سنين، خلاص فهمتوا اللي حصل، أكيد أنا مستحيل أذي ماسة، وياريت لما تدخلوا جوه تتعاملوا معاها بهدوء عشان متخافش.

أطلق يوسف ضحكة ساخرة وقال بتهكم: أنت بتتكلم معانا كده ليه؟ يعني بهدلت أختنا، وعايزنا نصدق الكلام العبيط دى، ونسمع كلامك كأنك اشتريتنا؟
ثم أضاف مستنكرا: وبعدين ماسة هتزعل ليه سواء عملت ولا معملتش العمليه، هي اصلا طيقاك؟!

ارتفعت أنفاس سليم، وعض على خده من الداخل في محاولة يائسة لكبح غضبه، فقد طفح الكيل من اتهاماتهم وأسلوبهم، رفع عينيه بثبات، وحدق في وجه يوسف بنظرة قاسية، ثم قال بصوت رجولي هادئ لكنه حاسم: أنا مش هفضل أبرر كل شوية!

تحرك مكي بسرعة، مد ذراعه على صدر سليم، وهو يهمس برجاء متماسك: اهدى يا سليم، متوقعش نفسك في الغلط.

التفت سليم نحوه بعينين مشتعلة، وصوته خرج بحشرجة رجولية مخنوقة: أنت مش شايف؟!

هز مكي رأسه، وربت على صدره بهدوء، محاولا أن يطفئ نيرانه: حقك عليا، اهدى عشان خاطري.

ثم شد قامته قليلا، وصوته صار أكثر حزما وهو يوجه كلماته نحو يوسف وعمار: لو سمحتوا، لازم نهدى، سليم ملوش أي علاقة باللي حصل، واللي قاله هو بالظبط اللي حصل.

لكن عمار انفجر مقاطعا، بوجه متشنج وصوته يجلجل بغضب أعمى: والمفروض نصدقك بقى؟! ما أنت زيه، وكلب من كلابه.

اشتعلت ملامح مكي، عيناه انقلبتا بحدة، وقال بنبرة لاذعة تقطع الهواء: أنا مش هرد عليك احتراما للموقف اللي إحنا فيه، بس احترم نفسك، احسنلك.

رفعت سلوى حاجبيها بحده قالت بتهكم: اه واحسنلك دي بقى معناها ايه؟! هتعمله إيه يعني؟

التفت إليها مكي ببطء، رمقها من أعلى لأسفل بنظرة باردة كأنها لا تستحق الرد، ثم أدار وجهه للجانب الآخر ينفخ أنفاسه بضيق.

في تلك اللحظة، ضرب سليم الهواء بيده كإشارة قاطعة، ملامحه مشدودة وعروقه بارزة من عنقه، قال بنبرة حاسمه: اسمعوا بقى، اللي أنتم بتعملوه ده مش فارق معايا! اللي فارق معايا اللي جوه دي.

اقترب خطوة للأمام، ونظر في وجوههم بعينين تلمعان من الغضب: أنا قولت إنها وقعت لوحدها، تصدقوا متصدقوش ميفرقليش! بس عايز منكم حاجة واحدة؛ لما تدخلوا تبقوا هاديين، وتنفذوا اللى الدكتور هيقولكم عليه بالحرف، عشان والله لو حصلها حاجه بسببكم، لأور….

صمت فجأة، كأن الكلمات علقت في حلقه، أطبق جفنيه بقوة، ودار في رأسه همس خانق: “اهدأ، لا تخطئ مره أخرى، لا تهددهم.” رمش بعينيه بسرعة، وأخذ يعد بأصابعه المرتجفه، محاولا السيطرة على عاصفته وبعد ثواني..

ثم فتح عينيه ببطء، ونظر لهم نظرة ثابتة بعيون لا ترمش، صدره يعلو ويهبط بقوة، ثم تنهد بعمق، وخرج صوته رجولي أجش، لكن منخفض: ماسة ممكن تتعب من اللى بتعملوه ده، أنا متفهم غضبكم وخوفكم، بس اللي أنتم بتعملوه ده ممكن يأذي ماسة وأنا واثق إنكم متحبوش تأذوها، اللي حصل قولته وأنا مستحيل أكون سبب في أذاها.

ثم التفت نحو سعدية، وصوته اكتسب صرامة قاطعة: عقلي عيالك يا سعدية.

ثم حول عينيه فجأة نحو عمار، بنظرة حادة، وهو يشير له بإصبعه:أول وآخر مرة تغلط في حد يخصني، فاهم؟!

كاد أن يرد عمار في تلك اللحظة، لكن رن هاتف سليم، كان الطبيب النفسي يبدو أنه وصل الآن.

رفع هاتفه وأجاب بهدوء: أيوه يا دكتور، إحنا في الدور الثالث، غرفة 402.

أغلق الهاتف ونظر إليهم بنظرة حادة، وقال بنبرة هادئة: الدكتور جاي دلوقتي، تسمعوا كلامه وتنفذوا اللى هيقوله بالحرف، ماشي؟

نظروا له بصمت دون رد، بعد دقيقة تقريبا، خرج الطبيب من المصعد، انتبه له سليم واقترب منه بخطوات سريعة، وتوقف أمامه وقال بامتنان: شكرا يا دكتور إنك جيت بسرعة.

ابتسم الطبيب متعجبا: خير يا سليم حصل إيه؟ إحنا آخر حاجة اتكلمنا فيها قولتلي إنك النهارده هتنفذ اللي اتفقنا عليه.

سليم بهدوء، مستعيدا الأحداث بنبرة متأثرة: وفعلا نفذت، وكنا بنتكلم بهدوء، وكل واحد خرج كل اللي جواه، بس لما قولتلها إني عملت العملية، اتجننت وكانت عايزه تمشي، فأنا مسكت أيدها بحاول أوقفها.
توقف لحظة، ثم تابع: وفجأة سحبت إيديها ووقعت من على السلم، ولما جبتها هنا وعملوا لها اللازم وفاقت، نسيت كل حاجة.

الطبيب بعملية: طب وريني التقرير الطبي بتعها.

سليم بهدوء: أنا جهزته لحضرتك زي ماقولتلك.

أشار سليم بيديه للخلف، فجاء أحد الحراس وأعطاه الملف: اتفضل يا دكتور.

أخذ الطبيب يقرأ بتركيز، ثم ابتسم: تمام، الحمد لله، مفيش أي حاجه نقلق منها، هي لسه متعرفش الخبر، صح؟

هز سليم رأسه، وقال بنبرة مكتومه: لا، متعرفش أي حاجة لسه مستنين حضرتك علشان تمهد لها الخبر.

الطبيب وهو يضيق عينع بتساؤل: طب احكيلي بقى من أول ما فتحت عينيها لحد دلوقتي إيه اللي حصل.

هز سليم رأسه بالإيجاب، وبدأ يروي له ما حدث مع ماسه منذ لحظة استيقاظها.

هز الطبيب رأسه بتفهم، ثم نظر نحو عائلتها بتساؤل: دول عيلتها؟!

هز سليم رأسه إيجابا بصمت، فابتسم الطبيب، واقترب منهم بخطوات هادئة، وقال بهدوء: مساء الخير.

تقدمت سعدية بخطوات متعثرة،وقالت بصوت مرتجف: طمني على بنتي يا دكتور الله لايسيئك.

ابتسم الطبيب ابتسامة مطمئنة، وقال بصوت واثق يهدف لتهدئة القلوب: متقلقيش خالص يا حاجة، ده فقدان ذاكرة مؤقت، هي بتنسى بعض السنين من عمرها، بس هترجع تفتكرهم تاني، توقيت رجوع الذاكرة مش هنقدر نحدده غير لما نبدأ الجلسات، بس مفيش داعي للقلق خالص، الموضوع بسيط، ولازم لما ندخل جوه نفهمها بهدوء، حضرتك هتقعدي جنبها علشان تطمنيها.
ثم تساءل: مين أقرب حد ليها من أخواتها؟

رفعت سلوى يدها، فأضاف الطبيب: تمام، أنتي هتكونوا جنبها وهنبدأ نشرحلها بالراحة واحدة واحدة ونفهمها الوضع.

تساءل عمار بقلق وتردد: طيب هي هتفتكر يا دكتور ولا خلاص كده؟

هز الطبيب رأسه بهدوء مطمئن: لا، هتفتكر، لإن تقرايرها الطبيه كويسه جدا ومفيش أي تأثير عضوى على مركز الذاكره في المخ، هي بس من الضغط النفسي الكبير اللى اتعرضتله الفتره اللى فاتت عقلها حب يفصل شويه؛ وأنا هتابع معاها وإن شاء الله اساعدها إنها ترجع تاني تدريجيا.

تساءل سليم بقلق: طب هي مش محتاجة تاخد مهدئ مثلا عشان نوصل لها الخبر بهدوء؟

الطبيب بعملية: أنا محضر حقنة مهدئة، لكن إن شاء الله مش هنحتاجها، هي طبيعة شخصيتها أصلا بتنهار تحت الضغوط؟!

قبل أن يرد أحد، بادر سليم بسرعة وكأنه يطمئن الجميع من واقع ملاحظته: لا هي المرحلة دي من عمرها كانت هادية وبتسمع الكلام، وبتهون أي حاجه.

ابتسم الطبيب، وأومأ برأسه: تمام، يبقي سليم يدخل الأول ويقولها أنا عاملك مفاجأة، بعد كده أنتم تدخلوا، وأنا هدخل وراكم بدقيقه على ما تكون استوعبت وجودكم.

سمع الجميع وكان الرد جماعيا: تمام.

💞_______________بقلمي_ليلةعادل

غرفة ماسة

دخل سليم أولا، حاول رسم ابتسامة على وجهه وهو بيقول بنبرة هادئة: أنا عاملك مفاجأة.

رفعت ماسة عينيها ببراءة، ورأسها يميل بخفة: مفاجأة إيه؟

أشار سليم بيده نحو الباب، وفجأة دخلت عائلتها.

ماسة بلهفه: أمي، أنت كنتى فين وسيباني كل ده!

اندفعت سعدية تجاهها، وضمتها بقوة وهي تبكي وتقبل يديها: أنا جمبك اهو ياضنايا المهم طمنيني، أنتِ كويسة؟

ابتسمت ماسة بخفة، ثم نظرت لسليم: آه، سليم بيه بيقولي إن آني وقعت وچابني هنا.

مسحت سعدية دموعها: آه يا بنتي، الحمد لله عدت على خير.

بدأت ماسة تدقق النظر في وجوههم باستغراب، ثم رفعت حاجبيها وضحكت بخفة: أنتم شكلكم عامل كده ليه؟! وإيه اللبس الحلو اللي لابسينه ده؟!

دخل الطبيب بهدوء، وابتسامته ودودة: إزيك يا ماسة؟

أجابت بهدوء: الحمد لله.

فاقترب منها وهو يعرف نفسه: أنا اسمي دكتور ياسر، وهبقي الدكتور بتاعك لحد ما تخفي إن شاء الله، بس كنت عايزه اسألك هو أنتِ عارفاهم كلهم صح؟

انقبض وجه ماسة بملامح طفولية غاضبة: هو إيه حكايتكم معايا النهارده؟! كل شوية حد يسألنى اسئله غريبه! مره اسمك ايه وعايشه فين، وأنت دلوقت تقولى عارفاهم ولا لا، هو حد قالكم إني متخلفه ولا أيه؟

ابتسم الطبيب بهدوء: لا طبعا، بس بنطمن عليكى، أنتِ قولتي لدكتور إسلام إن عندك 15 سنة صح؟

رفعت كتفيها ببساطة: اه، آني عندي 15سنة.

مال بجسده قليلا للأمام، وتساءل بصوت جاد: آخر حاجة فاكراها إيه؟

نفخت ماسة بتذمر طفولي، فمسح مجاهد بلطف على قدميها: ردي على الدكتور يا بنتي عشان يعرف أنتِ عندك ايه؟!

ماسة ببراءة: حاضر.

تنهدت ثم أجابت: كنت بعمل قهوة لرشدي بيه.
ثم أشارت بيدها نحو سليم: أخو سليم بيه ده، وبعدها مش فاكرة ايتوها حاچة غير إني صحيت هنا وقالولي إني وقعت.

تنحنح الطبيب، ونظر لها مباشرة: بصي يا ماسة، أنتِ لما وقعتي في حاجات نسيتيها، في حاجات حصلت بعد موضوع القهوة، إحنا هنحاول نخليكي تفتكريها.

رفعت حاجبيها بتعجب ثم ضيقت عينيها: يعني ايه حاجات نسيتها؟ آني مش فاهمة حاجه؟

ابتسم الطبيب وقال بلطف: يعني أنتِ دلوقتي مش عندك 15 سنة، أنتِ عندك 25 سنه، وسليم بيه مش بس ابن عزت باشا وبس، ده كمان جوزك، واللبس والملامح اللي شايفاها على أهلك متغيرين، دي طبيعية، السنين عدت، حتى أنتِ كمان ملامحك اختلفت.

أمالت رأسها، وضحكت باستخفاف: أنت بتتنقور عليا يا بيه؟ سليم بيه ابن الهانم والباشا جوزي؟! ههههه عبيطه آني بقى عشان اصدق.

اقترب الطبيب أكثر، وقال بهدوء: دي الحقيقة يا ماسة، بعد موضوع القهوة أنتِ وسليم بيه اتعرفتوا على بعض واتجوزتوا، صح يا سليم بيه؟

أومأ سليم برأسه، ورد بصوت مكسور لكنه حاول الثبات: أيوه، دى كانت أول مره نتقابل فيها، وبعدها بشهر اتجوزنا.

عقد ماسة حاجبيها، وقالت بنبرة رافضة غير مصدقه: أنتم كدابين، آني أصلا مشفتوش في الحفلة.

تنفس سليم ببطء وقال بنبرة حنونة وكأنه يحاول ان يذكرها ويفهمها ما حدث: ما هو أنا دخلت عليكي وقتها وكانت أول مره تشوفيني، كنتي بتعملي القهوة، ورشدي حاول يتحرش بيكي وأنا انقذتك؟!

نظرت ماسة حولها بتركيز مرتبك، عيناها تتنقلان بين الوجوه، ثم التفت بسرعة لأمها وقالت بصوت مرتجف، والدموع تتلألأ في عينيها: يا مااا هما بيقولوا إيه؟! أنتم بتضحكوا عليا صح.

ضمتها سعدية بقوة إلى صدرها، يدها تمسح شعرها بحنان مرتعش: متخافيش يا حبيبتي، كل حاجة هتبقى زي الفل، وهترجعي تفتكري كل حاجة إن شاء الله، اللي بيقولوه صح، سليم بيه جوزك، وأنت دلوقتي عندك 25 سنة.

اتسعت عينا ماسة أكثر، وشفتيها ترتعشان بصدمه وارتباك: يعني إيه؟! آني، آني مش فاهمة حاجة؟!

بدأت أنفاسها تتسارع، والدموع تنهمر بغزارة وهي تهز رأسها بعنف، ووضعت يديها على رأسها كأنها تحاول أن تستعيد ذاكرتها بالقوة: آني مش فاكرة حاجة خالص من اللى بتقولوه دى! آني مش فاكره حاجه!!

تقدم يوسف بخطوات متوترة، وصوته يتهدج بحنان:
طب اهدى طيب يا حبيبتى ، متعيطيش.

اقترب سليم بحذر، وعيناه مليئتان بالقلق، جلس بجانبها وأمسك يدها برفق، ونبرة صوته ممزوجه بين الرجاء والألم: متخافيش يا عشقي، إحنا كلنا جنبك، وهتفتكري كل حاجه، بس حاولي تسمعي كلام الدكتور.

رفعت عينيها الغارقتين بالدموع، ببطئ ونظرت اليه نظره مليئة بالانكسار والضعف، وقالت بصوت متهدج: ازاى بس وآني مش فاكراك خالص، حاسه إني دي أول نوبة نشوفك

هز سليم رأسه، وابتسامة صغيرة موجعه ترتسم علي وجهه يحاول بها تهوين الأمر رغم دموعه: هتفتكريني، متخافيش..

ثم انحنى بخفة، ووضع قبلة طويلة مرتجفة على يدها، لكنها سحبت يدها بسرعة، وابعدتها عنه بعفوية مرتبكة وخجل، فأعاد سليم جسده إلى الخلف قليلًا، متفهما رد فعلها، ساد الصمت للحظات، والكل ينظر إليها بعيون يملؤها التأثر والعجز، إنها ماسة، لحما ودما أمامهم، لكنها فقدت من ذاكرتها ما جعلها كالغريبة بينهم.

أما سليم، فظل يحدق فيها، قلبه يتفتت وجعا، عاجزا عن فعل أي شيء سوى أن يصبر وينتظر ما سيقوله الطبيب.

رفع الطبيب يده بهدوء محاولا تهدئتها: واحده واحده يا ماسة، كل حاجة هتفتكريها بالراحة، بس حاولي تفتكري تفاصيل آخر حاجه حصلت معاكي في الحفله.

عدلت ماسة من جلستها وعيناها تحدقان في سقف الغرفة، ثم أمالت رأسها وكأنها تحاول استحضار صورة ضائعة، وهمست بصوت خافت متقطع: مش فاكرة حاجة غير إني كنت في الحفلة بتاعة عيد ميلاد الست لارا، رشدي بيه، ابن فايزة هانم قريبة سيدي منصور بيه طلب مني أعمله قهوة، دخلت عملتهاله وبعدين…

صمتت للحظة، وكأنها تحاول أن تتذكر، اغمضت عينيها بعنف ثم فتحت عينيها الدمعتين مره أخرى: هو فعلا رشدى بيه دخل عليا؟ بس، بس مش فاكرة حاچة تاني!

أضاف سليم وهو يحاول أن يساعدها علي التذكر، فقال بنبرة هادئة وهو يربت على يديها: بعدها، رشدي حاول يغازلك وقرب منك، وانتي صرختي، وأنا دخلت أنقذك، وحصل بينا مواقف حلوه واتجوزتك بعدها بشهر، وعشنا مع بعض أكتر من 10سنين.

ماسة بزهول: يعني أحنا متجوزين من 10سنين؟!

هز سليم رأسه بإيجاب: ايوه.

رفعت ماسة بصرها فجأة، عيناها تلمعان بارتباك، نظرة طفل يواجه حقيقة غريبة عن نفسه، وتمتمت بصوت مرتعش: آني مش فاكرة أيتها حاچة من اللى بتقول عليها دى خالص، آني أصلا أول مرة نشوفك.

ارتجف قلب سليم، حاول أن يمنع دموعه من الهبوط، فابتسم ابتسامة واهنة، وخرج صوته دافئا داعما: ما قولتك، هنفتكر كل حاجه سوا، متقلقيش.

تقدم الطبيب خطوة للأمام، وابتسم ابتسامة مليئة بالأمل، وصوته هادئ مطمئن: متقلقيش ده طبيعي جدا، الذاكرة ساعات بتلخبط بالشكل ده، متقلقيش، ممكن في أي وقت تصحي تلاقي نفسك افتكرتي كل حاجة.

تنهدت ماسة وأغلقت عينيها كأن النوم سيكون مشهدا يفتح لها باب الذاكرة وقالت ببراءتها المعتادة: خلاص آني هنام، علشان لما أصحى افتكر.

ابتسم الطبيب ثم رد بصوت عملي وهو يشرح بتركيز: لا ماهو مش بالضرورة لو نمتى دلوقتى تصحي فاكره، إحنا لسه هنبدأ ناخد أدوية وجلسات علاجية علشان نساعد على تنشيط الذاكره وتفتكري كل حاجة..
ثم قف الطبيب أمامها وركز النظر في عينيها وقال بصوت هادئ ليمنحها الشجاعة: بس قوليلي، أنتِ قوية مش كده؟

هزت ماسة رأسها نافية، ودموعها تتساقط في صمت، وكتفيها يهتزان بخوف مكتوم وضعف.

اقتربت سلوى وجلست بجوارها، وأمسكت يديها ومسحت عليها بحنان، وهمست بصوت محمل بالرجاء: حبيبتي، متخافيش أحنا معاكى، وكل حاجة هتفتكريها بس متعمليش في نفسك كده واهدى.

رفعت ماسة عينيها تحدق في ملامح سلوى بدقة، كأنها تقارن صورة قديمة بأخرى جديدة، ثم امعنت النظر في كل الواقفين أمامها بعنايه، كانت عيناها تلمعان بدهشة، فاشارت بيدها المرتعشه نحوهم وقالت بصوت خرج متقطعا: إيه ده شكلكم بقي عامل كده ليه؟ كأني بقالي ياما مشوفتكوش، حتى يوسف! إزاي بقى طويل كده؟!

اتسعت عيناها أكثر، والدموع انهمرت بسرعة، ومسحتها بكفيها المرتجفين وهي تهمس بصوت مختنق: آني عايزة أشوف شكلي بقى عامل ازاي.

كان سليم واقفا، كأن الأرض تسحب أنفاسه، عيناه مشبعتان بالدمار، وألمه يختنق في صدره، يتشبث بآخر خيط يمنعه من الانهيار، التفت نحو الطبيب بنظرة استغاثة، فهز الأخير رأسه ببطء وهدوء، كإشارة بالموافقة.

مدت سلوى يدها إلى حقيبتها، أخرجت مرآة صغيرة وناولتها لماسة، ارتجفت أصابع ماسة وهي تأخذها، ورفعتها ببطء نحو وجهها، لحظة صمت خانقة سادت المكان، وكأن الأنفاس توقفت.

ثم شهقت بحدة، ويدها الأخرى امتدت تتحسس خطوط وجهها: إيه ده آني ! شكلي بقى عامل كده ليه؟

اقترب عمار بخطوات حذرة، وابتسم ابتسامة واهنة وصوته خرج رقيقا: أنتِ زي القمر يا ماسة، بالعكس دى أنتِ زدتي حلاوه.

لكنها هزت رأسها برفض، والدموع تنهمر من عينيها بغزارة: بس شكلي اتغير، آني نمت بشكل وصحيت بشكل تاني، حتى أنت يا عمار وكلكم متغيرين عليا! آني عايزة أفتكر، عايزة أفتكر كل حاجة!

غطت وجهها بكيها، وانفجرت في بكاء حارق، شهقاتها المتقطعة تكتم صرخة ممزقة.

اهتز سليم، الذي كان على حافة الانهيار، وضغط قبضته حتى احمرت أصابعه، التفت إلى الطبيب بصوت مبحوح، كأنه يستنجد: يا دكتور… هي مش محتاجة مهدئ؟

الطبيب بنبرة هادئة مطمئنة، وهو يراقب ماسة بعين يقظة: لا طبيعي جدا ردة فعلها، بصراحة أنا كنت متوقع انهيار أقوى من كده.

انحنت سعدية عليها واحتضنتها بقوة، وهي تهمس بحنان: يا ضنايا كفايه عياط، إحنا كلنا جنبك، لا إله الا الله كان مستخبيلك كل ده فين يابنتي مش مكتوبلك تفرحي.

مد يوسف يده المرتبكة، وربت على كتفها بصوت خافت: خلاص يا ماسة إحنا حواليكي، مش هتكوني لوحدك.

مسحت سلوى دموع أختها، وقبلت جبينها وهي تهمس: وحياتي عندك خلاص.

حتى مجاهد قرب كرسيه وأمسك كفها للحظة، وقال بصوت عميق مطمئن: أنتِ قوية يا بنتي، وهتعدي من دي إن شاء الله.

جلسوا حولها كحائط حماية، كل واحد منهم يمد لها لمسة أمان في بحر خوفها.

بينما الطبيب كان يتابع المشهد بعين خبيرة، ثم التفت بهدوء نحو سليم، وأشار له أن يقترب قليلا، وقال بصوت منخفض: أنا محتاجك معايا بره دقيقة.

أومأ سليم برأسه إيجابا وتحرك مع الطبيب لخارج الغرفة.

في الممر
نري سليم والطبيب متوقفا امام بعضهما، الطبيب بدعم: أنا محتاجك تمسك نفسك شوية، وتهدى أعصابك أكتر من كده، لأن هي محتاجة تشوفك ثابت، لو شافتك منهار كده، هتخاف أكتر.

أومأ سليم برأسه ببطء، يبتلع غصته بصعوبة، ومرر كفه على وجهه في محاولة لإخفاء ارتجافته، ثم تنفس بعمق.

تابع الطبيب، وعينيه مركزتان في عيني سليم، بنبرة هادئة لكنها حازمة: بص يا سليم، دلوقتي أهم حاجة تحافظ على هدوءك، هي هتفضل تحت الملاحظة النهارده، بس بكرة ممكن تخرج وترجع البيت عادى، أنت دورك معاها إنك تديها الأمان، متضغطش عليها إنها تفتكر، إحنا هنشتغل مع بعض خطوة بخطوة،جلسات وأدوية بسيطة تساعدها.

شد سليم يده بعزم: أنا معاك في أي حاجة، أهم حاجة ماسة ترجع زي الأول.

هز الطبيب رأسه بهدوء: هترجع، بس بالراحة من غير استعجال.

رمش سليم بعينيه قليلا، وقال بعين دامعه بنبرة متوترة: طب إيه الخطوات اللى ممكن نعملها، أنا خايف عليها يا دكتور

أشار الطبيب بيده بهدوء ليهدئ من روعه: أول حاجه لازم تتحكم في توترك شويه واعمل التمارين اللى متفقين عليها علشان تساعدك تبقي اهدى، وبعدين خلينا متفقين إن أنت بالنسبه لها دلوقتي إنسان غريب “سليم بيه” يعنى طبيعي تكون متوترة وخجلانه منك كأنها رجعت عذراء خاصة مع أى تلامس بينكم حتى لو كانت بريئه، فلازم تكون حذر، ويفضل لو مامتها قعدت معاكم يومين لحد متاخد عليك شويه وتطمن، وهأكد عليك تانى بلاش تضغط عليها علشان تفتكر خلى ديما هى عندها سؤال وأنت مجرد إجابه، وممكن لو رجعتم فيلتكم الأولي اللى كان ليكم فيها ذكريات جميله ده يساعدها على إنها تفتكر حاجه، وديما خلى قدامها الصور اللى بتجمعكم سواء البومات أو صور علقها على الحيطه.

نظر له سليم، متسائلا بتردد: طب افرض مسألتنيش؟

الطبيب بهدوء: أكيد هتسألك، وأول حاجه هتسألهالك “أحنا حبينا بعض أزاى” ، وأكيد هيبقي فيه اسئله كتير في دماغها عايزه تلاقي لها إجابات، فأنا مش حابك تفرض عليها أنت الذكريات سيبها هى اللى تبادر بالسؤال الأول، ومتقلقش هى كل ماتشوفك هتصدعك أسئله.

نظر سليم لأسفل وهو يشبك أصابعه في بعض وقال بنبره مهزوزه: طب ولو سألتني عن الذكريات التانيه؟ هجاوب عليها ازاى؟ أنا مش عايز أكدب ولا أخبي عليها نص الحقيقة واقولها النص التانى زى ما كنت بعمل زمان.

الطبيب بهدوء: قولها الدكتور طلب منى أحكيلك قصه تدريجياً.

تردد سليم لحظة، ونظر للأرض ثم رفع رأسه ببطء، وقال بصوت منخفض: تفتكر يا دكتور، ممكن تكون نسيتني عشان كرهاني للدرجة دي؟ دى حتى الفترة اللي كنا فيها كويسين مع بعض،نسيتها؟

تنحنح الطبيب، ووضع يده على كتف سليم بدعم: مش شرط تكون كرهتك، هي ببساطة مش قادرة تتحمل الضغوط النفسية اللي اتعرضتلها في الفتره دى، أنتم معظم حياتكم تقريبا كانت كلها ظروف صعبه، فعقلها الباطن اختار إنه ينسى ويرجع لوقت كان مرتاح فيه أكتر، والوقت دى أنت مكنتش في حياتها فيه، لكن هى مش كرهاك ولا عايزه تنساك شخصيا، بس أنت ظهورك في حياتها كان بدايه فترة الضغط اللى عاشته علشان كده نسيتك، بعدين مس سبب وقوعها واللى هى فيه كان ليه؟ مش لإنها زعلت منك، لأنك عملت العمليه من غيرها، فتفتكر دى كان رد فعل واحده كرهاك لدرجه إنها قاصده تنساك؟

اهتز سليم قليلا، ونظر إليه بعينين اغرورقت بالدموع، وقلبه يعصف به من الألم، يحاول أن يصدق حديث الطبيب، لكن الطمأنينة لم تتسلل بعد إلى صدره، فمازال الخوف يسيطر عليه.

ركز الطبيب النظر في ملامحه، ثم ابتسم باطمئنان: متقلقش، الموضوع بسيط، وإحنا لسه في البداية، ولسه هقعد معاها تاني.

تنهد سليم بعمق ومسح وجهه ونظر للطبيب متسائلا: طب أنا المفروض لما ادخل جوه، اتعامل معاها ازى دلوقتى

لوح الطبيب بيديه: اتعامل عادى جدا، وهزر، زى مابتتعامل مع أى حد، وخلى مامتها تبات معاكم اليومين دول عشان نشعرها بلامان والراحه، بلاش أخواتها علشان العلاقه مابينكم متوترة ومش حابين إن يحصل أى مشادة قصادها، وأنا هستناكم بعد بكره في العياده الساعه6.

هز سليم رأسه وشكره بامتنان: شكرا جدا يا دكتور.

ثم التفت إلى عشرى: وصل الدكتور يا عشرى.

غادر الطبيب بخطوات هادئة، فيما تجمد سليم في مكانه غارقا في دوامة أفكاره، يحاول إسكات ضجيج عقله المرهق، متشبثا بثباته بكل ما يملك من قوة، كان عليه أن يرسم ابتسامة واهنة ليطمئن ماسة، رغم نيران الخوف المشتعلة في أعماقه، مسح وجهه بكفيه، استجمع ما تبقى من قوته، ثم فتح الباب وخل، وعلى شفتيه ابتسامة واسعة تخفي صراعه الخفي.

غرفة ماسة.

دخل سليم الغرفة، والابتسامة تزين وجه بينما كانت ماسة لا تزال تبكي.

سليم بنبرة غزل: الجميل لسه بيعيط؟! مش حرام العيون الزرق الحلوين دول يبقوا كدة..

رفعت رأسها نحوه بعينين دامعتين بصمت

اقتربت سليم، وأضاف بنبرة هادئه: أنا كنت مع الدكتور، وقالي إن بكره هتخرجي، كمان ماما هتبات معاكي النهارده، وقال إن كلها كام يوم وهتخفي.

اتسعت عينا ماسة بسعادة، ومسحت دموعها: بجد؟!

هز سليم رأسه بابتسامه حزينه: أيوة بجد.

ثم رفع نظره إلى سعدية وأشار إليها بهدوء: سعدية، من فضلك دقيقة.

نهضت سعدية اقتربت منه بخطوات مترددة، ثم توقفت على مقربة منه، تتساءل بقلق: خير فيه ايه؟ الدكتور قالك حاجه؟!

حدق سليم في عينيها وهو يتحدث بصوت خافت موضحا بجدية: الدكتور قال إنك هتباتي معاها النهارده، وهي بكره إن شاء الله هتخرج، وهتيجي معانا الفيلا وتقعدي معاها يومين لحد ما تطمن..
ثم أضاف بتحذير وهو يشير بيده بهدوء: بس خلي بالك، متحاوليش تخليها تفتكر غصب عنها، ولو سألت على حاجة، ردي عليها ببساطة، والأهم إنك تفهمي إخواتها يتعاملوا معايا كويس قدامها، هم للأسف مش هينفع يكونوا متواجدين معانا كتير، رغم إن ده كان هيبقى أفضل، بس هما مش عارفين يحطوا كنترول على غضبهم، وأنا مش هغامر بيها، فهحاول أخلي الاحتكاك بينا قليل علشان متحصلش اي مشكله قدامها وتتعب، وبالنسبه للمشاكل اللى حصلت مش هنحكيلها عليها دلوقت، إحنا هنحكيلها بس عن الذكريات الحلوة، فاخرجي كأنك بتطلبي من سلوى تجيبلك لبس أو أي حاجة، وفهميهم بره اللي أنا قولته عشان مش عايزين اي غلط.

ابتسمت سعدية ابتسامة باهتة وأومأت برأسها: حاضر يا سليم، أنا مصدقة إنك مأذيتش بنتي، عشان عارفة قد إيه بتحبها.

ثم التفتت نحو أولادها، وأشارت بيدها بحزم: بقولكم إيه يا عيال يلا روحوا، وأنتِ يا سلوى، روحي مع إخواتك وابعتيلي غيار مع حد من رجالة سليم.

تعلقت سلوي بماسة، وقالت رجاء: أنا عايزة أبات مع ماسة النهارده.

تشبثت ماسة بيد سلوى، وقالت بصوت مبحوح: أيوه يا ياما، خليها تبات معايا.

هزت سعدية رأسها بصرامة: لأ الدكتور قال واحدة بس، وأنا اللي هبات، يلا بقى، مش عايزة وجع دماغ، اسمعوا الكلام.

هز الجميع رؤوسهم في استسلام، وبدؤوا يودعون ماسة واحدا تلو الآخر، يقبلونها بحنان.

مجاهد وهو يقبلها: هجيلك بكره يا حبيبتي.

خرجوا جميعا، وبقي سليم بجوار ماسة، جلس علي المقعد أمام فراشها، ونظر إليها بحنان، وتساءل باهتمام: إنتِ مش جعانة؟

مسحت ماسة، دموعها بباطن كفها وقالت ببراءة: أه آني جعانة أوى، بس مكسوفه أقول.

ابتسم سليم بحنو: لا يا حبيبتى متتكسفيش، تحبي تاكلي إيه؟

ماسة بهدوء: اي حاجة.

سليم بلطف: مش نفسك في حاجة معينة؟

رفعت ماسة عيناها لاعلى بتفكير قصير ثم ابتسمت وقالت ببراءة: خلاص، عايزة سندوتشات همبرجر.

ضحك سليم بخفة: هجيبلك برجر، وكمان لايون بالكاتشب.

اتسعت عينا ماسة بدهشة، وارتسمت ابتسامة صغيرة على وجهها: إيه ده؟ أنت عارف إني بحب اللايون بالكاتشب؟

ابتسم سليم، وكاد أن يلمس يدها لكنه تراجع متذكر حديث الطييب: أيوه عارف، هجيبلك كل اللي إنتِ عايزاه، حاضر.

ثم نادى على مكي بصوت عالي: مكي! خلي حد يوصل الجماعة، وهات سندوتشات البرجر اللي ماسة بتحبها، وشيبسي لايون بالكاتشب.

مكي: حاضر.

نظرت ماسة إليه بعينين متسائلتين: هما العيال فين؟

ضيق سليم عينيه، لم يفهم قصدها: عيال مين؟!

قالت ببراءة، ودمعة محبوسة في عينيها: عيالنا، مش أنت قولت إننا متجوزين من يجي 10سنين؟ أكيد عندنا أولاد، هما فين؟ ولا أقولك لا، متجبهمش، آني مش فاكرة أسماءهم، وهيزعلوا مني إني نسيتهم، وريني صورهم كده.

تجمد سليم في مكانه، رمش بعينيه لحظة، وابتلع ريقه؛ لم يكن يتوقع سؤالا كهذا، قال بهدوء وثبات، غير أن صوته خرج مبحوحا، يغلفه ألم عالق في حلقه: إحنا معندناش أولاد يا ماسة.

اتسعت عيناها بصدمة،وقالت بدموع: آني مبخلفش؟ زي أحلام؟

تجمد سليم ورد بسرعة: لأ، مش كده! بس، مين أحلام؟

ماسة وهي تمسح دمعتها: أحلام، أخت هدير صاحبتي، إزاي متعرفهاش؟ مكنتش بتخلف وجوزها طلقها.

ابتسم سليم ابتسامة هادئة ليطمئنها: لأ، أنتِ كويسة، كل الحكاية إني لما اتجوزتك كنتي صغيرة، واتفقنا ساعتها نأجل الحمل لحد ما تكبري.

ماسة بحزن: بس آني كبرت اهو، قولي الحقيقة، آني مش بخلف صح؟!

هز سليم رأسه مؤكدا: والله بتخلفي، وحملتي مرتين، بس حصل إجهاض.

انكمش وجهها بالألم، وانحدرت الدموع من عينيها،
اقترب منها سليم، ومسح دموعها بحنان: ليه دموع؟! إحنا مع بعض اهو وهنخلف إن شاء الله، ونجيب أطفال كتير، ولدين وبنتين، ولو عايزة أكتر، أنا معاكي.

ارتسمت ابتسامة بريئة على وجهها: وهنسمي حور.

ارتعش قلب سليم مع الاسم، كأن سكينا انغرس فيه، تجمدت أنفاسه، واهتزت دمعة في عينه كادت تخونه، لكنه تمالك نفسه بعد لحظة صمت ثقيل: آه، طيب يا عشقي، كفاية أسئلة دلوقتي، وارتاحي شوية لحد ما الأكل ييجي..

ماسة بشغف وحماس: بس آني عايزة أفتكر.

أجابها بلطف، وقال بمهادة كأنه يحدث طفله: هتفتكري، بس لازم نسمع كلام الدكتور، يلا قولي حاضر.

ماسة ببراءه، وملامحها تنكمش بألم: حاضر، بس جسمي واجعني أوي.

سليم بهدوء: معلش يا حبيبتي ده من أثر الوقعة، هخلي الدكتور يديكي مسكن، يلا ارتاحي.

نهض عدل لها الوسادة، فاستسلمت للنوم، وأغمضت عينيها كالملاك، جلس سليم يتأملها، وعيناه تلمعان بدموع مكتومة، وقلبه يتعصر ألما.

في تلك اللحظة دخلت سعدية، وحين رأت ماسة نائمة اقتربت وهمست لسليم: أنا كلمتهم، وفهمتهم كل حاجة، بس هما عايزين يجوا يشوفوها.

أجابها بصوت خافت وإيجابي: يجوا بس أهم حاجة زى ماقولتلك يتعاملوا معايا قصادها كويس،ومحدش يفتح سيرة عن اللي حصل آخر فترة لحد ما نشوف الدكتور هيقول ايه.

طمأنته سعدية: متقلقش..
ثم نظرت إلى ماسة بحزن: يا حبيبتي يا بنتي، كان مستخبيلك فين كل دى، بس الحمد لله على كل حال.

وبعد قليل

جاء مكي يحمل الطعام، وقف عند الباب يناول لسليم أكياس الطعام، وهو يتساءل بلطف: هي عاملة إيه دلوقتي؟

هز سليم رأسه بحزن: الحمد لله.
ثم أضاف بهدوء: بقولك إيه، روح أنت بقى، أنا هبات.

هز مكي رأسه بإصرار: لا، أنا هقعد معاك.

أخذ سليم منه شنطة الطعام وقال وهو يلمح سعدية: طب عملت حساب سعدية؟

أجاب مكي بسرعة: آه، عملت حساب الكل، وحسابك أنت كمان، أنا هقعد بره، لو احتاجت حاجة ناديني.

ابتسم سليم، وربت على كتفه بأخوه: ماشي يا حبيبي، ربنا ميحرمنيش منك.

ابتسم مكي وغادر الغرفه، والتفت سليم إلى سعدية يقدم اليها بعض الطعام، ثم اقترب بخطوات هادئة من الفراش، وجلس إلى جوار ماسة، ومد يده يمسح برفق على شعرها، هامسا بلطف: ماسة، يلا يا عشقي الأكل جه.

فتحت عينيها بتثاقل، حدقت فيه قليلا، مد يده ليساعدها على الجلوس، فوضعت يديها على رأسها وأنفاسها متقطعة بوجع: راسي وجعاني أوي.

سليم بحنو: معلش كلي يلا، وبعدين هخلي الدكتور يديكي مسكن قوي.

أخرج ساندوتش ومده لها برفق، ثم فتح كيس شيبسي، وابتسم ابتسامة مشجعة وقال: يلا كلي يا قلبي.

أمسكت ماسة الساندوتش بخجل وسألت: هو احنا بكرة هنروح البيت؟

أومأ سليم برأسه: آه.

قالت بنبرة هادئة: طب بكرة هتحكيلي كل حاجة عشان أفتكر؟

هز سليم رأسه: إن شاء الله، بس اتفقنا النهارده مفيش كلام كتير، النهارده ترتاحي وبس.

هزت ماسة رأسها موافقة: ماشي.

بدأت ماسة تتناول طعامها ببطء، وسليم يراقبها وهو يشاركها الأكل، فيما تابعتهم سعدية بصمت، بعد قليل دخل الطبيب، ألقى نظرة سريعة وأعطاها مسكنا، فأومأ له سليم شاكرا، سكنت الغرفة، فغفت ماسة، وأرخى سليم جسده على الكرسي فغلبه النوم، وكذلك سعدية على الكنبة، حل الصباح، وما زال سليم نائما على الكرسي، رأسه مائل ويده تستقر على بطن ماسة، فتحت عينيها تدريجيا، وشعرت بحرارة يده، فاحمر وجهها وسحبتها برفق وخجل.

شعر سليم بها تحرك ببطء، فتح عينيه وابتسم بخفوت، وقال بصوت مبحوح بنبرة ناعسه: صباح الخير.

ابتسمت ماسة بخجل: صباح النور.

فرك سليم عينيه، وهو يتساءل: عاملة إيه دلوقتي؟ لسه جسمك ودماغك واجعينك؟

رفعت ماسة يدها تشير: شوية.

اعتدل سليم واقفا، تأوه من التعب: هروح أكلم الدكتور.

فتح الباب بهدوء وخرج، فرأى مكي ممددا على المقعد بجوار الباب، رأسه مائل وذراعه متدلية، بينما كان الحارسان يتبادلان نظرات عابرة، رفع أحدهما رأسه ليكلم سليم، فأشار إليه واضعا إصبعه على شفتيه: هس

لكن مكي تحرك فجأة، فتح عينيه ومسح وجهه: إيه يا سليم؟ في حاجة؟

سليم ضاحكا: إيه يا ابني نوم الديابة ده؟

تمطع مكي وقال: أنا أصلا مش عارف نمت إزاي.

ربت سليم على كتفه: ماسة صحيت، هشوف الدكتور عشان نتحرك، حضرت الفيلا زي ما قولتلك؟

هز مكي رأسه بحماس وهو ينهض: آه، كلمتهم امبارح، ونفذنا كل اللى طلبته، وكمان بعت سحر هناك.

ابتسم سليم باطمئنان: تمام بس عملت اللي قولتلك عليه؟ لازم أول حاجة تشوفها الصور.

لوح مكي بيده: أيوه، خليت سحر تطلع الصور من الألبومات، وكده كده فيه صور متعلقة على الحيطة.

ثم تابع بهدوء: ادخل أنت خليك معاها وأنا هنادي الدكتور.

وبعد قليل دخل الطبيب الغرفة واطمأن على ماسة، ثم كتب لها الأدوية المناسبة، ساعدتها سعدية في تبديل ملابسها، هبطت ماسة إلى الأسفل متعجبة مما يحدث حولها، لكنها حاولت التماسك، وهي تمسك يد والدتها بقوة كأنها تستمد منها الأمان، فتح السائق باب السيارة، فصعدت ماسة في المقعد الخلفي، وجلس سليم إلى جوارها.

رفعت عينيها نحوه، تتساءل بتعحب: امي فين؟

ابتسم سليم ابتسامة هادئة: ماما هتركب في العربية التانية، خايفه تركبي معايا اجيبهالك؟

هز رأسه بنفي موضحه: لا مش خايفه، بس اتخضيت.

تبسم سليم بتفهم، تحركت السيارات معا، والصمت يخيم على الطريق.

فيلا عائلة هبة، السادسة مساء

كانت الحديقة هادئة، تتداخل أصوات العصافير مع ضحكة نالا الصغيرة الجالسة على العشب بين ألعابها، تمسك تابلت والدتها وتتصفح إنستجرام من حساب والدها ياسين، تفتح صفحة لوجين، وعيونها تلمع فضولا وهي تضغط الإعجابات المتتاليه.

اقتربت هبة وسحبت التابلت منها برفق: يلا يا نونو سيبيه بقى، قعدتي عليه ساعتين.

نالا بتوسل: بليز يا مامي، شوية كمان.

هبة بحزم حنون: اتفقنا ساعتين بس في اليوم.

نالا بإلحاح: طب خمس دقايق بس أشوف آخر صورة.

نظرت لها هبة باستغراب: أنتِ أصلا بتتفرجي على إيه؟

نالا ببراءة وحماس: على صور چوچا.

نظرت هبه للصور، وتساءلت بتعجب: چوچا؟ وأنتِ تعرفيها منين؟ مش دي السكرتيرة بتاعة بابي؟

نالا بعفوية: آه عرفاها، دى صاحبتي، جت معانا المزرعة يوم الجمعة، قعدت تلعب معايا كتير، وجابتلي حاجات حلوة، شوكولاتة وعروسه، وقطعتلي الفراخ في الغدا عشان متعورش بالسكينة، أنا بحبها أوي، كانت بتحكيلي قصص حلوة، وقالتلي إنها هتجيبلي هدية أكبر المرة الجاية.

جلست هبة أمامها بسرعة، وتساءلت بعينان متسعتان: إيه؟ كانت معاكم يوم الجمعة؟ قعدت اليوم كله ولا جت تمضي ورق للشغل ومشيت؟

نالا ببراءة: معرفش يا مامي، بس هي فضلت معانا طول اليوم، وبابي صورنا صور كتير حلوه، بصي.

مدت نالا التابلت، فأخذته هبة بيد مرتعشة، تتأمل صور لوجين المبتسمة إلى جوار نالا وأحيانا إلي جوار ياسين، توقفت عيناها عند بعض اللقطات، وقد لمحت في نظراته إلى لوجين شيئا مألوفا، نظرة قديمة كانت يوما لها وحدها.

تساءلت هبة باستفسار: طب يا حبيبتي، بابي كان بيعمل إيه معاها؟

ابتسمت بعفوية، وقالت ببراءه: كانوا بيتكلموا ويضحكوا سوا وهو بيفرجها على المزرعه، وبعدين ركبوا سوا على الحصان، أنا كنت نايمة وچوچا صحتني وقالتلي إنها كسبت بابي في السباق.

تجمدت ملامح هبة، ارتجف قلبها بقوة وهي تبتلع ريقها، وعيونها تلمع بخليط من الصدمة والغيرة.

سحبت التابلت فجأة، وقالت بحزم: خلاص يا نونو، روحي العبي بألعابك كفاية تابلت النهاردة، بكره ابقي كملي فرجه على الصور.

هزت نالا رأسها إيجابا، وطبعت قبلة على خدها ثم ركضت نحو ألعابها، فيما بقيت هبة ساكنة كأن الكلمات عالقة في صدرها كحجر ثقيل، بدأت تقلب الصور مجددا، ثم فتحت صفحة لوجين على إنستجرام، فلم تجد صورة إلا وياسين قد وضع إعجابا أو تعليقا رقيقا، وهي بدورها تبادله الإعجابات والكلمات، فجزت هبة على أسنانها بضجر وغيرة.

فيلا سليم ماسة القديمه الثانية مساء.

دخلت السيارة بوابة الفيلا القديمة، تلك التي حملت أجمل ذكرياتهم، كانت ماسة تحدق من النافذة بعينيها الواسعتين، وفجأة ارتجف جسدها، وضعت يديها على رأسها واغمضت عينيها بقوة، ثم تشبثت بذراع سليم فتحت عينيها

التفت إليها سليم بقلق: مالك يا ماسة؟

تنفست بسرعة، وصوتها خرج متقطعا: مش عارفة، حاسة إني شوفت حاجة!

أشار سليم للسائق أن يتوقف، ثم قال بحنو وهو يحاول تهدئتها: بالراحه، دي فيلتنا القديمة، عشنا هنا سنين كتير في أول حياتنا، وعملنا فيها ذكريات كتيرة حلوه، ممكن تكوني افتكرتي حاجة منهم، تعالي ننزل.

هبط مكي أولا، وفتح لهما السائق الباب، هبطت سليم ثم هبطت ماسة وعينيها تمسح المكان بخوف واستغراب، بدأت تخطوا خطوات مترددة، وسعدية خلفها وثناء تحركها، وضعت ماسة يديها على أضلاعها:

انتبه سليم: مالك يا ماسة؟

تنهدت بوجع: الحتة دي وجعاني خالص، وظهري ورجلي، حاسة إني كلي متفشفشه.

ابتسم سليم بهدوء طبيعي: الحمد لله إنك ماكسرتيش من الوقعة اللي حصلتلك على السلم.

هزت راسها بإيجاب: الحمدلله.
اكملا سيرهما في الحديقة حتى وصلت الى باب الفيلا.

استقبلتهم سحر بابتسامة دافئة: حمدالله على سلامتك يا حبيبتي.

نظرت اليها ماسة باستغراب، وتساءلت بصوت متردد: مين دي؟

سليم بهدوء: دي سحر، الدادا بتاعتك.

عقدت ماسة حاجبيها ببراءة: زي اللي عند لورين ولارا؟

ابتسم سليم، وهو يومئ برأسه بصمت.

أخذت ماسة تتأمل المكان، فوقعت عيناها على صور كثيرة تجمعها بسليم، توقفت فجأة، واشتد تنفسها، تتلاحق الصور في رأسها كومضات، فوضعت يديها على رأسها وأغمضت عينيها وجسدها يرتجف.

اقترب سليم بسرعة وهو يقول بقلق: مالك يا ماسة؟

لكن ماسة ظلت مغمضة العينين، وتلك الصور تهاجمها بلا رحمة، رفعت رأسها فجأة، فتحت عينيها بأنفاس متلاحقة، وصوتها خرج مرتجفا: مش عارفة، آني أول ما دخلت حسيت إن في حاجات بتضرب في دماغي صور ناس وأصوات بس مافيش حاجة باينه! كأنهم أشباح.

سليم بحنو في محاولة لتهدئتها: ده طبيعي يا حبيبتى متخافيش، بالعكس ده مؤشر حلو إنك إن شاء الله هتفتكري.

ترقرقت دموعها في عينيها، وهي تهمس برجاء: آني نفسي أفتكر، حاسة إني ماشية وراكم ومش فاهمه أيتوها حاجه، حاسه إني تايهه.

اقتربت سعدية بخطوات قلقة، مدت يدها وحاولت أن تربت علي كتفها بمواساه: يا بنتي متعمليش في نفسك كدة، هتفتكري باذن الله، قولي يارب وبس.

قالت ماسة بصوت متهدج، وهي ترتمي في أحضان والدتها، ويعلو صوتها بدعاء ممزوج بالبكاء: يارب، يارب كلام الدكتور يطلع صح، يارب خليني أفتكر كل حاجة يارب، آني تعبت.

كان سليم ينظر إليها بحزن، وعيناه تترقرقان بالدموع، يتمنى لو يستطيع احتضانها وطمأنتها، لكنه بات غريبا في نظرها، ولا يحق له ذلك.

بدأت ماسة تصعد الدرج بخطوات مترددة، وسعديه تساندها، بينما كان سليم يسير خلفهما بصمت حتى وصلوا إلى غرفتها القديمة في الطابق الثاني.

الغرفة

فتحت الباب ودخلت ببطء، تتأمل المكان بعينين حائرتين؛ الصور على الجدران، والفراش الذي رتبته بيديها قديما، وركن جلوسهما، والخزانة، كل شيء بدا غريبا كأنها تراه لأول مرة، اغمضت عينيها ووضعت أصابعها على جبينها تحاول استرجاع أي ذكرى، لكن عقلها ظل فارغا.

تنهد سليم واقترب منها برفق: أنا عندي كام مكالمة لازم أعملهم، غيري هدومك وارتاحي، وخدي حمام، وأنا هخلي سحر تجهزلك الأكل اللي بتحبيه، مش هتاخر عليكي.

هز ماسة رأسها بإيجاب بإبتسامة صغيرة.

خرج وأغلق الباب خلفه، تاركا ماسة مع والدتها.

اقتربت سعدية منها بابتسامة: يلا يا حبيبتي، تعالي أساعدك تستحمي وتغيري هدومك.

احمر وجه ماسة بخجل، وهمست: لأ يا اما، آني هستحمى لوحدي.

سعدية باعتراض: مش هتقدري علشان الجرح اللى في راسك، وجسمك اللى كله ازرق ده، يلا بلاش عناد.

وبالفعل تحركت ماسة معها للحمام، ساعدتها للجلوس، في البانيو بعد أن نزعت عنها ملابسها، وبدأت تغسل جسدها برفق بعيدا عن جرح رأسها، وضعت لها مرهم الكدمات، ثم تركتها لترتدي بيجامة قطنية مريحة، وبعد لحظات، دخلت سعدية وهي تحمل بين يديها قميص نوم قصير وجرئ.

سعدية: بصي يا حبيبتي، بعد ماتاكلي البسي ده حلو، أنا فاكرة انك قولتلي إن سليم بيحب الألوان دي.

حدقت ماسة في القميص أمامها بدهشة، واتسعت عيناها بين الاستنكار والخجل: إيه ده يا ياما ! ده قصير وعريان قوي، ألبسه إزاي يعني؟

ضحكت سعدية بخفة: إيه المشكلة يا بنتي؟ ده جوزك، هي أول مره تلبسي كده قدامه.

شهقت ماسه بخجل، وتساءلت باستغراب: يعني إيه أول مرة؟ هو آني لبست كده قدامه قبل كده؟!

سعدية وهى تربت على كفيها: يا حبيبتي، أنتِ كنتي متجوزاه 10سنين يعني كل ده بينكم عادي، البسيه.

ازدادت وجنتاها احمرارا، فابتسمت سعديه وربتت على كتفها: وبعدين انتم كدة كدة هتناموا جنب بعض النهارده، ميصحش الست تنام بعيد عن جوزها، فامسكى يا حبيبتى البسي واسمعي الكلام وبلاش مكسوفه والكلام الفاضي ده، ده جوزك..

اتسعت عيناها بخجل شديد: انام جنبه ايه يا ياما، ده آني بتكسف لما يمسك أيدي؟!

ضحكت سعدية وهزت رأسها: يا حبيبتي، ده جوزك، اسمعي الكلام بقى، أنا هقوم اريح في الأوضه اللى جمبك شويه؛ علشان تعبت، طول الليل صاحيه ونومه الكنبه واجعه لى ظهرى، وهنادى لسليم كمان يجى يريح جسمه شويه، فضل قاعد جنبك على كرسي طول الليل مداقش طعم النوم ولا عينه غفلت عنك لحظه وكل ما اقوله قوم يا ابنى ريح جسمك شويه يقولى لا أنا هفضل جمبها علشان لو احتاجت حاجه، فخليه ينام ويستريح شويه وأنت كمان استريحي وبطلي شقاوة علشان متتعبيش.

تركتها وغادرت الغرفة، بينما بقيت ماسة تحدق في القميص بارتباك، قلبها يخفق بخجل لا تعرف سببه.

وعلى الجانب الآخر، في الحديقة، كان سليم واقفا مع مكي يتحدث معه بجدية.

سليم بجذيه وحزم: مكي، أنا مش عايز أي حد يعرف اللي حصل أو إنها فقدت الذاكرة، اللى يسأل يتقاله ماسة تعبانة وبس وأكد على سحر.

أومأ مكي بثقة: متقلقش، مفيش مخلوق هيعرف غيرنا، لحد ما تخف بالسلامه.

تكملة الفصل

غرفة سليم وماسة.
كانت ماسة تتحرك في الغرفة ذهابا وإيابا بتوتر واضح، تشبك أصابعها تارة وتفكها تارة أخرى، وتلملم شعرها من وقت لآخر؛ كأنها تبحث عن شيء تخفي خلفه خجلها، قلبها يخفق بسرعة، والخوف يتصارع مع الحياء في ملامحها، لم تكن تعرف كيف ستنام معه اليوم بذلك القميص الذي أعطتها إياه والدتها، تلمس أطرافه بيدها وتتنهد: كيف سترتديه أمامه؟!
وفجأة طرق الباب، ودخل سليم بخطوات هادئة، ووقف عند باب الغرفة يراقبها بإبتسامة مطمئنة.
رفعت ماسة عينيها نحوه تتفحصه بعينين يختلط فيهما الخوف والحرج، فارتجفت ملامحها، وابتعدت خطوة صغيرة إلى الخلف.
ابتسم سليم بهدوء، وقال بصوت يملؤه الطمأنينة، وهو يضع يديه في جيبه: عاملة إيه دلوقتي؟
ماسة بارتباك، وهي تضع شعرها خلف أذنها: كويسة الحمد لله.
أقترب سليم منها يتساءل باهتمام وحنان:مفتكرتيش أي حاجة؟ يعني الصورة إللي شوفتيها وأنتِ طالعة على السلم، مشوفتيش حاجة شبها تاني؟
هزت رأسها نافيه بصمت.
ابتسم سليم ليطمئنها، وقال بحنان: متقلقيش بكرة هنروح للدكتور، وإن شاء الله واحده واحده هتفتكرى.
رفعت عينيها إليه ثم خفضتها سريعا بخجل، وتساءلت وهي تشد طرف جاكيت البيجاما بارتباك: هو، آني ممكن أطلب منك حاجة؟!
اومأ برأسه بابتسامة مشجعه: طبعا.
رفعت عينيها ببطء، وقالت بخجل شديد وتلعثم: بص آني لسة مش عارفاك ومكسوفة منك، ومش هعرف أنام جنبك النهاردة، ممكن تقول لأمي تيجي تنام جنبي، وكأنك أنت إللي عايز كدة؟ متقولهاش إن آني إللي طلبت، علشان متزعقليش وتضربني، ممكن!؟
ابتسم سليم بحنان: بس كدة!؟ حاضر.
اتسعت عيناها بدهشة: إيه ده يعني أنت بجد مش متضايق؟!
هز رأسه نافيا، وهو ينظر إليها بعينين دافئتين: لا خالص.
ابتسمت ماسة بخجل، وخفضت رأسها: شكرا يا سليم بيه.
اقترب منها أكثر، وقال بابتسامه: لا إحنا متجوزين، سليم بس.
ارتسمت، وابتسامة صغيرة على شفتيها:ماشي، شكرا يا سليم.
تحركت ببطء نحو الحائط المعلق عليه صور زفافهما، مدت أصابعها المرتجفة تلامس إطار صورة زفافها، ثم تساءلت وعينيها تلمعان بالدهشة: هو إحنا دول صح؟
اقترب سليم منها، ويتأمل الصورة بإبتسامة دافئة: آه فرحنا.
نظرت ماسة للصورة بدقة، ثم إلى سليم، ثم مرة أخرى للصورة، وهي تلمس الإطار بخفة: بس أنت شكلك متغير شوية.
ابتسم سليم بخفة موضحا: آه ما أنا هنا كان عندي 25 سنة، دلوقتي 35.
ثم ضيق عينه وسألها بمزاح محبب، وهو يراقبها بإبتسامة: بس قوليلي، إيه أحلى دلوقتي ولا الصورة؟
نظرت الى الصورة، ثم نظرت له مرة أخرى، وقالت بابتسامة خجولة: الاتنين حلوين، أنت أصلا أمور أوي..
وفجأة تجمد وجهها، وضعت يدها على شفتيها، بخجل شديد وخوف: آني آسفة، مش قصدي حاجة والله.
هز سليم رأسه، بإبتسامة متعجبا: بتعتذري ليه؟
أطرقت بنظرها نحو الأرض، تعبث بأطراف جاكيت البيجاما: علشان عيب أقول على راجل أمور.
مال سليم قليلا نحوها بإبتسامتة رقيقة، وصوته يحمل دفئا: لا مش عيب، أنتِ مش بتقولي راجل قمور لحد غريب، أنا جوزك، قولي كل إللي أنتِ عايزاه براحتك متخافيش.
سحبت شعرها للخلف بخجل، ثم نظرت ثانية إلى الصور: صورنا دي حلوة أوي، أنت إللي كنت عامل كده؟
نظر سليم إلى الصور وهز رأسه بنفي، موضحا بنبرة دافئة: لا، أنتِ إللي كنتي عاملة كده…
ثم أضاف وهو ينظر لها بعينين دفئتين عاشقتين:أنا مكونتش بفكر بالطريقة دي، لكن أنتِ إللي كنتي بتحتفظي بصورنا وتعلقيها، كل دي أفكارك، وأنا بقيت زيك لما اتعلمت منك إزاي أحتفظ بالصور ويبقى عندي ذكريات.
نظرت له ماسة بعينين تترقرق بالدموع، وهي تلامس الصور بأناملها بنبرة مريرة: آني نفسي أفتكر كل الذكريات الحلوة دي.
أقترب سليم خطوة للأمام، لكنه لم يلمسها، يعرف جيدا أنها تخجل من لمساته، فحاول أن يواسيها بنظراته وصوته، فقال بنبرة هادئة وحنونة: إحنا هنفتكر كل حاجة سوا، أنا ممكن دلوقتي أسهر معاكي وأحكيلك،لكن الأفضل نستنى الدكتور بكرة، عشان يقولنا إيه الحاجات إللي ممكن نتكلم فيها وإزاي.
ثم أمال وجهه من وجهها، بإبتسامة خفيفة، مد أصابعه على أنفها وكأنه يقصها بمداعبة: كله هيبقى تمام، يا قطعة السكر.
ابتسمت ماسة برقه، وتساءلت بإستغراب: إيه قطعة السكر دي؟
ابتسم سليم، وهو ينظر لها بحنان: أنا كنت بقول عليكي قطعة سكر، وأنتِ كنتي بتقوللي كراميل.
قهقهت ماسة، وهي تميل بجسدها للخلف بخجل طفولي: بجد؟ وأنت وافقت إني أقولك كراميل؟
هز سليم راسه بإيجاب: آه طبعا، أنتِ بتدلعيني كراميل، وأنا بدلعك بقطعة السكر الحلو إللي محلية حياتي.
نظرت ماسة لأسفل بخجل: أنت طيب أوي يا سليم بيه.
مال سليم برأسه بإبتسامة معترضا بحنان: إحنا اتفقنا سليم بس.
ماسة بابتسامه: حاضر.
تنهد سليم، وهو يهم بتحرك: هروح أقول لسعدية تيجي تنام جنبك، تصبحي على خير.
رفعت ماسة عينيها له بإبتسامة رقيقة: وأنت من أهله.
تحرك سليم وعندما وصل إلى الباب، توقف للحظة، والتفت إليها بعينين جادتين، وصوته عميق محمل بالصدق والحب: لازم تعرفي إن طول ما أنا موجود، محدش هيقدر يجبرك على حاجة تاني ولا يضربك، حتى لو أنا.
ثم غادر وأغلق الباب بهدوء، بينما ظلت ماسة واقفة تحدق في أثره، شفتيها ترتعشان بإبتسامة صغيرة، وعيناها تمتلئان بطمأنينة.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل
فيلا عائلة ماسة، الثالثة مساء
جلس أفراد العائلة فى غرفة المعيشة، عيونهم شاردة وقلوبهم مثقلة بالقلق.
شبك عمار أصابعه بقوة: أنا مش قادر أنسى شكلها وهي نايمة على السرير، عينها تايهة، ومش فاكرة حاجة!
سلوى بصوت مبحوح: لما مسكت إيدي وقالت اسمي، حسيت إن ربنا نجاني من مصيبة أكبر، حمدت ربنا إنها فاكراني.
ضرب يوسف كف بكف بعصبية: طب حد يصدق إن إللي حصل ده طبيعي؟! وقعت لوحدها إزاي؟ أنا مش مقتنع خالص.
ألتفتت له سلوى، تتساءل بتعجب: تقصد إيه؟ إن سليم ليه يد في إللي حصلها؟
يوسف بضجر: أيوه، هي أصلا مش طايقاه، فايه اللى هيزعلها يعنى لو عمل العملية من غيرها؟ الكلام مش راكب.
مال عمار بجسده للأمام: بصراحة، أنا مع يوسف فيه حاجة غامضة.
عضت سلوى شفايفها: يعني هو إللي…؟!
تدخل مجاهد الذي كان يستمع اليهم بصمت، وقال بحزم: كفاية كلام ملوش لازمة، أنتم كده بتحاكموا بني آدم من غير دليل، سليم يمكن غلط في حقنا، بس مش معقول توصل لإننا نتهمه إنه أذى أختكم.
يوسف بصوت عالي: بس يا بابا، أنت شايف إن إللى حصل دى طبيعي!
مجاهد بهدوء شديد: أنا فاهم قلقكم، وأنا أكتر واحد موجوع على أختكم، بس دلوقتي إللي يهمني إن ماسة تخف وترجع لها ذاكرتها، وبعدين متنسوش إن سليم عمل العملية وهو عارف إنها خطر على حياته، فطبيعي تتضايق إنها مكانتش معاه، ويمكن شدت معاه بكلمتين وهما واقفين على السلم زى ما قال ووقعت.
وأضاف وهو يشير بيده بحزم: فبلاش الكلام الفارغ بتاعكم دى، واسمعوا الكلام الدكتور، ومحدش يجيب سيرة قدامها عن أي حاجة من إللي حصل، وتتعاملوا مع سليم كويس قدامها، والا أنا اللى همنكم أنكم تروحولها، أنا مش مستغني عن بنتي.
عمار بإنفعال: بابا، إحنا بس خايفين على ماسة منه.
تنهد مجاهد بحكمة: عارف يا ابني، وأنا مش ببرر لسليم غلطه، هو غلطته كبيرة، بس برضه أختكم غلطت.
سلوى بضيق: وحضرتك شايف إنه عادي زوجة تتهدد بأهلها من جوزها إللي المفروض يكون أمانها!؟
نظر لها مجاهد بهدوء موضحا: أنا مقولتش إن سليم ماغلطتش، أنا قولت إن غلطته كبيرة وضيعتله حقه، بس أختك كمان غلطت، الاتنين غلطانين، بس بعيد عن غلطة سليم دي، عمره ما أساء لينا.
ثم أضاف بحكمة وهو يشير بسبابه: أوعوا تستهونوا إن ست تهرب من جوزها، دي كبيرة وبتكسر الراجل، وبتخليه مش عارف هو بيعمل إيه؟! فنفتكرله الحلو ومنعلقلوش المشانق علي غلطه علشان خاطر اختكم، أنا عن نفسي سامحته، وكل إللي عايزه إن بنتي تعيش مرتاحة في بيتها.
ثم نهض وهو يلوح بيده: يلا كل واحد يروح يشوف شغله، وأنا هتصل على أمكم أطمن على ماسة.
ساد الصمت، غير أن العيون ظلت تفيض بالشك، تبادل يوسف وعمار نظرة طويلة، كأن حديث أبيهما لم يقنعهما، وكأن قرارا ما بدأ يتكون في أعماقهما.
قصر الراوي
غرفة صافيناز الجديدة د، الخامسة مساء
جلست صافيناز على الفراش وقد ارتسم الضجر على ملامحها، بينما كان عماد يقف أمامها يرتدى ثيابه المنزلية.
قالت بحدة وهي تتابعه بنظراتها: هتفضل كل شوية تسافر وتسيبني باليومين والتلاتة كده؟
ألتفت إليها وهو يرتدي تيشرت منزلي: كنت في شغل، بخلص شغل لأبويا عشان ناكل يا ماما، بعد ما كل حاجة راحت مننا.
رفعت حاجبيها بإستياء: هو إيه إللي كل حاجة راحت مننا؟! ما أنا لسة مشروعي موجود، غير الفلوس إللي أنت واخدها باسمك.
أقترب منها ببطء وجلس إلى جوارها، قال بصوت هادئ: أرجعهملك عادي.
هزت رأسها بضيق: مش بقول كدة عشان تقولي الكلام ده، أنا عايزاك جنبي، عايزاك معايا، نفكر سوا في أي حل.
تنهد عماد بعجز: والله يا صافيناز، أنا شايفها اتقفلت وخلاص خسرنا.
شدت على يده بعزم: لأ أنا قولتلك ممكن، نساومه على ماسة وبعدين نسافر.
عماد باعتراض: دي محتاجة تكتيك وتركيز.
في تلك اللحظة، طرق الباب بخفة، ودخلت إحدى الخادمات تحمل صينية عليها فنجانين من القهوة، وضعتها على الطاولة وغادرت في صمت.
مد عماد يده إلى الفنجان وهو ينظر إليها بخبث: خلينا نفكر بهدوء من غير استعجال، إحنا لوحدنا دلوقتي، حتى رشدي والهانم خسرناهم..
ثم تساءل بتعجب: الا صحيح، هو رشدي الشمام ده خطب بجد؟
ارتشفت صافيناز رشفة صغيرة من قهوتها: آه راح يتقدم لواحدة إمبارح، البنت إللي كانوا عزموها.
وضعت الفنجان من يدها، وعيني عماد تتنقل بين الفنجانين وبين وجهها، بينما فكرة مظلمة تختمر في ذهنه.
صافيناز بجدية: أنا عايزة أروح الشركة أشوف الحسابات الأخيرة.
اشاح عماد ببصره عنها: تعالي، أنا كتير قولتلك وأنتِ إللي سايبة كل حاجة عليا.
رن هاتفها فجأة، فنهضت مسرعة لتلتقطه من على الكومود، في تلك اللحظة، مد عماد يده بهدوء إلى جيب بنطاله، وأخرج حبة صغيرة أخفاها بين أصابعه، ثم أسقطها في فنجانها، فحرك الملعقة ببطء كأنه يذيب سرا، ثم ارتشف من قهوته متظاهرا بالهدوء، وابتسامة خبيثة ترتسم علي وجهه.
عادت صافيناز وهي تقول في الهاتف: خلاص بكرة هبقى موجودة.
جلست بجواره من جديد، غير مدركة أن شيئا آخر كان يذوب في فنجانها.
كان عماد يتجنب النظر إليها، أنفاسه تتسارع، وأصابعه تنقر على حافة الطاولة، في داخله نار صامتة وغيظ مكتوم خلف ملامحه الجامدة، ثم رمقها بإبتسامة باردة طويلة، كأنها تمهد لشيء أثقل من الكلام.
الجيم، الخامسة مساء
كان ياسين يقف إلى جوار فتاة يضحك معها بصوت عالي، ومن بعيد، وقفت لوجين تراقبه، ملامحها متضجرة، وفي عينيها بريق غيرة حاولت إخفاءها، تنفست بعمق، ثم تقدمت نحوه بخطوات محسوبة.
لوجين بغيرة مبطنة: هاي
ألتفت إليها متسائلا بخفة: اتأخرتي ليه؟
لوجين بحدة خفيفة: هيفرق معاك، ما أنا شايفاك لاقي إللي يسليك؟!
رن هاتف الفتاه، فلوحت اليه بابتسامه: طب ياسين أنا ماشية، باي
غادرت الفتاه، بينما ألتفت ياسين إلى لوجين واقترب منها قليلا وهو يحاول تفسير ملامحها: مالك قالبة وشك ليه؟
اشاحت لوجين بعينيها بعيدا عنه وهي تزفر بعنف: مفيش
وجهه بعدم اقتناع: أوكي براحتك.
صمت للحظه، ثم تساءلت بلامبالاه مصطنعه وهي تلعب في شعرها: هي مين اللى كانت واقفه معاك دى؟
ياسين ببساطه: دي جومانا.
تساءلت بحده: مش بسأل على اسمها، أنا بسأل مين دى!؟
ياسين بهدوء: زميلتي من أيام الجامعة، مالك عصبيه النهارده كده ليه؟
أشاحت بوجهها بضيق: مفيش، أنا هدخل اغير هدومي علشان أتمرن.
قالت كلماتها وغادرت، فاكتفى بهز رأسه بعدم فهم، ثم استأنف تمرينه، ورغم انشغال لوجين برفع الأثقال، كان يتابعها بعينيه، يقرأ غضبها في شد عضلاتها، لم يستطع الانتظار أكثر، فتقدم نحوها بخطوات هادئة ممسكا بزجاجة مياه.
اقترب وأخذ الحديد من يديها بابتسامة: متعصبه ليه مالك؟
هزت لوجين رأسها نافيه بضيق: مش متعصبة، أنا عادي.
حاول ياسين تغير الموضوع: خطوبة رشدي كمان ثلاث أيام، مش محتاجه عزومه طبعا أنتِ ومامتك ونغم.
لوجين بابتسامه: ألف مبروك.
ياسين بلطف: الله يبارك فيكي، عقبالك.
ابتسمت وتساءلت بفضول: عملت إيه مع هبة؟ صالحتها؟!
تنهد ياسين وهو يهز كتفيه: لا لسة.
لوجين بهدوء: فكر كويس، علاقتكم تستاهل فرصة، أنتم بتحبوا بعض.
ابتسم ياسين بخفة، مع لمحة من الحيرة في عينيه: عارفة يا لوجين، الاشتياق بحسه علامة للحب، لو يومك مبيعديش من غير شخص معين، يبقى بتحبيه، لكن لو عدى عادي، يبقي أكيد مبتحبيهوش، ودى اللى بقي يحصلي مع هبة مبقتش اشتاقلها، بكلمها علشان بنتي بس.
نظرت له بارتباك، وعضت شفتها السفلى: مش عارفة يا ياسين، بس حاسة إنك مفكرتش كفاية.
في تلك اللحظة، ظهرت جومانا من بعيد تلوح له: ياسين، أشوفك في خطوبة رشدي!
ابتسم وهو يلوح بيده: أكيد يا جوجو، باي.
قلبت لوجين عينيها بغيظ مكتوم، وضغطت على قبضتها قليلا: جوجو كمان؟ ما شاء الله.
ضحك ياسين بخفة: يا بنتي صاحبتي، عادي.
هزت لوجين رأسها بغيره مبطنه: اممم واضح، طب يلا خلينا نمشي علشان عندى معاد دكتور مع ماما.
ياسين بلطف: ألف سلامه عليها.
لوجين باقتضاب: الله يسلمك.
ثم غادرت بخطوات غاضبه، تحاول إقناع نفسها بأنها لم تغار، بل ما أثارها فقط هو مظهر تلك الفتاة وأسلوبها المبتذل، ثم تساءلت في داخلها: وعلى ماذا أغار؟! فهي وياسين لا يربطهما سوى صداقة لا أكثر.
وقف ياسين يراقبها وهي تغادر، ملامحه تظهر استغرابا ودهشة، ثم هز كتفيه وعاد يكمل تمرينه كأن شيئا لم يكن.
قصر الراوي، السادسة مساء
كانت تجلس؛ مي وفايزه ورشدي وراشد وزوجة حازم شقيق مي الأكبر حول الطاولة الصغيرة في الصالون، وكان الجواهرجي أمامهم يعرض قطع الألماس المتنوعة؛ خواتم وأساور وعقود تلمع تحت ضوء المصابيح.
تساءل رشدي وهو يتأمل القطع: مفيش أي حاجة عجباكي!؟
مي بحيرة: بالعكس كلهم حلوين.
رشدي بإبتسامة: خديهم كلهم.
ضحكت مي: مش للدرجة دي.
ثم تناولت أحد الخواتم وارتدته قائلة: الخاتم ده حلو بس مش عارفه ده بردو عجبني.
فايزة بتهذب وارستقراطية: تحبي أرشحلك حاجة؟
هزت مي رأسها موافقة.
مدت فايزة يدها وأشارت إلى سوار ألماس رقيق مع عقد متناسق: دول حلوين، ده زمرد خالص والخاتم الاول افضل الحجر فيه اكبر وارق.
زوجة حازم بإبتسامة: فعلا، أنيق ورقيق زوقك هايل يا هانم.
فايزة بالتركي: تشكرات.
مي بعد تردد قصير: خلاص تمام، هاخدهم.
رشدي بجديه: لو مش عاجباك، قولي، متتكسفيش.
مي بابتسامة: لا والله بجد عاجبني، هاخدهم.
هز رشدي رأسه بإيجاب.
ابتسمت زوجة حازم وهي تنظر لمي: مبروك يا ميوش.
مي بخجل: الله يبارك فيكي.
فايزة بارستقراطيه: طب اتفضلوا على السفره العشاء جاهز.
نهض الجميع متجهين إلى المائدة، وانضم إليهم أفراد عائلة الراوي وأشقاء مي الذين كانوا ينتظرون في الحديقة، جلسوا يتناولون العشاء في أجواء مبهجة جمعت معظم العائلة، ما عدا سليم الغائب عن المشهد،ط.
وبعد العشاء، خرج رشدي مع مي إلى الحديقة العلوية للقصر، حيث كان الجو لطيفا والنسيم العليل يمر بين الأشجار.
الحديقة العلوية
جلسا مي ورشدي على الأرجوحة يتبادلان الحديث لكن بينما مسافة معقولة.
تساءل رشدى بابتسامه: عجبتك الشبكه؟
مي بسعادة: آه جميلة جدا والدتك.
صمت رشدى لحظه، ثم قال مقترحا وهو يتلفت بعينيه حول المكان: إيه رأيك نعمل خطوبتنا هنا؟
رفعت مي عينيها تتأمل المكان حولها، ثم قالت بإبتسامة: جميل، معنديش مشكله.
رشدي باهتمام: لو حابة نعملها في مكان تاني، قولي، متقوليش ماشي على حاجه وأنتِ مش حباها.
مي بابتسامه رقيقة: لأ والله المكان هنا جميل، نعملها هنا.
صمتت لثواني، ثم تذكرت شيء، فألتفتت إليه بحماس: بقولك إيه، أنا عندي مشوار بكرة وكنت عايزاك تيجي معايا، هستناك الساعة11.
رشدي مازحا وهو يتفحصها من أعلى لأسفل بإستنكار مصطنع: لأ لو سمحتي متعطلنيش، أنا دلوقتي رجل أعمال وعندي مشروع مهم، ووقتي مش ملكي.
مي بإبتسامة: بجد يا رشدي مش بهزر، عايزاك تيجي معايا، وأوعدك هتتبسط.
رشدي ممازحا: طب اتحايلي عليا شوية.
صاحت مي بضجر طفولي: أنا أصلا مش باخد رأيك، أنا بعرفك، هتيجي معايا يعني هتيجي معايا.
رشدي بخضة مصطنعة: خلاص يامحمود أنصرف! بتتحولي في ثانيه، حاضر هاجي أنا قولت حاجة؟!
💞____________بقلمي_ليلةعادل.
فيلا سليم وماسة، السابعة صباحا
كانت ماسة تقف أمام غرفة سليم، تتحرك ذهابا وإيابا وهي تهمس بصوت منخفض: هو ليه نايم للوقت ده؟ شكله بيصحى متأخر.
شدت طرف جاكيت البيجاما وجلست على السلم لدقائق تعض شفتيها، ثم نهضت لتطرق الباب، لكنها ترددت وسحبت يدها بخفة.
شعرت بالجوع، فتنهدت بضيق ونزلت إلى المطبخ، أعدت إفطارا خفيفا وتناولته سريعا، وكانت الساعة تقترب من الثامنة.
ثم عادت إلى الطابق العلوي مرة أخري، ووقفت أمام باب غرفته، تارة تمشي في الممر وتارة تجلس على السلم تراقب الباب بقلق وفضول؛ تتمنى أن يستيقظ لتسأله عن كل شيء، عن تعارفهما وزواجهما وذكرياتها الضائعة، ثم جلست أمام الباب مسندة ظهرها إليه.
حتى دقت الساعة العاشرة.
فجأة، سمعت صوت مقبض الباب، فانتفضت واقفة، ارتسمت السعادة على وجهها، عيناها تتلألآن وهي تتطلع إليه.
فتح سليم الباب، وهو مازال يتثاءب، شعره مبعثر وعيناه نصف مغمضتين، نظر إليها بإستغراب وهو يحك عنقه، يحاول أن يستوعب الموقف.
سليم بخضة وهو يفتح عينيه قليلا: ماسة؟ في إيه؟
ابتسمت ماسة بإبتسامة واسعة: صباح الخير.
مرر سليم يده على وجهه بنعاس: صباح النور، إيه إللي موقفك كده؟
اعادت ماسة شعرها للخلف بحركة سريعة: كنت مستنياك تصحى، كل ده نوم؟ بتصحى متأخر أوي.
عقد سليم حاجبيه متسائلا: ليه هي الساعة كام دلوقتي؟
ماسة بجدية طفولية: الساعة عشرة.
سليم وهو يتثاءب بشدة ويمد ذراعيه: عشرة! ده متأخر؟!!
لوحت ماسة بيدها وقالت بإنفعال طفولي: أيوه، آني صاحية من الفجر، صليت وقاعدة مستنياك.
حك سليم رأسه: طب مدخلتيش صحتيني ليه؟
نظرت ماسة إلى الأرض بخجل: اتكسفت.
ثم فجأة أمسكت بيده وسحبته بحماس طفولي، وهي تبتسم ابتسامة واسعة: يلا بقى، تعال أحكيلي، أنت اتجوزتني إزاي؟ وعرفتني إزاي؟ وكل حاجة، أنت قولت هتحكيلي النهارده.
سليم وهو يتمطى ويتكاسل عن الحركة: أصبري بس أفطر وأفوق وأشرب مشروبي.
مالت ماسة برأسها بفضول: طيب أنت بتفطر إيه؟
تنهد سليم رافعا كتفيه: عادي أي حاجة، بس قبل ما أفطر بلعب رياضة وبشرب مشروبي.
وضعت ماسة يديها على خصرها وهي تقول بتذمر طفولي: يعني لسة هستنى كل ده!
ضحك سليم، ومال بجسده على الباب: معلش، بعدين إيه الطاقة دي كلها على الصبح؟
رفعت ماسة حاجبيها بإهتمام: طب المشروب بتاعك ده بيتعمل إزاي؟
لوح سليم بيده: مية دافية عليها ليمون ومعلقة عسل نحل.
كرمشت ماسه وجهها بامتعاض: إيه المشروب الوحش دى؟؟ أنت عيان!؟
ضحك سليم بصوت عالى: لا، أنا متعود عليه، وهو صحي جدا.
تنهدت ماسة بملل ثم قالت بحماس: خلاص، هعمللك المشروب والفطار، وأنت شوف هتعمل إيه بسرعة، علشان تحكيلي.
هز سليم رأسه بابتسامه: ماسة أصبري، إيه الطاقة دي يا حبيبتي؟ طب زمان كنت أقدر أتحملك، كنت ساعتها لسه25سنة، لكن فرط الحركة ده مقدرش عليه دلوقتي.
رفعت ماسة يدها وهي تلوح بإستهزاء: طب يا راجل يا عجوز خلص، وسيبني أروح أعملك إللي أنت عايزه.
ضحك سليم ورفع أحد حاجبيه متسائلا: أنا راجل عجوز؟
رفعت ماسة حاجبيها مقلدة له: مش أنت اللي قولت إنك مش قد الفرهدة بتاعتي؟ تبقي عجوز.
إنحنى سليم للأمام ضاحكا: آه، ده إحنا رجعنا تاني للماضة زمان بقى!
اخرجت ماسة لسانها مازحة وتدير وجهها: إذا كان عاجبك!
خطى سليم خطوة ناحيتها بإبتسامة ماكرة: لا ما إحنا لو رجعنا للماضة زمان، أنا كمان ممكن أرجع للي كنت بعمله زمان.
فتحت ماسة عينيها بدهشة: كنت بتعمل إيه زمان؟
ابتسم سليم بخفة، مد يديه فجأة وامسكها ليدغدغها: بعمل كده.
صرخت ماسة وهي تضحك وتحاول الإفلات: لا، بس عيب! عيب ..خلاص بقي.
ابتعت سليم خطوة، وهو يضحك: يبقي تبطلي لماضة وتسمعي الكلام.
أشارت ماسة بأصبعها وهي تلهث من الضحك: حاضر، بس يلا بسرعة بقى، أنى هستناك تحت.
بعد قليل
نرى سليم في الحديقة يقوم بعمل التمارين التي أوصى بها الطبيب، اقتربت ماسة منه تتأمله وهي تتقدم نحو المكان وهي تحمل المشروب في يدها، وقف يتصبب عرقا بعد جولة من التمارين، وما إن رآها حتى ابتسم وتقدم نحوها.
سليم بإبتسامة ممتنه وهو يأخذ الكوب: شكرا، تسلم إيدك.
تساءلت ماسة بحيرة: آني محتارة أعملك فطار إيه.
سليم وهو يحتسي رشفة: أعملي إللي إنتِ عايزاه، أي حاجة من إيدك بتبقى حلوة.
مالت ماسة برأسها بفضول: المشروب ده طعمه حلو؟!
مد سليم يده لها بالكوب: خدي دوقي.
تراجعت ماسة بخجل: إزاي يعني؟!
سليم بإبتسامة دافئة: عادي
ابتسمت ماسة بخجل: مش هتقرف مني؟!
ابتسم سليم برقة: أكيد مش هقرف منك يا ماستي الحلوة.
أخذت الكوب بخفة من يده، ارتشفت منه، ثم أغلقت عينيها لحظة وقالت بدهشة: الله، ده طعمه طلع حلو!
ضحك سليم:خلاص كملي أنتِ الكوباية
لوحت ماسة بيدها رافضة: لا لا، آني مش عايزة، هعمل لنفسي نسكافيه وأحضرلك الفطار، يلا خلص بسرعة بقى.
هز رأسه مبتسما وعاد ليكمل تمرينه، بينما غادرت ماسة بخفة إلى المطبخ، وبعد قليل، دخل سليم إلى الحمام ليستحم، فيما كانت هي مشغولة بتحضير الإفطار بإستمتاع.
الحديقة بعد نصف ساعة
جلس سليم أمام المائدة في الحديقة، الهواء العليل يحرك أوراق الشجر، وبدأ يتناول فطوره بشهية.
سليم وهو يلوح بالخبز: بجد الأكل من إيدك حاجة تانية
ماسة بإبتسامة خجل وهي تلعب بشعرها: شكرا يا بيه قصدي يا سليم.
سليم بابتسامه: متاكلي معايا.
رفعت ماسة عينيها نحوه: أكلت.
وضع سليم جبنه على قطعة خبز، ومد يده اليها: لا كلي دي من إيدي
كادت أن تمسكها بيدها، لكن مد سليم وجهه برفض: تؤ أفتحي بوقك
اخفضت ماسة رأسها بخجل: بس..
سليم بلطف: بس إيه أنا جوزك، يلا عشان تفتكري
ماسة ببراءة: حاضر.
فتحت فمها وتناولتها بخجل: كفاية بقى آني والله شبعانة.
سليم وهو بيمضع الطعام: ماشي.
عدلت ماسة من جلستها، عيناها تتلألأ بغضول: طب متحكيلي وأنت بتاكل، عرفنا بعض إزاي؟ واتجوزنا إزاي؟ أصل مش مصدقه إن سليم بيه ابن الباشا والهانم، اتجوزني آني ماسة بنت سعدية ومجاهد؟ أهلك وافقوا إزاي؟
أخذ سليم القليل من الماء، وكاد أن يتحدث لكن فجأة
رفعت يدها وهي تقول بحماس: استني، في حاجة أهم.
ضيق سليم عينه بإستغراب: إيه هي؟!
اقتربت ماسة وجلست بجواره، وتساءلت بحماس: هي لورين عرفت؟
ضحك بخفة قبل أن يجيب: أيوة أكيد عرفت.
فتحت ماسة فمها بصدمة صغيرة: يا نهار أبيض! بجد نفسي أفتكر شكلها.
ضحك سليم: ومش بس كده أنتِ كمان ضربتيها بالقلم وخليتيها تغسلك رجلك؟
اتسعت عينا ماسة فاغرة فمها بدهشة: قول والله العظيم!
رفع سليم يده ضاحكا: والله العظيم.
قفزت ماسة من مكانها بحماس ودهشه: آني عملت كده في لولو بنت سيدي منصور بيه؟!
هز سليم رأسه بإيجاب: أيوة هي عملت حاجة ضايقتني وزعلتك، فده كان عقابها.
صفقت ماسة بيديها بمرح طفولي: الله! لا لا، أحكيلي، أحكيلي!
ثم أمسكت بيضة من الطبق ووضعتها في فمه وهي تقول: يلا كل وأحكيلي.
اتسعت عينا سليم من فعلتها وضع يديه على فمه يحاول ان يبتلع البيضه ثم قال: يا بنتي أصبري، يخرب بيت الشقاوة، بطلي فرهدة!
أطرقت ماسة برأسها وقالت بصوت خافت: آني آسفة.
مد سليم يده يربت على كتفها مطمئنا: مش بقول كده علشان تتأسفي، أنا بهزر معاكي، أعملي إللي أنتِ عايزاه.
رفعت ماسة رأسها، تتساءل: يعني أنت مزعلتش مني؟
هز سليم رأسه بإبتسامة حنونه: لا مزعلتش، بصي يا فرهودة، أنا عارف إني مش هخلص من زنك.
تنهد، ثم اعتدل في جلسته وقال: أنا شوفتك أول مرة، لما رشدي حاول يقرب منك.
قاطعته ماسة بسرعة: وأنت ضربته صح؟ أنت حكيتلي في المستشفي.
سليم بإبتسامة واثقة: أيوة، أكيد ضربته، وجبتلك حقك
ضحكت ماسة بمرح: أنت شطور يا سليم، كمل.
تنهد سليم وهو يستعيد الذكريات: بعدها بقى، قعدت في المزرعة، مش عارف ليه، بس كان نفسي أتعرف عليكي، حسيت إني عايز أتكلم معاكي، وعايز أعرف مين البنت الحلوة دي.
نظرت ماسة له بخجل، وقالت بنبرة مرحة: يعني عجبك شكلي؟
هز سليم رأسه مؤكدا: أيوة، كنتي زي القمر، بس مش شكلك إللي شدني، إللي شدني أكتر شخصيتك.
ثم قلدها بمرح: وطريقتك وأنتِ بتقولي متستصغرنيشي يا سليم بيه.
ارتبكت ماسة، فشبكت أصابعها بحياء، فيما أكمل سليم: وعدت الأيام في المزرعة، واتكلمنا كتير، وحصل بينا مواقف اكتر، وكل يوم كنت بحبك أكتر، لحد ما اتجوزتك.
ضربت ماسة على الطاولة بخفة وقلبت وجهها بتكشيرة: هو إيه سلق البيض ده؟! أنت بتضحك عليا؟! هو آني فهمت حاجة؟ أنا عايزاك تحكيلي تفاصيل،يعني مثلا؛إزاي أنقذتني من اخوك؟ وإيه إللي حصل؟ وحبتنى إزاي؟ والمواقف دي.
ابتسم سليم مازحا: اه أنتِ عايزة تفاصيل التفاصيل! لا كده اعمليلي قهوة بقى.
أدرت ماسة وجهها بتذمر طفولي: ييييوه
أمسك سليم يدها وهو يضحك: متقلبيش وشك، خلاص هحكيلك، تاني يوم بعد الحفله قولت لنفسي: أنا هقعد في المزرعة، وساعتها طلبت منك تيجي توريني الاستراحة…
وبدأ سليم بسرد ما حدث، كانت ماسة تضع يدها على خدها، تحدق فيه بإنتباه، تستمع له بتركيز وكأنها تريد أن تبتلع كل كلمة، بينما بدأ هو يحكي لها كل شيء حدث بينهما خلال وجوده في المزرعة.
وبعد الانتهاء، مال سليم على مقعده وهو يحتسي آخر رشفة عصير، وارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة، ثم قال بحماس وهو يرفع حاجبه: بس يا ستي وبعدها سعدية دخلت علينا وطلبت إيدك للجواز.
تلألأت عينا ماسة بإبتسامة خجل، أمسكت كوب النسكافيه بكلتا يديها، وقالت بصوت رقيق: يا رب أفتكر كل الحاجات الحلوة دي، طب وبعدين، أهلك وافقوا إزاي؟
حك سليم رأسه، وأسند ظهره إلى الكرسي وهو يقول بهدوء: لا، هما موافقوش، وحصلت مشاكل كتير.
رفعت ماسة الكوب إلى فمها، ارتشفت رشفة صغيرة، وظلت عيناها معلقتين بوجهه: أيه اللى حصل؟!
بدأ سليم بسرد الحكاية، بصوت هادئ وإشارات يده تعكس المشاهد التي يصفها، كانت ماسة تميل برأسها على كفها، تتأمله بانبهار، وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها كلما أزداد حماسه.
وبعد الانتهاء، قالت بصوت مبحوح وهي تنظر في عينيه مباشرة بنبرة متعجبه: يعني أنت سبت أهلك وفلوسك وكل حاجة علشاني آني؟
مد سليم يده، وضعها فوق يدها بحنو، وأجاب بإبتسامة دافئة: أيوه، عملت كل ده علشانك، ومستعد أعمل أكتر من كده كمان، هو إحنا عندنا كام ماسة؟! هي قطعة سكر واحدة بس.
ارتعشت أنفاسها، ابتسمت بعين يغمرها الدمع، ثم همست بخجل: أنت حبيتني اوي كده؟ أنت طيب أوي يا سليم، أنا يا بختي بيك بجد، طب أحكيلي بقى شهر العسل كله كان عامل إزاي؟ أو السنة العسل دي؟
ضحك سليم، وتساءل مستنكرا: دلوقتي؟
ضحكت هي بدورها، وإنحنت نحوه بخفة: وحياتي؟ أنت مشغول؟ آني معطلاك يعني؟!
تنهد متصنعا الإرهاق، وضع يده على بطنه وقال: لا يا ستي، أنا واخدلك أجازة الأسبوع ده كله، بس أعملي كوباية قهوة يا ماسة ياشقية وسبيني أكمل فطاري إللي مكملتوش، وبعدين احكيلك كل إللي نفسك فيه اليوم لسه طويل.
نهضت واقفة وهي تضحك وتغمز بعينيها: ماشي، خلاص أنا هسيبك تكمل فطارك عقبال معملك القهوة،
أنت قهوتك إيه؟
سليم بإبتسامة لطيفة: قهوتي مظبوطة!
قالت بحماس: عيوني هعملك أحلى فنجان قهوة شربته في حياتك.
ظل سليم يتناول فطوره بهدوء، بينما ابتعدت هي بخطوات خفيفة، تتلفت إليه بين الحين والآخر، عيناها تلمعان بإعجاب، وابتسامتها لا تفارق شفتيها، تابعها هو بعينيه، والفرح يفيض من ملامحه، وبعد دقائق، عادت وهي تحمل صينية عليها فنجان القهوة وكوب ماء، ووضعتها أمامه
جلست بجواره، متحمسة كطفلة تنتظر الحكاية: يلا كمل بقي.
سليم وهو يتعدل: عايزة تعرفي إيه بالظبط؟!
قلبت ماسة وجهها: كل حاجة، أنت هتختار ولا إيه!؟
سليم بابتسامه: طيب يا لمضة.
رفع سليم الفنجان، شرب أول رشفة، وألقى نظرة عميقة عليها: بصي يا ستي، أول بلد سافرناها كانت سويسرا، علشان كان نفسك تشوفي البحر إللي فيه شلال أو جبل بينزل ميه زي ما كنتي مسمياه.
صفقت ماسة بكفيها بمرح: الله! آني شوفته بجد؟
ثم عدلت جلستها على المقعد، وأشارت بيديها وهي تقول: استني…
ثم اقتربت منه أكثر، وأسندت كفيها على خديها بعينين متشوقتين: يلا أحكي.
أخذ يسرد تفاصيل تلك السنة، وملامحه تمتلئ بالذكريات، وهي تضحك أحيانا حتى تغطي وجهها بيديها من شدة الفرح، وأحيانا تترقرق دموعها من التأثر.
وبعد ساعات، مسحت دمعة ناعمة على خدها وقالت بصوت متهدج: أنت عملت كل ده عشاني؟ وقفت قصاد لورين وجبتلي حقي منها، واتجوزتني ووقفت قصاد أهلك، وسبت الفلوس، وعيشتني زي الملكة، وسفرتني البلاد الحلوة دى، حتى ابوك إللي كنت بخاف منه، خليته يعتذرلي!؟ يا نهار أبيض، آني بجد نفسي أفتكر كل الحاجات الحلوة دي يا سليم أنت حنين أوي أنا حبيتك خالص.
أمسك يدها برفق وقال وهو يبتسم بتاثر: هتفتكري يا حبيبتي إن شاء الله.
مالت برأسها بخجل وهمست: مش كنت بتقولي يا عشقي؟
اقترب منها وضحك: آه كنت بقولك عشقي، بس أنتِ حبيتي كلمة حبيبتي أكتر.
أغمضت عينيها بخجل: قول عشقي كده.
مد يده ومسح على شعرها بحنان: يا عشقي وحبيبتي ها أنهي أكتر؟!
ضحكت بخجل: الأتنين طالعين منك حلوين أوي، قولي الاتنين..
ثم قالت بحماس: كمل يلا بعد مارجعنا، إيه إللى حصل؟
سليم بمهاودة وكأنه يحدث طفله: حاضر بس مش نروح نصلي الظهر الأول؟ العصر خلاص فاضله نص ساعة ويأذن، نصلي ونرتاح شوية، علشان الدكتور قال مينفعش تعرفي كل حاجة مرة واحدة، واتفرجي على الصور هتساعدك أكثر.
تنهدت ماسة ببراءة: حاضر.
ساد صمت قصير، قطعه صوتها الحزين وهي تنظر إلى الأرض: بس قولي، آني أصلا وقعت ونسيت إزاي؟ إيه إللي حصل؟
أضافت ببراءة والحاح: آخر سؤال والله.
تنهد سليم بعمق: كنتي متعصبه وعايزه تمشي، والكلام ده كان عند السلم، مسكت أيدك علشان اوقفك، بس شديتي إيدك جامد، فوقعتي.
رفعت عينيها بإستغراب: وآني ليه أعمل كده؟!
أجاب بهدوء وصدق: علشان عرفتي إني عملت العملية وأنتِ مكنتيش معايا.
تجمدت ملامحها وقالت بعدم تصديق: وآني إيه إللي يزعلني في كده؟ هو أنت أصلا عيان؟!
أطرق برأسه بنبرة مكتومة: آه من سنين، بعد الحادثة، كان عندي رصاصة في ظهري مهددة حياتي.
أنهارت دموعها من الصدمة، فتابع سليم بصوت منخفض:عملتها وأنتِ مكنتيش معايا، فزعلتي وكنتي عايزه تمشي.
أومأت برأسها وهي تمسح دموعها بسرعة: حقي أزعل منك، أنت ليه تعملها وآني مش معاك؟ مش إحنا متجوزين وبنحب بعض؟
صمت سليم لحظة، ثم تنهد وقال: مكنتيش موجودة.
نظرت له بعدم فهم: أزاى يعنى؟!
ألتزم سليم الصمت لحظات، ثم أدار وجهه بعيدا، كان عقله يتخبط بين الرغبة في أن يصارحها بكل شيء، والخوف من أن يرهقها بما لا تحتمل، تردد طويلا، فقد أقسم مع نفسه أن يتخلى عن الأساليب القديمة التي اعتادها معها؛ أنصاف الحقائق والصمت عن بقية الحكاية، كان صوته الداخلي يذكره بكلام الطبيب: “متحكيلهاش أحداث سيئة دلوقتي، دي لسة يومها الأول.
عاد بنظره إليها، وحاول أن يوضح لها بصدق: بصي هتعرفي كل حاجة، بس بالترتيب، خليني دلوقتي أقولك بعد مارجعنا القصر إيه إللي حصل، ماشي؟
عضت ماسة شفتها بعناد طفولي، وقالت وهي ترمقه بعين غاضبة: لا، آني عايزة أفهم، كنت فين وليه مكنتش معاك؟
ابتسم رغم التوتر، وصوته خرج هادئا كأنه يحدث طفله صغيرة: ماسة، أسمعي الكلام وقولي حاضر.
زفرت بضيق، وأسندت ظهرها إلى المقعد: حاضر، بس آني عايزة أفهم.
ربت على يدها برفق وهو يبتسم: هتفهمي يا عشقي، بس نمشي بالترتيب زي ما الدكتور قال.
هزت رأسها بإستسلام، وصوتها صار أكثر هدوء: ماشي.
وقف لحظة، ثم مد يديه إليها، ترددت، ونظرت إليه بخجل لثواني، ثم وضعت كفيها فوق يديه، ووقفت أمامه.
سليم بنبرة حانيه: هنصلي دلوقتي وبعدها تستريحي شوية، ونتغدى وبعدين نروح للدكتور، وهو يقولنا نعمل إيه، اتفقنا؟
ابتسمت ابتسامة صغيرة، وأومأت برأسها: اتفقنا.
وبالفعل، ذهب كلا منهما ليتوضأ، ثم صلى في غرفته الظهر والعصر، إذ كان الأذان قد رفع.
بعد أن انتهت ماسة من الصلاة، جلست في مكانها وهي ماتزال ترتدي الإسدال.
لمعت في ذهنها القصة التي حكاها سليم، فارتسمت على شفتيها ابتسامة خجولة، قامت بخطوات مترددة نحو الحائط المليء بالصور، توقفت أمامه طويلا، كانت تلك الصور بالأمس كالغرباء عنها، لكنها اليوم شعرت أنها تقترب منهم أكثر، وكأن الحكايات التي سمعتها من سليم فتحت لها نافذة صغيرة على الماضي.
مدت يدها تلمس إحدى الصور، وفجأة ضربت الذكريات عقلها كعاصفة، وضعت يديها الاثنتين على أذنيها وأغمضت عينيها بقوة، وأنفاسها تتسارع، كانت ترى أطيافا سوداء، أشباحا غير مكتملة الملامح، أصواتا متداخلة بلا وضوح، لحظات قصيرة لكنها ثقيلة، جعلت قلبها يخفق بقوة غير معتادة.
ثم، كما ظهرت فجأة، تلاشت فجأه، ففتحت عينيها ببطء وهي تلتقط أنفاسها، ثم تنهدت كمن ينجو من غرق داخلي.
في تلك اللحظة، اقتربت سعدية التي خرجت من البلكونة، جلست على الفراش ونظرت لها بحنان: خلصتي صلاة؟
نظرت لها ماسة وهي مازالت ترتجف قليلا، وقالت بصوت منخفض: آه، بس فجأه ضربت في دماغي صور وحسيت إني هفتكر بس مفتكرتش.
سعدية بهدوء: متستعجليش يا حبيبتي، الذكريات بتيجي واحدة واحدة تعال ادهنلك المراهم
هزت راسها بإيجاب، وخلعت ماسة الإسدال وجلست بجانبها وبدأت سعدية ان تضع المرهم على مختلف جسدها
ماسة بإبتسام: عارفه ياما سليم، حكالي حاجات ياما، دي عمل حاجات حلوة أوي علشاني ياما.
ربت سعدية على كتفها بإبتسامة: آه سليم ما شاء الله عليه، بيحبك أوى، وعمل حاجات كتير حلوة عشانك، كفاية إنه قعدنا في بيت حلو، وكان حنين علينا وعليكي.
ابتسمت ماسة بصوت متأثر: آني حبيته أوي، بس لسة بتكسف منه.
ضحكت سعدية بخفة وهى تدهن لها المرهم: بتتكسفي من أيه يا ماسة؟ دى جوزك! أنتِ كنتي بتموتي فيه، وهو كمان بيموت فيكي، إن شاء الله شوية وتلاقي نفسك خدتي عليه، وأنتِ يا بنتي، نامي جنبه النهاردة حتى لو قالك هنام لوحدي، قوليله: لأ، أنا هنام جنبك علشان افتكر.
همست ماسة بخجل والتفتت لها: آني بتكسف ياما، كل ما يحط إيده علي أيدى أو حتى على شعري، بحس جسمي كله بيتكهرب.
سعدية بحنان وهي تضع يدها على خدها: يا حبيبتي عادي، ده جوزك، هي يعنى أول مره؟ وبعدين أنتِ هتروحي للدكتور امتي.
ماسة بهدوء: قالي هنروح النهاردة للدكتور.
سعدية بابتسامه: خلاص، هو هيقولك تعملي إيه.
ماسة بحماس: طيب، آني هنزل أعمل لسليم الغدا، هعمله الأكل إللي بيحبه
سعدية بابتسامة: ماشي بس خدى الدوا الاحمر ده الاول..
حاضرين وبالفعل خذت ماسة الدواء وخرجت وأثناء تحرك ماسة للخارج، رفعت رأسها لأعلى وهي تقول بدعاء: ربنا يشفيكي يا بنتي ويهديكي.
خرجت ماسة من الغرفة، وفي نفس اللحظة كان سليم يخرج هو الآخر من غرفته، تبادلا نظرات سريعة، ارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة، اقتربت منه وهي تعبث بأصابعها.
ماسة بابتسامه خجولة: تقبل الله.
سليم بابتسامه هادئه: منا ومنكم.
ماسة بنبرة عتاب رقيقة: هو إحنا ليه مصليناش سوا؟
حك سليم رأسه بتردد: مش عارف، محبتش أضايقك.
ماسة ببراءة: المفروض أنا وأنت نصلي سوا، آني كنت بنشوف أمي وأبويا بيعملوا كده.
سليم بإبتسامة صغيرة: خلاص، المرة الجاية نصلي سوا.
ابتسمت ماسة بحماس: طب آني هروح أعملك الغدا، هعملك طاجن خضار باللسان عصفور واللحمة، مش أنت بتحبه؟
سليم بعينين تلمعان من الحنين: آه، أنا محبتوش غير لما أكلته من إيدك.
ماسة بحماس: هعملهولك، وهعملك أكل حلو أوي.
سليم بهدوء: متتعبيش نفسك، أنتِ لسة تعبانة.
ماسة بحزم طفولي: لأ، آني خدت الدوا وأمي دهنتلي المرهم، فمش حاسه بتعب.
تنهد سليم مستسلما: ماشي، بس لو حسيتى أنك تعبانه اطلعي ارتاحي وخلى سحر تكمل.
اومأت برأسها، وابتسمت له برقة، وتحركت إلى المطبخ، هناك وجدت سحر منشغلة بالترتيب.
ماسة بخجل: بقول لحضرتك إيه، آني عايزة أعمل الأكل لسليم النهاردة.
سحر بابتسامة: لأ متقوليليش حضرتك، قوليلي ماما سحر زي زمان.
ماسة بإبتسامة صغيرة: حاضر.
سحر بقلق: بس أنتِ تعبانة ياحبيبتي، ارتاحي وقولي عايزه تعملي ايه وأنا اعمله.
هزت ماسه رأسها رافضه: لأ، آني خدت الدوا بتاعي وبقيت كويسة.
دخل سليم في تلك اللحظة وقال بإبتسامة: سيبيها يا سحر تعمل إللي هي عايزاه، وروحي أنتِ أرتاحي، أنا هساعدها.
ابتسمت سحر ودعت لها وهي تخرج: ربنا يشفيكي يا حبيبتي.
أقترب سليم من ماسة، أخذ مريلة ولبسها، ثم أمسك أخرى وساعدها في ارتدائها وربطها من الخلف.
ماسة بخجل: اقعد أنت، وآني هعمل كل حاجة.
سليم بإبتسامة دافئة: يا ستي أنا عايز أساعدك.
أومأت برأسها بابتسامه، ثم تساءلت بنبره قلقة: سحر طيبة خالص، بس هي هنا لوحدها؟! المفروض تجيب حد يساعدها ! البيت كبير أوي.
سليم بهدوء: هجيب أكيد حد يساعدها، متقلقيش.
ثم بدأ الاثنان بتجهيز الطعام معا في جو مليء بالمرح، لكن مع لمسات حميمية تخفيها الضحكات، بدأت ماسة بفتح الثلاجة وأخذت تخرج الخضروات واللحوم، بينما مد سليم يده ليأخذ الدقيق، لكنها لم تنتبه حين سقط بعضها على يده،ضحكت ماسة عليه بصوت عالي، فنظر لها سليم متأملا ضحكتها للحظات ثم قال بمشاكسة ووعيد: أنتِ بتضحكي عليا !؟ طيب
ثم أخذ يرش عليها من الدقيق، فتصرخ هي بمرح وتضحك أكثر، وعيناها تتلألأن ببهجة طفولية.
ماسة وهي تضحك: أنت قدها!
أقترب منها بإبتسامة مفعمة بالتحدي: أكيد.
أقتربت منه ببطء، وضيقت عينيها بمرحة، ثم فجأة أمسكت بكيس الدقيق وألقته عليه بالكامل، وامتلأ المطبخ بأصوات ضحكاتهما.
سليم، وهو يمسح الدقيق عن وجهه: لا لا خلاص، أنتِ ما بتصدقي تلعبي؟ أنا أسف، أنا أعلن انسحابي من دلوقتي.
رفعت كتفها بإنتصار: أيوة كدة!
استمرا بالمزاح اللطيف، بينما يقطعان الخضار ويجهزان المكونات، كل لمسة أو نظرة، حتى لو كانت صغيرة، كانت تحمل شحنة من المشاعر؛ أحيانا يخفي هو الملعقة عنها، وأحيانا تخبئ هي شيء يحتاجه لتضحكه، ومع كل لحظة كان الجو يزداد دفئا وحميمية.
بعد ساعة، انتهيا من الطهي ورتبا السفرة معا، وضعا الطاجن في وسط المائدة، وأطباق صغيرة بجانبه، وكل شيء مرتب بعناية صغيرة تجعل المكان يبدو دافئا ومليئا بالحب.
نادت ماسة على سعدية لتأكل معهم، لكنها ابتسمت قائلة: لأ يا حبيبتي، كلي أنتِ وجوزك، أنا هاكل بعدين، مش جعانة دلوقتي.
كانت ترغب في تركهما بمفردهما، لتمنحهما فرصة للاقتراب أكثر، فماسة تحتاج إلى سليم الآن أكثر من أي وقت مضى.
جلسا الأثنان بمفردهما، وكأن العالم كله اختزل في تلك اللحظة، مد سليم الملعقة، وأخذ قطعة من اللحم، ورفعها إلى فم ماسة.
سليم بنبرة دافئة: دوقي كده، الأكل طلع إيه؟
ترددت لحظة، ثم فتحت فمها بخجل، وأكلتها وهي تقول: الله! الأكل طلع حلو أوي.
سليم وهو يهز رأسه برضا بنظرات غزل: بس مش أحلى من أكلك يا قطعة السكر.
أمسك يدها للحظة وقال بهدوء: أنا مبسوط أوي، ونفسي متشيليش هم، إن شاء الله مع الوقت هتفتكري كل حاجة.
تنهدت بإبتسامة دافئة: يا رب، أنا متأكدة إننا عملنا حاجات زي دي قبل كده، صح؟
اومأ برأسه، وأقترب أكثر، وهو يرفع قطعة خضار بالملعقة ويقربها من فمها: متقلقيش هتفتكرى كل حاجة، يلا كلي.
فتحت فمها بخجل وأكلت، بينما وجنتاها تحمران.
ضحك برقة وهو يراقبها: لسة بتتكسفي مني؟
ابتسمت بخجل وهي تنظر في الطبق: يعني شويه، بس مش زي أمبارح.
ضحك بخفة، ثم أكملا طعامها في هدوء، والابتسامة لا تفارق وجهيهما، لكن هذه المرة، كانت قلوبهم تتحدث بصمت أبلغ من أي كلام.
بعد أن أنهى سليم وماسة طعامهما، رن هاتف سليم، كان الطبيب النفسي على الخط، أعتذر عن عدم قدرته على حضور الجلسة اليوم بسبب ظرف طارئ، تفهم سليم وحكي له إنه تحدث مع ماسة عن جزء كبير من فترة زواجهما الأولى، ثم طلب الطبيب أن يتحدث مباشرة مع ماسة، جلس سليم بجوارها وهو يراقبها بإهتمام بينما وضعت الهاتف على أذنها.
بصوت هادئ، أوصاها الطبيب ألا تجهد نفسها في الحديث، وألا تحاول استرجاع أي تفاصيل جديدة اليوم، يكفي ما استمعت له، كما نصحها أن تستمتع بيومها، وتترك الباقي للجلسة القادمة، أومأت ماسة أكثر من مرة، ورددت كلمة حاضر قبل أن تغلق المكالمة.
وضعت الهاتف على الطاولة، ونظرت إلى سليم بإبتسامة صغيرة.
ابتسم بدوره وقال: إيه رأيك نروح نعمل شوبينج النهاردة؟ كان نفسي أوديكي الملاهي، بس الدكتور قال لا علشان الخرج اللى في رأسك والكدمات.
رفعت ماسة حاجبيها بدهشة طفولية، ثم قالت وهي تضحك بخجل: آني بحب اللعب أوى، وعمري ماروحت الملاهي، قصدي يعني أنت حكيتلي، إنك وديتني، بس آني مش فاكره.
ضحك سليم بخفة وهو يلوح بيده: لما الدكتور يسمح هوديكي الملاهي، بس النهاردة نخليها شوبينج وأكلك آيس كريم؟ إيه رأيك؟
اومأت ماسة برأسها ببراءة: موافقة!
ثم قفزت من مكانها بحماس وصفقت: آني هروح ألبس بسرعة!
ركضت علي السلم بخفة، لكن سليم نهض، وقال بقلق: بالراحة يا ماسة علشان الجرح اللى في راسك.
أومأت برأسها وهي تواصل صعودها بإبتسامة، وبعد قليل، عادت ترتدي جينز فاتح وتيشيرت ملون، شعرها مربوط ببساطة، فيما كان سليم ينتظرها بملابس كاجوال أنيقة.
تبادلا النظرات لثواني، فماسة بخجل: إيه رأيك؟ شكلي حلو؟
ابتسم سليم، وقرصها مداعبا من أنفها: زي القمر.
ابتسمت له ومد يديه لكي يمسكها، نظرت له للحظة ثم أمسكت يديه، وشبكت أصابعها بأصابعه، ابتسم سليم وشعر أن حاجز كبير تلاشي، خرجا معا بخطوات متناسقة، كأنهما يبدآن يوما عاديا، لكن مليئا بالاحتمالات.
فنظر اليها بابتسامته، وهو يهمس همس في سره: يارب اليوم يعدي على خير.
عمارة مي الرابعة مساء.
كانت مي تقف أمام باب العمارة في انتظار وصول رشدى، يحيط بيها العديد من شنط الهدايا، وهى تنظر في ساعتها بضيق، وبعد قليل توقفت سيارة رشدى أمامها، ولوح لها فأقتربت من السيارة.
مي بضجر: كل ده تأخير!!!
رشدى معتذرا: معلش الطريق كان زحمة.
مي بهدوء: طب أفتحلى شنطة العربية، وأنزل شيل الشنط دى حطها فيها.
رفع رشدى حاجبه مازحا وهو يهبط من السيارة: هو أنتِ صدقتي إني السواق الخصوصي بتاعك بجد ولا إيه !!
مي بثقة وهى تتحرك نحو شنطة العربية: هو أنت تطول أصلا تبقي السواق بتاعي!
رشدى بسخرية وهو ينظر إليها من أعلى لأسفل في إشارة إلى قصر قامتها: والله بنظري كده أعتقد فيه بينا 15 سم فرق لصالحي، فأعتقد هطول عادى.
مي برخامه: اممم دمك تقيل، يلا تعالى شيل معايا علشان نحلق نوصل.
رشدى بإستفسار، وهو يأخذ منها بعض الشنط ويضعهم في شنطة العربية ويغلق عليهم: هو أحنا أصلا رايحين فين؟ أنتِ رايحة عيد ميلاد ولا إيه!
مي بغموض: يلا بس، وأنا هقولك تمشي أزاى.
صعدوا السيارة وهو يقول بإستنكار: طب متقولى إحنا رايحين فين.
مي مازحة، بنظرة شر مصطنعة: خطفاك.
غمز رشدى بعينيه: ده محمود بقي مخربش على الأخر، هو أنا قعدتك معايا بهتت عليكى للدرجة دى!
مى بإبتسامة: بطل رغي وأطلع بقي عايزين نلحق نوصل.
فهز رأسه إيجابا وأنطلق نحو وجهة لا يعلمها! ظلت مي تصف له الطريق حتي وجد نفسه يتوقف أمام مبنى قديم تحيط به حديقة صغيرة تكسوها أشجار عتيقة.
هبطوا من السيارة، واتجهوا إلي شنطة العربية، وأخرجوا منها شنط الهدايا، ثم تحركوا صوب المبني، فألتقطت عيني رشدى اسم المكان الموضوع على اليافطة فوق البوابة الحديدية ” دار أيتام الزهور”
فألتفت نحو مي، وعينيه مملوءه بالأستفهام، وصوته يخرج مترددا: أنا مش فاهم حاجة، أنتِ جايباني دار أيتام أعمل إيه؟ هو حد قالك إني يتيم !!
ابتسمت مي بخفة، وهى تعبر البوابة الحديدية: تعالى بس ندخل وهتفهم كل حاجة.
وقفت مي في منتصف الحديقة ورشدى بجانبها، ثم قامت بالتصفير كأنها كلمة سر، فخرج عشرات الأطفال من كل ناحية، ركضوا نحوها بأذرع مفتوحة، ألتفوا حولها وأخذوا يضمونها بحب، وجوههم مضيئة بإبتسامات بريئة، وهي تضحك وتربت على رؤوسهم، والسعادة ترتسم على ملامحها وملامحهم في آن واحد، ورشدي يقف متسمرا مكانه، يراقب المشهد بذهول.
بدأت مي توزع عليهم الهدايا، وألتفت لرشدي وهي تشير بيدها: رشدي، يلا وزع عليهم أنت كمان من الأكياس إللى معاك.
تقدم بخطوات بطيئة، ومازالت معالم الاستغراب على وجهه: هو فيه إيه أنا مش فاهم حاجة!!
أجابته مي بإبتسامة: هتفهم دلوقتي، بس يلا وزع عليهم الهدايا إللى معاك.
انحنى وبدأ يوزع الهدايا عليهم، والأطفال يتسابقون نحو الهدايا بعفوية، والضحكات تملئ المكان، بعد قليل، وقفت مي إلى جانبه، تراقب الأطفال بعينين دافئتين، ثم ألتفتت نحوه وهي تقول بهدوء ونبرة تحمل الكثير: تعرف، أنا لما بحس إني مخنوقة أو ماما وحشاني، بحب أجي هنا، بفكر نفسي إن الأولاد دول معندهمش أب ولا أم ولا عيلة، وأنا عندي أب وأخوات و ناس بيحبوني.
رفع رشدى عينه بإستغراب وقال بتساؤل: هو أنتِ عايزة توصلي لإيه بالظبط.
رفعت كتفيها لأعلى، وقالت بهدوء موضحة وهى تنظر بشرود تجاه الأطفال: أبدا، بس أنا بحب المكان هنا علشان بيفكرني بقيمة النعم الكتير إللى موجوده في حياتى وأنا مش حاسة بيها ومركزة بس على الحاجات إللى نقصاني، مع إن الناس إللى هنا معندهمش ربع النعم إللى عندى وواصلين لدرجه رضا عمرها مافشلت إنها تبهرنى!
وتابعت بحماس: بس تعرف على قد ما ناقصهم حاجات كتير هنا، بس بيطلع منهم نماذج مشرفة جداا.
ثم أشارت بيدها على رجل يبدو في ريعان شبابه، يجلس على العشب ويحيط به العديد من الأطفال وهو يغمرهم بحنانه وضحكاتهم تملئ المكان من حوله، وأضافت بهدوء: شايف إللي هناك ده؟ في يوم من الأيام كان من أبناء الملجأ ودلوقتي بقي مهندس وإللى قاعد جمبه ده ابنه، يعنى على الرغم من إنه وهو صغير اتحرم من مشاعر الحنان والاهتمام إلا إنه لما كبر بقي يجى يزور الأطفال هنا ويحاول يعوضهم عن إللى اتحرم منه وهو صغير، ودايما بشوفه جايب ابنه معاه بيحاول يزرع فيه مشاعر الرحمة والعطف ويوريه الماضي بتاعه وهو مش خجلان ولا مكسوف منه.
ثم ركزت النظر في عينيه، وهى تقول بنبرة تحمل في طياتها الكثير: يعنى على الرغم من مشاعر الحرمان إللى حس بيها، وإنه خرج من الملجأ من هنا شاب عنده 18سنة، بيواجه الدنيا بطوله ولا يملك شيء، ومع ذلك بنى نفسه بنفسه، ومدفنش راسه في الرمل، ولا حط مبررات كتير لنفسه بالحرمان إللى عاشه، إنه يسلك سلوك عدواني وناقم على المجتمع ويتجه لطريق الجريمة، مع إنه كان هيبقي حقه بصراحة، بس هو معملش كده، وغيره نماذج تانية كتير …
كانت كلماتها تخرج بصدق حقيقي، والهواء يملأ المكان بمزيج من روائح الشجر وضحكات الأطفال.
فتابعت وهى تنظر في عينيه بثبات: المقصود من كلامي ومن وجودنا هنا يا رشدى؛ اني عايزاك تشوف الناس دى وتتعلم منهم، مش عايزاك تفضل عايش جوه الماضي، لإنك مش هتتقدم خطوة واحدة لو فضلت مركز على المشاعر إللى اتحرمت منها وبتحطها مبرر لكل تصرفاتك، لإن أنت كدة بتأذى نفسك قبل ما تأذى أي حد تاني، فيه غيرك معندهمش حاجات كتير عندك، ومع ذلك صنعوا لنفسهم كيان من مفيش.
زمت شفتيها بأسف، وتساءلت وهى تشير بيدها تجاهه:
أنت بقي عملت أيه يا رشدى؟! أنت كان حواليك ناس كتير بتراعيك زى الدادات إللى عندكم، وناس تانية بتحبك زى فريدة وياسين، واتعلمت أحسن تعليم، وكان متوفرلك حياة كريمة متوفرش 1% منها لغيرك، وكان عندك سلطة وعيلة في ظهرك مهما أخطأت كانوا بيلموا وراك، ففتح عنيك يارشدى وبص على الحاجات الكتير الحلوة في حياتك بدل ما أنت حابس نفسك في الحاجة الوحيدة المحروم منها.
كانت كلماتها تسقط عليه كأنها دواء بارد، وصوتها أختلط مع ضجيج الأطفال من حولهم، فشرد رشدي قليلا، عيناه تائهتان خلف ضحكات الأطفال الذين يلعبون بلا هم أو مال أو عائلة، بلا ماضي يثقلهم أو حاضر يقيدهم أو مستقبل غامض يلاحقهم، شعر بغصة في قلبه، فـمي كانت محقة، كم أضاع من عمره وهو يتشبث بخيوط الماضي الواهية، ويبرر لنفسه ما لا يبرر، ويغرق في عتمة صنعها بيديه، كان عليه أن يلتفت إلى ما بين يديه من النعم التي طالما غفل عنها وهو يطارد أشباحه، أما آن الأوان أن يخلع عباءة الماضي الثقيلة؟ وأن يواجه حاضره بلا حجج أو أعذار؟ ففي النهاية، لم يجبره أحد على تلك الحياة، بل هو من اختارها بمحض إرادته، وهو وحده القادر على كسر قيدها.
وفجأة اقترب منهم أحد الأطفال، وسحب مي من جانب رشدي بحماس وهو يقول: يلا يا مي، تعالي ألعبي معانا!
ضحكت مي وركضت معه وجلست تلعب مع الأطفال، وظل رشدي واقفا شاردا، ينظر لها بإبتسامة، وهي تلعب بعفوية كطفلة مثلهم.
وأثناء اللعب أشارت مي بيديها إلى رشدي تدعوه أن ينضم اليهم ويشاركم اللعب، تردد في البداية، ثم أشارت له مرة ثانية بحماس، فتقدم نحوهم.
بدأ يلعب معهم، ويشاركهم الضحكات والمرح، لأول مرة يشعر بكل تلك المشاعر الجديدة، لم يكن يفهمها بالكامل، لكنه شعر بسعادة غير معتادة، أحتضنه أحد الأطفال فجأة، وأحس بإحساس لم يختبره من قبل، ضحك بصوت عالي وحرك جسده مع اللعبة مستمتعا باللحظة.
كانوا غرقانين في اللعب، وضحكات الأطفال تعلو من حولهم وتملىء المكان، وأثناء انخراطهم في اللعب، اقترب طفل نحيل يدعي فارس، وعمره حوالي ست سنوات، عينيه فيها لمعة فضول وغيرة دفينة، شد مي من طرف بلوزتها وقال بنبرة مستاءة: مي هو مين الواد إللى معاكي ده !؟
نظرت له مي بإبتسامة، أما رشدي فأرتفع حاجباه بدهشة، وألتفت ناحيته وقال وهو يضحك: واد؟
فارس بسخرية: أيوه واد، أومال بت؟
اتسعت عينا رشدي من لماضة الطفل وقال بدهشة وهو ينظر لمي: مين ده؟
مي، وهى تنحنى وتحتضن فارس بحنان: ده فارس، عامل إيه يا فارس واحشني خالص.
بادلها الطفل الحضن: وأنتِ كمان وحشتيني يا مي
ثم نظر إلي رشدى مرة أخرى وقال بإستنكار: بس برضو أنتِ مقولتليش مين الواد الرخم دى ؟
ضحكت مي وهي تضع يدها على فمها لتخفي ضحكتها: عيب يا فارس، دى عمو رشدي، خطيبي.
اتسعت عينا فارس وأنفجر بتمثيل طفولي غاضب: إيه ده يا مي؟ كدة تخونيني وتتخطبي للواد الوحش الطويل ده؟ ده وحش! يعني أنا مش عايز أكلم البت هنا ولا ألعب معاها عشان خاطرك وفي الآخر تروحي مع الواد ده! مش أنا قولتلك استنيني أكبر وهتجوزك؟
انفجرت مي ضاحكة، وإنحنى رشدي تجاه فارس وهو يمسكه من ياقه قميصه ويرد بإستنكار: تتجوز مين يا نص شبر أنت؟
رفع فارس رأسه متحديا: أتجوز مي.
ضحك رشدي وهو ينظر لمي: معلش بقي سبقتك.
رفع فارس كتفيه بلا مبالاة وقال بعناد طفولي: عادي، بكرة أكبر وتسيبك وتتجوزني، علشان هي بتحبني أنا ، صح يا مي؟
رشدى بنبرة مازحة وهو يميل ناحيه مي: هو أنتِ بتتشقطي منى، وأنا واقف، ولا أنا بيتهيألي!
نظرت إليه مى بتحذير: رشدى ألفاظك، ميصحش تقول الكلام ده قدام طفل.
نظر رشدى ناحية فارس وهو يرفع حاجبيه بإستنكار: طفل مين؟! ده أنا إللى طفل!؟
ضحكت مي، ووجهت حديثها للطفل بحنان: فارس، بطل شقاوة وروح كمل لعب مع أصحابك.
نظر فارس لها بنظرة حزن وهو يشير ناحية رشدى بإستنكار وقال بعتاب حزين: كده يا مي، عايزة تمشيني علشان تقفي تلعبي مع اسمه إيه ده …
ثم ألتفت إلي رشدى وهو يتسائل: أنت قولت اسمك إيه ؟
رشدي بسماجة: أسمي رشدي.
أومأ فارس برخامة: عايزة تقفي تلعبي مع رشدى وأنا لا يا مي؟
رفع رشدي حاجبه وضحك وهو يتمايل: رشدي حاف كدة !!
فارس بعناد طفولي: أمال رشدي بشرطة.
مد رشدى يده بخفة، وأمسك فارس من جانبه وأخذ يزغزغه: ولا أنت لمض كدة ليه؟ تعال هنا.
ضحك فارس وأنفجر يصرخ: يا مي حوشيه عني.
أخذ رشدي يدغدغه، ويلعب معه ويركضون خلف بعضهما، وفجأة نادى فارس أصدقائه وقال: ألحقوني من رشدي، فبدأ الأطفال يركضون نحو رشدي ويرشونه بالماء من مسدساتهم، فألتقط رشدى أحد مسدسات الماء وأخذ يرش عليهم أيضا، في حرب مشتعلة وقطرات الماء تتساقط هنا وهناك، الأجواء كانت ممتعة والضحك يملئ المكان، وكانت مي سعيدة لأنها لأول مرة ترى رشدى يعيش تلك الأجواء.
وأثناء اللعب، كلما اقترب فارس من مي يحتضنها ويشاركها اللعب، يمسكه رشدي من ياقة قميصه ويبعده عنها وهو يقول بنبرة مرحة: لا أنت بالذات تلعب من بعيد لبعيد، علشان أنا مش مرتاحلك بعد إللى قولته ده، أنا شاكك أصلا إنك راجل تلاتيني مسخوط في هيئة طفل.
ضحكت مي بخفة: بطل يا رشدى بقي، هتعمل عقلك بعقل طفل!!
ضحك رشدي وهو يرمق فارس من أعلى لأسفل بإستنكار وتقييم: طفل آه، ما هي بتبتدي كدة! أسكتي أنا شايف نسختي أقسم بالله، بس في نسخة أكثر تهور ولماضة مني.
هزت مي رأسها بمزاح: أه، ما أنت طول عمرك بتاع بنات.
ضحك رشدي ورفع إصبعه مصححا: لا معلش، دى معلومة مغلوطة، أنا قعدت لحد سن العشرينات بتاع بنات، لكن دلوقتي بقيت بتاع نسوان.
نظرت إليه مي بتحذير: بطل وقاحة، ولم نفسك يا رشدى، إحنا وسط أطفال.
رفع رشدي يده مقلدا قسما: ماخلاص بقي، إحنا توبنا إلي الله.
نظرت له مي بتركيز: أنا ليه حاسة إنك بتقولها وكأنك مش مبسوط!!!
ابتسم رشدي ومال نحوها، وقال بصوت خافت: مقدرش يا ست البنات.
رفعت مي حاجبها وضحكت: ماشي نبقي نشوف موضوع التوبة والبنات ده بعدين، شكلنا هنحتاج نعمل جرد لأكونتاتك.
فتح رشدى فمه بدهشة: إيه؟
رفعت مي حاجبها: الأكونتات بتاعتك يا رشدي، هاخدها وأعمل لها جرد.
مال للأمام وهو يضع يده خلف أذنه: إيه؟
ضحكت مي بصوت عالي: أطرشيت؟
ابتسم وقال وهو يرفع يده استسلاما: حاضر ياستى هديهملك.
ثم قاموا وواصلوا اللعب مع الأطفال مره أخرى، ظل رشدي يلعب معهم لساعات طويلة حتى أنتهى اليوم.
في السيارة
كان رشدي يجلس في مقعد القيادة ومي بجانبه، السعادة واضحة على ملامحه.
ألتفت إليها وقال بنبرة ممتنة: أنا مش عارف أقولك إيه بجد، أنا أول مرة أجي مكان زي ده، وأحس بمشاعر زي دي، أنا مش عارف أوصفهالك بس أنا مبسوط، القعدة مع الأطفال مريحة قوي، مكنتش متخيلها كده الصراحة، كنت بفتكر لما بشوف المشاهد دي في التلفزيون إنها حاجات أوفر، بس لما جربته على أرض الواقع لقيته أحساس جميل أوى.
ابتسمت مي وهي تنظر أمامها وقالت بهدوء: قولتلك هتنبسط، صدقني ده المكان الوحيد إللي هتحس فيه إنك بتتعامل بشخصيتك الحقيقية إللي اتولدت بيها، بعيدا عن أي حاجة تانية، لإنك بتتعامل مع أطفال كلهم نقاء زي الورد من غير شوك.
هز رشدي رأسه وأكمل وهو يبتسم بصدق: أنا مش عارف أشكرك إزاي يا مي، أنتِ بتخليني أعمل حاجات أول مرة في حياتي أعملها، وأحس بمشاعر أول مرة أحسها
أجابته مي بجدية هادئة: لا، أنا مش عايزاك تشكرني أنا عايزاك تتعلم منهم زى.
أومأ رشدي إيجابا: ماشي، بس أنا عايز أجي هنا تاني، بس المرة الجاية هجيب هدايا أحلى من الهدايا إللي أنتِ جايباها.
مي بسرعة:بس مينفعش تجيب حاجات غالية علشان ميتعودوش.
نظر لها رشدي ممتنا: ماشي، شكرا يا مي إنك في حياتي بجد، بس أنا كمان عايز أقدملك حاجة زى ما أنتِ بتقدميلى كتير.
نظرت مى بإستغراب: إزاى يعنى مش فاهمة !
رشدى بهدوء وحذر وهو ينظر في عينيها: أنا عايز أعلمك السواقة، إيه رأيك؟
ضحكت بتوتر: شكرا جدا جدا جدا، إنسي
ابتسم مازحا: مش واثقة فيا؟
أجابته بتوتر: ياسيدى بثق، بس الموضوع بجد صعب.
ابتسم بثقة، وهو ينظر داخل عينيها بتشجيع: مفيش حاجة اسمها صعب، هتتعلمي وهنمشي بالراحة، علشان مينفعش نفضل نعيش في الماضي، ولا إيه!؟
نظرت إليه بإبتسامة، مدركة إنه يكرر عليها الحديث الذى قالته له، كان الأمر صعبا عليها، لكنها رغبت أن تتحرر من القفص الذي حبست نفسها فيه لسنوات، ولعل رشدي يكون الخلاص لها، فأومأت برأسها بصمت، من دون أن تمنحه قرار، أما هو فابتسم لها بحماس، ثم أنطلق متجها إلى منزلها.
المول الرابعة مساء
دخل سليم وماسة أحد المولات الكبيرة، الأضواء البراقة والمحال الممتدة أبهرت عينيها، كأنها طفلة تكتشف مدينة ملاهي للمرة الأولى، راحت تتنقل من واجهة لأخرى، وسليم يتابعها بصبر وابتسامة راضية، وفي أحد المحلات، بدأ يختار لها قطع الملابس بعناية، وكلما جربت قطعة كانت تدور أمامه بمرح كأنها تنتظر رأيه مثل طفلة تسأل أباها: كويس كدة؟
خرجت أخيرا تحمل عدة أكياس، وجهها يلمع بالفرحة، ألتفتت إليه بخجل طفولي: أنت جبتلي لبس ياما !شكرا يا سليم.
ابتسم وهو يهز رأسه: أهم حاجة إنك مبسوطة، وبعدين فيه واحدة تشكر جوزها؟
أحمرت وجنتاها وضحكت بخجل، فمد يده للحراس ليسلمهم الأكياس ثم قال بخفة: يلا نكمل الجولة ونجيب آيس كريم
توقفا أمام محل الآيس كريم، أختارت ماسة كوبا بطعم الشوكولاتة، بينما أكتفى هو بالفانيليا، خرجا يتمشيان في المول وهما يتناولان المثلجات، وبدت ماسة سعيدة كطفلة صغيرة، رفع سليم هاتفه ليلتقط لها صورة، فابتسمت بمرح ولم تعترض حين اقترب أكثر، يحيط كتفها مرة وخصرها مرة أخرى، وهما يضحكان معا، حتى إنه مسح بأصابعه طرف شفتيها من الشيكولاته، فازداد وجهها خجلا وفرحا في آن واحد.
بعد جولة المول، دخلا السينما، كان يمسك يدها، ولم تحاول أن تسحبها، جلست بجواره مع علبة فشار كبيرة بينهما، وكلما مدت يدها اصطدمت يداها بيده، فتضحك بخجل، بينما يضحك هو معها.
خلال الفيلم، كانت تلتفت إليه بين الحين والآخر، تميل بجسدها نحوه في مشهد مضحك أو مؤثر، وهو يترك يده تستقر فوق يدها، بدا عليها الارتياح وكأنها أخيرا سمحت للقرب أن يعود.
عند الخروج، ألتقط لها صورة وهي تحمل علبة الفشار الفارغة، فوضعت لسانها بخفة على شفتيها وضحكت بخجل، بينما هو جذبها قليلا نحوه بذراعه في الصورة التالية، كانت تضحك بصدق، كمن عاش لحظة لم يذقها منذ زمن طويل، تناولا عشاء خفيفا بعدها في أحد المطاعم، والضحكات لا تفارق وجهيهما.
فيلا سليم، الواحدة صباحا.
في غرفة النوم، انزل الحراس الأكياس ثم انصرفوا، بينما وضع سليم المشتريات على الأرض، وأغلق الباب، ثم التفت إلى ماسة التي كانت تعبث بخصلات شعرها بخجل.
رفعت رأسها وقالت بصوت منخفض: شكرا على الحاجات الحلوة اللي عملتها معايا النهارده.
ابتسم وهو يقترب منها: أنا عايزك مبسوطة بس كده.
ماسة وهي تخفض بصرها: وآني مبسوطة أوى.
ثم ترددت قليلا قبل أن تسأله: هتنام في أوضة تانية؟
رد وهو يشيح بنظره: أيوه.
كاد أن يخرج لكنها نادته بخجل طفولي: لو تحب، نام هنا، آنى لسه مكسوفة شوية، بس حبه وهاخد عليك.
ابتسم بحنان: أنا هنام معاكى هنا على الكنبه، لحد ما تاخدى عليا، ماشي؟
اومأت برأسها، وذهب ليبدل ملابسه في غرفة الملابس، ليترك لها بعض الحريه لتبديل ملابسها في الغرغه، ثم عاد بعد قليل وتمدد على الأريكة، بينما صعدت هي إلى الفراش.
تنهدت بحزن وبراءة: هو أنت مرتاح كدة؟!
سليم وهو يشد الغطاء: آه متقلقيش
ماسة ببراءة: بس أنت صعبان عليا، الكنبه صغيره أوى عليك.
ضحك بخفوت، وحرك رأسه كأنه يهون عليها:متشغليش بالك، المهم أنتِ مرتاحه، يلا نامي.
وضعت ماسة رأسها على الوسادة، شدت الغطاء حولها، لكن عينيها ظلت مفتوحتين، تتحركان ببطء يمينا ويسارا، نظرت ناحية سليم، كان مستلقيا على الأريكة، ملامحه ساكنة لكنها مرهقة، وذراعه متدلي من الحافة.
زفرت بخفوت وقالت في سرها: هو آني لو خليته ينام جنبي يبقى عيب؟ لأ أمي قالتلي إنه جوزي وكده مش حرام ولا عيب، أصل حرام صعبان عليا، وهو طيب خالص.
ماسه بصوت ناعم: سليم، أنت نمت؟
فتح عينيه نصف فتحة، صوته مبحوح: لسه هنام، محتاجة حاجة؟
ترددت لحظة، ثم قالت بخجل: أيوه تعالى نام جنبي، بس نحط مخدة في النص.
رفع رأسه ببطء، رمقها بابتسامة صغيرة: عشقي، مش مشكلة، أنا مرتاح هنا والله.
زمت شفتيها بعناد طفولي: لا مش باين عليك، تعالى بس وحياتي، عشان آنى مش قادرة أشوفك نايم كده.
خفضت صوتها أكثر: حاسة إن قلبي اسود.
ضحك بخفة، وهز رأسه مستسلما: وأنا مقدرش أخليكي تحسي إن قلبك أسود.
نهض ببطء، ثم سحب المخدة ووضعها بينهما، تمدد بجوارها ونظر لها بإبتسامة، كانت ماسة تتابع حركته بعينيها، وابتسامة صغيرة تسللت لشفتيها.
سليم بصوت هادئ وهو يغلق عينيه: تصبحي على خير يا قطعة السكر.
ابتسمت بخجل: وأنت بخير ياكراميل.
نظر لها بسعادة: قولتي إيه؟
ماسة بخجل: قولت كراميل، مش أني كنت بقولك كده؟
هز رأسه بصمت بابتسامة واسعة، بينما غفت هي بهدوء، فيما ظل سليم مبتسما، يشعر أن مسافة كبيرة كانت تفصل بينهما بدأت تختصر أخيرا.
مجموعة الراوي، العاشرة صباحا
توقف تاكسي أمام المبنى الضخم، نزلت مي وهي تتأمل الصرح بعينين متلألئتين، سألت في الاستقبال عن مكتب رشدي، فأخبروها أنه في الدور الثالث، صعدت بالمصعد، وفي الممر ألتقت بفريدة.
فريدة بدهشه: مي!! إيه المفاجأة الحلوة دي جاية تشوفي رشدي؟!
مي بإبتسامة: اه عامله له مفاجأة، بس مش لاقية سكرتيرة استأذن منها.
فريدة موضحة: رشدي معندوش سكرتيرة، أفتحي الباب وأدخلي علطول.
مي ضاحكه: هو ده إللي هعمله.
اقتربت مي من الباب، يدها على المقبض.
في الداخل، جلس رشدي خلف مكتبه، يفتح كيس البودرة، يسكب منه قليلا، ثم يقربه من أنفه ويسحب شمة عميقة، يغلق عينيه، يتنفس ببطء وكأنه في عالم آخر.
وفجأة، فتح الباب تجمد جسده، واتسعت عيناه، والكيس لايزال في يده،…
ياتري ايه حصل مي شافته؟!

أضف تعليق