رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل السابع والعشرون 27 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السابع والعشرون

الفصل السابع والعشرون(تحقق الحُلم)

الفصل السابع والعشرون(تحقق الحُلم)

جلس على فراشه،يستند بظهره على الوسادة،عيناه كانتا مثبتتين على جده،الذي جلس قبالته على الفراش،وكأن وجوده بأكمله كان مجسدًا في هذه اللحظة فقط. لم يكن هناك مجال للشرود أو التململ. كان هناك شيء مهم سيقال،وكان كليهما يدرك ذلك جيدًا.

التقط موسى نفسًا عميقًا،وكأنه يحاول أن يضبط نبضات قلبه،ثم زفر ببطء. أراد أن يزن كلماته قبل أن ينطق بها،ليردف بنبرة هادئة،لكنها محملة بجديّة واضحة:

“بص يا جدي،أنا عارف إني صدعتك أوي بطلبي ده،بس بجد أنا عايز أكتب الكتاب،كل حاجة بتحصل حواليا بتديني إشارة إني لازم أعمل كده.”

لم يبدُ محمد متفاجئًا،لكنه أبقى نظراته معلقة به،قبل أن يسأله بصوت متزن،يحمل ثقل الخبرة التي راكمها عبر السنوات:

“حاجة زي إيه؟”

تصلّب وجه موسى قليلًا،كما لو أن عقله عاد به إلى لحظة معينة،تلك اللحظة لم يستطع نسيانها حتى الآن:

“زي الخناقة اللي حصلت النهارده…النهارده لما مسكت في الواد،قالي جملة لحد دلوقتي بترن في ودني.”

لم يعلق محمد،فقط أشار له بأن يكمل،ليزفر موسى بصوت هادئ،قبل أن يردف بخفوت:

“قالي إنه زيي زيه…غريب عنها. يعني مفيش أي صلة تجمعني بيها غير إني خطيبها،وإنه زي ما بيغازلها،هو بيعمل كده.”

لحظة من الصمت مرت،لحظة تخللها تفكير عميق من محمد،قبل أن يرفع حاجبيه قليلًا،ويحرك رأسه بإيماءة رتيبة،مرددًا بنبرة خالية من الدهشة:

“يعني كأنه بيقولك: هي حلال عليك وحرام علينا،وإحنا زي بعض.”

أومأ له سريعًا مؤكدًا:

“بالظبط.”

لم يبدُ على محمد أي تأثر واضح،فقط أدار نظره بعيدًا للحظة،ثم زفر بهدوء،وكأنما كان يختبر ثقل الكلمات في عقله،قبل أن يسأل بصوت متأنٍ:

“يعني أنت عايز تكتب الكتاب علشان كده؟”

تردد موسى للحظة،ثم رفع إصبعين أمامه،قبل أن يجيب بصوت هادئ لكن حازم:

“بصراحة…في سببين.”

لم يظهر أي علامة استعجال،فقط سأله بنفس النبرة الجادة:

“وهما؟”

كان يعلم أن هذه هي اللحظة الحاسمة،لذا أخذ نفسًا آخر،ثم نطق بأول سبب:

“أولهم…ضميري،بقيت كل ما أقعد مع فيروز،وأبصلها،أو أتغزل فيها،وأتكلم معاها،بحس بشعور مش حلو خالص،يعني يا جدي،أنت عارف كويس إنه…حرام،هي مش من محارمي وكده،فاهمني؟”

رفرف محمد بأهدابه مرتين،ثم مال برأسه قليلًا،وابتسم بسخرية خفيفة قبل أن يعلق بنبرة لا تخلو من التهكم:

“وضميرك لسه فاكر يصحى دلوقتي؟”

زفر موسى بملل،ونبس باستياء:

“يا جدي بقى!”

ضحك محمد بخفوت،لكن نظرته سرعان ما استعادت جديتها وهو يسأل بنبرة متفحصة:

“أنا مش بهزر،هو فعلًا ضميرك ما صاحاش غير لما سمعت الكلمتين دول من الواد؟”

هزّ موسى رأسه سريعًا وهو يرد،وكأنه كان ينتظر هذا السؤال:

“من قبلها والله! كان بيجيلي الشعور ده وأنا بكلمها،بس بعد الموقف ده زاد. تقدر تقول إن كلام الواد فتّح عيني وخلاني أميّز الصح من الغلط.”

“الصح اللي كنت عامل نفسك مش شايفه؟”

سارع موسى في التبرير،وكأن كلماته كانت تتدفق دون أن يتمكن من إيقافها:

“مش حكاية مش شايفه يا جدي،مش عارف أشرحلك إزاي…بص أنا وفيروز صحاب من صغرنا،وحضرتك عارف ده. أنا متعود أتكلم معاها وأهزر،ونرغي في تفاصيل ملهاش لازمة. فإني دلوقتي أجي وأتحفظ في الكلام،وأغض بصري كمان…حاجة صعبة عليا أوي ومش متعود عليها!”

توقف للحظة،وكأنه كان يبحث عن الكلمات المناسبة،ثم تابع بصوتٍ أهدأ،لكنه محمل بإصرار جديد:

“أنا عارف كويس إن في ضوابط للخطوبة،بس المشكلة إني متعود أتكلم معاها كصاحبتي قبل ما تكون خطيبتي. فكل مرة بتكلم معاها…بنسى نفسي،وبنسى إنه مش صح. بس دلوقتي أنا فُقت…وعايز أعمل الصح! واللي هو إني أتجوزها…تبقى حلالي،علشان أرضي ربنا يا جدي.”

طالعه محمد للحظة،بنظرات ثابتة،دون أي رد فعل واضح. بدا وكأنه يزن كلماته بعناية،يحلل كل جملة قالها الأخير،لكن سرعان ماابتسم بخفوت،وسأله:

“طب…وتاني سبب إيه؟”

أجابه موسى دون تردد،كأنما كان يحمل هذه الكلمات في صدره طيلة الوقت،ينتظر فقط أن يمنحه جده الفرصة لإخراجها:

“تاني سبب مش بأهمية الأول طبعًا،بس برضه هقوله…واللي هو إني مش شايف سبب يخلي فترة الخطوبة تطول. يعني اللي أعرفه إن الخطوبة بتكون علشان الاتنين يتعرفوا على بعض،لكن أنا وفيروز نعرف بعض من قبل ما نوعى على الدنيا،مش مجرد معرفة وبس…إحنا حافظين بعض حرفياً،فبالنسبة لنا الفترة دي مالهاش لازمة،ومن الأفضل نكتب الكتاب ونمشي في الحلال،بما يرضي الله.”

أومأ محمد برأسه في تفهّم،لكنه لم يعقب فورًا،فقط أزاح نظره عن حفيده للحظات،كأنه كان يقلب كلماته بين يديه،يختبرها،ويبحث عن صدقها. ثم عاد إليه مجددًا وسأله بصوت خفيض لكنه نافذ:

“طب هي رأيها إيه؟ موافقة على كتب الكتاب هي كمان؟”

لم يتردد في الرد،وكأنه كان واثقًا مما سيقوله:

“أظن إنها رأيها من رأيي،وبتفكر زيي. ومع ذلك،هسألها وأتأكد برضه…بس قولي الأول،حضرتك موافق تروح تتكلم مع عمي يحيى؟”

صمت محمد قليلًا،وعيناه تراقبان الأخير،قبل أن يومئ برأسه موافقًا،مرددًا بصوت هادئ لكنه ذو مغزى:

“موافق،عارف ليه؟؟ علشان كنت مستني أسمع منك الكلمتين دول. كنت مستنيك تقولي إني عايز تكتب الكتاب يا جدي علشان ربنا يرضى عليا وعليها،مش علشان تمسك إيدها وتحضنها زي ماقلتلي المرة اللي فاتت.”

اتسعت عينا موسى بدهشة،وكأن الحقيقة سقطت عليه فجأة،قبل أن يحدق في جده متسائلًا بذهول:

“ثانية…يعني حضرتك ماكانش عندك مشكلة أصلًا؟ بس كنت عايز تسمع الكلمتين دول مني؟”

ابتسم محمد ابتسامة هادئة،لكنها حملت في طياتها الكثير،قبل أن يجيبه بصراحة:

“بالظبط. كنت مستنيك تعرف الصح لوحدك…بدل ما تبقى واخد راحتك أوي وأنت يدوب لسه خطيبها.”

ظل يحدق فيه للحظات،قبل أن يهز رأسه مبتسمًا،يردد بنبرة تجمع بين الإعجاب والإحباط الطفيف:

“طلعت مش سهل يا جدي…”

ضحك محمد بخفوت،قبل أن يرفع حاجبيه بفخر ويقول بنبرة واثقة:

“عيب،ده أنا محمد عمران ياض.”

ضحك موسى ببهجة،ضحكة صافية خالية من أي توتر،وكأن كل ما كان يثقل قلبه قد تلاشى في لحظة، لكنه لم يكد ينهي ضحكته حتى قاطعه محمد بنبرة جادة،ممزوجة بنوع من الحزم:

“قبل ما تنبسط إنّي وافقت،لازم أقولك حاجة مهمة.”

انطفأت الضحكة تدريجيًا عن شفتي الأخير،ليعقد حاجبيه في اهتمام،بينما واصل جده كلامه دون تردد:

“لو اتكتب الكتاب على خير والموضوع تم،مفيش فرح هيتعمل دلوقتي،علشان لو دماغك وذتك على كده.”

بدت المفاجأة جلية على وجهه،لكنه سرعان ما سأل بصوت مستنكر:

“ليه مفيش فرح؟ لو علشان شغلي والشقة،فأنا قررت خلاص هاحل مشكلة الشغل إزاي،وبخصوص الشقة،فمفيش أسهل منها.”

هزّ محمد رأسه ببطء،قبل أن يجيبه بصوت هادئ لكنه قاطع:

“مش علشان شغلك والشقة بس،علشانها هي كمان. هي من حقها تشتغل وتظبط حياتها،مش انت بس اللي ليك طموحات وعايز تستقر في شغلك؟ أكيد هي كمان عندها نفس الحق،وعايزة تبني حياتها المهنية قبل أي حاجة تانية،فلازم نديها وقتها. لو ربنا كرمنا واتكتب كتابكم،مفيش فرح غير لما تستقروا أنت وهي،وكل حاجة تبقى واضحة قدامكم،ده غير إن الشقة لازم تبقى جاهزة…قلت ايه موافق؟ لو مش موافق يبقى بلاها كتب كتاب دلوقتي.”

كانت كلماته قاطعة،حازمة،لا مجال فيها للمساومة،وكأنها اختبار أخير لموسى،الذي لم يتردد لحظة،بل هز رأسه سريعًا وقال بإصرار:

“لا لا خالص! أنا موافق،أنا موافق والله! حضرتك معاك حق في كل كلمة قلتها.”

رفع محمد حاجبًا متشككًا،وسأله بنبرة ساخرة ولكنها تنمّ عن جدية دفينة:

“يعني مش هتيجي بعدين وتقولي: يلا نعمل الفرح؟”

ساد الصمت للحظة،وكأنه يزن كلماته قبل أن يجيب بثقة:

“لا،مش هاجي يا جدي ما تقلقش،وبعدين أكيد مش هنطول في ظبط أمورنا،كلها كام شهر والدنيا تبقى تمام،وساعتها نقدر نعمل الفرح براحتنا،المهم دلوقتي إننا نكتب الكتاب.”

راقب محمد حفيده لثوانٍ،كأنه يبحث عن أي تردد في عينيه،لكنه لم يجد سوى العزم؛فتنهد بخفوت،قبل أن يردّ بلهجة أقل حدة:

“يبقى على خير…بكرة نروح ونتكلم مع أبو العروسة.”

لم يستطع موسى كبح الابتسامة التي شقّت طريقها إلى شفتيه،لكنها لم تكن مجرد فرحة عابرة،بل كانت إحساسًا عميقًا بأن القدر يفسح له الطريق أخيرًا. شعر وكأن قلبه يطرق أبواب المستقبل بقوة،وكأن كل لحظة انتظرها،كل صراع خاضه،كان يقوده إلى هذه النقطة تحديدًا.

لم يكن الأمر مجرد “كتب كتاب”،بل كان إعلانًا بأن فيروز لن تكون مجرد ذكرى في قلبه أو وعدًا معلقًا،بل ستصبح جزءًا منه،رسميًا،كما كان يتمنى دائمًا.

___________________

في مساء اليوم التالي…

داخل مجلس الشيخ سالم،اجتمع داود برفقة أخويه،أحمد ومحمود،بالإضافة إلى سامي،ليجلسوا في مواجهة ذكي وعبده،ومعهما والديهما وعم الأول.

“وده اللي حصل يا شيخ سالم،من طقطق لسلام عليكم.”

كانت هذه كلمات داود،الذي نبسها بصوت محمّلًا بالغضب المكبوت،فيما هزّ الشيخ سالم رأسه بتأنٍ،مستوعبًا تفاصيل القصة،قبل أن يحوّل نظره نحو الحج فوزي قائلاً برتابة واتزان:

“اتفضل قول اللي عندك يا حج فوزي.”

لم يتأخر الأخير في الرد،نطق بصوتٍ أجش،يحمل سخرية لا تخفى:

“اللي عندي إن القعدة دي مالهاش لازمة يا شيخ سالم،لو هما مجمعنا علشان ياخدوا حق ابنهم،فهما أخدوه..أنت مش شايف شكل العيال؟”

كانت عيناه تستقر على ذكي وعبده،اللذين كانا في حالة يُرثى لها. وجوههما مكدومة،وجروح متناثرة تزين ملامحهما،فيما كان زكي يضغط على ذراعه المكسورة،التي لم يتركها كارم حينها إلا بعد أن غرز فيها غضبه.

ما إن أنهى فوزي كلماته حتى دوّى صوت محمود،مستنكرًا:

“اللي حصل فيهم ده ولا حاجة يا فوزي! أقسم بالله لو كانوا وقعوا تحت إيدي وقتها،لكانوا اتبعتوا لكم على نقالات! ماكنش هيبقى في جسمهم عضمة سليمة!”

كان صوته يقطر حنقًا،نظراته متقدة بالغضب،كأنه على شفا الانفجار من جديد. لكن قبل أن ينفلت تمامًا،شعر بيد أحمد تربت على قدمه،وصوت أخيه يأتيه هادئًا،رتيبًا:

“اهدا يا محمود،احنا جايين نتكلم بالعقل مش بالدراع..اهدا يا أخويا، اهدا.”

زفر محمود بحدّة،محاولًا أن يلجم نيرانه الداخلية. كان أكثرهم غضبًا،أسرعهم اشتعالًا،على العكس شقيقه أحمد،الحكيم الرصين،الذي لم يكن يسمح لمشاعره أن تقوده.

أما داود،فكان خليطًا بين الاثنين؛يحاول التماسك،لكن الغضب كان يتسلل إلى ملامحه شيئًا فشيئًا.

في تلك اللحظة،ارتفع صوت الشيخ سالم،حاسمًا الموقف:

“خلاص..خلونا نشوف الحق فين،واللي ليه حق هاياخده.”

ساد الصمت للحظات،بينما تبادل الجميع نظرات حادة،كأنهم يزنون كلماتهم قبل أن يطلقوها. وحده سامي لم يحوّل بصره عن زكي،يرمقه بنظراتٍ غاضبة متقدة،كأنما يوشك على الانقضاض عليه في أية لحظة.

تنحنح فوزي بصوتٍ مسموع،قبل أن ينطق بصوته الأجش،محاولًا أن يضفي على كلماته مسحة من المنطق:

“بص يا شيخ سالم،أنا ابني كان واقف في أمان الله،لا بيه ولا عليه،جه ابنهم واتهجم عليه ونزل فيه ضرب،فدافع عن نفسه،ولا كان يسيبه يموته يعني؟!”

لم يمهل داود كلماته أن تستقر في المجلس،حتى انفجر ضاحكًا بسخرية،قبل أن يرد بنبرةٍ ساخطة،جادة:

“والله ما خيبت ظني فيك يا فوزي! قلت اللي كلنا توقعناه بالحرف..كنا عارفين إنك هتقلب الترابيزة علينا زي مامتعود تعمل! علشان كده ما رضيناش نوصل الموضوع للبوليس قبل القعدة دي،كنا متأكدين إنك هتقول البُقّين الفارغين دول: ابني هو اللي اتهجم على ابنك الأول،فابنك اضطر يدافع عن نفسه ويغزه بالمطوة،وفي الآخر يبقى ابنك في قضية دفاع عن النفس،وابني في قضية اعتداء!”

رفع فوزي حاجبيه متظاهرًا بالدهشة،قبل أن يرد بنبرة مستفزة:

“الله! مش ده اللي حصل؟ مش ده اللي أنت بنفسك حكيه من شوية؟ مش ابنك اتهجم على ابني الأول؟”

اشتعلت نيران الغضب في ملامح داود،وانفلتت منه أعصابه،فصاح بانفعال:

“ابني اتهجم على ابنك علشان ياخد حق خطيبته اللي الوَسِخ ابنك عاكسها!”

لم يمهل فوزي كلماته أن تتغلغل في المجلس،فهتف بصوت جهوري،محاولًا فرض هيبته على الأجواء:

“لمّ نفسك يا داود وما تغلطش،احنا كمان بنعرف نرد،بس محترمين الشيخ والمكان اللي قاعدين فيه!”

قهقه محمود بسخرية،قبل أن يرد مستنكرًا:

“لا يا راجل! وانتوا محترمين أوي! بأمارة إن ابنك مش سايب بنت ولا ستّ في المنطقة إلا ورايِل عليها زي الكلب! واقف في الشارع،عينه على الرايحة والجاية،لا خشا ولا احترام! بس صح..هيجيب الاحترام منين وأنت أبوه يا ابن كمون؟”

انتفض فوزي من مجلسه،عروقه تكاد تنفجر من الغضب،وصوته يزلزل المكان بانفعالٍ مشتعل:

“لا بقى! الموضوع زاد عن حدّه،والقعدة دي ما بقاش ليها لازمة خلاص!”

سادت لحظة توتر حادة،الجميع يترقب انفجار الموقف،والشيخ سالم يراقب المشهد بعينين ثقيلتين،قبل أن يرفع صوته ويردف بكلمات موزونة قاطعًا نذر العاصفة القادمة:

“اقعد يا فوزي! ما حدّش هيتحرك من هنا إلا لما نحل المشكلة دي!”

زمجر فوزي باستنكار ونفور،وهو يشير نحو داود وإخوته بحدة:

“بلا مشكلة بلا بتاع يا شيخ سالم! إنت مش شايف بيغلطوا فينا إزاي؟!”

لم يكن الشيخ بالشخص الذي يُستثار بسهولة،فرد عليه بصوته المتزن،محاولًا احتواء الموقف:

“حقك على راسي أنا يا فوزي،اقعد الله يكرمك.”

زفر فوزي بضيق،بنظراته المشتعلة،التي لا تفارق وجوه خصومه،بينما ردت عليه نظراتهم بحدة لا تقل عن حدة غضبه. لكنه في النهاية تنهد بثقل،ثم نظر إلى الشيخ سالم،قائلاً بصوت أقل حدة:

“علشان خاطرك بس يا شيخنا.”

استقر في مجلسه من جديد،في حين حوّل الشيخ نظره نحو داود وإخوته،وقال بنبرةٍ رتيبة، تحمل مزيجًا من الحزم والتروي:

“وأنتوا يا جماعة،اهدوا الله يكرمكم،احنا جايين نحل من غير مشاكل،مش جايين نزود المشاكل.”

تنفس محمود بحدة،وكأن صدره لا يتسع لهذا الهدوء المفروض،فيما ظل داود يحدّق في فوزي بنظرات نارية. أما أحمد،فأجاب بصوت هادئ متزن،وكأنه يحاول إعادة الأمور إلى مسارها:

“احنا مش عايزين مشاكل والله يا شيخ سالم،زي ما قلت،احنا جايين نحل ونجيب الحق،بس إخواتي ليهم الحق يفقدوا أعصابهم،طالما الحج فوزي شغال يلعب بالكلام ومش عايز يغلط ابنه.”

كان حديثه عقلانيًا،متزنًا،لكنه حمل في طياته اتهامًا مباشرًا لفوزي،الذي لم يتأخر في الرد، قائلاً بعناد:

“ابني ما غلطش يا أحمد! وأنا لا لعبت بكلام ولا حاجة،أنا بقول الحق وبس!”

قهقه محمود بسخرية،كأن الكلمات لا تحتمل عنده أي جدية،ثم تمتم بتهكم،وعيناه تضيقان باستنكار:

“أقسم بالله،الحق يتكسف يتذكر على لسانك.”

تشنجت ملامح فوزي،واهتزت أنفاسه غضبًا،كأن كلمات محمود طعنته بسكين غير مرئي،غاصت في كبريائه فاشتعلت نيرانه.

عاد التوتر ليخيم على المجلس،والعيون تترقب اللحظة التي سينفجر فيها الموقف،لكن قبل أن يتفاقم الأمر أكثر،صدح صوت الشيخ سالم، جهورًا هادئًا،يشق الصخب كضوء يخترق الظلام:

﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾

(آل عمران: 134)

كان لصوته العذب وقع السكون على القلوب المتأججة،فتابع بنبرة تحكمت بحزم في دفة الحديث:

“استهدوا بالله يا جماعة،احنا ولاد منطقة واحدة وعِشرة،وما يصحش اللي بيحصل ده،استعذوا بالله من الشيطان الرجيم وخلّونا نتكلم بالعقل،من غير عصبية ولا غلط.”

تبادل الجميع نظرات مشحونة،لكن حدة التوتر تراجعت قليلًا،وكأن حرارة الغضب قد بدأت تخمد تحت تأثير كلماته. أخذ البعض نفسًا عميقًا،بينما اكتفى آخرون بإشاحة أنظارهم،محاولين استعادة السيطرة على انفعالاتهم.

تنهد الشيخ سالم،وكأنه يزيح عن صدره بعضًا من ثقل الموقف،ثم عاد صوته يرتل آية أخرى،بنبرة حملت في طياتها معنى العدل والإنصاف:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾

(النحل: 90)

ساد الصمت للحظات،كأن الجميع يعيد حساباته،يتدبر المعاني التي ألقيت أمامهم،وأي طريق سيسلكونه بعد هذا…

سرعان ما كُسر الصمت بصوت داود الهادئ،لكنه كان يحمل في طياته جدية لا تقبل الجدل:

“بص يا شيخ سالم،أنا عارف إنك هتحكم بالعدل ومش هتقول غير الحق. دلوقتي،إنت شايف مين الغلطان؟ أو خلّينا نقول مين اللي بدأ بالغلط؟”

تجول الشيخ سالم بنظره على الوجوه المتوترة من حوله،محاولًا أن يقرأ ما خلف النظرات الحادة،حتى استقر بعينيه على فوزي،ثم قال بصوت هادئ لكنه نافذ:

“اللي بدأ بالغلط،من رأيي،هو ابنك يا فوزي..هو اللي عاكس بنت الناس الأول،مع العلم إن دي مش أول مرة. أنا جت لي شكاوى كتير عليه،وناس جت لي مخصوص علشان أكلمك،وأنا بدوري جيت وقلت لك. بس في كل مرة كنت بتصرف نظر،وعمرك ما غلطته ولا حاسبته على اللي بيعمله،وأكبر دليل إنه لسه مكمل في اللي بيعمله،هي قعدتنا دي دلوقتي”

تجمدت ملامح فوزي للحظة،وطوقه الإحراج كحبل يضيق حول عنقه. ظهر التوتر على وجهه،وكأنه لم يكن يتوقع مواجهة مباشرة أمام الجميع،فضحتها نظرات من حوله التي تنتظر رده. وقبل أن ينبس بحرف، كان داود يسبقه،يواصل حديثه بنبرة حازمة لا تقبل المساومة:

“عداك العيب يا شيخ سالم. دلوقتي،أنا كان ممكن أعمل محضر وأرمي ابنه في الحبس،بس علشان عارف إنه مش هيسلك،وهيطلّعه زي ما عملها قبل كده،وهيخلي الحكاية دفاع عن النفس ويجيب ابني في الرجلين،قلت نقعد القعدة دي،وأجيب حق ابني من غير ما يوصل الموضوع للأقسام ولا المحاكم،وعلشان برضه بنت الناس اللي ملهاش ذنب.”

أومأ محمود موافقًا،قبل أن يضيف بنبرة جادة تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا:

“بالظبط كده يا شيخ سالم،احنا مش صعب علينا نحبس ابنه،بس احنا مش عايزين نبهدل ابننا وخطيبته في المحاكم،ولا هو أكيد عايز يبهدل ابنه…بس مع ذلك،لو هو رافض القعدة دي والحكم اللي هيتقال،احنا ما عندناش مانع يوصل الموضوع للمحاكم،بس ساعتها ما يزعلش على اللي هيحصل لابنه.”

تبدل حال فوزي ومن معه،تشتت ثباتهم،واضطربت أنفاسهم. لم يكن حديث محمود مجرد كلمات،بل كان رسالة واضحة،تهديدًا خفيًا مغلفًا بالمنطق. ازدرد فوزي ريقه بصعوبة،وشعر بأن الطاولة التي كان يظن أنه يقلبها لصالحه،انقلبت عليه.

حرك الشيخ سالم رأسه بالإيجاب بحركات هادئة،قبل أن يتنهد ويوجه نظره صوب فوزي قائلًا بنبرة حاسمة:

“ها يا حج فوزي،هترضى باللي هيقوله ولا نفضّها سيرة؟”

ازدرد فوزي ريقه بتوتر،محاولًا استجماع شتات أفكاره،في اللحظة التي مال فيها ابنه عليه هامسًا:

“خلينا نقوم يا حج،واللي عندهم يعملوه.”

رمقه فوزي بنظرة نارية،وكأن كلماته صبّت الزيت على نار غضبه،ثم نطق بحدة تكاد تقطع الهواء بينهما:

“اسكت إنت!”

زفر بضيق،ثم عاد لينظر إلى الجمع من حوله وقال بتحفظ واضح:

“اسمعهم الأول يا شيخنا.”

هزّ الشيخ سالم رأسه مجددًا،قبل أن يحول بصره نحو داود،مشيرًا إليه ليبدأ الحديث:

“قول يا حج داود اللي عندك.”

أخذ داود نفسًا عميقًا،وزفره بهدوء قبل أن يرد بنبرة جادة لا تحتمل الجدال:

“اللي عندي إن الواد ده هو وصاحبه ما يعتبوش المنطقة يا حج،مش عايز ألمح طيف حد فيهم هنا.”

انتفض فوزي في مجلسه وصاح مستنكرًا:

“ده اللي هو إزاي بقى يا داود؟ هتطردنا من منطقتنا؟!”

ارتسمت على شفتي داود ابتسامة باردة قبل أن يرد بنفس الجدية:

“إنتوا سايبين المنطقة بقالكم خمس سنين أصلًا يا فوزي،يعني مالكمش حاجة هنا. أما عبده،فهو مش من المنطقة أصلاً.”

ساد الصمت للحظات،لكنه لم يكن صمتًا هادئًا،بل كان مشحونًا بالاحتقان والغضب المكبوت،وكأن المكان بأسره يحبس أنفاسه مترقبًا أي شرارة قد تشعل فتيل المواجهة من جديد. تطايرت شرارات الغضب من عيني فوزي،وهو يدرك أن كفة الميزان قد مالت تمامًا في غير صالحه،وأن كل محاولاته لقلب الطاولة باءت بالفشل.

لكن ما باليد حيلة…أصبح وضعه حرجًا للغاية،ولم يعد أمامه مجال للمراوغة أو الرفض،فهو يعلم جيدًا أن أي محاولة للخروج عن هذا الاتفاق لن تمر مرور الكرام،بل ستنقلب عليه وعلى ابنه بأسوأ شكل ممكن. زفر بضيق شديد،وكأنه يبتلع مرارة الهزيمة،ثم قال بصوت خافت،لكن كلماته حملت ثقل الغصة التي في صدره:

“موافق يا شيخنا…ابني مش هيعتب المنطقة،زي ما أنتم عايزين.”

اتسعت عينا ذكي بصدمة واستياء،والتفت سريعًا إلى والده،وكأن ما سمعه للتو لا يصدقه،فيما أومأ والد عبده بهدوء وتابع بصوت متزن:

“ولا ابني هيدخل المنطقة،يا شيخ سالم.”

لم يضِع داود أي وقت،بل عاجلهم برد حاسم،بنبرة لا تقبل أي مساومة:

“مش المنطقة بس…الشارع اللي قبل القهوة كمان،اللي ابنك واخده كأنه ملكية خاصة،ومانع أي ست تعدي منه كأنه ورثه عن جدوده. مش عايز ألمح واحد فيهم هناك،الشارع ده تبع منطقتنا،والكل عارف ده.”

استشاط ذكي غضبًا أكثر،وانتصب واقفًا بعصبية،وكاد أن يفتح فمه ليعترض،لكن والده كان أسرع منه،إذ أمسك بذراعه بقوة وأحكم قبضته عليه،وهو يزمجر بحدة:

“اتنيل اقعد! بدل ما تلاقي نفسك قاعد في التخشيبة.”

زفر ذكي بحدة،وتنفس بعصبية،لكن رغم غضبه العارم لم يكن أمامه سوى الامتثال لطلب والده والجلوس مجددًا،وقد أدرك أن كل الخيارات قد سُلبت منه ولم يعد له أي مجال للمقاومة.

حينها،صدح صوت محمود،الذي لم تفارق نبرته نغمة السخرية والخبث:

“قلت إيه بقى يا فوزي؟”

قبض فوزي على يده بقوة،وكأن عظامه على وشك أن تتكسر من شدة التوتر،ثم قال بصوت خرج منه على مضض،وكأن الكلمات تُنتزع من فمه انتزاعًا:

“موافق…زكي وعبده مش هيعتبوا المنطقة تاني،ولا هيقفوا في الشارع إياه.”

لم تفارق الابتسامة الخبيثة وجه محمود،ليكمل بصوت ينضح بالتحذير والتهديد المبطن:

“حلو…بس لو حصل وعرفت إن رجل واحد فيهم خطت هنا،وعزة وجلالة الله،ما أحله،وهأعلقه على أول شارعنا،وأخليه فرجة اللي يسوى وما يسواش.”

بلغ الغضب بفوزي مداه،لكن رغم ذلك،لم يجد ما يقوله سوى الصمت القاتل،وهو يعض على شفتيه بقوة،قبل أن يغمض عينيه قليلًا ثم يفتحها ويومئ بالإيجاب على مضض،وكأنها أثقل موافقة نطق بها في حياته.

عندها،تنهد الشيخ سالم بعمق،وهو ينقل نظره نحو سامي،ثم سأله بنبرة متأنية:

“موافق على الكلام ده،يا سامي؟”

أزاح سامي نظره عن خصمه أخيرًا،ثم التفت إلى الشيخ سالم،وعيناه ما زالتا تحملان بقايا الغضب،لكنه أومأ برأسه بالإيجاب،ورد بصوت هادئ لكنه حازم:

“موافق يا شيخنا،أنا سبق واتفقت مع الحاج داود على الكلام ده.”

أومأ الشيخ سالم برضا،ورفع يده قليلًا كأنه يعلن نهاية هذا الاجتماع الصاخب،قبل أن يردد بحسم:

“يبقى على بركة الله…”

___________________

في جهة أخرى…

“أنا عارف إن مابقالهمش أسبوع مخطوبين،بس زي ماقلتك يايحيى،أنا شايف إن فترة الخطوبة دي مالهاش لازمة،العيال يعرفوا بعض من قبل مايوعوا على الدنيا،فخلينا نكتب كتابهم،علشان تبقى علاقتهم في الحلال وبما يرضي الله”

ساد الصمت للحظات بعد أن ألقى الحاج محمد كلماته،كأن الزمن توقّف في تلك اللحظة،محاولًا منح يحيى فرصةً لاستيعاب ما سمعه. على الرغم من أن الكلمات بدت بسيطةً في ظاهرها،فإن وقعها كان كالصخرة التي ألقيت في بحيرة راكدة،تُحدث تموجات لا نهاية لها.

وزع يحيى نظراته عليه وعلى حفيده الذي جواره،ولكنه لم يُفلح في إخفاء الضيق الذي تسلل إلى ملامحه،رغم محاولاته المضنية للحفاظ على هدوئه. عيناه انعكاسٌ لمشاعره المتشابكة بين الحيرة والانزعاج،وكأن بين ضلوعه صراعًا لا يريد أن يطفو على السطح.

بدا الحاج محمد مدركًا لارتباكه،لكنه لم يعر ذلك اهتمامًا كبيرًا،بل تابع قائلاً بنبرة هادئة لكنها حازمة:

“بص،أنا مش هغصب عليك علشان أخد ردّك دلوقتي،خد وقتك،وكلم بنتنا،وشوف رأيها..لو ‘أيوه’ يبقى على بركة الله،ونكتب كتابهم الخميس اللي بعد الجاي.”

كاد يريد أن يرفض على الفور،أن يضع حدًا لهذا الحديث منذ الآن،لكنه أجبر نفسه على التريث،على التحلي باللباقة التي اعتادها،فأومأ برأسه موافقًا وقال بصوت ثابت يخفي اضطرابه:

“تمام يا حاج محمد،هنفكر ونرد عليكم.”

“على بركة الله،نستأذن احنا بقا”

نهض الجميع استعدادًا للمغادرة بعد هذه الكلمات،وعند الباب التفت محمد مجددًا ليحيى،وأردف بصوت هادئ،متزن:

“ما تتأخرش علينا في الرد أوي،يا يحيى.”

لم يجد يحيى ردًا سوى إيماءة خفيفة،بالكاد استطاع أن يُخفي توتره وهو يراهم يعبرون العتبة،يغادرون بيته ويتركون خلفهم أجواءً مشحونة لم يكن لها وجود قبل دقائق. وبمجرد أن توارى أثرهم عن ناظريه،أغلق الباب بعجلة،كما لو كان يغلق خلفهم ضغطًا يوشك أن ينفجر،ثم استدار بخطوات متوترة وانطلق نحو غرفتها،وعيناه تعكسان ضيقًا عارمًا لا يحتاج إلى تفسير.

د

فع باب غرفتها بقوة كأنما يقتحم حصنًا منيعا،واندفع نحوها بخطوات ثقيلة،مشحونة بالغضب،عينيه تومضان بحدة،وصوته يجلجل بصرامة مكبوتة:

“كنتِ عارفة هما جايين ليه،مش كده؟!”

رفّت أهدابها للحظة،ثم استقامت على الفراش،تحملق فيه بثباتٍ ظاهريّ بينما شيء ما داخلها يرتجف. تلاقت عيناها بعينيه،ولم تحاول المراوغة،فقط أومأت بالإيجاب مجيبة بصوت هادئ لكنه نافذ كحد السيف:

“آه…كنت عارفة،موسى اتصل بيا وخد رأيي في الموضوع الأول.”

كأن كلماتها صبّت الزيت فوق نيران غضبه المتقدة،شهق بعنف،واقترب منها أكثر،وصوته ازداد توترًا وحدة:

“وطبعًا وافقتِ…من غير حتى ما ترجعي لي؟!”

لم يفتها الاتهام المتواري خلف كلماته،لكنها لم تتراجع،فقط رمقته بثبات وقالت ببرود ظاهر:

“هو سألني إذا كنت موافقة إننا نكتب الكتاب،وأنا قلتله إني موافقة ومستعدة،فقال لي إنه هيجي يكلم حضرتك ويقنعك بده.”

ضحك بمرارة،وهزّ رأسه،ثم هتف بصوت حاد،منفعل:

“وأنا ما اقتنعتش،لا بكلامه،ولا بكلام جده،ولا حتى بكلامك…كتب كتاب؟ مفيش!”

خفق قلبها بعنف،وجفلت قليلاً،حدقت فيه وكأنها لا تصدّق ما تسمع،ثم همست بذهولٍ:

“يعني إيه يا بابا؟!”

زمّ يحيى شفتيه،ثم أردف بصوت حاد كحد شفرة:

“يعني زي ما سمعتي يافيروز…مفيش كتب كتاب! أنا هكلمه بنفسي وأقوله إن مفيش نصيب،ييجي ياخد شبكته،وكل واحد فيكو يروح لحاله…هو مش زيكِ،ولا أنتِ زيه!”

اتسعت عيناها في صدمة،وارتجفت أنفاسها للحظة قبل أن تسأله باستنكارٍ متوجس:

“تقصد إيه يا بابا؟! مش حضرتك كنت موافق،علشان كده اتخطبنا؟!”

زفر بضيق،وهرب بنظراته للحظة كأنه يخشى مواجهة ما سيفضي إليه حديثه،ثم عاد إليها قائلا بصرامةٍ لا تقبل الجدل:

“أنا وافقت غصب عني،لما جده ضغط عليا،ولما أنتِ وكل اللي حواليّا ضغطتوا علشان أوافق…وافقت بس علشان أريحك! كنت فاكر إنكم لما تتخطبوا هتلاحظي الفرق الكبير بينكم،وإنكِ هتدركي بنفسك إنه مش الشخص المناسب ليكِ…كنت فاكر إنك بالكتير شهر،وهتفهمي ده،وبعدين تسيبيه وتيجي معايا! نسافر،وتشوفي الحياة اللي مستنياكِ هناك!”

هوت كلماته على رأسها كضربةٍ مباغتة،فرغ فمها عن آخره،وانطفأ أي صوت داخلها للحظة،قبل أن تهمس في ذهول ممزوج بمرارةٍ قاسية:

“يعني حضرتك كنت بتاخدني على قد عقلي؟!”

رمشت مرتين كأنها تحاول استيعاب وقع كلماته،ثم تابعت بنبرةٍ مهتزة:

“علشان كده ما سافرتش لما طلبوك في الشغل؟ فضلت علشان تاخدني معاك؟ كنت مستني أكتشف إن اختياري لموسى كان غلطة،وبعدها تاخدني وتسافر؟!”

مرر يحيى كفه على وجهه،كأنما يحاول إخفاء شيءٍ ما في ملامحه،وعندما تحدث مجددًا،كان صوته محملًا بمزيجٍ من الإصرار والتبرير:

“كان عندي أمل إنك تكتشفي ده فعلاً،وترجعي في قرارك،بس بعد اللي حصل من شوية،اتأكدت إنه معمي على عيونك! وما بقتيش حتى قادرة تميّزي بين الصح والغلط،ومين المناسب ليكِ!”

أخذ خطوة نحوها،وهدوء مفاجئ تسلل لصوته،حاول أن يجعل نبرته أكثر ليونة وهو يضيف بإقناعٍ:

“صدقيني يا فيروز…موسى مش الشخص المناسب ليكِ.”

رفعت فيروز رأسها إليه،تمعنته للحظة،ثم ضاقت عيناها،واندفعت الكلمات من بين شفتيها بحدّة:

“وخالد هو المناسب ليّا،صح؟!.”

كان وقع كلماتها كالسهم الذي أصاب قلب الحقيقة مباشرة. سكتت للحظة،تراقب تعابير والدها التي لم تتغير كثيرًا،قبل أن تبتلع ريقها وتضيف بصوت متحشرج:

“حضرتك اللي طلبت منه يكلمني،مش كده؟!”

أخرج يحيى زفيرًا هادئًا،وكأنه يحاول تهدئة غضبه قبل أن يقترب منها،واضعًا يديه على كتفيها برفق،محاولًا أن يستعيد هدوءه ليبرر لها:

“يا حبيبتي،أنا خليته يكلمك علشان…”

قُطعت كلماته ببرود كلماتها،وهي تبتعد عنه خطوة إلى الخلف،تحدق به بنظرة جامدة،قبل أن تهتف بثبات لا يقبل الجدل:

“علشان حضرتك شايفه مناسب ليّا يا بابا،بس أحب أقولك إني مش هتجوز غير شخص واحد وبس…وهو موسى.”

بدت كلمتها الأخيرة كضربة قاصمة،جعلت يحيى يشيح بوجهه بعيدًا للحظة،وكأنه يقاوم شيئًا بداخله،قبل أن يعود إليها بعينين متوهجتين بالغضب،يهتف بانفعال حاول كثيرًا كتمانه:

“أنتِ ليه مش عايزة تفهمي إنه مش مناسب ليكِ! موسى مش مناسب ليكِ،افهمي بقى يا بنتي!”

قبل أن تنطق بأي كلمة،قاطعتهما نادية التي كانت قد عادت لتوها من الخارج،صوتها القلق يخترق التوتر المخيم:

“فيه إيه؟! إيه اللي بيحصل؟!”

تقدمت سريعًا نحو ابنتها،تحوطها بذراعيها بحماية غريزية،ثم التفتت إلى يحيى مستنكرة،قائلة بحدة:

“فيه إيه يا يحيى؟! بتعلي صوتك على البنت ليه؟!”

لم يحاول يحيى تهدئة نبرته،بل رد بانفعال لم يستطع كبحه:

“علشان بنتك مش عايزة تفهم! بحاول أفهمها إن اللي اسمه موسى ده مش مناسب ليها،وإنه مش زيها،بس مفيش فايدة فيها!”

نظرت إليه نادية بعدم تصديق،قبل أن تهتف باستنكار حاد:

“أمال لو موسى اللي متربي وسطنا وعارفين أخلاقه مش مناسب ليها،يبقى مين اللي مناسب يا يحيى؟!”

قبل أن يجيبها،جاءها الصوت من جانبها،ضعيفًا لكنه محمل بالمرارة،صوت ابنتها التي لم تستطع حبس ما في قلبها أكثر:

“خالد…”

التفتت نادية بسرعة إلى فيروز،تنظر إليها بعينين متسائلتين،قبل أن تسألها سريعًا،وكأنها لم تستوعب ما قيل للتو:

“خالد مين؟!”

ابتلعت فيروز ريقها،وكأنها تحاول استجماع شجاعتها،ثم حولت نظرها صوب والدها،ولفظت الكلمات التي كانت كفيلة بجعل المشهد كله أكثر وضوحًا:

“خالد ده يبقى ابن زميله في الشغل،دكتور زيي،عرّفني عليه من كام شهر،وكان في نيته إنه يجوزنا،حتى لما قلتله إني مش عايزاه،فضل مصمم على رأيي،إنه الانسان المناسب ليا،وإن الشخص اللي يستحق يبقى جوز بنته”

اتسعت عينا نادية بصدمة،كأن الكلمات أصابتها في مقتل،لكنها سرعان ما أطلقت ضحكة ساخرة،حادة،لم تحمل في طياتها أي مرح. نظرت إلى يحيى بتهكمٍ واستياء واضح،قبل أن تهتف بسخرية لاذعة:

“أنتَ بتدور على واحد يليق بيك،مش يليق ببنتك…ما تغيّرتش لسه،لساك زي ما أنت،أناني يا يحيى!”

استدار إليها يحيى بعينين متوقدتين،وجاءت نبرته حادة وقاطعة،وكأنه لا يريد لأي صوت أن يعلو فوق قراره:

“مالكيش دعوة أنتِ يا نادية،الموضوع ده بيني وبينها بس!”

لم تتراجع،بل تقدمت خطوة نحوه،وهي تنظر إليه بثبات و ردّت عليه بحدة لا تقل عن حدته:

“ماليش دعوة إزاي؟! أنا أمها،وليّا الحق إني أدخل!”

تجاهلها تمامًا،وكأنها لم تنطق بشيء،وعاد بنظره إلى فيروز،وتحدث بصوت صارم لا يقبل النقاش:

“أنا هحجز في أول طيارة ل دبي،مش هنفضل هنا كتير،جهّزي شنطتك،وجهّزي شبكتك علشان تبعتيها له.”

خيم الصمت للحظات،قبل أن تخرجه فيروز بكلمتين قاطعتين،بصوت مزيج من الدهشة والرفض القاطع:

“مش مسافرة.”

التقت عيناهما،لكنها لم تتراجع،بل تابعت بإصرار أشد،وكأنها تضع حدًا نهائيًا لكل شيء:

“مش هسيب هنا تاني مهما حصل،مش هرجع لسجنك تاني،يا بابا!”

قطب يحيى حاجبيه،وكأن وقع الكلمة أصابه بصدمة لم يتوقعها،فكرر بذهول واستنكار،وكأنه لم يصدق ما سمعه للتو:

“سجن؟!”

رفعت فيروز رأسها،ونظرت إليه بثبات،ثم قالت بوضوح،دون تردد:

“آه، سجن…وحضرتك كنت السجان،حضرتك كنت فاكر إني كنت مبسوطة معاك هناك؟؟ كنت هنبسط إزاي وأنت متحكم فيا زي العروسة اللعبة،بتختارلي كل حاجة في حياتي كأني ماليش عقل ولا صوت..”

ساد الصمت للحظة،لكنه لم يكن صمت استيعاب،بل صمت ثقيل،صمت مواجهة كان يجب أن تحدث منذ سنوات. وقفت فيروز أمام والدها،تنظر إليه بعينين مترعتين بكل ما كتمته في قلبها لسنوات طويلة.

ثم بصوت مختنق،صوت امتلأ بوجع الماضي أكثر مما يحتمل،تابعت:

“لازم أصاحب البنات اللي حضرتك قلت عليهم…ولاد صحابك اللي من نفس مستوانا،ماينفعش أختار صحابي من نفسي،لأن حضرتك أدرى بمصلحتي،حضرتك لازم اللي تختار لي الهوايات اللي المفروض أمارسها،حضرتك اللي بتحدد لي أوقات دراستي وأوقات لعبي،حضرتك اللي بتحدد لي إمتى أنام وإمتى أصحى،حضرتك اللي اخترت لي الكلية اللي هدخلها،علشان أنت أدرى بقدراتي…حضرتك المتحكم في تفاصيل يومي،وحاطط لي جدول ماينفعش أخرج عنه…”

كانت تتحدث وكأنها تُفرغ قلبها لأول مرة،وكأن كل كلمة تحررها من قيد لم تكن تعلم أنها مكبلة به إلى هذا الحد.

ثم همست بمرارة،مرارة كانت أشبه بسكين تُغرس ببطء في صدرها وصدره:

“حضرتك سجنتني لأكتر من ١٣ سنة…وكله ده تحت مسمى ‘أدرى بمصلحتك’.”

كان وقع كلماتها كالصاعقة،حتى أن يحيى شعر بأن الهواء قد سُحب من رئتيه للحظات. ابتلع ريقه،شعر بجفاف يجتاح حلقه،ولم يجد ما يقوله سوى تبريره المعتاد،الذي تكرر على لسانه منذ سنوات طويلة،وكأنه قناع يخفي خلفه حقيقة لا يريد مواجهتها:

“أنا فعلاً مش عايز غير مصلحتـ”

لكنها لم تترك له الفرصة هذه المرة،لم تمنحه مجالًا ليُعيد نفس العبارات التي لطالما تغلفت بها قيوده،فقاطعته بصوت حاد،مرتعش،لكنه كان محملًا بكل يقينها:

“كفاية!”

ارتعشت جفونه للحظة من وقع الكلمة،لكن نظراتها لم تمنحه فرصة للهرب.

“كفاياك كذب بجد،أنت بتعمل كل ده علشان مصلحتك وبس!”

شهقت نادية بصمت،بينما يحيى…فقد تلاشت ملامحه للحظة،كأنها فقدت قدرتها على إخفاء الصدمة التي اخترقته.

لكن فيروز لم تتوقف،لم تتراجع،بل أضافت:

“إنتَ يا بابا مش همّك غير نفسك وبس…ولا أنا،ولا سامي،ولا ماما بنهمك أكتر ما نفسك بتهمك.”

لم يعد هناك مجال للإنكار،لم يعد هناك مجال للهروب من الحقيقة التي نطقت بها ابنته أخيرًا…الحقيقة التي ربما،في أعماقه،كان يعرفها لكنه يأبى أن يعترف بها حتى الأن.

غاصوا في الصمت من جديد،لكنه لم يكن صمت راحة،بل صمت ثقيل كالحجارة،يخنق الأنفاس ويفرض نفسه بقوة على الجميع. شحب وجه يحيى،وكأن الكلمات التي ألقتها ابنته عليه سحبت الدم من عروقه،وأصبحت الكلمات عاجزة عن الخروج من شفتيه. أما فيروز، فقد سقطت العبارات من عينيها،دموع صامتة نطقت بكل ما عجزت عن قوله طوال السنوات الماضية.

لم تحتمل نادية رؤيتها على هذا الحال،فاقتربت منها،وسحبتها بين ذراعيها،وكأنها تحاول أن تنتشلها من هذا الوجع،أن تخفف عنها ولو قليلًا،لكنها تعلم أن بعض الجروح لا تُشفى بالعناق.

وفي خضم هذا السكون المشحون، جاء الصوت الذي اخترقه…لم يكن صوت أي من الثلاثة..بل كان صوت

سامي.

الذي كان يقف عند باب الغرفة،وقد اسمتع لكل ماألقته شقيقته الصغرى،عيناه كانت مثبتتان على المشهد أمامه،استمع لكل كلمة،تلقاها كما لو كانت تضرب على وتر قديم في داخله.

كان صامتًا طوال الوقت،لكن الآن…الآن لم يعد بإمكانه الصمت أكثر.

تقدم بخطوات واثقة،ونبرته حملت شيئًا من الغرابة،من القوة غير المتوقعة،وهو يقول بصوت واضح،لا يخلو من الفخر:

“فخور بيكِ أوي،يا فيروز.”

توجهت الأنظار نحوه،بذهول ممزوج بالتساؤل. حتى فيروز نفسها نظرت إليه بارتباك،فهي لم تتوقع بأن يدعمها بهذا الشكل،أما يحيى،فكان يحدق به بصمت،كأنه يحاول قراءة ما وراء كلماته.

لم يترك سامي مجالًا للاستفسار،بل أكمل،وهو يتقدم ليقف بين والده وأخته ووالدته،حاجزًا بينهما،مواجهًا الرجل الذي لطالما خشي مواجهته،ليس خوفاً منه بل احتراماً به.

نظر إلى يحيى مباشرة،كانت نظراته حادة،قوية،لكنها لم تخلو من مرارة خفية. ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة،بسمة مريرة تحمل خلفها سنوات من الكتمان،قبل أن ينطق أخيرًا،بصوت ثابت،كأنما يحرر نفسه من شيء أثقل قلبه طويلًا:

“تعرف إن بنتك قالت اللي أنا مقدرتش أقولهولك لأكتر من عشرين سنة؟”

ساد الصمت للحظة،لكنه لم ينتظر ردًا،بل تابع بصوت أكثر ثباتًا،لكن في داخله كان زلزالًا يهدم جدرانًا قديمة:

“آه والله…تخيل؟ كان نفسي أقولك الكلمتين دول من زمان أوي،من يوم ما طلّقت ماما ودمرت عيلتنا،بس مقدرتش…ماكنش عندي الشجاعة للأسف إني أواجهك،وأقولهم لك في وشك.”

تغيرت ملامح يحيى،وارتجفت عيناه للحظة،لكن لم يتوقف سامي،وأضاف:

“ماكنش عندي الشجاعة إني أقولك…إنك أناني،إنك أناني يا بابا.”

ساد صمت ثقيل للحظات،قبل أن يهمس يحيى بصوت متحشرج:

“حتى أنتَ يا سامي؟!”

لم يتراجع سامي،بل رفع بصره إليه بثبات وقال:

“مش بس أنا يا بابا،مش بس أنا اللي عارف إنك كده…كلنا.”

ثم أشار إليه مباشرة قبل أن يضيف:

“حتى أنت،حتى أنت من جواك عارف إنك كده.”

لم يجد يحيى ما يقوله،فقد صُفع بالحقيقة التي طالما حاول إنكارها. نظر سامي بعيدًا،وكأنه يحاول استجماع أنفاسه وسط ثقل المشاعر،ثم مسح وجهه وعاد إليه بنظرة حاسمة:

“أنا كان في كلام كتير جوايا عايز أقولهولك،بس فيروز…فيروز لخصته في آخر جملة قالتها لك. أنتَ يا بابا مش بتهمك غير نفسك وبس،ولا أنا ولا هي ولا ماما بنهمك أكتر ما نفسك مابتهمك.”

أطلق زفيرًا هادئًا ومسح عينيه مجددًا قبل أن يتابع بنبرة أكثر هدوءًا لكنها لم تخلُ من الصرامة:

“أنا مش هعيد كلامها تاني بصيغتي،هكتفي باللي هي قالتهولك. كفاية بجد اللي سمعته منها النهاردة،وأتمنى إنه يأثر فيك ويخليك تراجع نفسك وتراجع اللي عملته معانا…”

صمت للحظة،وكأن شيئًا ما يتصارع داخله،ثم تنهد وقال بحزم:

“أما دلوقتي..فخليني أكلمك كأخ كبير ليها،مش كابن ليك.”

اتسعت عينا يحيى بدهشة،بينما أكمل سامي بصوت لم يعرف التردد:

“فيروز هتتجوز الشخص اللي اختارته،الشخص اللي هي شايفاه مناسب ليها،نفس الشخص اللي أنا وماما موافقين عليه،وده كفاية…،أنا موافق على كتب الكتاب،وهبلغ موسى بده،ومش بس كده…احنا هنكتبه الجمعة،بعد بكره،مش الأسبوع الجاي.”

تجمدت تعابير يحيى،لكنه لم يستطع التفوه بكلمة واحدة،بينما جاءته الضربة الأخيرة على لسان سامي:

“ولو حضرتك ماحضرتش،أنا هبقى وكيلها. عارف ليه؟ علشان كفاية لحد كده،كفاياك أنانية لحد كده،يا بابا.”

تبادلت العيون نظراتها الحادة،كأنها سيوف مشهرة في معركة لا خاسر فيها سوى المشاعر. وعندما قرر سامي الانصراف،جاءه صوت يحيى،جامدًا كصخرة صامدة أمام الموج:

“أنتَ كده بتدمر مستقبل أختك بإيدك…،هناك في حياة متأسس لها صح،مش هتتعب فيها.”

لم يتراجع سامي،بل استدار ناحيته بثبات،ثم نظر إلى فيروز التي كانت تقف إلى جواره،وقال بثقة:

“صدقني يا بابا…فيروز مش عايزة الحياة دي،فيروز عايزة تبني حياة لنفسها.”

لمعت الدموع في عيني شقيقته،لكنها ابتسمت رغم انكسارها،ممتنة لشقيقها الذي وقف في وجه العاصفة من أجلها. وبمجرد أن أطلقت نادية سراحها،هرعت إليه،وأحاطته بذراعيها بقوة،كأنها تتمسك بأمانها الوحيد. لم يتردد لحظة في رد العناق،ثم التفت إلى والده مجددًا،وقال بنبرة لا تعرف المساومة:

“بنتك هتبني مستقبلها وحياة حلوة تستحقها،وأنا هكون معاها،والشخص اللي اختارته قلبها برضه هيكون معاها،وهيدعمها لحد آخر نفس.”

نظر إلى فيروز بعين الأخ الذي لا يرى في الدنيا أغلى منها،وربت على كتفها بحنان قبل أن يضيف بابتسامة صادقة:

“من بكرة هنزل أدور على مكان ينفع يبقى عيادة، وإنتِ كمان تروحي تعملي المعادلة علشان شهادتك تبقى معتمدة وتاخدي الكارنيه، وبعدها تقدمي على الماجستير وتتخصصي، وتبدأي حياتك هنا يا روحي.”

تألقت نظراتها بالحب والامتنان،قبل أن تشده إلى عناق جديد،عناق حمل بين طياته كل المشاعر التي لا تحتاج إلى كلمات. ابتسم لها بحنان،ثم مال برأسه ولثم جبينها في لمسة أمان،تحت نظرات نادية التي غمرتها العاطفة،بينما بقيت نظرات يحيى مستاءة،لكنها عاجزة عن تغيير شيء…

عندما أدرك عجزه عن قلب الموازين،تنفس بصوت مرتفع،وكأنه يحاول استجماع شتات كبريائه المبعثر. ثم ابتلع ريقه بصعوبة وقال بجدية متماسكة:

“أنا هحضر كتب الكتاب…مش علشان وافقت،لكن علشان دي بنتي الوحيدة،وماينفعش أسيبها لوحدها في يوم زي ده.”

لم يفاجأ سامي بتلك الكلمات،بل ارتسمت على شفتيه بسمة ساخرة،إدراكًا منه أن السبب الحقيقي وراء حضور والده لم يكن نابعًا من حب أبوي خالص،بل خوفًا من حديث الناس،وحرصًا على صورته أمامهم.

ورغم أن بإمكانه أن يواجهه بالحقيقة،أن يخبره صراحة بأنه يفعل هذا لأجل مصلحته الشخصية لا غير،إلا أنه في النهاية اختار الصمت.

أومأ بحركة رتيبة،وكأن الأمر لا يعنيه كثيرًا،ثم قال بصوت هادئ،يخلو من أي حماسة:

“تنور طبعًا يا بابا.”

عاد الصمت ليخيم على الأجواء،وكأن العاصفة هدأت أخيرًا،أو ربما أخذت استراحة قبل أن تعود بقوة أكبر. انطفأت حدة النيران التي اشتعلت في العيون والأنفاس،لكن نيرانًا أخرى لم تهدأ…نيران يحيى الداخلية،التي لم تكن هذه المرة مجرد غضب عابر،بل كانت مزيجًا من الخذلان وجرح كبريائه.

لم يكن الأمر مجرد خلاف عابر بين أب وأبنائه،بل كان صفعة قاسية لصورته عن نفسه،تلك الصورة التي بناها على مدار سنوات،ليكتشف الآن أنها لم تكن سوى قشرة هشة،تهشمت أمام كلمات سامي وفيروز. حاول أن يبدو متماسكًا،أن يخفي احتراقه الداخلي،لكن أنفاسه المضطربة،واللمعة الحارقة في عينيه،فضحتا كل ما يحاول إنكاره.

أما سامي،فاكتفى بالنظر إليه للحظة،ثم التفت إلى فيروز وربت على كتفها،كأنما يخبرها أن المعركة انتهت،وأنه سيكون دائمًا بجانبها،مهما حدث…

__________________

_

بعد يومين…

مع اقتراب المساء،وبعد أن خفتت أشعة الشمس واستعدّت المنطقة لاحتضان ليلها،وقف موسى برفقة أصدقائه سامي وحسن تحت بناية الأول،حيث اتخذوا زاوية ينتظرون فيها قدوم كارم ومحسن، بصحبة المأذون الذي سيعقد قرانه أخيرًا.

أما حسين،فقد اختار الجلوس على كرسيّ قريب،مستندًا بيده على وجنته،زافرًا أنفاسه بملل،وكأنه يراقب المشهد بعين المتفرج لا الفاعل. في حين تسللت إلى آذانهم أصوات الزغاريد المتداخلة مع الأغاني الشعبية القادمة من الطابق الأول،حيث ستُقام المناسبة التي ستعلن عن بداية جديدة في حياة كل من موسى وفيروز.

بابتسامة صادقة وملامح مغمورة بالسعادة،ربت حسن على كتف موسى وقال بصوت مفعم بالفرح:

“ألف مبروك يا صاحبي،مبسوط لك من قلبي.”

رفع موسى بصره إليه،وابتسم امتنانًا قبل أن يرد بحماس يليق بسعادته:

“الله يبارك فيك يا حسن،وعقبالك.”

أومأ حسن برأسه مبتسمًا،وردّ بإخلاص:

“تسلم.”

التفت موسى إلى حسين،وتأمل ملامحه الجامدة قبل أن يهتف بمرح:

“وعقبالك أنتَ كمان يا سحس!”

انتبه حسين للنداء،فرفع يده بلا مبالاة ولوّح بها في الهواء،مكتفيًا بابتسامة واهنة،وكأن الأمر لا يعنيه كثيرًا. ضحك موسى على حاله،وعلى كسله حتى في الردّ،ثم أردف بخفة:

“يا أخي حتى في الإجابة كسلان!”

ضحك الجميع على تعليق موسى ذلك،وكأن اللحظة تحولت إلى مشهدٍ مألوف بين الأصدقاء،حيث تمتزج السخرية بالمحبة،والجدية بالمزاح. لكن سرعان ما هدأ سامي،واقترب من موسى،ثم رفع يده ليرتب ياقة قميصه الأسود بعناية،وكأنه يعدّه لمناسبة مقدسة،قبل أن يبتسم ابتسامة صغيرة تحمل خلفها سعادة عظيمة وقال بصوت هادئ:

“ألف مبروك يا صاحبي،أخيرًا اللي اتمنيته هيتحقق.”

نظر موسى إليه بمرح،ورفع حاجبه مازحًا:

“الله يبارك فيك يا سامي..بس التهنئة دي من قلبك؟!”

ضحك سامي بخفة،ثم هز رأسه قائلاً:

“من قلبي كصاحبك،بس كأخوها..فأنا متغاظ أوي!”

قهقه موسى وهتف بمكر:

“والله كنت حاسس!”

انفجر الجميع ضاحكين،لكن سرعان ما استعاد سامي جديته،ووضع يده على كتفيّ موسى،محاولًا ضبط مزاجه الحماسي وهو يوصيه بحزم:

“بص بقى،أنا عارف إنك متحمس وفرحان وكده،بس مش عايز فعل غبي منك بعد كتب الكتاب..يعني من الآخر،كبيرك تسلم عليها من بعيد لبعيد،مفيش أحضان ولا الكلام ده.”

زمّ موسى شفتيه بضيق مصطنع قبل أن يرد بخبثٍ:

“سامي!..عيب،تعرف عني كده برضه؟!”

أومأ له سامي سريعًا،مجيبًا بثقة:

“آه أعرف،وعلشان عارف إنك كده،مش واثق فيك بربع جنيه!”

ضحك موسى بقوة،وردّ مدعيًا الغضب:

“سامي!..عيب،ثق فيا يا صاحبي.”

أجابه سامي بتنهيدة تمثيلية:

“ماشي،هثق فيك يا صاحبي،وعالله تكسفني.”

ابتسم موسى بخبث،وأعاد الكلمة مجددًا:

“سامي..عيب.”

“والله مش قلقني غير كلمة ‘عيب’ اللي بتقولها دي!”

تصاعدت ضحكات الجميع،بينما اكتفى سامي بحكّ رأسه بيأس،مدركًا أن الجدال مع موسى لن يُجدي نفعًا. إلا أن اللحظة لم تدم طويلًا،إذ اخترق أجواءهم صوتٌ جهوري حمل البشارة:

“المأذون وصــل!”

كانت تلك كلمات محسن،الذي تقدم مع كارم برفقة المأذون،يعلن للجميع أن اللحظة المنتظرة قد حانت. وما إن سمع موسى تلك الجملة،حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة اتسعت بسعادة لا توصف،وكأن قلبه استبق عقله في إدراك أن حلمه بات قاب قوسين أو أدنى من التحقق.

ولكنه لم يكن وحده من شعر بذلك…

في الطابق الأول،كانت هي،متألقة في ثوبها الأبيض،تتقاسم معه المشاعر ذاتها. ومع وصول المأذون،هرعت إلى شرفة غرفتها برفقة دلال،لتطلّ على المشهد حيث تجمّع أصدقاؤه حوله،يصفّرون ويهتفون بحماسة وكأنهم يزفّونه إلى السماء.

نظرت إليه،فوجدته غارقًا في فرحته،يوزّع ابتساماته على الجميع،إلا أن هناك واحدة منها،كانت لها وحدها،حين أبصرها تقف. لتتلاقى الأعين للحظة،ويُوقن كلاهما..أن هذه البداية ستكون مختلفة.

___________________

“قبلت زواج موكلتك وكريمتك الآنسة ‘فيروز يحيى عبدالله الشافعي’ على كتاب الله وعلى سنة رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام،والله على ماأقوله وكيل”

“بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير..ألف مبروك”

تم الإنتهاء من عقد القران بهذه الكلمات،ليعلن بها مولانا عن زواج هذين الطائرين،الذي حلق كل منهما في السماء نحو الأخر،وأصبحت عيون كل منهما لاترى أمامها سوا الأخر.

استمعا للتهاني والزغاريط وصفير أصدقائه وتصفيق البعض أيضاً،استمعا لصوت الفرحة الكبيرة التي ملأت المكان،ولكن العيون وعقول لم تنشغل إلا بالطرف الأخر.

لم ينتظر هو طويلاً وتقدم نحوها،قبل أن يقترب منه أي حد ويمنعه عنها،اقترب منها مباشرة دون مقدمات ووقف علي مقربة منها وعيناه تقول الكثير والكثير من الكلمات.

اختفت جميع الأصوات وأصبحت كل العيون عليهما،تراقبهم وتترقب القادم منهما،ولكن كل ماحصلوا عليه كان مجرد صمت طال،واللغة المتبادلة بينهما كانت لغة العيون فقط.

نفذ صبر عمته سهير من هذا الصمت فهتفت بشغفٍ:

“هتفضلوا تبصوا لبعض كده،سلموا علي بعض يلا”

لم يقدم علي شئ،فبادرت هي ومدت يدها له علي استحياء لتصافحه،فطالع هو يدها لثواني ثم رفع نظره وطالعها من جديد،وفجأة وأمام أعين الجميع قام بحملها علي يديه،وهو يهتف بفرح غامر:

“أنا ماينفعش معايا سلامات”

اتسعت حدقتيها وضربته بخفة علي كتفه وهمست في أذنه بخجلٍ:

“نزلني ماينفعش كده”

“لا ينفع،ينفعني أنا ياروحي”

التفت للبقية ووزع نظراته عليهم،وراقب ردات فعلهم المختلفة،فمنهم من كان مصدوم كالكبار،ومنهم من كان سعيد ومسرور بالأمر كدلال وأصدقائه وأولاد وبنات عمومته وبالطبع جده،ومنهم من كان سينفجر من الغضب مثل يحيى وسامي

والذي كان يتطاير الشرر من عينيه نحوه ويتوعد له.

ورغم ذلك لم

يتأ

ثر بردات فعلهم تلك بل استمر في حملها وتقدم بها نحو الشرفة المطلة على الحي،تحت أنظارهم جميعاً،وقبل أن يولج بها التفت إليهم وقال بجرأة وببسمة استفزت بعضهم:

“ايه؟!،مراتي ماحدش ليه عندي حاجة”

أنهى جملته ودلف برفقتها للشرفة،وتقدم كارم نحوه سريعاً وأغلق الباب خلفهما،ثم التفت إلي البقية ونبس بدهاء:

“دي أوامره والله”

أما

في داخل الشرفة…

وقف في منتصف الشرفة ومازالت هي علي يديه،تضع كفيها علي وجهها الذي احمر من الخجل،فضحك هو على وضعها تلك ثم قال بمرحٍ:

“شيلي ايدك دي عايز أتامل جمالك”

همست بخجل طفولي وعنادٍ:

“مش هشيلها غير لما تنزلني،نزلني بقا علشان جرحك مايفتحش”

“سيبك من الجرح ده،وخليكي في جرح قلبي اللي بدوايه دلوقت”

رفعت يديها عن وجهها ثم طالعته وهو تقول بإحراجٍ:

“هدويه معاك،بس نزلني علشان خاطري”

ضحك بحبور

ثم اقترب بها من مقعد وضع في إحدي الزوايا،وقام بوضعها

عليه بحرص وشغف،ثم جلس أمامها وارتكز علي إحدي ركبتيه وعانق كفيها بيده،ثم رفع عينيه لتلتقي مع عينيها اللامعة وقال بصوت يغمره الفرح:

“دي أول مرة أمسك ايدك فيها بعد سنين طويلة،أخر مرة مسكتها وأنا بهرب بيكي واحنا بنلعب استخماية (الغميضة) واحنا صغيرين،وعلشان كبرنا بعدها مابقاش ينفع،والنهاردة وبعد السنين ده كلها بقا ينفع عادي،بعد انتظار سنين..سنين طويلة أوي،أخيراً جات اللحظة دي وبقيت أقدر أمسكها،بقيت أقدر أحضنك وأخدك بين ضلوعي،بقيت أقدر أشيلك زي ماعملت كده من شوية ومحدش يقدر يمنعني،علشان بقيتِ حلالي،بقيتِ مراتي وكل حياتي..،تعرفي إني يوم ماروحت جبتك من المطار أنتِ وعمي يحيى،وإني أول ماشوفتك كان نفسي أخدك حضن مطارات،وأشيلك وأهرب بيكِ بعيد،بس طبعاً ماكنش ينفع،فاكتفيت بس إن عينيا تحضنك وقلبي يشيلك جواه زي ماشالك كل السنين دي،وزي ماهيشيلك كل السنين الجايه”

تراقص قلبها عند سماعه لتلك الكلمات،بينما هي ابتسمت علي استحياء ثم نبست بصوت متهدج:

“أنا كمان كنت مستنية اليوم ده من زمان،وكنت بتخيله كمان على طول،بس طلع أحلى مما كنت متخيلاه بكتير،والسبب أنتَ..،علشان أنا عمري ماجه في بالي إنك بتحبني بالشكل ده،ماتخيلتش إن حبك ليا هيبقى كبير أوي كده،لدرجة إنه يخليني أقع في حبك أكتر،ويخليني أذوب فيك أكتر وأكتر”

ابتسم بفرح عميق وقال بمرحٍ وبقلب يرقص فرحاً:

“وأنا ذايب فيكِ من زمان،وقلبي يشهد إن حبي ليكِ مايسعوش مكان،ممكن حضن بقا للعبد الغلبان”

ضحكت ببهجة،ورغم خجلها الذي ازداد أومأت له بالإيجاب،فوقف كلاهما ثم فتح ذراعيها لها،وتلقّاها بين أضلاعه،وشدد عناقه لها وهو يتلذذ شعور الراحة الذي اجتاح قلبه في هذه اللحظة،ثم قال بفرحة لاتوصف:

“قلبي مفتوح لك من زمان،وحضني مفتوح لِك من الأن،بحبك ياأغلى الغاليين”

رفعت رأسها وطالعته بأعين تشع سعادة،وهي لاتزال تقبع بين أحضانه،وقالت بإبتسامة مشرقة وصوت ينبض بالفرح:

“وأنا كمان بحبك ياأسير القلب والعين”

تلاقت أعينهما في صمت،كأن الزمن توقف ليمنحهما لحظة خالدة لا تُنسى. تبادلوا النظرات التي حملت بين طياتها مزيجًا فريدًا من السعادة الغامرة،والحب الصادق،والشجن العذب الذي يروي حكاية انتظار طويل. استسلما لتلك اللحظة بمعنى الكلمة،تاركين للعالم أن يغيب من حولهما،فلم يكن هناك شيء يضاهي سعادة تلك اللحظة التي أصبحت بلا شك الأجمل في حياتهما.

في الخارج…

كانت المكان يعجّ بالتهاني والمباركات،غير أن أغلب الحاضرين لم يكن تركيزهم منصبًا على الأحاديث المتبادلة،بل على ذلك الباب المغلق،وكأن أعينهم تحاول اختراقه،متلهفة لمعرفة ما يجري خلفه.

وسط هذا الترقب،انطلق صوت يحيى بنبرة متضايقة،موجّهًا كلماته نحو الحاج محمد:

“لمؤاخذة يا حاج محمد،بس حفيدك مترباش!”

لم يبدُ على محمد أي تأثر،بل تمسك بعكازه ونظر بثبات إلى الأمام،ثم أجاب بصوت هادئ لكنه جازم:

“عارف..أصله طالع لي.”

كانت كلماته تحمل مزيجًا من الصراحة الجارحة والسخرية التي لم يستوعبها البعض على الفور،لكنها بالنسبة له لم تكن سوى حقيقة أدركها مؤخرًا. لطالما اعتقد أن لا أحد من أبنائه أو أحفاده يشبهه في الطباع،لكن تقرّبه من حفيده في الفترة الأخيرة جعله يرى الأمر بوضوح؛أنه يشبهه..ويشبهه أكثر مما تخيل.

ساد الصمت للحظات،وتبعه نظرات مدهوشة صوب الحاج محمد،وكأن الحاضرين لم يستوعبوا ما سمعوه للتو. لكن قبل أن تتعمق الصدمة،اخترق الأجواء صوت خطوات واثقة،تبعها دخول محسن،ممسكًا بمكبر صوت كبير،ليجذب إليه انتباه الجميع وهو يتجه صوب الباب المغلق.

وقف أمامه،ثم طرقه بخفة قبل أن يهتف بصوت مرح:

“طلبك وصل يا صاحبي.”

لم تمر سوى ثوانٍ حتى انفتح الباب،ليظهر موسى مبتسمًا بمكر،يمد يده ليلتقط المكبر، قبل أن يغمز له بعبث قائلاً:

“تشكر يا غالي.”

وَلَجَ إلى الداخل مجددًا،لكن هذه المرة ترك الباب مفتوحًا خلفه،التفتت إليه جميع الأعين وهو يقترب منها بخطوات ثابتة وواثقة،وكأن اللحظة خُلقت من أجلهما فقط.

دون تردد،أمسك بيدها برفق،وأشار لها بأن تتحرك معه. ورغم أن الموقف بدا غريبًا ومباغتًا لها،وجدت نفسها تسير إلى جانبه بلا مقاومة،كما لو أن قدميها تحركتا استجابة لنداء غير مرئي.

وقفا بالقرب من السور،لتصبح المنطقة أمام عيونهم بوضوح،وهناك،رفع مكبر الصوت عاليًا،ثم صدح صوته الجهوري،يطغى عليه الفرح:

“يا مساء الخير على أحلى منطقة…أحب أعلن لكم بنفسي عن أحلى خبر هتسمعوه الليلة دي!”

نظر إليها نظرة عاشق متيم،بينما رفعت يدها إلى وجهها،تحاول إخفاء خجلها الذي ازداد حين أدركت ما هو على وشك فعله. لكنه لم يتوقف،بل تابع بحماس،كأنه أراد أن يُسمع الكون بأسره:

“الليلة دي،والساعة دي،اتكتب كتابنا…موسى داوود عمران،وفيروز يحيى الشافعي،كتبوا كتابهم!”

توقف للحظة،ثم كرر بحماسة أكبر،وكأنه يريد أن يصل الخبر إلى أبعد مدى:

“بكرر تاني،الحاضر يعلم الغايب…موسى داوود عمران كتب كتابه على فيروز يحيى الشافعي!”

وصلت كلماته تلك إلى الداخل،فكان وقعها مختلفًا على كل من سمعها…

ضحكات عائلته وأصدقائه تعالت،حتى سامي نفسه لم يستطع كتم ابتسامته.

على النقيض،ازداد غيظ يحيى،وكأن الكلمات كانت نيرانًا صبّت على قلبه.

أما هو…فقد ظل يطالعها بشجن،وكأنها الشيء الوحيد الذي يراه في هذا العالم. تنهد بعمق،ثم همس بحب:

“بُصيلي…”

ببطء،أبعدت كفيها عن وجهها،لترفع عينيها المرتبكة،المغمورة بالخجل،حتى التقت بعينيه العاشقتين. لم يكن في نظرته سوى الحب،ذلك الحب الذي نطق به حين قال بصوت خافت، مليء بالشجن:

“كنتِ نجمة بعيدة تضيء ظلام أحلامي،واليوم أصبحتِ شمسي التي تدفئ واقعي…فيكِ اجتمعت أعذب أمانيَّ وأعظم انتصاراتي.”

كانت كلماته دفئًا احتوى قلبها، وسحرًا نسج حولها واقعًا أجمل من الأحلام. ومعها، تأكد لها وله…أنه قد تحقق الحُلم.

#يتبع…

__________________

_

كتابة/أمل بشر.

أطول فصل في الرواية لحد دلوقتي،فاعايزة تفاعل حلو عليه فضلاً،وكومنت برأيكم كده ياحلوين.

وأتمنى بجد تساعدوني في الترويج للرواية،لو شايفنها فعلاً حلوة،ياريت تروجوا ليها،ولو بسكرين صغير حتى.

وبس كده…

دمتم بخير…سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق