رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل الثاني عشر 12 – ليلة عادل

رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل الثاني عشر 12

الفصل الثاني عشر🤫❤️

[بعنوان: ليالي لا تنسي]

وضع رشدي قليلا من البودرة على ظهر يده، ألقي بالكيس على سطح المكتب، إنحنى واستنشق بنهم، وعاد بظهره للخلف مغمضا عينيه في نشوة متلذذة، تنهيدة الانتعاش تفلت من صدره، مال برأسه ثانية ليستنشق الجرعة التالية…

انفتح الباب فجأة، وصوت مي يصدح بمرح: مفاجأة!

تجمد رشدي في مكانه، واتسعت عيناه، خيم صمت ثقيل على الغرفة، كأن الزمن توقف من حوله، حتى أن أنفاسه بدت حبيسة صدره، توقف عقله عن العمل لثواني لا يعرف ماذا يفعل؛ فهو في موقف لا يحسد عليه، ارتجف جسده وابتلع ريقه بصعوبه ثم نهض ببطء، لمح الكيس على المكتب، فأسند كفه ليحجبه، ثم سحبه بخفة وقبض عليه بيدين مرتجفتين.

تحركت مي بخطوات مرحة، غير منتبهة لما يجري، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة عفوية وهي تقول بمرح: إيه رأيك في المفاجأة دي!

كان رشدي مازال غارقا في عالم آخر؛ عيناه شاردتان، وقلبه يكاد يخلع صدره من شدة خفقانه، والذعر يطوقه، فقد كان على وشك أن يضبط متلبسا بجرعة كادت تنهي قصته معها قبل أن تبدأ.

انعقد حاجبيها بإستغراب، اقتربت منه وهي تضحك بخفة: مالك؟ مخضوض ليه؟

ارتجف رشدي أخيرا، كأنه عاد من غيبوبة، ابتلع ريقه بصعوبة، خرج صوته مكتوما: لا بس مفاجأة.

قهقهت وهي تتجول بعينيها في المكان: قولت أعمل عليك كبسة، أشوفك شايف شغلك ولا لا.

كان قلبه لايزال يتخبط في صدره بعنف، كمن يطارد شبح لا يراه سواه، فيما تسلل الصداع إلى خلاياه، والكيس في يده يثقل عليه أكثر من ثقل الجبال.

اقتربت أكثر، ونظرت له بتركيز وهي تلوح بيدها أمام وجهه: مالك يا ابني؟

تمتم متلعثما: مفيش مش مصدق.
ثم انتزع ابتسامة باهتة وقال بصوت متماسك: بس حلوة المفاجأة دي أعمليها علطول، واقفة ليه؟ أقعدي.

جلست وهي تتفحص المكان بعينيها، قبل أن تعلق بخفة: مكتبك ظريف، بس ليه معندكش اسيستنت؟

ارتسمت على وجهه ابتسامة باهته: مكنتش باجي، كتير، فمكنتش محتاج، هبقى أجيب.

غمزت بعفوية وهي ترمقه: أشوفها الأول علشان بغير.

لم يجب، فهو مازال غارقا في صدمته، يقبض على الكيس بيد مرتجفه كأنه يقبض على جمره مشتعله.

رفعت عينيها إليه بدهشة: مالك يا رشدي، مش هتطلبلي حاجة؟

تنحنح وهو يهم بالمغادره: حاضر هروح أعمل حاجة وجايلك.

هزت رأسها بايجاب، فيما اندفع رشدي إلى الخارج بخطوات متعثرة وأنفاس متلاحقة، دخل المرحاض وألقى البودرة في الحوض دفعة واحدة،وانحنى يغسل أثرها عن أصابعه ووجهه، كان جسده يتأرجح وكأنه على وشك السقوط، وقلبه يخفق بعنف، غسل وجهه مرارا ومسح على رقبته، ثم تنفس بعمق،حاول رسم ابتسامة وهمية على وجهه قبل أن يعود اليها.

مكتب رشدي

فتح باب المكتب، توفف عند العتبة وهو يمرر عينه عليها بإبتسامة غزل، يبدوا أنه أخيرا أصبح قادر على التمساك.

رشدي بمرح: خطيبتي الحلوة منورة مجموعة الراوي.

تحرك وجلس على المقعد المقابل لها بإبتسامة تعلو وجهه بهدوء للمرة الأولى منذ أن رآها.

وتساءل بإبتسامة مزاح: إيه بقي سر المفاجأه الجامده دى؟

ضحكت مي بعفوية، وعيناها تلمعان بالمرح: لقيت نفسي فاضية، قولت أجي أعمل عليك كبسة وأشوفك بتعمل إيه؟! طلعت شاطر، وبتشتغل، وبصراحة عايزة أخطفك عشان ننزل نقابل المنظم بتاع الحفلة، وكمان لو فيه حاجة ناقصه نجيبها سوا.

رشدى بابتسامه: كل ده!! ماشي، نشرب حاجة، وأفرجك على المجموعة، وبعدها أخلص شوية أوراق، وبعدين نعمل كل اللى أنتِ عايزاه.

مي بخجل: أوعى أكون معطالك.

رشدي بإبتسامة غزل: لا يا حبي، أنتِ منوره المجموعه كلها.

تبادلا الابتسامات بخفة، وطلب رشدي لها كوبا من العصير، ثم جلسا يتحادثان وكأنهما في عالم يخصهما وحدهما، أخذ يحدثها عن تفاصيل المناقصة، يستشيرها برأي صادق، وهي تنصت باهتمام، تمنحه الثقة والدعم بابتسامة دافئة وكلمات مطمئنة.

وما إن أنهيا جلستهما حتى اصطحبها رشدي في جولة داخل المجموعة، كانت تتأمل المكان بإعجاب يلمع في عينيها، بينما كان يستمتع برؤية فرحتها، ثم اصطحبها لتصافح أفراد العائله في مكاتبهم واحدا تلو الآخر، عدا سليم الذي لم يكن حاضرا، وبعد الجولة، أنهى رشدي بعض الترتيبات في عمله ومي تتابعه باهتمام.
💞________________بقلمي_ليلةعادل

فيلا سليم وماسة، العاشرة صباحا

غرفة النوم

تسلل ضوء الصباح بخفة من خلف الستائر، يرسم خيوطه الأولى على أطراف الغرفة، كان سليم وماسة مايزالان غارقين في نوم هادئ، تفصل بينهما وسادة، استلقى سليم على جانبه، يده ممدة فوق الوسادة، ووجهه متجه نحوها في سكون مطمئن، بينما كانت هي تنام على ظهرها، وبعد قليل، بدأت تتململ ببطء وفتحت عينيها نصف فتحة، تحاول التكيف مع الضوء، وحينما تذكرت أن سليم يشاركها الفراش، ارتجفت بخجل، ثم التفتت نحوه تتأمل وجهه الساكن بابتسامة صغيرة رقيقة، كأنها تراه لأول مرة.

همست لنفسها بنغمة دافئة وعيونها لا تفارقه: بقى القمر ده چوزي، وبيحبني آني!! يالهوي.

ضحكت بخفوت، وهي تمرر عينيها عليه، وهمست: آني حبيتك أووي، يارب أفتكرك بقي.

رفعت يدها بتردد، ولم تستطع المقاومة، فلامست ملامحه برفق بأنامل مرتجفة، تتمتم بخجل: أنت قمور أوي.

اعتدلت ببطء، مسندة ظهرها إلى الوسادة خلفها، وعيناها الناعستين تتأملانه في صمت بابتسامة مشرقة وظلت هكذا لدقائق، اخذت نفسا عميقا، ثم سحبت الغطاء برفق فوقه، ولمست شعره بأطراف أصابعها، فارتجف قلبها دون وعي، ثم نهضت ببطء واتجهت إلى الحمام.

في المرحاض.

غسلت وجهها، ثم ابتسمت لنفسها في المرآة وهي ,تصفف شعرها، ثم بدلت ثيابها وخرجت بخفة من الغرفة.

كانت الفيلا لا تزال صامتة إلا من صوت خطواتها، فدخلت المطبخ، وبدأت بتحضر مشروب سليم المفضل بإهتمام وحنية واضحة، كأنها تصنع له شيئا يخص قلبها هي.

وفجأة سمعت صوت حركة تقترب، كانت سعدية فابتسمت وقالت بلطف: صباح الخير يا اما

جلست سعدية وهي تتاوب: صباح النور يا حبيبتي، عامله إيه دلوقتي؟!

ماسة وهي تضع الكوب على الصينية: الحمد لله، ممكن تعملي الفطار على ما أطلع لسليم المشروب بتاعه، مش عارفة سحر فين؟!

ابتسمت سعدية بمودة وهي تهز رأسها: عيني.

هنا ظهرت سحر وهي تحمل شنطة خضار يبدو أنها كانت في الخارج.

سحر بابتسامه: صباح الخير، إيه إللي صحاكي بدري كدة يا ماسة؟!

رفعت كتفيها لأعلى، وقالت ببساطه: ما آني واخدة على الصحيان بدري، معلش ممكن تحضري الفطار عقبال ما أصحي سليم.

سحر بلطف: حاضر ، وهعملك الفول بالزيت الحار إللي بتحبيه.

ماسة بامتنان: شكرا.

خرجت ماسة وصعدت الغرفة وهي تشعر بنوع من الحماس الطفولي، دخلت الغرفة بخفّة، وضعت الكوب على الكومود، ثم انحنت قليلا تتأمّل ملامحه بعشق؛ عيناه المغمضتان، شفتيه، لحيته، وشعره، مدت يدها برفق، وأخذت تمرر أناملها على وجهه بابتسامة يملؤها الحبّ والحياء، بعد لحظات، فتح سليم عينيه فجأة، وكأنه كان يشعر بها، توترت فحاولت سريعًا سحب يدها، لكنه أمسكها بابتسامةٍ دافئة قائلًا: متشليش إيدك.

تلعثمت بخجل وهي تبلع ريقها: أنى آسفة، والله ماقصدي حاجة وحشة.

ضحك بخفة: لا… ما هو لو فضلتي تتأسفي، أنا هزعل صباح الورد يا احلى وردة.

تبسمت بخجل وهي تعض اسفل شفتيها: صباح النور.

تبادلا النظرات في صمت، هي خجلا لا تجد الكلمات، وهو مستمتع باللحظة، ابتسم ابتسامة دافئة وقال بنبرة ناعسة: إيه بس القمر ده؟ حد يصحي الجمال ده..

ضحكت ماسة بخجل واضح، فمد يده بلطف وقال بصوت خافت متهدج: هو أنا ممكن أطلب طلب؟ بس لو مكسوفة خلاص.

رفعت عينيها اليه بخجل: قول.

قال بابتسامه، بنظرة فيها رجاء طفولي: ممكن بوسة؟

ترددت للحظة وعضت أسفل شفتيها، ثم اقتربت منه على استحياء وطبعت قبلة رقيقة على خده، ابتسم بفرح صادق، وبحركة لا إرادية مد وجهه نحوها ورد القبلة علي خدها هو الآخر.

أحمرت وجنتيها، ضحكت بخفوت وقالت وهي تبعد شعرها عن وجهها: يلا بقى قوم عشان تفطر، آني عملتلك المشروب بتاعك.

ابتسم سليم بهدوء وجلس، فناولته الكوب، فتناوله منها وعيناه لا تفارقها لحظة، كانت نظراته مشبعة بالحب والشغف، كأن الكون بأسره قد اختصر في وجودها أمامه، وحتى هي، كانت تبادله النظرة ذاتها بصمت.

تساءلت ماسة برقة: هتعمل تمارينك النهاردة؟

هز راسه نافيا، بارهاق خفيف: لا، مش قادر النهاردة، هاخد شاور.

تساءلت برقه واهتمام: تحب أطلعلك حاجة على ذوقي؟ بس هدوم خروج ولا بيتي؟

سليم بابتسامه: أنتِ عايزة تلبسيني إيه؟

ردت بسرعة ببراءة: بنطلون وتيشرت مريحين زي إللي لابسه.

قال مبتسما: ماشي يا ماستي الحلوة.

أحضرت له ماسة ملابسه، وبعد أن أنهى مشروبه استحم وتعطر بعطره المفضل. كانت بانتظاره بابتسامةٍ هادئة، فتبادلا نظرات دافئة قبل أن يمسك بيدها وينزلا معًا. جلسا إلى المائدة حيث سعدية وسحر بانتظارهما، وتناولوا فطورًا هادئًا دافئ الأجواء. بعدها خرجا إلى الحديقة، وجلسا على الأريكة تحت ظل شجرة عتيقة، نسيم الصباح يداعب وجهيهما، وسليم يحتسي قهوته بهدوء بينما تبتسم له ماسة.

ماسه وهي تميل برأسها نحوه، وعيناها تلمعان بفضول طفولي: يلا بقى أحكيلي، بعد ماوصلنا القصر، إيه إللي حصل؟ فايزة هانم وإخواتك استقبلوني إزاي؟

أومأ برأسه ضاحكا: حاضر يا ستي.

بدأ يروي لها بصوت هادئ، كأن كلماته تحاول لملمة ما تبعثر من ذاكرتها، كانت تنظر إليه بإصغاء، وكلما أراها صورة أو مقطعا، أمسكت الهاتف بيد مرتجفة، تحدق بعينيها الواسعتين كأنها تبحث عن نفسها بين الوجوه، لكن بلا جدوى، واصل سليم حديثه بصوت أبطأ وأكثر حذرا، كأنه يخشى على قلبها من الحقيقة، فبدأ يروي عن كل شيء؛ عن ضربه لها، عن خوفه، وعن الإجهاض الأول.

تصلبت ملامحها، وارتجفت شفتاها قبل أن تخرج الكلمات بصوت مبحوح مرتعش: يعني آني كنت حامل وكان هيجيلنا نونو صغنن؟

هز رأسه ببطء، وقال بصوت خافت غارق في الأسى: أه، بس الحمل مكملش.

أطرقت بعينيها، وصوتها خرج واهيا كصوت طفلة خابت أمانيها: زعلتني أوي.

مد يده ولمس كفها بخفة، كأنه يخاف أن تنكسر بين يديه، وقال بهدوء حنون: زعلانة ليه، أنتِ كنتي صغيرة وكان متوقع يحصل كده، وبعدين أحنا مع بعض أهو إن شاء الله هنجيب أولاد كتير.

هزت رأسها بتأييد حزين، وساد بينهما صمت قصير، قبل أن يبدأ بسرد قصة علاجه، وكيف ذهب الطبيب ليحاول السيطرة على حالته، لكنه توقف فجأة قبل أن يكمل، وكأنه عجز عن المضي حين اقترب من ذكر حملها بحور.

مسح وجهه بكفه، وهو يزفر بتعب: حبيبتي كفاية كدة ولما نرجع من عند الدكتور نبقي نكمل، اتفقنا؟

هزت رأسها بإيجاب، ثم نظرت له بإمتنان يفيض من عينيها، وهمست بصوت رقيق مرتعش: يعني أنت روحت تتعالج علشاني آني؟

ابتسم، وملامحه امتلأت بصدق نادر: طبعا علشانك.

ضحكت بخجل وهي تحاول مسح دمعة تسللت من عينها: أنت طيب أوي، وآني مسمحاك على كل حاجة.

ارتسمت على شفتيه نصف إبتسامة حزينة: لسه القصة فيها شوية أحداث تانية.

قالت وهي تضحك وتضربه بخفة على كتفه: أصلا القصة كلها أكشن، خصوصا لما اتخطفت، بس برافو إنك انقذتني زي الفيلم! أنت شطور يا كراميل.

سليم بضحكة حزينة: وإللي جاي كمان فيلم جامد، بس كئيب، لكن زي ما اتفقنا لما نرجع هحكيلك.

نهضت وهي تفرد شعرها بإيدها وقالت بإبتسامة مجهدة: آني نفسي أعرف باقي الحكاية، بس خلاص، دماغي وجعتنى، هروح أحضر الغدا عشان نروح للدكتور.

هز راسه بإيجاب بإبتسامة، وتابعها بعينيه وهي تبتعد بخطوات هادئة، كان شعرها يتحرك مع النسيم بخفة دافئة جعلته يبتسم دون وعي، أغمض عينيه للحظة، واستند للخلف متنهدا، ثم همس لنفسه بإبتسامة حالمة وقال بوجع: ياااه يا ماسة، وصلنا لنقطة صعبة يمكن إللي جاي هو إللي أصعب وأصعب.
ثم مسح وجهه بتعب، نهض وبدأ يتحرك في الحديقة بخطوات بطيئة.

في الكافيه الواحدة مساء

جلست مي ورشدي مع منظم الحفلة، يناقشان تفاصيل يوم الخطوبة؛ ألوان الورود، الزينة، وطبيعة الأجواء التي يحلمان بها، وعندما انتهى اللقاء وغادر الرجل، بقيا وحدهما، يتبادلان الكلمات الصادقة والابتسامات.

نظر لها رشدي بإبتسامة جانبية وهو يميل إلى الأمام، قائلا بخفة: أهو كلها أيام وتتدبسي فيا رسمي.

ضحكت مي: ده؟! اشمعنا؟

رد بسرعة وهو يرفع حاجبيه مازحا: علشان خلاص هتبقي علاقتنا رسمية، وهتلبسي دبلتي في إيدك يعني ادبستي خلاص وروحتي في طريق ذهاب بلا عودة.

رفعت مي يدها في الهواء بإشارة اعتراض: لا على فكرة، دي خطوبة بس، وممكن أفسخها في أي وقت.

ضحك رشدي وهز رأسه في ثقة: متقدريش.

إنحنت للأمام تحدق فيه بدهشة مفتعلة: ودي ليه بقى إن شاء الله؟

رفع يديه متصنعا الدراما، كأنه يمثل مشهد على المسرح: هرمي بلايا عليكي، وأقولهم “ألحقوني يا ناس، اتغرغرت بيا! خدتني لحم وعايزة ترميني عضم

قهقهت مي وهي تهز رأسها بيأس: مفيش فايدة فيك.

ابتسم بخبث وأشار إلى نفسه: أيوه، مفيش فايدة، ولا مفر مني، خلاص هتدبسي.

أمالت رأسها، وقالت بنبرة واثقة: لا طبعا، فترة الخطوبة مجرد فترة تعارف بس بشكل رسمي، وأنت إللي هتحدد إذا كنا هنكمل ولا لأ، بتصرفاتك طول الفترة دي.

ضحك رشدي وهو يميل بكتفيه للخلف متظاهرا بالاستسلام: عاملة لي امتحان يعني؟

ابتسمت بمكر: حاجة زي كده.

أقترب منها أكثر، وخفض صوته بتوسل:طب متغششيني حاجة تنجحني! إللهي تنستري، وأنا أوعدك أشتغل على نفسي واذاكر.

ضحكت بخفه وهي تردد: يخرب عقلك، مفيش مرة تكمل فيها كلام جد أبدا.

أخذ نفسا عميقا، ثم نظر إليها بجدية لم تعهدها في عينيه وقال بهدوء: طب يا ستي نتكلم جد، إيه إللي ممكن يخليني أغلط لدرجة إنك تفسخي الخطوبة؟

نظرت في عينيه مباشرة، وقالت بنبرة هادئة لكنها محملة بثقل الكلام: أكتر حاجة بتوجعني يا رشدي هي الخيانة، وإنك تخبي حاجة عليا، أو تكذب عليا، أو متكونش قد الثقة ولا قد كلامك ووعودك، كل دي أسباب تكسر القلب.

حك مؤخرة رأسه بخجل، وقال بنبرة خافته محاولا التبرير لنفسه قبلها: بس مش ديما الإنسان بيخبي علشان يخدع الشخص إللى قدامه، ممكن يكون بيخبي بعض الحاجات علشان خايف يخسره.

مي بمزاح خفيف وهي تضيق عينيها: هو أنت مخبي عليا حاجة يا رشدى ولا إيه؟ أعترف.

ضحك ضحكة قصيرة وهز رأسه: لا خالص، بس بندردش يعني، بتعرف عليكي أكتر.

ثم مال بجسده للأمام، وأضاف بصوت صار أكثر دفئا: صدقيني أنا بحبك، ومقدرش أخبي حاجة عنك، بس بقولك لو، يعني أحيانا الواحد بيضطر يغلط أو يكذب مش لأنه أختار يخدع اللي قدامه، بس لإنه خايف يخسر إللي بيحبه.

اعتدلت مي في جلستها، أرجعت ظهرها للمقعد وأشارت بيدها في الهواء: أنا مش معاك في دي يا رشدي، أحيانا الحقيقة هي إللي بتنجي، لإنك من غيرها هتعيش خايف وقلقان علطول، لكن لما بتقول كل حاجة خلاص، وصدقني حتى لو الشخص مسامحش أو معداش الموقف، المهم إنك تكون عملت الصح.

نظرت له نظرة عميقة، ثم تابعت بلهجة مزاح وهي تفتش في وجهه عن الإجابه: أعترف بقي مخبي عليا ايه؟

ضحك بخفه، وهو يحرك كوب العصير بتوتر: لا يا بنتي، هخبي عليكي إيه يعني؟ المهم كملي إيه تاني ممكن يزعلك؟

خفضت عينيها لثواني، ثم رفعتهم له بثبات: إنك متحبنيش وتقدرني كفاية، إنك تكون قاسي ومش حنين عليا، أو متبقاش شخص أمين عليا ومش قد الثقه اللي وثقتها فيك، دي كلها حاجات ممكن توجعني، أنا نفسي تطلع زي ما أنا اتمنيتك و تخيلتك، لإن بصراحة عمرك ما كنت الراجل إللي أنا كنت بحلم بيه، بس فيه حاجة جوايا شدتني ليك وحسستني إنك تستاهل، فأتمنى تطلع كده، وتتغير فعلا، لإنه لو متغيرتش، مش هقدر أكمل معاك.

ظل رشدي صامتا للحظة، عينيه تلمعان بالإرتباك، ثم قال بصوت مبحوح: مي أنا مبحبش الأسلوب دى، مش كل شويه هتحسسيني إني مش فارق معاكي وسهل تخرجيني من حياتك، أنا من الأول كنت صريح معاكى وقولتك هتصبري معايا حبه، متحسسنيش إنك واقفالي على الواحده، لإن مش طبيعي أكون بحاول علشانك، وأنتِ لسه لحد دلوقتي شاكه ومش واثقه فيا.

ابتسمت ابتسامة هادئة تطمئنه، وصوتها صار أكثر رقة: أنا لو مش واثقه فيك عمرى ما كنت هعارض مبادئ واتخطبلك، أنا بس برد على كلامك، ومش معني كلامي إنك مش فارق معايا، بس بعرفك إنك عمرك ما هتلاقيني مش موجودة، إلا لو عملت حاجة من إللي أنا قولتلك عليهم دول.

رفع يده بقسم، وصوته خرج ثابتا: وأنا أوعدك عمري ما هعمل كده.

تبسّم لها محاولًا كسر الصمت وتغيير الحديث، وقال بلطف: هتجيبي فستانك إمتى بقى؟ احكيلي.

ضحكت بخجل خفيف، وأخذ الاثنان يتبادلان الحديث، تتسلل الضحكة بين جملهم كأنها موسيقى هادئة تملأ المكان دفئًا

العيادة النفسية، السادسة مساء

جلست ماسة إلى جوار سليم على المقاعد المقابلة لمكتب الطبيب، كانت الغرفة هادئة إلا من صوت ساعة الحائط، والأنفاس المتقطعة لماسـة التي بدت متوترة.

ابتسم الطبيب، بنبرة حانية وهو يوجه كلامه إليها: عاملة إيه النهاردة يا ماسة؟

خفضت رأسها، وقالت بصوت خافت: الحمد لله.

مال الطبيب بجسده للأمام متسائلا: لسة الصداع بييجيلك؟

هزت رأسها بالنفي وهي تبتسم بخجل: لا خلاص، الحمد لله بقيت كويسة.

سألها الطبيب بهدوء: طيب قوليلي أول مادخلتي الفيلا، إيه إللي حصل؟

رفرفت عيناها في توتر وهي تحاول التذكر، ثم تمتمت: شوفت صور ناس، بس كأنها خيالات سودا، أصوات جاية من بعيد، مش عارفة أفسرها، خوفت وحسيت كأن حد بيصفر جوا وداني.

رفع الطبيب حاجبيه متسائلا: شوفتي ده كام مرة؟

حركت أصابعها في حجرها وقالت: تقريبا أربع أو خمس مرات، آخر نوبة النهاردة الصبح، سليم كان بيحكيلي شوية عن جوازنا، وآني بتفرج على ألبوم الصور، شوفتهم، حتى إمبارح وآني بشوف الصورة شوفتهم برضو

الطبيب وهو يدون ملاحظة: يعني بتحصلك أكتر لما بتشوفي صور

هزت ماسة رأسها بايجاب: آه

رفع الطبيب عينه نحوها: ده طبيعي…
أضاف متسائلاً بنبرة حذرة: الظل ده، فيه شبه من سليم؟ أو الصوت قريب من صوته؟

رفعت عينيها نحوه قبل أن تنظر سريعا إلى سليم، وأجابت بخفوت: لا خالص مش شبه سليم.

عدل الطبيب جلسته وهو يضم يديه: تحبي نكمل الجلسة وسليم موجود! ولا تحبي يخرج؟

رفعت كتفيها بلا مبالاة: عادي.

أكد الطبيب: لو مش هتكوني مرتاحة، ممكن أخليه يخرج مفيش خجل.

ابتسمت ابتسامة رقيقة: عادي خليه موجود.

مال الطبيب برأسه قليلا، ونبرة صوته دافئة: طيب، ايه رأيك في سليم بعد ما اتعاملتي معاه؟

خفق قلبها بسرعة، وأطرقت برأسها للأرض وهي تعبث بطرف ثوبها: طيب وحنين أوي.

ابتسم الطبيب وهو يراقب أحمرار وجهها: ولسة بتتكسفي منه؟

ترددت لحظة ثم تمتمت: اممم، بس مش زي الأول، أمي قالتلي إنه چوزي، يعني، عادي أخليه يحط أيده عليا أو ينام چنبي مش عيب.

ارتسمت على ملامحها نظرة حزن وهي ترفع بصرها نحوه فجأة: بس يا داكتور، آني هفضل كده علطول؟! آني نفسي أفتكر، إمبارح لما سليم حكالي قصتنا افتكرت إني هفتكر كل حاجة؟!! لكن لقتني كأني بسمع الحكاية لأول مرة زي فيلم أول مرة أتفرج عليه، ولحد دلوقتي مش عارفة أفتكر.

تنهد وهو يشرح بهدوء: لا طبعا هتفتكرى، لأنه فقدان الذاكره دى محصلش بسبب تأثير الوقعه على المخ، بالعكس الأشعه بتاعتك كانت كويسه جدا، بس أنتِ اتعرضتي لضغوط نفسيه كبيره آخر فتره، فمخك مبقاش قادر يستحملها فقرر يستخدم آليه دفاع ذاتيه ويرجع نفسه لفتره كنتي مرتاحه فيها، ومشاكلك فيها كانت هينه، فأحنا اللى هنعمله دلوقتي، إننا نديكى دوا يعدلك مودك شويه، وكمان ينشط الذاكره ونساعدك تستعيدى ذاكرتك بشكل صحي، وبعد ماترجعلك الذاكره نبدأ بقي رحلة علاجك النفسي الحقيقيه، مع ماسة الأصليه اللى عندها المشكله وقررت تنسحب بشكل مؤقت من المشهد.

قاطعت حديثه بدهشة وهي تعقد حاجبيها: وآني إيه إللي كان مخليني تعبانة نفسيا؟ يعني إيه أصلا تعبانة نفسيا دي؟ ومين ماسة اللى مشيت دي؟! ما آني قاعده قدامك أهو؟؟

لم يستطع سليم كتم ضحكته، فرد عليها ضاحكا وهو يحاول تمالك أنفاسه: يا عشقي يقصد إنك كنتي زعلانة شويه، وماسة التانيه دى يقصد لما كبرتي.

سألته بفضول: وآني كنت زعلانة ليه؟

أجابها الطبيب بهدوء: علشان كان فيه مشكلة بينك وبين سليم.

تطلعت إلى سليم لحظة قبل أن تعود للطبيب وقالت ببراءة: آاه هو قاللي، عشان مقاليش إنه عمل العملية، وعملها من غير ميقولي.

أومأ الطبيب مؤكدا: بالظبط وفيه شوية حاجات تانية.

تساءلت بفضول: وإيه هي الحاجات التانيه دي، ده سليم طيب خالص وأكيد مزعلنيش أوى كده.

رد بإبتسامة مطمئنة: هتعرفي كل حاجه بس بلاش استعجال سليم هيبقي يحكيلك، وإن شاء الله مع الأدوية، ومع إن سليم يفضل يحكيلك، هتبدأ الذاكرة ترجعلك واحدة واحدة، الأهم دلوقتي، إنتِ مش حاسة بضيق من وجوده جنبك، ولا من كلامه معاكي؟

أجابت بسرعة وهي ترفع كتفيها لأعلي: تؤ مش متضايقة كلامه حلو، وهو طيب وحنين خالص.

ابتسم براحة: طب كويس جدا، دي مرحلة كنت قلقان منها.

مال سليم بجسده إلى الأمام وقال بنبرة متوسلة: ياريت تقنعها إنها لازم تعرف كل حاجة في وقتها، أنا عايز أحكيلها كل حاجة بالترتيب وهي بتسأل كتير جدا وبتضايق لما بقولها أصبري.

هز الطبيب رأسه نافيا وكأنه يتحدث لطفلة: لا كدة ماينفعش، بالراحة يا ماسة، سليم ماينفعش يحكيلك العشر سنين جواز في يوم واحد، إمبارح والنهاردة حكالك شوية، بكرة ممكن يحكي شوية تاني.

وأضاف وهو ينظر لسليم: ولو عندكم فيديوهات، وريهالها، وأحكيلها إن الصورة دي كانت في المكان الفلاني أو البلد الفلانية، وافتكروا الموقف سوا، كدة هتربط الذكريات أسرع، وأنتِ ماسة أسمعي الكلام عشان تفتكري، ومتتعبيش.

انفرجت شفتي ماسة بإبتسامة ممتنة: حاضر يا داكتور

سليم بتوضيح: أنا فعلا عملت كدة وأنا بحكيلها كنت بفرجها على صورة مرتبطة بالموقف.

تحرك الطبيب قليلا في كرسيه، مبتسما ابتسامة مطمئنة: طب بقولك إيه يا ماسة، ممكن تخرجي شوية وتسيبيني أتكلم مع سليم لوحدنا؟

رفعت حاجبيها بدهشة، وصوتها يحمل شيئا من الريبة: مش عايزني أسمع ليه؟ هو آني عندى حاجه خطيرة زى البطله بتاع الفيلم وأنت مش عايز تسمعهالي، قولي بصراحه آني عندى ايه؟

ابتسم الطبيب وهو يهز رأسه نافيا: لا خالص، مفيش حاجة أنتِ زى الفل، بس سليم بيتعالج عندي من زمان، وأنا عايز أسأله شوية حاجات عن الدوا والعلاج بتاعه.

قاطعاه بإصرار وهي تشبك أصابعها في حجرها: طب ماتقول له وآنى موجودة، ما آني مراته ومن حقي أعرف واطمن عليه.

نظر سليم إليها نظرة هادئة، ثم مال قليلا وهو يقول بصوت منخفض كأنه يحدث طفلته: ماسة إحنا إتفقنا نسمع الكلام ونقول حاضر، ومنبقاش أشقية..
ثم حاول أن يبتسم ليلطف الموقف، وأضاف بحنان: وبعدين عيب، أنتِ كبيرة على اللى بتعمليه دى.

أطرقت ماسة رأسها إلى الأرض في صمت، وأخذت تعبث بأطراف فستانها بخجل، ثم همست: حاضر، هستناك بره.

نهضت ببطء، وهي تتجه نحو الباب بخطوات هادئه، في الخارج كان مكي في انتظارها، وقف بجانبها فور أن رآها، وسألها وهو يرفع حاجبه: فيه حاجة؟

هزت رأسها نافية بضيق: الدكتور قالي أستنى برا لحد مايتكلم مع سليم.

هز مكي راسه بتفهم، ثم اتجهت الي الباب ووضعت اذنها عليه وهي تسترق السمع، فتعجب مكي ورفع أحد حاجبيه وتساءل باستنكار: بتعملي إيه يا ماسة؟ هي حصلت إنك تلمعي أوكر!!

نظرت إليه ببراءه وهى تحاول التبرير: لا والله بس آني قلبي حاسس إني عندى حاجه خطيره والداكتور مرضيش يقولها قدامي، آني لسه شيفاها في الفيلم إمبارح.

ثم زفرت بتذمر وهى تدبدب باحد قدميها على الأرض: أصلا صوتهم واطى أوى ومش سامعه منهم أيتوها حاجه.

ضحك وأشار بيده إلى المقعد المجاور: طب تعالي أقعدي.

في الداخل.

أخرج الطبيب نفسا عميقا وهو ينظر إلى سليم: أنا كان ممكن أسيبها قاعدة، بس أنا حابب أتكلم معاك لوحدنا علشان نتكلم براحتنا، طريقه تعاملك معاها ممتازة، خلي بالك، ماسة دلوقتي زي الطفلة، فخليك صبور معاها، وعاملها زى بنتك.

ابتسم سليم ابتسامة خفيفة وهو يشبك يديه: أنا بعرف إزاي أتعامل مع ماسة في المرحلة دي، وبعدين هي مكانتش طفلة أوي، يعني في العمر ده كانت بتحب تسأل كتير، بتعند أوقات، بس ببراءة، ماسة في الفترة دي كانت جميلة جدا.

أشار الطبيب بيده وهو يدون بعض الملاحظات: محتاج أفهم منك، إزاي تعاملتوا مع بعض من أول مادخلت الفيلا لحد النهاردة؟ وكمان إمبارح، أنا مجبتكش عشان أسيبلكم مساحة تعيشوا سوا.

هز سليم رأسه: هقولك.

وبدأ يسرد له ما حدث، ظل الطبيب ينصت بإهتمام، وعيناه تتحركان بين سليم وأوراقه، بعد أن أنتهى سليم من سرده، ابتسم الطبيب براحة قال بإنبهار: جميل جدا، أنكم تخطيتوا بسرعة مرحلة مهمة، مكنتش متوقع إن هي تسيبك تقرب منها بالسرعة دي؟! خطوة إنها تسيبك تزغزغها، وتنام معاها في نفس الأوضة، دي خطوة كبيرة برغم إنها أول ليلة رفضت إنك تنام جنبها، لكن تاني يوم تقبلت لمستك، وعرضت عليك تفضل في الأوضة حتى لو بينكم مخدة، دي كلها إشارات ممتازة، ممكن تخلي النهاردة مامتها تروح، بس خلي مامتها هي إللي تقول إنها عايزة تمشي لأي سبب، وطبعا أنت هتروح تنام جنبها زي إمبارح شوف هتحط مخدة ولا لا لو محطيتهاش يبقى تقدم هايل ولو حطيتها أعرض عليها تشيلها وشوف هتعمل إيه؟! بس دايما سيب لها حرية الأختيار .

أومأ سليم موافقا: تمام.

ابتسم الطبيب مشجعا: كمان شاركها في الهزار، والحاجات إللي بتحبها، خرجها في الأماكن إللي بتحبها، وياريت لو قدرت توفر نفس اللبس اللى رحتوا بيه قبل كده الأماكن دى، هتبقى حاجة كويسة جدا.

سليم بجدية: إن شاء الله هعمل كدة، بس هي بتسأل كل شويه ليه زعلنا؟! وليه مقولتلهاش على العملية؟! ومش عارف أعمل إيه؟!

رمقه الطبيب بنظرة فاحصة: واضح إن هي فضولية جدا.

ضحك سليم بخفة وهو يمرر يده في شعره: أيوة، فضولية وعنيدة، بتسأل كتير جدا؟! وأسئلتها بتكون مفاجأة وغير متوقعة، مش ببقي عارف هتقول إيه، إمتى ؟!

أشار الطبيب بقلمه: يبقى لازم تكون محضر نفسك.

تنهد سليم بتوتر: أنا بس خايف أوجعها أو أذيها، وفي نفس الوقت خايف متفتكرش خالص، وأكون كدة ضحكت عليها لإني مقولتلهاش أهم جزء في حياتنا الجزء إللي بسببه إنهارنا.

صمت لحظة ثم قال وهو يحرك أصابعه بعصبية اضاف: دكتور، إمبارح سألتني فجأة عن إزاي وقعت وليه زعلتها، وأنا معرفتش أرد، قولتلها نستنى أحكيلها بالترتيب، وصلت معاها لجزء قبل ماتحمل في حور، وقولتلها كفاية لحد مانرجع، أنا مش عايز أرجع أستخدم أسلوب نص الحقيقة، مش عايز أخبي عنها، ناوي أقولها كل حاجة، حتى إني منعتها من الخروج فترة، بس المشكلة في حاجة واحدة، لما هربت آخر مرة آخر سنة ونص في حياتنا، أنا مش قادر اتكلم فيها…
ثم عد بأصابعه وأضاف بأرتباك وحيرة: بس أنا محتار، أقول ولا مقولش؟ أخبي عليها الجزء ده كأنه محصلش، والقصة تخلص كده؟ ولا أتكلم بعدين؟ ولا متكلمش خالص؟

نظر الطبيب إليه بهدوء وقال: قولي أنت ناوي تعمل إيه؟! متسألنيش أنا، أنا عايز أعرف قرارك، وهقولك هل هو صح ولا غلط.

تنهد سليم بإختناق وهو يهز راسه: مش عارف، أنا تايه، علشان كده بقولك، قولي أعمل إيه؟!

ابتسم الطبيب ابتسامة صغيرة وقال بنبرة ثابتة: سليم، أنا هنا مش علشان أقولك تعمل إيه؟! أنا هنا علشان أوجهك للطريق الصح وأديك اختيارات؟! أنت شايف إنك لو قولتلها الحقيقة هترتاح؟ ولا لو سكت واستنيت شوية؟ ولا لو مقولتش خالص؟ قولي أنت حابب أنهي إختيار وليه؟!

ظل سليم ينظر إلى الأرض وقال بصوت مبحوح: حاسس لو سكت شوية وقولتلها مثلا إن الموضوع ده نفسي أنساه وبلاش نتكلم فيه دلوقتي، وإني زعلتها بس هنتكلم بعدين، حاسس ده إللي هيبقى أفضل والصح، لإني لو اخترت الأختيار الاول أو التالت إللي حضرتك قولتهم، هبقى بستخدم نفس الأساليب القديمة، ولو افتكرت هتعرف إني ضحكت عليها وهتزعل مني.

تطلع إليه الطبيب بنظرة فاحصة متسائلا: يعني أنت عايز تقولها عشان متظهرش كده في عينيها؟ ولا عشان ده الصح؟ ولا علشان ترتاح أنت؟

رد سليم فورا وهو يزفر: عشان هو ده الصح، هي من حقها تعرف كل حاجة، مش من حقي أحرمها من أهم لحظات حياتها حتى لو كانت مؤلمة، هي بقى تسامح أو متسامحش، دي بتاعتها هي، بس أنا حاسس إني مش جاهز أقولها دلوقتي، محتاج أستنى شوية وأحكيلها بالترتيب لحد مانوصل للنقطة دي.

ابتسم الطبيب بهدوء: بالضبط، هو ده إللي بحاول أقنعك بيه يا سليم، أمشي الأحداث بالترتيب، إحنا لسة في البداية، وهي مبقالهاش ٣ أيام، ولما نوصل للنقطة دي، هانحدد نقولها إيه؟! وإزاي ؟! وأنا مبسوط منك إنك مش عايز تخبي حتى التفاصيل المؤلمة، أنت كدة ماشي في الطريق الصحيح.

نظر له سليم بنصف ابتسامة حزينة: بس أنا قلقان مش مرتاح برغم إني بعيش معاها أجمل لحظات مفتقدها من سنين.

ابتسم الطبيب وهو يتكئ إلى الوراء، ويقول بنبرة هادئة ليطمئنه: صدقنى البنت إللي شوفتها من يومين وكانت تايهة وبتعيط ويائسة، غير البنت إللي شوفتها النهاردة، كلها حيوية، ومقبلة على الحياة، دى بيأكد تقدم ملحوظ وإن دي ماسة إللي أنت عارفها.

مسح سليم وجهه بكفه وقال بصوت مرتبك: أنا فاهم ولامس التغيير ده فعلا، كل الحكاية إني مش عارف أحكي لها إزاي؟! بس هحكي وخلاص.

صمت لحظة ثم نظر للطبيب بقلق وأضاف: بس يا دكتور، دي مفتكرتش حاجة خالص، كنت متوقع لما أوريها صور أو أحكيلها تفاصيل، تقول مثلا أنا حاسة إني شوفت ده قبل كده، أو سمعت الكلام ده قبل كده لكن مفيش خالص.

صمت الطبيب للحظة وكأنه يفكر في شيء وهو يمرر يديه أسفل ذقنه ثم قال: طبيعي متفتكرش، دى لسه أول ٣ أيام، بس هو فيه حاجه ممكن تساعدها تفتكر، العلاقة بينكم، ممكن يحصل بينكم علاقة زوجية، بس خليك فاهم، إنك هتتعامل معاها زي أول ليلة زفاف، كأنها عذراء.

عقد سليم حاجبيه للحظة بصمت وكأنه لم يخطر بباله ذلك، أطرق رأسه بقلق: بس هي ممكن مترضاش بنسبة كبيرة.

أجابه الطبيب بهدوء: لو مرضيتش خلاص، لكن ده ممكن يخليها تفتكر، القرب الجسدي، بالشكل القوى ده، أحيانا بيرجع الذاكرة.

هز سليم رأسه بإيجاب: تمام شكرا يا دكتور، طب إمتى الجلسة الجاية؟

ابتسم الطبيب وهو يلملم أوراقه: ليك أنت خليها الأسبوع الجاي، أما ماسة مش محتاج أشوفها، إلا لو حصل جديد.

توقف سليم لحظة وهو يمد يده مصافحا: شكرا.

خرج سليم من مكتب الطبيب، وعيناه تلمح ماسة جالسة في الانتظار، وما إن وقع بصرها عليه حتى وقفت بسرعة، خطواتها سبقت كلامها، والفضول ارتسم في ملامحها.

رفعت عينيها نحوه تسأله: الدكتور قالك إيه؟

ابتسم سليم وهو يحرك كتفيه بهدوء: كان بيوصيني عليكي.

ثم مال بجسده قليلا ليغير الجو وسألها بخفة: بقولك إيه تشربي حلبسة؟

ضحكت ماسة بعفوية، بملامح طفولية: آه أشرب حلبسة، آني بحبها أوي.

أشار سليم برأسه وهو يتجه نحو السيارة: طب يلا.

تحركا معا حتى السيارة، صعدا، وانطلقت بهما حتى وصلا إلى النيل، كان الليل ساكنا إلا من نسمة باردة ورائحة الذرة المشوي، والأضواء تنعكس على صفحة الماء.

أوقف سليم السيارة، ترجل أولا، فتبعته بخطوات مترددة حتى وصلا إلى عربة حمص الشام ينبعث منها بخار دافئ، جلسا على مقاعد خشبية صغيرة، وكل واحد يحمل كوبه الساخن بين يديه.

نظرت ماسة حولها بإنبهار: المكان ده حلو أوي، أنت جبتني هنا قبل كده؟

ابتسم سليم ابتسامة فيها أمل: افتكرتي حاجة؟

هزت رأسها بسرعة وهي تحتضن الكوب: لأ بسألك عادي.

أومأ باحباط، ثم تنهد وقال: آه جبتك هنا كذا مرة.

صمتت قليلا، ثم قالت بفضول وحماس: مش هتكمل بقى بعد ما روحنا القصر، إيه إللي حصل؟

مال سليم للأمام، صوته صار أخف: الدكتور قال نستنى يا شقية وترتاحي النهاردة.

أومأت ماسة: ماشي، طب أني عايزة أسألك حاجات عنك.

حرك سليم كوبه بين أصابعه: اسألي إللي إنتِ عايزاه.

قالت بخجل وهي تنظر في الكوب: قبل مانتچوز، كنت متجوز أوخاطب؟

تنهد سليم بنعومة: ارتبطت قبلك ببنت اسمها لورجينا.

رفعت ماسة حاجبها بدهشة: كانت حلوة؟

ابتسم وهو يقترب منها قليلا: بس أنتِ أحلى.

عضت ماسة شفتها بخجل وغيرة: حبتني آني أكتر ولا هي؟

أجابها سليم بسرعة وهو يرمقها بثبات: أكيد حبيتك إنتِ أكتر، أومال اتجوزتك ليه؟ لو كنت حبيتها، كنت اتجوزتها.

ابتسمت ماسة ببراءة: أيوة صح.

ارتشفت من كوبها، بينما سليم قال وهو يراقبها: لو عايزة تاكلي أو تشربي حاجة، قوليلي.

هزت رأسها نافيه: لأ مش عايزة حاجة، بس بقولك يا سليم، هو آنى كملت علامي لحد فين يعني اخر حاجة حكتها كنت لسه داخله الاعداديه؟

ابتسم بخفة:ووصلتي لحد الجامعة بس ما كملتش لسه حصل ظروف هتعرفي لما نكمل بس هتفهمي.

اتسعت عيناها بدهشة طفولية: بجد والله؟ أصل آنى طل عمري نفسي أتعلم أوي.

رفع سليم أصابعه يعد: وبقيتي كمان بتعرفي لغات كتير إنجليزي، وتركي، وفرنش مش مجرد كلمات بس لا بتعرفي تتكلميها زينا.

نظرت له بإستغراب: واللغات دي بتتنسي كمان؟ والقراءة والكتابة برضه؟

أطرق رأسه بأسف: آه يا ماسة كل حاجة هتتنسى، أي حاجة اتعلمتيها بعد ماتجوزنا أو بعد ماعرفتينى، راحت.

ظلت صامتة لوهلة، ثم قالت وهي تلمس طرف الكوب: أمم شكرا يا سليم، شكرا إنك علمتني وعملت كل الحاجات الحلوة دي عشاني.

ثم أضافت بطيبة وبساطة: بص اني خلاص معدتش زعلانة منك وسامحتك على الحاجات اللى الداكتور قال إنك زعلتنى وتعبت بسببها، وكمان مسمحاك علي العملية إللي عملتها من غيري، أكيد عملتها بعيد عني عشان فيه حاجة كبيرة حصلت وأنت وعدتني هتحكيلي لما نوصلها، صح؟

رفع سليم الكوب وهو يبتسم: إن شاء الله يا ماسة، يلا بقى أشربي الحمص قبل ما يبرد.

وتبادلا الأحاديث بهدوء، ثم عادا إلى المنزل.

المقبرة السادسة مساء

نزل عثمان من التاكسي بعد أن دفع الأجرة، تحرك وتوقف أمام أحد المقابر وعيناه فيهما شيء من الدموع الباهتة، بدأ يقرا القران ثم جلس على الأرض، وأمال جسده إلى الأمام كمن يهمس لسر دفين.

عثمان بصوت منخفض، حاد لكنه مكسور: أنتِ وحشتيني أوي، أنا لسة محافظ على وعدي ليكي،

صمت قليلا، وكأنه ينسق الكلمات ثم أكمل هو ينظر للحد: متفكريش إني كل السنين دى ساكت، أنا مش ساكت، وهجيبلك حقك بالطريقة إللي تريحك في نومتك.

عض على شفته بقوة قال بضجر: كنت فاكر من سنين إني هقدر أعمل ده، لكن للأسف معرفتش، حاولت كتير وكنت بفشل.

رفرفر بعينه، ثم رفع رأسه بنبرة فيها يقين: بس الأكيد إني مش هبطل أحاول لحد مانجح، وانتقملك منهم كلهم.

ظل عثمان جالسا لدقائق، ثم وضع قبلة على أنامله ثم لمس اللحد في صمت ثقيل، نهض ببطء وتحرك مبتعدا، ولا نعلم من الراقد في المقبرة، ولا من يخاطبه، فقط أن في صدره شيئا يطالب بالانتقام

فيلا سليم وماسة السادسة مساء

ترجلت ماسة من السيارة بعد أن فتح لها السائق الباب بإحترام، ثم هبط سليم بعدها، دخلوا الفيلا، فاستقبلتهم سعدية بإبتسامة واسعة وهي تفتح ذراعيها وتتساءل بلهفة: عملتوا إيه؟ طمنوني.

ابتسم سليم محاولا طمأنتها: كله تمام، هنستمر زي ما إحنا.

اقتربت سعدية من ماسة، وربتت على كتفها بحنان: خير يا حبيبتي، إن شاء الله هتفتكري وهتبقي زي الفل، بس أسمعي كلام الدكتور وبطلي شقاوة.

أومأت ماسة بطاعه: حاضر.

وقف سليم حائر وهو بيفكر كيف يطلب من سعدية أن تغادر وماسة تقف معهم، لكن في نفس اللحظة قالت ماسة: أنا هطلع فوق عشان أغير هدومي مش هتيجي يا سليم..

أقترب منها بخطوات هادئة، وصوته خرج وديعا: أنا هقف في الجنينة، محتاج أفكر في شوية حاجات.

نظرت له ماسة بإستغراب، وارتسمت على وجهها ابتسامة بريئة: حاجات إيه متقولي ونفكر سوا؟

ابتسم سليم بخفة، ومد يده يعيد خصلات شعرها خلف أذنها بدلال ناعم: أكيد هقولك، بس يعني شوية كده، ماشي؟

هزت رأسها بإيجاب، فأقترب منها أكثر، وطبع قبلة عميقة على عينيها، أرتبك وجهها بخجل واضح، وأحمرت وجنتاها، واهتز جسدها قليلا، ثم صعدت إلى غرفتها، تابعها بعينيه حتى أستمع لصوت الباب يغلق، فأقترب من سعدية وقال بهدوء: بصي، الدكتور قال إن الأفضل النهاردة إني أبقى أنا وهي لوحدنا، لو احتاجتك هكلمك تيجي تاني، يومين كده وممكن أنتِ وإخواتها ومجاهد تيجوا.

أومأت له سعدية بتفهم: ماشي عيني.

سليم بهدوء: بس قوليلها أي حاجة علشان تقتنع.

أجابته بحزم: ماشي متشغلش بالك، أنا هعرف أتعامل معاها.

سليم بتحذير: بس بالراحة عليها.

ابتسمت سعدية لتطمئنه: متخافش.

صعدت سعدية عند ماسة، بينما خرج سليم إلى الحديقة.

غرفة ماسة

دخلت سعدية الغرفة، واقتربت من ماسة التى كانت انتهت من تبديل ملابسها.

ابتسمت لها وقالت: بقولك إيه يا ماسة، أنا هروح أشوف أبوكي.

رفعت ماسة حاجبيها بإستغراب: مش أنتِ قولتي هتقعدي معايا يومين؟

ربتت سعدية على يدها: ما خلاص يا حبيبتي، أنتِ كويسة أهو ما شاء الله، وبعدين أبوكي مينفعش أسيبه لوحده، إخواتك كلهم بيشتغلوا وأختك من المكتب للورشة علطول، فمش هينفع أسيبه لوحده، وبعدين ما سليم معاكي.

أخفضت ماسة رأسها، وقالت بتردد: ماشي

سعدية: أنا هغير هدومي وأمشي، عايزه حاجه اعملهالك قبل ما امشي؟

هزت ماسه رأسها بنفي، فقالت سعديه:هاتي بوسة بقي.

قبلتها ماسة وتحركت سعدية للخارج، نظرت لها ماسة في صمت، شدت جاكيت البيجامة بتوتر وهي لا تعرف ماذا تفعل، همست لنفسها: هياكلني يعني؟ ده طيب خالص، وبعدين دى جوزي ولازم أقعد معاه لوحدي. يا رب أفتكره بقى.

على إتجاه آخر.

كان سليم يتحرك في الحديقة، بأنفاس ثقيلة، وصوته الداخلي لا يهدأ، توقف عند التلة يفكر كيف يكمل لها القصة؟ هو يعلم أن الحديث عن الحادثة لن يكون سهلا، فما حدث كان أكبر من احتمالهما، والأصعب منه كان فترة الزعل الطويلة التي حبسها فيها خوفا عليها، لكنه قرر أن يواجه، فتمتم بصوت خافت لا يسمعه أحد: “اللهم لا تجعلني سببا في أذاها، وإن كانت الذكرى وجعا، فأحفظها مني.”

وأكثر ما زاد اضطرابه حديث الطبيب حين طلب منه أن يقرب المسافة بينه وبينها، وأن تنشأ بينهما علاقة زوجية، لعل القرب الجسدي يكون سبيلا لاستعادة ذكرياتها المفقودة، أطرق سليم برأسه، يحك عنقه بقلق؛ فهو لا يريد الاقتراب منها إلا إن رغبت هي بذلك، فدافعه ليس الشهوة بل الحب، لكنه يشتاق إليها، يشتاقها بكل ما تحمله الكلمه من وجع وحنين، يشتاقها شوق العطشان إلى الماء، والفاقد إلى روحه، فهو لم يلمسها منذ عامين تقريبا.

منذ تلك الليلة التي تصالحا فيها بعد شجار طويل، وتعاهدا أن يبقيا بخير دائما، لكن القدر لم يمهلهما، ففي اليوم التالي رأته بعينيها يطلق النار على الرجل الذي نصب له الفخ عن طريق العائلة، وعاد سليم تلك الليلة منكسرا، جلس عند قدميها ثم نام في حضنها كطفل يبحث عن أمانه الأخير، ظنا أن الغد سيحمل سلاما، لكنه حمل العاصفة؛ إذ علمت ماسة بما قاله رشدي والتهديدات التي غيرت مجرى حياتهما إلى الأبد، ومنذ ذلك الحين لم يلمسها.

واصل السير في الحديقة بخطوات متثاقلة، عيناه شاردتان نحو الأرض كأنه يخشى مواجهة ظلال أفكاره التي تطارده بلا رحمة.

أيفعل ذلك أم يمتنع؟ الشوق ينهشه من الداخل، لكن ضميره كان أشد قسوة من حرمانه، هو بالطبع يريدها، فهي حبيبته التي افتقدها بشدة، لكنه يريدها بالحب لا بالجسد؛ يعلم أن اقترابها الآن سيكون بدافع استعادة الماضي لا بدافع الشوق، وهنا كان صراعه الحقيقي؛ فهو لا يريدها خوفا أو لغرض طبي، بل أن تتذكره بقلب يعرفه، أن تشتاقه كما يشتاقها، أن تأتيه بقلبها قبل جسدها، يريد أن تأتيه طوعا، شوقا، كما كانت تفعل من قبل.

أخذت الأفكار تنهش في عقله كالصقور التي تنهش جسد رجل حي؛ هل ينقاد لشهوته، مستسلما لرغبة جسده وقلبه، مستندا فقط إلى أنها لن تمانع؟ أم ينتظر، محتملا لواعة الشهوة وعذاب الحب ومرارة الاشتياق، حتى تمنحه موافقتها الصادقة، بحرية من قلبها، لا من واجب؟

رفع بصره نحو السماء صامتا، يفكر كم يشبهها الآن؛ هادئا على السطح، بينما الأعماق تموج بالتيارات، أغمض عينيه، وترك تنهيدة طويلة تنفلت من صدره ببطء، كأنه يتنهد الصبر من نسيمه، ثم أدار جسده بتثاقل وتحرك بخطوات بطيئة بين الأشجار، حتى توقف مره أخرى ينظر أمامه.

كان مكي يراقبه من بعيد، فأقترب منه بخطوات ثابتة، وضع يده على كتفه، وقال بصوت خافت يحمل دفء الأخوة: مالك يا سليم؟ شكلك تايه، شاركني يمكن أساعدك، ولا لسة مبتسمعش غير دماغك؟

ابتسم سليم بخفة وهو ينظر له: أنت عارف إن أنت الوحيد اللى بسمع كلامه، أوعى تنكر.

ضحك مكي وهو يربت على كتفه: مش هنكر، بس أنت عنيد، ومش علطول بتسمع الكلام، مالك؟

تنهد سليم وهو ينظر أمامه ويزم شفتيه بضيق: بفكر، الدكتور طلب مني حاجة،ممكن تخلي ماسة تفتكر، بس متردد، مش عارف أعملها ولا لأ، ومتسألنيش إيه هي.

صمت مكي قليلا يفكر، ثم قال بعقلانية: طب لو الحاجة دي ممكن تخليها تفتكر، ليه لأ؟ ليه متردد كده؟

سليم بهدوء: قولتلك متسألش، مش هينفع أتكلم فيها.

أومأ مكي بتفهم، ثم قال بهدوء: تمام، بس أنا واثق إنك هتاخد القرار الصح، قولي بقى، هي أخبارها إيه؟

ابتسم سليم إبتسامة واسعة وقلبه ينبض بالفرحة: ممتعة، مذهلة، رجعت تاني زي زمان، ماسة قطعة السكر.

نظر له بحماس يخرج من عينه: ساعات بقول يارب تفضل كده علطول، بس وهي فكراني..
صمت للحظة ثم قال بنبرة مهتزة خائفة: بس بخاف نرجع تاني للصفر لما تفتكر.

ابتسم مكي بخفة وقال بثقة: بص يا سليم، أنا قولتلك قبل كدة، وهقولهالك تاني، ربنا مبيعملش حاجه وحشه، ويمكن حصل كده علشان لما ذاكرتها ترجع، تكون شافت بنفسها قد إيه تغيرك كان حقيقة مش مجرد كلام.

أومأ بخفة، ثم قال وهو يحاول تغير الموضوع: طب قولي أنت بقى، ايه أخبارك مع سلوى؟ محاولتش تكلمها؟

تنهد مكي بملل، وهو ينظر بعيدا بشرود: أكلمها أعمل بيها إيه؟ هي إللي بعدت يا سليم، واختارت طريقها، أنا ليه أتمسك بحد مش متمسك بيا؟

كاد أن ينطق سليم، لكن أشار مكي بأصابعه لكي يسكته وتابع بحسم: أوعى تقارن بين ماسة وسلوى، فيه فرق كبير، ومن فضلك متفتحش معايا الموضوع ده تاني.

رفع سليم حاجبه بخفة وقال بإبتسامة جانبية: طيب بالراحة متقلبش وشك زي ماسة كده، كفايه عليا ماسة، على العموم براحتك، أنا هقوم أطلع علشان مسبهاش لوحدها كتير.

غادر سليم بخطوات هادئة، فيما وقف مكي صامتا يتأمل الأفق، شارد النظرات، لكن فكره لم يذهب إلى سلوى لحظة واحدة؛ يبدو أنها غابت عن قلبه تماما، كأنها لم تكن يوما جزءا منه.

غرفة ماسة.

طرق سليم الباب ودخل، كانت ماسة تجلس على فراش تشاهد فيلم.

تساءل سليم بإبتسامة واسعة، وهو يقترب منها: بتعملي إيه؟

رفعت كتفيها: بتفرج علي فيلم، أمي قالت إنها هتمشي.

ابتسم سليم مطمئنا، وجلس جانبها: أيوة، هبعت العربية توصلها، أنتِ متضايقة ولا خايفة؟

أجابت بسرعة وهي تخفض رأسها: لا، آني مش خايفة منك ومش متضايقة، بس مستحية شوية.

سليم بإبتسامة: لا، متستحيش، أنا جوزك يا قطعه السكر و..

قاطعه رنين هاتفه فجأة، فنظر إلى الشاشة باستغراب لثواني، ثم ضغط زر الرد: إيه يا رشدي؟ معلش كنت مشغول، فعلا !! ألف مبروك، خلاص إن شاء الله هاجي؟! لا مفيش ماسة كانت تعبانة شوية، بس الحمد لله دلوقتي أحسن كتير، ممكن أجيبها الخطوبه كمان، أوكيه سلام.

أنهى المكالمة، بينما كان رشدي واقفا في غرفته ممسكا بهاتفه، وقد ارتسمت على وجهه علامات الدهشة وهو يهز رأسه: أنا مش فاهم حاجه؟ ماسة مين اللى هيجيبها معاه!؟ هتفضل لحد إمتى تكذب علينا وتكذب على نفسك؟! والله شكلي هقولك مكانها من كتر ما أنت صعبان عليا، ثم ضحك بسخرية.

وبعد أن أغلق سليم الهاتف، سألته ماسة بفضول: هو أنت كنت بتكلم رشدي؟ إللي هو أخوك؟

أومأ برأسه: أيوة، كان بيعزمني على حفلة خطوبته يوم الخميس الجاي.

اتسعت عينيها بدهشة: رشدى أخوك هيتجوز؟ ده قليل الأدب أوي، هو لسة زي ما هو ولا بقى مؤدب؟

تنهد سليم وهو يضع الهاتف على الطاولة: بقاله فترة بيحاول يبقى كويس.

هزت كتفيها وقالت: ربنا يهديه، إخواتك كلهم متكبرين، مفيش غير ياسين بيه، هو إللي مكانش متكبر، وأنت كمان عسول.

ابتسم سليم وهو يقترب منها: سيبك منه، المهم ايه رأيك، أغير هدومي، وأخلي سحر تعملنا فشار ونقعد نتفرج على فيلم كرتون سوا؟

ابتسمت بخجل وهي تبعد عينيها: ماشي.
ثم أضافت بحماس: بس آني عايزة نشوف شكل إخواتك تاني، حاسة إني مش فاكرة شكلهم كويس.

أخرج سليم هاتفه من جيبه وبدأ يقلب في الصور، وأطلعها على صور العيلة، كانت عيناها تلمع وهي تركز النظر وتقرب الشاشة منها، قالت بابتسامة صغيرة: شكلهم اتغير خالص، آني عايزة صورة وآنى واقفة معاهم كده.

أخرج صورة تجمعهم مع ماسة، أخذت الصورة بيدها وركزت فيها طويلا، وفجأة شعرت بألم، ضغطت على رأسها بكلتا يديها، أغمضت عينيها بشدة، ومالت بجسدها إلى الأمام، كانت ترى نفس الصور المتقطعة، لكن تلك المرة كانت مختلفة كان هناك قضبان، قطار، سعدية ومجاهد مكبلين !!

نظر لها سليم بقلق وهو يمسك كتفها: ماسة مالك؟

فتحت عينيها والدموع تلمع فيها، وصوتها متقطع: مش عارفة، صور غريبة، المرة دي شوفت قطر بيجري، شوفت أبويا وأمي كأنهم في سجن، شوفت عفريت وسمعت صوت حد بيصرخ كأنه بيقول ألحقوني.

اقترب منها أكثر وصوته بيرتعش: شوفتيني معاهم؟

هزت رأسها بالنفي ودموعها تنهمر: لا يا سليم، أنت مكنتش معاهم.

ربت سليم على كتفها برفق وحنان: طب أهدي.

ثم التفت إلى دورق الماء، وسكب قليلا في الكوب، وقدمه لها بابتسامه مطمئنه: خدى أشربي، متقلقيش، كل حاجة هتبقى كويسة.

رفعت عينيها نحوه وهي تشرب رشفة صغيرة: طب إللي آنى بشوفه ده فيه حاجة حصلت منه؟

تنهد سليم وهو يجلس بجوارها: آه، بس مش بالشكل إللي أنتِ بتوصفيه، لما أحكيلك باقي القصه هتفهمي.

ثم ابتسم بخفة وهو يغير الموضوع: هروح بقي أخلي سحر تعمل لنا فشار وفاكهة، وأنتِ شغلي لنا فيلم على ما أجي.

أومأت برأسها موافقة، فشغلت أحد الأفلام، وجاءت سحر بالفشار، وجلسوا معا تملأ ضحكاتهم الغرفة، والسعادة ترتسم على وجوههم، وبعد قليل طلب سليم الطعام الذي تحبه ماسة، فأحضر لها برجر، وجلسا كأنهما في قاعة سينما، يتناولان الطعام ويمزحان، وسليم يمد اللقمة نحوها، فتضحك بخجل وهي تتناولها.

فيلا عائلة ماسة العاشرة مساء.

غرفة المعيشة

دخلت سعدية إلى غرفة المعيشة بخطوات متعبة كان مجاهد يجلس على الأريكة، وبجواره سلوى ويوسف، فرفعوا رؤوسهم نحوها بإستغراب واضح.

سلوى بتعجب: إيه يا ماما إللي جابك؟

مجاهد وهو يعتدل في جلسته: سبتي البت ليه؟

جلست سعدية على الكرسي المقابل، تتنفست بعمق، ثم خلعت حجابها وقالت بصوت متقطع من التعب: أصبروا عليا شوية آخد نفسي.
أخذت نفس وتابعت: الدكتور قال لسليم خليها تمشي، وأقعدوا مع بعض لوحدكم طالما بقيتوا كويسين.

تساءلت سلوى وهي ترفع حاجبها بدهشة: كويسين إزاي يعني؟

سعدية بفرحه حقيقه: يعني البت رجعت تاخد عليه، ومبقتش تخاف ولا تتكسف منه.

مجاهد وهو يميل بجسده تجاهها: طب الحمد لله، يعني أنتِ مش حاسة إنها افتكرت حاجة؟ فيه أي تحسن؟

تنهدت سعدية وقالت بنبرة فيها حزن: والله يا أبو عمار، البت زى ما هي، رجعت تاني كأنها عيله صغيره، وردة ياحبة عيني، مفتكرتش حاجة خالص، وسليم الصراحة بيعمل إللي عليه، بيقعد يفكرها ويحكيلها ويوريها صور، وهي تمسك دماغها كده وتقول “أنا شايفة شوية حاجات سودا مش فاهمها”، والدكتور بيقول عادي.

يوسف بقلق: طب والدكتور قالها إيه؟ يعني هتفضل كده؟

سعدية بتنهيده: هنعمل إيه يا ابني، مفيش قدامنا غير ندعي ربنا يفكرها ويرجع لها دماغها.

يوسف وهو ينظر إلى والده: طب إحنا عايزين نشوفها.

سعدية بهدوء: استنوا يومين كده، نسيبها مع جوزها شوية، وبعدين نروح نشوفها.

سلوى بإعتراض: وليه يعني منشوفهاش بكرة؟

مجاهد بنبرة حازمة: سلوى، الدكتور قال كدة، نسمع كلامه، يومين ونتصل بسليم نشوف هنروح ولا لأ…

صاح يوسف بغضب: إحنا كمان هنتصل نستأذن عشان نشوف أختنا العيانة؟!

سعدية بشدة: علشان يكون خد رأي الدكتور، وبعدين أنت هتروح هناك تتعامل معاه كده ؟؟؟ مش الدكتور قال نتعامل معاه كويس قدامها، لو مش هتعرف تمسك نفسك وهتضر أختك، يبقي بناقصه مرواحك.

وقفت سعدية تمسح على هدومها وقالت وهي تتجه نحو الغرفه: قوموا يلا حضروا الأكل، أنا جعانة، قومي يا بت بدل ما أنتِ قاعدة كده، وبعدين مروحتوش الشغل ليه؟

سلوى:وأنا هخلص شغلي هنا، كنت بعمل أكل لأبويا

يوسف: أنا عندي إجازة النهارده.

سعدية وهي تلوح بيدها وهي تتحرك: طب يلا قومي أغرفيلي أكل عقبال ما أغير هدومي.

وأثناء ذلك رفع مجاهد يديه وقال بصوت خافت متضرع: يا رب يشفيكي يا بنتي ويهديك يا سليم.

فيلا سليم وماسة الثانية عشر صباحا

مازل ماسة وسليم يشاهدون التلفاز ويتناولون السناكس، لكن بدأت ماسة تشعر بالنعاس، فتثاءبت وهي تقول بصوت متهدج: أنا هروح أنام بقى، مش قادرة، وأنت مش هتنام؟

ابتسم سليم بخفة: آه هنام، هاخد الدوا وأنام.

سألته بفضول ناعس: هو الدوا إللي بتاخده ده بتاع إيه؟ بتاع العملية؟

أومأ برأسه: آه، بتاع العملية.

تساءلت ببراءه: هتفضل تاخده وقت كبير؟

سليم موضحا: يعني لسه فاضل شهر كدة، وبعدها هسافر تاني أطمن.

تساءلت بإبتسامة: هتاخدني معاك؟

أبتسم وقرصها من خدها بدلع: أكيد، لازم آخدك معايا أي مكان بعد كدة.

ضحكت بخفة: طب تصبح على خير يا كراميل، وتعالى نام جنبي ها؟ أوعى تنام على الكنبة علشان ظهرك.

ابتسم بسعادة لاهتمامها به، واومأ برأسه: ماشي.

نهضت وتمددت على الفراش، بينما ذهب سليم ليحضر الدواء من غرفته، عاد بعد دقائق وتمدد بجانبها، وقد وضعت وسادة بينهما، فقال وهو يبتسم بتردد متأملا ملامح وجهها: إيه رأيك نشيل المخدة دي؟ لو مش حابة خلاص.

ترددت لحظة، فتابع بنبرة خفيفة: خلاص، لو مش عايزة عادي خليها.

قالت وهي تبتسم بخجل: لا، عادي، ما إحنا أكيد كنا بننام جنب بعض كده زمان، خلاص، آني موافقة.

ابتسم ورفع الوسادة، فقالت وهي تنظر له بنعاس: تصبح على خير يا كراميل.

سليم وهو يتمدد بجاورها: وأنتِ بخير يا قلب كراميل

نام الأثنين بجوار بعضهما في نفس الزاوية، وأخذت ماسة تنظر له بتأمل شديد، فتساءل سليم معلقا: بتبصيلي كدة ليه؟!

قالت بخجل: مش عارفة، بس بحب أبصلك أوي، أصلك قمور، هو أنت بتضايق؟

ابتسم وهو يرد: استحالة أضايق طبعا.
اقترب منها بتردد: بس بما إني قمور بقي أديني بوسة.

نظرت للأسفل، ثم اقتربت منه ببطء وطبعت قبلة على وجنته.

ماسة بإبتسامة خجوله: تصبح على خير بقى.

أغمضت عينيها، ولم يمر ثواني حتي غلبها النوم سريعا من شدة الإرهاق، أما سليم، فظل قلبه مغمورا بالفرح وهو يتأملها نائمة قربه، ابتسم في شوق كأنما عاد عشر سنوات للوراء، إلى أيام زواجهما الأولى.

همس لنفسه بصوت واهي”تعرفي، في لحظة اتمنيت تفضلي فاقدة الذاكرة، بس لأ، لازم تفتكري، من حقك تفتكري كل حاجة”

ثم مد يده برفق ليزيح خصله من شعرها عن وجهها، وظل يتأملها حتى غلبه النوم.
💞____________بقلمي_ليلةعادل

مجموعة الراوي العاشرة صباحا

مكتب عزت

في مكتب عزت، جلس الجميع حول الطاولة الكبيرة؛ عزت وفايزة، ياسين، رشدي، لوجين ونانا، ومعهم أحد المستثمرين وأحد المديرين، الأوراق كانت مبعثرة على الطاولة،والأحاديث تتقاطع بين الحسابات والتقارير، بينما يعلو صوت عزت من وقت لآخر ليحسم نقطة أو يوجه ملاحظة.

من حين لآخر، كانت لوجين وياسين يتبادلان ابتسامات ونظرات قصيرة، تلك النظرات الصامتة التي تقول ما لا يقال، فايزة لم تغب عنها التفاصيل الدقيقة، عيناها تتابع كل شيء كأنها تلتقط خيوط قصة خفية.

إنتهى الاجتماع أخيرا، فنهض المستثمر وصافح الجميع واحدا تلو الآخر بإبتسامة رسمية قبل أن يغادر.

مالت فايزة للأمام، وصوتها جاد وملامحها متحفزة:رشدي، وصلت لحد فين في المناقصه؟

رفع رشدي رأسه واتكأ على ظهر الكرسي وهو يمسح جبينه بيده: متقلقيش، كله تمام.

ثم ألتفتت إلي لوجين التي كانت ترتب بعض الأوراق على الطاولة يتساءل بنبرة هادئة: سألتي على موضوع الأسيستنت.

رفعت لوجين عينيها إليه: أيوة، وفي خلال ساعتين بالظبط هيكون في تلاتة مرشحين موجودين.

عقدت فايزة ذراعيها وسألت بتركيز: عن طريق الإعلانات ولا منين؟

أجابت لوجين بعمليه: واحدة منهم صديقة شخصية، هي حديثه التخرج لكنها ممتازة، والباقي من إعلان المجموعة، طبعا اتقدم كتير، بس التلاتة دول الأفضل، والقرار النهائي هيكون لمستر رشدي.

فايزة وهي تشبك أصابعها على الطاولة: أنا عايزة أشوفهم الأول.

ابتسمت لوجين بخفة: حاضر يا افندم، هجهز السي في وهيعدوا على حضرتك أكيد.

وقف ياسين وألقى نظرة على الجميع قبل أن يقول بهدوء: محتاجين مني حاجة؟

عزت بإبتسامة مقتضبة وهو يشير برأسه: لا، اتفضل يا ياسين، واستنى أنت يا رشدي، عايز أتكلم معاك شوية.

تحرك ياسين نحو الباب، وخلال خروجه ألتقطت فايزة بنصف ابتسامة حواره العابر مع لوجين في الممر.

ياسين وهو يضحك بخفة: عامله فطار إيه النهاردة؟

لوجين وهي تضع ملفا في يدها: سندوتشات جبنة بالزيتون.

ضحك قائلا: النهاردة نفسي نخرج في مكان شوفته بيعمل اللحوم بطريقة غريبة كده، وبيطبخها قدامك كمان.

ابتسمت وهي تعود إلى مكتبها: اتفقنا، بس نخلص الشغل اللي ورانا الأول.

في مكتب عزت
جلس عزت في مواجهة رشدي، الجو ساكن إلا من صوت الساعة على الحائط.

عزت بصوت منخفض ونظرة حادة: أنا ووالدتك اتكلمنا بخصوص موضوع الإدمان بتاعك، أنت خلاص، كلها كام يوم وهتخطب وهتدخل مرحلة جديدة، فلازم تبطل يا رشدي.

تنهد رشدي وأسند مرفقه على ذراع الكرسي وقال بصوت أقرب للندم: فكرت في الموضوع فعلا، وهعمل كده.

تساءلت فايزة بنبرة حادة لكن فيها قلق خفي: ومي عارفة؟

رشدي دون أن يرفع عينيه: لا، بس ناوي أقولها.

عقدت فايزة حاجبيها بإصرار واستنكار: لا طبعا متقولهاش، أكيد مش هتسامح، وهندخل في مهاترات مش عايزينها، وهتبقي فضيحه كمان، أنت هتتعالج في القصر، وهنجيبلك دكاترة على أعلى مستوى، السيف هاوس هيتحول لمصحة ليك لحد ما تتحسن.

نظر رشدي باستنكار: هو أنتم بتاخدوا القرارات بدالي، وأنا المفروض أقولكم أوامركم؟

وضح عزت بهدوء: مش كده يا رشدي، بس أنت لازم تبطل، مفيش مشكلة لو تتعالج في القصر، على الأقل محدش هيعرف حاجة.

ضيق رشدي عينه متسال متهكما باستخفاف: هو أنا بس مش فاهم هي القاعده دي كلها معموله عشان أنتم عايزين تعالجوني عشان أنا ابنكم ومش حابين تشوفوني كده وخايفين على علاقتي بمي فبتحافظولي عليها لا سمح الله بعد الشر عليكم يعني، ولا عشان شكلكم الاجتماعي قدام الناس، أصل لو على شكلكم الاجتماعي فاشمعنا دلوقتي !؟

ثم قلب عينه بذدراء، معقبا: عموما أنا هعمل كده بس عشان علي مزاجي وعلى كيفي، وهعمله بالطريقه المناسبه بالنسبه ليا، وقرار إن مي تعرف أو لا دى قرار يخصني أنا ومطلبتش رأيكم فيه.

ثم رمقهما من أعلي لأسفل بنظره مستاءه، وغادر الغرفه بخطوات غاضبه يطوي الأرض تحت قدميه، والضيق يخنق صدره، تاركا الصمت يخيم على المكان.

فيلا سليم وماسة العاشرة صباحا
غرفة النوم.

كانت ماسة نائمة على صدر سليم، ذراعها حول خصره، وذراعه يحتضنها، فتح عينيه بهدوء، وحين شعر بها على هذا النحو، ابتسم في صمت يغمره دفء وسعادة طالما افتقدهما، شدها برفق إلى صدره، وقبل جبينها قبلة طويلة، ثم مرر أصابعه في شعرها متأملا ملامحها النائمة، وبعد وقت قصير تحرك ليضع رأسها على الوسادة، لكنها شعرت به، ففتحت عينيها، واحمر وجهها خجلا حين وجدت نفسها بين ذراعيه.

ماسة بإبتسامة خجولة: صباح الخير.

سليم بإبتسامة دافئة: صباح الورد يا أحلى وردة.

تساءلت ماسة بخجل: صاحي من بدري ولا إيه؟

مرر يده على شعرها: يعني من حوالي ربع ساعة، كنت بتفرج عليكي وأنتِ نايمة زي الملايكة.

ابتسمت بخجل، وأرجعت شعرها خلف أذنها، وقالت وهي تنهض: طيب، آني هقوم أجهزلك المشروب بتاعك.

جلس سليم وقال مبتسما: ماشي، وأنا هنزل أعمل شوية تمارين.

ضحكت وهي تسأله: وبعد كده هتكملي باقي قصتنا؟

أقترب منها، ومرر يده على وجنتها بعينين لا ترمشان وقال بنبرة لطيفة: ماستي الحلوة الفضوليه، إحنا النهاردة هناخد إجازة، مفيش حكاوى ولا تعب زى ماالدكتور قال، إحنا النهارده نتفرج على التلفزيون، ونلعب كوتشينة، ونتمرجح شوية، وممكن كمان ننزل البسين، إيه رأيك؟

اومأت ماسه برأسها بابتسامه: ماشي، مع إن نفسي أعرف، بس هسمع كلام الدكتور، يلا قوم بقى يا كراميل.

سليم بإبتسامة: حاضر يا شقية.

وبالفعل هبطت ماسة إلى المطبخ بخطوات هادئة، أعدت لسليم مشروبه الصباحي الذي اعتاد عليه كل يوم، وضعته أمامه بإبتسامة صغيرة، تناول سليم المشروب وهو يبادلها نظرة دافئة، ثم نهض ليبدأ تمارينه اليومية.

جلست ماسة على الأريكة تتابعه بعينين لامعتين، تصفق له بين الحين والآخر وهي تضحك بخفة: برافو يا كراميل.

ضحك سليم بدوره، وتابع تمارينه بينما هي تشجعه بروح طفولية جعلت الصباح أكثر دفئا.

بعد انتهاء التمارين، جلسا معا إلى المائدة يتناولان فطورا بسيطا، تتلاقى بينهما نظرات تمتزج فيها المودة بالسكينة، لم يتبادلا الكثير من الكلام، لكن الصمت الذي جمعهما كان عامرا بما تعجز الكلمات عن قوله.

وبعد الإنتهاء من الفطور، خرج الأثنان إلى الحديقة، يسيران بين الزهور والنسمات الرطبة.

ضحكت ماسة وهي تشير إلى الأرجوحة: يلا نتمرجح شوية؟ بس مرجح جامد.

جلست ماسة على الأرجوحة، وبدأ سليم يدفعها برفق، تتعالى ضحكاتهما، والهواء يعبث بخصلات شعرها بخفة، وبعد قليل، افترشا العشب، فأخرج سليم أوراق الكوتشينة من جيبه، ولعبا معا، تتلامس أيديهما أحيانا، وتتقاطع نظراتهما في صمت يملؤه البهجة، بينما يعلو ضحكهما في أرجاء المكان.

وحين مالت الشمس نحو الغروب، عادا إلى الفيلا، وأعدا الغداء معا، يطبخان ويتبادلان المزاح بخفة وود، ثم جلسا لتناول الطعام، في لحظات بسيطة، لكنها مفعمة بدفء القرب وجمال الألفة.

وبعد الغداء، قررت ماسة النزول إلى حمام السباحة، دخلت غرفتها وارتدت المايوه دون أن تشعر بالخجل هذه المرة، ظهرت بخفة مفعمة بالبهجة، وقالت وهي تضحك: آني لبست ده عشان شوفت أخواتك لابسين كده ولارا ولورين كمان، وآني مراتك عادي ألبس كدة قصادك، صح؟

أومأ سليم مبتسما دون تعليق حتى لا يحرجها، ثم هبطا معا إلى المسبح الداخلي، والماء يتلألأ تحت أشعة الشمس، بدآ يلهوان كالأطفال، ترشه بالماء فيبادلها بحماس، وضحكاتهما تملأ المكان، اقتربت منه، فضمها برفق وقبل خدها بخفة، فابتسمت وأسندت رأسها إلى كتفه في راحة غابت عنها طويلا، وبعد وقت، خرجا يضحكان، وذهب كل منهما ليستحم.

في الغرفه.

وقفت ماسة أمام المرآة بعد أن انتهت من الاستحمام، ترتدي بيجامة ناعمة وتسرح شعرها، دخل سليم فجأة، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وتساءل: خلصتي؟

ألتفتت إليه وهي تبتسم بخجل: آه، خلصت، سرحت شعري بسرعة.

توقف سليم في مكانه يتأملها بصمت، بدا وجهها في المرآة كالقمر، والضوء المنعكس عليها جعلها أكثر جمالا، اقترب بخطوات بطيئة وقال بصوت خافت: تسمحيلي أسرحلك شعرك شوية؟

نظرت له ماسة من خلال المرآة، خجلت للحظة، ثم قالت بهدوء: ماشي.

أقترب منها، وأمسك بالمشط، وبدأ يصفف شعرها برفق كما كان يفعل في الماضي، أصابعه تمر بخفة بين الخصلات، كأنها تلامس ذكرى قديمة، كانت ماسة تنظر في المرآة بخجل وفرح، ووجنتاها تزدادان احمرارا كلما أقترب أكثر.

سألها وهو يبتسم: تحبي أعملك ضفيرة ولا تسيبيه كده؟

رفعت رأسها تفكر للحظة، ثم قالت: لا، خليه كده.

هز رأسه إيجابا، ثم مدا وجهه بخفة نحو رقبتها وكتفها، وأطبع قبلة ناعمة على خدها.

ألتفتت نحوه وابتسمت بخجل وهي تمسك بيديه: أنت طيب أوي يا سليم.

ثم أضافت بنبرة دافئة وهي تركز النظر داخل عينه: أنت حنين خالص، عارف؟ أحن عليا حتى من أمي.

ظلت تحدق في عينيه، حتى امتلأت عيناها بالدموع، وقالت بصوت متهدج: عارف، آني زعلانة إني ناسية، بس زعلانة أكتر علشان نسيتك، نفسي أفتكرك، وافتكر كل الحاجات الحلوة إللي كنت بتعملها عشاني.

مد سليم يده بلطف، ومسح دموعها بإبهامه:هتفتكري كل حاجة إن شاء الله، أنا واثق في ربنا.

رفعت عينيها للسماء وقالت بخفوت صادق: يا رب.

سليم صامتا بعدها، يطيل النظر إليها بنظرة مترددة، كأن داخله ساحة صراع بين الحنين والخوف، أراد أن يخبرها بما قاله الطبيب، لكن الكلمات توقفت عند شفتيه، تأملها في صمت لثواني، وعيناه تتفحصان ملامحها كأنّه يقاوم فكرة تتنازع قلبه، إنه يحبها، ويشتاق إليها كما يشتاق رجل إلى زوجته التي غابت عنه طويلا، غير أنه يخشى أن يتجاوز حدودًا لا ينبغي تجاوزها قبل أن تستعيد ذاكرتها وتعود إليه بإرادتها، ظل مترددا، والأفكار تتناوب عليه كأمواج مضطربة، ذكريات اليوم بينهما، ورضاها أن ينام بجوارها ليلة الأمس بلا حائل، أشعلت في داخله شيئًا من الأمل، وفتحت له نافذة صغيرة نحو الرجاء.

مسح وجهه، وأخذ نفسًا عميقا، كمن يستجمع شجاعته ليخطو خطوة طالما تاق إليها قلبه، وبدا أخيرا وكأنه قد اتخذ قراره، قرارا يختلط فيه الحنين بالخوف، والرغبة بالصبر.

سليم بتردد: كنت عايز أقولك على حاجة.

ماسة ببراءة: قول.

سليم بتردد: لما كنت عند الدكتور إمبارح، وإنتِ خرجتي بره، قالي على حاجة، حاجة ممكن تساعدك تفتكري، بس لازم تكوني موافقة..

أشتعل الحماس في عينيها، أمسكت يده بحماس طفولي: أنا موافقة!

ابتسم سليم بخفة: أستني، تعرفي الأول، بعدين تقولي موافقة ولا لأ.

تكملة الفصل

ابتسم سليم بخفة: أستني، تعرفي الأول، بعدين تقولي موافقة ولا لأ.

ماسة بحماس أكبر: مش مهم، أنا موافقة، المهم أفتكر.

سليم وكأنه يتحدث مع طفلته: ماسة، أسمعي الكلام، نعرف الأول، وبعدين نقول حاضر أو نرفض.

هزت رأسها بخضوع: حاضر.

سليم بتردد واضح يحاول أن يفهمها بالطريقة التى تتناسب معاها الآن: الدكتور قال، إن فيه حاجة ممكن تساعد الذكريات ترجع، حاجة بتحصل بين أي اتنين متجوزين.

ماسة ببراءة: مش فاهمة، ما إحنا متجوزين وبيحصل بينا زي أي متجوزين؛ بنخرج ونتكلم، بنام جمبك كمان

زم شفتيه: لأ، فيه حاجة كمان.

ماسة بفضول: إيه هي؟

رفع عينه لأعلى يبحث عن طريقة يوصل بها الأمر، ثم نظر لها وهو يحك في شعره: هو أنتِ عارفة العريس والعروسة لما بيروحوا بيتهم بيعملوا إيه؟

أحمر وجهها، وإنحنت برأسها نحو الأرض بخجل: أيوة، بيحضنها ويبوسها، ويصحوا تاني يوم نايمين جنب بعض.

ضحك سليم وهو ينظر لأعلى: يا ربي نفس الكلام.

ماسة ببراءة: أنا مش فاهماك

سليم موضحا: أصل أول يوم لينا قولتي نفس الكلام.
ثم تنحنح وهو يضيف: المهم بقى يا ستي في حتة غايبة عنك، بعد مابياخدها في حضنه ويبوسها فيه حاجة بتحصل قبل مابيصحوا نايمين جنب بعض، الدكتور يعني طلب مني يحصل ده إيه رأيك؟!

تصلبت ماسة في مكانها، توترت، وبدأت تعبث بأصابعها: مش عارفة، خليني أفكر شوية.

ابتسم سليم بتفهم: خدي راحتك.

تساءلت ماسة بصوت خافت بخجل: هو إحنا عملنا كده قبل كده؟

هز سليم رأسه بإيجاب: آه، طبعا كتير.

صمتت للحظة وهي تشعر بتوتر: طب ممكن نستنى شوية؟ لو مفتكرتش، ساعتها نشوف.

أومأ سليم بلطف: زي ماتحبي.

صمتت ماسة لحظة، نظرتها معلقة بعينيه، صوتها خرج هامسا: طب أستنى، ممكن أجرب أحضنك.

اقتربت منه بخجل ممزوج بتوتر، مالت بجسدها ببطء وارتباك حتى وصلت إلى حضنه، لكنها سرعان ما ابتعدت مرتبكة.

تنهد سليم وقال بهدوء: خلاص يا ماسة، مش مهم بلاش تعملي حاجة غصب عنك.

خيم الصمت على الغرفه، حتى خيل له أنه يسمع أنفاسها وهي تتسارع، فنهض وخطا خطوتين نحو الباب، لكنه لم يبتعد كثيرا حتى سمعها تقول بصوت مبحوح، وضعيف لكنه صادق: خلاص يا سليم، أنا موافقة.

وقف سليم ألتفت إليها ببطء، ملامحه مشدودة وصوته فيه نبرة تحذير مكتومة: ماسة، ده مش لعبة، أنتِ مش واخدة بالك إن إللي عندك ده تذبذب علشان عايزة تفتكري.

نظرت إليه بتوتر لحظه، ثم اندفعت نحوه فجأة، وضمته لأول مرة بتلك الطريقه، كان عناقها مزيجا من الارتباك والشوق المكبوت، فارتجف جسدها خجلا قبل أن تستسلم لدفء أحضانه، فيما رفع سليم يده برفق يضمها كمن يخشى أن يبدد اللحظة، أما هي فاغمضت عينيها تتنفس بهدوء، كأن العالم انكمش في حضنه وحده.

سليم بصوت خافت، يحمل رجفة خفيفة: ماسة، بلاش تعملي حاجة غصب عنك.

همست وهي مازالت بين ذراعيه: آني موافقة بجد خلاص.

وكأنه استسلم أخيرا لرغبته بها المعلقة منذ زمن، هز سليم رأسه بخفة، وصمت لحظة كأنه يحاول استيعاب ماجرى، ثم حملها برفق، وضعها على الفراش برفق لا يتناسب إلا بأميرته.

لكن شيئا داخله لم يكن كما كان، إحساس غريب يتسلل إليه، مختلف عن كل مرة، يدرك أن مابينهما الآن لا يشبه الحب، بل يشبه الامتحان، اختبارا عليه أن يجتازه ليطمئن، لاعلاقة يملؤها القلب برغم كرهه لتلك الطريقة لكنه يبدو أنه مضطر.

جلست ماسة إلى جواره، نظراتها خجولة ووجهها محمر ابتسم لها بخفة، مد يده أمسك بيديها، وقبل باطن كفها وهو يركز النظر داخل عينيها الزرقاء التي يعشقها.

ارتجفت لحظة، وحاولت أن تبدو متماسكة، بينما هو همس ساخرا:أنا مش فاهم أنا ليه بتصرف كده

انتبهت ماسة لهمسه، فابتسمت وتساءلت: هو أنت مكسوف؟

أجابها ضاحكا: أكيد لأ، بس الموقف نفسه غريب عليا.

ثم أخذ نفسا عميقا، كأنه يستجمع ثباته، ثم اقترب ببطء، ومال برأسه عليها ووضعه قبلة حالمة على خدها، وعندما لامست شفاهه خدها، انكمشت للحظة خجلا، وأغمضت عينينا وابتلعت ريقها.

لاحظ سليم ذلك، لكنه لم يبتعد، بل مد يده وسحبها برفق إلى أحضانه، يضمها بحنان، ويربت على ظهرها وشعرها ببطء، ليمنحها شعورًا بالأمان ويهدئ من روعها.

شيئا فشيئا بدأت تستسلم للسكينة بين ذراعيه، وعيناها المغمضتان تقولان كل ما عجزت عنه الكلمات، ففي لمسته دفء وحنان يجعلانها تذوب بين ذراعيه، فتركت نفسها لجمال اللحظة، وارتخى جسدها بهدوء.

شعر سليم أن المسافة بينهما بدأت تتلاشى، وأنها لم تعد تمانع قربه، فارتسمت على شفتيه ابتسامة دافئة، كأن قلبه وجد ملاذه أخيرا، فاقترب أكثر، وبدأ يطبع قبلات حنونة متقطعة على خدها، ثم على عنقها المرمري، كأن الشوق يقوده أكثر من العقل، ومع كل لحظة اقتراب، كان دفء جسدها يذيب مقاومته، وكأنها تدعوه ليغرق في قربها، لم يعد قادرا على كبح الحنين؛ قلبه يلهث، وجسده يشتاق، وكل إحساس فيه متيم بدفء اللحظة وسحرها، مستسلما لموسيقى القرب التي يعزفها قلبه وجسده معا.

بدأت قبلاته تكتسب طابعا أكثر شوقا وعمقا، اقترب حتى وضع شفتيه على شفتيها، يقبلها قبلة مشحونة بالدفء والاشتياق، لم تبادله الإحساس ذاته، لكنها لم تبتعد، بل تركت نفسها للحظة، وقلبها يخفق بشدة ويرق تحت وطأة شعوره، غير أن خجلها ظل يسيطر عليها، ويمنعها من الانصهار الكامل.

شعر سليم فجأة باندفاع شعور داخلي لا يمكن تجاهله، حرارة متصاعدة تتسلل إلى أعماقه، كأن نارا قديمة اشتعلت من جديد؛ نار الرغبة والشوق، سنتان كاملتان لم يلمسها فيهما، وها هي الآن أمامه، اختارته بإرادتها، حتى وإن كان ذلك بدافع استعادة مافقدته من ذكريات، وكأن جسده يستعيد دفء الأيام الماضية، مستسلما لسحر اللحظة، لكنه حاول ضبط نفسه بين اشتياق جارف واندفاع متصاعد، فهو في النهاية رجل عاشق ومشتاق بجنون لزوجته التي يعشقها، يتأرجح بين شوقه العاطفي وحاجته الجسدية، ساعيا إلى الموازنة بينهما، لكي يحمي اللحظه من أن تتجاوز حد السيطرة، فما يحركه الآن ليس رغبة الجسد وحدها، بل ذلك الشوق الذي أنهكه.

كانت ماسة ساكنة مترددة، تشعر بمزيج من الخوف والخجل، بين ماتحاول تذكره وماتشعر به الآن، ومع كل اقتراب منه، كان قلبها يخفق بسرعة، وعيناها تراقبان اللحظة بحذر، تحاول الموازنة بين خجلها ودفء قربه، وتسمح لنفسها بأن تشعر بالحب دون أن تفقد سيطرتها على ذاتها.

مازال سليم ينهال عليها بقبلات حارة مشتاقة، وما إن وضع شفتيه على شفتيها حتى ارتعش جسدها وانكمشت قليلا، وأغمضت عينيها بشدة، بينما واصل هو تقبيلها برقة وحنان، كأن كل لمسة منه تحاول إذابة خجلها تدريجيا، وكل لحظة قرب تزيده شغفا وشوقا إليها أكثر.

عاد بها برفق نحو الفراش، وهمس بنبرة منخفضة يملؤها الحنين: وحشتيني أوي يا ماسة، بحبك.

ازدادت حرارة قبلاته ولمساته المفعمة بالشوق والحنين، وكل لمسة كانت تشعل إحساسه، بينما هي ما زالت متحفظة، ومتمسكه بجدار خجلها رغم ارتعاش جسدها والقشعريرة التي تسري في عروقها ولا تدرك لها معناها، تمنع نفسها من الانغماس الكامل، وكأن قلبها يلين بينما عقلها يأبى الاستسلام للحظة، متأرجحة بين الرغبة والخوف، بين الاشتياق والرهبة من فقدان السيطرة على ذاتها.

لكن حين اشتد قربه وازدادت اللحظة حرارة، ارتجف جسدها فجأة، وأطبقت عينيها بشدة، وتشابكت أصابعها بالملاية كأنها تبحث عن ثبات، فتجمد جسدها تماما، وكأن الخوف تسلل من أعماقها ليمنعها من الاستسلام لتلك اللحظة.

انتبه سليم فتراجع على الفور، بأنفاس متلاحقة وعينين يغمرهما القلق، وقلبه يخفق كمن نجا من سقوط وشيك، أدرك خجلها، فحاول البقاء قريبا دون أن يتجاوز، رغم شوقه العارم إليها، منتظرا اللحظة التي تمنحه فيها ثقتها، وتسمح لنفسها بالانصياع لذلك الحنان المكبوت بينهما، كل ذلك حدث في دقائق بسيطه فقط

فتحت ماسة عينيها ببطء، تتنفس بهدوء وشيء من الاستغراب، وتساءلت وهي تجلس وجسدها مازال مشدودا قليلا: هو أنت بعدت ليه؟

هز سليم راسه برفض: لا مستحيل أكمل وأنتِ كده، أنتِ خايفة يا ماسة، أنتِ بتعملي كده علشان تفتكري وبس.

ارتعشت شفتاها بخجل: أيوه آني نفسي أفتكر.

تنهد سليم، صوته صار أهدأ، ركز النظر داخل عينيها، امسك يدها برقة: وأنا نفسي لما ده يحصل حتى لو مش فاكراني بس تكوني متقبلة، متكونيش خايفة كده وجسمك مشدود، خليها بعدين لما تاخدي عليا أكثر.

ابتسمت بخجل، وقالت ببراءة: عادي يا سليم أكيد أنا عملت معاك كده أول يوم لينا، ولما خدت عليك خلاص.

هز رأسه بإبتسامة فيها مزيج من الحب والحنان، وهو يقترب أكثر موضحا: لا أول ليلة لينا كنتي مكسوفة، بس مكنتيش كده، كنتي سايبة نفسك ومتقبلة، مكنتيش مكسوفة للدرجة دي، يمكن لإنك كنتي عارفاني قبلها بشهر، لكن دلوقتي لسة عرفاني من كام يوم.

اقتربت منه، وهمست ببطء ونبرة حزينة: طب يا سليم، حاول تاني وأنا هحاول متكسفش و..

قاطعها برفق، وهو يضع كفه على خدها بحنان: مش دلوقتي، بعدين نبقي نجرب تاني.

انزلقت دمعة واحدة من عينها، فانتبه سليم لها، ومسحها بحب وحنان وهو يتساءل: ليه الدموع دي؟!

ارتجف جسدها قليلا، وهي تقول بنبرة مهتزة: آني حاسة إنك بتعمل حاجات كتير علشاني، وآني مش مساعداك خالص.

تبسم بهدوء نظر في عينيها بعمق: لا أبدا بالعكس إحنا اتخطينا حاجات كتير سوا بسرعة، أول يوم كنتي مش قادرة تمسكي إيدي، دلوقتي بمسك إيدك وحضنتيني وخرجنا سوا، وبقينا ننام جنب بعض من غير مخدة، أنا متأكد الموضوع ممكن على آخر الأسبوع يحصل، حتى لو مش فاهمة أوي، بس هتكوني على الأقل شغوفة بالإحساس ده ومش مكسوفة.

ابتسمت ماسة بسعادة، وعيناها تلمعان بالدموع: أنت طيب وحنين أوي يا سليم، آني بحبك أوي بجد.

انفجرت داخل سليم فرحه لم يعرفه منذ زمن طويل، فبعد كل ما مرا به، وبعد فقدانها للذاكرة، ها هي تقول له “أحبك” من جديد، ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهه، وامتلأت عيناه بفرحة غامرة.

اقتربت منه فجأة وضمته، وأسندت رأسها بين حنايا عنقه، تحتضنه بكل ما في جسدها وقلبها من عاطفة ومشاعر، كأنها تهمس له بصمت: “أنا أحبك بجنون”، فهي بالفعل أحبته من جديد، رغم كل مافقدته.

شعر سليم بدفء حضنها، فضمها هو الآخر بقوة، وتداخل ارتعاش جسدها وخجلها مع فرح قلبه وحنانه، لتغدو تلك اللحظة من أجمل ما عاشاه معا، لحظة مشبعة بالحب الصادق، والشغف المكبوت، والحنان الذى أنفجر بينهما.

مرت دقائق طويلة، وكل منها يضم الآخر بقوة وشوق، وكل خفقة قلب وكل نفس مشترك كان يقرب بينهما أكثر، هذه المرة لم تكن ماسة خجولة، بل وهبت حضنها وروحها له بصدق، أما سليم فلم يخفف من قوة عناقه، غامرا في سعادته وطمأنينته لأنها أحبته من جديد.

وبعد قليل أبتعد سليم قليلا، ووتساءل بخفه، هو يضم كتفيها برفق: تيجي نكمل فيلم الكرتون؟

ضحكت وسط دموعها، وقالت بحماس: ماشي، وآني هعملك كيك بالشوكولاته.

هز رأسه بإيجاب وتحركا معا للخارج

قصر الراوي، العاشرة مساءا

غرفة صافيناز وعماد

كانت صافيناز جالسة على الأريكة، سيجار بين أصابعها، أمالت رأسها للخلف وأغمضت عينيها قليلا، تحاول أن تسكت وجعا يرفض المغادرة.

جلس عماد أمام اللابتوب، أصابعه تتحرك بخفة على المفاتيح، لكن عينيه بين حين وآخر ترتفعان نحوها، يرمقها بابتسامة خبيثة، ثم قال بحنان مصطنع: مالك يا صافي؟

زفرت دخانها ببطء، وصوتها خرج مبحوحا متعبا: عندي صداع شديد أوى.

عماد بأسف مصطنع: سلامتك يا صافي ألف سلامه.

صمت للحظه، ثم أغلق اللابتوب نصف غلقة، وتساءل باهتمام: بقولك يا صافي، هو عثمان بقاله كتير معاكم؟

أجابته وهى تضغط على جبينها في محاولة لتهدأة الألم: من زمان، كان حارس في القصر، وفي مرة حد حاول يقتل سليم، وهو إللي خد الرصاصة مكانه، ومن ساعتها بقى من رجالته القريبين.

تساءل عماد بنبرة متعجبة: طب وليه بيخونه دلوقتي؟ ولاؤه ليا غريب! خلاني اشك علشان كده قولت أسألك.

ابتسمت صافيناز بسخريه: مفيش خاين عنده ولاء، النهارده معاك، بكرة ضدك، علشان كده بعد مانخلص شغلنا، لازم نخلص عليه.

هز رأسه ببطء، وهو يتساءل بحيرة: أكيد خيانته لسليم وراها سبب.

ردت بلا مبالاة وهي تطفئ سيجارها: مش لازم يكون فيه سبب، يمكن محتاج فلوس وخلاص.

ضحك عماد بخفوت: سليم مروق على رجالته على الآخر، فاكرة صفقة رشدي؟ إداهم عربيتين سلاح بملايين، ومع كده، عثمان عمره ماطلب كتير، كأنه بيطلب بس علشان ما يخلينيش اشك!

صافيناز ببرود: المهم، نخلص شغلنا الأول، فكرت في موضوع ماسة، قولتلك هاتها ونساوم سليم عليها.

اقترب منها عماد بخطوات بطيئة، وقال بإبتسامة غامضة: شكلك الصداع لسه مأثر عليكي، استني أجيبلك مسكن.

فتح الدرج بهدوء، أخذ حبة دواء، وناولها اياها، بنظرة مريبة لم تلحظها، مدت يدها بتعب وأخذتها دون تردد، وابلعتها مع القليل من الماء.

فلاش باك قصير:
كان عماد يقف أمام الدرج، يبدل الحبوب بأخرى، وعيناه جامدتان، وجهه خالي من أي تعبير.

عودة إلى الحاضر:
راقبها وهي ترتشف الماء ببطء، بعينان تلمعان بالخبث، ثم قال بنبرة واثقة: سيبي بقي موضوع ماسة دى عليا..

رفعت رأسها نحوه، بنظرة متسائله، فاقترب خطوة وقال بصوت شبه هامس: أصله موضوع لازم له تخطيط كويس، أوعي تنسي الوصية.

في اليوم التالي

فيلا سليم وماسه العاشره صباحا

كانت ماسة غارقة في نوم هادئ، ملامحها الوادعة تشي براحةٍ طال انتظارها. جلس سليم بجوارها، يتأمل وجهها المتورد تحت ضوء الصباح المتسلل، وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه. تذكّر حديث الطبيب واللحظة التي لم تكتمل، فشعر بضجر، لكن الفرحة غلبته؛ لأنها لم ترفضه، بل خجلت فقط.

أخرج نفس عميق، أقترب منها ببطء، وصوته خرج دافئا وهو يهمس: ماستي الحلوة، يا وردتي الحلوة.

تحركت جفونها بخفة، فتحت عينيها بإبتسامة خجولة وقالت بصوت ناعس: صباح الخير…

رد وهو يمرر أصابعه على شعرها برقة: صباح النور، يلا يا بقي قومي.

أشاحت بوجهها إلى الجهة الأخرى، تغمرها موجة خجل رقيق، فما زالت تفاصيل الأمس تطرق ذاكرتها بخجل، أما سليم، فكان يعرفها جيدا، ويعرف كيف تخفي خجلها بالصمت، وكيف تتورد وجنتاها حين تهرب من الكلام.

فقال وهو ينهض من جوارها: يلا، هتفضلي نايمة وكسلانة كده؟ هنتأخر على الملاهي!

رفعت رأسها بسرعة، وهى تتساءل بدهشة طفولية: هتوديني الملاهي بجد؟

أجابها ضاحكا، وهو يردد بخبث: أيوه، كلمت الدكتور وقال ينفع تروحي، بس شكلي هلغيها بقي علشان أنتِ عايزه تنامي.

قفزت من الفراش بحماس، وصارت تصفق كطفلة صغيرة: الله! تلغي ايه آني صاحيه اهو.

ضحك: بس مش هينفع نلعب ألعاب قوية، ماشي؟

ماسة بحماس: حاضر.

اقترب منها بإبتسامة هادئة: بس أستني، أنا إللي هختارلك اللبس النهاردة.

هزت رأسها بالموافقة، فقادها نحو غرفة الملابس،وفتح أحد الأدراج، وأخرج بنطالا جينز وتيشيرت بألوان مبهجة، وقدمه لها قائلا بإبتسامة خفيفة: خدي البسي دول.

نظرت إليهم بإعجاب صادق: شكلهم حلو أوي يا سليم.

راقبها بعينين فيها لمحة أمل: مش حاسة إنك شوفتيهم قبل كده؟

هزت رأسها نفيا وهي تتفحص القطعة بين يديها،
فأخرج هاتفه، قلب فيه قليلا ثم قال وهو يمد يده بالهاتف ليريها الصورة: شايفة دي؟

تناولت الهاتف، ثم اتسعت عيناها بالدهشه، وهي تردد: دي آني وأنت! يا سليم، وإحنا صغيرين، كنا في الملاهي!

مال برأسه ناحيتها وقال بصوت مائل للعاطفة: برافو، ركزي كده في اللبس إللي كنتي لابساه.

ركزت النظر ثم قالت: ده شبه الطقم بالظبط.

أقترب منها أكثر، وصوته صار أكثر هدوءا ودفئا: كان يوم جميل، وعايز النهاردة يكون زيه بالظبط، يمكن تفتكري.

ضحكت بخفة: آني اتحمست!

أجابها ضاحكا:وأنا كمان هروح ألبس في أوضتي، وأنتِ خدي راحتك.

ثم أنحنى، ووضع قبلة رقيقة على جفنها قبل أن يغادر الغرفة.

بدأ كل منهما يستعد، وبعد دقائق التقيا في منتصف الغرفة، فتبادلا نظرة مفعمة بالحماس؛ إذ ارتديا نفس الطقم الذي لبساه في أول نزهة لهما إلى الملاهي بعد الزواج. تناولا إفطارا بسيطا في الحديقة، ثم انطلقا سويا. كانت ماسة تضحك طوال الطريق، وسليم يرمقها بين الحين والآخر بعينين تلمعان امتنانا، كأنه يشكر القدر على هذه اللحظة.

وما إن وصلا، حتي استدار نحوها، يتساءل بابتسامه: ها، تحبي تلعبي إيه؟

تجولت بنظراتها بين الألعاب حتى استقرت على الساقية العالية، فرفعت يدها بحماس: عايزة أركب دي!

ضحك سليم وهز رأسه: أمرك يا ستي، تعالي نركب دى.

صعدا اللعبة، فملأت ضحكاتها المكان، وشعرها يتطاير مع الهواء، وصوتها يمتزج بصرخات الفرح، وحين نزلت، كانت ما تزال تضحك وتلهث، وتنظر إليه بعينين لامعتين كأنها عادت طفلة من جديد.

تنقلا بين الألعاب واحدة تلو الأخرى، حتى وصلا إلى لعبة النيشان، فضحك سليم وهو يشير إلى الدمى المعلقة: تحبي أجيبلك إيه من دول؟

نظرت بتركيز ثم أشارت إلى عروسه كبير: دي! العروسة الحلوة دي.

رد بثقة وهو يمسك البندقية: ماشي أحلي عروسة لأحلى قطعه سكر.

وفعلا صوب، وأصاب الهدف من أول مرة، وسط تصفيقها وضحكها العالي: شاطر يا كراميل.

أثناء ما كانت تمسك العروسة وتضمها لصدرها، لاحت عيناها نحو لعبة أخرى.

ماسة بحماس مفاجئ، وعيونها تلمع كأنها طفلة أكتشفت لعبة جديدة: آني عايزة أركب اللعبة دي! يا سليم!

ابتسم سليم وهو ينظر إلى اللعبة المعلقة التي يحلق فيها أشخاص بالحبال: الزبلين؟ ما بتختاريش انت غير العاب الصعبه، يلا بينا، نجرب.

تقدما نحو المنصة العالية، أعطاهما العامل خوذتين، وأشار لهما أن يقفا جنبا إلى جنب عند الحافة، وربط الحزام حول خصر ماسة بإحكام، ثم ثبت سليم بالحبل ذاته، حتى صارا واقفين فوق الفراغ، والامتداد الأخضر أسفلهم بلا نهاية.

نظرت له ماسة بخوف، وقالت بصوت مرتجف: سليم، هو هيحدفنا جامد؟

ضحك، وهو يمد يده يمسك يدها المرتجفة: متقلقيش، مرات سليم الراوي مينفعش تخاف.

ضحكت بخجل وقالت وهي تغمز له: أيوة، آني قويه متستصغرنيشييي!
ضحك سليم بصوت عالي: بظبط.

أشار العامل بيده أن يستعدا، ثم عد بصوت عالي: واحد… اتنين… تلاتة!

وفي لحظة، انفلت الحبل من المنصة، واندفع جسداهما معا في الهواء، صرخت ماسة، صرخة ممزوجة بالخوف والحماس، والهواء يصفع وجهها وهي تنزلق بسرعة خاطفة، ضحك سليم بأعلى صوته، وهو يقول: أفتحي عينيكي يا ماسة! شوفي المنظر!

فتحت عينيها أخيرا، ورأت نفسها تحلق فوق الأشجار، الأرض بعيدة، والمدينة تبدو لعبة صغيرة من بعيد، ضحكت وصرخت بطفولة نقية، وعند الهبوط، وصل سليم أولا، ثم أسرع نحوها يفك عنها الحزام، فقالت وهي تمسك بذراعه، بأنفاس متقطعة: تجنن يا سليم! تعال نركبها تاني، وحياتي!

ضحك وقال وهو يلمس خدها برفق: نكمل بقية الألعاب وبعدين نرجع نركبها.

وبالفعل قضيا اليوم معا بين الألعاب والضحك والطعام، ومع غروب الشمس كانت ماسة منهكة، فغفت في السيارة ورأسها على صدره، وحين وصلا، حملها سليم برفق إلى الغرفة، وضعها على السرير، وغطاها بلطف، ثم تنهد مبتسما وهو يهمس: “يوم واحد، لكنه كان يشبه عمرا بأكمله.”

منزل مي، الحادية عشرة مساء

في غرفة مي

تجلس مي على طرف الفراش، رأسها منخفض، ودموعها تترقرق في عينيها، والهاتف بين يديها يضيء برقم رشدى بإصرار والحاح.

تنهدت ثم أجابت بصوت باكي: أيوه يارشدي.

جاء صوته من الطرف الآخر، يتساءل بنبرة متعجبة: أيوه يا رشدي؟! مال صوتك؟ أنتِ معيطه؟

ردت بصوت مكسور: مفيش، أنت عامل إيه؟

رشدى باهتمام: لا بجد في ايه، مالك؟

تنهدت ببطء: زعلانه شويه.

ضحك بخفة قائلا باهتمام: يا نهار أبيض، مين مزعلك يا ست البنات؟

حاولت تمالك شهقة بكاء كادت أن تنفلت منها: متشغلش بالك، بعدين نبقي نتكلم.

رشدى بسرعه وحسم: بعدين إيه وأنتِ صوتك عامل كده، اقفلي دلوقتي، أنا جايلك.

أنهى المكالمة قبل أن ترد، فوضعت الهاتف على الفراش بعدم اكتراث، وواصلت بكائها.

بعد دقائق، رن الهاتف مرة تانية، وحينما اجابت اتاها صوته الهادئ وهو يقول بحزم: انزلي، أنا تحت البيت.

ردت بدهشة: انزل فين يا مجنون؟ الساعة11؟

ضحك بخفة: انزلي بدل ما أطلعلك بنفسي، أنا مش ماشي الا اما اعرف مالك.

مي بحزم واضح: رشدي بلاش جنان، أنا مش فايقه لجنانك.

جاء صوته الحاسم: براحتك، لو منزلتيش بعد دقيقتين هكون عندك فوق.

أنهى المكالمة قبل أن يسمع ردها، فزفرت بغضب، ووقعت عيناها على إسدال الصلاة، فارتدته بسرعة وهي تتمتم: مجنون بجد

نزلت الدرج بخطوات سريعه، وعندما خرجت من العمارة وجدته مستندا إلى سيارته، في انتظارها

قال بابتسامة جانبية وهو يتأملها: إيه اللي أنتِ لابساه ده يامشمش؟ عاملة زي تيتة الحاجة.

نظرت له بحدة، وهى تتجاهل مزاحه: عايزه أعرف أيه الجنان بتاعك ده؟

اقترب منها خطوة، وقال بصوت دافئ: عايزاني اسمعك معيطه ومضايقه واسكت!؟

قالت وهي تتجنب النظر له: الساعة11 يا رشدي!

رد بابتسامة خفيفة: إن شالله تكون 3الفجر، المهم اطمن إنك بخير، ومتناميش زعلانه، قولي بقى مالك؟

خفضت عينيها وقالت بنبرة متوجعة: اتضايقت من صحابي، كنا متفقين نجيب فستاني مع بعض، وفجأة كل واحدة اعتذرت بحجة، حسيت إني لوحدي.

هز رأسه وقال بنبرة دافئة وحنو: ماعاش اللى يضايقك يا ست البنات، ميستاهلوش زعلك، وبعدين ماتقوليلي وأنا أجي معاكي.

ابتسمت، ورفعت رأسها بخجل: مش هينفع طبعا، دى حاجات بنات.

ضحك بخفة وهو يميل للأمام: مينفعش ليه؟ ده أنا حتي ذوقي جامد في الحاجات دى، وبعدين اعتبريني في اليوم دى رشيدة يا ستي.

ضحكت بخفوت، وهي تهز رأسها بيأس: أنت مجنون بجد.

رد بابتسامة عريضة وصوت دافي: مجنون عشان عايز أكون جنب حبيبتي!؟ يلا روقي بقي وقوليلي أجيلك الساعة كام؟

ابتسمت برقة وقالت باعتراض: بس مش هينفع تشوف الفستان، لازم تتفاجئ.

قال بثقة ومزاح لطيف: وإيه المشكلة؟ بسيطه، أوعدك أول ما أشوفك يوم الخطوبة بالفستان، هيغمي عليا من الإنبهار والصدمه.

فضحكت من قلبها: أنت مشكله.
ثم نظرت إليه بامتنان: شكرا يا رشدي، إنك اهتميت وجيت أول ماسمعت صوتي زعلان.

رفع نظره إليها، وقال بنبرة حانيه غريبه عليه: طبعا كان لازم أجي، علشان مشمشتي مينفعش تنام معيطه ابدا.

احمر وجهها بخجل، وردت بخفوت: طب أنا هطلع بقي قبل ماحد يصحي ويقلقوا عليا.

ضحك بخفه، وهو يلوح بيده: ماشي، وبصيلي من البلكونة لما تطلعي يلا.

أومأت بخجل وصعدت إلى شقتها، دخلت غرفتها وفتحت الشرفة، ولوحت له بابتسامة واسعة، فبادلها التحية قبل أن يستدير ويغادر، فتابعته بعينيها حتى تلاشى ضوء سيارته، ثم أغلقت الشرفة ببطء وابتسمت، فلأول مرة منذ زمن طويل تشعر بأن هناك من يهتم بها حقا، ويأتي مسرعا بمجرد أن يشعر بحزنها.

مجموعة الراوي، الثانيه عشر ظهرا

الكافيتريا

كانت لوجين تقف عند الكاونتر تضحك بخفة وهي تتحدث مع أحد زملائها، بعينين لامعتين وابتسامة جميلة تزين وجهها، وفي تلك اللحظة دخل ياسين، فوقعت عيناه عليها فتوقف في مكانه، كأن الزمن تجمد من حوله، وتحولت نظرته إلى غضب مكتوم، وشعر بحرارة غريبة تشتعل في صدره فجأة.

اقترب منهم، وقال بصوت جامد ونظرة حاد: أنتم واقفين كده وسايبين شغلكم ليه؟

ارتبك الموظف، بينما رفعت لوجين عينيها، وقالت بهدوء: أحنا دلوقتي في البريك.

اقترب منها خطوتين، وانخفض صوته يحمل نغمة غضب تمتزج بغيرة مكتومة: ما أنا مش شايف بريك ولا راحة ولا أكل، أنا شايف هزار.

ثم استقام في وقفته، قائلا بجمودة: خلصي وتعالي على المكتب.

ثم غادر نحو مكتبه بخطوات غاضبة، وجلس بضجر محاولا التركيز في الأوراق أمامه، لكن عجز عن ذلك، فألقى القلم بانفعال وزفر بحدة، وظل يحدق في الباب بشرود وغضب.

وبعد دقائق، طرقت لوجين الباب بخفة، ودخلت وهي تقول بنبرة رسمية هادئة: مستر ياسين، عندك اجتماع كمان ربع ساعة، حضرتك عارف إن مستر سليم الأسبوع ده كله أوف، فاجتماعاته اتوزعت على حضرتك ومستر رشدي وميس فريدة.

تجاهل حديثها، وتساءل بصوت حاد: مين إللي كنتي واقفة بتهزري معاه ده؟

لوجين ببساطة: دى ثروت.

قطب حاجبيه وقال بنفاد صبر: وأنتِ تعرفيه منين أصلا علشان تقفي تهزرى معاه بالشكل دى؟

لوجين بلامبالاة وبرود: عادي، زميلي في الشغل.

إنحنى قليلا للأمام، وقال بضيق: وده ينفع؟ من إمتى وإنتِ بتهزري كده مع الموظفين يامدموزيل لوجين؟

لوجين ببساطه:أنا بهزر مع كل أصحابي عادي.

رفع حاجبه، وقال بنبرة ضيق واضحة: والهزار الزيادة، والضحكة إللي كانت بترن، ده عادي برضه؟!

لوجين بنبرة غاضبه: ياسين، أنت بتكلمني كده ليه؟!

زفر،وقال بغضب مكبوت: لأن أسلوبكم مكانش حلو خالص، وإللي يشوفك كده ممكن يقول كلام مش كويس على سمعتك.

أجابت بسرعه وضجر: محدش يقدر يقول عليا حاجة مش كويسة، وأنا عارفه حدودي كويس، وبعرف أوقف كل واحد عند حده.

نظر لها بثبات، وقال بهدوء مصطنع: مش هيقولها قدامك، هيقولها من وراكي.

لوجين بصوت حاسم: مادام من ورايا يبقى جبان.

وقف من مكانه، واقترب منها وهو يقول بحنو ممزوج بالضيق: وأنتِ ليه أصلا تسيبي فرصة لحد يتكلم؟إحنا المفروض نحافظ على نفسنا، احنا في شغل مش في النادى.

ردت عليه باستنكار غاضب: تقصد إيه؟ تقصد إني بنت مش كويسة؟

اقترب منها خطوة صغيرة، والمسافة بين أنفاسهم ضاقت، وقال بصوت خافت فيه دفء متردد: أنا مقدرش أقول كده عنك، بس بخاف عليكي، محبش حد يبصلك أو يتكلم عنك وحش، يمكن أنتِ بتضحكي بعفوية، بس إللي حواليكي بيشوفوها غير كده، إحنا مش عايشين لوحدنا يا لوجين، لازم نحترم نفسنا، ونحترم نظرة الناس لينا.

هبطت عينيها، وارتخي كتفيها، وقالت بصوت خافت، والدموع تلتمع في عينيها: أنا مكنتش واخدة بالي، ومكنتش أقصد كده خالص، بس برضه مينفعش تتكلم معايا بالأسلوب ده يا ياسين.

صمت لحظة، وثبتت عيناه على دمعة انحدرت برفق على خدها، فمد يده بحذر ومسحها بإبهامه، وقال بابتسامة خفيفة يشوبها التوتر: متعيطيش خلاص أنا آسف، أنا اتضايقت لما شوفت المنظر، مش كل الناس هتفهمك صح يا لوجين

ثم أضاف بمرح: وبعدين ما أنا أهو، تعالي وأضحكي معايا زى ما أنتِ عايزه، ولا قالولك عني وشي بيكرمش لما بضحك؟

ابتسمت برقة، وساد صمت طويل، وهو يحاول إبعاد نظراته عنها بصعوبة، الهواء بينهما كان ساكنا، لكنه مشبع بإحساس لا يقال.

رفع عينه إليها من جديد، وقال بصوت ناعم فيه محاولة لتلطيف الأجواء: يلا بقى، فين الضحكة الحلوة؟

رفعت رأسها بخجل خفيف، وابتسمت بخفة، فعادت الضحكة إلى المكان كأنها اعتذار عما كان.

ابتسم هو ويقول بهدوء: أيوة كده، دي لوجين إللي أنا أعرفها.

ضحكت بخفة وقالت: طب يلا نكمل شغلنا.

أومأ برأسه بابتسامة دافئة: يلا بينا.

تحركت نحو الطاولة، وسار إلى جوارها بخطوات هادئة، كان الصمت بينهما رقيقا، غير إنه كان ممتلئا بكلام لم يقال بعد، وترك كل منهما قلبه معلقا بما لم ينطق، فقد غار ياسين، دون أن يدرك أن الغيرة كانت اعترافا خفيا بما لم يجرؤ على قوله بعد.

فيلا سليم وماسة، الثانية عشرة ظهرا

الهول

فتحت ماسة الباب بنفسها، وما إن رأت عائلتها حتى اندفعت نحوهم بخطوات سريعة، وذراعيها يمتدان بشوق طفولي، ضمتهم واحدا تلو الآخر بشوق كبير، ثم قالت بعتاب: كل ده متسألوش عني؟ آني واخده على خاطرى منكم.

مجاهد بإبتسامة هادئة: يا حبيبتي إحنا كنا بنسمع كلام الدكتور.

ماسة وهي تمسك بيد والدتها: بس أنتم وحشتوني أوى.

وقف سليم عند الباب يراقبهم بصمت، في عينيه دفء وقلق مكتوم، فتقدم نحوهم مرحبا بهدوء: إزيكم؟ عاملين إيه؟

اقترب منه يوسف وصافحه بخفة، بينما أكتفت سلوى بابتسامة صغيرة: الحمد لله.
أما عمار فاشاح بوجهه دون رد، ثم قال موجها حديثه لماسة: بس كويس، الجرح خف؟

ماسة وهي تلمس رأسها: آه الحمد لله.
ثم قالت بحماس طفولي: تعالوا نقعد في الجنينة.

قادهم سليم إلى الحديقة، حيث المقاعد محاطة بالزهور، جلسوا جميعا في أجواء عائلية يغمرها الدفء والسكينة.

تساءلت سلوى بنبرة فضول وقلق: مفتكرتيش أي حاجة يا ماسة؟

ماسة بحزن: لا خالص مش عارفة ليه! مع إن سليم وراني صور وفيديوهات ياما، بس حسيت كأني أول مرة أشوفهم.

مجاهد وهو يربت على يدها: معلش يا حبيبتي، إن شاء الله بكرة تفتكري وتبقي كويسة.

ماسة بخفوت: يارب.

بعد لحظات، شعر سليم بتوتر الأجواء في حضرته، فوقف وقال بود: طب أنا هسيبكوا بقى تقعدوا براحتكوا.

لكنها امسكت يده بسرعة وهي تقول برجاء: لا، خليك قاعد معانا يا سليم، هتمشي ليه؟

سليم بإبتسامة خفيفة: علشان تبقوا على راحتكم.

تشبثت بيده برقة: لا، وحياتي أقعد.

تردد لحظة ثم جلس بجوارها، وابتسمت هي براحة واضحة، بينما نظرات العائلة تتبادل الصمت والاطمئنان.

تبادلوا الأحاديث في جو هادئ ومريح، مجاهد وسعدية كانوا طبيعيين جدا مع سليم، بينما سلوى ويوسف وعمار تجنبوا الحديث معه قدر الإمكان، خاصة عمار، حتى لا تلاحظ ماسة أي توتر، كان سليم متزنا، صوته ثابت، ونظراته دافئة كما كانت قديما،

وبعد الغداء، جاءت ماسة بإبتسامة مرحة وهي تحمل أوراق الكوتشينة، وتقول بحماس طفولي: يلا نلعب الشايب!

ضحكوا وجلسوا في دائرة صغيرة، حاول سليم المغادرة منعا لاى اصطدام مع أشقائها، لكنها تشبثت بيده مرة أخرى وهي تقول برجاء: أقعد العب معانا يا كراميل.

اضطر للرضوخ، وجلس وهو ينظر لها بإبتسامة دافئه، لعبوا لعبه (الشايب )وسط ضحكات متواصلة، أنهى يوسف أوراقه أولا، ثم عمار، تلتهما سلوى، وبقي سليم وماسة.

جلست ماسة أمامه وقالت بطفولة وهي تكاد تبكي: سليم، أنت معاك الشايب، قولى أنهي فيهم وحياتي

رفع سليم حاجبه بمرح: نعم؟!

حاولت استعطافه وهى تقول: هعملك بسبوسة ورز بلبن وكيك برتقال.

سليم ضاحكا: على أساس كده بتغريني يعنى!؟

نظرت له بوداعة وقالت بتوسل: علشان خاطرى يا سليم.

هز رأسه ضاحكا: لا أعتمدى علي نفسك، واسحبي ورقة يلا.

وبطريقه خادعة ركز نظره على ورقة معينة فاعتقدت إنه الشايب فحسمت قرارها فورا بأختيار الورقة الآخري فصدمت إنها اختارت الشايب، فقد خدعها سليم وخسرت !

ماسه بغضب طفولي وهى ترمى الأوراق بعصبية وتكتف يديها بغضب طفولي: مش لاعبة، أنتم بتخموا

سلوى بضحك: إنت إللى عبيطة وبيضحك عليكى دايما وكل مرة تاخديه وتخسرى، ومش بتحرمي وتقعدي تزني علشان نلعب تانى وبردوا تخسرى

ماسة بغضب طفولي وهى لا تزال تكتف ذراعيها، وزادت تقطيبه حاجبيها وهى تقول: مش لاعبة يعنى مش لاعبة، مش هتحكموا عليا.

يوسف بمرح: مش قد اللعب متلعبيش مش كل مرة نفس القمص علشان متتحاكميش.

ماسة بغضب طفولى: مليش دعوة مش هتحكموا عليا، أحكموا على سليم.

رفع سليم حاجبه بدهشة: وأنا مالى أنا كسبت !

ماسة بغضب طفولي: تستاهل علشان غدرت بيا وضحكت عليا، المفروض أنا مراتك نبقي فرقة ونتفق ضدهم.

ثم تحولت نظراتها فجأة ونظرت إليه نظرة وديعة وهى تحاول إقناعه بأن ينفذ الأحكام بدلا عنها: وبعدين يعنى يا سليم هتسيبهم يحكموا عليا؟ يرضيك يتحكم عليا !

ضحك سليم أمام أفعالها الطفولية التي تذيب قلبه: أمرى لله، هتحاكم مكانك

صفقت بحماس طفولى، وقامت بإحتضانه، ووضعت قبلة على خده، وهى تردد بفرحة طفولية: أحلى كراميل في الدنيا.

تجمّد لحظةً بعد القبلة، كأن الزمن توقف عندها. دفء أنفاسها لامس خده فأربكه، وكأن العالم اختزل في تلك القبلة العفوية التي طبعتها على وجنته.

أمسكت ماسه الأوراق بحماس وقامت بفردها، لكى يسحبوا أوراق الأحكام، فسحب عمار أولا، ثم يوسف، تلتهما سلوى، وحينما مدت ماسة يدها لتسحب هى الأخرى

رفع سليم حاجبه: وده اسمه إيه بقي يعنى هتحاكم مكانك، وكمان عايزة تحكمى عليا!!

نظرت ماسة له بنفس النظرة الوديعة: وحياتى يا سليم عمرى ماكسبت ولا حكمت على حد خالص، علشان خاطرى وحياتي.

ضحك بخفة: أقعدى بصيلي زي القطط كده، طب يا ستى أحكمي.

رفعت ماسة رأسها تفكر لحظة ثم قالت بحماس: تعمل بيا التمارين إللى شوفتك بتعملها الصبح على بطنك، بس وآني قاعدة على ظهرك زي الفيلم.

ضحك سليم وهو يهز رأسه بيأس: قصدك تمارين الضغط، آه عارف أنا الحكم ده مجربه معاكي كتير، يعنى حتى وأنتِ فاقدة الذاكرة يا مفترية.

ثم بدأ سليم في عمل تمارين الضغط، وهي تجلس على ظهره مربعة وهو يصعد ويهبط بيها وهي تضحك بمرح طفولي: شطور يا كراميل فاضل 4.

سليم بغلب وهو مستمر بعمل التمارين وهى فوق ظهره: ربنا على المفترى.

وبعد انتهاء حكم ماسة أعتذر عمار وسلوى ويوسف عن الحكم في محاولة لتجنب الاحتكاك مع سليم، فقالت ماسة بحماس طفولى: سلفوني أحكامكم، وأحكم عليه أنا.

أمسكها سليم من ياقه قميصها بمرح: أنتِ إيه حكايتك معايا النهاردة، بتطلعي كبت السنين عليا ليه عايز أفهم، بطلي افترى.

نظرت له براءة: خلاص هسامحك علشان قلبي كبير وبيحبك.

سليم ضاحكا: طب والله شكرا لكرم أخلاقك، تعالو نكمل لعب بكوتشينة عاديه.

أكملوا اللعب في أجواء سعيدة، حاول فيها أشقاؤها التصرف مع سليم بطريقة لا تثير شك ماسة، وحين مالت الشمس نحو الغروب وحان وقت الوداع، وقفت عند الباب تعانقهم وهي تقول بابتسامة: هتوحشوني، متتأخروش عليا المرة الجاية.

فربتت سعدية على شعرها قائلة: إن شاء الله يا حبيبتي، قريب نجيلك تاني.

صافح سليم مجاهد بابتسامة خفيفة، وتبادلا نظرات قصيرة مليئة بالتقدير، ثم ودعهم حتى غادروا، وظل يراقب السيارة حتى توارت عن الأنظار، أما ماسة، فعادت إلى الداخل بخطوات بطيئة وابتسامة دافئة على وجهها، كأن شيئًا صغيرًا بدأ يتحرك في داخلها دون أن تفهمه بعد.

نظرت ماسة لسليم بابتسامه: آني انبسطت أوي النهارده.

سليم بهدوء: يا رب دايما تكوني مبسوطة.

ثم فاجأها وهو يحملها بين ذراعيه، فشهقت متسائله: بتعمل إيه؟

سليم بإبتسامة عاشقه: هطلع الملكة بتاعتي أوضتها.

ضحكت وهي تنظر له ببراءة وحب، ثم طبعت قبلة خفيفة على خده

أمام عمارة مي، الخامسة مساء
كان رشدي واقفا أمام سيارته، يسند ظهره إليها، ويداه في جيبه، ينظر بين الحين والآخر إلى باب العمارة، بعد دقائق، ظهرت مي بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة.

مي برقة: مساء الخير.

أجابها بغزل لطيف: مساء الورد يا أحلى وردة.

ضحكت بخجل، وقالت وهي تقترب منه وتنظر له بامتنان: شكرا إنك جيت.

ضحك بخفة، وقال بصدق: شكرا على إيه؟! أنتِ تأمري يا مشمش.

ثم أقترب خطوة، ونظر في عينيها بنظرة فيها لمعة مختلفة، وقال بإرتباك صادق: تعرفي، أنا كمان معنديش أصحاب قريبين غير زيزي، وبعد ما اتجوزت، بعدت ومبقاش عندى أصحاب، أيه رأيك نبقى أصحاب؟ بعيد عن أي حاجة تانية، يعني لو يوم حبيتي تخرجي، أو تتكلمي، أو تعملي حاجة، كلميني، ووعد هتعامل كصديق.

ضحكت بخفة وهي تميل برأسها: صديق!! طب ودي تيجي إزاي يا رشدى؟

رشدي بمزاح: بسيطة، لو عايزاني كصاحب، قولي لي “يا رشروش”، عايزاك في مصلحة، فأفهم إنك عايزاني كصديق، لكن لو قولتيلي “يا رشروشي”، ساعتها أفهم إنك عايزاني كحبيب.

أنفجرت بالضحك: ماشي اتفقنا.

ساد بينهما صمت قصير، تبادلوا خلاله نظرات خجولة كأنها أول أعتراف خفي بينهما، رشدي بمزاح، وهو يفتح باب السيارة: يلا بينا يا محمود.

ردت ضاحكا، وهي تدخل السيارة: يلا، يا رشروشي.

الإتيليه
دخلوا المحل بإبتسامة ترتسم على وجههم، وبدأوا في البحث بين الموديلات المختلفه، وبعد قليل أقترب رشدي، يحمل فستان أحمر ناري، ويقول بابنهار وحماس: بصي! ده تحفة، أنا بعشق اللون الأحمر.

نظرت مي بدهشة لعري الفستان الذى يحمله، ورفعت حاجبها متسائلة باستنكار: إيه ده يا رشدي؟ أنت اتجننت!!

عقد بين حاحبيه بتعجب، ولم يفهم مقصدها: اتجننت ليه؟ مش عاجبك الأحمر!! خلاص مش مهم نشوف غيره.

ثم أقترب من فستان أوف وايت ناعم كقطعة حرير، يظهر أكثر مما يخفي، وقال بإعجاب: شوفي ده بقى! البنات كلها بتحب اللون ده

وضعت يدها على وجهها في يأس واضح: هو أنت مجنون ولا عبيط فهمني؟

رفع حاجبه بإعتراض: ولازمتها ايه قلة الادب يا محمود؟ مسمحلكيش تقللي من ذوقي كده.

ضحكت: ذوق إيه بس؟ أنا محجبة، هلبس ده إزاي قولي؟

ضحك، ومرر يده على عنقه بحرج: آه صح، لامؤاخذة يا مشمش، دي أول مرة أختار فساتين لواحدة محجبة، بس برضه الغلطة غلطتك، ليه جايباني هنا؟ كلهم نفس النظام.

أخذت تقلب في الفساتين وهي تقول بهدوء: فيه حاجات بكم، وممكن تتبطن، بس إللي أنت بتختارهم دول مش ليا خالص.

ثم صمتت لحظة قبل أن تقول بنغمة تأملية: وبعدين أفرض أنا مش محجبة، أزاى توافق إني البس فساتين زى دى، فين الغيرة؟ مش المفروض تقولي: لا ده عريان واستحالة تلبسيه قدام حد، وتتخن في صوتك وتبرق في عينك كده؟

ابتسم رشدي وقال بهدوء: وإيه علاقة اللبس بالغيرة، دي حرية شخصيه، ما أمي وأخواتي بيلبسوا كده،
أنا مش معقد زي سليم إللي مانع ماسة تلبس كده حتي في القصر.

مي بإبتسامة خفيفة: بس دي مش تعقيد دى حب وغيرة، أفرض عندها حاجة مميزة في جسمها، ليه غيره يعرفها؟ أنا كمان نفسي أحس إن أنت بتغير عليا كده، وتقولي: لا، ده ضيق، وده عريان، لإن الفستانين إللي اخترتهم شبه اللانجري، أنا معرفش بيلبسوه قدام الناس إزاي.

ظل ينظر لها صامتا، مبهورا بطريقتها وهي تتكلم عن الغيرة وكأنها تدافع عن شعور لم تعرفه بعد.

أقترب خطوة، ورفع حاجبه وقال ببحة رجولية: تصدقي عنك حق، ومن النهاردة، لو لبستي فستان ضيق أو مبين حته ولو قد كده من جسمك مش هيحصلك طيب، ولفي يلا وريني الفستان إللي إنتي لابساه ده عامل إزاي؟!

ضحكت بخفه: أنت يا كده يا كده مفيش وسط.

قلب وجهه بتزمر، وهو ينظر لفستانها بنظرة تقيميه: أنا قولت كلمه واحده، الفستان دى ضيق وهجيبلك واحد تانى أوسع تروحي بيه.

فصاحت بضيق، ونفاذ صبر: رشدي، خلينا نخلص.

فابتسم وهو يقلب في الفساتين: طب متشخطش كده يا محمود، مش حلو على جوزك المستقبلي.

ثم أقترب منها بخفة وقال وهو يبتسم بمكر خفيف: بس الفساتين دى عاجبني أوى، هاخدهم والبسيهم لما نتجوز.

نظرت له بخجل، وقالت بغضب مصطنع وهي تحاول مدارة خجلها: أنت عايز تتضرب، بطل قلة أدب.

ضحك بخفة: في أيه يامحمود بالراحة، بقولك لما نتجوز.

ابتسمت مي بصمت وهي تهز رأسها بيأس منه، ثم بدأت تتفقد الموديلات حتى اختارت فستانا ودخلت غرفة القياس لتقيسه، بينما ظل رشدي واقفا ينتظرها.

وبعد دقائق خرجت مي، والفستان ينساب عليها برقة كأنه خلق لها خصيصا، كانت تبتسم بخجل وتنظر إلى الأرض كأنها تخشى مواجهة نظراته، أما رشدي فظل يحدق فيها بانبهار، وعيناه لا تفارقان أي تفصيلة فيها، من ابتسامة شفتيها الرقيقة إلى حركة أصابعها المترددة على الثوب، فابتسم بخفة وهو يقول بصوت مبحوح من شدة اعجابه بها: زي القمر، كأنك أميرة من الأميرات بجد.

ابتسمت بخجل، قبل أن تهمس بخفوت: خلاص، هاخده.

دخلت لغرفة القياس مرة لتبدل ملابسها، ثم خرجت، وتقدم رشدي نحو الكاشير ليدفع الحساب، فقال بثقة: هناخد الفستان ده، والفساتين دى كمان هناخدها.

نظرت له مي بسرعة وهجل: لا، مش هينفع يا رشدي، أنا هاخد ده بس.

رد بحزم لطيف: مش عايز اعتراض، أنا قولت هناخدهم.

وبعد أن دفع الحساب وحمل الحقائب، قالت وهي تنظر إليه بارتباك وخجل: على فكرة، مكانش لهم لزوم.

رفع رشدي حاجبه بتعحب، وقال بخفة: أنا جايبهم هديه لمراتي المستقبليه علشان لما نتجوز تلبسيهملي، أنت مالك بقي حاشر نفسك بينا ليه محمود.

ضحكت بخفوت: بس دول غاليين.

ابتسم بخفة وهو يقول بغزل: مفيش حاجة تغلى عليكي يا ست البنات، تعالي بقى نروح ناكل، وكمان بالمرة عايزه احكيلك وصلت لايه في المناقصه وآخد رأيك في شويه حاجات.

أومأت له بحماس، وسارا معا نحو أحد المطاعم لتناول الغداء الحديث بينهما خفيفا دافئا، تزداد معه المودة قربا والحب عمقا، كزهرة تنمو بهدوء نحو الشمس.

فيلا سليم، الخامسة مساء

المكتب.
كان سليم يجلس خلف مكتبه الكبير، يقرأ بعض الأوراق بعينين مرهقتين، يوقع هنا وهناك، ويرد على مكالمة وأخرى، مر وقت قصير قبل أن يفتح الباب برفق، ودخلت ماسة وهي تحمل صينية صغيرة عليها كوب ليمون بارد.

اقتربت بخطوات مترددة، وابتسامة هادئة تزين وجهها، وقفت أمامه وقالت بنبرة حانية: آني عملتلك لمون، علشان ترتاح شوية.

رفع سليم عينيه نحوها بإبتسامة خفيفة: تسلم إيدك يا عشقي.

وضعت الصينية على المكتب ونظرت له بإهتمام تساءلت ببراءة: هو إنت بتعمل إيه؟ بقالك كتير قاعد هنا.

أجابها سليم وهو يشرب القليل من ليمون: مفيش، بخلص شوية شغل مهم، وبعدها هاجي أقعد معاكي.

ابتسمت بخفة وهي ترفع حاجبها: طب آني هروح أعمل فشار وكيك علشان معطلكش، ولما تخلص تعالى نتفرج على فيلم.

مد سليم يده وأمسك بيدها، وهو يقول بصوت هادئ: لا، خليكي قاعدة معايا شويه، ولا الفيلم أهم مني؟

ابتسمت بخجل، وجلست على المقعد المقابل له: مفيش أهم منك يا كراميل.

ضحك بخفة، وتبادلا نظرة قصيرة دافئة قبل أن يعود لعمله، كانت تراقبه بين الحين والآخر، وكلما ألتفت إليها، ابتسم، فترد بإبتسامة صغيرة خجولة.

وبعد أن انتهى من عمله، خرجت ماسة نحو المطبخ،
أعدت الفشار والكيك والعصير بنفسها، ثم عادت وهي تحمل الصينية، كان سليم ينتظرها في غرفة المعيشة، وضعت الصينية على الطاولة الصغيرة وجلست بجانبه، بينما هو مد ذراعه على ظهر الأريكة خلفها في راحة.

ماسة وهي تاخذ طبق الفشار: الفيلم شغال بقاله كتير؟

هز سليم رأسه: لا، لسة بادئ من شوية.

بدءا يتناولان الفشار ويتابعان الفيلم بصمت، وكانت ماسة بنظرات قصيرة مترددة بين الحين والآخر، كأن في داخلها سؤال لا يقال، لاحظ سليم الأمر، فألتفت إليها وتساءل بهدوء: بتبصيلي كده ليه؟ عايزة تقولي حاجة؟

عبثت بخصلات شعرها بخجل وهي تهمس: بصراحة، عايزاك تحكيلي باقي الحكاية.

تنهد سليم وعدل جلسته وهو يواجهها بإبتسامة: آحنا وصلنا لحد فين؟

ماسة بحماس: إنك روحت لداكتور مروان، واتعالجت وحياتنا مشيت حلوة.

أومأ برأسه: بعدها كملتي 18سنة واتجوزتك تاني، بس المرة دي قانوني، وعملتك حفلة صغيرة.

ضحكت بخفة: بجد؟

ايتسم وهو يقرصها من أنفها: أيوه بجد، أستني أوريكي الصور.

أخرج هاتفه، وبدأ يعرض لها صور زفافهما الثاني، كانت تنظر للشاشة بتركيز، وكل صورة كانت تحاول أن توقظ ذكرى داخلها، لكنها لم تستطع، كان سليم يروي لها تفاصيل ذلك اليوم هو يضع يديه على ظهرها ويريها الصور وكأنه يشرح لها الصورة وتفاصيلها لكن يبدو أنها لم تستطيع أن تتذكر شيء.

همست ماسة بعينين امتلأتا بالدموع: مش قادرة أفتكر حاجة خالص.

ربت سليم على ظهرها برفق: مترهقيش نفسك ياحبيبتي، إن شاء الله هتفتكرى.

تنهد وأكمل لها القصة، ثم قال بصوت خافت: بعد كدة، حملتي في حور.

اتسعت عيناها بذهول: يعني آني حملت تاني في بنت؟ وسميناها حور؟ طب هي فين؟

صمت سليم لحظه، ومسح وجهه بكفه، وصوته خرج مهزوزا: هقولك، هو إللي جاي صعب يا ماسة، بس لازم تعرفي.

بدأ يروي لها ماحدث بعد حملها، في البداية، كانت تبتسم بفرح وهي تتخيل شكل ابنتها، لكن ملامحها تجمدت حين وصلت إلى الحادثة، اتسعت عيناها، وأنهمرت دموعها دون صوت، وصدرها يرتفع ويهبط بسرعة، كأنها تحاول الهروب من الصور التي يرسمها حديثه.

كان سليم صوته يتكسر بين كل جملة وأخرى، يحاول أن يبدو قويا لأجلها، رغم الألم الذي يعتصره، وعندما أكمل حديثه عن الغيبوبة، كانت ماسة قد وضعت يديها على قلبها، تتنفس بصعوبة.

سليم بنبرة مثقلة: وبعدها فوقت من الغيبوبة، كنت تعبان، وأنتِ فضلتي واقفة جنبي لحد ما رجعت أمشي على رجلي، ورجعت المجموعة وأنا على العكاز.

همست بذهول ودموع تهبط: يعني آني كان هيبقى عندي بنت اسمها حور؟ واتقتلت؟ مين الشراني إللي عمل فينا العملة الوحشه دى؟

سليم بثبات رغم الألم: معرفناش، موصلناش ليهم.

اقتربت منه، أمسكت يده بضعف، بدموع لا تتوقف: طب هي كانت عاملة إزاي؟ كانت شبهي ولا شبهك؟ كانت ريحتها إيه؟!

أغمض عينيه بألم: محدش شافها يا ماسة، اتولدت ميتة، بسبب الطعنة إللي خدتيها، وهما دفنوها.

بنبرة مخنوق: يعني حتى ملحقتش أشم ريحتها؟ ولا أشوف ملامحها؟ ولا حتى أخد صورة صغيرة ليها تبقى ذكرى؟ ليه كده؟ ليه؟ يعني إيه أعيش كل ده وفي الآخر ياخدوها مننا؟ وأنت كمان نمت شهور في غيبوبة، ورصاص ف جسمك، وممكن تموت في أي وقت.

أقترب منها سليم وضم كتفيها برفق، نظر في وجهها المرتجف محاولا تهدئتها: أهدي يا ماسة، أنا دلوقتي كويس، وخلاص عملت العملية ونجحت، ما هي دي يا حبيبتي العملية إللي أنا عملتها وأنتِ زعلتي إني عملتها من غيرك.

فاندفعت تبكي على صدره، فضمها إليه بقوة، يحتضنها وهو يربت على شعرها بحنان وصوته يهمس قرب أذنها: أهدي يا حببتى، بس خلاص أهدي.

أرتجف صوتها وهي تهمس بصوت مبحوح بين أحضانه، ودموعها تهبط على رقبته: ياريت ما كنت حكيتلي يا سليم، آني مش عايزة أسمع حاجة تاني خلاص.

أخذ سليم يربت على ظهرها برفق، كأنه يحاول أن يسكن وجعها، بينما هي تهمس بصوت مبحوح: إللي حصل لنا وحش أوي يا سليم، وحش أوي.

ضم وجهها بين كفيه ومسح دموعها بإبهامه، عينيه تمتلئان حنانا وقلقا: يحببتي إحنا بقينا كويسين، ومع بعض، وده أهم حاجة.

أجابت بصوت منخفض لكنه مشبع بالوجع: بس إحنا اتوجعنا كتير.
وضعت يدها على قلبها فجأة، كأن الألم اخترقها من الداخل، وأغمضت عينيها بقوة وهي تهمس: هنا وجعني أوي، قلبي واجعني يا سليم .

أخذت نفسيا عميقا حاولت أن تهدأ تساءلت: هو لسة فيه حاجة تاني توجع؟

صمت لحظة، ثم تمتم بخفوت: أممم بس مش زي دي.

رفعت نظرها إليه بسرعة، بنبرة رافضة: لا خلاص، آني مش عايزة أسمع حاجة دلوقتي، آني صدعت جدا.

أقترب منها سليم بخطوات مترددة، يمد يده ليمسك كتفيها برفق: خلاص، كفاية كدة النهاردة.

وقفت، وضغطت على صدغها بأصابعها، وهي تهمس بصوت خافت: آني عايزة أشوف حور.

تجمد سليم في مكانه، نظر إليها بدهشة وقلق: تشوفي حور فين يا ماسة؟

رفعت عينها نحوه وقالت بنبرة مهتزة: عايزه أزور القبر بتاعها.

توقف سليم أمامها حاول أن يهدئها: طب يا عشقي، خلينا بكرة و…

هزت رأسها بحدة، عيناها تلمعان بعناد مكسور: لأ، النهاردة، أرجوك يا سليم.

أطلق تنهيدة قصيرة، ثم قال بإستسلام حنون: حاضر يا ماسة.
استدارت، تتجه نحو باب الغرفة، خطواتها غير متزنة، وفجأة، توقفت مكانها، ووضعت يديها على رأسها، وإنحنت قليلا وهي تجز على أسنانها بألم مكتوم، وصوت أنفاسها صار متسارعا كأنها تختنق.

هرع سليم نحوها بفزع: ماسة! مالك؟!

صرخت بخفوت، وهي تمسك رأسها بقوة: مش عارفة، الصور، شفت صور تاني، عربية، دم، حد مطعون.!

حاول أن يسندها بذراعيه: أهدي، استني، خدي نفس، خدي نفس يا ماسة أسمعي كلامي وأرتاحي النهاردة.

فتحت عينيها بصعوبة، الدموع تغمرها، وهمست: لا لا، خلاص، يمكن عشان لسه حكيلي الكلام إللي قولته، أنا هطلع ألبس.

حاول سليم أن يمنعها، لكنه رأى الإصرار الحزين في عينيها، فأكتفى بأن يتراجع بقلق وهو يراقبها تصعد الدرج بخطوات متوترة، بقي واقفا مكانه، يمرر أصابعه في شعره بتوتر شديد، ثم أخرج هاتفه وأتصل بالطبيب بصوت واهن: يا دكتور أنا حكيت لماسة الحادثة، وعايزة تشوف قبر حور دلوقتي، وبعدين جالها صداع، والمره دي حاسس إن فيه ألم بس هي بتحاول ما تبينش، قعدت تعيط كتير لدرجة إن هي قالتلي يا ريتك ما حكيتلي، أعمل ايه؟

أجابه الطبيب بنبرة عمليه: تمام يبقى كدة نوقف الحكايات خالص، يومين تلاتة كده نضحكها، نخرجها، نعملها حاجات بسيطة.

سليم: ماشي، تمام يا دكتور.

أنهى المكالمة، وأسند ظهره إلى الحائط، يغلق عينيه للحظة، قبل أن يتمتم لنفسه بصوت خافت مشوب بالحزن: كفاية عليها وجع لحد هنا.

رفع عينيه للسلم الفارغ، كأن صوته يصلها رغم البعد:أنا أسف يا ماسة لإني السبب في كل دى

توجهت ماسة لغرفتها كانت خطواتها بطيئة لكنها حازمة، فتحت الدولاب، واختارت ملابس سوداء، ووضعت طرحة بلون الحداد، نظرت في المرآة لثواني، كأنها تحاول أن تتعرف على وجهها.

في الأسفل، كان سليم يجلس على الأريكة واضعا رأسه بين كفيه، يفكر في حالها، ثم صعد إلى الطابق العلوي، ليجدها تقف مستعدة بثوبها الأسود، ووجهها الشاحب، فتنهد وقال بهدوء: يلا بينا.

المقبرة السادسة مساء

توقفت ماسة أمام المدفن الشرعي، وعيناها تلمعان بخليط من الخوف والاشتياق هناك مشاعر مختلط لديها غريبة هي بالتأكيد نسيت حور ولا توجد تلك المشاعر التي نعرفها لكن يبدو أن هناك شيء استيقظ بداخلها عندما روى لها سليم القصة ليست مشاعر أمومة أوحتى مشاعر إنسانيه لكنها بالتأكيد تكسر القلب والفؤاد

اقتربت ببطء، نظرت للأسم المنقوش على الرخام: حور سليم الراوي.

شهقت بخفة، ومدت يدها المرتعشة تلمس الحروف بأطراف أصابعها، كأنها تتحسس وجنتي طفلتهاوهو هنا مكتوب أسمها صح؟

أومأ برأسه بصمت، وعيناه لا تفارق ملامحها المنكسرة.

تقدمت أكثر، وضعت كفها على الرخام البارد، وبدأت تهمس بصوت متهدج: حور آنى مش فاكراكي يا بنتي، حقك عليا، حتى بعد ما بابا سليم حكالي مش قادره أفتكركك، بس عارفة إيه إللي وچعني؟ مش إني مش فاكره، اللي وچعني إني نسيتك إنتي، بس خلاص، دلوقتي عرفت إنك كنتي هنا، يمكن مش حاسة بنفس الإحساس إللي كنت حساها ساعتها، بس والله يا بنتي آنى زعلانة عليكي من قلبي، كان نفسي تكوني معايا، أكيد كنت هحبك أوي وإنت كمان كنتي هتحبيني.

ابتسمت ابتسامة كسيرة، ومسحت دمعة سالت على خدها بإصبع مرتعش: ابتسمت ابتسامة كسيرة، ومسحت دمعة سالت على خدها بإصبع مرتعش: آنى طيبة خالص والله، كنت هجيبلك لعب كتير وحاجات حلوه، وبابا كمان طيب أوي، وحنين خالص، آني مش عارفة؟! هو دلوقتي المفروض وآني بصلي أدعي أفتكرك وإني بدعي إني أفتكر كل حاجة؟! ولا أدعي إني مافتكركيش ثاني، أكيد يعني لما أفتكر والذكريات ترجع في دماغي، هتوجع كتير أكتر من دلوقتي علشان ساعتها هكون فهمت وعرفت، أمي كانت دايما تقول كل أما النونو يعقد في بطن الست أكتر، كل ما كانوا بيحبوا ويرتبطوا ببعض أكتر، فآني متأكدة إني كنت هزعل موجعه عليكي خالص، وزعلت أوي، إنتي أكيد في مكان حلو، بس لا ياحور،لا ياحبيبتي، أنا هدعي ربنا، أفتكرك، وأفتكر كل حاجة حلوة وكل الحكاية

ثم أغلقت عينيها، وانحنت على الرخام، وضمت ذراعيها حول نفسها كأنها تحاول احتضان قبر ابنتها،وهي تبكي بحرقة.

بينما سليم وقف خلفها في صمت، يراقب انكسارها ودموعه تحرق وجنتيه دون أن يقترب، فقد كان يعلم أن هذا العناق بينها وبين الغياب لا يجب أن يعكر.

في سيارة سليم طريق العودة إلى الفيلا

كانت ماسة جالسة بجواره، رأسها مستندة إلى صدره، تتنفس ببطء، كأنها تبحث عن الأمان في صوته، يده اليمنى كانت تمسح على شعرها برفق، بينما الأخرى تمسك بيدها الصغيرة، يربت عليها بحنان متكرر، كأنه يطبطب على قلبها بنفسه.

همس بصوت هادئ: أهدي ياعشقي ماتبكيش.

لم تجب، لكنها ضمت أصابعه أكثر، وغفت على صدره في صمتٍ مثقلٍ بالدموع والراحة معًا.

حين وصلا الفيلا، حملها سليم بهدوء، دخل بها غرفة المعيشة، جلس على الأريكة وهي ما زالت نصف نائمة ربت على كتفها بخفة وقال مبتسما:يلا فوقي بقى يا ماستي يا حلوه إحنا رجعنا.

فتحت عينيها بصعوبة، نظرت له بتعبٍ خفيف:مش عايزة أتكلم يا سليم قلبي وجعني..

ابتسم، ومرر أنامله على خدها:ماشي بس على فكرة، أنا مش هسيبك بالمود ده.

ألتفت نحو النافذة، وكأنه قرر شيئا فجأة: تعالي معايا.

ماسة بتردد: رايحين فين؟

ابتسم وهو يمسك يدها: هتعرفي دلوقتي.

خرج بها إلى الحديقة الخلفية، حيث كانت المرجيحة تتمايل برفق بفعل الهواء.

أجلسها عليها، وتوقف خلفها يدفعها بخفة، والهواء يلامس وجهها.

وهي تقلب وجهها بضجر تحاول أن تتوقف لكنه جعلها تجلس أقعدي ما انتي هاتضحكي يعني هاتضحكي غصب عنك.

نظرت له من فوق كتفها، بإبتسامة باهتة: بجد مش قادرة أضحك ولا عايزة أتمرجح أصلا.

أقترب منها، خفف الدفع، ثم همس بخبث:طب ماشي… بس أنا عندي حل تاني.

قبل أن تفهم ما يقصده، حملها فجأة بين ذراعيه، وسط صرختها الصغيرة: سليييم! إنت بتعمل إيه؟!

ضحك وهو يسير بها نحو حمام السباحة: بقولك هتضحكي يعني هاتضحكي!

صرخت وهي تلوّح بيديها: لااااااا! سليم بلاش!

لكنه كان قد قفز معها في الماء في لحظة واحدة، فتطايرت الرذاذات حولهما، وملأت الضحكة أخيرا وجهها.

كانت تضحك بقلبها، ترفس الماء بقدمها وتقول وسط ضحكها: إنت رخم!

ضحك هو أيضًا، وصوته يغرق في الدفء: رخم جدا،ومبسوط إنك ضحكتي.

ظلت تنظر له للحظة، والماء يتلألأ على وجنتيها، ثم همست بخفوتٍ مليء بالعاطفة: بس قلبي وجعني أوي.

أقترب منها أكثر، رفع خصلات شعرها المبللة عن وجهها، وقال بصوت وديع: وأنا مستحيل أسمح إن القلب قطعة السكر يفضل موجوع كده..

وضع قبلة طويله على عينيها ثم ضمها بين أحضانه وأخذ يدغدغها وهي تصرخ ثم يرش الماء عليها يحاول أن يخرجها من المود يعرفها جيدا عندما كانت في هذا السن كانت من السهل أن تنسى بسرعة احزانها بتلك الطرق ما مضت إلا دقائق وبدأت ماسة أن تدخل معه في المود وتغرقه وتلعب معه بسعادة،بعد وقت خرج سليم وماسة من المسبح

حملها سليم إلى غرفتهما بخطواتٍ هادئة، والماء يقطر من أطراف شعرها المبلل كانت ترتجف قليلا من البرد، وملامحها مازالت تحتفظ بآثار الضحك الذي غمرها قبل دقائق.

فتح باب الغرفة، أهبطها برفق في المنتصف توقف أمامها وألتقط منشفة صغيرة من فوق الكومود.

مرر المنشفة على شعرها بحنانٍ بالغ، يتحرك ببطء كأنه يخشى أن يوقظ ألما نائما في قلبها، كانت عيناها تتبعه في صمت، تنظر إليه بنظرة فيها امتنان وشيء من الخجل.

قالت بصوت خافت وهي تلمس أطراف المنشفة:سليم سيبني أنا أعمل كدة.

ابتسم، ولم يتوقف: لا، انا عايز ادلع قطعة السكر بتاعتي.

خفضت رأسها أكثر، ويديها متشابكتان في حجرها، همست بخجل طفولي: حاسة منظري يضحّك.

ضحك بخفوت، صوته دافئ كنسمة ليلية:منظرك؟ ده أحلى منظر شفته في حياتي.

تنهدت وهي تحاول تخفي ارتباكها، شعرها يلتصق بوجنتيها، فمد يده بلطف وأبعد خصلة عن وجهها، ثم نظر إليها طويلا دون أن يقول شيئًا.

رفع عينيه أخيرا وقال بنبرةٍ وديعة كأنها وعد:أنا مش عايز أشوف الحزن ده تاني في عينيك، فاهمة؟

أومأت برأسها بصمت، ولم تجبه كان كل ماتقدر عليه في تلك اللحظة هو أن تترك نفسها في هذا الدفء الذي اشتاقت له طويلا ظل يجفف شعرها حتى جفّ تقريبا، ثم قال سليم بحنان: يلا يا عشقي، أدخلي غيري هدومك قبل ماتتعبي.
وتعالي نكمل الفيلم إللي أتعطل بسببك.

ضحكت بخفوت، وقالت وهي تنظر له من طرف عينها: هو أني السبب في كل حاجة؟

رد مبتسما: في الحلو وفي إللي بعده كمان.

دخلت المرحاض لتبدل ملابسها، بينما خرج سليم ودخل غرفة أخرى وأخذ حماما دافئا وبدل ملابسه، وعاد تلى غرفتها تمدد في انتظارها بالفراش وبعد دقائق، خرجت بثياب نظيفة، شعرها مازال رطبا قليلًا، تفوح منه رائحة الشامبو والهواء.

نظر إليها سليم نظرة طويلة دافئة، ثم مد يده بهدوء وقال: تعالي.

اقتربت منه بخطى مترددة، تمددت بجانبه حيث وضعت راسها على صدره أحاطها بذراعيه بحنان كأنها كل ما يملك، وكانت أصوات الطيور في الخارج تملأ المكان بسكونٍ حنون.

ماسة بصوتٍ واهن: آني تعبت أوي النهاردة يا سليم.

وضع سليم قبلة طويلة على راسها وهو يمرر أصابعه في شعرها: ما تفكريش في حاجة دلوقتي، إنتي بس ريحي دماغك.

أغمضت عينيها وهي تتمسّك بيده: قلبي وجعني أوي.
بس عايزة أعرف الباقي عشان يبقى وجع مرة واحدة أمي كانت تقوللي كدة أعرفي المصيبة كلها مرة واحدة لو عرفتيها متقطعة قلبك يوجعك أكثر.

سليم بهدوء: سلامة قلبك يا كل قلبي، بس خلاص كفاية عليكي النهاردة الدكتور إللى قال كدة

همست وهي نصف نائمة: هتفضل جنبي؟

ابتسم ومسح على رأسها: طول ما أنا عايش، عمري ما هسيبك.

سكنت تماما بعد كلماته، وراح صوت أنفاسها يختلط بأنفاسه، حتى نامت بين ذراعيه، بينما ظل هو ينظر إلى وجهها في صمت طويل، كأنه يحرسها من أي ألم ممكن يقرب منها مرة تانية.

فيلا عائلة هبة

الصالون

جلس ياسين على الأريكة، ذراعه يحتضن الصغيرة نالا وهي تضحك بصوتٍ رقيق، قبلها على وجنتها ضاحكًا وقال بحنان:
يلا يا نالا، روحي مع دادا شوية.

ناولها للـ«دادا»، وخرجت الأخيرة، أُغلق الباب خلفها،سكن الصالون فجأة، وبقي ياسين وهبة وحدهما، وبينهما صمت أثقل من الجدران.

أطرق ياسين رأسه للحظة، يحرك خاتم زواجه بين أصابعه، ثم قال بنبرةٍ هادئة تخفي توتره: إيه… فكرتي؟

رفعت هبة نظرها إليه ببطء، عينيها متعبة، وصوتها منخفض لكنه ثابت: فكرت بس محتاجة أسمع قرارك الأول.

تنفس ياسين بعمق، مسح كفه على وجهه كمن يستعد لقول صعب: بصي يا هبة أنا فكرت، وحسيت إننا مش هينفع نكمل..

نظر إليها مطولًا، ثم حرك رأسه بأسى:أنا مش مبسوط،ومش قادر أبقى سعيد، إنتِ اتغيرتي كتير عن أول جوازنا، بقيتي عقلانية أكتر من اللزوم، وأنا، أنا مش عايز أعيش حياة كلها حسابات ورتابة، من وقت ماخلفنا نالا وأنا بحاول أصلح، أقرب، بس بعد موضوع سليم ورشدي، بقيتي بتعامليني كأني متهم، وأنا ماليش ذنب.

شبكت هبة أصابعها ببعضها فوق ركبتها، تحاول تسيطر على ارتجاف يديها، بينما عيناها تلمعان بخفوت.

تابع ياسين وهو ينظر للأرض: كمان، إنتِ عقدة حياتك بقت أهلي..
نبرته أرتفعت قليلاً، فيها وجع مكبوت: أسلوبك وطريقتك في الكلام عنهم مش كويسة، حتى لو ليكي حق في حاجات، مهما كان دول أهلي، ليه تاخديني بذنبهم، ونسيتى ياسين.

سكت لحظة، رفع نظره إليها، صوته أنخفض: يمكن اللحظة إللي رفعت فيها إيدي عليكي كانت النهاية بالنسبالي..
غمض عينيه ثواني، كأنه يحاول طرد الصورة: حاولت أكمل، بالعشرة، بالرومانسية، بالعلاقة، بس حتى دي مابقتش فيها روح بقيت مجرد واجب.

عضت هبة شفتها، تنفست ببطء، رفعت حاجبها بكبرياء: ياسين من غير كلام كتير، أنا كمان كنت ناوية أقولك نفس الكلام..
نظرت له بثبات: أنا قررت الطلاق.

تجمّد وجه ياسين لحظة، ثم حرك رأسه بهدوء، صوته خرج مبحوحا: يبقى متفقين،بس مش دلوقتي… بعد خطوبة رشدي الخميس الجاي نبدأ الإجراءات، ونبلغ العيلة
نظر لها بخفوت:وياريت تيجي ومعاكي نالا، ولو مش هاتيجي، أبعتيها مع حد.

نظرت هبة في إتجاه النافذة بجمود: ماشي… طب والبنت؟

رد بهدوء ثابت وهو ينهض: نالا هاتعيش معاكي طبعا، أنا مقدرش أحرِمها من مامتها، بس هتيجي عندي في الويك إند والإجازات.

هبة رفعت كتفيها بلامبالاة مصطنعة: نشوف الكلام ده بعدين يا ياسين.

أومأ برأسه، ألتقط مفاتيحه من الطاولة، وقال وهو يشيح بنظره عنها: تمام بعد إذنك.

خرج بهدوء، والباب أغلق كأنما أغلق فصلا من حياتهما.

ظلت هبة في مكانها، تحدّق في الفراغ أمامها، ثم نظرت نحو الكوب الفارغ على الطاولة،مدت يدها تلتقطه، لكنه أنزلق من بين أصابعها وسقط على الأرض، ارتجفت، شهقت، ثم غطت وجهها بكفيها عيناها امتلأتا دموعا، تنهمر واحدة تلو الأخرى، حتى أنهارت بصمت مكتوم.

قامت بخطوات متعثرة نحو غرفتها، جلست على طرف الفراش، ظهرها منحنٍ، وكتفاها يهتزان من البكاء.

بعد لحظات، فتح الباب بهدوء، وظهرت والدتها، وجهها فيه قلق اقتربت وجلست بجانبها، وضعت يدها على كتفها وقالت بنبرة فيها عتاب أكثر من حنان: مش ده إللي كنتِ عايزاه؟ بتعيطي ليه؟ولا علشان هو إللي قالها الأول؟

رفعت هبة وجهها، دموعها غرقانة على خدودها، وصوتها مبحوح: لا بس كنت فاكرة لما أقول له عايزة أطلق، هيحاول يتمسك بيا يقولي نصلح، نحاول ماكنتش متوقعة إنه هو كمان قرر يسيبني.

تنهدت سامية، هزت رأسها ببطء: بس أنا سألتك يا هبة، لو قالك “أنا عايزك” وطلب فرصة، قولتيلي لا كنتي مصممة على الطلاق مالك دلوقتي؟ زعلانة علشان هو وافق؟ ولا كنتي عايزة تشبعي غرورك، ويتسمك بيكي وانتي اللي تقولي لا؟

هزت هبة رأسها، تحاول تكتم شهقتها: مش كده بس أنا ماطغلطتش في حاجة عشان هو اللي يبقى مش عايزني.

مدت سامية يدها تمسك بإيدها بحنان: بدل ماهو مضايقك من زمان، ماخلصتيش ليه من بدري؟

هبة نظرت للفراغ، صوتها خرج متكسر: ماكنتش عايزة أبقى مطلقة، وكنت فاكرة إن حياتنا مش مستحيلة، مافيش حياة من غير مشاكل وكمان علشان نالا، لأن خناقاتنا تافهة.

سامية بهدوء: ياسين محترم، وعمره ما أذاكي فكري تاني يا هبة.

هبة تنهدت بتعب: لو فكرت،خلاص، هو قال مش عايزني.

سامية تمسكت بأمل أخير: عادي، لو قولتيله عايزة فرصة تانية، هيوافق، ياسين عشرة سنين يابنتي، ومشاكلكم تتحل.

نظرت لها هبة بصمت طويل، ثم حركت رأسها بخفوت، عيناها مبلولة، وصوتها مبحوح: يمكن خلاص مافيش حاجة تتحل يا ماما.

منزل عثمان السابعة مساء
دخل عثمان بخطواتٍ هادئة، كأن التعب يسحب قدميه استقبلته زوجته ببسمة دافئة وهمس خفيف:إنت جيت؟

هز راسه بإيجاب:آه، جيت، أعمليلنا بقى لقمة حلوة ناكلها.
طب روح غيّر هدومك عقبال ما أغرف. جبت الفلوس عشان مدارس العيال؟

أومأ برأسه: آه، جبتهم.

توجه إلى غرفته جلس على طرف الفراش، خلع ساعته ببطء ووضعها على الكومودينو،أخرج مسدسه ووضعه بجوارها زفر تنهيدة طويلة، كأنه يفرغ ما بقي من روحه، وتمدد على الفراش أغمض عينيه ثوان، فتحهما على الدولاب المقابل له بقي يحدق فيه بصمت ثقيل، كأن شيئا بداخله يناديه، نهض بخطوات مترددة، اقترب من الدولاب وفتحه امتدت يده إلى خزنة صغيرة في الداخل، أدار مفتاحها، ثم أخرج منها علبةخشبية صغيرة،فتحها ببطء، فظهرت أمامه توكة شعر عليها أثر دم قديم، بدا أنها تلطخت فعلا بالدم، أمسكها بين يديه، وارتجف صدره مع دقات قلبه المتسارعة رفعها إلى أنفه وشمها، كأنها تحمل رائحة ماضي لم يمت بعد أعادها مكانها بحذر، ثم سحب صورة من تحتها،حدق فيها طويلا، وعيناه
تمتلئان ببحر من الذكريات،مد أصابعه يتحسس ملامح الوجه في الصورة، بعاطفةٍ متوترة، لكننا لا نعرف من يوجد بها.
استووب
تفتكروا مين اللي في الصورة؟ وإيه إللي ورا عثمان؟

أضف تعليق