رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2 – الفصل العاشر 10
[بعنوان: بدايه جديدة]
خرج صوته متقطعا بصدمة: ايه اللي أنتِ بتقوليه ده يا سارة؟ أنتِ اتجننتي؟ مش ولادى أزاى؟
اقتربت منه وقالت بهدوء وهي تثبت نظرها في ملامحه: لا متجننتش، ومعايا دليل على كلامي.
سحبته من يده نحو الغرفة، ثم أفلتتها واتجهت إلى الدولاب تفتحه بعنف، وأدخلت الرقم السري في الخزنة، وبسرعة وغضب أخرجت ملفا يحوي أوراقا كثيرة، وانتزعت منه تحاليل الـDNA الخاصة بالطفلين التي تثبت صدق كلامها، ثم تقدمت نحوه كالعاصفة وصرخت فيه: اتفضل شوف بنفسك مراتك اللي بتزعقلي عشانها مستغفلاك ازاى يا حبيبي.
أخذ عماد ينقل بصره بينها وبين الأوراق بصمت لحظة، ثم انتزعها منها، يمرر عينيه على ما كتب فيها، وسرعان ما اشتعل الغضب في عينيه، وصاح بغضب:
بنت الك*لب! بتخوني أنااااا؟
ثم تقدم نحوها وامسكها من كتفها بقسوة، وهو ينظر داخل عينيها: أنتِ كنتي عارفة ومقولتليش؟
سارة بهدوء وخبث: بصراحة محبيتش أزعلك ولا أضايقك…
ثم قلبت عينيها وصوتها خرج أقوي: بس لما شوفتك بقى بتدافع عنها باستماتة كده، قولت لازم اعرفك عشان تفوق، وتعرف إن صافيناز حيه، حتى عليك.
جز عماد على اسنانه وهو يتحدث بلوم وتهكم: كان لازم تقوليلى يا سارة، ازاي هونت عليكي كل ده تسبينى زى المغفل وهى بتخوني.
ابتسمت بسخرية وكأنها تتلذذ بالتلاعب به: أهدى على نفسك يا حبيبي، هي مخانتكش.
ضيق حاجبيه باستغراب: مخانتنيش ازاى؟؟ أنتِ عايزه تجننيني يا سارة؟؟
وقفت أمامه، وقالت ببرود وهدوء وهي تلتقط من الملف أوراق التبنى وتمد يدها بهم: سلامتك من الجنان ياعمده، بس هي فعلا مخنتكش، اتبنتهم.
ثم تحركت وهي تضيف بهدوء وتوضيح: لما راحت أمريكا جالها نزيف من كتر الشغل، التوأم اتولدوا ميتين وشالوا لها الرحم، وواحده زي صافيناز الراوي مقدرتش تتحمل خبر زي ده! يعنى كل إخواتها عندهم أولاد وهي لأ، فاضطرت تتبنى الطفلين دول.
كان عماد يصغي إلى الحديث بصدمة، يحاول ابتلاع غصته، وقد شعر أن صافيناز قد خدعته، وأنه لم يكن سوى مغفل.
لم تتوقف سارة عن حديثها، وتابعت على نفس ذات الوتيرة: أنا شكيت يوم ما زين اتعور وكان عايز نقل دم، وقتها عرفت إن فصيلته مش نفس فصيلتك لا أنت ولا هي، ساعتها حسيت إن في حاجة غلط، أخدت خصلة شعر من مريم وزين وعملت تحليل DNA، وعرفت إنهم مش ولادك، بعد كده روحت أمريكا عشان أجمع الخيوط، وهناك فهمت اللعبه.
شد عماد على أسنانه حتى برزت عروق رقبته، وخرج صوته غليظ وهو يتمتم بمرارة تجري في حنجرته: بنت الك”لب، تضحك عليا أنا، وتلبسني عيال مش عيالي.
رفعت سارة رأسها إليه، وقالت بستهجان: ومالك زعلان أوى كده ليه إنهم مش ولادك.
ضحك عماد ضحكة قصيرة بعصبية، وهو يصيح بتهكم: يعني إيه زعلان ليه؟ أنت عبيطة يا سارة؟ يعنى بعد السنين دى لما اكتشف إن ولادى مش ولادى مزعلش؟
وقفت سارة ثابتة للحظة ثم قالت بفحيح أفاعي: أيوه طبعا متزعلش، بالعكس دي جتلنا لحد عندنا، هو أنت مسألتش نفسك ليه صافيناز قبلت بكل الإهانة والشروط دي؟! أنا متأكدة إن عزت عرف وابتزها، إحنا كمان هنبتزها.
قلب عماد وجهه بضجر وهو يقول بتهكم: ابتزيها؟ أنا هروح اخنقها وأطلقها، أنا أخدت منها كل حاجة خلاص، صافيناز حاليا متتحكمش على جنيه واحد.
ضحكت سارة وهى تقف أمامه بستهجان: اهو هو ده بقى العبط بعينه، الحاجة معانا أه، بس أوعى تنسى يا حبيبي إن أهلها مها حصل هيفضلوا معاها؛ مش هيقبلوا إنك تضحك على بنتهم، هيجبوك ويقتلوك ويقتلوني…
اضافت بنبرة ساخرة خبيثه: أوعى تكون فاكر يا عمدة إن سليم الراوي وعزت الراوي ميعرفوش إنك متزوجني؟! أنت نسيت إن سليم كان بيراقبك، يعنى أكيد عرف وسكت، وعزت بعد اللي حصل أكيد دور وراك، وبردو سكت، ومعنى إن هما عارفين وساكتين يبقى الموضوع على هواهم.
رمقها عماد بعينين ملتهبتين بالتعجب، ورد بغضب:أنتِ عايزيني أسكت واتعامل معاها عادي؟
زفرت سارة وهي تقول بتوضيح كأنها ترسم خطه شيطانيه ماكرة: إحنا لازم ناخد كل حاجة بالعقل، انسي الأسهم خلاص بقت مع سليم واستحالة ترجع، والملايين اللي أخدناها من صافيناز ولسه هناخدها، دي اللي هنلعب عليها، والمجوهرات لازم تيجى هنا حته حته، احنا للأسف مش هنقدر نبتزها دلوقتي لأن ممكن تروح تلجأ لأهلها، ودلوقتي احنا معندناش اللي يحمينا.
صمتت لحظه وكأنها تذكرت شيئا، فقالت بتساؤل: هو أنت ينفع تكلم تيمو أخو إريك؟ لو وافق يساعدك ممكن فعلا نبتزها، نبعت لها رسايل إن إحنا هنعرفك الحقيقة، وساعتها هناخد منها اللى أحنا عايزينه واهو نلعب باعصابها شويه.
تنهد عماد بضجر: أنا معرفش تيمو ولا ليا علاقة بيه، وانسي إني أطلب من اريك حاجة، ده بيهددني بيكي.
نظرت سارة للإمام، وهي تقترح الحل النهائي بصوت هادئ مرعب: يبقى مفيش غير حل واحد، نخليك زوج المرحومة صافيناز الراوي.
عقد عماد حاحبيه من هول المقترح، وسأل بصوت خافت متهدج: أنتِ عايزاني أقتلها؟
ردت سارة بذكاء، يرتسم على وجهها كخطة سوداء:
لا مش بالقتل المباشر، هندوقها من نفس الكأس اللي دوقت منه رشدي، هنديها حبوب تخليها تفقد السيطرة، نبدأ بحاجة بسيطة عشان كمان، وأنت بتاخد المجوهرات متركزش معاك، لحد ما تدمن وتموت بجرعة زايدة…
ارتسمت على شفتيها ابتسامة شرانيه وهي تقول بفحيح افعي: ساعتها أنا هظهر، وهتاخدني ونسافر، وهم هيبقوا عايزين ياخدوا فلوسهم! أنت بقي تقولهم لو حد فيكم فكر يقف ضدي أو يأذي مراتي أنا هقول لسليم، ومعايا ما يثبت، ولو فكرتوا تقتلوني أنا ومراتي عادي، في طرف تالت معاه كل حاجة بالصوت والصورة، فخلينا حبايب أحسن، وكده كده اللي أنا أخدته حاجات بسيطة، وممكن كمان نساومهم على نسبه من الأسهم.
كان حديثها يقطر خبثا وشرا، زفر عماد بغضب مكبوت: أنا مش طايق صافيناز، وأنتِ عايزاني ارسم خطط واستنى؟ سارة أنا بجد حاسس بنار جوايا، إنها استغفلتنى كل السنين دي.
لم تهدئ سارة، وقالت في محاولة لإقناعه بخططتها:
يا حبيبي ما أنا قولتلك مخاننتكش، اتبنتهم، فخلاص فكك بقي واهدى كده، وانتقم وخد حقك بمعلمه.
حدق عماد بعينين مشتعلتان بالغضب: أنا مش طايقها، ولو شوفتها قدامي هقتلها.
ربتت سارة على صدره تحاول تهدئه بمكر: لا مش هينفع دلوقتي، اهدي، أنا قولتلك هنقتلها بس بذكاء وهتاخد حقك منها، إحنا مش عايزين نتهور.
جلس عماد بتعب، وهو يمسح على جبينه بيد مرتجفة: سارة استني عليا لحد ما استوعب؛ لأني لو روحت دلوقتي وشفتها قدامي أنا مش عارفة هعمل إيه.
ضحكت وهي تجلس بجانبه: عادي يعني، ما احنا ضحكنا عليها واستغفلناها برضو، متأفورش، وبعدين هي عملت كده عشان متسبهاش، وعشان تبقى زيها زي أخواتها عندها أولاد.
ثم تابعت بنبرة شامته: بس شوف ربك اللي عملته في سليم حصلها، زي ما سقطت حمل ماسة الأولاني واقنعتك تقتل حور بأيدك، ربنا خلاها تتحرم من الأمومه للأبد، صدقني هو ده الحل خلينا نخلص على صافيناز ونهرب قبل ما المعبد يتهد.
نظر إليها بصمت، وهو يشعر بنار تشتعل في رأسه، عاجزا عن اتخاذ قرار.
في أحد الكافيهات الرابعة مساء
نرى رشدي ومي يجلسان متقابلين، بينما يقترب النادل لتدوين الطلب.
نظر رشدي للقائمة، وهو يقول: خلاص يبقى كده اتنين ستيك مشوي مشروم، واتنين مكرونة وايت صوص.
تحرك الجرسون مبتعدا، فمال رشدي بجسده للأمام وقال بنبرة مازحة: وانا اللي كنت فاكر إنك هتقولي أنا قولتلهم وتعالى بكرة اتقدم.
ابتسمت مي بدهشة، وهي ترفع حاجبيها: بكرة؟! هو أنا لحقت، دى أنا لسه كنت عندكم امبارح، بس هكلم بابا النهارده إن شاء الله.
ابتسم رشدي وحرك يده في الهواء، فتقدم شوقي بخطوات هادئة، يحمل علبة هدايا صغيرة.
أخذها رشدي منه، وقدمها لمي بابتسامة: اتفضلي.
ابتسمت مي وهي تفتح العلبة بحرص، ثم اتسعت عيناها بانبهار حين رأت حمامة مصنوعة من السلك الحديدي، منمقة بعناية.
مي بإعجاب صادق: الله يا رشدي، حلوة أوي! أنت عاملهالي أنا؟
مرر رشدي يده على رقبته بخجل: امبارح لما عجبوكي الحاجات اللي أنا كنت عاملها، بعت وجبت أدوات واشتغلت عليها طول الليل، نسيت نفسي وأنا بشتغل.
امسكت مي الحمامة بإعجاب، وقالت بتشجيع: مبسوطه إنك رجعت تعمل الحاجه اللي بتحبها، ايوه كدة كمل.
رشدي بنظرة صادقه: أنتِ الوحيدة اللي تستاهلي اني ارجع لهوايتي علشانك، واخترت الحمامة عشان بيقولوا إنها رمز السلام والمحبة.
ابتسمت مي، وعينيها تلمع: صدقني دي هتبقى من أغلى الهدايا اللي عندي، ميرسي.
رشدي بإحراج: أنا عارف إنها مش قد المقام و..
قاطعته مي بسرعة، ملوحة بيدها: متقولش كده! بالعكس لو كنت جبتلي هدية غالية، مكانتش هتعجبني زي دي، لأن دى أنت عاملها بإيدك، فبالنسبالي قيمتها كبيرة جدا، لأنها معموله بمشاعر حقيقه وصادقه.
ثم تابعت بحماس: إيه رأيك تفتح مشروع بالحاجات دي؟ أنا عارفة إنها حاجه بسيط بالنسبة لشغلكم، بس ممكن تطور فيه وتعمل أشكال كتير، أنت موهوب وهتنجح.
هز رشدي رأسه بابتسامة باهتة: عمري ما فكرت كده، دي حاجة بتاعتي أنا، ومش حابب حد يشاركني فيها، دي للناس اللي بحبهم بس.
جاء الجرسون مرة أخرى، ووضع الطعام على الطاولة ثم رحل، فبدأ الاثنان في تناول الطعام.
تساءل رشدي وهو يقطع قطعة من اللحم، وينظر لها بترقب: يعني خلاص، هتكلمي باباكي النهارده؟ عشان لو كده آخر الأسبوع اتقدملك.
مي بابتسامة هادئة وهي تغرز شوكتها في المكرونة: ماشي.
💞______________بقلمي_ليلةعادل
الاسكندريه، المركز الطبي
الكافتيريا الرابعة مساء
جلس مصطفى عند طاولة قريبة من الزجاج، أمامه كوب شاي، وعيناه غارقتان في شرود طويل، وذهنه يلوذ بصورة ماسة التي لا تفارق خياله ابدا.
راقب محمد صديقه من بعيد، ثم اقترب منه بخطواتٍ هادئة، وتنهد قبل أن يسحب المقعد المقابل ويجلس، ثم نظر إليه طويلا قبل أن يقول بصوت خافت:إيه يا عم، مالك؟ قاعد لوحدك ليه؟
رفع مصطفى رأسه ببطء، وقال بصوت مبحوح: مفيش، أنت أيه الاخبار؟
اومأ محمد: كويس، أخبار ندى إيه؟
مصطفي بصوت مكتوم: اتحجزت في مصحة نفسية.
اومأ محمد برأسه: دى الصح واللى كان المفروض يتعمل من زمان…
ثم تابع باسفسار: سمعت إنك قابلت سليم؟ فيه حاجه ولا ايه؟
حرك مصطفى كوب الشاي بين يديه: جيت أطمن عليها كنت خايف يكون عمل فيها حاجة بعد كلام ندى.
محمد بتساؤل: طب وهو عمل ايه؟
مصطفى بهدوء ورزانة: الحمد لله، مصدقهاش؛ قالي إنه واثق فيها.
شبك محمد أصابعه على الطاولة، وحاول أن يخفف حدة صوته: حلو، خلاص اطمنت عليها، اهي رجعت لجوزها، نفوق بقى ونركر في حياتنا.
رفع مصطفى عينيه نحوه بنظرة فيها إصرار غريب:
لأ لازم أنقذها منه، أنا لا يمكن اتخلي عنها ابدا.
محمد بصوت يتقطع بعصبية مكبوتة: تنقذ مين يا ابني؟ دى جوزها، فوق بقى! أنت بنفسك لسه قايل إنه معملش حاجة وواثق فيها، وشوفته بعينك يوم ما جه خدها مأذاهاش ولا أذاك، كل ده ولسه مش مقتنع؟
أشاح مصطفي ببصره بعيدا، وقال بتوضيح فيه مرارة: اصلك مشوفتش اللي أنا شوفته، أنا بس اللي شوفت الجروح على جسمها والخوف في عينيها، محدش شافها زي يا محمد.
أطلق محمد تنهيدة طويلة ومسح على وجهه، وتساءل بترقب: أنت حبيتها يا مصطفي؟!
هز مصطفى رأسه، وابتسم بسخرية خفيفة: هتعمل زى ماما أنت كمان، أنتم ليه مصريين إني بحبها؟
ضيق محمد عينه، وتساءل بشك: عايز تفهمني؟ إن اللي بتعمله ده مش حب؟
اتكأ مصطفى على ظهر الكرسي، وقال بوجع ظهر في صوته: لا مش حب، ولو حب فهو حب أخوي، ماسة مغلوبه على أمرها وملهاش حد، أهلها ناس بسيطة وطول عمرهم عايشين سخره، شافوا ابنهم بيتضرب بالنار من جوز بنتهم وخافوا وسكتوا، هو نفسه هددها، عايزني أسيبها تعيش مقهورة وتحت التهديد؟ لو كنت عارف إنها عايشة معاه بإرادتها وسعيدة كنت سبتها، بس هي عايشة مرعوبة وخايفة على أهلها، وخايفة علينا أحنا كمان.
صمت للحظة، وصوته انكسر وهو يضيف: ماسة عاملة زي أمي بالظبط، أمي اتوجعت واتبهدلت كتير، ومحدش وقف جنبها، كنت بسمع بكاها طول الليل وأنا صغير، كنت بسمعها وهي بتكتم أنينها، وظهرها يوجعها من مسح السلالم ومن قعدتها على مكنه الخياطة عشان تعلمنا.
رفع عينيه لمحمد، وارتعش صوته قليلا وأضاف: أنا بحاول أنقذها من المصير اللي أمي عاشته، ولو أقدر أساعد كل ست جوزها بيهينها ويذلها ويفترى عليها، مش هتأخر.
صمت محمد لحظه، وعيناه تلمعان من التأثر، ثم حرك رأسه ببطء وقال بهدوء تام:سليم غير عبد الحميد يا مصطفي، في فرق كبير.
مصطفى بنبرة حاده مريرة: الاتنين واحد، بس كل واحد بيوجع وبيأذي بطريقته.
أطرق محمد للحظة، ثم رفع نظره بتساؤل: طب وأنت ناوي تعمل إيه؟
مصطفى بحزم متلبد: أنا عايز أتواصل مع ماسة وأفهمها إنها مش لوحدها، أنا جنبها ومش هتخلي عنها ابدا زى ما وعدتها، بس صدقني لو سمعت منها إنها رضية تعيش معاه، وهتكمل بإرادتها، هبعد فورا.
تساءل محمد بدهشة: ودي هتعملها إزاي بقى؟
ابتسم مصطفى بغموض: هلاقي طريقة، بس أنا عايز اقدم استقالتي مش هننفع اقعد تاني في المستشفى، أنا شديت مع سليم جامد، لدرجة كنت هضربه وهددته.
اتسعت عينا محمد، وظهر على وجهه غضب مختلط بدهشة: الله يخرب بيت عقلك يا مصطفي!
تنهد وأضاف بيأس: والله يا مصطفى أنا فاهم إنك بتحاول تصلح وجع قديم، بس أنا خايف عليك، سليم مش إنسان عادي، ده مافيا، وبعدين أنت ناسي الشرط الجزائي اللي مضينا عليه في تعينا؟!
ابتسم مصطفى بابتسامة بسيطة: وأنا مش خايف، لأني معايا ربنا، هتتحل إن شاء الله
ثم خيم الصمت على المكان، ولم يدرِ مصطفى ما يقول، إذ تشابكت الأفكار في رأسه، ولم يبقَ فيها سوى أمر واحد يشغل ذهنه ويحركه الآن: كيف يصل إلى ماسة وينقذها من مصيرٍ يعرفه جيدا؟
فيلا عائلة ماسة، الرابعة مساء.
امتلأت الصالة بأصوات العائلة، اختلطت الضحكات بالأحاديث المتفرقة، وعم الجو دفئا رغم القلق العالق في أعينهم.
تنهدت سعدية بارتياح، ولمعت عيناها بدموع محبوسة وهي تردد: أخيرا اطمنت على بنتي، إنها نايمة في بيتها مرتاحة.
اتكأ مجاهد على الأريكة، وقال بصوت مبحوح: الحمد لله، ده فضل ونعمة من عند ربنا، امبارح قعدت أصلي وأشكر ربنا إنه حافظ على البنت، وأدعي كمان للناس اللي ستروا عليها.
مال عمار بجسده للخلف، وابتسم نصف ابتسامة: الحمد لله، الواحد كده قلبه يهدى.
اعتدلت سعدية في جلستها: بس شوفتوا سليم اتغير خالص إزاي!؟
يوسف بضجر: أنتِ طول عمرك بتحبي سليم، يا أمي، وبتبرريله كل حاجة.
حرك مجاهد يده في الهواء كأنه يوقف الجدال: بس دي الحقيقة، أنا حاسس إنه رجع زي زمان سليم اللي عرفناه وحبيناه، حاسس إن ربنا هداه ورجع لعقله، وبعدين لازم نقول كلمة حق أختكم غلطت في حقه، عارف يعني إيه ست تهرب من جوزها؟ حتى لو اللي عمله معانا كان صعب، أنا قولتلها امبارح أنا مسامح، المهم يعيشوا مع بعض مرتاحين ويرجعوا زي زمان.
أومأت سعدية بسرعة، وقالت بتأيد: بالظبط! هو ده المهم، إن ماسة رجعت بالسلامه وهو معملهاش حاجه، واحنا مشوفناش منه حاجة وحشة من ساعة ما هربت، حتى امبارح سلم علينا باحترام وطلع، والبت بتقول إنه طول الوقت بيعتذرلها، فمش عايزين نفتري..
وأضافت وهي تشير بيدها في تحذير: وأنتم تبطلوا اللي بتعملوه ده، وبالذات أنتِ يا سلوى يا سوسة! أوعي تسخنيها عليه تاني، ملكيش دعوة، خليكي في نفسك يا أختي.
شبكت سلوى أصابعها في حجرها وقالت بصوت منخفض لكن واضح: أنا مش هتدخل في حاجة، أهم حاجة عندي إن أختي تبقى كويسة وفي أمان ويبعد عننا بشره، غير كده مليش دعوة.
تساءل عمار بتردد: بس هو هيسمحلنا نكلمها ونشوفها؟
تنحنح مجاهد وقال بهدوء: ماسة قالت إنه سابلها التليفون، احنا مش عايزين نكلمها دلوقتي، نستنى يومين، لو ماسة متكلمتش، نكلمها إحنا.
رفعت سعدية يديها للسماء، وقالت بدعاء ودموعها تلمع على وجنتيها: ربنا يهديك يا سليم ويصلح حالك، ينضف قلبك من كل ذرة شر، ويهديكي يا ماسة يا بنتي وتبطلي العند اللي أنتِ فيه دى، وترجعوا زى زمان وأحسن، ويرزقكم بطفل صغير يصلح لكم الحال ويقربكم من بعض أكتر يارب.
ضرب يوسف كفا بكف، وقال مستغربا: والعيل الصغير هيجي إزاي؟ أنت ناسيه إن سليم أصلا عنده مشكلة، بسبب الرصاصه اللي في ظهره.
رمقت سعدية ابنها بنظرة صارمة: ربك قادر علي كل شيء، وبعدين الحادثه دي من ٦سنين، وهو كان بيتعالج، ربك خلق الدنيا في ٦أيام! فقادر ربنا يشفيك يا سليم يا ابن فايزة ويهديك على البت، ويهدي البت عليك يارب.
نظر مجاهد لسعدية وتمتم: بقولك إيه يا سعدية، يومين كده، لو متصلتش، اتصلي أنتِ، واسأليها ينفع أجيلك ولا لا؟ لو ينفع روحي وانصحيها وخليها تدي له فرصة وتنسى، قوليلها إحنا مسامحين، وخليها تفتكرله الحلو، وتقوله أنا هسامحك وهعدي، بس أنت كمان صلح من نفسك ومتدخلش أهلي في اي مشكله ما بينا مهما كانت، ولا تهددني ولا تعمل اللي كنت بتعمله ده.
أومأت سعدية برأسها وقالت بعزم: متقلقش، هفهمها وأوعيها، امبارح معرفتش أكلمها، البت كانت لسه راجعة وكنت عايزه اشبع منها
ثم أضافت بابتسامة وراحه:
بس والله قلبي مرتاح اوي، ألف حمد وشكر ليك يا رب
منزل مي، التاسعة مساء
شقة تحمل طابعا عصريا وأنيقا، أثاثها المودرن يعكس المستوى الاجتماعي الذي تنتمي إليه أسرة مي، كل زاوية فيها مرتبة بعناية، تعكس ذوقا هادئا ورقيقا.
غرفة مي، كانت مختلفة قليلا عن باقي الشقة؛ بالوانها الهادئة وأثاثها الرقيق، بساطه تناسب شخصيتها الهادئة الرقيقة، جلست مي على المكتب الصغير قرب النافذة، ترتدي بيجاما منزلية، بين يديها كتاب تقرأ فيه بتركيز، وشعرها الطويل المنسدل جعلها تبدو أكثر جمالا وصفاءا.
دوى طرق خفيف على الباب، قبل أن يفتح بهدوء ويدخل والدها (راشد) راجل في اوخر الخمسينات.
رفع نظره نحوها بابتسامة دافئة: إيه يا مي عمال اخبطت بقالى كتير، كل دى مش سامعه؟!
رفعت عينيها من فوق الصفحات، وابتسمت بخجل خفيف: معلش يا بابا، الكتاب شدني.
اقترب منها بخطوات هادئة، ثم جلس على طرف الفراش ناظرا إليها، وقال بنبرة أبوية حانية:
القرايه شيء جميل، بس متنسيش نفسك معاها، الدنيا مش كتب بس.
ضحكت مي بخفوت: متقلقش، أنا عايشة حياتي برضه.
ابتسم راشد وهو يهز رأسه: أنا واخد بالي الفترة دي بتخرجي كتير، مش عايزة تقولي حاجة؟
وضعت مي الكتاب بجانبها، وأخذت نفسا عميقا قبل أن تقول بصراحة: اه عشان كده طلبت أتكلم مع حضرتك النهارده.
نهضت من مكانها وجلست بجانبه، وتحدثت بهدوء: في واحد اتعرفت عليه بالصدفة، وهو حد كويس، وأنا حابة أتعرف عليه أكتر، لكن زي ما ربتني عارفه إن مينفعش يبقى في علاقة من غير إطار رسمي.
تساءل راشد بهدوء: والشخص ده أنا أعرفه؟
ترددت لحظة: لا معتقدش، بس هو معروف، رشدي الراوي.
ضيق راشد عينيه قليلا: رشدي الراوي! ابن عزت الراوي؟
هزت مي رأسها ايجابا بصمت.
مد راشد وجهه متعجبا: وده عرفتِيه منين؟
مي بتوضيح: بالصدفة، طلع صاحب شلة زيزي.
راشد متعجبا: بس أنتِ قولتيلي قبل كده إن الشلة دي مش شبهك.
ابتسمت بتردد: هما مش شبهي فعلا، بس كانوا لذاذ، وعمرهم مافرضوا عليا حاجة من اللي بيعملوها.
تأملها راشد للحظات، ثم قال ببطء وعقلانية: وبالتأكيد هو كمان من النوعية دي؟! طيب أنتِ شايفة إن ده حد هيناسبك مع قيمك وتربيتك؟
رفعت مي عينيها وتحدثت بعقلانية: لو هنفكر بالمنطق لأ، بس كل إنسان يستحق فرصة، هو قالي إنه هيتغير، وأنا حسيت إني ممكن أكون السبب في تغيره، هو مش وحش، بس حياته اتفرضت عليه، اتولد في بيت كل اللي فيه بيشرب، وعندهم البار، فطبيعي يطلع زيهم، بس قالي إنه هيتغير علشان يستاهلني.
تنهد راشد، وأسند ذقنه على قبضه يده: يا مي، الكلام سهل، لكن الفعل صعب، أنتِ شوفتي خطوة فعلية منه للتغير؟
ترددت مي، وهربت بعينيها بعيدا: لسه، بس هو وعدني!
تساءل بعقلانية: طيب، لو اتجوزتيه واكتشفتي إنه مبطلش؟ هتعملي إيه وقتها؟ هتقدري تتحملي؟
مي بصوت مكسور: معرفش، بس أنا مؤمنه بيه.
ابتسم راشد بمرارة حنونة: الإيمان حلو يا بنتي، بس الإيمان الأعمى ممكن يوجع صاحبه، الراجل لو مقدرش يتغلب على نقطة ضعف زي دي هيتعبك، ويمكن يكسرك، وساعتها مش هيكون هو الغلطان، لأن أنتِ اللي اخترتي بعين مفتوحة محدش ضربك على ايدك، أنتِ اللى اخترتي وأنتِ عارفه عيوبه وعارفه إن هو جاي من مجتمع مش شبهك ولا حتى عندك استعداد تبقي شبهه.
ظلت مي صامتة لحظة، ثم همست والدمعة تلمع في عينيها: أنا حبيته، وحابة أكون سبب تغيره، بحس إنه مظلوم، وملقاش حب من أهله.
مد راشد يده، وربت على كتفها برفق: بصي يا مي، أنا ربيتكم على الحرية والمسؤولية، والقرار في الأول والآخر ليكي، بس لازم تعرفي مش كل رحلة نهايتها سعيدة، أوقات اللي نحاول نغيره هو اللي بيغيرنا.
صمت راشد قليلا، ثم نظر بعيدا كأنه يستحضر صورة قديمة: زمان كان عندي صديق مقرب، شاطر وطيب جدا، بس غرق في السكة دي، مراته قالت نفس كلامك، قالت “هغيره” و”هقف جنبه”، وضحت كتير وصدقته، بس هو متغيرش، بالعكس، خدها معاه في دوامة ضلمة، وفي الآخر خسرته وخسرت نفسها.
نظر إليها: مبقولش إن كل الناس زي بعض، لكن التجارب علمتني إن التغيير لازم يطلع من جوه الإنسان، مش من وعوده للي بيحبوه.
همست مي بعقلانية وقوة: بس يا بابا، أنا حاسة إنه مختلف، بعدين أنا مستحيل اتغير، مستحيل اتجر للحياه دي، حضرتك ربتني على الحلال والحرام، أنا قوتي هتبقى في ديني وإيماني.
ابتسم راشد ابتسامة حزينة، وربت على يدها: يا بنتي، الإحساس ساعات بيخدعنا، عشان كده لازم العقل يكون حاضر مع القلب.
تنهد وأكمل: القرار في الآخر ليكي، وأنا مش هقف ضد سعادتك، بس قبل أي خطوة لازم أشوفه وأتكلم معاه الأول.
مي بابتسامة ممتنة، وعينيها تلمع بالراحة: ماشي يا بابا.
تبسم راشد وهو يهمّ بالنهوض، وقال بهدوء: طيب أنا هسيبك بقي وهروح أصلي، عايزه حاجه تاني؟
هزت رأسها نافية بصمت، فانحنى ووضع قبلة دافئة أعلى رأسها، ثم غادر الغرفة.
ظلت مي تحدق في أثره بابتسامة، ثم مدت يدها نحو الهاتف الموضوع إلى جانبها على السرير، وتنهدت بخفة قبل أن تضغط على رقم رشدي، وحينما وصلها صوته، قالت بنبرةٍ يعتريها التردد والحماس: رشدي أنا كلمت بابا وهو عايز يقابلك.
اتاه صوت رشدي الهادئ، الذي كان يجلس على مقعد في غرفته: أخيرا، طب ماشي ممكن أقابله بكره
مي باستنكار: بالسرعة دي؟!
ابتسم بخفة وقال وهو يعدل جلسته: والله لولا إن الوقت متأخر، والحج أكيد بينام بدرى زيك، لكنت جيت وقابلته دلوقتي.
مي بابتسامة سعيده: خلاص، هقوله واعرفك تصبح على خير.
رشدي بابتسامة: وانتي بخير يا ست البنات.
ذهبت مي إلى والدها وأخبرته بما قاله رشدي، فابتسم بهدوء وأبدى سعادته بلقائه، وتم الاتفاق على أن تكون المقابلة غدا في أحد المطاعم عند الخامسة مساء.
فيلا، ماسة وسليم
حديقة الفيلا الثانية مساء
كانت ماسة تتحرك في الحديقة بخطوات متباطئة، وعيناها شاردتان بين الأشجار والزهور التي بدت وكأنها تهمس لها بأسرار الماضي.
اقترب منها عثمان بخطوات مترددة وهو يتلفت حوله، وقال بصوت يحمل حذرا ممزوجا بالود: حمد الله على السلامة يا هانم.
نظرت له باستغراب: الله يسلمك..
تردد لحظة، ثم قال وهو يحاول أن يقرأ ملامحها: هو أنتِ فكراني؟
هزت راسها بإيجاب: أه طبعا فاكراك.
انحنى قليلا نحوها، يخفض صوته بقلق واضح: طب بالله عليكي يا هانم، متقوليش لسليم بيه إن أنا اللى ساعدت يومها، لحسن يقتلني وأنا عندي عيال، أنا ساعدتك يومها علشان صعبتي عليا، بس الله يسترها عليكي متجبيش سيرتي.
نظرت إليه ماسة بنظرة مطمئنة، وقالت بلطف: متخافش، مستحيل أقوله، ولو عرف إنك ساعدتني، مش هخليه يأذيك، متقلقش أنا هدافع عنك.
تنفس عثمان الصعداء، وقال وهو يخطو خطوة للخلف: شكرا يا هانم، وحمد الله على السلامة مرة تانية.
ثم ابتعد قبل أن يراه أحد، وظلت ماسة تحدق في أثره بصمت للحظات، ثم تابعت سيرها بين الأشجار، وقد عادت ملامحها إلى شرودها الأول.
في أحد المطاعم، الرابعة مساءا
جلس رشدي على إحدى الطاولات في ركن هادئ ، أمامه كوب ماء لم يلمسه، بينما جلس راشد أمامه ينظر إليه بثبات، الجو مشحون بترقب وحذر.
شبك راشد أصابعه فوق الطاولة: مي كلمتني عنك كتير، أنا طبعا معرفكش شخصيا، بس أعرف العيلة أشهر من النار على العلم، بس صدقني الكلام ده مش بيفرق معايا، أنا أهم حاجة عندي بنتي تتجوز راجل محترم يصونها ويحافظ عليها.
ثم مال بجسده لأمام قليلا، وتابع بنبرة حازمه: في بعض الحاجات مي قالتهالي عنك استوقفتني لسببين؛ أول سبب إني عارف بنتي وعارف تقييمها للناس عامل أزاى، واستغربت جدا إزاي مي تنجذب لحد زيك؟! وتاني سبب إنك مش شبها خالص!! أنا هكلمك بعين العقل مش بعين القلب زى مي، اديني سبب واحد يخليني أقبل بيك زوج لبنتى وابقي مطمن عليها معاك يا رشدي!؟
أخذ رشدي نفسا عميقا، ووضع يديه بهدوء على الطاولة ونظر مباشرة في عينيه: أولا أنا بحترم مي وبقدرها جدا، هى حكتلى عن مواصفات شريك حياتها اللى كانت بتتمناه، منكرش إنه مختلف عنى تماما، بس بردوا أنا الفتره اللى عرفت فيها مي غيرت في نفسي حاجات كتير علشانها، يمكن مش بالشكل الكبير اللى يرضيك ويرضيها، بس مفيش حد بيتغير كليا بين يوم وليله، بس الأهم إن عندى نيه إني أتغير علشانها؛ علشان أكون انسان يستحقها، وبوعدك إني لو مقدرتش أكون الإنسان دى وحسيت إن في يوم هجرحها أو أكون مصدر ألم ليها هبعد، لأن حقيقي مي متستحقش مني دى.
ظل والد مي صامتا للحظة، ينظر إلى رشدي بعينين متفحصتين، بينما كان رشدي يلتقط أنفاسه ببطء، يده مازالت على الطاولة، ونبرة صوته الأخيرة خرجت كتعهد صادق.
تنهد راشد، وعاد بظهره على الكرسي وهو ينظر لرشدى من أعلي لأسفل بهدوء، ثم قال بنبرة عقلانيه: كلامك جميل، بس أنا عايز أشوفه أفعال على أرض الواقع، أصل الكلام مفيش أسهل منه، ومي بنتى الوحيده، ولو هسلمك أمانة زيها، يبقى لازم أشوف قدام عيني إنك راجل فعلا تستحقها.
وتابع بنبرة صارت أهدأ لكن ما زالت صارمة: أنا مش ضدك يا رشدي، بس أنا ضد أي حاجه توجع قلب بنتي، قدامك فرصة تثبتلي وتثبتلها إنك فعلا اتغيرت وبقيت جدير بيها، ساعتها أنا هقف في ضهرك.
وأكمل بنظرة جادة: أنا هوافق على الخطوبة بشكل مبدئي، بس اعتبرها فترة اختبار ليك، لو زعلت بنتي، أو مكنتش قد وعودك، أنا مش هتردد لحظه إني افسخ الخطوبه دى وامحيك من حياة بنتي لأبد، أنا معنديش أغلى من بنتي.
ظل صوته يتردد بثبات، وكلماته سقطت كتحذير صريح، بينما بقي رشدي ينظر له بعزيمة، كأنه يقبل التحدي.
شد رشدي ضهره، وركز النظر في عينيه، وصوته بدى واثقا: وأنا هبقي قد الثقه دى، وهخليك تشوف رشدي بعين محدش شافها قبل كده.
ابتسم راشد ابتسامة صغيرة، أخفى ورائها جديته: اتفقنا، هستناك الخميس الجاي، تيجي أنت وعيلتك تشرفونا الساعة تمانية بالليل.
اومأ رشدي بابتسامه، ثم نهض راشد يهم بالمغادرة، فوقف رشدى أمامه ومد يده يصافحه باحترام، في أجواء مشحونه بين التحدي والقبول.
رشدى بنبره مهذبه: ثانيه واحده هنادي حد من الحرس يوصل حضرتك لحد البيت.
لوح راشد بحزم: متشكر، أنا زى ما جيت لوحدى هروح لوحدى.
غادر راشد بخطوات هادئة وعيني رشدى تتبع خطواته بشرود، وهو يفكر في الحديث الذى دار بينهما، فالتحدى صار أصعب بكثير، ولابد أن يتخذ خطوات حقيقيه وواضحه للتغير لكي يفوز بها.
منزل مي السادسة مساء
الرسيبشن
جلست مي مع شقيقيها حاتم وحازم، كانوا يتابعون مباراة من مباريات الدوري الإنجليزي بانفعال وضحكات، أما مي فكانت شاردة، يغمرها القلق من اللقاء الذي جمع والدها برشدي.
دوى صوت طرقات على الباب، أسرعت الدادة كريمة تفتحه، فدخل راشد بخطوات واثقة.
أسرعت مي تلتقط كتابا أمامها، تقلب صفحاته بتوتر وكأنها منهمكة في القراءة، لفت الأمر انتباه أخويها، وتبادلا نظرات سريعة ثم ضحكا بخبث.
راشد وهو يخلع معطفه: مساء الخير.
مي بصوت منخفض: مساء النور.
تقدم راشد أكثر إلى منتصف الصالون وهو يبتسم: كويس إنكم موجودين يا ولاد.
رفع حازم نظره عن شاشة التلفاز وقال بترقب:
خير يا بابا؟
جلس راشد على المقعد المقابل وقال بنبرة حاسمة: أنا قعدت مع العريس اللي جاي لمي، شاب كويس، وكلامه موزون وذكي، وعيلته محترمة ومعروفة.
ثم وجهه نظراته لمي بهدوء: أنا وافقت يا مي، وهييجي يوم الخميس هو وعيلته يطلبوا إيدك، لكن فهمته إن الخطوبه دى يعتبرها فترة اختبار له، علشان أشوف هل فعلا يستحقك ولا لأ ؟!
واضاف بحكمه وهو يركز النظر بعينها: اسمعيني يا بنتي، الحب جميل، ومحدش يقدر ينكر ده، إنك تعيشي مع واحد بيحبك وكل تصرفاته نابعة من مشاعره مش واجب عشان زوجته إحساس عظيم، لكن الحب لوحده مش كفاية، لازم تختاري شريك حياتك بعقلك، لأنه مش بس زوج، ده هيبقى أب لأولادك، وقدوة ليهم وسند ليكي، وأنا شايف إن رشدي لحد دلوقتي لسه مش كامل، بس أنا مع إننا نديله فرصة ونشوف طالما قلبك ميال ليه.
ابتسم حاتم بسخرية وهو يلوح بيده: مش عارف إيه لازمة وجع القلب ده! مجالها عرسان أحسن من رشدي مية مرة.
ردت مي بهدوء وهي ترفع رأسها: بس أنا موافقة يا حاتم.
أضاف حازم بثقة وهو يربت على كتفها: خليها تجرب، مش هنخسر حاجة، وإحنا معاها في كل خطوة، ما يمكن يطلع كويس ويتغير فعلا، ما كلنا كنا اشقيه، ولما اتجوزنا عقلنا، والعالم دي برضو تربيتهم غيرنا خالص.
ضحك حاتم باستهزاء: شقي إيه! ده واحد بيشرب وبتاع بنات.
نظرت له مي بجدية، مدافعه عن رشدى، وهي تضغط على الكتاب بين يديها: صح، بس هو طلع كده لأن الوسط اللي اتربى فيه كله كده، واتعلم إن ده عادي، لكن هو بنفسه قال هيسيب كل دى، وبدأ فعلا يتغير، تعرف يعني إيه حد يتغير عشانك؟!
أشار راشد برأسه بثبات: أهم حاجة إن التغيير يكون حقيقي ودائم، عموما أنا كلمت الولد وهو جاي يوم الخميس.
أشرق وجه مي بسعادة لم تستطع إخفاءها، ووقفت وهي تتمتم بفرحة: طيب هروح اذاكر شويه..
ثم أسرعت إلى غرفتها، ووجهها يغمره البهجة، وقلبها يتراقص من الفرح.
في غرفة مي.
جلست على سريرها، تسند ظهرها إلى الوسادة الكبيرة، وتحتضن دبدوبها بقوة كأنها تستمد منه الطمأنينة، وضغطت على هاتفها بخفة، وما إن أجاب رشدي الذي كان ما زال يجلس في الكافيه يدخن سيجاره، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة خجولة.
رشدي بصوت مفعم بالحماس: خطيبتي، الحج وصل؟
ابتسمت مي وهي تهز رأسها: أيوه، وصل وقالي إنه وافق.
رشدي بلهفة: يعني يوم الخميس، هتبقي خطيبتي رسميا، هتبقي مي الراوي.
أطرقت مي رأسها إلى الأسفل، وشدت الدبدوب إلى صدرها أكثر بخجل، ولم تنطق.
أضاف رشدي متسائلا: بس قوليلي بجد، والدك رأيه أيه؟
تنهدت قليلا وقالت بتوضيح: يعني زي ما أنت عارف، لسه عنده تحفظات بسبب موضوع الشرب وحياتك اللي فاتت، بس هو مقتنع إن كل إنسان يستاهل فرصة ..
ثم أضافت برجاء: رشدي أرجوك، أوعى تخذلني قدامهم، أنا قولتلهم إنك قد ثقتي وإنك هتتغير.
رشدي بصوت ثابت: متقلقيش، أنا قد ثقتك، ومش هخذلك ابدا.
ابتسمت مي ابتسامة ناعمه وهي تداعب أذن الدبدوب بين أصابعها: وكمان لازم تركز في شغلك زى ما اتفقنا، أنا مش عايزة وعود بس، عايزة أشوف تغيير حقيقي قدامي.
ضحك رشدي بثقة وقال: قولتك خلاص بقي، أوعدك هتشوفي بكرة رشدي جديد، بس بقولك إيه؟! ماتيجي نخرج نتقابل النهارده ونحتفل.
رفعت مي عينيها إلى سقف الغرفة بتنهيدة طويلة: مش هينفع، وبعدين هو دى التركيز في الشغل اللى قولنا عليه؟ المفروض تروح تنام بدرى علشان تعرف تصحي لشغلك فايق.
رشدي محاولا اقناعها بمزاح رقيق: ما احتفالنا ببعض شغل مهم برضو، أنتِ وحشتيني.
هزت مي رأسها بحزم، وقبضت على الدبدوب بقوة: قولتلك مش هينفع يا رشدي، أنا هقفل عشان بابا بينادي سلام.
ألقت مي الهاتف على الفراش، ثم احتضنت الدبدوب وأخذت تدور حول نفسها بسعادة، قبل أن تقف أمام المرآة تنظر إلى ملامحها بسعاده لا توصف.
هضبة المقطم الثامنة مساء.
نرى عثمان واقفا ينظر أمامه، وبعد لحظات اقتربت سيارة عماد، فترجل منها وتقدم ببطء حتى وقف إلى جانبه، ثم نظر كلاهما أمامهما في صمت ثقيل.
عماد بنبرة حادة، بها تلميح غاضب: مبقتش تشوف شغلك كويس يا عثمان، بس رغم إنك بعتلي المعلومة متأخر، أنا ديتك الفلوس زي ما اتفقنا.
التفت إليه عثمان بهدوء:
كنت أجازة أعمل إيه يعني؟ وأول ما عرفت كلمتك.
رمقه عماد بضيق، ثم قال بخبث:
أنا عايزك توصلي رسالة صغيرة للهانم، وقولها “صافيناز هانم” بتبلغك تحطي لسانك جوه بقك، بدل ما تترحمي على حد من أخواتك.
ابتسم عثمان بسخرية، وقال بهدوء: يا باشا، ده أنا حتي بقول عليك أذكى من كده؟! عايزني أروح أكشف ورقي قدامها؟ لأ يا عماد بيه، أنا لازم أفضل “الاعب الخفي”، العسكري اللي محدش يعرف عنه حاجه، خلي أي حد تاني يقولها الكلمتين دول، بعدين أنا لسه امبارح طالب منها متقولش حاجه لسليم بيه، وقالتلي حاضر متخافش، يعني معنى كده إني لسه في الامان.
تأمل عماد ملامحه لحظة، وكأنه اقتنع جزئيا، ثم تساءل بتعجب: إلا قولي يا عثمان، هو ازي سليم مشكش فيك كل السنين دى؟
ضحك عثمان بسخرية: يشك فيا إزاي؟ ده أنا فديته بحياتي مرتين، في رصاصتين في جسمي شاهدين على ولائي وإخلاصي ليه.
تساءل عماد لفضول: طب وأنت ليه بتعمل اللي بتعمله ده؟
التفت له عثمان ببرود ثقيل: ويهمك في إيه؟ المهم إني بساعدك وبس، إنما ليه وعشان إيه، ملكش فيه.
عماد بتعجب، ونبرة شك تتسلل إلى صوته: وأنا إيه يضمنلي إنك مش هتخوني زي ما بتخون ولي نعمتك؟
اقترب عثمان خطوة، وقال بصوت منخفض لكنه سام: استحالة أخونك طول ما هدفنا واحد، خليك واثق في ده، أنا مستني اليوم اللي أشوف فيه سليم والعيلة الكريمة مذلولين، وقلبهم مكسور بفارغ الصبر.
صمتت عماد للحظة، ثم قال وهو يهم بالمغادرة: طيب فتح عينك كويس، لو حصل أي حاجة بلغني فورا.
غادر عماد، بينما ظل عثمان واقفا، ينظر إلى الأفق بعينين مليئتين بالكره والشر، كأن في صدره شيئا أكبر حتى من الخيانة.
صعد عماد إلى سيارته وأغلق الباب بقوة، وقبل أن يشغل المحرك رفع هاتفه وأجرى اتصالا، منتظرا الرد وعيناه تتابعان عثمان الواقف على بعد أمام السيارة بظهره، تتقلب في عينيه نظرة خبث واضحة.
وحينما آتاه الرد من الجانب الآخر، قال بصوت منخفض لكن حاد: بقولك إيه، هبعتلك صورة واسم واحد، عايزك تعرفلي كل حاجة عنه، من ساعة ما اتولد لحد اللحظة دي، عايز المعلومات دى تكون عندى في أقرب وقت، سلام.
أنهى المكالمة وألقى الهاتف على المقعد، وعيناه تتابعان عثمان الذي بدأ يبتعد بخطوات ثابتة، فتمتم ساخرا وهو يطرق بيده على عجلة القيادة: خلينا نشوف إيه اللي وراك يا عثمان، شكل حكايتك حكايه.
فيلا سليم وماسة، الثامنة مساء
خرجت ماسة من المطبخ تحمل صينية عليها قطعة كعك تفوح منه رائحة البرتقال، وكوب شاي، وسارت نحو المكتب بخطوات هادئة.
في الداخل، كان سليم يجلس خلف مكتبه منشغلا بالعمل على اللابتوب، طرقت الباب بخفة، فرفع رأسه وقال بهدوء: ادخلي يا ماسة.
دخلت مبتسمة، عيناها تلمعان بخجل وقالت بتعجب:
عرفت منين إن أنا؟
ابتسم سليم وهو ينظر لها: من ريحتك وصوت خبطتك.
ابتسمت برقة، ووضعت الصينية على المكتب برفق وقالت بلطف: أنا عملت كيكة برتقال، وجبتلك منه، عارفة إنك بتحبه.
أخذ سليم قطعة بالشوكة، تناولها بتلذذ وهو يقول: تسلم إيدك يا قطعه السكر.
ابتسمت ماسة بصمت، فتابع سليم وهو يضع الشوكة في فمه: أنا بكرة هروح المجموعة في اجتماع مهم، واخدت من الدكتور معاد كمان يومين علشان جلسة العلاج الطبيعي.
أومأت ماسة، وتساءلت بهدوء: ربنا معاك، هو أنا ممكن أروح معاك وأنت رايح للدكتور؟!
اومأ سليم برأسه سريعا، وهو يشعر بالسعاده لاهتمامها به: أيوه طبعا
ساد صمت قصير بينهم، لم يبقى فيه سوى صوت أنفاسهما الهادئة، كان سليم يتناول الكعكه بهدوء، بينما وقفت ماسة تتأمله، والشوق يرتسم على ملامحها، قلبها يخفق بقوة، ابتسمت بخفة وظلت هكذا للحظات، ثم قالت بتوتر: أنا هطلع أنام، عايز حاجه؟
هز رأسه نافيا، وقال بابتسامه عاشقه: تصبحي على خير يا قطعه السكر.
غادرت بخطوات سريعة، تضع يدها على صدرها تهدئ دقاته، بينما سليم أكمل تناول الكعكة بهدوء وابتسامة صغيرة تلمع في عينيه.
مجموعة الراوي، التاسعة صباحا.
في قاعة الاجتماع الكبيرة، كان أفراد العائلة مجتمعين مع بعض المديرين التنفذيين، والنقاشات مشتعلة حول المشاريع القادمة، وفجأة فتح الباب، ودخل رشدي وصوته الساخر يعلو في القاعة: صباح الخير يا راوي، كده تعملوا الاجتماع من غير رشروش؟ هو أنا مش عضو من ضمن أعضاء المجموعه؟
رفع عزت نظره ببرود: ما أنت بقالك فترة مبتحضرش.
اقترب رشدي بخطوات واثقة، وقال وهو يتجه لمقعده: خلاص، هحضر من النهارده، وهرفع شعار داعا ” للسهر و السرمحه” وأهلا “الاحترام، والانتظام في المواعيد، والصحيان بدري”.
جلس وهو يبتسم، ثم نظر لنانا: نانا هاتيلي ملف.
مدت له الملف، فتحه، قلب صفحاته بسرعة، ثم رمقهم: بتتكلموا علي ايه بقى؟
رد أحد المديرين بنبرة عمليه: عن المناقصة الجديدة اللي الدولة هتعملها الفترة الجاية، هيبدأوا يبنوا مجموعه من الكباري وهيجددوا بعض الطرق والمتاحف، وإحنا عايزين ناخد المناقصة دي ونقدم عرض قوي.
رشدي بحماس وهو يضرب كفه بالطاولة: خلاص، أنا اللى هشتغل على المشروع دى.
قاطعه عزت بحزم: لا طبعا، المشروع ده اللي هيشتغل عليه ياسين وسليم.
هز رشدي رأسه بعناد: لا، أنا اللي هشتغل على المناقصة دى ولوحدى.
نظر له عزت من أعلى لأسفل وهو يحرك قلمه، وقال باستنكار: لا مهي مش لعبه وحضرتك شبطان فيها، دى أهم مشروع في المجموعه الفتره الجايه، وأكيد مش هغامر بيه في ايد واحد مستهتر زيك.
ضحك طه باستهزاء: شوفلك مشروع على قدك تلعب بيه بدل ما أنت فاتح صدرك علينا في مناقصه مهمه زى دى، اقولك؟ استورد لعب أطفال، على الأقل لو معرفتش توزعهم تبقي تقعد تلعب بيهم أنت.
رشدى بسماجه: لو دمك مش خفيف يا طه متحاولش تخالف إراده ربنا.
فريده بهدوء: يا رشدى فعلا المناقصة كبيره، ممكن تشتغل مع سليم وياسين فيها، اهو على الأقل تتعلم منهم وبعد كده ابقي خد مشاريع كبيره لوحدك.
ضاق صدر رشدى بالحزن، رمش بعينيه للحظه وحاول الحفاظ على ثبات ملامحه، وقال باستنكار: هو أنتم مستقلين بيا كده ليه؟
تحدثت فايزه بارستقراطيه من طرف أنفها وهى تحرك المقعد: مش فكرة مستقلين يا رشدى، بس أحنا عارفين أنت على إيه، اسمع كلام فريده واشتغل مع ياسين وسليم واتعلم منهم.
قلب رشدى وجهه بعناد: ولا سليم ولا ياسين ولا التنين أنا اللى هشتغل فيها لوحدى.
عزت بضجر: هو عند وخلاص؟!
رشدى برخامه: لا مش عند، ثقه بالنفس، أنا اللى هشتغل عليها لوحدى وهكسبها.
رفع عزت حاجبه وقال بنبره صارمه: طب ولو خسرتها؟
رشدى بثقه: هكسبها
عزت باقتضاب، وهو ينظر في عينه: ولو خسرتها؟
نظر رشدى في عينه وقال بحزم وثقه: هكسبها.
ثم عاد بظهره على المقعد: وعموما لو خسرتها مع إن دى مش هيحصل يعني، هتنازل عن الأسهم بتاعتى في المجموعه وعن كل أرصدتى في البنوك، يعنى حرفيا هبقي مملكش الا الهدوم اللى عليا.
ضحك ياسين وهو يهز رأسه: بلاش بس العشم والحماس ياخدوك، دي مناقصه صعبة جدا، وداخل معانا شركات تقيلة وقديمة في المقاولات.
ابتسم رشدي بثقة: بس إحنا من أقوى شركات صناعة الحديد في الشرق الأوسط والعالم، اسمنا لوحده يكفي، المشروع ده بتاعي، وزي ما قولت لو خسرت هتنازل عن كل أسهمي وفلوسي في البنوك وحتى الورث.
تدخلت فايزة بقلق وهي تميل للأمام: رشدي، خليك في مشروع تاني، مش لازم دى.
ضرب رشدي الطاولة بخفة وأصرار: أقسم بالله ما حد شغال على المناقصة دى غيرى، خلصت.
كل ذلك كان سليم يجلس ويتابع المشهد بصمت بعينين مترصدتين؛ في محاولة لتقيم الموقف، وعند هذه النقطه شعر بأن عليه التدخل لإنهاء الأمر.
عدل سليم من جلسته ونظر لعزت بتركيز وقال بهدوء: باشا، خليه ياخدها.
التفت عزت بسرعة: بس يا سليم…
رفع سليم يده مقاطعا: أنا قولت خليه ياخدها، بس لو خسر، هو اللي حدد عقابه بنفسه.
رفع رشدي حاجبه بابتسامة جانبية: متقلقش أيها الأمير، لا أمير إيه! أنت بقيت الملك خلاص، مش هخسرها.
ثم ضحك بخفة: طيب، هل الاجتماع خلص ولا لسه؟
رد سليم وهو ينظر للمديرين: لا خلاص، اقعد معاهم وافهم كل حاجة بالتفصيل.
أشار رشدي للجميع بالخروج: بقولكم إيه، أي حد مش من العيلة يتفضل بره، عايز أقعد مع عيلتي الحبيبة.
غادر المديرون، وبقى رشدي مع عزت وفايزة وأشقاؤه، فقال بهدوء وثقة: أنا قررت أخطب مي، أنا قابلت باباها، واخدت معاه معاد الخميس الجاى الساعه ٨ علشان اتقدم لها، ياريت كله يبقي مفضي نفسه.
ابتسم عزت وقال: تمام يا رشدي، حاجة تاني؟
رشدي بطريقته: شكرا يا بوص منتحرمش.
نهض الجميع وبقى سليم وياسين مع رشدي.
وعندما هم رشدى بالمغادرة، ابتسم سليم بخفة: على فكرة، الخطوة اللي عملتها دي كويسة جدا، اتمنى تعقل بقى، وكمان لو أخدت المناقصه ده هتبقى بداية قوية ليك في المجموعه.
جلس رشدى مرة أخرى ورد ضاحكا وهو يشير له: طب خاف مني بقي، عشان الفترة الجاية هنافسك، واحتمال أطيرك.
ابتسم سليم بهدوء: يا سيدي طيرني بس وملكش دعوة، المهم تركز وبلاش اندفاع وتهور، المناقصة فعلا كبيره، ولو احتاجت اى حاجه ابقي تعالي اسألني.
وضع رشدي يده على كتف سليم: لو احتاجت منك معلومة هبقى أطلبها، أنا عارفك جدع ومش حربوق، يعني هتديني المعلومة صح.
ياسين بمرح: كويس اهو أترحم شوية والاقي حد يشيل معايا ضغط الشغل لما سليم بيختفي، بدل ما ببقي عمال أخرج من اجتماع لاجتماع كل ما أخوك يفعل وضعيه اللهو الخفي.
رشدي ضاحكا: وهطيرك أنت كمان، خاف على نفسك.
ياسين بمرح: يا سيدى أنا كنت طاير أصلا، وفرحان والله بطيراني دى، معرفش ايه اللى رمانى على الغلب!
ضحك سليم ساخرا: أنا حاسس إني قاعد مع شوية فشلة.
رشدى باعتراض مرح: لا، لو سمحت مسمحلكش، من النهارده أنا منافس ليك.
نظر ياسين لرشدي بجدية: طب بعيدا عن الشغل أنت أيه اخبارك مع مي؟ قولتلها كل حاجة عنك؟ ووافقت؟ يعني عرفت موضوع البنات، والإدمان؟
حك رشدي رأسه وقال بتردد: بصراحة حاجات وحاجات، هي عرفت عني كتير، بس موضوع الإدمان معرفتش أقوله.
نظر له سليم بحزم: لازم تقولها يا رشدي، مادام ناوي على الجد، هي كده كده عاجلا أم أجلا هتعرف، فتعرف منك أحسن متعرف من برا، لأن ساعتها هتحس إنك خدعتها وضحكت عليها.
نظر رشدي لأسفل، وهو يتمتم: بس أنا خايف تعرف ومتكملش معايا، وبعدين أنا مادمنتش زي ما أنتم متخيلين، وهتعالج.
أومأ ياسين بتشجيع: اتعالج، وخليها تعرف وتبقي معاك، بالعكس، كده هتحترمك أكتر وهتشجعك.
أضاف سليم: وده رأيي برضو، قبل ما تبدأ أي خطوة معاها لازم تتكلم معاها، وقولها كل حاجه عنك.
تنهد رشدي: بس أكيد مش هحكي لها يعني إني…
صمت قليلا ثم تنهد وتابع بنبرة منخفضه: إني اغتصبت واحدة قبل كده.
زم سليم شفتيه: بص أنا معاك دي صعبة فعلا، وبلاش كده كده الموضوع ده مات، لكن الإدمان هيظهر.
نظر لهم رشدي وقال بصوت خافت متردد: تفتكروا لو قولتلها هتسبني؟
ياسين بهدوء: لو سابتك يبقى خلاص، احترم قرارها، هي ممكن تسامح في حاجات وحاجات لا، طبيعي هتتضايق في الأول، يمكن تقولك مش عايزة اكمل، بس حاول.
اومأ سليم بتأيد: بالظبط، طبيعي رد فعلها يبقى عنيف، بس لو لقتك مصر ومش عايز تسيبها ممكن ترجع، وإحنا معاك، بس البداية لازم تكون منك.
تنهد رشدي، ومسح على رأسه للخلف: بس أنا قلقان.
ربت سليم على كتفه بحنان أخوى: متقلقش لو بتحبك بجد، وشافت إنك فعلا بتتغير هتكمل، بس خلي بالك، لازم تتغير عشان نفسك يا رشدي مش عشانها.
رشدي بابتسامه وتساؤل: ماشي، هتيجوا معايا؟
هز سليم كتفه: أنا ممكن معرفش أجي لأسف، وبعدين مش لازم نروح كلنا، كفاية الباشا والهانم معاك، لكن الخطوات الجاية أكيد هنكون معاك كلنا.
نهض رشدي وهو يقول بنبرة مازحه: طيب أنا هقوم بقي، علشان عندي مشروع مهم، ومش عايز حد يشغلني.
خرج وهو متحمس، بينما تبادل ياسين وسليم نظرات صامتة وابتسامة خفيفة.
تنهد ياسين: تفتكر رشدي المرة دي فعلا هيتغير؟
نظر سليم للباب: أتمنى.
💞________________بقلمي_ليلةعادل
خرج رشدي من المجموعه والحماس يشتعل في ملامحه، استقل سيارته وقام بالاتصال بمي، انتظر قليلا حتى أجابت، فرد بصوت متحمس وصوته يعلو فوق الضوضاء: أنت فين يا ميوشي؟
جاء صوتها متقطعا بين أنفاسها من داخل الجيم: انا في الجيم.
رد بحماس: طيب خلصي بسرعة، أنا جاي أخدك، عندي موضوع مهم جدا جدا جدا.
ضحكت بسخرية، وهي تمسح عرقها بفوطة صغيرة: يا ابني بطل شغل فرقع لوز دى بقي؟ مش اتفقنا تركز في شغلك؟
رمى رشدي ضحكة قصيرة: مبلاش محمود اللي بيظهر فجأة دى، عشر دقايق وهبقى قدامك، بجد عايزك في موضوع مهم، باي.
أغلق الخط قبل أن تستمع الي ردها، فوقفت مي تنظر إلى شاشة هاتفها، وهزت رأسها مبتسمة بيأس: والله العظيم مجنون، بس عسل.
وبعد قليل غادرت مي الجيم بعد أن ابدلت ملابسها، وفوجئت به يقف بسيارته يلوح لها من النافذه بإشارة سريعة أن تركب، فتحت الباب وجلست إلى جانبه.
نظرت له باستهجان وهي ترتب جلستها: موضوع ايه بقي المهم جدا اللى كنت عايزني علشانه، خير؟
مال برأسه وهو يمسك هاتفه: استني دقيقتين بس أو خمس دقايق، يمكن عشره؟ بقولك ايه هشوف اللوكيشن، أنا مروحتش المكان ده قبل كده.
زمت شفتيها وقالت بضجر: أنا مش فاهمة حاجة.
ابتسم بمكر وهو يثبت عينيه على الطريق: اصبرى وهتفهمي، متبقيش رغايه.
رفعت حاجبها، وقالت بصرامة: لم لسانك يا رشدي.
ضحك رشدي بخفة:ما أنا عمال أقولك اصبري، وأنتِ عماله تلكي كتير.
أخذت نفسا عميقا واستسلمت: سكت، أما أشوف آخرتها معاك.
واصل القيادة حتى وصلا إلى منطقة ما، فتلفتت مي بعينيها في أرجاء المكان بدهشة، وأخذت تتنقل بنظراتها بين الباعة المصطفين على جانب الطريق والوجوه الغريبة عنها.
مي باندهاش: إيه المكان ده؟ إحنا فيه؟
أجاب رشدى، وهو يزفر بخفة: في العتبة.
اتسعت عينيها بدهشة طفولية:بجد!! أنا عمري مروحتها.
ضحك وهو يميل بجسده نحوها قليلا: مش مهم، كده كده شكلنا هنروحها أنا وأنت كتير بعد كده.
مي باستغراب: ازاى يعنى مش فاهمه!؟
رشدى موضحا: بصي يا ستي، أنا سخنت على كلامك لما قعدتي تقوليلي لازم تركز يا رشدي، لازم يبقى عندك مشروع يارشدى، وأنا هفضل جنبك لحد ماتوصل للبترول يا رشدى.
ثم ابتلع ريقه وأكمل بسرعة، والحماس يسبق كلماته:
فدخلت مشروع، بس في لحظة جنان، كنت واخد حبايه شجاعه وعملت فيها عنتر زماني وقولت لهم إني لو خسرت هتنازل عن كل حاجة، وحرفيا مش هيبقي حيلتى الا هدومي.
وأضاف بنبرة مازحه: وبما إنك مراتى المستقبليه، فحبيت أوريكي مستقبلنا الواعد مع بعض، هنشحت في الشوارع.
رفعت مي يدها على فمها وهي تحاول كتم ضحكتها، لكنها لم تستطيع فانفجرت ضاحكة.
هوى بيده على عجلة القيادة بحماس: بكلمك بجد، أنا بوريكي مصيرنا لو خسرت، أنتِ اللى سخنتيتي، فأنا بقول نتفق من دلوقتي، أنتِ تقفي على طرح محجبات، وأنا أقف على بكسرات، فتفتكرى نفرش هنا ولا نخش جوه!؟
غرق المكان بضحكتها العالية، ثم التفتت إليه بعينين تلمعان بالثقة: أنت مش متفائل ولا واثق في نفسك ليه؟ أنا واثقه فيك، ومتاكدة إنك قدها.
ظل ينظر إليها بصمت، وابتسامة صغيرة مشوبة بالرهبة ترتسم على وجهه، كأن كلماتها هزت شيئا داخليا في أعماقه، فهي الوحيده التى راهنت على نجاحه بدون تفكير!
حاولت مى تمالك أنفسها، وأضافت بعقلانيه:
بعيدا عن الهزار، ركز وأنا معاك وهساعدك، متنساش إني بدرس إدارة أعمال، أي نعم لسه معنديش خبره عمليه في السوق، بس متستهونش بيا بردوا أنا من أوائل دفعتى، فهفكر معاك ونحضر كويس ، وإن شاء الله هتنجح، أنا واثقه فيك.
نظر إليها رشدى بعينين تلمعان ببريق خاص، ورد بامتنان: تعرفي إن أنتِ الوحيده اللى مراهنه على نجاحي!
مي بهدوء: علشان زى ما قولتلك قبل كده أنت ذكى جدا يا رشدى وعندك طاقه كبيره، بس محتاج توجها صح.
ابتسم رشدي بصمت، وهو يمعن النظر بها، فشعرت بالخجل من تلك النظرات حتى احمرت وجنتيها ونظرت لاسفل، وقالت بتلعثم: ممكن تروحني بقى، وتروح تشوف شغلك.
ابتسم رشدي على خجلها الذى راق له، ونظر إليها لحظه بصمت وشرود، وهو يتذكر الحديث الذي دار بينه وبين ياسين وسليم، وأن عليها أن تعرف حقيقة إدمانه، ترددت الفكرة في رأسه قليلا، ثم تنهد وقال بتردد: بقولك إيه، كنت عايز أقولك على حاجة.
نظرت له بحماس: إيه؟
اعتدل في جلسته، وكأنه كان على وشك أن يتكلم، لكن فجأة توقفت الكلمات في حلقه، كان من الصعب أن يواجهها بتلك الحقيقة المرة التي ابتليت قصته بها، فتراجع سريعا وقال: خلاص بعدين.
مي بإصرار: لا بجد، في إيه؟
نظر أمامه بحزن، وقال بشرود: دي فكرة تخص المشروع، بس لما أجهزها هقولك أحسن.
مي بابتسامة خفيفة: أوكي.
ثم ادار المحرك دون رد، وانطلق نحو منزلها.
مجموعة الراوي
الكافيتريا الواحده مساء
جلست لوجين إلى إحدى الطاولات، وأمامها كوب شاي وصحن طعام كانت تتناوله بهدوء، وفجأة ظهرت فايزة عند المدخل، وقفت لحظة قصيرة قبل أن تخطو بثقة إلى الداخل، وما إن رآها الجميع حتى نهضوا احتراما، فرفعت لوجين عينيها ونهضت بدورها.
أشارت فايزة بيدها بنبرة آمرة هادئة: اقعدوا مكانكم.
وتابعت سيرها بخطوات محسوبة، حتى وقفت أمام لوجين، وارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، وقالت: صباح الخير يا لوجين.
ابتسمت لوجين بخجل: صباح النور يا فندم.
جلست فايزة على الطاولة أمامها، ثم رفعت عينيها إليها وأشارت بيدها: اقعدي.
جلست لوجين على الفور، وهي تقول بابتسامة بسيطة: اتفضلي معايا، دي سندوتشات بيتي.
ضحكت فايزة وهي تزيح خصلة من شعرها للخلف: ثانكس، أنا بفطر قبل ما أجي، قوليلي يا لوجين والدك فعلا كان سفير؟
تنهدت لوجين، قبل أن تبتسم وتجيب:أيوه، بابا كان دبلوماسي وسفير لمصر في النمسا.
فايزة باستفسار: يعني اتولدتي في النمسا؟
لوجين موضحه: أيوه، بس اتنقلنا كتير من بلد لبلد، ومستقريناش في مصر غير من خمس سنين، وبابا توفي من سنتين.
تغيرت ملامح فايزة للحظة، وقالت بأسف: البقاء لله، طيب، ووالدتك بتشتغل إيه؟
أطرقت لوجين ثم رفعت نظرها: ماما كانت مستشارة، بس بعد وفاة بابا للأسف سابت شغلها، تعبت جدا، ومقدرتش تتحمل فراقه، كانوا بيحبوا بعض أوي.
أومأت فايزة بإعجاب وهي تحدق فيها: عظيم.ثم ضيقت عيناها قليلا باختبار واضح الكلام: بس بنوتة جميلة زيك، والدها سفير ومامتها مستشارة، وعيلتكم ليها مركز مرموق، ليه تشتغلي أسيستنت؟
ابتسمت لوجين بخجل، وهي تشبك أصابعها:
أنا بشتغل مديرة مكتب ياسين الراوي، ابن واحد من أكبر مليارديرات العالم، ومش أي حد يوصل للمكانة دي وبصراحة، مهما اجتهدت، صعب ألاقي وظيفة أرقى من كده.
أمالت فايزة رأسها وهي تتمعن النظر في وجهها: بس في الآخر اسمك موظفة، ليه متعمليش مشروع وتبقي أنتِ السيدة؟
هزت لوجين كتفيها بابتسامة صغيرة: مجاش في بالي، وبصراحه أنا مرتاحة في مكاني، لو حسيت إني متضايقه أو مش حابه أكمل في الشغل مع مستر ياسين، ساعتها ممكن فعلا افكر في مشروع، وكده كده عندي المبلغ اللي يخليني اعرف ابدأ بيه مشروع صغير.
مالت فايزة للأمام باهتمام: مين رشحك للوظيفة دي؟
لوجين بثبات: خالتو، داليا حسين، مصممة الأزياء المشهورة، وزوجة أشرف القاضي.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي فايزة، وهي تومئ: مش بقولك إنك من عيلة مرموقة؟ طب ليه مشتغلتيش مع اشرف؟
تنفست لوجين بعمق وأجابت بنبرة هادئة: الصراحة، خالتو هي اللي قالتلي هوظفك مديرة مكتب ياسين الراوي.
أرجعت فايزة ظهرها إلى الكرسي، وعينيها لا تفارق لوجين: ومجبتش سيرة إنك تشتغلي في شركات جوزها؟
حركت لوجين المعلقة على الطاولة بابتسامة هادئة:
لأ، وأنا محبش أكون متطفلة على حد.
ابتسمت فايزة، وقالت بصوت منخفض: اممم عظيم.
ثم نهضت من مكانها، فبادرت لوجين بسرعة: انبسطت جداا في الكلام مع حضرتك.
وقفت فايزة وألقت عليها نظرة طويلة: وأنا كمان، وأكيد هنتكلم تاني، أنتِ شاطرة وفهمتي الشغل بسرعة، وأنا هأمرلك بمكافأة.
ابتسمت لوجين بامتنان: ميرسي يا فندم، دي شهادة أعتز بيها.
استدارت فايزة بخطواتها الأولى، ثم التفتت فجأة، وهي تقول بخبث: صحيح، ياسين عنده حساسية من شوية أكلات، متخليهوش ياكل منها كتير.
أومأت لوجين بثقة: أيوه عارفة، الأسماك والفراولة والمانجا، متقلقيش يا فندم.
ابتسمت فايزة بخبث، وهي تهم بالانصراف: مش قلقانه، ياسين في مكتبه؟
أجابت لوجين بسرعة: لا عنده اجتماع. ثم نظرت في ساعتها، وأضافت: عشر دقائق وهيخلص.
هزت فايزة رأسها بصمت، ثم غادرت الكافيتريا بابتسامة واسعة، توحي أن هناك شيئا في خطتها لم يكشف بعد.
مكتب ياسين
جلس ياسين خلف مكتبه، عيناه مثبتتان على الملفات المكدسة أمامه، قطع تركيزه طرق علي الباب، تبعه دخول فايزة بخطوات ثابتة
رفع رأسه بابتسامة، وتساءل متعجبا: خير يا هانم؟
تقدمت وجلست على المقعد الأمامي، وأسندت يديها على الطاولة، وقالت بهدوء: خلصت الشغل اللي وراك؟
رد بملل وهو يميل برأسه للخلف: هو الشغل بيخلص؟
هزت رأسها بابتسامة صغيرة، وقالت بنبرة جادة: أنت محتاجلك أجازة يومين تلاتة كده.
تنهد بتمنى: ياريت
فايزة باستنكار: مش سليم رجع، خليه يقعد ويركز في الشغل شويه.
ثم أضافت بنبرة ساخرة: ولا هو مش فاضي غير يدلع في مراته وبس!؟
ابتسم بخفوت: هظبط معاه.
تابعت وهي تشبك أصابعها معا: أنا عايزاك تركز مع رشدي، يعني لو احتاج حاجة أو متابعة تبقى وراه.
أومأ بهدوء: متقلقيش.
ساد صمت قصير، ثم قالت بهدوء يحمل في طياته الكثير: مراتك هتفضل عند أهلها كتير؟!
كاد ياسين أن يرد، فقاطعته بضجر: متقوليش عادي، لأنه مش عادي، اللي بينكم مبقاش طبيعي، وهي بقالها فترة مش طبيعيه، وأنا مش لاقية سبب يخليك متمسك بيها، وأوعى تقولي عشان البنت والكلام الفارغ ده.
مرر يده على وجهه، ثم قال بنبرة هادئة: احنا مديين نفسنا مهلة نفكر ليه حياتنا وصلت لكده؟! ونشوف حل.
فايزة بتعجب: وأنت إيه إللى مخليك متمسك بيها كدة؟
رد بهدوء وعقلانية: مش قصة تمسك، بس فيه حاجات مينفعش ناخد فيها قرارات سريعه؟! أكيد حضرتك جالك وقت وفكرتي تبعدي عن الباشا كتير، لكن قبل متاخدي القرار، فكرتي مية مرة، واستمريتي علشان خاطرنا، فإحنا دلوقتي في مرحلة التفكير.
فايزة بهدوء عقلاني: متقارنش علاقتي بعزت بعلاقتك بهبه، هبه من يوم ما دخلت القصر وهي واخده جنب جامد مننا، وأنت بنفسك قولت عرفت حاجات عن شغلنا القديم، ومن وقتها الحياه ما بينكم بقى فيها مشاكل، الست لو مكانتش دعم لجوزها يبقي لا تصلح تكون زوجه ليه، وأنا من رأيي تطلقها، البنت دي مش هتريحك، الحب مش كل حاجة يا ياسين، في حاجات أهم، زي التفاهم، وهبة من أول مشكلة بتمشي وتديك ظهرها، فلازم تفكيرك يكون أبعد من كده، اختيار القلب مش دايما في محله.
حرك يده ببطء على سطح المكتب: ما أنا بقول لحضرتك، لازم نفكر وندى نفسنا فرصة أخيرة، ولو لقيت إن مفيش فايدة، هاخد القرار، أنا عارف إنك مبتحبيش هبة.
ضحكت ضحكة قصيرة وقالت: هي مدتنيش فرصة علشان أحبها أصلا..
ثم تابعت بابتسامه خبيثه: بس صحيح الاسيستنت بتاعتك عسولة خالص، طلعت بنت ناس، ومن عيلة مرموقه.
ياسين بابتسامة هادئه: أه، باباها كان سفير الله يرحمه.
ابتسمت وهي تلعب بخصلات شعرها: بنت راقية جدا، كمان شوفت صوركم على الإنستا، حلوة خالص.
فهم ياسين تلميحها، فرد بابتسامه متعجبه: ماما، ده مش أسلوبك!؟
ضحكت بسخرية خفيفة، ووقفت بهدوء: إيه اللي مش أسلوبي؟ بقول بنت عسولة وصوركم حلوة، ليه فهمت إني أقصد حاجة تانية؟ عموما أنا هقوم بقى، عشان ورايا شغل، سلام
غادرت الغرفة بخطوات هادئة، فيما بقي ياسين يراقب الباب للحظات، قبل أن يعود ببصره إلى الملفات أمامه، ولكن عينيه لم تعودا تقرآن شيئا.
فيلا عائلة هبة، السادسة مساء.
كان ياسين يجلس على أرضية الحديقة يلعب مع ابنته بمرح، وضحكات الطفله تملىء المكان، اقتربت هبة بخطوات هادئة، وهي تحمل حقيبتها استعدادا للخروج.
هبة برتابه: ياسين، أنا عندي ميتينج مهم ومضطرة امشب، اقعد مع البنت براحتك، أوكي؟
توقف ياسين عن اللعب، ورفع رأسه إليها بنظرة مترددة: ماشي يا هبة، المهم فكرتي؟
هبه باستغراب: أنا لسه مبقاليش كم يوم هنا، وبفكر أسافر، علشان مش عايز ضغط من ماما؟
تنهد ياسين وهو ينظر بعيدا: اعملي اللي أنتِ عايزه، بس أنا هاجي أشوف البنت.
أومأت برأسها بصمت، ثم وضعت قبلة سريعة على جبين ابنتها، وخرجت مسرعة، بينما واصل ياسين اللعب مع ابنته مرة أخري، وبعد قليل استدعي المربية لتأخذ الطفلة، ونهض وذهب هو الآخر.
في الطريق
كان ياسين يقود السيارة بملامح شاردة وملل ظاهر على وجهه، أمسك هاتفه واتصل بلوجين وحينما اتاه صوتها، قال: انتِ فين؟ …..
طيب، بقولك إيه، هعدي عليكي بالعربية دلوقتي، يعني كمان عشر دقايق ربع ساعة بالكتير هكون عندك، ….
لا مفيش حاجة، زهقان بس، تعالي نشرب حمص شام وندردش شوية…
طيب مش هتأخر، سلام.
بعد قليل قصر النيل.
جلس ياسين ولوجين على مقعدين خشبيين، وأمامهما أكواب حمص الشام الدافئة يتصاعد منها البخار، والنسيم العليل يلامس وجهيهما.
مالت لوجين برأسها ونظرت إليه باستفهام: يعني امتى أخدتوا القرار ده؟ أنا مش فاهمة.
حرك ياسين كوبه بين يديه بملل، وقال: لما مامتك كانت تعبانة.
اتسعت عينا لوجين بدهشة: وأنت إزاي متقوليش؟
زفر ياسين، وهو يلوح بيده بضيق: وأقولك ليه؟ علشان تقوليلي لا ومينفعش، والعبط بتاعك ده.
ضحكت لوجين بخفة: أولا ده مش عبط، بس عموما الخطوه دي صح جدا، أحيانا لما اتنين بيحبوا بعض يبعدوا شوية، الشوق بيخليهم يقيموا العلاقة صح، بس أنت لازم تاخد أجازة كام يوم وتفكر بهدوء.
ياسين بملل: هعمل كده بس أخلص الشغل اللي عندي الأول، وبعدين أنا مش جايبك هنا عشان توجعيلي دماغي بالحوارات دي، غيري الموضوع.
ارتشفت لوجين من الكوب، ثم نظرت له بابتسامة عريضة: على فكرة أنا النهارده قعدت مع والدتك واتكلمنا، حبيتها خالص، وحسيتها عكس ما الناس بتتكلم عنها إنها شخصية متكبرة ومغرورة، بالعكس كانت لطيفة خالص وراقيه في كلامها، بس طبعا لا تخلو من الهيبه دى فايزه هانم برضو.
رفع ياسين حاجبيه باندهاش، وسأل متعجبا:بتتكلمي عن مين؟
ابتسمت لوجين بثقة: والدتك، فايزة هانم.
ضحك ياسين بخفة: والدتي أنا جميلة ولطيفة ومش مغرورة؟ وحبتيها كمان؟
غمزت لوجين بعينيها ممازحة: آه، هي حد جميل أوى وبيعجبني قوي شياكتها، بجد حاجة قمر.
ضحك ياسين بدهشه: معاكي إن أمي شيك، بس إن أنتِ حبيتي أمي، وشيفاها لطيفه ومش متكبره، اهي دى اللى غريبة؟
ثم أضاف وهو يضحك مستنكرا: مش بقولك أنتِ عايشه في اللالالاند؟ ويتخاف عليكي؟ ملكيش في الحكم على الناس.
صمت لحظه، وأضاف بمزاح: بس أنا دلوقتي فهمت ليه التلاتة اللي ارتبطتي بيهم فشلوا، اتأكدت إن اختيارك أكيد كان غلط، قال أمي مش مغرورة قال!!
ابتسمت لوجين باستغراب، وقالت برقه: هي معاملتنيش بغرور، أتبلي عليها يعنى؟
ياسين ضاحكا: أنتِ الوحيدة على الكوكب اللي قولتي عنها كده.
لوجين بهدوء وعقلانيه: بص، هي ست عارفة قيمة نفسها كويس، عارفة هي على إيه وبتتكلم مع مين وازاي، مش أي حد هتهزر وتضحك معاه.
هز ياسين رأسه موافقا، ثم تنهد وقال: معاكي، بس مينفعش الإنسان يبقى مجرد من المشاعر.
صححت له لوجين بهدوء ورقه: مينفعش تقول كده، دى مامتك، ممكن تقول هي مبتعرفش إزاي تظهر حبها ومشاعرها، بس أنا بحسها بتحبك وبتعاملك حلو.
ابتسم ياسين ابتسامة بخفه، وقال بنبرة لينه: مقدرش أنكر إن أنا الوحيد في إخواتي اللي شاف حنينة ماما واهتمامها، بس ماما صعبة، فبلاش تتعاملي معاها كتير علشان متضايكيش.
لوجين بتوضيح: لا، أنا مبتعاملش معاها، بس هي شافتني في الفطار النهارده، سلمت عليا، وقعدت تسألني عن بابا الله يرحمه، ومين وظفني في المجموعة، وكده
هز ياسين رأسه، وابتسم بخفة:ماشي، المهم إحنا على معادنا.
لوجين بعيون تلمع من الحماس: أيوه أنا اتحمست أوى، وحضرت اللبس، بقولك ايه أنا نفسي أشوف بنتك، متجيبها معاك يوم الجمعة.
ابتسم ياسين بارتياح، ونظر لها: بجد؟
ضحكت لوجين وعيونها تلمع: والله بجد، متخافش عليها، أنا بعرف أتعامل مع الأطفال متقلقش.
تبادلا نظرات طويلة صامتة بابتسامة، وكأن النسيم الليلي يحمل ما تعجز الكلمات عن قوله.
فيلا ماسة وسليم الثامنة مساء.
هبط سليم من الدور العلوي مرتديا ملابس منزلية، مسح بعينيه المكان وكأنه يبحث عن ماسة التي لم يرها منذ عودته من العمل، عرف أنها ستكون في واحد من مكانين، إما غرفة المعيشة أو الحديقة، اقترب من غرفة المعيشة، وجدها جالسة هناك تشاهد التلفاز، أراد أن يلقي التحية ويجلس، لكن تذكر حديث الطبيب الذي دار في باله فانقبض صدره واستدار لينصرف.
لكنه تفاجئ بصوتها الناعم وهو ينادي عليه، توقف سليم، والتفت نحوها بسرعة بابتسامة واسعة.
ابتسمت هي بدورها وسألته: عامل إيه؟
سليم بابتسامة:الحمد لله، وأنتِ أخبارك إيه؟ مشوفتكيش النهارده!؟
وقفت أمامه موضحه: علشان لما أنت جيت، أنا كنت نايمة.
ثم نظرت إليه، وتساءلت بتردد: هو أنا ينفع اجيب سلوى تقعد معايا بكره
تكملة الفصل
هز سليم رأسه ايجابا: أيوه طبعا، ولو عايزة تروحي أنتِ، روحي.
ماسة بخفوت: لا مش عايزة أروح.
رفع سليم حاجبيه باستغراب: غريبة.
نظرت له ماسة بتعجب: ليه غريبة؟
مد سليم وجهه بتعجب: أنا قولت هتفرحي، وتبقي عايزة تروحي.
هزت كتفيها، ووضحت ببساطه: لا عادى، أنا بس عايزه أشوف سلوى، وأتكلم معاها، بعيد عن ماما وأخواتي وكده.
ابتسم سليم بهدوء: براحتك، اللى يريحك اعمليه.
ثم نظر في عينيها، وتساءل بلهفه: طب واحنا هنتكلم إمتى؟ أنا كمان عايز أتكلم معاكي واحكيلك اللى حصل معايا في ال ٦شهور دول.
تنهدت ماسة بتعب: هنتكلم يا سليم بس شوية.
نظر سليم في ملامحها بقلق واستعجال: شوية إمتى يا ماسة؟ فات أربع أيام، ولسه مش عايزه تسمعيني!؟
رفعت ماسة عينيها نحوه وقالت موضحه بنبرة متأثرة: حاسة لو اتكلمنا دلوقتي هيحصل مشكلة، أنا تعبانة، مش قادرة أتكلم، عايزة أتكلم وأنا هادية.
امسك سليم يدها، وضغط عليها: كده كده الكلام هيبقى فيه وجع يا ماسة، عشان احنا هنتعاتب.
هزت ماسة رأسها نافيه، وقالت بنبره مكتومه: لو على الوجع فكده كده موجود، بس اقصد العصبية، عايزة لما أتكلم معاك أتكلم معاك من غير عناد ولا زعيق، عشان حتى أبقى عارفة قرارى كويس، اصبر عليا شوية يا سليم من فضلك.
تنهد سليم ، وقال برفق وهو يتأملها: أنا ساكت وسايبك براحتك اهو، مش هتتعشي؟
ابتسمت ماسة بخفة: اه، هخلي سحرت تحضرلنا العشاء.
تحرك سليم بجانبها، نظرت ماسة إلى قدميه: على فكرة مشيتك بقت أحسن من اليومين اللى فاتوا.
سليم بابتسامه: آه، الحمد لله، علشان بقالي يومين مريحها زى ما الدكتور قال، لحد اما ابقي اروحله.
نظرت له ماسه بابتسامه صافيه، وقالت باهتمام: ألف سلامة عليك، إن شاء الله هتبقى كويس.
سليم وهو ينظر لها بحب: أنا كويس طول ما أنتِ معايا.
ساد الصمت لحظات، تبادلا خلالها نظرات مشبعة بالعشق والشوق، حتى بدت الكلمات بلا معني في تلك اللحظة، أمام دقات قلبيهما التي تتصارع بين الوجع والحنين والحب.
كان هو يتأملها بعينين مفعمتين بالشغف، وكأن لسان حاله يقول: «سأنتظرك مهما طال الزمن».
أما هي فقد حملت نظراتها اعترافا خفيا:
«أحبك، لكن جراحي مازالت تنزف، أحاول أن أنسى، لكني لا أستطيع، فصبرا».
ظلا هكذا لحظات، حتى عجز سليم عن مقاومة شوقه لتلك العيون، فاقترب منها ببطء، حتى وقف أمامها مباشرة، أنفاسهما تتلاحق كأنها تحمل ما كبت لسنوات طويلة.
لم تستطع ماسة أن تبتعد، ارتجفت يدها، واختلطت أنفاسها بقشعريرة عجزت عن كبحها.
غاصت في نظراته، وتلاقت أعينهما على شفتي بعضهما البعض بشوق أذاب أفئدتهم؛ هي الأخرى كانت تشتاق إليه مثلما يشتاق إليها، وأنفاسها تعلو مع دقات قلب متسارعة تكاد تسمع من قوتها.
لم يستطع سليم التحمل، فمال أكثر، حتى كاد ينهي المسافات بينهما بقبلة تبدد الوجع والشوق، وقبل أن تلمس شفتيه شفتيها، سقط الهاتف من بين يديها فجاة، فانكسر سحر اللحظة.
انحنت تلتقطه بسرعة، ثم نهضت بعينين مضطربتين، وقبل أن يمسك بها اندفعت هاربة، تاركة خلفها صدى أنفاسه المضطربة ونظراته المذهولة تلاحقها.
ركضت إلى غرفتها، وأغلقت الباب خلفها بالمفتاح، ثم سقطت على الأرض تبكي، تضع يديها على فمها من الصدمة؛ كيف سمحت لنفسها أن تضعف لهذه الدرجه!؟ انسابت دموعها بلا توقف..
بينما ظل سليم في مكانه غارقا في وجع وصمت، ثم رفع هاتفه واتصل بطبيبه النفسي، كان يمسك الهاتف بغضب وأنفاس متسارعة، وعندما تأخر الطبيب في الرد، ضغط على أسنانه، وأعاد الاتصال بعصبية، وحين أجاب صاح بغضب: مبتردش عليا ليه؟
الطبيب بهدوء: اهدى، في ايه؟!
قاطعة سليم بانفعال: متقوليش اهدي! أنا كلمت ماسة زي ما قولتلي، وقربت منها وكانت متقبلة، لدرجه كنت هبوسها! وفجأة جريت مني وهي بتعيط، أعمل إيه دلوقتي؟
الطبيب بهدوء: سيبها يا سليم واهدى.
صرخ سليم بضجر: أسيبها أزاى؟!
الطبيب محاولا تهدئته: اسمع كلامي، وسيبها تستوعب اللى حصل وتفكر فيه، الخطوة اللي عملتها النهاردة كبيرة، ومادام هي سمحتلك تقرب منها بالشكل ده، حتى لو تراجعت في الآخر، فدي علامة كويسة، اديلها وقتها، وبكرة أو بعده، اعمل اللي اتفقنا عليه.
سليم بتنهيده: ماشي سلام.
أغلق سليم الهاتف وألقى برأسه إلى الخلف يتنفس بعمق، عادت إلى ذهنه ملامح اللحظة؛ نظراتها، رائحتها، أنفاسها المتسارعة، ابتسم رغم الوجع، وقد شعر بأمل يتسرب إلي قلبه، أنها بدأت تلين وأن العفو بات قريبا، ثم اتجه إلى المطبخ وطلب من سحر أن تحضر العشاء وتقدمه لماسة
منزل مصطفى الثامنة مساء
الشرفة
وقف إيهاب في الشرفة، والشرود يكسو ملامحه، بينما تغرق عيناه في صور ماسة؛ ضحكتها، نظراتها، والمواقف التي جمعتهما، تتبدل ملامحه بين ابتسامة عابرة وحزن ثقيل..
دخلت عائشة تحمل صينية عليها كوب شاي، ولم تمنع خفة خطواتها مفاجأته، فانتفض إيهاب، ثم تناول الكوب بسرعة، وهو يقول بامتنان: تسلم إيدك يا شوشو.
وقفت عائشة تنظر إليه بتركيز، عينيها تفحصه كأنها تريد اختراق شروده: مالك؟ سرحان في إيه؟ واتخضيت كده ليه؟
حرك إيهاب الكوب بين يديه، في محاولة لإخفاء ارتباكه: مفيش عادي.
ضيقت عائشة عينيها، وتساءلت بشك: عادي ازاى؟ أنت من ساعة ما ماسة مشيت، وأنت مش طبيعي!؟ ودايما شارد! فيه إيه؟!
تنهد إيهاب، وأصابعه تتخلل شعره بتوتر: بفكر إزاي نوصلها، بعد الحريقة اللي حصلت في الفيلا، وإننا لسه لحد دلوقتي مش عارفين عنها حاجة.
عائشة: بس مصطفى قال إنه راح لسليم، وإن سليم مصدقش كلام ندى، وطمنه على ماسه.
أطرق إيهاب برأسه: عارف، بس أنا مش مطمئن.
تقدمت خطوة حتى وقفت أمامه مباشرة، وتساءلت بتوجس: أوعى تكون حبيتها يا ايهاب؟
رفع إيهاب رأسه بسرعة، وقال بملامح مرتبكة:
حبيتها إيه بس يا بنتي؟
ابتسمت عائشة ابتسامة ساخرة ممزوجة باليقين: إيهاب، أنت لو هتكذب على الدنيا كلها، مش هتعرف تكذب عليا.
أطبق إيهاب شفتيه للحظة، ثم زفر بعمق: كنت بقول لنفسي إنها زى أختي، بس لما مشيت، اكتشفت إن اللي جوايا مكانش أخوة، كان حب وأنا اللي مكنتش عايز أصدق، لكن ماما كان عندها حق ووقعت في الفخ.
اتسعت عينا عائشة بالحزن، وهزت رأسها بأسف:
بس يا إيهاب، مينفعش، مفيش حتى ربع فرصة.
انخفض صوت إيهاب وهو يطرق برأسه: عارف، وعارف كمان إنها بتحب جوزها، بس القلب ملهوش سلطان، اكيد شويه وهنساها، بس أنا فعلا قلقان عليها..
ثم رفع عينيه إلي عائشه، وهو يضيف برجاء:
بس أوعى تقولي الكلام ده لحد، ده بيني وبينك وبس.
مدت عائشة يدها تضعها على كتفه بحنان، وابتسامة صغيرة ارتسمت على وجهها رغم القلق: متقلقش، هو الكلام ده ينفع يتقال أصلا؟ بس لازم تنساها يا ايهاب، وربنا يستر وميكونش شك ماما في مصطفي كمان صح ويكون حبها زيك.
رفع إيهاب عينيه إلى السماء، وابتلع غصته في صمت، بينما تلاشى أثر سيجارته مع نسيم الليل.
مزرعة الراوي، الساعة العاشرة صباحا
هبطت لوجين من سيارتها عند بوابة المزرعة، وهي ترتدي فستانا رقيقا، وتحمل بين يديها أكياس الهدايا، وكان ياسين في انتظارها مع نالا، وما إن رأت نالا حتى ركضت نحوها كالطفلة الصغيرة واحتضنتها بشدة.
لوجين بصوت طفولي: إيه الجمال ده ما شاء الله! أحلى من الصور كمان!
نظرت إليها نالا بتردد، وهي تتساءل: أنتِ مين؟
ضحكت لوجين وهي تداعب شعرها: أنا اسمي لوجين، وممكن تقولي چوچا.
نالا بابتسامه طفولية: ماشي يا چوچا.
أخرجت لوجين من شنطتها الهدايا، وعيناها تتلألأ بالفرح: بصي أنا جبتلك إيه، عروسة حلوة زيك، بس أنتِ أحلى،وكمان جبتلك شوية ألعاب، كل دول عشانك أنتِ بس.
ابتسم ياسين، وهو يحدث ابنته بهدوء: احنا بنقول إيه يا نالا؟
نالا بخجل: ميرسي يا طنط!
اعتدلت لوجين ونظرت إلى ياسين بابتسامة: عامل إيه؟
ياسين بمزاح لطيف: تمام، أخيرا شوفتيني.
لوجين بمرح وهي تداعب شعر نالا: أصل أنا قدام الأطفال ببقي عبيطه أوى، وبنسى نفسي.
ضحك ياسين، وقال مازحا:أنا مش عايز أصدمك، بس، أنتِ عبيطه علطول.
نظرت له لوجين بتحذير مرح: مش قدام البنت طيب، اديني برستيجي!
أومأ ياسين برأسه ضاحكا: هحاول.
نظرت له لوجين متسائلة:مستنتش نيجي مع بعض ليه؟
ياسين موضحا: أنا هنا من امبارح، قولت أفصل من الدوشه وأجي اقعد مع نفسي في هدوء شويه، والصبح بعت جبت البنت.
هزت لوجين رأسها بتفهم، ثم تلفتت حولها وتقول بابتسامة وانبهار: بس المزرعة تحفة.
ضحك ياسين باستنكار: هو أنتِ لسه شوفتيها؟
لوجين بابتسامه: طب تعالي فرجنى عليها يلا..
ثم نظرت بعينيها إلى نالا، وأمسكت يدها: تعالي يا نالا، نتفرج مع بعض على المزرعة الحلوة دي.
هزت نالا رأسها وهي تسير برفقة لوجين، وبدأوا التجول في أرجاء المزرعة، وهم يتفقدون كل زاويه فيها، كانت المزرعة واسعة للغاية، تضم برجا للحمام وأشجارا متنوعة، وتطل على بحيرة قارون، وفيها طاحونة جميلة.
علقت لوجين بانبهار: لا ما شاء الله، المزرعه تحفة بجد.
اثناء ذلك وقعت عينيها على حمار متوقفا على مقربه منهم.
لوجين بدهشة طفولي: إيه ده هو هنا في حمار؟ عايزة أركب!
ضحك ياسين مشيرا بيديه: روحي اركبي.
ركضت نحوه وصعدت عليه برفقة نالا، بينما كان ياسين يلتقط لهما الصور في أجواء مرحة ولطيفة، بعدها تناولوا الفطور الريفي معا، وكانت لوجين تطعم نالا بيديها، وقضوا وقتا ممتعا معا.
كانت لوجين تلعب مع نالا معظم الوقت، تاركة ياسين يراقبهما أو يلتقط لهما الصور، كانوا يركضون ويمرحون ويتناولون السناكس والحلويات التي أحضرتها لوجين، كانت نالا سعيدة، وضحكاتها تملأ المكان بهجة، حتى شعرت بالتعب، فأخذتها المربية لتنام.
نظرت إليها لوجين بحنان: خدي بالك منها.
صعدت بها المربيه إلى غرفتها، بينما ابتسم ياسين بخفة: أنا لو كنت أعرف كده، مكنتش جيت، أنا حاسس إني جاي النهارده مصور بس.
لوجين بابتسامه رقيقه: أنا نقطة ضعفي الأطفال، خصوصا لو أطفال حلوين ودمهم خفيف مش رخمين.
ياسين ضاحكا:
ماشي يا ستي، جاهزة عشان نعمل السباق؟
لوجين بتحدي: طبعا جاهزه، بس عايزة أغير هدومي.
أشار لها ياسين: اطلعي أي أوضه فوق، وغيري.
وبالفعل، صعدت إلى إحدى الغرف وابدلت ملابسها فارتدت بنطالا وتيشيرت مناسبين لركوب الخيل، ثم نزلت، وما إن رآها ياسين حتى قال ضاحكا: إيه ده، أنا كنت متخيلك هتلبسي لبس فرسان!
لوجين بابتسامه مرحه: متكبرهاش في دماغي، والله أروح اشتري.
ياسين ضاحكا: لا وعلى ايه، كده كويس أوى، يلا تعالي
توجهوا إلى الإسطبل، نظرت لوجين حولها بانبهار، وهي تردد: ما شاء الله، عندكم أحصنة عربية أصيلة! حد يبقى عنده حاجات بالجمال ده ويقضي وقته بعيد عنهم؟
ياسين ضاحكا: لا بالعكس، أنا باجي هنا كتير، هبقي اخدك معايا بعد كده.
ثم تساءل بحيرة: تركبي أيه؟
أخرجت شفتيها للخارج، وهي تفكر: مش عارفة، أختار أنت؟
ياسين بحماس: أركبي زينة، وأنا هركب أدهم.
أخرج السايس الأحصنة، ثم صعدت لوجين التي بدت وكأنها فارسة حقيقية، تعرف تماما ما تفعل، نظر اليها ياسين بانبهار: لا ده احنا طلعنا جامدين فعلا.
نظرت له بثقة: قولتك خاف على نفسك.
ابتسم وأشار إليها بالاستعداد، فاصطفا جنبا إلى جنب، وضعت لوجين المنديل على فمها إيذانا بالانطلاق، وبدأ السباق بمرح وحماس، كانت لوجين تشجع فرسها حتى فازت بجدارة، وبعد أن ترجلا، وقفا متقابلين، والفرحة تملأ وجهيهما، والحماس يلمع في عيونهما.
ابتسم ياسين بفخر وهو يشير لها بحركة إعجاب: برافو عليكي، مكنتش متخيل إنك شاطرة كده في ركوب الخيل.
ضحكت لوجين بخفة: أنا قولتلك هبهرك.
تأمل ياسين ابتسامتها لحظة، وغرقت هي في نظراته الامعه، ثم ما لبثت أن غيرت اتجاه الحديث بخفة: بس بجد الجو عندكم هنا يجنن.
لوح ياسين بيده مشيرا إلى الممرات الخضراء: تعالي نتمشى شوية.
سارا جنبا إلى جنب، والنسيم يداعب شعرها، والعصافير تغرد بين عبير الزهور والأعشاب، فامتلأ صدراهما براحة غامرة.
دارت لوجين بعينيها في المكان، وهي تقول ببهجة طفولية: المكان هنا تحفه، كل حاجة مريحة للعين والروح.
ابتسم ياسين، وهو يتابعها أكثر مما يتابع المناظر: قولتلك الجو هنا مختلف وهيعجبك، من أول دقيقة يحسسك بالراحة.
واصلا السير قرب البرج الحمام والحدائق، يتبادلان الضحكات والنظرات الخفيفة، وكأن الزمن توقف لحظة ليمنحهما صفاء نادرا، وبعد قليل استيقظت نالا وشاركتهما ما تبقى من اليوم، بين اللعب والمرح وتناول الغداء، فقضوا معا يوما جميلا.
فيلا سليم و ماسة الرابعة مساء.
دخلت سيارة الأجرة من بوابة الفيلا، فتوقف السائق للحظات عند نقطة الحراسة، اقترب “مكي”، وانحنى قليلا ناحية الشباك، وقال للسائق: أنت مين؟ وا..
وقبل أن يكمل حديثه، وقعت عينه على سلوى الجالسة بالمقعد الخلفي، فرفع جسده، وأشار للحراس:
افتح البوابة.
لم يتبادلا كلمة واحدة ولا حتى نظرة، ظلت سلوى تراقبه بدهشة كأنه يتعمد تجاهلها.
ومع مرور التاكسي من البوابة، توقف عند المدخل، رفع مكي يده وأشار للسائق: بعد إذنك، التاكسي مينفعش يدخل جوه.
فتحت سلوى باب السيارة بهدوء، مدت يدها وأعطت النقود للسائق، وعدلت حقيبتها على كتفها، ثم بدأت تتحرك إلى الداخل.
أما مكي، فظل واقفا مكانه، كأنه وجودها لا يعنيه، كانت خطوات سلوى بطيئة يعتريها الاستغراب؛ فقد كانت تتوقع أن يلحق بها، لكنه لم يفعل !
دخلت الفيلا، وهناك كانت ماسة تنتظرها بفارغ الصبر،
ومجرد أن رأتها، قفزت من مكانها وركضت نحوها تعانقها بحرارة.
ماسة بشوق: وحشتيني، رغم إني لسه شايفاكي أول امبارح!
سلوى بشوق: وأنتِ كمان، أنا أصلا مشبعتش منك.
شدتها ماسة من يدها بحماس: تعالي، نقعد على النيل، القاعدة هناك تجنن!
وبالفعل تحركوا معا، إلي الحديقه المطله على النيل، وعندما وصلت سلوى هناك نظرت من حولها بابتسامه واسعه وهي تقول بانبهار: الله المكان يهوس!
ماسة بابتسامة: المكان ده بقى عشقي تعالي نقعد.
سلوى باعتراض ممزوج بحماس: لا تعالي نقعد على النجيله احسن، وخلي سحر تعمل لنا شاي، فاكره الشاي اللي كنا بنعمله على اولح الدورا وسط الغيطان.
ابتسمت ماسة بحنين وقالت: كانت ايام جميلة والله.
جلسوا على النجيلة.
بادرت سلوى تتساءل بجدية: احكيلي بقي، أنتِ فعلا سليم معملكيش حاجه؟ ولا كنتي بتمثلي قدام أبوكي وامك؟
هز ماسة رأسها بتوضيح: لا فعلا معملش حاجه، ورجع زي زمان، سليم اللي حبيته واتجوزته..
اضافت بتوتر ودمعه تلمع في عينيها: بس خايفة، خايفة يكون بيعمل كده علشان يطمني وبعدين يوجعني، مع إنها مش من أخلاقه..
ثم ابتسمت بمحبه وشوق: بس عارفه هو وحشني جدا، امبارح كنت هضعف وأبوسه، بس في آخر لحظة بعدت، في حاجة جوايا بتقولي: “انسي وسامحي”، بس في نفس الوقت، كل ما أشوفه قدامي، بفتكر التهديد ونظراته ليا في الليله أيها، مش قادرة أتخطها خالص يا سلوى، حاولت أكرهه، بس معرفتش، قلبي مش عارف غير إن يحبه وبس.
اطرقت سلوى رأسها لحظة، ثم رفعت عينيها: مش عارفة أقولك إيه، بس أنتِ عندك استعداد تسامحي بعد كل اللي عرفتيه عنه؟!
عادت ماسة بشعرها للخلف، وقالت بهدوء: أنا معنديش مشكلة في اللي عرفته، مشكلتي في اللي عمله معاكم ومعايا.
ثم تنهدت بتعب وتساءلت بقلق: بقولك إيه خليكي في اللى جيباكى علشانه، طمنيني رشدي عملكم حاجة؟
هزت سلوي رأسها بنفي: خالص مشوفتش خلقته من ساعة ما هربتي، هو جه قابل بابا مرة وقال “ممكن أساعدكم”، وبعدها اختفى.
هزت ماسة رأسها، كأنها تفكر بصوت عالي: أنا حاسة إن في لغز.
حاولت سلوى تغير الحديث: طب وأنتِ ليه رافضة تشوفي صافيناز وتخلينا تعتذلك زي ماسليم قال؟
ماسة بنبرة مرتجفة: خايفة، خايفة أشوفهم بعد ماعرفت إنهم قادرين يعملوا أي حاجة، أو يمكن أنا مش قد المواجهة دلوقتي، مش عارفة.
زمت سلوى شفتيها بضيق: هما فعلا قادرين.
تنهدت ماسة بتعب: بقولك يا سلوى، أنا مش عايزة أتكلم في الموضوع ده، أنا كنت جايباكي عشان أطمن إن محدش عملكم حاجه، لأن أنتِ الوحيدة اللي عارفة، غير كده أنا مش عايزة أتكلم، عايزة أرتاح ودماغي تهدى شويه.
ربتت سلوى على قدميها بحنان: ماشي يا ستي، مش هنتكلم في حاجة
ماسة بحماس واهتمام: بقولك إيه، متحكيلي بقى على حوار شغلك الجديد بتاع الإكسسوارات.
سلوى بابتسامه: هحكيلك.
وأخذتا تتبادلان الأحاديث بخفة وألفة.
وأثناء ذلك دخل سليم الفيلا، وبالطبع تساءل عن ماسة، قالت له سحر أنها تجلس مع شقيقتها في الحديقة، أخذ يفكر هل يرمي عليها السلام أم لا، لكنه أراد ذلك فقط من أجل ماسة ليطمئنها، فاتجه بالفعل إلى الحديقة.
سليم بابتسامه لطيفه: عرفت إنك هنا، عاملة ايه؟
سلوى باقتضاب، وهى تشيح بوجهها بعيدا عنه: الحمد لله.
تفهم سليم أسلوبها في الرد، وقال بتهذب: يارب ديما، ياريت لما تفضي ابقي تعالي اقعدي مع ماسة بدل ما هي عنيده وبتقعد كتير لوحدها كده.
سلوى بسخافه: هبقي أشوف.
سليم بلطف: طب اسيبكم على راحتكم بقي، وطبعا هتقعدى تتغدى معانا.
سلوى برخامه: لا معلش عندى شغل، هقعد مع ماسة شويه وبعدين امشي.
سليم بابتسامه: على راحتك، أنا جوه لو احتاجتم حاجه.
ثم تحرك سليم إلى الداخل، بينما أكملت سلوى وماسة حديثهما لوقت طويل، وعندما أرادت سلوى الذهاب، كان سليم يقف مع مكي يتحدثان في أمور تخص العمل، فاقتربت سلوى ومعها ماسة.
ماسة بتهذب: مكي، من فضلك عايزة عربية عشان توصل سلوى.
سلوى بارتباك: مش مهم، أنا هركب تاكسي.
سليم بتمثيل: تاكسي ليه؟ طب ما عشري يوصلك، اه صح دى في أجازه! طب مكي، وصلها ولما تيجي نبقى نكمل كلامنا.
ثم تحرك مبتعدا، بينما نظر مكي إليه بضجر، فهو يفهم صديقه جيدا، فجز مكي أسنانه بغضب، وقال بنبرة هادئه يحاول بها الحفاظ على ثباته: اتفضلي يا آنسة سلوى.
هزت سلوى رأسها بصمت وارتباك ودخلت السيارة.
داخل سيارة مكي
ظل يقود السيارة بصمت، وكأنه لا يراها، متجاهلا وجودها تماما، بينما هي كانت تسترق النظر إليه من حين لآخر، حتى وصلوا إلى الفيلا، فترجلت من السيارة، ثم انطلق مكي مبتعدا كأنه مجرد سائق ليس إلا، بينما نظرت سلوى لابتعاد السياره باستغراب لطريقته التي لم تعتدها من قبل.
💞_______________بقلمي_ليلةعادل.
وخلال باقي اليوم، لم يتحدث سليم وماسة معا كما أمر الطبيب، كان الصمت يخيم على أرجاء الفيلا، كأنه جدار يفصل بين قلبين يشتعلان بما لا يقال.
جلس سليم طويلا في مكتبه، يحدق في شاشة اللابتوب دون أن يرى شيئا، يطرق بأصابعه على المكتب بملل متوتر، وكل ما يدور في رأسه هو انتظار الغد، اليوم الذي سينفذ فيه ما أوصاه الطبيب به، عساه يكون بداية النهاية لكل هذا الارتباك الذي يسكنه.
أما ماسة، فبقيت في غرفتها بعد مغادرة سلوى، تتقلب بين السرير والكرسي، تمسك هاتفها ثم تضعه، تفتح الستارة ثم تغلقها، خائفة من نفسها أكثر من أي شيء، كانت تخشى أن تضعف مرة أخرى، أن تنجرف خلف مشاعرها التي تحاول كبتها منذ البداية، فتنهار أمامه كما فعلت من قبل.
في اليوم التالي
الدرج، الخامسة مساء
كان الدرج يتلألأ بإضاءه خافته، تزينه الورود البيضاء المنثورة، وتحتضنه الشموع الصغيرة التي تنشر دفئا في المكان، والمصابيح الموزعه بعنايه تنثر بريقا كأنها نجوم أسرجت خصيصا لهذه اللحظة، كل درجة بدت كدعوة صامتة لرحلة من القلب إلى القلب.
في آخر الممر انتصبت طاولة صغيرة، مغطاة بمفرش ناعم، يتناثر فوقها أوراق من الورد الأحمر، فتبدو كأنها وجدت لتشهد سرا لا يعرفه أحد.
كان سليم يقف عند الطاولة، مرتديا بدلة كاجوال أنيقة تزيده هيبة ووسامة، عيناه تتأملان التفاصيل بترقب، يداه تتحركان في توتر محسوب، وهو يضع الأطباق هنا، ويعدل موضع الشموع هناك.
بجواره سحر تساعده في الترتيب، بينما هو يكرر النظر إلى الطاولة، كأن قلبه يخشى أن يفوته شيء.
ابتسمت سحر بخفة: شكلك متوتر اوي يا سليم بيه.
رفع عينيه نحوها، وابتسامة صغيرة تسللت رغما عنه: هو أنا بعمل حاجة لحد تاني غيرها؟ لازم كل حاجة تبقى مظبوطة.
أمالت سحر رأسها وغمزت: واضح إنك عايز تبهرها على الآخر.
تنهد سليم وهو يضبط وردة خرجت عن مكانها، وقال بنبرة عاشقه:ما هو لو مبهرتش ماسة، أبهر مين؟
توقف لحظة، نظر للطاولة ثم للممر، وابتسامة أمل ارتسمت على شفتيه، بدا كأنه يضع قلبه كله في هذا المكان، ينتظر فقط أن تأتي اللحظة، وأن تفتح الأبواب على حضورها.
سليم بهدوء وهو ينظر لسحر: خلاص يا سحر، شكرا ممكن تروحي أنتِ.
ابتسمت سحر وقالت بدعاء صادق: ربنا يسعدكم يا رب ويصلحلكم الأحوال.
غادرت سحر، بينما أخذ سليم نفسا عميقا، يمرر يده في شعره، محاولا تهدئة توتره، تقدم بخطوات بطيئة حتى توقف أمام غرفة ماسة، أغمض عينيه، وأخذ نفسا عميقا، ثم فتح عينيه وطرق الباب بخفة.
داخل غرفة ماسة
كانت ماسة جالسة على الأريكه، ترتدي بنطال وتيشرت منزلي، غارقة في أفكارها بعينين شاردتين، ولا تدري بما يحدث في الخارج، وحين سمعت طرق الباب، رفعت رأسها وقالت بنبرة مكتومه: اتفضلي يا ماما سحر.
جاءها صوت الهادئ من الخارج: أنا سليم مش سحر.
تنهدت ومسحت وجهها بكفيها، فكانت تلك أول مرة يتحدثان منذ ليلة أمس، قالت بصوت متعب: معلش يا سليم أنا مش قادرة أتكلم دلوقتي.
رد من الخارج بإصرار رقيق: بعد إذنك يا ماسة، عايز أتكلم معاكي في حاجة مهمة.
تنهدت ماسة مجددا، ثم وقفت واتجهت نحو الباب، فتحته بتردد، وقبل أن تنطق بكلمة، وحين وقعت عيناها على الممر المزين بالشموع والورود، فعقدت حاجبيها بدهشة، وخطت خطوة إلى الخارج.
تحركت عيناها ببطء بين الورود والشموع، وهى تردد باندهاش: إيه ده؟
ابتسم سليم وهو يتابعها، بتوتر: كنت متأكد إنك مستحيل تنزلي معايا تحت، ولا حتى تقبلي دعوتي اننا نخرج نتعشا برة، فقولت اجبهالك لحد عندك.
سارت ماسة ببطء، ويدها تمر على بتلات الورود، وقالت بنبرة مريرة: تفتكر إني لسه صغيرة وبيضحك عليا بالحاجات دي زي زمان؟
هز سليم رأسه سريعا، وشرح بهدوء: أنا معملتش كده عشان أضحك عليكي؟! ولا عشان عندي نية لأي حاجة؟! أنا كل اللي محتاجه، إننا نتكلم، نتكلم وبس.
التفتت له بعينين متسائلتين بتعجب: هنتكلم في إيه؟
اقترب خطوة صغيرة، وقال بصوت محمل بالرجاء: في أي حاجه وفي كل حاجه، هنفضل ساكتين لحد إمتى؟
أشارت ماسة حولها بتعجب: والأجواء دي هي اللي هتخلينا نتكلم؟
ابتسم سليم بتوتر: الدكتور قالي إن الأجواء دي هتساعدنا نتكلم بهدوء ومن غير عصبيه زي كل مرة.
تساءلت ماسة باستغراب: دكتور مين؟
سليم بابتسامة صغيرة: الدكتور النفسي بتاعي.
اتسعت عيناها بدهشة: أنت بتروح لدكتور نفسي؟
أومأ برأسه مؤكدا: أيوه، أنا قولتلك في حاجات كتير حصلت، أنتِ متعرفيهاش ولازم نتكلم فيها.
ضيقت ماسة عيناها بتعجب:حاجات غير الدكتور النفسي؟؟
ابتسم سليم بخفه: آه غير الدكتور النفسي.
نظرت له للحظات ثم نظرت من حولها، وقالت بنبرة مزاح خفيفة: أنا مش فاهمة ليه كل مرة تعملي مفاجأة، ابقي أنا بالبيجامة وأنت قمور ومتشيك كده.
اقترب منها سليم بنظرة غزل، وابتسامة دافئة:أنتِ جميلة في كل حالاتك، مش محتاجة تلبسي وتتزوقي عشان تبقي حلوة.
ابتسمت له في صمت، قلبها ينبض بشيء من الدفء
أصبح صوت سليم أكثر رقه وهو يتساءل: هتقعدي وتسمعيني؟
ترددت للحظة، ثم أجابته بنبرة مهتزة: هو أنا لو رفضت هتحترم رأيي؟!
أجابها بهدوء: أكيد هحترم رأيك.
تنهدت، وعيناها تلمعان ببقايا ضحكة: وتضيع كل المجهود اللي أنت عملته ده؟
التفتت نحو الطاولة تتأمل الطعام، وأضافت بابتسامة: شكلك أنت اللي عامل الأكل، أنا عارفة طريقتك في التقديم، حتى ريحة أكلك مميزة.
ابتسم سليم بخفة: مش مشكلة يضيع النهارده، هفضل أعيد كل دى تاني وتالت ورابع ومليون، لحد ما توافقي.
ساد الصمت للحظات، وهم يتبادلون النظرات بصمت، شعرت بتغيير واضح فيه، تغير يريح قلبها قليلا، ويجعلها تصدقه، لكن في نفس ذات الوقت شعرت بالخوف ان يكون ذلك فخا.
تنهدت، حائرة: لا متعيدش، أنا أصلا جعانة، فعقهد أكل معاك.
ابتسم سليم إبتسامة واسعه؛ فموافقتها تعني له أملا كبيرا، ثم تحرك وسحب لها المقعد برقي فجلست عليه، وجلس بجانبها، وضع لها الطعام في الصحن.
سليم بابتسامه: دوقي الفراخ دي هتعجبك.
قطمت قطعة صغيرة، وقالت بابتسامة وهى تتذوقها: طعمها جميل فعلا، تسلم إيدك.
سليم بابتسامه دافئه: بالف هنا.
مدت ماسة يدها تلمس الورود، وارتسمت على وجهها ابتسامة صغيرة يخالطها حزن دفين ممزوج بحنين لتلك الأيام.
انحنى سليم بجسده نحوها، وتساءل باهتمام : مالك؟
هزت رأسها ببطء، وخرج صوتها مبحوحا: مفيش.
سليم بهدوء: طب ممكن ناكل وبعدها نتكلم.
هزت رأسها برفض: أنا مش عايزة أتكلم، هقعد آكل وبس.
رمش سليم بعينيه بيأس، وتنهد وهو يتناول ما في الشوكه: زي ما تحبي.
أكملا طعامهما في صمت يثقل المكان، لا يُسمع سوى صوت الملاعق الخافتة، وبين الحين والآخر كان كل منهما يختلس النظر إلى الآخر، وكأن العيون تبحث عما عجزت الكلمات عن قوله، فكان سليم يرفع عينيه إليها كل بضع ثواني، يتأمل ملامحها بشغف مكتوم، بينما هي ترد بنظرات يغلبها الضعف والتردد.
مرت الدقائق كالدهر، وكاد سليم أن يختنق من الصمت المسيطر على المكان، لم يعد يحتمل الانتظار أكثر؛ أراد أن يتحدث، أن يقول أي شيء، أن يخبرها كيف تغير، وما الذي جرى معه خلال الأشهر الستة الماضية.
فوضع شوكته ونظر إليها، وهمس بنبرة موجوعه:أنتِ ليه مش عايزة تتكلمي معايا؟ فات خمس ايام؟!
رفعت ماسة عينيها نحوه ثم عادت إلى صحنها وقالت ببرود متألم: الكلام مش هيفيد في حاجة، إحنا قولنا كل حاجة خلاص.
سليم باعتراض واصرار: لا، لسه في كلام كتير متقالش، وحاجات كتير اتغيرت ول….
قاطعته وعيناها تكاد تدمع: عشان روحت لدكتور نفسي يعني؟
تنهد باستهجان وضعف: ليه مستهونة بالموضوع كده؟
هزت ماسة رأسها، وقالت بضعف: مش قصه مستهونه بس أنا متأكدة مفيش حاجة هتتحل و..
قاطعها بنبرة عقلانية ورجاء: ماسة من فضلك خلينا نتكلم بهدوء، من غير عصبية ولا عناد، تعالي نفتح الجرح، وكل واحد فينا يقول كل حاجه مزعلاه، عشان لما نيجي نقفل الجرح نقفله على نضافه، أنتِ بتحبيني وأنا بحبك، تعالي ندور على المشكلة ونحلها، ونشوف ليه وصلنا للي وصلناله، بعد كل الحب اللي كان بينا!؟ ولو معرفناش نحاول تاني وثالث لحد منوصل..
صمت لحظه، ثم ابتسمت بضعف وكأنه يذكرها: فاكره يا ماسة لما قولتيلي قبل كده هنفضل نفكر لحد منلاقي حل!؟ عشان احنا بنحب بعض ومنقدرش نعيش من غير بعض..
اشاحت ماسة بوجهها إلى الجهة الأخرى، وعيونها مغرورقة بالدموع، كان الوجع يتملكها فهي لم تستطع أن تواجه عينيه؛ تخشى أن تضعف أمام ذلك العشق الذي مازال يسكنها رغم كل شيء، هي تعلم أنها مازالت تحبه، بل تعشقه، لكن الغفران صعب، وتجاوز ماحدث أصعب، كانت تستمع إلى صوته وقلبها يعصف بها، ويضج بألم يعجز عن احتماله.
بينما هو مازل يتحدث دون انقطاع بنبرة مرتجفه بين الرجاء والخوف، وأضاف بعشق يخرج من عينه: ماسة، أنا بحبك، وعمري ماحبيت حد غيرك، ومستعد أخسر الدنيا كلها علشانك، عارف إني ظلمتك كتير، وعارف إنك استحملتي فوق طاقتك، يمكن مسحت لحظات كتير حلوة بينا بسبب اخطائي، رغم إن هي ممكن تكون عددها صغير بس جرمها كبير، لكن ربنا بيسامح حتى لو الإنسان كفر بيه ورجع تاب بعدها توبه حقيقه وصادقه ربنا بيسامحه، ليه أنتِ مش عايز تسامحيني؟!
صمت للحظة، يترقب منها كلمة واحدة، لكنها كانت غارقة في صمت يشبه الوجع، ملامحها تحكي أكثر مما قد تقوله
فتابع كأنه غريق يستنجد بقشه بنبرة أمل: طب بلاش تسامحيني، انا بس عايزك تديني فرصة، فرصة تشوفي فيها سليم اللي اتغير، وياستي لو زعلتك تاني وقتها يبقي حقك تسيبيني، بس أدى نفسك فرصه تشوفي التغيرات دي، عشان تقدري تسامحي، تعالي نروح للدكتور هو عايز يشوفك، لأن أنتِ كمان محتاجه تتعالجي زيي، انا عارف اللي حصل في الليله الملعونه دي صعب تنسيه، بس احنا مع بعض هنتخطاه، انا هعرف اداوى جرحك، وبعدين يعني المفروض علاقتنا وحبنا لبعض أكبر من أي أخطاء..
تمتمت ماسة بمرارة: حبنا أكبر من أي أخطاء؟! اهي هي دي خزعبلات الحب إللى دمرتنا.
سليم بنبرة موجوعه وخائفه: وهو أنتِ كرهتيني؟!
صمتت نظرت لاسفل، فأعاد السؤال بنبرة أكثر وجعا: ردي عليا كرهتيني؟
رفعت ماسه عينيها المغرورقتين بالدموع ببطء، والوجع يفتك بقلبها، وقالت بصوت متقطع ضعيف: لا مكرهتكش، حاولت لكن معرفتش، لدرجه إني قاعده باكل معاك وقادره أكل من ايدك بعد كل اللي عملته فيا، حاولت أنساك وأخرجك من قلبي معرفتش، كأني ملعونه بيك..
وأضاف بنبرة مريرة، ودموع تتساقط بلا توقف: مكرهتكش، ولسه بحبك، بنفس القوه والجنون والضغف، مش بعرف غير أني أحبك، مهما ظلمت وقسيت، مهما عملت فيا بحبك، قلبي مبيعرفش غير إنه يحبك…
وتابعت بضعف شديد وهي تهز رأسها، وتضع يديها على قلبها: بس لحد هنا مش قادرة، والله ما قادرة..
ارتجف جسدها، وقالت بنبره مهزوزة، ممتلئة بالكسره: كل مرة بقعد أقول لنفسي أنا مستحيل أسامحه وارجعله، بس بلاقي قلبي وعقلي الاتنين بيتفقوا عليا ويدورولك على حجج عشان يسامحوك بيها، احنا فعلا حبنا لبعض أكبر من أي أخطاء، لأن برغم كل حصل منك لسه بحبك بنفس القوة والشدة!؟
غطت وجهها بيديها لحظة، ثم رفعت رأسها، وأضافت بنبرة مرتجفة ببكاء: حاولت أكرهك حاولت أطلعك من قلبي الملعون، معرفتش، كنت بصلي وأقول يا رب خليني أكرهه، بس لقيت نفسي بدعي يا رب خليه يبقى كويس؛ عشان منبعدش عن بعض..
وتابعت بنبرة مكتومه، ووجع قطع نياط قلبها: بس لحد هنا كفايه، احنا فعلا بنحب بعض أوى، ومنقدرش نعيش من غير بعض، لدرجة اننا بسبب حبنا الكبير لبعض وجعنا بعض، وأنا استكفيت وجع، مش هقدر أتوجع تاني..
اخذت أنفاسها، وأضافت بنبرة محشرجه: زمان كانت فكرة إني أبعد عنك مستحيلة، أموت ولا تبعد عني، بس دلوقتي بعد اللي حصل، فهمت إن مش كل اللي بنحبه لازم يفضل معانا؟! ممكن نفضل نحبه حتى وإحنا بعيد لأن ده الأصلح، إحنا صحيح بنعشق بعض، بس مش عارفين نعيش مع بعض، خلينا نبعد، ولسه في قلبي حب ليك.
كان سليم يستمع إليها وقلبه يعصف به الألم، دموع ساخنة ملأت عينيه، والغصات تتراكم في صدره، تضخ وجعا في قلبه بصمت قاتل كاد أن يرد عليها.
لكنه توقف حين أشارت ماسة بإصبعها، اعتدلت في جلستها، وقد اكتسبت نبرتها قوة ممزوجة بالمرارة، وقالت: عايز تتكلم بهدوء وعقلانية من غير عند؟ تعالى نتكلم بهدوء وعقلانية، هنتكلم في ايه بظبط؟! هنتكلم على حبسك ليا واسلوبك وشك فيا اللي وصلني اني افكر ابعد عنك بسببه؟! ولا لا بلاش دي، خلينا في السنه اللي حبستني فيها وضربت اخويا بالنار، ولا بلاش دي كمان، نتكلم مثلا أنك ارغمتني اني اقطع علاقتي بسلوى وعمار عشان عملوا حاجه مش على هواك؟! عشان دافعوا عن اختهم، برغم انك لو كنت مكانهم كنت هتعمل كده واكتر؟! بس لا لا ازاي عمار يدافع عن أخته ويقف في وشك، فتحرمني منه هو وسلوى، وتقولي هجبلك امك وابوكي ويوسف لما يجيني مزاجي، ولو عملوا حاجه كده أو كده، انا مش عارف ممكن اعمل ايه؟!
مسحت دموعها وهزت رأسها، وهي تلوح بيديها امامه، وواصلت بانين: ولا اقولك سيبك بقى من السنه دي عشان أنا كان عندي استعدادا انساها واخلقلك حجج زي مبعمل علطول واسامح، عشان قلبي ده ملعون بيك وبيحبك، بس خد بالك أنا وقتها كنت لسه بشوف فيك سليم حبيبي “كراميل”، عشان كده قولتلك آخر ليلة أنا حاسه اني خلاص بدأت احن بس اصبر عليا شويه، بس أنت مصبرتش.
ذات صوتها وجعا وقهرا، وهى تركز النظر داخل عينه: هو أنت فاكر إن المشكلة بينا هتبقى الليلة دي وبس؟! تبقى غبي، لأن مشكلتنا أكبر من الليلة دي واللي حصل فيها؟!
تابعت بوجع خنق نبرة صوتها: حتى لو كنت تحت تأثير مخدر، أنا هنسى كل ده واتعامل معاك كزوج تاني ازاي؟!
هنسي ازاى ضربك ليا!؟ هنسي ازاى كسرتي لحظه ما حاولت تاخدنى بالعافيه!؟ هنسي ازاى نظرة عينك وأنت بتخنقني وانا بتوسلك ترحمني ؟!
مسحت دموعها، وقالت بصوت متحشرج: طب لو هتقدر تنسيني كل ده؟! هتقدر تنسينى لحظه الجري في الشارع بقميص النوم في عز الليل وأنا مضروبه وخايفه؟! ولولا إني قابلت مصطفى الله أعلم كان حصلي إيه؟! بلاش دى، طب الثلاث أيام اللي نمتهم في الشارع، ولحظه أن في واحد اتهجم عليا، واني كنت هقتل إنسان حتى لو دفاع عن النفس، قولي أزاي هتقدر تنسيني ليالي مبتروحش من بالي لحظه، بقيت جزء مني ومحفوره في ذكرياتي زي الوشم ؟!
رمش سليم بعينيه في صمت، ودموعه تترقرق بألم يمزق القلب، لكنه لم ينطق، اكتفى بأن يصغي لوجعها في صمت موجع مثله.
انسابت دموعها، وصوتها صار أثقل: ولا إني قعدت سنه ونص مشوفتش أهلي، وبكلمهم بالعافية عشان خايفة عليهم منك، ولا إني عشت سنة كاملة مستنية منك وعد إنك مش هتأذيهم، ومقدرتش تقوله، هنتكلم في ايه ولا في ايه قولي؟!
مسحت دموعها، وأخذت أنفاسها، وأضافت بنبرة مليئه بالخذلان: طب لو اتكلمنا في كل ده؟! وحصلت معجزه وقدرت تنسيني، هتعرف ترجعلي الراجل اللي حبيته، اللي زمان وأنا صغيرة أول ماضربني بالقلم قولتله أنا مزعلتش على القلم، أنا اتوجعت لإنك طلعت زيهم، بس أنت طلعت أسوأ منهم يا سليم.
أخذت نفسا عميقا، واقتربت بجسدها أكثر، وارتسمت على وجهها ملامح الصراع بين الحب والخذلان، وقالت بصوت مخنوق بالدموع: أنت عارف أنا حبيتك ليه؟ علشان كنت بحس بالأمان اللي معرفتش معناه غير وأنا في حضنك، كنت بقول حتى لو أنا في قفص مليان أسود، طول ماسليم معايا مش هتهز.
صمتت لحظة، قبل أن تضيف بوجع أشد: لكن دلوقتي؟! أنا مش هخاف من الأسود، أنا هخاف منك أنت.
رفعت رأسها تحدق في عينيه، والدمع يلمع في وجنتيها: أنا رسمتلك صورة كبيرة جوايا، صورة راجل بيحمي ويطبطب، بس أنت اللي كسرت الصورة دي وكسرت قلبي معاها، أنا مكنتش بدور غير على الحنان والأمان، وأنت في الأول إديتهملي وخلتني أصدقك، وفجأة خطفتهم مني من غير رحمة.
قربت وجهها من وجهه، وصوتها إزداد ثقلا وإصرارا: قولي، هتقدر ترجعلي الراجل ده؟ هتقدر تحسن صورته تاني قدامي؟
رفع عينيه إليها وهز رأسه بإصرار، وقال بنبرة مكتومة: هقدر، بس أنتِ اديني فرصه
هزت رأسها بنصف إبتسامة خذلان، وهي تأخذ انفاسها بيقين: استحاله هتقدر، وهي دي مشكلتنا، مشكلتنا فيك أنت، اللي حصلي ده، هيحصلي تاني وثالث والف بس بشكل مختلف، لأن أنت المشكلة، سليم هيفضل سليم استحاله يتغير.
اسندت ظهرها على المقعد، وهي تمرر عينيها الحمراء عليه، وارتسمت على وجهها نصف ابتسامه مقهورة: أنا مصدقة إن صافيناز حطتلك الحباية والله، ومش هنكر، إني بعد كل اللي قولته وعشته بسببك، لسه بحبك، ونفسي أسامحك، بس مش قادرة، ولا عارفة.
اختنقت نبرة صوتها بانين: الكام يوم اللي فاتوا دول حاولت أتخطى وجعي، وأفتكر كل الحاجات الحلوة عشناها سوا، وأقول لنفسي يا بت، ده مش هو! يا بت، ده أخته الحية السبب، سليم استحالة يعمل كده، بس أنا كل مابشوفك، مبشوفش غير نظرة عينك ليا في الليله دى، لقيت إني مش عارفة أتعامل معاك كزوج تاني، كل ماهتقرب مني هفتكر وهتوجع، أنا أصلا بقيت بخاف منك، في حاجات بتعلم في القلب، ولما بتتكسر مستحيل تتصلح.
كان سليم يصغي إليها بصمت، وعيناه مغرورقتان بالدموع، كلماتها تنهال عليه كسياط يشق صدره حتى العظم، كل جملة تنطق بها لا تفتح جرحا جديدا فقط، بل تقتلع ماحاول دفنه داخله، فما حدث بينهما لم يعد مجرد ذكرى، بل لعنة تطارده وتحول دون غفرانها، فالحمل صار أثقل من أن يمحي، حتى لو كان مظلوما، فتلك الليلة لم تترك ندبة فحسب، بل نزيفا لا يتوقف، وما تلاها جعل الألم يتوحش بداخله، يأكله قطعة بعد أخرى.
نهضت ونظرت له، وقالت بنبرة موجوعه: خلاص، اتكلمنا بالعقل من غير خناق ولا عناد!؟ فتحنا الجروح زى ما أنت عايز، بس الجروح مش هتتقفل بسهولة ولا هتشفى ابدا.
تحركت بعض الخطوات مبتعدة لكنها توقفت حين استمعت لصوت سليم.
كان واقفا، ينظر إليها بعينين مغرورقتين بالدموع، وهو يقول بوجع يقطع نياط القلب: بس أنا لسه متكلمتش، أنا سمعتك، بس أنتِ مسمعتنيش يا ماسة.
التفتت له بوجع، وقالت بنبرة متكسرة: هدافع عن نفسك، هتقول إيه؟!
أخذ سليم نفسا عميقا، ومرر يده على وجهه المثقل بالوجع: أنا مش هدافع عن نفسي، أنا عارف إني غلطت، وعارف إنك عشان تصدقيني أو تقبلي اعتذارى وتسامحيني، لازم تشوفي بعينك إني اتغيرت المرة دي بجد ومش فترة وهرجع تاني للصفر.
تقدم حتى وقف بالقرب منها، وقال بابتسامة أمل حزينة: أنا المرة دي مروحتش للدكتور عشان أبطل غيره مجنونة واضربك لما انفعل؟! واغمض عيني عن باقي المشاكل أو انكرها، أنا روحتله، علشان أكون إنسان كويس، واتجرد من تعاليم الراوي الفاسدة اللى بتجري في دمي.
ارتجف صوته، وأضاف وهو يركز النظر في ملامحها: عارف إن أخطائي صعبة، بس لازم تبقي عارفة إني عمري ماكنت قاصد أجرحك، ولا أوجعك ولا كنت أحب ابدا إنك تعيشي كل دي بسببي يا ماسة.
خفض رأسه لحظة، ثم رفعها بعينين غائرتين: أنا بعد الحادثة فعلا صحيت واحد تاني، مبقيتش سليم اللى أنتِ حبتيه، فوقت واحد تاني خايف ومكسور وموجوع، حاجات كتير عقلي مكانش قادر يتحملها، واكتر حاجه كانت قتلاني، اني كنت خايف يحرموني منك، صور اليوم ده مفارقتش خيالي لحظه، والكوابيس مكانتش رحماني، لا وأنا نايم ولا وأنا صاحي، أنتِ كنتي ديما تقولي إني بخرج وبشتغل وعايش حياتي! بس أنا كنت مسجون في سجن أصغر بكتير من سجنك يا ماسه..
ثم أشار نحو عقله بنبره مهتزه: مسجون جوه أفكارى وخوفي اللى بقي ملازمني زى ضلي، كنت كل ما أغمض عيني ثانيه بشوف الحادثه كأنها بتحصل قصاد عيني من تاني، ولما افتحها خيالي مكانش بيرحمني، كنت فجأه بشوف صورتك قصاد عيني بتصرخي، بتطعني، بتدبحي، الف سيناريو وسيناريو ابشع من بعض، حتى وأنتِ نايمه جوه حضني كنت بشوفهم بيقتلوكي، كنت بقوم مفزوع وأفضل ابصلك علشان اتأكد إنك كويسه وبخير، أنا كنت بتمنى ليلة واحده أنام فيها مرتاح، ليلة واحده من غير خيال ولا وجع، هما عرفوا ازاي يكسروني فعلا..
ثم أضاف بصوت حزين باكي وهو ينظر داخل عينيها: ماسة أنا شوفتهم وهما بيموتوكي أنتِ وبنتنا، وأنا واقف متكتف مش عارف اعمل حاجة؟! شايف مراتي بتموت قدام عيني هي وبنتي ومش عارف ادافع عنهم ولا احميهم، كل اللي كنت عايزه بس إني أوصلك وأموت جنبك، يمكن تطمني ومتموتيش وأنتِ خايفه، ولما صحيت وعرفت إن محدش وصل لحاجة، ولسه في خطوره على حياتك، الخوف أتملك مني وبقى هو المسيطر على كل تصرفاتي، ولقيت نفسي بقفل عليكي عشان احافظ على حياتك، مكنتش اقصد اخنقك ولا افرض سيطرة، قد ما كان نفسي احميكي، بس أنا خوفي موقفش لحد هنا يا ماسة؟!
رفعت عينيها نحوه بتمعن، نظراتها مليئة بالأسى والحزن، وهي للمرة الأولى تدرك عمق الألم الذي عاشه بمفرده.
وواصل وهو يهتز من الألم والخوف كأنه يشرح اوجاع قلبه الذي كان يخبئها لسنوات ولا أحد يعلم عنها شيء: خوفي بدأ يكبر ووصل اني بدأت اخاف منك؟! خوفت تسيبيني بسبب عجزي وبسبب الخلفة لأني مش هقدر احققلك امنيتك؟ كنت بتزعليني منك أوى لأنك لأول مره مكنتيش فاهمه خوفي، وكنتي شيفاه فرض سيطره وبس، برغم اني حاولت كتير افهمك بس أنتِ مفهمتيش.
تجمدت كلماته في صدرها، اتسعت عيناها كمن تلقى صفعة، لم تفهم في البداية، أكان ما سمعته وهما أم حقيقة نطقها بشفتيه المرتجفتين؟، فلم يخطر ببالها يوما أنه يشعر بذلك العجز، وهي التي أحبته بكل ما فيه، فرفعت عينيها إليه ببطء، ونظرت له نظرة امتزج فيها الذهول بالشفقة، والعطف بالحب، وتساءلت بصوت خافت، مبحوح يتخلله الذهول والصدمه: أنت أزاى تفكر إني ممكن أسيبك علشان كده؟ سليم أنا عمرى ما..
فقاعطها باشارة من يده، وتابع بصرامه متعزعزه، وصوته يهتز بين التساؤل والعتاب: لو سمحتي يا ماسة سبيني أكمل كلامي، لأن أنا خوفي منتهاش لحد هنا؟! أنا كمان مكونتش حاسس بالأمان زيك، مش أنتِ بتقولي إن تهديدي ليكي ولأهلك خلاكي متحسيش بالأمان؟!
رمشت بعينين تلمعان بالحزن والوجع، فصمتت لتفسح له المجال ليكمل حديثه.
فتابع بمرارة متزايدة، وكأن الكلمات تختنق في حلقه: أنا كمان مكنتش حاسس بالأمان بسبب ردود أفعالك الغريبه، أنتِ اتغيرتي فجأه من غير سبب وبعدتى، حسيت إنك ممكن تسيبيني وبقي عندك استعداد تعيشي من غيري.
رفع سليم يده المرتجفة نحو صدره، وأضاف بخذلان وقهر: لما هربتي أول مرة من غير سبب، برغم إن قبلها كنا متفقين نبقى كويسين مع بعض ونبطل خناق، لكنك اخدتي قرار ومشيتي فجأه، وعرضتي نفسك للخطر، وبرغم كده عدتها وفضلت أوجدلك ألف عذر وعذر، وقولت كفايه عليها الموقف اللي اتحطت فيه.
ثم أرتفع صوته قليلا، والحزن يلتف حول كلماته: بس لما هربتي تاني مره، وقتها أنتِ متعرفيش أنتِ خلتيني أحس بإيه، وأنا بسأل نفسي أنا عملت ايه غلط علشان تهربي تاني؟ هو أنا للدرجة دي مستاهلش حد يحبني ويفهم خوفي ويتحملني شويه؟!
تنفس بعمق، وظهرت على وجهه مرارة قبول مؤلم: لحد ماوصلت لإجابة مقنعة، إن أمي نفسها محبتنيش ولا اتمسكت بيا، أنتِ هتحبني وتتمسكي بيا ليه؟ فبصراحة شكلي فعلا مستاهلش حتى المحاولة !!
وحين استمعت ماسة لتلك الكلمات، غص قلبها من الألم، وانهمرت دموعها بوجع، هزت رأسها بلا، وكادت هذه المرة أن تنطق لتدافع عن نفسها، وتروي له مع حدث من تهديدات رشدى لها، ولكنه قاطعها باشارة من يده، لكي يكمل حديثه، فآثرت الصمت لتستمع لكل ما يختلج في صدره.
واصل سليم وصوته يختنق بين القهر والانكسار: كسرتيني وقتها أوى يا ماسة، فقدت السيطرة بشكل كامل، وكنت زي الطير الجريح اللي اتطعن وعمال يتقلب ويصرخ من كتر الوجع، ودمه بيلطخ المكان حواليه، بس الحقيقة إنه مكنش بيصرخ من وجع الطعنه، كان بيصرخ من خذلانه لما رفع عينه وشاف مين اللى طعنه الطعنه دى..
ارتعش وجه ماسة، ورفعت عينيها نحوه، تشاهد كل ما يبوحه به قلبه الممزق من الوجع، وكأن كلماته تطعن قلبها بشدة.
ركز النظر في ملامحها، وهو يشير باصابع يديه باتهام: انا مكنتش السبب لوحدي إن الامور توصل بينا لكده؟! أنتِ كمان كنتي سبب يا ماسة، لاني رغم وجعي وكسرتي منك، جيتلك وقولتك كفايه بس أنتِ عاندتي.
ثم احدت نبرته: بتلوميني علشان مقدرتش اديكي وعد بالأمان لأهلك، طب أوعدك ازاى وأنا نفسي مكنتش حاسس بالأمان، فاكره لما كنتي بتطلبي الوعد دى كنتي بتطلبيه أزاى؟! كنتي بتقولي” افرض جت في دماغي فجأة امشي هتعمل ايه؟” كلامك لوحده كان بيأكد لي إنك عندك استعداد تمشي، فخوفت وكرامتي اتجرحت، عشان كده عملت اللي عملته.
قلبت وجهها بضجر ورفعت حاجبها ووضعت يدها على خصرها، وكادت أن ترد، لكنه لم يمنحها الفرصة، وتنهد موضحا بألم، وهو يثبت النظر في عينيها: أنا مش ببرر أنا معترف إني غلطان، وغلطتى ملهاش تبرير، أنا بس بفهمك انا عملت كده ليه؟! صحيح كان ممكن اتصرف بشكل تاني، بس..
صمت لحظة، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة حزينة، وقال بمرارة وهو يحدق في الفراغ، وكأن الكلمات تكافح لتخرج من صدره: بس أنا ماتربيتش غير كده، فايزة وعزت قالولي لما تحب تسيطر على حد، امسكه بأكتر حاجة بيحبها، من نقطة ضعفه، فعملت كده.
نظر إليها بصدق مؤلم، ثم تابع بنبرة أخف، محاولا التبرير: معملتش كده عشان أخوفك او امتلكك، أنا عملت كده عشان أحافظ عليكي، عشان تفضلي معايا ومتسبنيش، عارف إن الطريقة غلط، بس اعمل ايه لسه دم الراوي الفاسد بأفكاره الفاسده القذره عايشه جوايا.
اقترب اكثر وامسك يديها وهو ينظر داخل عينيها بوعد صادق: بس خلاص يا ماسة كل ده هيتغير صدقيني، أنا بتعالج دلوقتي، والدم الفاسد ده أنا هخلص منه مهما كلفني الامر.
ثم قف أمامها مباشرة، ووضع كفه على خدها برفق، وصوته يفيض صدقا ممزوجا بالعشق، وعيناه تلمعان بالدموع. بينما رمشت هي بصمت، وشعرت بقلبها يضعف ويهتز، واستمعت لكل كلمة كما لو كانت موسيقى تخترق أعماقها: صدقيني كل اللى عملته لإني مكنتش عايزك تروحي مني، كنت عايز أحافظ على حبك، لإن إنتِ الوحيده اللى حبتني حب صادق من غير شروط أو مقابل، فاكره يا ماسة لما قولتلي اوعى في يوم يا سليم اجي اقولك طلقني توافق، اتمسك بيا حتى لو انا اتعصبت متسمعنيش؟! أنتِ هادي عني وأنا مجنونة؟ وأنا وعدتك وادينى اهو بنفذ وعدى وبتمسك بيكى.
سحب يده من علي خدها، ثم أمسك يدها بقوة، وقال بصوت مليء بالندم: يمكن لو كنت سمعت كلامك وكملت علاجي وقت ماقولتيلي ارجع لمروان مكناش وصلنا لكده، كنت غبي وقتها، ومكنتش مقتنع إني مريض، كنت شايف إن خوفي طبيعي بالنسبه للى اتعرضناله، لكن دلوقتي اهو روحت للدكتور، وبدأت أتعالج، وهنكمل الرحلة سوا ايدينا في ايد بعض، وهننجح، لأننا بنحب بعض.
واصل وعيونه تلمع بالأمل والخوف معا: والله يا ماسة، لو مكنتش ماشي في الطريق الصح، كنت هقولك عندك حق، لكن المرة دي مختلفة صدقيني، يعني أنتِ صبرتي عليا عشر سنين؛ وجايه دلوقتي تبعدي عني لما أخيرا مشيت صح؟ صدقيني الست شهور اللي فاتوا، كسروني وعرفت فيهم معني الوحده والوجع، عارفه، كنت برجع كل يوم اتخيلك قدامى واقعد احكيلك عملت ايه علشان اتونس بيكي في وحدتي، مش قادر أقولك إحساس قاسي قد إيه إنك تعيشي الوهم وأنتِ عارفة إنه وهم ولما تفوقي منه هتتوجعي أكتر، فصدقيني الفترة اللى أنتِ بعدتي عني فيها فهمت حاجات كتير مكنتش فاهمها، فهمت إن كل رد فعل غلط كان بدافع الحب، بس حب غلط، دلوقتي اتعلمت أزاى أحبك صح، معقوله مش شايفة أي تغيير؟
كانت ماسة تصغي إليه والدموع تنحدر من عينيها كأنها تغسل وجع السنين، دموع حارقة تترك على روحها ندوبا لا تمحى، وقلب يتمزق بوجع المسامحة.
قلبها يصدقه ويؤمن أنه تغير حقا، أما عقلها فكان يهمس في أعماقها؛ ليست المشكلة فيما كان، بل في كيف ستبدئين من جديد مع رجل كسر شيئا في أعماقك، ثم عاد يطلب أن يكون زوجك مرة أخرى.
أمعن سليم النظر في ملامحها، وفهم من تعبير وجهها أنها عالقة بين الغفران والرفض، بين قلب يريد أن يسامح، وعقل لا يستطيع.
فاقترب منها ببطء، وضم كفها بين كفيه، وقال بنبرة يملؤها الشغف والحب: بصي أنا عارف إننا مرينا بحاجات صعبة، بس أحنا هنتخطي كل دى مع بعض، تعالي نروح للدكتور سوا، واللي يقول عليه ننفذه بالحرف، ووعد يا ماسه لو غلطت تانى أو عملت حاجه تضايقك هسيبك وأنتِ عارفه سليم مبيرجعش في وعوده.
تراجعت ماسة خطوة إلى الخلف، سحبت يدها ببطي وهي تحاول الثبات، وهزت رأسها بيأس، وخرج صوتها أخيرا بنبرة مبحوحة: لا في دي بالذات سليم هيخلف وعوده عادي.
امسك يديها ووضعها على قلبه برجاء: جربيني، ماسة عشان خاطري كفايه بعد ووجع، خلينا ندي بعض فرصه أخيره.
سحبت ماسه يديها ببطء، واشاحت بوجهها بعيدا عنه، وخرجت كلماتها بنبرة متقطعه: مش هقدر، أنت هترجع تعمل نفس الأخطاء تاني، سليم هيفضل سليم، روحت للدكتور؟ طيب ما أنت روحت لمروان قبل كده وفضلت كويس لفتره ورجعت تاني، ودلوقتي هتبقى كويس فتره، بس مع أول غلطة منى ..
ثم تابعت وهي تنظر إليه في مرارة: هترجع لنفس الأسلوب والتهديد، وهرجع أعيش نفس الوجع والخذلان من تاني، وهتيجي تقولي آسف أصلي متربي كده ومبعرفش أعمل غير كده.
رفع يده وضم كتفيها بكفيه، وهو ينظر داخل عينيها بإصرار ووجهه محمل بالرجاء واليقين:المرة دي مختلفة، والله المرة دي مختلفة صدقيني، علش…
قاطعته ماسة بحده واستنكار: مختلفة؟! عشان أنت روحت للدكتور؟ ما أنت روحت قبل كده إيه المختلف المره دى؟!
سليم بصوت متلعثم لكنه جاد:مختلفه علشان عملت العملية.
ساد الصمت للحظات، نظر سليم إليها بتوجس، يترقب رد فعلها على كلماته، وعيناه تبحثان في صمتها عن أي إشارة تطمئنه.
رفعت ماسة عينيها ببطئ، تحاول جاهدة أن تستوعب ما سمعته، رمشت بعينيها وتساءلت بصدمه ونبرة مكتومه: عملية؟! عملية إيه؟
ابتلع سليم ريقه، وامسك كفيها يضغط عليهم بحنان، وهو يقول بصوت هادئ في محاولة للسيطره علي العاصفه التي على وشك الانفجار: العمليه، شيلت الرصاصه.
تلعثمت، وعيناها تتنقلان بينه وبين الفراغ، خرج صوتها مبحوح، يملؤه الارتباك: رصاصة إيه؟ مش فاهمة!؟
وفجأة، اتسعت عيناها بذهول، كأن الحقيقة انغرست في قلبها مباشرة، تجمدت ملامحها، بدأت تستوعب أن سليم أجرى العمليه دون وجودها بجانبه، وكان من الممكن ألا تراه مرة أخرى.
ماسة بصدمة، بصوت متقطع يخرج بصعوبه: أنت … أنت عملت العملية بجد؟
ابتسم سليم ابتسامه خافته، وقال بنبرة هادئة لكنها نفذت إلى قلبها كسكين: أيوه عملتها، أمال أنا كنت مسافر ليه كل الشهور دي؟
ارتفع صوتها فجأة، خليط بين الغضب والوجع وكأنه طعنها بخنجر مسموم: يعني أنت كنت مسافر كل الشهور دي، عشان بتعمل العملية؟
مد سليم كفه محاولا تهدئتها، وهو يقول بصوت منخفض: اهدي طيب هفهمك.
لكن ماسة لم تعد تسمع كلماته، اتسعت عيناها، وصراخها انفجر كالمطر الغزير الذي لا يرحم، وصاحت بصراخ مشحون بالمرارة: اهدي ايه وتفهمني اييييه؟! هو أنت بتعمل فيا كده ليه؟! أنت بجد بتعمل فيا كده ليه؟! ليه مبتعملش حاجة غير إنك توجع ماسة وبس؟!
انهارت فجأة، كأن كل أوجاع السنين تتسارعت للخروج دفعة واحدة، فرفعت كفيها تضربه صدره بغضبٍ جارف، كل كلمة تصاحبها ضربة، وكل ضربة تحمل وجع دفين: إزاي تعمل فيا كده؟ إزاي تعمل العملية وأنا مش معاك؟! افرض حصل لك حاجة؟! كنت هعمل إيه وقتها؟! كان ممكن يحصل لك حاجة ومشوفكش تاني؟! ازاي مفكرتش فيا وفي اللي هيحصل لي لو كان جري لك حاجه؟ ازاي تحرمني إني أكون جنبك في لحظه زى دى؟!
كان سليم واقفا يتلقى غضبها بصمت، جسده يترنح قليلا للخلف تحت وقع يديها المرتجفتين، لكنه لم يرفع يده ليمسكها أو يمنعها، الدموع انزلقت من عينيه ببطء، كأنها تعترف بذنب لا يستطيع إنكاره، متفهما عمق خوفها وجرحها.
واصلت ماسة دون توقف، وهي تصرخ بمرارة هستيريه، وصوتها يتقطع وكأنه ينزف: أنت مبتعملش حاجة غير إنك توجعني وبس! سليم هيفضل سليم، أنت مبتتغيرش وإن اتغيرت بتتغير لأسوأ.
أخيرا، رفع يده ليمسك بكفيها المرتعشتين، جذبها نحوه، ونظر في ملامحها المرتبكة بنظرة تفيض بالصدق والعشق، وقال بصوت متقطع: كان كل هدفي لما ترجعي تلاقيني فعلا سليم حبيبك
هبطت يدها ووضعتها على قلبها، تشعر أنها تفقد توازنها بين غضبها وحبها، وانفجرت تبكي بمرارة، والكلمات تخرج من بين شهقاتها بصعوبة، بنبرة مكتومة: مش مرضك السبب يا غبي، مش العملية اللى هتخلينا كويسين، أنت السبب، أنت!
بكت بانهيار، فجذبها سليم إلى صدره، ضمها بحرقة، كأنه يريد أن يمحو كل لحظة غابها عنها بعينين اغرورقت بدموع، دموعها انسكبت على كتفه، وصوتها المرتجف يذوب في العتاب: إزاي؟! هان عليك تعملها وأنا بعيدة عنك؟! إزاي تحرمني أشوفك وابقي جمبك؟!
ابتعدت عنه قليلا، تتفحص ملامحه بقلق، وتلمس وجهه بأناملها، وهي تردد بصوت متقطع باكي: طب أنت كويس؟
هز سليم رأسه، ورد بخفه: أنا كويس اهو، أومال عرفت أجرى وراكي ازاى!؟
صاحت بضجر، وهى تلوح بكفها: أنت بتهزر !!
امسك سليم كفها، وهو يركز النظر في عينيها، وقال بنبرة حانيه: مكانش اختياري يا ماسة، كنت مضطر، الرصاصه اتحركت كان ممكن اموت
صدمت ماسة للمرة الثانية، عيناها اتسعت وكأن الهواء شبه انقطع من صدرها، سحبت يديها من بين يديه، ووضعت يدها على قلبها الذي كاد يتوقف من قوة نبضاته
ماسة بنبرة متقطعة: تموت ازاي؟
رفع سليم عينه، وقال بحسرة: الدكتور قالي قبل هروبك بسنه، إن الرصاصة مكانها اتحرك ولازم أعمل العمليه.
صاحت بكلمات تخرج من جوفها ببكاء: سنة عايش معايا وممكن تموت في اي لحظه ومتقوليش؟ أنت بتفكر ازاي؟! ازاي بجد؟! ازااااي.
مدت يدها، ودفعته بقوة: بكرهك!
ثم انهارت أكثر، وبكائها تحول إلى ضربات متتاليه، تضربه بكفيها الاثنين على صدره وهي تنهار من الألم، وتردد باختناق وبحزن قاتل: مش هسامحك ياسليم، مش هسامحك عند دي بالذات، وخلي بقى قراراتك اللي بتاخدها من دماغك يا صاحب الصوت الواحد تنفعك؟ أنا مش هقعدلك هنا، وهمشي، وهتطلق منك.
حاولت الإبتعاد، لكن سليم أمسك يدها بإحكام، وجذبها نحوه، وهو يردد ببحه رجوليه: تعالي هنا، واهدى بقي، بلاش جنان، وخلينا نكمل كلامنا ،مش معقول يعني هنعدي كل ده وهنمسك في دي؟
سحبت يدها بعنف، وصاحت بغضب: آه همسك في دى، وهتطلقنى ومش قاعده معاك لحظه واحده.
واندفعت نحو الدرج بخطوات سريعه، تحرك سليم خلفها يحاول اللحاق، وهو يقول: طب أهدى طيب نكمل كلامنا وخليني اشرحلك.
صاحت ماسه بغضب، وهى مستمره في سيرها نحو الدرج: لا عايزه اتكلم معاك ولا اسمعك، أنت هتفضل زى ما أنت مي
مبتتغيرش.
استطاع اللحاق بها عند مقدمه الدرج فأمسك يديها، وقال يحاول تهدئتها: يا ماسة اهدى بقي وبطلي جنان، قولتلك كنت مضطر، وادينى بقيت كويس قدامك أهو.
وققت أمامه، ووجهها محمل بالغضب، وقالت بقسوة ودموع: وكان ممكن متبقاش كويس، وكان ممكن مشوفكش تاني، كنت تقدر تقولي طول السنه وتعملها وأنا جمبك.
واضافت بنبره صارمه وهي تتك على كلماتها بضجر: بس زي ما قولتلك سليم هيفضل سليم، مبيعرفش يعمل أي حاجه غير إنه يوجعني وبس، وأنا هعمل فيك اللي كنت عايز تعمله فيا وهمشي ومش هتشوف وشي تاني.
شدت ماسة يدها فجأة من قبضته، بعنف وغضب عارم، وصوتها يعلو بضجر: أوعى أيدك دي
فانفلتت ذراعه من بين يديها، وفي لحظة خاطفة اختل توازنها، فانزلق كعب قدمها عن حافة الدرج، إذ اندفعت إلى الخلف، وانزلقت ساقاها على أولى الدرجات، فيما تلوحت ذراعاها في الهواء، كأنها تحاول الإمساك به.
تجمد سليم في مكانه، عيناه متسعتان وهو يشاهد سقوطها بصمت كالأموات، عاجزا عن الحراك، كانت ماسة تهوي على الدرج، تتدحرج بظهرها درجة بعد أخرى، وصراخها يخترق قلبه كسكين غائر، تابعها بعينين مذهولتين تتحركان مع كل سقوط، كأنهما تسقطان معها، أنفاسه تتلاحق، ويداه ترتجفان، لكن جسده بقي متجمدا، لا يقوى على الحراك، كأن عقله توقف للحظة، ظل هكذا لثواني، حتى جاء السقوط الأخير، وارتطم رأسها بالرخام بقوة أفزعت روحه، عندها فقط انكسر الجمود داخله، فاندفع نحوها بجنون، يهتف بصوت مبحوح مرتجف يخنقه الرعب: مااااااسة!
كأن الزمن تحول إلى كابوس مرعب، هرول سليم دون أن يشعر بقدميه وهما تهويان به إلى الأسفل، ولم يدرك كيف اجتاز الدرجات، كل ما رآه كان جسدها الممدد أمامه بلا حول ولا قوة، وملامحها الخافتة التي تتأرجح بين الحياة والموت.
أخذها بين أحضانه، وصوته يتهدج وهو يهزها بيدين مرتعشتين، والدموع تغسل وجهه، وهو يتمتم بخوف: ماسة! ماسة حبيبتي، افتحي عينيكي، أنتِ سامعاني؟!
اقترب بفمه من وجهها، أنفاسه تتلاحق، وكأنه يخشى أن تتوقف أنفاسها: متسيبنيش، بالله عليكي متسيبنيش!
فتحت عينيها نصف فتحة متألمة، ثم أغمضتهما من جديد، وحين أبصر الدماء تتدفق، وضع يده على موضع النزيف محاولا إيقافه بضغط مرتعش على رأسها، بينما كانت يده الأخرى تجذبها أكثر إلى صدره، وكأن حضنه قادر على أن يعيد الحياة إلى جسدها النازف مرة أخرى.
حملها بين ذراعيه، بدا وكأنه يحمل عمره كله على كفيه، كانت دماؤها تتساقط على ثيابه، والذعر ينهش ملامحه، ركض مسرعا نحو الباب وهو يصرخ بأعلى صوته: هاتوا عربية بسرعة.
ركض مكي نحوه، بوجهه شاحب من الخوف، يتساءل بفزع: إيه اللي حصل يا سليم؟! فيه ايه؟!
أجابه سليم وهو يضغط بكفه المرتجف على رأسها النازفة، ودموعه تنهمر بلا توقف: وقعت من على السلم، الدم مش راضي يقف، هات العربيه بسرعه.
لم تمضِ إلا لحظات حتى توقفت السيارة أمامهم، ساعده مكي في فتح الباب، فأدخل سليم ماسة إلى الداخل، وجلس في المقعد الخلفي وهو يضمها إلى صدره، كأنه يخشى أن تختفي من بين يديه، بينما جلس مكي على المقعد الامامي بجانب السائق.
اقترب سليم من وجهها الشاحب، يحاول سد النزيف بيد مرتعشة، وهمس برجاء يائس: ماسة خليكي معايا، عشان خاطري.
حاول مكي أن تهدئته، رغم صوته المرتجف: اهدى يا سليم، متقلقش، إن شاء الله بسيطة.
لكن سليم لم يكن يسمع سوى أنفاسها الضعيفة، ودموعه تهبط فوق وجهها الشاحب بلا توقف، وصوته يخرج بين البكاء والرجاء: افتحي عينك يا ماسة بالله عليكي متغمضيهاش.
ثم صاح ببحه رجوليه جهوره وهو يوجه كلامه للسائق: أنت ماشي بالراحه كده ليه، دوس على أكبر سرعه عندك، بسررعة
كانت السيارة تشق الطريق بجنون، وكل ثانية تمضي عليه كأنها دهر كامل.
في أحد المستشفيات الخاصة.
اندفع سليم من باب الطوارئ، وهويحملها بين ذراعيه ويصرخ بجنون: دكتور! عايز دكتور بسرعة!
اقترب الأطباء ومعهم الترولي، وسأله أحدهم بعمليه:
إيه اللي حصل؟
سليم متلعثما: وقعت من على السلم ونزفت كتير!
أخذها الفريق الطبي وبدأوا بإجراء الفحوصات ومحاولات إيقاف النزيف، بينما وقف سليم في الخارج يتابع ما يجري بعينين يملؤهما الرعب، يراقب حركة الأطباء المضطربة دخولا وخروجا من غرفتها، ودموعه تنهمر بصمت كأن قلبه يذوب، ثم صاح بضجر: هم طولوا كده ليه؟ وعاملين يدخلوا ويخرجوا ليه، أنا عايز حد يطمني عليها.
ربت مكي على كتفه: اهدى يا سليم ، إن شاء الله هتبقي كويسه.
ظل سليم ينتظر في ممر الطوارئ، يتحرك ذهابا وإيابا في خوفٍ وذعر وتوتر.
وبعد دقائق، خرج الطبيب فركض اليه سليم يسأله بصوت مرتجف يملؤه الخوف: طمنى عليها يا دكتور ، قولى إنها كويسه.
الطبيب بابتسامة مطمئنة: الحمد لله ، مفيش حاجة خطيرة، عندها ارتجاج بسيط في المخ، وشويه كدمات من أثر الواقعه، وجرح في الرأس عملنا له ست غرز، وكمان جزع بسيط في دراعها.
سليم بتوتر: متأكد يا دكتور؟ يعني هي كويسه؟ مفيش حاجه خطر ؟
الطبيب بهدوء: أيوه متأكد، إحنا عملنالها أشعه علشان نتأكد إن مفيش نزيف داخلى والحمد لله الأشعة بتاعتها كويسه، هى فقدت الوعي بسبب الخبطه بس شويه كده وهتفوق وتبقي كويسه، وادينها مسكنات علشان الكدمات متسببش ليها ألم لما تفوق، وعلقنا لها محاليل علشان الدم اللى نزفته، ممكن بس لما تصحي تحس بشوية صداع ودوخه ودى حاجه طبيعيه وفي خلال كام يوم هتبقى زي الفل، وبكرة إن شاء الله تخرج.
سليم بلهفه: طب ممكن أشوفها؟
الطبيب آه طبعا هي شويه كده وهتفوق، ألف سلامة عليها.
تنهد سليم براحة، وهو يهمس: شكرا يا دكتور.
ثم اتجه نحو الغرفة التي ترقد فيها ماسة، وعيناه ما تزالان غارقتين بالدموع، وقلبه يرتجف خوفا من أن تفارقه.
في الغرفه التي نقلت إليها ماسه.
دخل سليم الغرفة فوجدها ترقد على الفراش، يلف الضماد رأسها، وملامحها هادئة لكنها شاحبة.
جلس بجانبها بحذر، يمرر يده على شعرها بحنان، ودموعه تتساقط: ألف سلامة عليك يا روح قلبي، يا ريت اللي حصل ده كان حصل فيا أنا وأنتِ لا، ربنا يحفظك ليا وميحرمنيش منك ابدا، مش عارف هتبطلي جنان امتى بقى؟
انحنى يقبل يديها المعلق بيها المحلول بحب، وهمس: إن شاء الله هتبقي كويسة، ونرجع نعيش أحلامنا سوا.
دخل مكي بهدوء، وضع يده على كتف سليم: إن شاء الله هتبقى بخير، ألف سلامه عليها.
تمتم سليم دون أن يرفع عينيه عن وجهها: يا رب .
وبعد مرور نصف ساعه بدأت ماسة تتحرك عينيها ببطء،وتعود لوعيها تدريجيا، فتأوهت بصوت خافت: ااااه.
انتفض سليم سريعا: مكي! روح هات الدكتور بسرعة.
ثم انحنى نحوها، وصوته يرتعش، يحاول أن يزرع الطمأنينة فيها بابتسامة حزينة: حمد لله على سلامتك يا عنيدة، إن شاء الله هتبقي كويسة متقلقيش، حاجة بسيطة.
حاولت أن تفتح عينيها ببطء، واخذت ترمش بعينيها حتى اعتادت على إضاءه الغرفه، فاخذت عينيها تدور في المكان بنظرات متعبة وغريبة، بينما سليم يتأملها بلهفة.
وفي نفس تلك اللحظه، دخل الطبيب الغرفة بابتسامة مطمئنة وقال: حمد الله على السلامة.
فخرج صوت ماسة ضعيفا، مرتبكا، لكن لهجتها كانت مختلفة، تتحدث بلهجتها القديمه: هو أني فين؟
لم ينتبه سليم بعد إلي طريقة تحدثها، فأمسك يدها برفق، وجهه غارق في القلق، وهو يوضح لها بابتسامة مطمئنة: أنتِ في المستشفى يا عشقي، وقعتي من على السلم، وجبتك هنا، بس متخافيش أنتِ كويسه.
رفعت يدها المرتجفة إلى رأسها، تتألم، ثم همست بصوت مرتبك: ااااه، دماغي وجعاني أوي.
ثم سحبت يديها من بين يد سليم، ودققت النظر فيه باستغراب: هو .. هو أنت مين؟
تجمد سليم في مكانه، عيناه اتسعتا بذهول، وصوته خرج متقطعا: أنا مين إزاي يعني؟!
وضعت كفيها على رأسها، وكأنها تحاول السيطرة على ألم يفتك بها: ايوه مين حضرتك؟! أني منعرفكش، ولا نعرف حد هنا هو إيه اللي حصل؟ وسلوى فين؟!
اقترب منها سليم، وملامحه ممزوجة بالصدمة وعدم التصديق، أمسك بيديها المرتجفتين وهو يهمس: ماسة أنا سليم! بعدين أنتِ بتتكلمي كده ليه؟! بطلي هزار بقى.
فهو ما زال غير مستوعب ما حدث لها، غير أن القلق كان يتملكه على نحو غريب.
تدخل الطبيب الذي كان يراقبها بعين فاحصة وتساءل بهدوء: قوليلي يا ماسة، آخر حاجة فاكرة إيه
أجابت بصوت واهن، لهجتها عادت كما لو كانت عالقة في زمن مضى، ببراءة ماسه التى كانت تبلغ خمس عشر عاما: أني آخر حاجه فاكرها، إن رشدي بيه قريب سيدي منصور بيه طلب مني قهوة، دخلت أعملهاله؟! وبعدين مش فاكرة ايتوها حاجة، هو إيه اللي حصل؟
التسعت عين سليم، وتجمد من الصدمه، يبدو انه بدأ أن يستوعب الأمر، فاقترب منها أكثر و تساءل بصوت مرتعش، يدعي الله أن يكون ما يفكر به غير صحيح: ماسة، هو أنتِ عارفة إحنا في سنة كام؟
نظرت إليه باستغراب وارتباك، وقالت: إحنا في 2004، قولي مين حضرتك يا بيه؟! وفين أمي وأختي.
تسمرت العيون جميعها عليها، الطبيب يحدق بدهشة، سليم يكاد قلبه يتوقف والصدمة تجمد الدم في عروقه، أما مكي فكانت عيناه تتسعان وكأنهما تخرجان من محجريهما..
ياتري ايه حصل مع ماسة؟!
- يتبع.. (رواية الماسة المكسورة الجزء الثاني 2) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.