رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثاني والعشرون 22 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثاني والعشرون

الفصل الثاني والعشرون(ماضٍ ثقيل)

الفصل الثاني والعشرون(ماضٍ ثقيل)

صلوا على رسول الله…

اذكروا الله…

#ملخص سريع للأحداث السابقة…

*موسى وفيروز اتخطبوا والأول بيسعى علشان يكتب الكتاب بسرعة.

*كارم عرف إن ميرنا هي السبب في رجوعه الشغل وترقيته.

*مصطفى قرر إنه مايسافرش ويستقر في مصر من تاني،بينما طارق هو اللي سافر في شغل.

*ليلى جالها إنذار من المحكمة إن في قضية مرفوعة ضدها.

*حسن شاف لينا وهي بتسرق وقال لموسى،وحاليا موسى بيساعدها علشان تتعالج.

وبس كده ده أهم الأحداث اللي حصلت في أخر كام فصل،نبدأ بقا من تاني..

بسم الله…

_________

-وجاء حنوناً بشكل مفرط وكأنه يعتذر عن كل من آذاني.

“مقتبس”

_____________

كان يجلس علي إحدى المقاعد الحديدية في إحدي زوايا العيادة النفسية التي أتى إليها برفقة ابنة عمته كما اتفق معها سابقاً.

جلس ينكث رأسه ويضم يديه أمامه،بينما يسرق النظر بين الحين والأخر نحو باب الغرفة التي دلفت لها منذ قليل،ألقى نظرة سريعة علي الباب ثم نظر إلى الأرض ونبس بنبرة خافتة برجاءٍ وأملٍ:

“استرها معانا يارب”

أما في داخل الغرفة…

كانت هي تجلس علي مقعد كما يجلس هو،تضم يديها أمامها وتسرق النظر بين الحين والأخر نحو الطبيبة

التي جلست علي يسارها

،والتي سرعان ماجذبت انتباهها لها عندما قالت وهي تنظر للحاسوب أمامها:

“لينا فاروق؟؟”

نظرت نحوها وأومأت لها بالإيجاب بحركات هادئة تتنافي مع الإضطرابات داخلها،في نفس اللحظة التي رفعت بها الطبية عينها عن الحاسوب ونظرت نحوها ثم أردفت بنبرة هادئة:

“عندك كام سنة يالينا؟؟”

“١٩”

“كتكوتة أوي يالينا لسه صغيرة،بتدرسي؟؟”

أومأت لها لينا بالإيجاب ثم قالت بنبرة هادئة مصحوبة برجفة بسيطة:

“آه..بدرس في كلية تجارة”

“ماشاء الله،ربنا يوفقك ويحققلك اللي بتتمنيه”

“شكراً”

التقطت الطبيبة نفساً عميقاً ثم

وضعت يدها أمامهما وتحدثت بعمليةٍ:

“دلوقتي بقا خليني أسألك سؤال كلنا بنسمعه كتير وبنقولها أكتر…عامله ايه؟؟،بس قبل ماتجاوبيني عايزاكي تعرفي إني عايزه أسمع اللي جواكي،حقيقتك مش الجواب التقليدي اللي كلنا بنقوله،حاولي تتخيلي إنك بتكلمي نفسك وإني مش موجودة،حاولي تتطلعي كل اللي جواكي بدون خوف ولا قلق ولا حواجز منعاكي،جاهزة؟؟”

سكتت للثوانٍ معدودة تراجع تلك الكلمات ووتتأهب لما عليها فعله،وقد كان ذلك عندما أخرجت تنهيدة عميقة،وكأنها تحاول تحرير روحها من ثقل التردد والقلق،ثم ثبتت أنظارها على نقطة ثابتة أمامها.في تلك اللحظة،اختارت المواجهة على الهروب،وبدأت تتحدث بنبرة هادئة،خافتة،تعبر عن شيء طالما اختبأ خلف الجدران الصامتة:

“مسجونة…،أنا حاسه نفسي مسجونة في سجن وهمي أنا اللي حبست نفسي فيه من غير ماحس..،عايزة أخرج منه بس مش عارفة،بحاول بس مش بخرج رغم إني عارفة طريق الخروج…،الحقيقة هي إني دخلت وقفلت على نفسي ونسيت المفتاح اللي هخرج بيه،أو مااهتمتش من الأول إني أعرف مكانه..،ودلوقتي أنا مخنوقة ومضايقة،مضايقة من نفسي بشكل كبير إني بعمل حاجة زي دي،حاجة عمري ماتخيلت إني ممكن أعملها،عمري ماتخيلت أصلا إن هوصل للحالة دي بسبب شوية..بسبب شوية توتر وقلق”

سكتت عقب حديثها،فأدركت الطبيب أنه حان دورها للتحدث،فتنهدت بعمق ثم أردف برزانة:

“يعني أنتِ مش مبسوطة من وضعك”

نظرت له لينا سريعاً وحركت رأسها بالنفي مع قولها الجاد:

“أكيد لأ،هكون مبسوطة إزاي وأنا بعمل حاجة زي دي،حاجة بحاول أمنع نفسي عنها بس مش عارفة”

“أنتِ قريتي عن الحالة دي صح؟؟”

سكتت لينا قليلاً تتذكر عندما أدركت ماتمر به وقررت البحث عن الإنترنت وعلمت حينها مابها؛خرجت من ذكرياتها سريعاً وأومأت بالإيجاب ثم قالت بخفوت:

“آه،أول مابدأت أعمل الحاجة دي غصب عني بحثت وقريت عنها،حتى قريت عن طرق علاجها،وحاولت أعالج نفسي بنفسي بس كانت النتيجة زي ماحضرتك شايفة”

“امتى بدأتِ تعملي كده؟؟”

“من سنة ونص..،في أخر كام شهر قبل امتحانات الثانوية العامة”

أومأت الطبيبة بالإيجاب لإدراكها الأمر بعد حديث الأخير هذا،فالتقطت قلمها ودفتر صغير ودونت عليه بعض الأشياء والأخري تتابعها في صمت،حتى رفعت رأسها لها من جديد ونبست بثبات واتزان:

“كنتِ بتحسي بإيه في الفترة دي؟؟”

ابتلعت لينا ريقها بغصة ثم أردفت بنبرة مُرتجفة:

“كنت بحس بكل حاجة وحشة..،كنت بحس إني تايه ومخنوقة ومضايقة،كنت بحس إني عايزة أعيط وأُصرخ..بس كان في حاجة بتمنعني أعمل كده،كأن في حاجة مكتفاني”

“ليه مانقولش إنك أنتِ اللي مانعة نفسك؟؟”

رفعت لينا حاجبيها وسألتها بإستنكار:

“أنا؟!”

“آه أنتِ يالينا..،الحكاية إن احنا كبشر بيجي علينا أوقات ونبقى عايزين ننفجر،ونطلع كل اللي جوانا من مشاعر أكانت حزن أو غضب أو فرحة،بنعبر عنها بطرق مختلفة على حسب شخصية كل واحد فينا،بس في جزء مننا بقا بيبقى صعب عليه إنه يعبر،وفي حالتك..أنتِ صعب عليكِ إنك تعبري عن حزنك،بتمنعي نفسك كأنك لو عيطتِ أو انهارتِ دلوقتي هتتعاقبي،كأن في حد هيحاسبك لو عملت كده رغم إنك عارفة إن ده مش هيحصل..،بإختصار أنت أذيتِ نفسك وفي ايدك إنك تعالجيها،فلو عايزة فعلاً تعالجيها وتطلعى من سجنك لازم تتعاوني معايا…،موافقة؟؟”

سكتت لبرهة تفكر وتراجع ماوقع علي مسامعها،حتى اتخذت قرارها الحتميّ والذي لاعودة به بعد الأن،وعبرت عنه إجابتها بإماءة بسيطة دلت على موافقتها،أو لنقل استعدادها لتحرر نفسها من السجن الذي سجنت نفسها به.

___________________

في الجهة الأخرى…

كان يصعد إلى السلم المؤدي إلي شقته بعدما انتهى من عمله اليومي بشكل كلي،وصل إلي وجهته ودلف إلي الداخل بواسطة المفتاح الخاص به وهو يلقى التحية الإسلامية كعادته:

“السلام عليــ”

توقفت الكلمات في حلقه عندما رأى شقيقته تجاور زوجته التي كان تمسح وجهها في محاولة منها أن تزيل أثر البكاء عنه،ولكن كانت محاولة فاشلة بسبب نجاح الأخر في رؤيتها واكتشاف الأمر،فسارع في سؤالهما بنبرة بدت جادة إلي حد ما لكنها تحمل في طياتها رهبة وخوف:

“في ايه؟؟،بتعيطي ليه؟؟”

نظرت فيروز نحو ليلى التى أومأت لها بالنفى بحركة بسيطة منها،لكن الأخرى أبت الإصغاء إليها وقررت فعل مايخبرها به قلبها،فنهضت من مجلسها واقتربت من شقيقها الذي سألها بنظراته عما يحدث،فكان له الجواب حينما نبست بصوت خافت وصل إليه فقط:

“هي ماكنتش عايزاني أقولك بس أنا من رأيي إنك لازم تعرف..”

بدأ الخوف يتسلل لسامي بعد كلمات فيروز تلك،وتوجهت أنظاره تلقائياً نحوها والتي كنت تتابعها عن كثب بوجه احمر من كثرة البكاء،ظل ينظر لها للحظات ولكن سرعان ماعاد للأخيرة وقال بقلقٍ:

“مش عايزاني أعرف ايه؟؟،قولي!!”

ابتلعت فيروز ريقها ثم بدأت بسرد له تفاصيل ماحدث حيث قالت:

“الصبح كنت طالعه أقعد معاها شوية،بس وأنا على السلم قابلت راجل غريب نازل من عندها،فخفت إنه يكون عملها حاجة وطلعتلها بسرعة وفضلت أخبط لحد مافتحتلي فلقيتها منهارة وقاعدة تعيط وهي ماسكة ظرف غريب في ايدها،سألتها عنه بس أنكرت في البداية وفضلت رافضة تقولي هو ايه،بس أنا أصريت لحد ماخليتها تقول”

هتف سامي بخوفٍ:

“ظرف ايه اللي خليها توصل للحالة دي؟؟”

سكتت فيروز لبرهة ثم قالت بجدية:

“عاصم..عاصم طليقها رافع قضية وعايز ياخد حضانة يزيد منها”

اتسعت حدقتي سامي وتوجهت أنظاره نحوها من جديد فوجدها تطالعه بأعين تسرد قصة حزينة،أراد بشدة أن يسمعها منها،لذا عاد لفيروز من جديد وقال بنبرة هادئة تتنافى مع سابقتها:

“أستأذنك يافيروز تاخدي يزيد وتنزلي عند ماما تحت،محتاج اتكلم معاها لوحدنا”

تفهمت فيروز الوضع فأومأت له بالايجاب سريعاً وهي تقول:

“طبعاً”

اتجهت عقب حديثها هذا نحو يزيد الذي كان يلعب بألعابه في منتصف الغرفة،ثم جثت على ركبتيها وتحدثت معه بلطفٍ:

“يزيدو..تحب ننزل عن تاتا تحت ونلعب معاها ونساعدها في الأكل؟؟”

تفوه يزيد ببضع كلمات غير مفهومة ورغم ذلك قد فهمتها هي بسبب تعاملها مع أطفال كُثر من قِبل،وكان مضمونها موافقته على اقتراحها وترحبيه به،فابتسمت ببهجة ثم حملته على ذراعها بحذرٍ واتجهت نحو الباب لتنفذ ماطلبه شقيقها منها،والذي تبادلت النظرات المبهمة معه قبل أن تخرج وتتركه مع تلك الجالسة بمفردهما.

ظل

ينظر إليها في صمتٍ مطبق،ثم تنهد بأنفاس ثقيلة،وخطا خطوات ثابتة نحوها،حتى أصبح على مقربة منها،ونظر إليها من علياه لبرهة،إلى أن جثا على ركبتيه،ليصبح في مستوى نظيرها؛هي،بدورها،بقيت في انتظار كلماته،إلّا أن الصمت طال بينهما بمرارة،ليحمل في طياته عتابًا شديدًا من طرفه،عتابًا لا تحتاج الكلمات لتفسيره.

لكن هي نجحت في تفسيره دون حديث من جهته فأردفت بصوت خافت بغصة في حلقها:

“أسفة”

مسح وجهه بإستياء واضح،ثم زفر بضيق وقال بعتابِ:

“كنتِ ناوية تخبي عني؟؟”

“أنا بس ماكنتش عايزاك تتدخل في مشاكل بسبــ..”

قطع حديثها وهو يهتف بإنفعالٍ:

“خلاص ماكنتيش تتجوزتيني ياليلى..،طالما عايزة تنعزلي بمشاكلك لوحدك بعيد عني،ماكنتش تتجوزيني من الأول،طالما مش عايزة تشاركيني همومك يبقا ماكنش ليها لازمة نتجوز من الأساس،أصل الجواز ده ايه أصلا غير مشاركة..،اتنين بيرتبطوا بعقدٍ واحد،علشان يبقوا واحد،عارفة يعني ايه واحد؟؟ يعني كل واحد عارف كل حاجة عن التاني،كل واحد كتاب مفتوح للتاني..،حياتهم بقت واحدة،مشاكلهم واحدة،همومهم واحدة،فرحتهم واحدة،كل حاجة بيشاركوها مع بعض علشان في الأخر تكون واحدة”

سكتت لبرهة ثم تابع بنبرة أهدأ من سابقتها:

“أنا عايز أشاركك ياليلى،عايز أشارك مشاكلك وزعلك قبل فرحك،عايز أكون معاكِ في المر قبل الحلو،وده من حقي كجوزك،ليه بقا بتحاولي تاخدي الحق ده مني؟؟”

“أنا بس مش عايزاك تتـــ”

قطع حديثها مجدداً وهو يقول بنفاذٍ صبر:

“مش عايزاني ايه بس؟؟،مش عايزني أكون شريك حياتك؟؟،مش عايزني أشاركك همومك؟؟،أنا مش هقدر أعمل ده،إزاي هقدر أعمل كده قوليلي؟؟،إزاي هعمل كده وأنا أصلا أخدت وعد على نفسي إن أشيلك في عيني مش بس في قلبي؟؟،أحميكِ وأعوضك عن كل اللي فات..،أحاول أكون ليكِ العوض،بس للأسف أنتِ مش مدياني الفرصة إني أعمل كده،هسألك سؤال؟؟..”

سكت لبرهة ثم ابتلع ريقه بمرارة وسألها بنبرة جادة:

“أنتِ فعلاً كُنتِ عايزاني،ولا كُنتِ مجبورة؟؟”

اتسعت حدقتيها بذهول،فهي لم تتوقع أبداً أن يسألها سؤال مثل هذا،ودون أن تعي هربت الكلمات منها وفشلت في أن تجيب على سؤاله؛فافهم هو الأمر بشكل خاطئ تماماً وظن أن إجابتها هي الإختيار الثاني،لذا أومأ لها بالإيجاب ثم أردف بثقلٍ وخيبة أمل:

“فهمت..،وكُنت حاسس بده أصلا لما رفضتِ تتكلمي وتفتحيلي قلبك..،على العموم أظن إننا محتاجين نفكر شوية في علاقتنا”

أنهى جملته ثم ابتلع ريقه بغصة ونهض من مجلسه،ثم طالعها من علياه لثواني معدوة،ثم تنهد بثقلٍ والتفت لجهةٍ معاكسة لجهتها.

ولكن بمجرد أن خطا خطوتين وصل إليه صوتها يهتف بإسمه:

“ســامي!!”

توقف في مكانه وتردد في الالتفات لها،ولكن اتخذ قراره في النهاية واستمع لصوت قلبه والتفت لها،ليجدها تنهض من مجلسها وتنبس بجدية وهدوء:

“أنا مستعدة إني أتكلم…”

__________________

“مبسوطة جداً إنك اتكلمتِ معايا وفتحتِ قلبك حتى لو بجزء بسيط بس ده كافى كأول مرة لينا”

كانت تلك كلمات الطبيبة النفسية والتي تدعى “مروة”،والتي قالتها للجالسة أمامها بعدما انتهى موعدهم معاً لهذا اليوم.

تابعت الطبيبة حديثها بعملية واتزان:

“لازم تعرفي إن إحنا لسا في البداية ويدوب بنسمي،لسه قدامنا طريق طويل نمشيه مع بعض،فلازم يبقى عندك طاقة كبيرة علشان تستحملى وتوصلي لخط النهاية وتحققي النجاح اللي بتتمنيه..،دلوقتي أقدر أقولك إن معادنا للنهاردة خلص،وهقابلك بأذن الله الأسبوع القادم في نفس الميعاد،أتمني تيجي على الموعد وتلتزمي باللي قلتلك عليه لحد ماتجيلي..،اتفقنا؟؟”

أومأت لها بالإيجاب وعبرت عن موافقتها بهذا فقط،فوقفت الطبيبة ثم هي مباشرة،وتصافحا كليهما وحينها أردفت الطبيبة:

“أنا هبقى أتابع مع أخوكِ أول بأول لو حصل حاجة،مش اللي بره ده أخوكِ برضه؟؟”

“لا،ابن خالي بس في مقام أخويا الكبير برضه”

“ربنا يخلهولك،واضح إنه يبخاف عليكِ ومهتم بيكِ أوي،هو اللي اتواصل معايا وشرحلي حالتك بالتفاصيل واتفق معايا على المعاد وكل حاجة،من طريقته معايل على الموبايل حسيته بيحبك فعلاً”

لم تستطع لينا أن تُخفي ذهولها للحظات،فهي لم تتوقع أبدًا أن يهتم موسى بها بهذا الشكل.اختفت دهشتها تدريجءاً وتسلل شئ آخر إلى قلبها،شيء يشبه السعادة. سعادة بوجود رفيق وأخ لها مثله بجوارها،فهي لطالما تمنت ذلك بالفعل،تمنت بأن يكون لها أخاً خير صديق،وقد كان لها ماتمنت،فقد أتى من يشغل هذه المكانة لديها. ليكن أخاً حقيقي لها فعلاً وقولاً وليس مجرد كلام لاغير كان يلقونه الكبار عليهم.

__________________

في الجهة الأخرى…

كانت تجلس

على الأريكة تترقب قدومه إليها،وكان لها ماأردات حين أتى من المطبخ في يده كوب من الماء البارد لها،قدمه لها وحثّها بنظراته على الإحتساء منه،فتناولته ثم بدأت بالشرب،والأخر جلس بجوارها وأخذ يراقبها حتى انتهت ووضعت الكوب على الطاولة الصغيرة أمامهما.

عادت إليه بنظراتها وأخذت تتنفس بعمق كمحاولة منها في جمع شجعتها لتفتح قلبها له كما قررت أن تفعل.

طال صمتها للحظات،وكأنها كانت تجمع شتات أفكارها،بينما هو يراقبها بنظرة هادئة تحمل في طياتها صبرًا عميقًا ورغبة خفية في الفهم. أومأ لها برأسه بحركة بسيطة،إشارة منه أنها تملك كل الوقت لتبدأ،وأنه هنا ليس فقط لينصت،بل ليشاركها ثقل الحكاية. التقطت إشاراته،فأغلقت عينيها للحظة وهي تسحب نفسًا عميقًا،وكأنها تستعد لمواجهة ماضيها. فتحتهما ببطء وبدأت تسرد قصتها بصوت خافت،كمن يخشى أن يكسر الصمت المحيط أو يعيد فتح جروح لم تلتئم بعد:

“كان عندي ٢١ سنة لما جه اتقدملي،كنت لسه مخلصة المعهد وبدأت أشنغل،شافني لأول مرة في الموقف وعجبته،فقرر يدور ويعرف أنا مين،وكان خلال أسبوع فعلا عارف اسمي وعنواني..،جه مع والدته وأخته،اتكلم مع بابا كلام بسيط جداً وضحلنا فيه طلبه وظروفه،واللي كملت وقالت كل حاجة تقريباً بالتفصيل كانت والدته،كان الموضوع بالنسب ةلنا غريب بس هو قالنا وقتها إنى والده توفى هو طفل واللي ربته وعلمته كل حاجة كانت والدته،هي كانت المسؤولة عنه وعن حياته ومازالت كده،فكرنا وقتها إنه بيحترمها وبيقدر اللي عملته علشان كده هي اللي بتتكلم وبتقرر بداله..بس الحقيقة كانت غير كده طبعاً،الحقيقة اللي معرفتهاش غير بعد مااتجوزنا”

“طب فترة الخطوبة؟؟”

سؤال خرج من فمه أراد أن يعرف به كيف لما تلاحظ حقيقته تلك خلال هذه الفترة،وكان له ماأراد حين بدأت في إجابته:

“فترة الخطوبة كانت عبارة عن ٦ شهور،خلص فيهم شقته وأنا جهزت نفسي واتجوزنا على طول،ممكن بتقول في نفسك دلوقتي إن ٦شهور مدة كويسة للتعارف،وإن احنا كمان اتخبطنا تقريباً نفس المدة؟؟”

أومأ لها بالإيجاب فهي صدقت في تخمينها،لذا تابعت حديثها وأعطته الإجابة بقولها:

“ال٦ شهور بتوعنا أنت كنت بتروح وتيجي كتير عندنا،واتكلمنا كتير مع بعض وبالتالي قدرنا نتعرف على بعض بقدر كافي،غير كده أنت كمان عرفتني كل حاجة عن عيلتك وماخبتش حاجة عني،أما هو بقا فاماكنش بيجي كتير،ولما كان بيجي كان لازم مامته تبقى معاه،حتى في الخروجات كانت أغلبها أخته بتحضرها،الفترة دي أنا شوفت والدته وأخته أكتر ماشوفته هو،بسبب ظروف شغله؛فابالتالي معرفتش أفهم شخصيته خالص،ولما قلت كده لوالدي قالي إني هقدر أفهمه بعد الجواز،وأكدلي إنه شخص محترم ومتأكد إنه كويس ليا،ورغم إني ماكنتش مرتاحة بس ماكنش قدامي حل غير إني أقول حاضر،وأثق في رأي والدي لأنه أكيد فاهم وعارف مصلحتي أكتر مني،بس..”

“بس؟؟”

ابتلعت ريقها بغصة ثم تابعت بنبرة مختنقة:

“بس للأسف بابا طلع غلط،معرفش يفهمه ولا يفهم عيلته ولا يسأل حتى عنهم كويس،لأني اللي شوفته منهم قبل الجواز حاجة واللي شوفته بعد الجواز حاجة تانية خالص،والنسخة اللي شوفتها من عاصم بعد مااتجوزنا غير النسخة اللي اتعرفت عليها واللي وافقت أتجوزها،اتغير..اتغير ١٨٠ درجة بعد كام يوم بس من جوزانا بقا شخص تاني أنا معرفهوش،بقى شخص عصبي وعنيف وخلقه ضيق ولسانه بيقول أبشع الألفاظ، بقا شخص بيمد ايده عليا..”

انقبضت ملامح سامي فورما سمع تلك الكلمات الثقيلة،رغم أنه كان يشك في الأمر إلّا أن سماع شئ كهذا منها كان ثقيلاً عليه وبشدة،وهو فقط يتخيل ماكان يفعله ذلك الوغد بهل.

ابتلع ريقه بمرارة ثم أردف بنبرة جاهد لتخرج طبيعية محاولاً إخفاء غضبه عنها:

“هو..هو بدأ يعمل كده فجأة من غير سبب؟؟”

سكتت لبرهة ثم أردفت بصوت يغلبه الحزن:

“السبب كان..والدته،والدته معاملتها ليا اتغيرت من أول يوم جواز تقريباً،أو خليني أقول إنها أظهرت مشاعرها الحقيقية تجاهي،واللي هيا الكره،كره بان فوراً في معاملتها الوحشة ليا،وفي تقليلها المستمر مني قدامه وقادم أي حد من قرايبها،وفي كل مرة كان بتعيّب على أي حاجة كنت بعملها حتى لو حلوة،في كل مرة كانت بتروح تشتكيله مني على حاجة أنا معملتهاش من الأساس،والأسوء إنه كان بيصدقها،ولما كنت بحاول أدافع عن نفسي كان بيسكتني غصب ويرفض يسمعني،ولو كابرت ودافعت عن نفسي كان..كان بيضربني”

بمجرد أن أنهت حديثها،عمّ الصمت في المكان. انحنت برأسها بخجل يكسوه الانكسار. أما هو،فقد ظل ينظر إليها بعينين تعبران عن أسف عميق وقلب يخفق بشدة،وكأن ألمها قد اخترق روحه.

أخذ نفساً عميقاً ليضبط توازنه،ثم مسح وجهه براحة يده كمن يحاول طرد أفكار تتصارع في ذهنه. أخيراً،بدأ بالكلام بنبرة هادئة ثابتة،لكنها حملت في طياتها عاصفة من المشاعر المكتومة،كبركان يغلي تحت قشرة من الهدوء:

“ليه ماأخديش موقف لما عمل كده من أول مرة؟؟”

رفعت رأسها وتلاقت أعينهما من جديد،ثم نبست بصوت يصارع للخروج:

“أخدت،روحت لوالدي وقلتله على كل اللي حصل،كلمه وخلاه جه واتكلم معاه وعاتبه،والتاني اعتذر منه ومني،وقام باس رأسي قدامهم وحلف إنه عمري ماهيعمل كده تاني..،بس طبعا حلفانه ده بطل وبعد شهر بس،لما والدته جات واشتكتله مني إني مش واخدة بالي منه ومنها ولا من نضافة البيت بسبب شغلي،جه هو بكل رجولة قالي إني لازم أسيب الشغل من بكره،ولما اعترض راح ضاربني بالقلم..،انفعلت جامد وقلتله إن مش هقعدله فيها ثانية،دخلت علشان ألم هدومي علشان أمشي،لقيته جه ورايا وراح قافل الباب عليا،وقالي إني مش هخرج من البيت غير على جثته،وإن هسيب الشغل يعني هسيبه،وهكون خدامة تحت رجله هو ووالدته”

سكتت لوهلة،والآخر مازال يتابعها هو على وشك أن يفقد أعصابه ولكن حاول بقدر المستطاع التحكم بها واكتفى بأن يضغط على قبضة يده،وحثها على الإسترسال بقوله بصوت مختنق:

“كملي!”

مسحت دمعة متمردة من عينيها ثم تابعت بارتعاش خفي في كلماتها:

“فضل حابسني جوه الأوضة لتاني يوم،وطبعاً مهما صرخت ماكنش راضي يفتحلي،ماكنش معايا تلفوني،ومحدش كان سامعنى لأننا كننا ساكنين في أخر دور في العمارة،نزل قعد ماصحابه على القهوة وسابني محبوسة جوه زي ماأنا،وماخرجتش غير لما والدته فتحتلي..،فكرت إنها عرفت غلطتها وجاية تعتذر،بس طلعت..طلعت أسوء مما كنت متخيلة،فتحتلي علشان شافته طالع على السلم،فقالت تطلع وتوقعني في مصيبة،ونجحت في ده..،بدأت تكسر حاجات في الشقة وتصرخ وكأني بضربها وبتهجم عليها،فلما وصل هو شافها وهي قاعدة على الأرض بتعيط وأنا واقفة قدامها مصدومة،بس هو شافني بقا جاحدة ومفترية،فمن غير مايتردد لحظة كان ماسكني من شعري وجرني لبره الشقة بهدوم البيت،فاضل ماسكني لحد مانزلنا تحت وراح رميني في نص الشارع وقعد يعلى صوته ويقول لكل الناس إنه اتهجمت على أمه وضربتها وده جزائي،وراح بصلي في الأخر وراح رامي عليا يمين الطلاق وقالي واحدة زيك ماشافتش رباية تمد ايدها على واحدة قد أمها ماتستاهلش تبقى مراتي”

هربت الكلمات منها مجدداً وعجزت لوهلة عن الإسترسال،أما هو فحاله لم يكن أقل سوءاً منها،فهو أيضاً فرت الكلمات هاربة منه تاركة إياه في صحراء الصمت تهاجمه المشاعر من كل اتجاه.

كسرت هي عاجز الصمت أولاً حينما تنفست بصوت مرتفع وهي لاتزال تحاول منع نفسها من الإنهيار أمامه،وتابعت حديثها بنبرة مريرة:

“فضــ فضلت ماشية وكل العيون عليا وبسمع أوحش كلام،لحد ماوصلت لبيتنا،دخلت على أهلى وصدمتهم بحالتي،فضلت ساكتة ومصدومة لفترة لحد ماقدرت وقلتلهم كل اللي حصل..؛والدي انفعل جامد وكلمه واتخانق معاه في التلفون،وقاله إنه المأذون هيجي النهاردة علشان يخلص الموضوع،والتاني وافق من غير أي نقاش..،بس للأسف المأذون مجاش،علشان..علشان والدي ماكلمهوش لما عرفنا إني حامل،لما تعبت فجأة جابولي الدكتورة وعرفت وقتها إني حامل،فقرار والدي اتغير لما أمى أصرت عليه إن الطلاق مش هينفع خلاص،وإنه الأحسن يقعدوا قعدة صلح..،وفعلاً ده اللي حصل،بعد يومين جه هو ووالدته وجوز عمته،وقعدوا مع بابا وعمي والشيخ سالم اللي جه نيابة على طلب عمي وقتها،واللي حكم في الأخر إني أرجع وإنه هيردني ويعتذر مني قدام الكل زي ماأهنّي”

اتسعت حدقتيه من جملتها الأخيرة وسألها بإستنكار:

“الشيخ سالم حكم بده؟؟”

أومأت له بالإيجاب ثم أردف بنفس الوتيرة:

“بس هو حكم نيابة عن اللي سمعه من عمي واللي كان أغلبه ناقص..،عمي لما راحله حكاله اللي سمعه من عاصم،واللي طبعاً كان فيه الغلط كله عليا،وماحكالوش على اللي عاصم عمله في الشارع،واكتفى بس إنه يقوله إنه ضربني وطردني من الشقة،فالشيخ سالم حاول يكون محضر خير ويصلح،وعمل اللي عليه،وطبعاً كلامه اتنفذ ورجعت معاه البيت،طبعاً كنت لسه شايلة منه ومضايقة وفضلت فكراله كل عمله فيا،بس هو حاول يظهرلي إنه اتغير،أو بيحاول يتغير علشاني،حتى والدته بدأت تخف شوية عليا،بس للأسف ده كان بس في فترة الحمل،علشان بعد ماخلفت على طول رجع الماضي يتعاد من تاني،خناق كل يوم معاه بسبب والدته،تملاه وبعدين يفرغ غضبه عليا وينزل،فضلت على الحال ده سنة ونص كاملين،مستحملة بس علشان ابني،علشان كل ماكنت بطلب الطلاق كان أهلى بيمنعوني ويقلولي إنه ضل راجل ولا ضل حيطة،يبقى ليك جوز يحميكي ولا تبقى مطلقة والناس تفضل تتكلم عليكي،وللأسف كنت بسمع كلامهم واسكت وأستحمل،لحد..”

اهتز صدرها بإرتجاف كمن يحارب دموعه،ثم تابعت:

“لحد مافي يوم،كان..كان راجع من شغله ولقا قرايبه موجودين،قعد معاهم وسمع والدته بتشتكي من الأكل اللي عملته وبتشكتي من اهمالي في ترتيب البيت للضيوف،فأول..فأول مامشيوا راح ساحبني من إيدي ودخل بيا الأوضة،وهي فضلت بره،قعد يزعقلي ويلومني على تقصيري،حاولت أفهمه إني ماكنتش أعرف إني في ضيوف جايين وإن والدته هي اللي اتأخرت لما قالتلي علشان كده مالحقتش أعمل حاحة تليق بيهم،ماأدنيش فرصة أشرحله وراح مسكتني بطريقته كالعادة،وقفت قدامه وحاولت أدافع عن نفسي راح ضاربني تاني،وفي اللحظة دي دخل علينا يزيد وشافنا،قرب مني وأنا على الأرض،وعاصم غصب عنه راح زقه جامد ووقعه واتعور في دماغه”

اتسعت مقلتيّ سامي بصدمة وكأن عقله أصبح غير قادراً على استيعاب مايقع على مسامعه،بينما هي تابعت حديثه بلهحة مريرة:

“اللي حصل ده خلا صبري ينفذ،ومابقتش قادرة أعيش مع واحد خطر عليا وعلى ابني،سبتله البيت ومشيت وأصريت على الطلاق،ورغم إن أهلي كانوا رافضين لنفس السبب بس أنا فضلت مصرة على موقفي،وقلتلهم إني لو مطلقتش هاهرب بعيد ومحدش هيعرف مكاني،فاضطروا يخضعوا لقراري واطلقت منه وأخدت حضانة يزيد بصعوبة،علشان أكون مطلقة بتربي ابنها،واحدة كل ماتمشي في الشارع تبقى العيون عليها والناس تتهامس ويشاورا عليها،بس رغم كده عمري ماندمت إني اطلقت،بالعكس أنا رجعتلي روحي يوم مااطلقت منه أساساً وبعدت عنه وعن والدته..،والدته اللي اكتشفت اصلا إنها كانت بتعمل كل ده علشان تطلقني منه وتجوزه بنت اختها،اللي كانت مسافرة ورجعت قبل جوازنا بشهر”

قصة سُردت بكلمات أثقل من الأحجار على من قالها وعلى من سمعها. ليعم الصمت بعدها ويصبح الهدوء هو السيد في هذا المكان،وكل مايتبادل هي النظرات بين العيون.

تبادلت أعينهما الحديث في صمت ثقيل،ثقل حمله الزمن الذي بدا وكأنه يتباطأ ليطيل اللحظة. كانت عيناها تلمعان بدموع معلقة على أطراف الأهداب،كأنها تنتظر نسمة ريح عابرة لتُسقطها.

أما هو،فقد كان يقف كجبل يحاول الصمود في وجه عاصفة مشاعره المتصارعة. الألم والحزن يعتصرانه لأجلها،والغضب يتوهج بداخله كالبركان،غضب على من تجرأ وألقى بظلال المعاناة على وجهها. كانت أصابعه مشدودة كما لو أنه يحاول كبح رغبته في تدمير العالم لأجلها، لكن عينيه…كانت تخبرها شيئًا آخر،شئ استجمع شجاعته وعبّر عنه بقوله الهادئ:

“ممكن أحضنك؟؟”

تفاجأت بشدة حين سمعت طلبه،تعجبت واستغربت،فقد كان آخر ما يمكن أن تتوقع أن ينطق به. لكن هو،نطق بما لم يخطر على بالها. أسمعها طلبه بكل وضوح،كأن صوته يحمل معه يقينًا وثقة لا تقبل النقاش. ومع ذلك،لم تكن كلماته مجرد طلب عابر،بل كان يحمل في طياته حاجة ملحّة،حاجة لم تكن تخصه وحده،بل تخصها هي أيضًا وكأن كل ما قاله لم يكن إلا انعكاسًا لما تخبئه هي في أعماقها دون أن تدرك.

سكتت ولم تعطته إجابة،فقط قررت إلتزام الصمت لعله يتراجع،لكن هو خالف توقعاتها ثانيةً..وتشبث بها.

عانقها بشغف عميق،كما لو أنه يحتضن كل جروحها وآلامها دفعة واحدة،وكأن دفء ذراعيه يحمل وعدًا بطمأنينة تفتقدها منذ زمن. شعرت في البداية بالذهول،مشاعرها تشتتت بين الصدمة وعدم التصديق،فبقيت ساكنة كأنما جمدها الوقت. لكن شيئًا فشيئًا،تسللت حرارة احتضانه إلى أعماقها،لم تستطع المقاومة أكثر،فوجدت نفسها تستسلم لصوت قلبها وعقلها الذي صرخا معًا: “هو الأمان” تشبثت به بكل ما أوتيت من قوة وأضحت تبكي على كتفه وهو فقط يتمسك بها ويربت على ظهرها كأنها طفلته،تشبثت بها أكثر وكأنها تخشى أن تفلت تلك اللحظة،وكأنها أخيرًا وجدت في حضنه الوطن الذي لطالما بحثت عنه.

وبعناقها هذا وصل إليه كل الأجوبة على أسئلته،وأهم جواب سؤاله الأخير،ليبتسم بسمة جانبية عندما تأكد أن الإجابة كانت الأولى،عندما تأكد أنها “تريده” كما يريدها هو.

__________________

في الجهة الأخرى…

كان يقود السيارة في طريقهم للمنزل بعدما انتهى موعد اليوم،بينما هى كانت تجاوره في السيارة بملامح مقتضبة وعابسة،مما أثار استفزازه فزفر بضيق وهتفت بضجر ممتزج بمرح:

“فُكِ شوية بقا،بلاش البوز ده أنا مابحبش النكد،وبعدين المفروض تبقى طايرة من الفرحة دلوقتي ده أنا مطلعك خروجة ماعملتهاش لحد قبل كده حتى خطيبتي”

التفتت لينا سريعاً نحوها وألقته بنظرات ضجر ثم أجابته بسخرية مستنكرة حديثه:

“خروجة ايه دي!!،ده أنتَ يدوب مأكلني أيس كريم وشوية لب سوري”

ألقى عليها نظرة حانقة ثم عاد للطريق أمامه وهو ينبس بحنق واستياءٍ:

“مش عجبك الآيس كريم واللب بابنت سهير،ده في غيرك بيحلموا أجبلهم لبانة مش أيس كريم ولب،صحيح ناس مش مقدرة قيمة النعمة”

“تصدق بالله”

“لا إله إلا الله”

“أنا شفقانة على فيروز من دلوقتي،مش عارفة هتعيش مع واحد بخيل زيك إزاي؟؟؟”

ابتسم بخفة ثم أردف ببساطة وفخرٍ:

“ياحبيبتي،فيروز دي إستثناء..دي لو طلبت عيني عليها ماتغلاش،لو طلبت روحي هديهالها ببلاش،لو طلبت حياتــ..”

قطعت حديثت قائلة بضجرٍ:

“خلاص كفاية مش عايزة أسمع”

“لا والله لأكملك علشان القافية..لو طلبت حياتي هديهالها وعليها جلاش”

ضحكت بحبور على كلماته تلك،ونبست من بين ضحكاتها بسخرية:

“ياريتك ماكملت”

ابتسم موسى بسعادة عندما سمع صوت ضحكاتها،فهذا كان هدفه من البداية،أراد أو يبهجها للتتخطى مرارة مامرت حتى لو قليلاً فقط.

ألقى نظرة سريعة عليها ثم عاد للنظر إلى الطريق،ثواني قليلة وكان يتوقف بالسيارة جانباً أمام إحدي المدارس،مما جعلها تتفاجأ وتسأله مستفسرة عن سبب توقفهم أمام هذا المكان:

“وقفنا هنا ليه؟؟”

“انزلي!”

هتفت بإستنكار وتعجب:

“ايه!!”

كرر طلبه عليها وهو يشير خلفها لزجاج السيارة:

“انزلي!”

نظرت حيثما ينظر،فوجدت “حسن” يتقدم نحوهم حتى أصبح على بعد سنتيمترات فقط منها،فأدركت الأمر وأخيراً،لذا ترجلت من السيارة في صمت بعدما التقطت حقيبتها ثم صعدت إلي المقعد الخلفي.

بينما هو ظل يغض بصره عنها حتى تأكد من جلوسها فصعد هو الأخر إلي السيارة بجانب الأخير،وبمجرد أن انتهى من ربط حزام الأمان،رفع يده بحركة متعمدة ليعدل وضع المرآة الأمامية،موجهًا إياها إلى جهة أخرى حتى لا تعكس صورتها أمامه.كانت حركته واضحة وسريعة بما يكفي لتلاحظها، مما دفعها على الفور لأن تُميل جسدها قليلاً مبتعدة عن مرمى بصر المرآة،وكأنها تستجيب لفعلته دون أي كلمة.

ولم تكن هي الوحيدة التي لاحظت ذلك،بل لاحظ موسى هذا أيضاً فابتسم مفتخراً بصديقه،ثم انطلق بالسيارة لوجهتهم المشتركة.

ظل الصمت سيد الموقف لدقائق ليست بالكثيرة،ولم يقطعه سوا موسى الذي بادر بالحديث مع حسن بقوله:

“ايه أخبار الإمتحانات ياشيخنا،اوعى تكون بتشد على العيال؟؟”

ابتسم حسن بسمة هادئة وأجابه بنبرة مماثلة لها:

“والله أنا بعمل اللي يرضي ربنا قبل اللي يرضيني”

“أحسن مابتعمل ياشيخنا،خليك كده على طول”

أومأ له حسن بالإيجاب ومازالت الإبتسامة تعلو ثغره،بينما هو ألقى نظرة سريعة على الأخيرة لكن كانت كافية أن يلتقط السؤال على طرف شفتيها والتي تأبى التفوه به وخاصة أمام الأخر،ليعطيها الإيجاب هو دون أن تضطر لفعل ذلك:

“حسن كان عنده لجنة النهاردة،فاتصلت بيه وقلتله إني هعدي عليه وأخده معانا بما إن طريقنا واحد ووجهتنا واحدة..،وعلى فكرة هو اللي مظبط مع الدكتورة كل حاجة،هو اللي كلمها وخد معاد وفهمها الوضع كله،فخلينا نوصله معانا كتعبير شكر مننا ليه”

شعر حسن بحرج شديد اجتاح ملامحه،فأزاح رأسه بعيدًا عن الأخير وكأنه يحاول التهرب منها. أما هي،فتفاجأت تمامًا مما سمعته،وأصابتها دهشة أربكت أفكارها. راحت تسترجع كلمات الطبيب السابقة في ذهنها، لتدرك فجأة أن من كان الحديث يدور عنه هو حسن،وليس موسى.

لم تستطع منع نفسها من تحويل نظرها نحوه،وكأن عينيها خضعتا لقوة غريبة،لتواصل التحديق به بنظرات مزيجها الصدمة والدهشة. أما هو،فشعر بثقل نظراتها تتسلل إليه،مما جعل خجله يزداد وضوحًا،وانعكس ذلك في توتره الذي بدا جليًا في حركاته المترددة،فهو في النهاية أراد مساعدتها بصدق دون أن تعلم حتى لاتحمل هذا جميلاً له أو حتى تشعر للحظة أنه يشفق عليها.

__________________

مع حلول المساء،وتحديدا بعد قضائه لفرض العشاء،كان يقف في شرفة جده ويضع الهاتف على أذنه ويتحدث مع أحد ما بقول رتيب وجاد:

“يعني يادكتورة في أمل إنها ترجع زي الأول؟؟”

وصل صوت الأخيرة تجيبه بإتزانٍ ورتابةٍ:

“طبعاً فيه،طالما هي قررت تتعالج يبقى مفيش حاجة ممكن تمنعها،هي لازم تتحدي نفسها دلوقتي ياأستاذ موسى،هي اللي قادرة تحرر نفسها من السجن ده”

“فهمت،طب..هي اتكلمت معاكِ”

“آه اتكلمت،مش كتير بس كان كافي إني أفهم مشكلتها وأفسر شخصيتها،وأدرك إن اللي هي فيه ده من الضغط اللي عاشته في الثانوية”

عقد موسى بين حاجبيه وأردف بهدوء:

“بس مفيش حد كان بيضغط عليها يادكتور،أنا فاكر كويس إني والدها والدتها كانوا سيبنها على راحتها ومدينها كل الحرية وواثقين فيها،محدش فيهم ضغط عليها علشان تذاكر أو تدخل كلية معينة حتى لو لمرة”

“مش شرط الضغط ده ييجي من الأهل ياأستاذ موسى،ساعات الضغط ده احنا اللي بنحط نفسنا فيه،بمعني إننا ساعات بنبقى حاطين هدف معين قدام عيننا وعايزين نوصله مهما كان التمن،علشانا أولا وعلشان الناس اللي حاطين ثقتهم فينا ثانياً،فابنعمل كل اللي علينا علشان مانخيبش أملهم وعلشان نحصل على اللي عايزينه،فلما للأسف مايحصلش اللي احنا عايزينه بنلوم نفسنا جامد وبنشيل كل الذنب لوحدنا”

“حضرتك تقصدي إنها كانت عايزة حاجة معينة وماأخدتهاش؟؟”

“أعتقد،ده مجرد شك مني وهنتأكد إذا كان صح أو غلط في الجلسات الجاية إن شاء الله،الأهم إنها تتفضل متابعة معايا وتلتزم بالحاجات اللي قلتلها عليها،ولو حصل أي حاجة ضروري تبلغني”

أومأ موسى بالإيجاب وهو يجيبها بجدية ورتابة:

“حاضر يادكتور،شكراً جدا لحضرتك،وأسف لو أزعجتك بإتصالي”

“لا ولا يهمك،مقدرة إنك خايف عليها”

“شكرا مرة تانية،مع السلامة”

“مع السلامة”

انتهت المكالمة بهذه الكلمات،فتنفس هو الصعداء ثم ارتكز بنصف جسده على السور أمام وأردف بصوت خافت مُتأمل:

“استرها معانا يارب”

تنهد مجدداً ثم شرع في وضع هاتفه في جيب بنطاله لكن قبل أن يفعل ذلك جاءت هي على خاطره فابتسم ببهجة،ثم فتح هاتفه وشرع في الإتصال بها،وفي اللحظة الذي بدأ الهاتف بالرنين ظهرت هي أمامه عندما خرجت إلي الشرفة،وحينها نبست بمرح:

“القلوب عند بعضها ياأستاذ موسى”

“معاك كل الحق،قلبي عندك فعلاً من زمان”

نبس جملته تلك هو يبتسم بعبثٍ بينما يعيد هاتفه إلي جيب بنطاله،ومازالت عينه تتابعها كما الظل لصاحبه.

تبادلا النظرات والابتسامات بحبٍ،وطال الصمت بينهما للحظات ليس بالكثيرة،وحينها بادرت هي بقطعه وسألته بإهتمام عندما رأت أثر تعب على وجهه:

“أنت كويس؟؟”

تفاجأ من سؤالها ولكن أجابها ببساطة:

“آه كويس،ليه في حاجة؟؟”

“معرفش حساك تعبان شوية،حتى كنت مختفي طول النهار وماشوفتكش من الصبح،كنت فين صحيح؟؟”

سكتت للحظات يفكر في الإجابة،وقد حصل عليها سريعاً فقال بثبات والإبتسامة لاتزال تعلو ثغره:

“انشغلت في شوية حاجات كده،سيبك منها،وقوليلي يومك كان عامل ازاي وعملتي ايه؟؟”

تنهد براحة وكأنها تنوي سرد حكاية طويلة ثم أجابته بنبرة هادئة مماثلة للإبتسامة على وجهها:

“مفيش،بعد ما كلمتك الصبح دخلت فطرت مع ماما وبعدين نزلت الأكل لبابا،وبعدين طلعت ساعدت ماما في شغل البيت،ولما خلصت طلعت ل ليلى،ونزلت ومعايا يزيد،فضلت ألعب معاه لحد مانام،وبعدين دخلت عملت الغدا مع ماما،عملنا مكرونة بشاميل وكانت تحفة”

لمعت عينه بفرح ونبس بخبث ودهاء:

“بجد عاملين مكرونة بشاميل؟؟”

“آه”

“تعرفي إني بموت في حاجة اسمها مكرونة بشاميل،بعشقها عشق كده”

“بجد،طب أنا هبعتلك طبق هي لست سخنة،لازم تدوقها وتقولي رأيك فيها”

أكمل خطته الخبيثة بقوله:

“وليه تتعبي نفسك وتيجي بيه،أنا بنفسي هاجي أخده،ولا بقولك هاجي أكله عندك،قولي لخالتي والجماعة بقا”

ردت عليه بنبرة مترددة:

“بس بابا هيطلع يقعد معانا كمان شوية”

“وفيها ايه،كده اللمة هتحلو،يلا دقيقة وأكون عندك ياجميل”

أنهى حديثه بغمزة مشاكسة أطلقها نحوها،قبل أن يخطو بخطوات هادئة إلى الداخل،تاركًا وراءه أثرًا من خفة الروح التي تسكنه. أما هي،فلم تستطع السيطرة على دقات قلبها المتسارعة،فاندفعت بخفة نحو غرفتها،وكأنها تحاول مجاراة حماستها المتقدة،أخذت تستعد على عجل،بإبتسامة عريضة ترتسم على ملامحها.

دلف هو للداخل وتحدث إلي جده الذي كان جالساً يشاهد التلفاز برفقة عمه مصطفى:

“أنا هروح هتعشى عند خطيبتي ياجدي”

التفتت الأعين إليه ونبس محمد بإستنكار:

“تتعشي ايه يابني؟؟،مش أنت لسه متعشي معانا؟؟”

رد عليه ببساطة:

“لا ماهو أنا جوعت تاني،فقلت أروح أكل عند خطيبتي”

“وعلى كده أخدت اذنهم قبل ماتطب عليهم فجأة كده زي القضى المستعجل؟؟”

نظر موسى صوب عمه مصطفى الذي أردف تلك الكلمات وأجابه بسخرية:

“قلت لخطيبتي نفسها،وعلى العموم مالهاش لازمة أخد معاد،ده أنا لو ناديت من هنا عليهم هيسمعوني”

طالعه مصطفى بضجرٍ وحرك رأسه بالنفي بيأس منه،بينما ضحك محمد على حديثه ثم قال:

“طب هتنزل بهدومك دي؟؟”

طالعه موسى ثيابه طولياً ثم أردف:

“ومالو هدومي،ما هي زي الفل أهو!!”

“لا ماينفعش تروح بيت خطيبتك كده بالبيجاما،لازم تلبس الحتة اللي الحبل ياخفة،أصل أنت مش رايح بيت صاحبك ولا رايح عند خالتك زي زمان،الوضع اختلف خلاص”

اقتنع موسى بحديث جده بسهولة وأردف بإقتناع:

“تصدق معاك حق ياجدي،الوضع اختلف عن الأول،لازم فعلا أدخل أغير وألبس حاجة نضيفة،عن اذنكم علشان ألحق أجهز”

أنهى جملته ثم هرول إلي غرفته ليتجهز للذهاب إليها وليدخل هذا البيت لأول مرة بعد خطبتهما،كخطيب لها وليس كصديق شقيقها أو حتى جارها.

__________________

مع مرور الوقت…

وصل إلى وجهته ووقف أمام باب الشقة المقصودة بعدما تجهز وبدل ملابسه لأخرى تليق بهذه الزيارة،حيث ارتدى بنطال جينز أسود،أعلاه قميص باللون الرمادي مع قبعة باللون ذاته،وحذاء رياضي أبيض.

رفع يده وطرق طرقات خفيفة على الباب نجح بها أن يجذب انتباه من في الداخل،ليبادر يحيى في النهوض ويفتح الباب.

تجمدت ملامحه للحظات وهو يراه يقف أمام بثقة وثابتة مع ابتسامة عريضة شقت وجهه ولسبب ما استفزته،واًستفز أكثر عندما سأله الأخر بسذاجة:

“ازيك ياعمي؟؟،عاش من شافك ياغالي”

نهضت نادية من مجلسها فور سماعها لصوته ورحبت به بحرارة بقولها:

“موسى!!..تعالى ياروحي،تعالى ادخل”

ولج للداخل من المسافة التي تركها يحيى له،لتسقبله نادية بين أحضانها ثم تداعب وجنتيه كأنه طفل صغير وهي تقول:

“وحشنتني ياواد في المدة القصيرة دي”

رد عليها بمشاكسةٍ:

“وأنتِ كمان وحشتيني أوي ياخالتو،حتى لو الباب في وش الباب برضه وحشاني والله”

“حاسه إن الكلام مش ليا،بس مش مهم هعديهالك،استني ابقى أناديهالك..يافيــ”

توقفت الكلمات بين شفتيها عندما رأتها تتقدم نحوهم مرتدية فستان أبيض عليه بعد الزهور في منطقة الكتف باللون الزهري مع حجاب بنفس اللون،وحاملة في يدها صينية كبيرة،عليها طبق من المكرونة التي سبق وأعدتها معها،ومعه ٣ أكواب من العصير وفنجان من القهوة.

“أنا جيت أهو ياماما”

لم يستطع موسى كتم ضحكاته عليها،بينما نادية وزعت نظراتها بينهما وعلمت مافي الأمر في أقل من ثانية،أما يحيى فهتف بتهكم واضح:

“سبحان الله،الفستان والأكل جاهز قبل صاحبهم يوصل”

أبعدت نظراتها عن والدها بإحراج،ثم وضعت مافي يدها على المنضدة الصغيرة التي تتوسط الغرفة،ثم نظرت للأخير وأشارت له بالجلوس بقولها الهادي واللطيف:

“اتفضل اقعد ياموسى”

ضحك موسى بخفة ثم امتثل لأمرها وجلس حيث أشارت،كما جلست هي كذلك مع والدتها،أما يحيى فظل يلقيه بنظرات حانقة أشبه بسهام حارقة،وعندما كاد أن يغلق الباب منعه شيئاً،ولم يكن ذلك الشئ سوا يد سامي الذي قال:

“لامؤاخذة يابابا”

فتح يحيى له الباب وسمح له بالدخول برفقة زوجته والصغير،بعدما أتوا من موعدهم مع المحامي للتوهم.

دلف ثلاثتهم ليتفاجئ الأول بوجود الأخر هنا ويهتف بحنقٍ عندما وجده أمامه مباشرة يجلس بكل أريحية ويتناول من طبق مكرونة في يده:

“أنتَ ايه اللي جابك؟؟”

_________________

_

بعد ساعة…

“سُكر،بجد أحلى مكرونة بشاميل أكلتها في حياتي،تسلم ايدك يافيروز،لازم فعلا تحطي ايدك في كل أكلة علشان تطلع بالحلاوة والسكر ده”

ابتسمت فيروز بخجل وفرحة من حديث موسى هذا الذي ألقاه لها ومدحها به،بينما هو ظل يطيل النظر إليها بينما يمضغ الطعام في فمه،إلا أن وكزه سامي في معدته بكتفه وهو ينبس بحنقٍ ونفاذ صبر بينما يميل على أذن الأخر:

“اتلم بقا،وكفاية سيئات لحد كده”

نظر له موسى سريعاً وأردف بصوت خافت كما يفعل الأخر:

“سيئات ايه بس ياسيمو،أنا بقول الحقيقة دي فعلاً أحلى مكرونة بشاميل أدوقها في حياتي”

“ياراجل،عايز تفهمني إن ستات عيلتك كلهم مفيش واحدة بتعمل مكرونة حلوة”

“لا بيعملوا،بس مش بالحلاوة دي،ايد أختك مميزة شبهها،وعسل موووت”

أنهى جملته هو ينظر صوب فيروز الذي كانت تتابع الحديث الغير مسموع بينهما كما يفعل البقية تقريباً،ولكن سرعان ماجذب سامي انتباهه من جديد عندما نبس بحدة وغيظ:

“بصلي أنا،واسمعني..”

زفر موسى بضيق ثم عاد للأخير وأردف بحنقٍ:

“عايز ايه؟؟”

“عايزك تخلص طبق المكرونة اللي بقالك ساعة بتاكل فيه وتتكِل على الله”

أشار موسى علي نفسه ونبس بإستنكار:

“يعني بتطردني؟؟،بتطرد صاحبك وخطيب أختك”

أومأ له سامي من جديد بالإيجاب هو يقول بجدية:

“آه بتطردك ياسيدي،يلا بقا خلّص أم الطبق ده وأقوم امشي،بدل وأقسم بالله أخدك من دراعك ده وأرميك من بلكونتنا لبلكونة جدك”

“ليه شايفني فردة شراب!!”

“لا شايفك لبانة،لبانة لزقت في الكرسي ومش عايزة تقوم،بقالها ساعة بتاكل طبق مكرونة،مكروناية بمكروناية،وتفة لحمة بتفة لحمة،وبتعمل كده قصد علشان تتطول في القاعدة”

ابتسم موسى بخبث ونبس بمرحٍ:

“ماأنت عارف اللي فيها أهو،خليني قاعد بقا وخلاص”

طالعه ساني للحظات في صمت وهو يجزّ على أسنانه بغيظ حت زفر بضيق ونبس محاولاً تمالك نفسه قدر المستطاع ومنعها في ارتكاب شيئ شنيع في حق الأخير:

“أنت ليت مصمم تستفزيني؟؟ ليه مصمم تخليني أطلع أسوء ما فيا قدام مراتي والعيل الصغير؟؟”

“هو أنا عملت حاجة،أنا قاعد مؤدب باكل وبس،ولو على القعدة فلسه بدري ماتحسسنيش إن بقالي سنة قاعد دي ماكنتش ساعة عامية اللي قعدتها”

رد عليه سامي مسنكراً حديثه:

“ساعة عامية؟!..،ليه أنتِ ناوي تبات عندنا ولا ايه؟؟”

“لو عندكم مكان معنديش مشكلة بصراحة”

وصل إليهم جملته تلك فضحكوا عليه وخاصة فيروز بإستثناء كل من سامي ويحيى الذي كان أشبه بالنمر الذي يتأهب لإصطياط فريسته،لاحظ كل من سامي وموسى نظراته تلك فمال الثاني على أذن الأول وقال:

“أنا ليه حاسس إني أبوك هياكلوني”

رد عليه سامي بإستنكار مصحوب بسخرية:

“حاسس؟!،أنت لسه جاي تحس دلوقتي،ده الراجل من ساعتها عمال يبصلك بصة كأنك قتله قتيل،تحس فضله شوية ويضلع بندقية من ورا ضهره ويطخك فيها زي الأفلام”

ضحك موسى رغماً عنه على كلام الأخير هذا،الذي حدق به بضجر واستياء،فأبعد الاخر نظراته عنه ونظر للإتجاه الأخر حيث تجلس هي.

مما جعل سامي يزفر بضيق ويستغفر الله في سره،ثم مال على أذن زوجته وتحدث معها بنبرة هادئة تتنافى تماماً مع التي كان يتحدث بها مع الأخير:

“واضح إني السهرة دي هتطول شوية،لو حاسة نفسك تعبانة ممكن تاخدي يزيد وتطلعي،وأنا همشي الأستاذ ده وأحصلك”

سكتت ليلى قليلاً تفكر في اقتراحه،والتي أرادت بشدة أن ترفضة لإستمتاعها بهذا التجمع الدافئ والمرح،وظهر هذا جلياً في نظراتها عليهم جميعاً مع بسمة صغيرة على وجهها،فهم هو الأمر منها فقرر أن يسحب كلامه وقال:

“ولا بقولك خلاص خليكي قاعدة،علشان ماما على الأقل ماتزعلش”

أومأت له بالايجاب ومازلت الإبتسامة تعلو ثغرها بل واتسعت أيضا لإدراكها أنه فهم ما أردت بالفعل دون أن تبوح به حتى،فابتسم هو لها أيضا وأطال النظر بها حتى سمع صوت الأخير يقول:

“نحلى بقا”

التفت له سريعاً برأسه كالصقر ليجده يضع طبق المكرونة على المنضدة أمامه ويلتقط كأس العصير،فأمسكه من ذراع الشاغرة وتحدث بتوعد بصوت خافت لكنه وصل إليهم مما جعلهم يضحكون وتحديداً النساء:

“بتعمل ايه؟؟،أنت معندكش أهل يسألوا عليك؟؟”

رد عليه موسى بحزن وأسى مصطنع:

“عندي،بس تلتهم نام،وتلتهم مش فاضيلي،وتلتهم مش مهتم يعرف أنا فين”

“ياواد،المفروض بقا تصعب عليا”

حرك له موسى كتفيه ونبس ببساطة:

“المفروض”

مسح سامي وجهه بغضب وكان على وشك أن يرد عليه،لكن منعه صوت رنين هاتفه،فدس يده في جيب سترته ليخرجه منها وهو يتوعد للأخر بقوله:

“راجعلك”

تجاهله الآخر متظاهرًا باللامبالاة،وأخذ يحتسي كوب العصير في يده بهدوء،لكن عيناه كانتا تتابعانها عن كثب. هي،بدورها،كانت تحاول كتمان ضحكاتها بكل ما أوتيت من قوة،بينما تغطي فمها بيدها،غير قادرة على إخفاء استمتاعها بهذا العرض المرح الذي قاده حبيب روحها وشقيقها،نصفها الآخر ورفيقها الأعز الذي لا تكتمل دنيتها إلا به،والتي تتدرك جيداً أنه يفعل كل ذلك بسبب غيرته عليها ليس أكثر.

على الجهة الأخر بدأ سامي المكالمة مع المتصل والذي كانت من زميله في العمل،ليستمع لما يلقيه الأخر عليه ويهتف بعدها بصدمة:

“أنت بتقول ايه؟؟،حصل ده امتى؟؟”

انتبه الجميع له وظهرت علي وجوههم علامات القلق،ماعداه هو،الذي لم ينتبه لم حدث من الأساس بل كان مستمر في مراقبتها بينما يحتسي المشروب،إلى أن جذب سامي انتباهه بقوله الجاد:

“موسى!”

رد عليها الأخير دون الإلتفات له حتى،ومازال الكوب بين شفتيه:

“نعم”

“صورتك نازلة على النت،والكل عرف إنك MF”

بثق ما في فمه بعفوية لا إرادية فور سماعه لتلك العبارة التي نزلت كالصاعقة على الجميع دون استثناء. لحظات من الصمت سادت المكان،بينما انعكست الصدمة على وجهه بوضوح.حاول أن يستجمع شتات نفسه،لكن ما خرج منه لم يكن سوى كلمات قليلة،ظهرت ساخرة وعبرت عن ذهوله العميق:

“كده كملت…”

#يتبع…

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق