رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السادس عشر
الفصل السادس عشر(غريقٌ في بحرٍ أفكاره)
-أريد أن أقول الكثير
والكثير من الكلمات،
ولكن أخشى أن أخسركِ
إذا تفوهت بها،
وأُصبح لكِ مجرد صديق
كان لديكِ معه ذكريات.
_____________________
“أنا عايزة أفهم إزاي يحصل كل ده ومحدش فيكم يفكر يقولي!!”
نبست تلك الكلمات بغضبٍ وإستياء بعدما علمت منه ماحدث ومامر به اليوم،بينما هو زفر بضيق بسبب حديثها الذي كررته علي مسامعه أكثر من مرة منذ وصوله،وحرك رأسه يميناً وهو يتأفف بضجرٍ،فأمسكت هي بذقنه ووجهته نحوها لتضع له الدواء علي جرح فمه مع قولها الجاد:
“بصلي هنا!!”
زفر بقوة واستغفر في سره محاولاً تهدئة أعصابه،ثم أمسك بيدها التي تضع بها الدواء وأبعدها عن فمه مرددا بضجرٍ:
“كفاية بقا أبوس ايديك،بقالك ساعة بتحطيلي مرهم علي جرح قد النملة أومال لو كانت شفتي مفتوحة كنت عملتي ايه!!”
“بعد الشر عنك،الحمد لله إنها جات لحد كده”
مسح وجهه بإستياء وهو يقول:
“استغفر الله العظيم”
وضعت دلال الدواء علي المنضدة الصغيرة أمامهما ثم عادت للأخير وهو تردد بإستياء:
“برضه عايزه أفهم إزاي محدش يقولي اللي حصل!!،هو أنا علشان بعدت عنكم كام دقيقة تنسوا إن موجودة ومحدش فيكم يعبرني ويتصل بيا يقولي اللي حصل!!”
“الصبر يارب”
“رد عليا!!”
فقد أعصابه من صرختها تلك فهتف بنفاذٍ صبر:
“أرد أقول ايه بس مش فاهم أنا!!،هو حد كان رايق أو فاضي يتكلم أصلا،دي أمي نفسها ماعرفتش غير لما رجعت من عندك”
اقتعنت بحديثه وانطفأ لهيب غضبها قليلا فتحدثت بنبرة أهدأ من سابقتها:
“أكيد داود اتخانق معاك مش كده؟؟”
“أكيد طبعاً،دي فيها جدال”
“علشان كده كنت عايز تتكلم معايا؟؟”
سكت وذاب بروده،ثم تنهد ورد عليه بيأسٍ وأسى:
“لا..،عايز أتكلم معاكٍ في حاجة تانية،حاجة ماقدرش أتكلم عنها غير معاكٍ وبس”
فهمت مايقصده بحديثه ووصل إليها شعور الحزن الذي اجتاح قلبه،فتنهدت ثم قال بنبرة هادئة رتيبة:
“موضوع فيروز مش كده؟؟”
أومأ لها بالإيحاب وهو ينظر لكفيه الذي ضمهما أمامه بقوة،ثم نظر إليها وقال:
“هتسافر..هتسافر بعد أسبوع بس،عمي يحيى كان عايزهم يسافره بعد بكره بس هي وخالتي نادية أصرّوا عليه يفضلوا أسبوع كمان..،يعني هي هتمشي تاني بعد أسبوع،يعني مش هشوفها تاني خلاص”
“المفروض إن أنت عارف إنها من أول مارجعت وهي هتسافر تاني،يعني مش هتفضل هنا علي طول،وأنا قولتلك أول يوم رجعت فيه إنك لازم تتستعجل لو هتعمل حاجة قبل ماالوقت يجري من ايديك،ووقتها أنت قولت إنك عايز تفرح برجوعها في الوقت الحاضر،وبعدين هتبقى تفكر،وادينا دلوقتي في بعدين وأنت لسه مش عارف هتعمل ايه”
“علشان كده أنا جايلك،عايزك تساعديني وتقوليلي المفروض اعمل ايه؟!”
أجابت عليه سريعاً دون تفكير طويل:
“تقولها ياموسى،مفيش حل غير إنك تتكلم معاها وتقولها علي مشاعرك بوضوح،علشان ماتندمش بعدين وتقول ياريتني قولتلها”
“فِكرك مافكرتش في حاجة زي دي يادلال!!،أنا فكرت كذا مرة إن أقولها أو حتى ألمحلها بس ماقدرتش،للأسف ماقدرتش..علشان ببساطة خوفت”
“من ايه؟؟،خوفت من ايه؟؟”
بسط كفيه أمامه وأردف بقلة حيلة:
“خوفت إن أخسرها،خوفت إن لو قلتلها إن معجب بيها وكده ترفضني وترفض مشاعري وساعتها هاخسرها،هاخسرها كصديقة ليا،علاقتنا مش هتبقى زي الأول،صداقتنا هتنتهي”
“ماهو لو فضلت ساكت برده هتخسرها ياموسى،لو فيروز سافرت احتمال ماترجعش تاني،وحتى لو رجعت مش هترجع فيروز اللي أنت عارفها،احتمال تنخطب أو تتجوز أكيد يعني مش هتفضل لوحدها طول عمرها”
ضغطت علي ألامه بحديثها هذا ونفذت طاقة احتماله،فأطرق رأسه ووضع كفيه خلف رقبته وهو يجيبها بصوت مختنق:
“طب أعمل ايه؟؟،انا دلوقتي المفروض أعمل ايه؟؟،انا مش عايز أخسرها وفي نفس الوقت خايف أقولها،معنديش الشجاعة إن أقولها،أنا بقيت شبه الغريق في عرض البحر اللي مش لاقيله مرسى”
“بس أنت في ايديك الحل ياموسى،في ايديك تطلع عايش وماتغرقش،روح اتشجع وقولها،اعمل اللي عليك وسيب الباقي علي ربنا،ممكن تبقى هي كمان بتحس بمشاعر تجاهك،أو ممكن تفكر تديك وفرصة،وساعتها في احتمال إنك ماتخسرهاش”
“أنت متفائلة أوي”
“وأنت متشاؤم أوي،مش بتفكر غير في الأسوء وبس،مش بتفكر غير إنها هترفضك ومش عارفة ليه بتفكر بالشكل ده؟!”
رفع رأسه وطالعها وهو يجيبها بجدية:
“علشان ايه اللي ممكن يخليها توافق عليا مثلا!!،هي فين وأنا فين حرفياً،هي دكتورة قد الدنيا وأنا يدوب معايا دبلوم،أكيد مش هتوافق علي واحد أقل منها في مستوي التعليم،وأقل منها بكتير”
“فيروز مش بتفكر بالشكل ده وأنت عارف كده كويس”
“ممكن بقت بتفكر دلوقتي يادلال،ماتنسيش إنها بقالها سنين مسافرة فأكيد اتغيرت،كفاية بس إنها كانت قاعدة مع عمي يحيي طول الوقت ده”
تنهدت دلال بقلة حيلة ثم قال بنبرة هادئة رتيبة:
“طب ماشي،خلينا نقول إنها بتفكر بالشكل ده،أنت ممكن تقنعها عادي،ممكن تقولها إنك هتشتغل وتجتهد علشان تليق بيها وتقدر تصرف عليها،وإنك مستعد تعمل أي حاجة علشانها”
“أنا عملت كل حاجة علشانها،كل حاجة عملتها كانت علشانها وبس،علشان أليق بيها”
عقدت بين حاجبيها وسألته بتعجب:
“عملتها؟!”
استوعب الأخير ماقاله فأسرع في تصحيح الأمر بقوله:
“هعملها،كل حاجة هعملها بعد كده هتكون علشانها وبس،علشان أليق بيها،أنا مستعد أعمل كل حاجة علشان تكون من نصيبي”
صدقت حديثه علي الفور دون نقاش أو جدال،فتنهدت ثم قالت بجدية:
“طالما كده فاتشجع وخد الريسك وروح قولها قبل ماتخسرها،الفرصة دلوقتي قدامك لو راحت هتندم طول عمرك..،ده الحل الوحيد اللي قدامك يا موسى،صدقني مفيش حل غيره،يا تتخلص من خوفك وتروح تعترفلها يا إما تنسى حبك ليها وتدفنه وخلاص”
سكت ولم يجد رد علي حديثها،فهي علي حق في كل ماقالت وهو يدرك ذلك جيداً،ولكن خوفه من خسارتها كصديقة يجعله يخشى البوح بمشاعره لها،يجعله ضعيف الإرادة بشكل يتنافى مع شخصيته.
أخذ يطالعها في صمت تام،صمت الأفواه وليس صمت العقول،فعقله تزاحمت به الأفكار وتقاطعت مع بعضها،ومازال يجهل أي طريق قد يسلك.
أما هي فكانت تدرك جيداً مايمر به،كانت علي علم جيد بتشتت أفكاره في هذه اللحظة،برغم من أنها حاولت بقدر مااستطاعت أن ترشده للطريق الصحيح..
نظرت له بأسف وأسى علي حاله وتمنت لو تنتزع الحزن من قلبه وتُمحيه،أو علي الاقل تتقاسمه معه،ورفعت يدها ووضعتها علي كتفه وربتتّ عليها بحنانٍ،وهو فقد يجلس أمامها كجسد ليس إلا،أما الروح فأصبحت في غير مكان.
_____________________
بعد مرور يومين…
كانت أيام روتينة كغيرها،لم يحدث بها أي تغير أو شئ مميز،كان يقضي اليوم بأكمله في شقة جده وتحديداً في الشرفة،ولا يخرج إلا لأداء الصلاة ولقاء أصدقائه ليس إلا،
وعندما يتأكد من نوم جده كان يولج لغرفته ويعمل قليلا ليهرب من التفكير في الأمر،ولكن دائما ما
كان يفشل في ذلك.
وهاهو يجلس كالعادة في الشرفة علي مقعد يرتكز علي الحائط،يطالع باب شرفتها كالعادة بأعين منكسرة بدا بها الحزن والأسى،ووجه واجم وعابس تلقى صفعة قوة من الحياة،وعقل غاب عن الواقع وغرق في بحر أفكار عميق،ومازال يبحث عن طوقٍ للنجاة.
انعزل عن عائلته بأكملها التي تجمعت في الداخل لتوديع “مصطفى” الذي سيسافر من جديد بعد أن انتهت إجازته..
تجمع الرجال والشباب في غرفة المعيشة،بينما تجمع النساء مع الفتيات في الغرفة المواجهة لهما؛كانت كل مجموعة منهم في وادى غير البقية،كل منهم يتحدث في أمور مختلفة منها المضحكة ومنها الجدية.
ولكن سرعان ماانتبه أكثرهم لحديث كبير العائلة مع زوج ابنته “طارق” والذي جاور مصطفي علي المقعد:
“أكيد تعبان علشان مالحقتش ترتاح من سفريتك؟؟”
حرك طارق رأسه بالنفي وهو يجيبه ببسمة هادئة:
“لا مش تعبان أوي يعني،أنا نمت شوية حلوين بعد مارجعت،دول اللي خلوني قاعد مصحح معاكم دلوقتي”
“طب الحمد لله،قولنا بقا كانت سفرية حلوة ولا لأ؟؟”
أنهى محمد جملته التي نبسها بخبث وهو ينظر لابنته دلال التي كانت منتبهة للحديث بشكل جيد،ثم عاد لطارق الذي أجابه وهو ينظر صوب الأخيرة بهيامٍ:
“والله ياعمي دي أول مرة مابقاش مبسوط كده في سفرية،أنا طول الوقت هناك كنت متضايق والسبب إني وضعي اختلف خلاص..”
نظرطارق صوبه ثم أضاف:
“يعني قبل كده لما كنت بسافر ماكنتش ببقى خايف علي حد ولا شايله همه علشان عارف إن اللي بحبهم مش لوحدهم،أما المرة دي لما سافرت كنت شايل هم كبير أوي،وحاسس إني سايب روحي وماشي بصراحة”
أنهى جملته وهو يطالعها من جديد فابتسمت هي بخجل،وشعرت بالإحراج من عيون الجميع التي أصبحت عليها،ولكن سرعان ماانتبه الجميع لمحمد الذي ضحك بخفة ثم أردف بنبرة خبيثة:
“أصل أنت اتغربت عن بلدك المرة دي بجد ياطارق،بلدك اللي كلنا عارفنها”
ابتسم طارق بخجل وأخذ يطالعها بحبٍ،وهو يؤيد حديث الأخير بقوله:
“معاك حق ياعمي انا فعلا اتغربت المرة دي بجد عن بلدي،وشعور الغُربة دي بشع جدا،مش هيفهمه غير اللي جرب”
“أومال مصطفى مش عارف ده ليه!!”
انتبه الجميع لمحمد الذي نبس تلك الكلمات بجدية وهو ينظر صوب ابنه،واستانف حديثه بقوله:
“بقاله أكتر من ٢٢ سنة متغرب عننا،ليه مش فاهم إن الغُربة مش حلوة!!”
كان حديث غير مباشر يحثّه به علي البقاء معهم والإكتفاء من الإبتعاد عنهم،وفهم الجميع ذلك وعلي رأسهم مصطفى بالطبع والذي تنهد ثم رد علي والده بنبرة هادئة رتيبة:
“طارق وليه اللي يشتاقله ويشتاقلها،أما أنا ليا ايه هنا بقا؟؟”
“اغس عليك ياكلب،مالكش حد هنا إزاي،أومال الإتحاد القومي اللي حوليك ده ايه كنب عربي!!”
نبس محمد كلماته تلك بغضب من ابنه الذي سارع في تصحيح حديثه بقوله:
“أنا ماكنتش أقصد اللي فهمته ياحج،اللي أقصده إن محدش فيكم ممكن يفتكرني وأنا بعيد غير فين وفين،كل واحد فيكم ملهي في حياته وبيته ومع عياله،أخري أجي علي بالكم من فترة للتانية،وغير كده أنتوا اكيد اتعودتوا علي غيابي خلاص،يعني زي ماحضرتك قلت انا بقالي ٢٢ سنة عايش بره مصر،حياتي كلها بقت هناك وبقيت أصلا باجي هنا زي الغريب”
آتاه الرد سريعاً من محمود بضيقٍ:
“والله مافي غريب غير عقلك يااخويا،أنت بتفكر ازاي يابني،معقول احنا ننساك يامصطفى!!،طب والله العظيم مافي دقيقة بتعدي عليا غير وأنت علي بالي،ببقى قاعد وبفكر فيك وأقول ياتري بيعمل ايه دلوقتي،فاضي ولا مشغول؟؟ كويس ولا تعبان؟؟ صاحي ولا نايم؟؟،كل دي أسئلة وأكتر والله يامصطفى بتيجي على بالي،وببقى عايز أكلمك علشان أطمن عليك بس بقول أكيد مشغول دلوقتي أعطله أنا..،أنت ماتعرفش احنا بنبقى عاملين ازاي وانت بعيد يامصطفى!!،أراهنك إن مافي واحد في البيت ده مش بيفتكرك،وإن كل واحد فينا عقله بيبقى مشغول بيك،وعلي راسنا كلنا أبوك”
تنهد مصطفي بقلة حيلة وأردف برتابةِ:
“عمري ماتخيلت إن اسمع منك الكلام ده يامحمود”
“ولا أنا كنت متخيل إن ممكن أقولهولك يامصطفى،بس أديني قلته،كان لازم أقوله بعد الهبل اللي سمعته منك،أصل يعني احنا لو مش هنفكر ونخاف عليك هنفكر ونخاف علي مين يامتخلف!!”
أيد داود حديثه شقيقه بقوله:
“معاك حق في كل كلمة قلتها يامحمود،أنا مش فاهم أخوك ده بيفكر ازاي بجد والله،قال مش هنفكر فيه قال،ده أنت دايماً علي بالي وبتوحشني علي طول،ده كان عندي أمل المرة دي إنك ماتسافرش وتقعد معانا بقا،بس واضح إن دماغك جزمة وقلبك قاسي”
تضايق مصطفي من كلمات شقيقه الأخيرة فنبس بحنقٍ:
“ماكفايا بقا ياجماعة،أنتم شغالين تسبّوني من ساعتها،بمعرفش اتاثر بكلامكم حتى”
“ماهو أنت بصراحة تستاهل يامصطفى”
نظر لشقيقه “أحمد” وأردف بعتابٍ:
“حتي أنت ياأحمد”
“مش أحمد لوحده يامصطفى،كلنا متضايقين منك ياأخويا”
كانت تلك كلمات شقيقته سامية والتي نظر إليه فوجدها تضيف:
“كلنا متضايقين منك ومش عايزنك تسافر،بس انت مش شايف كده خالص”
تأثر مصطفى بتلك الكلمات التي سقطت عليه تباعاً،وأخذ يمرر نظره علي جميع الموجودين فوجدهم يطالعونه بنظرات حزن وعتاب،وكان علي رأسهم والده وأشقائه وشقيقاته،فتنهد بقلة حيلة ورمقهم تباعاً وهو يقول:
“أنتم كمان علي فكرة بتوحشني أوي،ودايما بفكر فيكم وفي أحوالكم واحد واحد،وببقى عايز اتصل بيكم كلكم علشان أطمن عليكم بس وقتي مش بيسمحلي أعمل كده..،الموضوع بجد غصب عني،أنا عايز أبعد..بس في نفس الوقت مش عايز أبعد عنكم،كلامي أكيد معظمكم مش فاهمه،اللي هايفهمه هو اللي عارف أنا ليه ببعد من الأساس”
ابتسم بسمة بائسة عقب انتهائه من كلماته تلك،بينما هم فقد انقسموا للنصفين،نصف يجهل معني حديثه،والنصف الآخر فهم معناه بشكل دقيق،فهم من عاشوا تلك الفترة معه ويعلمون جيداً سبب رغبته في الابتعاد عن المكان،أو الأصح رغبته في الابتعاد عنها “هي” وذكرياته معها.
_____________________
في جهة أخري…
ترجل مع علي دراجته النارية ورتب بذلته الرسمية التي ارتدائه من أجل هذا اليوم بالتحديد،تقدم نحو باب الشركة ودلف للداخل بخطوات ثابتة وبسمة واثقة؛ظل يسير حتي وصل إلي وجهته والتي لم تكن سوا مكتب من طلب منه القدوم.
طرق طرقات بسيطة علي مكتب الأخير الزجاجي ثم وولج للداخل وهو يقول:
“فهمي بيه!”
رفع المدعو فهمي رأسه وطالع الأخير،فتصنع السعادة برؤيته ونهض لإستقباله،وتقدم نحوه وربت علي كتفه وهو يرحب به بقوله:
“أهلا وسهلا،الشركة نورت ياأستاذ كارم”
“كان نفسي أقول إنها منوره باللي فيها،بس للأسف هبقى بكدب”
تضايق من كلمات الأخير تلك ولكن ظل محافظ علي هدوء أعصابه،وابتسم مرغماً ثم أشار له نحو الباب مع قوله:
“يلا اتفضل علشان أوريك مكتبك الجديد”
التفت للحهة الأخري وهو يجيبه ببرود:
“وماله اتفضل،ماتفضلش ليه!!”
خرج برفقته من المكتب واتجه معه إلي القسم الذي كان يعمل به في السابق،ووقف بجواره في المنتصف تقريباً،وحينها جذب فهمي انتباه الموظفين إليه بقوله:
“بعد اذنكم،ممكن تركزوا معايا دقيقة”
انتبه الجميع له وأصابتهم الدهشة بمجرد أن وقعت أعينهم على الأخير الذي يقف بجواره ببسمة واثقة،ولكن سرعان ماانتبهوا لفهمي الذي سرع بالتحدث بصوت مرتفع نسبياً:
“أكيد كلكم مستغربين سبب وجود الأستاذ كارم هنا وخاصة بعد اللي حصل أخر مرة،ومن واحبي أوضح لكم السبب..”
رفع يده وأشار نحو كارم وهو يضيف:
“الأستاذ كارم رجع للشغل تاني،ومش بس كده حضرته حصل علي ترقية موثقة من مجلس إدارة الشركة،وبقا بعدي على طول في الشغل،يعني لازم كلكم تحترموه وتعاملوه زي مابتعملوني كده بالظبط،وترجعوله في أي قرار هتاخدوه من بعد النهاردة..،وبس شكرا لإستماعكم”
نظر صوب كارم وأشار له بالسير معه مرددا:
“اتفضل علشان أوريك مكتبك”
“لا،لسه في حاجة ناقصة في الكلام اللي قلته”
عقد فهمي بين حاجبيه وسأله مستفسراً:
“ايه هي؟؟”
مال كارم علي أذن الأخير وهمس قائلا بجدية تتنافى مع حديثه:
“قولهم يصقفولي زي ماصقفوا للأستاذ هادي”
انصدم فهمي من حديث كارم هذا وفتح فمه ببلاهة لغير تصديقه ماوقع علي مسامعه الأن،ولكن أخرجه الأخير من صدمته تلك عندما أشار له برأسه نحو الموظفين مع قوله الجاد:
“يلا!”
طالعه بدهشة وأعين متسعة،حتى أحثه الأخر بنظراته علي فعلها،فتنهد بقلة حيلة ثم التفت نحو الموظيفين وهتف قائلا:
“معلش ثانية معايا..”
انتبهوا له من جديد فابتلع ريقه ثم قال بنبرة حاول لتخرج طبيعية:
“حييوا الأستاذ كارم لو سمحتوا وباركوله علي الترقية”
تعجب أكثرهم من طلبه ولكن امتثلوا له ونفذوا الأمر،وأخذوا يصفقون للأخير ويهنئونه علي الترقية،فابتسم هو بسعادة وشكرهم وهو يوزع نظراته عليهم،حتي انتبه لقوم فهمي له:
“تمام كده؟؟”
نظر له كارم وحرك رأسه بالنفي مع ابتسامة ظهرت مستفزة للآخر وهو يقول:
“لا..،لسه فاضل حاجة؟؟”
“ايه؟؟”
“عايز أسلم علي مكتبي القديم”
زفر فهمي بضيق وعض شفته السفلية وأردف وهو يضغط علي أسنانه:
“وماله..اتفضل”
“كنت هتفضل من غير ماتقول”
أنهى كارم جملته وهو يتجه نحو مكتبه القديم،حتي وصل إليه فوجده كما تركه تماماً فأخذ يطالعه ببسمة هادئة ثم همس بينه وبين نفسه:
“وحشتني ياقلبي..،بكدب”
ابتسم بسخرية عقب انتهائه من حديثه،ولكن فجأة اختفت ابتسامته تلك عندما وصل إلي مسامعه صوت أنثوي يهتف باسمه:
“كارم!”
التفت جهة الصوت والذي أتى من علي يمينه،ليجدها تقف أمامه بملابس عصرية وتبتسم له بهدوء،وقد تعرف عليها علي الفور،فهي نفسها تلك الفتاة التي أعادت له روحه كما يقول.
ابتسم بسعادة وهتف باسمها:
“ميرنا!”
تقدمت نحوه بخطوات رشيقة حتي أصبحت أمامه مباشرة وحينها أردفت برتابةٍ:
“مش كنت قايلي إنك مش راجع هنا تاني”
ضحك بخفة علي حديثها ثم قال:
“بصراحة قدمولي عرض مايترفضش،وقالولي إني موظف شاطر ومش قادرين يستغنوا عني”
أومأت له بالإيجاب وهي تطالعه بشكٍ،ولاحظ هو نظراته تلك فأردف بمرحٍ:
“مش مصدقاني ولا ايه؟؟”
أتته الإجابة سريعاً منها بقولها مع إماءة بسيطة:
“مصدقاك مصدقاك جداً”
ضحك بخفة علي طريقتها تلك،وشاركته هي الضحك،ولكن سرعان ماتوقفا عندما اقترب “فهمي” منهما وهو يقول:
“انتوا تعرفوا بعض؟؟”
لم ينظر أي منهما إليه وبادرت هي في الرد عليه بقولها الهادئ:
“آه،نعرف بعض من وقت مش بعيد”
أيد هو حديثها بقوله:
“مظبوط..،كام يوم بس”
وزع نظراته عليهما ثم قال برتابةٍ:
“كويس إنكم تعرفوا بعض..”
نظرا كلاهما له في آنٍ واحد وسأله كارم متعجباً:
“ليه؟؟”
“علشان حضرتك اللي هتبقى المسؤول عن الآنسة ميرنا في فترة تدريبها في الشركة،هتعلمها أسياسيات الشغل وكيفية التعامل مع العملاء وهكذا..”
نظر صوب ميرنا ثم أضاف:
“وحضرتك لو عندك أي استفسار أو سؤال هترجعيله،يعني هو يعتبر مديرك من اللحظة دي”
رُسمت بسمة سعيدة علي وجههما والتفتت أعين كل منهما نحو الأخر،وفجأة مدت ميرنا يدها نحوه مرددة بمرح:
“مبسوطة إن حضرتك اللي هتكون مديري ياأستاذ كارم”
ضحك علي طريقتها تلك،ثم فعل مثلها وصافح يدها مرددا برسمية مصطنعة:
“طبيعي تبقى مبسوطة أنت هتشتغلي معايا في الأخر ياآنسة ميرنا،بس خليني أعرفك حاحة مهمة جدا عني،وهي إني مابتساهلش مع أي حد،وشخص عملي جدا،ومش بسامح ولا علي أي غلطة،فياريت تلتزمي جدا في شغلك معايا وإلا تصرفي مش هيعجبك”
تفاجأت من حديثه واتسعت مقلتيها بدهشةٍ،فضحك هو علي حالتها تلك ثم أردف بنبرة جادة:
“سمعتي وفهمتي كل الكلام اللي قلته مش كده؟؟”
اومأت له بالإيجاب ومازالت تجهل سبب سؤاله،فستأنف هو حديثه بقوله المرح:
“تنسيه خالص ولا كأني قلته،أنا شخص تافه جدا علي الكلام ده”
ضحكت من قلبها علي ماقاله،فابتسم هو بسعادة عندما رأها هكذا،وكأن رؤيته لبسمتها أصبحت تسعده دون وعي منه؛أخذ يطالعها ببسمة واسعة وقد فعلت هي المثل،حتي قطع تلك النظرات “فهمي” الذي قال:
“ممكن تيجي معايا علي مكتبك علشان لسه عندنا شغل ومشغولين”
رد عليه كارم ومازالت عينه عليها:
“أجي وماله..،أشوفك بعدين”
أنهى جملته بغمزة مشاكسة لها،فابتسمت هي بخفة ورافقته بنظراتها وهو يبتعد عنها برفقة الأخر،حتي وصل كلاهما إلي مكتب الأول.
دلف معاً إليه وحينها تحدث فهمي معه:
“ده مكتبك الجديد،أتمني يبقى عجبك”
أخذ يسير في المكان ليراه بشكل أفضل وهو يجيب علي الاخير ببرود:
“مش بطال”
زفر فهمي بضيق وأبعد نظره عن الأخير ليسيطر علي غضبه تجاهه،ولكن عاد إليه من جديد عندما قال:
“لسه بتوجعك؟؟”
عقد بين حاجبيه وسأله مستفسراً:
“مش فاهم،قصدك علي ايه؟؟”
نظر له كارم ثم أشار علي أنفه بسبابته وهو يقول بإستفزاز:
“مناخيرك لسه بتوجعك؟؟”
تفاجأ من وقاحته تلك،وظل محافظاً علي هدوء أعصابه،ثم أجابه بسخطٍ:
“لأ..،عن إذنك”
التفت فور انتهائه من جملته ولكن توقف عندما هتف الاخير بجدية:
“استني؟!”
زفر بضيق ثم التفت له من جديد وأردف بحنقٍ:
“نعم!”
اقترب كارم منه عدة خطوات حتي أصبح في مواجهته،فتنهد ثم قال بنبرة جادة:
“ايه السبب اللي خلاك ترجعني؟؟..،وبلاش نقطة شطارتي وكفائتي علشان مش داخل دماغي بصراحة،في سبب تاني وأنا عايز أعرفه”
سكت فهمي قليلا ثم تنهد وقال بجدية:
“هو فعلا في سبب تاني،بس أنا كمان معرفهوش..،أنا قبل ماأبعتلهم قرار طردك لقيتهم فجاة بيتصلوا بيا وبيقولولي أرجعك وأرقيك كمان،ولما سألتهم عن السبب،قالولي مش من حقك تعرفه،فسكت ونفذت اللي انطلب مني وكلمتك علشان ترجع وبس كده..،فلو عرفت أنت السبب ياريت تبقى تعرفوهولي أنا كمان…،عن إذنك ياأستاذ كارم”
خرج من المكتب عقب انتهائه من حديثه مباشرة،تاركاً الأخير في صدمة مما وقع علي مسامعه والذي كان أشبه بالصاعقة،وكل مايتردد في ذهنه في هذه اللحظة من يدعمه؟؟ ولماذا قد يفعل ذلك؟؟.
_____________________
خرجت من شقتها وصعدت علي الدرج الذي يؤدي لشقة شقيقها،وعندما وصلت إليها طرقت علي الباب طرقات بسيطة،وحينها وصل إليها صوت الاخيرة تسأل عن هويتها:
“مين؟؟”
“أنا فيروز ياليلى افتحي”
تنهدت ليلى براحة واطمأن قلبها،ثم اقتربت من الباب وقامت بفتحه للأخيرة التي ابتسمت لها بهدوء ثم قالت:
“فاضية؟؟”
“آه..اتفضلي”
امتثلت فيروز لطلبها ودلفت للداخل وجلست علي إحدي المقاعد في غرفة المعيشة التي كان يلعب أمامها الصغير ببعض الألعاب علي الأرض،فأخذت تداعبه بقولها المرح:
“أخبار الحلو ايه النهاردة؟؟”
ابتسم لها الصغير فقط اعتاد عليها في هذه الفترة القصيرة وأجابها بكلمة صغيرة:
“كويس”
داعبت وجنته الصغيرة وهي تقول:
“يارب دايما ياروحي تفضل كويس وحلو وقمر كده”
ابتسم لها بسعادة ثم عاد للعب بألعابه،بينما هي انتبهت لليلى التي جلست بجوارها وكانت تتابعهما ببسمة هادئة حاولت أن تخفي حزنها خلفها،ولكن فشلت في ذلك واكتشفت فيروز الأمر سريعاً،فضمت شفتيها وقالت بنبرة هادئة رتيبة:
“عامله ايه دلوقتي؟؟”
“الحمد لله”
أومأت لها فيروز بإماءة بسيطة ثم قالت:
“النهاردة أول يوم لسامي في الشغل من بعد جوازكم،أكيد هيتاخر صح؟؟”
“آه،هو قالي إنه هيتأخر شوية،علشان زمايله هيحتفلوا به”
أومأت لها فيروز بالإيجاب ثم حركت عينها بعيدا عنها ونظرت صوب يزيد وأخذت تطالعه للحظات ثم قالت:
“يزيد طلع شبهك أكتر من أبوه”
نظرت نحوها ثم أضافت:
“أنا عرفت ده بعد ماشوفته والده،لقيته مش شببه،وطلع شبهك بشكل كبير أوي”
“أكترهم كان بيقولولي كده”
“علي فكرة دي حاجة حلوة،أنتِ جميلة وهو طلع جميل زيك”
شعرت بالخجل من مدحها فابتسمت بهدوء وشكرتها مرددة:
“شكراً”
“لا مفيش شكر بينا علي فكرة،احنا اتفقنا إننا نبقى صحاب،والصحاب مفيش بينهم ولا شكر ولا اعتذار،ok؟”
أومأت لها ليلى بهدوء،فابتسمت لها ثم تابعت حديثها:
“وطالما احنا صحاب،فالصحاب مفيش بينهم أسرار،ولو واحد فيهم تعبان أو مضايق لازم التاني يساعده في تجاوز تعبه أو علي الأقل يشاركه ويحسسه إنه معاه وإنه مش لوحده”
تعجبت ليلى من مسار الحديث الذي تغير،بينما اقترب فيروز منها قليلا ووضع يدها علي يد الأخرى ثم قالت بنبرة هادئة رتيبة:
“بصي ياليلى،أنا مش هاقعد ألف وأدور بالكلام أكتر من كده،أنا عايزكي تعرفي إنك مش لوحدك،ولو كنتِ قبل كده لوحدك فأنتِ دلوقتي مش كده..،سامي معاكِ وماما معاكِ وأقدر أقولك كمان الحارة كلها معاكِ علشان خلاص أنت بقيتي واحدة منهم..،وأنا كمان معاكِ أي نعم كلها كام يوم وأسافر بس برضه هفضل علي تواصل معاكِ،وامتي ماتحبّي تتكلمي وتدردشي مع حد أنا موجودة،وأنا كمان لما أحب أدردش مع حد هتصل بيكِ وأفضفض معاكِ كأنك أختي مش صحبتي بس”
تنهدت ثم أضافت بنفس الوتيرة:
“من الأخر أنا معرفش أنتِ مريتي بإيه قبل كده،بس أقدر أقولك إن مهما كان لازم تنسيه علشان تعرفي تكملي حياتك بسلاسة..،أقدر أقولك كمان إن كلنا معاكِ وإننا بنحبك،سيبك من أي أحد يقول كلمة وحشة في حقك،ارميها ورا ضهرك ولا كأنك سمعتها،وكملي حياتك عادي مع الناس اللي بيحبوكِ..،احنا لو وقفنا عند نقطة معينة في الحياة مش هنقدر نكمل صدقيني،لازم نرسم خط طويل مالوش نهاية نمشي عليه ساعتها فعلا هنقدر نعيش،والخط مش هنقدر نرسمه لوحدنا،لازم نرسمه مع اللي بيحبنا وبنحبه،هنكمل علشانا وعلشانهم..،اعتبري اللي قلته ده نصيحة من أختك الصغيرة أو صديقتك المقربة اللي بتتمنالك الخير،تمام؟؟”
طالعتها ليلى بإمتنان وأعين دامعة لتاثرها بحديثها وكلماتها الجميلة التي ألقتها عليها،ثم اومأت لها بالإيجاب ببسمة هادئة ممتنة،فابتسمت فيروز لها كذلك،وربتت علي يدها بحنان،فوضعت ليلى يدها الأخري فوق يد الأخيرة وربتت عليها كذلك،وهمست بكلمة وحيدة بصوت منخفض:
“شكراً”
اقتربت منها فيروز وعانقتها بقوة وهو تبتسم بهدوء وأخذت تربت علي كتفها بحنان،ورغم تفاجأ ليلى مما فعلته اعتادت الأمر بسرعة وابتسمت بهدوء وفعلت معها المثل.
____________________
_
في بيت أل عمران..
استمر التجمع قائم والأحاديث كذلك بين أفراد العائلة الأجمع،واستمر هو في سكوته الدائم كما هو في الشرفة بمفرده بملامح كساها الحزن واليأس.
وفجأة ولج إليه خاله طارق وهو يتحدث في الهاتف مع أحدهم:
“آلو سامعني كده..ألو”
أبعد الهاتف عن أذنه وأنهى المكالمة وهو يضيف:
“مفيش شبكة ولا ايه!!”
أغلق هاتفه ووضعه في جيب بنطاله،وأثناء ذلك لاحظ جلوس الأخير بهيته تلك فذُعر وعاد للخلف وهو يقول:
“يخرب عقلك..أنت بتعمل ايه هنا؟!”
رد عليه دون أن ينظر إليه حتي بنبرة باردة:
“بلكونة جدي وقاعد فيها عادي يعني”
“سايب اللمة اللي جوه وقاعد لوحدك ليه؟؟”
“كيفي ده”
عقد طارق بين حاحبيه وأردف بإستنكار:
“هو ايه اللي كيفي كده!!..،هو أنت مكتئب ياض؟؟”
زفر موسى بضيق من أسئلة الأخير الكثيرة،والتفت له وأجابه ببرود:
“أنت عايز ايه ياخالو؟؟”
“هو ايه اللي عايز ايه؟!،بسألك انت مكتئب ولا إيه؟؟،أصل مش طبيعي تفضل قاعد لوحدك هنا كده واحنا كلنا جوه،وحتي ماسلمتش عليا ولا علي عمك”
“سلمت علي عمي قبل ماأنت تيجي،أما أنت بقا مش ضروري أسلم عليك ده هما ٤ أيام اللي غبتهم يعني مش حاجة”
“ياجاحد!”
تجاهل سبّة خاله والتفت برأسه ونظر بعيداً عنه،مما أثار استياء الأخر وهتف بحنقٍ:
“بصلي هنا ياض؟؟”
تأفف بضيق والتفت له مرددا بضجر:
“عايز ايه؟؟”
“أنت مزنوق في فلوس ولا حاجة؟؟”
سكت موسى ليفكر قليلا،ثم رد علي الأخير بإماءة بسيطة:
“آه،مزنوق في مبلغ كده علشان خلصت اللي أخدتهم من الحاج”
حرك طارق رأسه له بالإيجاب،فهتف الأخر بحنقٍ:
“هو أنا قلتك آه علشان تهزلي راسك!”
“أنا سألتك بس،ماقلتش هديك علي فكرة”
طالع بضيق للثواني ثم هتف بجدية:
“طب ايه رأيك بقى إنك هدديني ياخالو..ايدك بقا علي ١٠٠٠ جنيه”
أنهى جملته وهو يبسط يده له،فضربه الاخيرة ودفعها بعيداً وهو يردف بحنقٍ:
“١٠٠٠ جنيه ايه بس!،روح الله يساهلك”
“لا هو أنا مش بشحت منك،أنا بقولك هدديني ياخالو،وإلا والله هروح أدخل لدلال حالا وأوريها الصور اللي معايا،وأخلّي القعدة تتقلبلك محكمة وحكمك فيها هيبقى إعدام صدقني”
“الله يحرقك أنت والصور ياشيخ،كان يوم أسود يوم ماتصورت الصور ده”
“ماحدش قالك روح اتصور ياخالو واحتفظ بالصور”
مسح طارق وجهه بغضبٍ،ثم أردف بحنقٍ:
“أنا مااحتفظتش بيهم غير ليوم واحد بس،ومش عارف أنت لحقت تاخدهم منّي إزاي وامتي أصلا؟؟”
رد عليه موسى ببساطة:
“أنت السبب ياخالو،أصل يعني مين يسيب تلفونه قدام واحد زيي ويمشي”
“وانت فتحته اصلا ازاي وقتها؟؟”
“البركة فيك برضه ياخالو،حضرتك عامل ال password عيد ميلاد دلال اللي هو عيد ميلاي ياغالي”
سكت طارق وأدرك الأمر أخيرا،وحينها هتف بسخطٍ:
“آه منك يابن..”
قطعه موسى بقوله البارد:
“عيب،أي كان اللي هتقوله فهو عيب..،وسيبك بقا من الكلام ده وايديك علي ال ١٠٠٠ جنيت وإلا هنفذ اللي قلته”
رمقه بغضبٍ وسخطٍ،وهو يضغط علي أسنانه من شدة انزعاجه منه،ثم زفر بضيق وأردف وهو يخرج حافظة نقوده من بنطاله:
“مش معايا يكمل دلوقتي،علشان لسه ماسحبتش كاش”
“مش مهم،جيب اللي معاك!!”
طالعه بغيظ شديد وشرع في إخراج النقود له،ثم أعطاهم إياهم في يده التي بسطها له مرددا بحنقٍ:
“خد!،دول ٧٠٠ جنيه لما أسحب كاش أبقى اديك الباقي”
تناول موسى منه النقود وشرع بعدّها وهو يجيبه ببرود:
“الباقى هيبقى زيهم ٧٠٠ جنيه”
هتفت طارق بإنفعال:
“ليه إن شاء الله؟؟”
“ضريبة الإنتظار ياخالو،ماتنساش إني هستني لحد ماتسحب ياغالي”
مسح طارق وجهه وأخذ يستغفر في سره،ثم نظر للاخير بغيظ وأشار نحوه بسباته وهو يهتف بغضب:
“هيجي يوم،اقسم بالله هيجي يوم وأتخلص من أم الصور اللي حضرتك بتذلني بيها دي”
“ماشي،على ماييجي اليوم ده أكون خليتك تفلس إن شاء الله”
فقد القدرة عن النطق من برود الأخير هذا ومن تصرفاته التي تثير غيظه وغضبه،وتنفس بغضب،ثم هتف بإستياء:
“روح منك لله ياشيخ”
خرج من الشرفة عقب كلماته تلك وهو يستغفر في سره،بينما الأخر رد عليه وهو يضع النقود في جيب بنطاله:
“كلنا مننا لله ياغالي”
تنفس الصعداء بعد كلماته تلك ثم عاد بجسده للخلف وأخذ يطالع السماء من جديد،واستمر في بمراقبة السحب في السماء بوجهه واجمٍ،حتي وصل إلي مسامعه صوت بوق سيارات،فاطرق رأسه ونظر للأسفل فوجد والده وأعمامه وأولادهم يصعدون للسيارات تباعاً لمرافقة عمه مصطفى للمطار وتودعيه قبل سفره من جديد.
ظل يراقبهم حتي انطلقت السيارات جميعاً تاركة الغبار خلفها،فتنهد هو بقوة ثم عادت لسابق عهده وهو يقول بيأس:
“نرجع للغرق من تاني”
_____________________
في المساء…
غابت الشمس وانتشر الظلام في المنطقة،ولم يعد هناك ضوء سوا من تلك المصابيح المعلقة في كل مكان،والذي جلس هو تحت واحدة منهم في شرفة جده بعد عودته من صلاة العشاء.
جلس في نفس الوضعية تقريباً علي المقعد الخشبي،يستمع للأصوات في رأسه،والتي تزاحمت بشكل أرهقه كثيراً،وجعلت طاقة احتماله توشك علي النفاذ.
أبعد نظره عن السماء ونجومها ونظر لشرفة قمره كما يقول هو،نظر لشرفتها كما العادة دائماً.
تنفس الصعداء ثم أردف بصوت منخفض:
“أعمل ايه؟؟..المفروض أعمل ايه أنا؟؟”
تنهد بقوة عقب انتهائه من نبس تلك الكلمات،ثم ارتكز برأسه علي الحائط خلفه ووضع يديه علي وجهه وأخذ يتنفس بصوت مرتفع،بينما تردد علي ذهنه كلمات دلال له:
”
مفيش حل غير إنك تتكلم معاها وتقولها علي مشاعرك بوضوح،علشان ماتندمش بعدين وتقول ياريتني قولتلها”
“ماهو لو فضلت ساكت برده هتخسرها ياموسى
”
“لو فيروز سافرت احتمال ماترجعش تاني،وحتى لو رجعت مش هترجع فيروز اللي أنت عارفها،احتمال تنخطب أو تتجوز أكيد يعني مش هتفضل لوحدها طول عمرها”
أبعد يديه عن وجهه وأخذ يحرك رأسه بالنفي تزامناً مع قوله:
“لا لا لا مستحيل..مش هسمح إني أخسرها لأ..”
نهض من مجلسه وهو يضيف:
“بعد كل اللي عملته علشانها أخسرها في الأخر!!..لأ مستحيل لأ”
أخرج هاتفه من جيب بنطاله عقب كلماته تلك وحرك أصابعه علي الشاشة حتي وصل إلي رقم هاتفها،وهذه المرة لم يتردد في طلبها وقام بهاتفتها.
ثواني وبدأت المكالمة بينهما عندما وصل إليه صوتها تقول:
“ألو..موسى؟؟”
رد عليه سريعاً دون تفكير:
“أيوه أنا موسى يافيروز،ممكن تطلعي البلكونة بسرعة”
“ليه في حاجة؟؟”
“هتعرفي لما تطلعي”
وصل إليها صوتها تجيبه بهدوء:
“ماشي،دقيقة بس”
“أنا مش هقفل”
ابتلع ريقه وأخذ يحرك أصابع يده الحرة علي السور في حالة من التوتر قد تمكنت منه،وأعين تراقب شرفتها وتترقب خروحها إليه،وقد كان ذلك..خرجت بعد ثواني قليلة بعدما هندمت حجابها ووقف علي سور شرفتها وهي تمسك بالهاتف وتحادثه منه:
“اتفضل،أنا طلعت أهو”
بلل شفتيه ثم ابتلع ريقه وتنهد بعمق وشرع في التحدث بنبرة جاهد لتخرج طبيعية وعينه قد ثبتت عليه:
“أنا عايز أقولك حاجة مهمة أوي”
“ماشي،أنا سمعاك”
تنفس بصوت مرتفع ثم قال بنفس الوتيرة:
“اللي هقوله دلوقتي هي..هيفاجأك أكيد،بس أنا مقدرتش أحتفظ بي لنفسي..أكتر من كده..،هتحسيه غريب وده حقك،بس أنا عايزك تعرفي إن..إن اللي هاقولهولك دلوقتي حقيقي..حقيقي جدا وطالع من قلبي..”
سكت للحظات يطالعها في صمت وهي تتابعه بترقب للقادم بوجهٍ لم تظهر عليه أي ردة فعل حتي الأن،إلي أن تنهد من جديد ليقطع هذا الصمت ويستأنف حديثه وأخيراً:
“فيروز..أنا..أنا ب..”
انقبضت ملامحه فجأة وتوقف عن التحدث واتسعت مقلتيه عندما وصل إليه صوت جده يهتف بصوت مرتفع مذعور اخترق مسامعه:
“مصطفى!!”
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.