رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثامن والعشرون
الفصل الثامن والعشرون(مفاجأة للجميع)
“فرح من نحب هو النور الذي يضيء أرواحنا،فنحن لا نفرح بهم فقط،بل نفرح لهم وكأن سعادتهم تسري فينا.”
________________
“أنا موسى داود عمران،والمشهور بــMF،سبق وعرفتوا الموضوع ده طبعاً من المقالة اللي نزلت..،ودلوقت أنا طالع علشان أأكده”
سكت لبرهة ثم تنهد وتابع بنفس النبرة الهادئة المتزنة:
“بصراحة أنا اترددت كتير قبل ماأطلع قدامكم واعترف علناً بده،بس كان في أسباب كتير خلتني أعمل كده،وأهمهم إن مش عايز أسرار في حياتي تاني،عايز تبقى كل حاجة مكشوفة،علشان مااشغلش بالي بقا بكل واحد بيحفر ورايا وعايز يكشفني..،كده ببساطة اتأكدوا من المقالة وفي نفس الوقت عرفتوا هويتي الحقيقة،علشان الصفحات اللي اتفتحت أخر فترة بإسمي على أنهم أنا،لأ،دول مش أنا ياجماعة،أنا ليا أكونت واحد بس على كل مواقع التواصل،فيس،انستا..اكس وغيره،أكونت واحد بس باسم موسى عمران،ومعنديش اي صفحات باسمي نهائياً،الصفحات الموجودة باسم MF واللي حضراتكم عارفينها”
أخرج زفيراً هادئاً ثم نزع قبعته ومسح على خصلات شعره،قبل أن يعيدها مجدداً على رأسه ويقول بثباتٍ لاشك فيه:
“نيجي بقا لنقطة مهمة جداً ضروري أوضحها،وهي ليه خبيت هويتي من البداية؟؟ بصراحة في سببين،أحدهم شخصي وهستأذنكم إني هتحفظ بيه لوحدي،أما السبب التاني بقا هو marketing،الترويج،أنا أستغليت فكرة إني مش عايز أظهر باسمي الحقيقي علشان أسبابي الشخصية،وقررت إني استخدم اسم مستعار أو لقب مُلفت،بإختصار استغل الغموض على شخصيتي للترويج لشغلي وصفحتي،ومش هنكر طبعاً إن الغموض ده كان ليه عامل مؤثر في الشهرة اللي حققتها،بس برضه مش هنكر إني اشتغلت أوي على نفسي علشان أوصل لهنا،ومش لوحدي أنا وأصدقائي،اشتغلنا وتعبنا أوي علشان نحقق كل ده،احنا أول مابدأنا كان هما بس ٦ متابعين للصفحة واللي هما أنا وأصحابي الخمسة،شوية شوية بدأوا يزيدوا أكتر فى أكتر،لحد في آخر ٣ سنين تحديداً زاودا بطريقة تخض،وده بسبب إني حققت شهرة كبيرة وقتها بسبب إعلان لمنتج عملته لشركة**** المعروفة طبعاً،واللي أقدر أقول إنه كان بداية لنقلة تاني خالص،وحققلي نجاح ماتوقعتوش نهائياُ،بس في النهاية كل اللي وصلتله يرجع لفضل ربنا وكرمه وتوقفيه ليا ولصحابي،اللي عمري ماأقدر أنكر فضلهم ولا تعبهم معايا،واللي النجاح ده من حقهم زي ماهو من حقي”
سكت للحظة وابتلع ريقه ثم أخرج زفرة هادئة ورفع رأسه قليلاً،وتابع بصوت هادئ لكنه قاطع:
“كده أنا وضحت كل حاجة تقريباً
…
وبخصوص إذا أنا هكمل ولا لأ؟؟ فأنا هكمل،هكمل مع صحابي زي مابدأت،وشغلنا مستمر ومش هنقف…وبس،السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”
وبهذه الكلمات انتهى الفيديو وتوقفت الشاشة على وجهه في الثانية الأخيرة،فالتفت موسى حينها بنصف جسده ووزع نظراته على أصدقائه الذين وقفوا حوله كدائرة شبه مكتملة لمشاهدة هذا الفيديو الذي سبق وتم تسجيله
.
“ها،نتوكل على الله ونذيع؟؟”
سادت لحظة من الصمت،لكنها لم تكن خالية من المعاني،بل كانت محمّلة بثقل القرار الذي على وشك أن يُتخذ. تبادل الخمسة النظرات فيما بينهم،وكأنهم يبحثون في أعين بعضهم عن يقين أخير،عن إجابة غير منطوقة،قبل أن يتحول نظرهم إليه مجددًا.
لم يحتج الأمر إلى كلمات،فقط إيماءات هادئة وابتسامات مطمئنة كانت كافية لإيصال الموافقة.
عندها،تنهد سامي بخفة ثم وضع يده على كتف موسى،وقال بصوت ثابت:
“اتوكل على الله يا صاحبي.”
أومأ موسى بإيجاب ثم عاد للحاسوب،ووضع أصابعه على لوحة المفاتيح،ضغط بضعة أزرار،وبعد لحظات قليلة،رفع يده وأعلن بصوت هادئ لكنه حاسم:
“تم،كده إحنا عملنا اللي علينا،والباقي بقى على ربنا.”
هز الجميع رؤوسهم بالموافقة،وارتسمت على وجوههم ابتسامات هادئة،مزيج من الرضا والتوتر والترقب لما هو قادم. وقف موسى عن مقعده،وأغلق الجهاز،ثم التفت إليهم،ناظراً إليهم واحدًا تلو الآخر،وكأنه يطمئن على مشاعرهم بعد هذا القرار الحاسم.
لكن نظره توقف عند
حسين
،الذي كان يستند على شقيقه
محسن
،جفونه شبه مغلقة،وكأن النوم قد استولى عليه بالفعل.
لم تمر سوى لحظة حتى صدح صوته الكسول،وهو يتمتم متذمرًا:
“يلا بقى،خلينا نروح ننام…إحنا صاحيين من الفجر علشان خاطر الفيديو ده.”
تحرك بخطوات متثاقلة نحو الباب،لكنه لم يكد يخطو أكثر من خطوتين حتى شعر بقبضة تحكم ذراعه،التفت ليجد محسن ممسكًا به،وعيناه تلمعان بمكر وهو يقول بنبرة ساخرة:
“نوم إيه يا غالي؟ إحنا عندنا شغل لسه.”
تأوه حسين بضيق وهو يحاول التملص:
“مش رايح…أنا عايز أنام.”
تدخل حسن في الجدال بقولت الرتيب:
“لا،هتروح…ولا أنت عايز يتخصم من مرتبك وخلاص؟ أنت كده كده أصلًا لابس ياحسين!”
زمّ حسين شفتيه في امتعاض،ثم زفر باستسلام،مدركًا أنه لن يربح هذه المعركة طالما أنها ضد أشقائه. ابتسم الجميع لهذا المشهد المعتاد،بينما أخرج
سامي
زفرة هادئة وقال بنبرة عملية:
“يلا بقى،كل واحد على شغله،ونتجمع بعد المغرب هنا إن شاء الله نشوف إيه الدنيا،يكون كل واحد فينا خلّص اللي وراه.”
نظر إليه
كارم
مستفسرًا:
“مش أنت واخد إجازة من الشغل النهاردة؟”
أومأ سامي بالإيجاب وهو يرد:
“أيوه، علشان جلسة المحكمة.”
تذكر كارم الأمر فهتف:
“آه…صح،النهاردة أول جلسة،ربنا معاكم،خير بإذن الله.”
ابتسم سامي بإيماءة شاكرة،ثم قال:
“إن شاء الله،يلا بقى علشان متتأخروش. وأنا كمان هروح أخد
فيروز
ونروح نشوف السمسار علشان نشوف مكان مناسب للعيادة،وبعدين هرجع أخد
ليلى
ونطلع على المحكمة.”
ابتسم
موسى
بسمة مبهمة،ثم أسرع يقول بمكر:
“وليه التعب ده كله يا صاحبي وأنا موجود؟ مهو أنا ممكن أخد
فيروز
ونروح نشوف السمسار،أنت خليك مع مراتك علشان متتأخروش على موعد الجلسة.”
نظر إليه سامي بنظرة متشككة ورد بثقة:
“لا ما تخفش،أنا مظبط مواعيدي كويس.”
لم يتراجع موسى بسهولة،فهز رأسه قائلاً بلهجة مقنعة:
“صدقني مفيش حاجة مضمونة،ممكن يحصل حاجة تعطلك وتخليك تتأخر على مراتك. فمن الأحسن تخليك أنت،وأنا هروح مع
فيروز
،وبعدين أنا مش غريب…أنا جوزها.”
توقف سامي للحظة وضحك بيأس،لإدراكه أن موسى لن يتركه بحاله. استغل الأخير صمته سريعًا وابتسم بمكر:
“السكوت علامة الرضا،يبقى أنا اللي هروح معاها.”
انتبه سامي لما يفعله صديقه،فانتفض معترضًا:
“سكوت إيه؟! أنا موافقتش يا غِتِت!”
ضحك موسى،ثم ربت على كتف صديقه بدهاء،قائلًا بنبرة واثقة:
“لا،موافق من جواك بس عايز تعند معايا،أنا حاسس بيك.”
نظر إلى البقية،وبدل أن يعطي سامي فرصة للرد،أسرع في تغيير مجرى الحديث،قائلاً ببسمة سعيدة غامضة:
“وبعدين،أصلاً أنا عايز أوريكم حاجة مهمة قبل ما تروحوا الشغل…مفاجأة حلوة أوي!”
طالعته العيون بفضول،فيما تبادل الجميع النظرات بينهم،يتساءلون عن ماهية هذه
المفاجأة
التي يتحدث عنها بهذه النبرة المليئة بالحماس والدهاء.
.
.
.
وقف
الستة
في صف واحد أمام باب حديدي موصد بإحكام،نظراتهم تتأرجح بين الفضول والريبة،جميعهم يجهلون ما يختبئ خلفه…
ما عدا واحدًا فقط.
بخطوات ثابتة،تقدم
موسى
للأمام،أخرج مفتاحًا من جيب بنطاله،وأدخله في القفل،حركه بحركة سلسة وواثقة،ثم رفع الباب للأعلى بكلا ذراعيه،صوت الحديد وهو يتحرك هو من كسر صمت اللحظة.
تسلل الضوء تدريجيًا إلى الداخل،كاشفًا عن مكنون هذا المكان الغامض،ومع كل لحظة تمر،كان المشهد يتضح أكثر،حتى أصبح مرئيًا بالكامل.
في اللحظة التالية،تجمد
الخمسة
في أماكنهم.
اتسعت أعينهم بصدمة،وانقبضت ملامحهم بين الدهشة وعدم التصديق،بينما ظل
موسى
واقفًا أمامهم،عيناه تراقب ردود أفعالهم بترقب،وتلك
البسمة الغامضة
ما زالت مرتسمة على ثغره،وكأنه كان يعلم تمامًا التأثير الذي ستتركه
مفاجأته
عليهم.
___________________
وقفت أمام المرآة،تتأمل انعكاسها بعينين متفحصتين،كأنها تحاول طمأنة نفسها أن كل شيء يبدو كما يجب. أصابعها الرقيقة مرّت برفق على حواف حجابها،تعدّل طياته الأخيرة بإتقان،ثم سحبت طرفه قليلًا ليجلس بانسيابية فوق كتفيها. أخذت نفسًا عميقًا، ثم استقامت بجسدها،وربّتت على قماش سترتها البيضاء برفق،تمسح أي تجعّد قد يكون تسلل إليها. كانت إطلالتها بسيطة،مزيجًا من الأسود والأبيض،لكن رغم بساطتها،كان لها هيبة خاصة،كأنها تفرض هالة من الوقار والاتزان من دون تكلف.
لم يكد يهدأ صوت أنفاسها حتى ترددت طرقات خفيفة على باب غرفتها،تبعتها مباشرةً
حركة مقبض الباب وصوت والدتها الدافئ:
“أدخل؟”
امتثلت نادية لطلب ابنتها واقتربت منها،فاتحةً ذراعيها بحنان لا حدود له. ما إن رأت فيروز تلك الدعوة الصامتة حتى أشرقت ابتسامتها،وتقدّمت نحو والدتها لتعانقها عناقًا طويلًا،حينها شعرت بأصابع والدتها الناعمة وهي تمسح على رأسها من الخلف،بحركات بطيئة تبث الطمأنينة في قلبها،قبل أن تسمع صوتها الدافئ يهمس بمزاح:
“طالعة زي القمر،وأحلى منه كمان،أحدهم لو شافك هيغمى عليه!”
ضحكت فيروز بخفة،لكن سرعان ما خفضت رأسها في خجل واضح،كأن كلمات والدتها أشعلت وجنتيها بلون الورود. لاحظت نادية ذلك فورًا،فعقدت حاجبيها قليلًا وسألتها سريعًا:
“فيه إيه؟ مالك؟”
رفعت فيروز رأسها إليها،وابتسامة هادئة تزيّن شفتيها،قبل أن تهمس بصوت يحمل مزيجًا من الدهشة والفرحة:
“مش عارفة…حاسة بشعور غريب أوي،ممكن علشان دي أول مرة أخرج فيها من البيت وأنا…”
توقفت لحظة،ثم رفعت يدها ببطء،لتري والدتها الخاتم الذي يزين إصبعها،وأكملت بابتسامة واسعة:
“وأنا متجوزة.”
راقبت نادية ابنتها بلطف،تقرأ في ملامحها الصغيرة كل الأحاسيس المتداخلة التي تعتريها في هذه اللحظة،ثم سألتها بحنان:
“طب فرحانة ولا…؟”
لم تتردد فيروز في الرد،بل قفزت الكلمات من قلبها مباشرةً:
“فرحانة طبعًا! فرحانة ومتحمسة وحاسة إنّي بعيش أجمل أيام حياتي…،الحقيقة من أول ما رجعت وأنا بعيش أجمل أيام حياتي.”
تقدّمت نادية نحوها بخطوات دافئة،واحتضنت وجهها بكفيها،تنظر في عينيها نظرة أمّ ترى العالم كله في ملامح ابنتها،ثم همست لها بحنو يغمر القلب:
“ربنا يجعل كل أيام حياتك حلوة وجميلة زيّك كده يا حبيبتي ويسعدك،ويجعل الابتسامة ما تفارقش وشك أبدًا يا روحي.”
كانت كلمات نادية كالدعاء،كتمنٍّ صادق يخرج من قلب أم لا تريد لابنتها سوى الخير،وكأنها تسكب في تلك اللحظة كل أمانيها الصافية في روح فيروز،تغلفها بحنانها وتحميها من أي مكروه قد يعترض طريقها. شعرت فيروز أن هذه اللحظة،بكل ما تحمله من دفء وحب،تضيف إلى قلبها سعادة لم تعهدها من قبل،كأنها تخبرها بأن هذه الحياة،مهما حملت من تغيّرات،ستظل جميلة ما دامت أمها بجوارها،تبارك خطواتها وتملأ عالمها بالدعوات الصادقة.
لكن هذا السكون الدافئ لم يدم طويلًا…
في لحظة،مزق الأجواء صوت بوق سيارة مرتفع،يخترق الآذان بإزعاج لا يطاق،يصرّ بلا انقطاع كأنه يعلن عن وجوده بطريقة فجة ومستفزة. التفتت كلتاهما نحو الشرفة تلقائيًا،وكأن الصوت شدّهما بقوة لا إرادية،بينما ارتسمت على ملامح نادية علامات الضيق والانزعاج،قبل أن تعلّق بنبرة مستاءة:
“مين قليل الأدب اللي شغال يزمر ده؟!”
لم تنتظر إجابة،بل تحركت بسرعة نحو الشرفة،والغضب يتنامى في ملامحها. لم تكن فقط تريد معرفة هوية هذا المزعج،بل كانت عازمة على تلقينه درسًا في احترام راحة الآخرين. تبعتها فيروز على الفور،بفضول لم تستطع كبحه،لكنها لم تكن الوحيدة التي استجابت لهذا الإزعاج؛فقد بدأت النوافذ تُفتح،والشرفات تمتلئ بالسكان،وجوهٌ تحمل تعبيرات مختلفة من الضيق والتساؤل،جميعهم مدفوعون برغبة واحدة: معرفة من هو هذا الشخص الذي قرر أن يحوّل لحظة هدوئهم إلى فوضى صاخبة.
وفي تلك اللحظة،بدا الحي بأكمله وكأنه استيقظ دفعة واحدة،عيون متطلعة،همهمات مستاءة،وحالة من الترقب لمعرفة السبب وراء كل هذا الإزعاج…وبالطبع لم يكن سواه.
كان هو،واقفًا بجوار سيارة سوداء لامعة،مظهرها الجديد يشير إلى أنها لم تُمَسّ بالكثير بعد. يستند على مرآتها الجانبية بارتخاء،كأنه جزءٌ منها،وكأن هذا المكان ملكه وحده. لم يكن يبالي بالصخب الذي أحدثه، لا بنظرات الاستياء التي انهالت عليه من كل حدبٍ وصوب،لم يكن يعير أي اهتمامٍ لأولئك الواقفين في النوافذ،ولا حتى لنظرات
يحيى
و
سامي
اللتين تحيطان به باستنكار واضح.
كان كل تركيزه منصبًا على شخص واحد فقط..
هي.
تلك التي وقفت بجوار والدتها هناك في الشرفة،عيناها متسعتان بدهشة لا تصدّق،وكأنها تشكك في حقيقة ما تراه. هل هو حقًا واقف هناك؟ هل هذا المشهد الذي تشهده عيناها حقيقي أم مجرد وهمٍ لا أكثر؟
لكن الشكوك تبددت تمامًا حين رأته يرفع يده بلا تردد،مشيرًا إليها بالنزول،بينما صوته القوي والواثق يخترق الضجيج حولهما:
“يلا علشان نروح مشوارنا،يا زوجتي!!”
في تلك اللحظة،ضحكت
نادية
بحبور، واضعةً يدها على وجهها،وهي تهزّ رأسها بقلة حيلة، بينما فيروز،التي لم تستطع إخفاء سعادتها،تركت شفتيها تنفرجان عن ابتسامة مشرقة.
زوجتي
،ترددت الكلمة في عقلها،مملوءةً برنين خاص،فهي في النهاية تسمعها للمرة الأولى.
لم تتردد طويلًا،فما إن استوعبت كلماته حتى تحركت بخفة،ممتثلةً لطلبه،وانطلقت نحوه دون أن تنظر خلفها.
أما هو،فما إن اختفت عن أنظاره حتى استقام بجسده،معدّلًا وضع ثيابه بحركة لا إرادية،كأنه يستعد لمواجهة العالم من جديد. لكن هذا الاستعداد لم يدم طويلًا،فقد باغته صوتٌ ساخر،مشحون بالحنق،يأتي من الخلف:
“بجد برافو عليك،فضحتنا في المنطقة!”
كان ذلك صوت سامي،الذي لم يكن قادرًا على تصديق ما فعله موسى لتوّه،حين استغل نزول من السيارة و وبدأ بفعل تلك الاصوات.
ابتسم الأخير ابتسامة واسعة،ثم رفع رأسه أخيرًا ليتأمل المشهد الذي صنعه بنفسه.
كل النوافذ والشرفات كانت ممتلئة بالناس،بعضهم ينظر بفضول،البعض الآخر بذهول،وكثيرون منهم لم يقرروا بعد إن كانوا سينزعجون من فوضويته أم سيضحكون على جرأته. لكن عيناه توقفتا عند وجه مألوف،مألوف جدًا.
جده
،كان يجلس في شرفته،ينظر إليه،لكن لم تكن هناك أي علامة غضب أو استياء…لا،على العكس تمامًا،كانت هناك
ابتسامة غريبة،سعيدة.
رفع موسى رأسه قليلًا،ليتنقل بنظره إلى أعلى،فوجد عمه
أحمد
وزوجته يحدّقانه بدهشة،رفع رأسه مرة أخرى،فوقع بصره على عمه
محمود
وزوجتيه الاثنتين،ثم على
مصطفى
الذي بدا وكأنه لا يعرف ما إذا كان عليه أن يضحك أو يختبئ من الإحراج،وأخيرًا وصل نظره إلى الأعلى تمامًا،حيث وقف والداه.
كان والده صامتًا،عيناه تتابعانه بتأمل غامض وببسمة هادئة،أما والدته،فقد رفعت يدها إلى فمها،كأنها تحاول أن تمنع ضحكة كانت على وشك الإفلات.
في تلك اللحظة،لم يستطع منع نفسه من الابتسام،لكن ابتسامته جاءت أقرب إلى
البلاهة
منها إلى الثقة المعتادة التي يحملها دائمًا. رفع يده ولوّح لهم جميعًا،قبل أن يقول ببرود،وكأنه لم يكن قبل لحظات
مصدر الفوضى الأكبر في المنطقة كلها
:
“صباح الخير،يا عيلتي الجميلة!”
ساد الصمت للحظة. ثم،فجأة،انطلقت ضحكة عالية،صاخبة،صافية،لم يكن من الواضح من أين جاءت أولًا،لكنها كانت كافية لجعل الجميع يضحك أخيرًا،وكأن التوتر الذي خلّفه موسى قد تبخر في الهواء.
ضحك موسى هو الآخر،وهو يوزع نظراته على أفراد عائلته الذين لم يتوقفوا عن تأمله وكأنه معجزة حية،وكأنه ليس نفس الشاب الذي يعرفونه. كان المشهد مضحكًا بحق،خاصةً حين بدأت أصوات الضحك تتلاشى شيئًا فشيئًا،وبدأ الناس يعودون إلى منازلهم،كلٌّ يستكمل يومه وكأن شيئًا لم يكن. بقي فقط أفراد عائلته المقربين،إضافة إلى نادية ويحيى،الذين ظلوا في أماكنهم وكأنهم لم ينتهوا بعد من استيعاب هذا المشهد الغريب.
في تلك اللحظة،صدح صوت والدته
بسخرية لاذعة
:
“لو كان واحد قالي زمان إن ابني موسى هيجيب عربية،كنت فورًا اتصلت له بالعباسية!”
لم يستطع موسى تمالك نفسه،فانفجر ضاحكًا،ضحكة عالية،بلا أي تحفظ. ثم رفع يده،ووضعها على صدره بتمثيل درامي،قائلًا بمبالغة مفتعلة:
“تسلمي يا ست الكل على ثقتك الغالية! بس أهو…اللي كان مستحيل اتحقق!”
أجابته والدته بنظرة محملة بالسعادة،ثم حركت رأسها بقلة حيلة،وكأنها لا تزال تحاول التأقلم مع فكرة أن موسى قد امتلك سيارة فعلًا.
أما هو،انتقل بنظراته إلى والده،متفحصًا ملامحه التي لم تفصح عن الكثير،باستثناء ابتسامة هادئة،صافية،ظلّت ثابتة على وجهه.
وضع موسى يده على سطح السيارة،ثم سأل والده بصوت يحمل شيئًا من الترقب:
“إيه رأيك يا بابا؟”
لم يتأخر الرد،جاء صوت
داوود
ثابتًا،واثقًا،يحمل في طياته الكثير مما لا يُقال بالكلمات:
“تستاهلها يا روح أبوك.”
كلمات قليلة،لكنها حملت في داخلها كل شيء. كل فخر،كل حب،كل اعتراف ضمني بأن ابنه قد كبر فعلًا،وأصبح رجلًا يعتمد على نفسه.
ضحك موسى،ضحكة مختلفة هذه المرة،ضحكة
مليئة بالسعادة الحقيقية.
لم يكن هذا مجرد إنجاز بسيط بالنسبة له،بل كان لحظة تثبت أنه استطاع،بطريقته الخاصة،أن يحقق شيئًا كان في نظر الكثيرين مستحيلًا.
مرر نظره سريعًا على بقية أفراد عائلته،يراقب تعابيرهم،يستمتع بكل نظرة دهشة،بكل ابتسامة،بكل تعبير غير مصدّق. وأخيرًا،توقفت عيناه عند جده.
ذلك الرجل الذي لم يقل شيئًا حتى الآن،لكنه كان ينظر إليه
بنظرة مطولة،مفعمة بالرضا،يتخللها شيء من الفخر.
بادله موسى الابتسامة،مع نظرة صامتة لكنها كانت تحمل ألف معنى،كأنهما يتحدثان بلغة لا يسمعها سواهما.
ثم ببطء،استدار بجسده،
ليجدها أمامه.
..واقفة هناك،على بعد خطوات منه،تنظر إليه
بعيون تحمل مزيجًا من الدهشة والفرحة.
اتسعت ابتسامة موسى تدريجيًا،وكأن السعادة تتسلل إلى ملامحه ببطء لكنها تترسخ فيها بقوة. رفع يده وأشار نحو السيارة،قبل أن يغمز لها بمشاكسة واضحة،مرددًا بنبرة واثقة:
“إيه رأيك في المفاجأة؟!”
لم تكن فيروز بحاجة إلى النظر إلى السيارة،فكل دهشتها كانت موجهة نحوه،نحو تلك الطريقة التي يظهر بها دائمًا وكأنه يحمل للعالم مفاجآت لا تنتهي.
اقتربت منه،وثبتت عينيها عليه،ثم ردّت ببسمة مشرقة،هادئة،لكنها تحمل في طياتها فرحًا لا يمكن إخفاؤه:
“هتبطل تفاجأني إمتى؟!”
ضحك موسى بخفة،وكأنه استمتع بالسؤال،ثم هزّ رأسه،وأجاب بثقة،وكأنه يعدها بوعد غير قابل للكسر:
“مش هبطل…،طول ما فيا النفس،في مفاجآت،وكل واحدة أحلى من اللي قبلها.”
ضحكت فيروز،ضحكة خفيفة،سعيدة،امتزجت ببعض الخجل الذي لم تستطع إخفاءه،بينما هو كان يستمتع بكل رد فعل يصدر منها،وكأنه يحفظها عن ظهر قلب لكنه لا يزال ينبهر بها في كل مرة.
لم يمهلها وقتًا طويلًا،بل أضاف بنبرة مشاكسة:
“يلا بقى،ما قولتليش…إيه رأيك فيها؟!”
هذه المرة لم ترد مباشرة. رفعت يدها قليلًا،وأشارت له أن يقترب منها. لم يتردد لحظة واحدة،واقترب كما أرادت،ليجدها تقترب منه بدورها،تهمس في أذنه بصوت خافت،لكنه وصل إليه كأجمل اعتراف قد يسمعه في حياته:
“حلوة…بس وجودك في حياتي أحلى.”
توقف الزمن للحظة.للحظة واحدة فقط،كأن العالم كله تجمّد عند تلك الكلمات. شعر موسى وكأن قلبه توقف عن النبض لجزء من الثانية،قبل أن يعود للخفقان بقوة،بقوة لم يختبرها من قبل.
ابتعدت عنه قليلاً، كنها كانت لا تزال قريبة بما يكفي ليشعر بحرارة وجودها،لترى في عينيه ذلك البريق المختلف،وكأن كلماتها كانت أكثر من مجرد رد،وكأنها
أحدثت بداخله زلزالًا لم يكن مستعدًا له.
أما هو،فلم يجد ما يرد به سوى أن يبتسم…ابتسامة واسعة،مليئة بالامتنان،ثم همس بصوت بالكاد يُسمع:
“يا وجع قلبي!”
رفرف بأهدابه للحظة،محاولًا استيعاب وقع كلماتها عليه،ثم ابتلع ريقه بسرعة والتفت نحو
سامي
،محاولًا الهروب من تأثيرها عليه. رفع حاجبه وقال بنبرة واثقة،لكنه لم ينجُ من أثر الخدر الذي خلفته كلمتها:
“أشوفك بعدين…أو بعد سنة،أنا هاخدها وأمشي! يلا سلام”
ضحك سامي بيأس،كأنه فقد الأمل في التعامل مع تصرفات صديقه،ثم حرّك رأسه بقلة حيلة،بينما الأخير لم يضيع المزيد من الوقت. تحرك بخفة وفتح باب السيارة لها،مال بجسده قليلًا وأشار لها بالدخول،مرددًا بنبرة ناعمة،أقرب إلى الهمس:
“يلا يا زوجتي.”
ضحكت
فيروز
بخفة،وكأن كلماته اخترقت قلبها دون استئذان،ثم تقدمت بخطوات رشيقة نحو السيارة،وصعدت إلى داخلها. وما إن استقرت حتى أغلق الباب سريعًا،كأنما يخشى أن يخطفها منه شيء.
دون تردد،التفت إلى جهته الأخرى،وصعد إلى مقعد السائق،ليجدها هناك،تنظر إليه بابتسامتها الهادئة التي لم تفارقها. لم يحتج إلى إذن،فقط مد يده،أمسك بكفها
وطبع قبلة دافئة عليها،وكأنها ملكه وحده في هذه اللحظة.
ثم قال،بصوت منخفض لكنه مشحون بالمرح والدفء معًا:
“ده علشان غزلك فيا.”
احمر وجهها قليلًا وارتبكت،لكنها لم تستطع منع نفسها من الابتسام. لم تمضِ سوى ثوانٍ حتى قطع هذه اللحظة صوت
طرق مفاجئ
على زجاج السيارة،جعله يلتفت بسرعة.
زفر بضيق قبل أن ينزل الزجاج،لينظر لسا
مي
الذي كان يرمقه بنظرة تحذيرية واضحة. ثم اردغ بصوت جاد لكنه لم يخلُ من السخرية:
“دي أول خروجة ليكم،فاماتغيبوش،تخلصوا اللي رايحين علشانه،وترجعوا على طول!”
رفع موسى حاجبه اعتراضًا،وردّ دون أن يفكر مرتين،بصوت يحمل الكثير من المعاني،كثيرًا من
الملكية
التي لا جدال فيها:
“لا معلش…دي مراتي بقا.”
كانت كلماته كفيلة بأن تجعل
فيروز
تخفض رأسها بخجل،بينما سامي تنهد
بيأس حقيقي
،كأنه يدرك أن لا شيء سيمنع الأخير من فعل ما يريد.
أما موسى،فلم يهتم،كل ما كان يعنيه هو اللحظة التي يعيشها…لحظة هو وهي،فقط .
رفع يده ولوّح بها لسامي،مرددًا بنبرة مرحة،لا تخلو من المشاكسة:
“يلا سلام يا سيمو!”
زفر سامي بقلة حيلة،وشعر أنه لن يخرج بشيء مع هذا العنيد،فهز رأسه وقال بنبرة تحمل بقايا استسلام:
“مع السلامة…بس برضه ما تتأخروش!”
ردّ موسى بسرعة،وكأنه يقولها فقط لينهي المحادثة:
“حاضر حاضر.”
ثم،دون أن يضيع لحظة أخرى،وضع حزام الأمان،واستعد للانطلاق. أدار المحرك،وابتسم لنفسه وهو يلقي نظرة خاطفة عليها،تلك التي كانت تجلس بجانبه،هادئة لكنها ليست أقل حماسًا منه لهذه البداية الجديدة.
وما هي إلا لحظات،حتى تحركت السيارة،وسرعان ما اختفت عن أنظار الواقفين،الذين ظلوا يراقبونها لبعض الوقت،قبل أن يلج كلٌّ منهم إلى الداخل واحدًا تلو الآخر،يعودون إلى يومهم العادي،بينما كان موسى وفيروز يبدآن يوماً لن يكون عاديًا أبدًا.
___________________
في جهة أخرى…
كان الصباح هادئًا،لا يعكر صفوه سوى أصوات الصحون التي تتشابك برفق بينما كان كلٌّ من طارق ودلال ينظفان الطاولة بعد انتهائهما من تناول الفطور.
كانت حركاتهما متناسقة،وكأنهما ينسجمان حتى في أبسط التفاصيل—هو يجمع الصحون،وهي تمسح الطاولة،ثم يتبادلان المهام دون حاجة إلى الكلام،وكأنهما يحفظان هذا الروتين عن ظهر قلب.
وسط هذا الصمت المريح،قطع طارق الهدوء بسؤال بدا عابرًا،لكنه حمل في طياته اهتمامًا خفيًا:
“هتنزلي الصيدلية النهاردة؟”
لم تتوقف دلال عن ترتيب الصحون،لكنها التفتت إليه بابتسامة صغيرة،ثم أجابته بنبرة هادئة:
“لا،مش نازلة غير لو في حاجة مهمة،يعني مش عايزة أسيبك وأنزل الشغل في إجازتك بصراحة.”
لم يستطع طارق منع نفسه من الابتسام،لم يكن يتوقع ردها،لكنه كان سعيدًا به…سعيدًا جدًا. توقف للحظة،نظر إليها بعينين تحملان امتنانًا خفيًا،ثم قال بصوت دافئ،يكسوه شيء من المرح والمودة:
“وأنا أصلاً مش عايزك تنزلي بصراحة،بتوحشيني”
توقفت دلال عن جمع الأطباق لبرهة،رفعت عينيها إليه،لتجد نظراته الصادقة التي جعلت قلبها يرفرف لا إراديًا. ابتسمت بخجل خفيف،ثم قالت بمزاح هادئ:
“طب كنت قول كده من الأول بدل ما تسألني!”
ضحك طارق بخفة،ثم اقترب منها قليلًا،مدّ يده وسحب طبقًا من بين يديها وهو يردّد بمكر:
“يعني لو كنت قولت،كنتِ هتوافقي على طول؟!”
هزّت رأسها بابتسامة،وأجابت بثقة:
“طبعًا…ما أقدرش أرفض طلبك.”
نظر إليها للحظات،ثم همس بنبرة خافتة،لكنها مليئة بالحب:
“وأنا ماقدرش أستغنى عنك والله ياحياتي”
ساد الصمت للحظة…لكنه لم يكن صمتًا عاديًا،بل كان صمتًا مشحونًا بالكلمات التي لم تُقل،بالمشاعر التي فاضت في الهواء بينهما دون أن تحتاج إلى تعبير.
كانت لحظة قصيرة،لكنها كانت كافية ليسمع كلٌّ منهما دقات قلبه المتسارعة،كأنها إيقاع خفي لم يُلحظ إلا في هذا الهدوء العابر.
لكن فجأة،وكأن الزمن قرر أن يفسد هذه اللحظة،اخترق الأجواء صوت بوق سيارات مرتفع،متكرر،كأنه يعلن عن وصوله دون أدنى اعتبار لأي أحد.
على الفور،انقبضت ملامحهما،ونظرا صوب النافذة بضيق،وكأن الصوت مزّق خيط اللحظة التي كانا فيها. تبادلًا النظرات،قبل أن يزفر طارق بضيق،ويردد بتبرم واضح:
“مين قليل الذوق ده؟!”
اتجه طارق إلى الشرفة عقب كلماته تلك،بخطوات سريعة يملؤها الفضول والانزعاج،بينما دلال،وكأنها أدركت أن الأمر قد يستدعي خروجها،اتجهت إلى غرفتها لترتدي حجاب رأسها بسرعة.
وما إن وصل طارق إلى الشرفة،وألقى نظرة إلى مصدر الإزعاج،حتى تجمد في مكانه.
حين
أبصر ذلك الجسد،الذي كان يستند بكتفه على مرآة السيارة،يقف هناك ببسمة واثقة، غير مكترث بأي شيء. وحين أبصرها هي،التي أخرجت رأسها من نافذة السيارة،وعيناها تلمعان بحيوية.
للحظة،لم يستوعب طارق ما يراه،فبقي فاغر الفاه،مدهوشًا مما تبصره عيناه. لكن سرعان ما رفرف بأهدابه وهتف بمرح مختلط بسخرية،محاولًا استيعاب الأمر بطريقته:
“مأجرها منين دي؟!”
ابتسم موسى بخفة،وكأن الرد جاهز لديه مسبقًا،ثم هتف بثقة وزهو،دون أن يفقد ذرة من اعتداده بنفسه:
“أنا بتاع إيجار برضه يا خالو؟!”
رفع طارق حاجبيه بدهشة،لعدم توقعه هذه الإجابة،ولا هذه الثقة التي تغلف صوت موسى. وبينما كان يحدق فيه وكأنه يحاول التأكد من جدية كلامه،وصلت دلال إلى الشرفة،لكن ما إن وقعت عيناها على المشهد أمامها حتى توقفت للحظة،مأخوذة بما ترى.
احتاجت إلى ثوانٍ قليلة فقط لتستوعب ما يحدث،لكن بدلًا من البقاء مكانها،اختفت عن الأنظار فجأة…لم يكن انسحابًا،بل كان تحركًا سريعًا،فقد ركضت للداخل مباشرةً،التقطت هاتفها،ثم اتجهت للدَّرَج،في نية واضحة للنزول إليهما دون إضاعة ثانية واحدة.
ثوانٍ معدودة،وكانت دلال قد وصلت إلى الأسفل،تطلّ عليه بثوب الصلاة،لم تأبه بمظهر ملابسها،وكأن الأمر لا يستحق التأجيل.
ابتسم موسى لها فور رؤيتها،ثم أشار نحو السيارة ببسمة صافية،مرددًا بفخر واضح:
“إيه رأيك؟”
لكن دلال،بدلًا من الإجابة التقليدية،رفعت هاتفها مباشرة وقالت بحماس واضح:
“يلا علشان هصوّرك!”
تفاجأ موسى برد فعلها،لكنه سرعان ما ضحك بخفة،غير قادر على إخفاء دهشته من سرعة استجابتها. ومع ذلك،امتثل للأمر دون نقاش،فاعتدل في وقفته،وضبط ملامحه في وضع أكثر ثباتًا،استعدادًا للكاميرا.
لم تضِع دلال الفرصة،فالتقطت له بضعة صور،وحين انتهت،التفتت نحو فيروز وقالت بمرح واضح:
“يلا يا فيروز،اطلعي واقفي جنبه.”
لم تتردد فيروز للحظة،بل امتثلت لطلبها بوجه مفعم بالسعادة،فترجلت من السيارة،وتقدمت لتقف بجوار موسى،الذي كان يطالعها بنظرات عاشقٍ لا يخجل من إظهار مشاعره.
وبينما كانت نظراتهما تتلاقى في صمت،استغلت دلال اللحظة سريعًا،والتقطت مزيدًا من الصور…صورة لموسى وهو ينظر لفيروز بعمق،وأخرى عندما رفعت رأسها نحوه وبادلته النظرات بابتسامة دافئة،وكأن الزمن قد توقف عندهما وحدهما.
لكن فجأة،قطع موسى اللحظة بنظراته التي تحولت نحو دلال،ثم أشار لها بمرح،مرددًا بصوته الذي لم يخلُ من الحنية والمشاكسة:
“ما تيجي نتصوّر مع بعض يا سُكر؟”
لم تتمالك دلال نفسها من الضحك ببهجة،وكأن كلماته أعادت إليها طفولتها للحظة. لم تتردد ولا حتى لثانية،بل تقدّمت نحوه بخفة،ومدّت له الهاتف بثقة،ليأخذه موسى ويرفعه عاليًا،ملتقطًا صورة جمعتهم جميعًا.
هو في المنتصف،وعلى يمينه فيروز،غاليته التي أصبحت جزءًا منه،ثم دلال على يساره،سُكرته التي لاطعم لحياته إلا بها.
كانت الصورة تنطق بالمشاعر،بالحب الصافي الذي لا يحتاج إلى كلمات ليُعبّر عن نفسه،بالدفء الذي ينساب بين ضحكاتهم الصادقة.
كل هذا كان طارق يتابعه بصمت من موضعه في الشرفة،ببسمة هادئة لم يستطع إخفاءها…كانت مزيجًا بين سعادة حقيقية بمشاهدة هذا المشهد العائلي،وبين دهشة عميقة وهو يرى معالم الطفولة تعود لزوجته من جديد.
وكأنها في حضرة نصفها الآخر فقط،تصبح طفلة كما كانت دائمًا،تضحك دون تفكير،تعيش اللحظة بكل جوارحها…وكأن الزمن يعيدها إلى أنقى حالاتها كلما كان موسى حولها.
___________________
مع مرور الوقت…
كانت دلال تجلس على الأريكة،تمرر أصابعها برفق على شاشة الهاتف،تتنقل بين الصور التي التقطتها،تغرق في تفاصيلها وكأنها تعيش اللحظة من جديد. بجوارها،كان طارق يجلس قريبًا جدًا،يحاوطها بذراعه،يتأملها بصمت،يتابع ملامحها الهائمة في الصور بنظرات لا تخلو من الحب والانبهار.
وفي لحظة،توقفت الشاشة عند إحدى الصور،فتأملت دلال تفاصيلها قليلًا،ثم التفتت نحوه وسألته،بصوت يحمل مزيجًا من الفضول والانتظار:
“إيه رأيك في الصورة دي يا طارق؟”
أطال النظر إليها،لكن ليس إلى الصورة…بل إليها هي. ظل صامتًا للحظات،وكأنه يرى شيئًا لا تستطيع هي رؤيته،فتملّكها العجب من نظراته،فرفعت حاجبيها وسألته مستفسرة:
“بتبصلي كده ليه؟”
ابتسم طارق ابتسامة دافئة،ثم همس لها،بنبرة محمّلة بالصدق والحب العميق:
“بتأمل ألطف مخلوقات الله.”
كلماته سكنت في أعماقها،فلم تجد ردًا،فقط شعرت بأن قلبها ينبض بوتيرة مختلفة،وكأنها للمرة الأولى تدرك كم تحبه…وكم هي محظوظه به.
أبعدت عينيها عنه بخجل،وكأن كلماته لامست شيئًا عميقًا بداخلها. أما هو،فاكتفى بابتسامة خفيفة قبل أن يردف،بصوت هادئ لكنه محمّل بالذكريات:
“تعرفي إن النهاردة شُفتِك بعيون زمان؟”
عادت إليه بعينيها فورًا،وعقدت حاجبيها باستغراب،فالتقط هو السؤال في نظرتها قبل أن تنطقه شفتيها،فأجابها مفسرًا حديثه،وكأنه يزيح الستار عن صورة قديمة ظهرت بوضوح أمامه اليوم:
“النهاردة شُفتِك دلال…البنوتة الصغيرة،الشقية،اللي دايمًا متحمسة…رجعت شُفتها مع موسى،واكتشفت إنها كانت متعلقة بيه بطريقة خاصة…علشان كده،مش بتظهر غير معاه.”
أخذت بضع ثوانٍ لتستوعب كلماته،وكأنها تعيد ترتيب مشاعرها بناءً على ما قاله. ثم أومأت بالإيجاب،وقالت بنبرة هادئة وهي تحدق في نقطة ثابتة،كأنها تسترجع اللحظات:
“صح…أنا نفسي ساعات بحس كده. بحس إني بكون عاقلة مع الكل إلا معاه،وحتى لو حاولت أكون جدية،مش بقدر…،من غير ما أحس برجع طفلة صغيرة،شقية وعنيدة.”
رفعت عينيها إليه،والتقت نظراتهما في لحظة صامتة لكنها ناطقة بكل شيء،قبل أن تضيف،بابتسامة دافئة ونبرة يغلفها الحنين:
“أما النهاردة بقى…كنت فرحانة أوي وأنا شايفة بيحقق كل اللي كان بيحلم بيه. ماقدرتش أمنع نفسي من إني أشاركه فرحته،ماحستش بنفسي غير وأنا نازلة بسرعة،وعايزة أصوره،عايزة أوثق اللحظة دي وأفرح معاه.”
كانت كلماتها نقية،صادقة،تنبع من قلب لم يعرف يومًا إلا أن يكون جزءًا من سعادة من يحب. أما طارق،فلم يكن بحاجة للرد،فقط تأملها أكثر،وكأنه يحاول أن يحفظ هذه اللحظة كما أرادت هي أن تحفظ لحظة موسى…لكنه أراد أن يحتفظ بها هي،بكل ما فيها.
لكن فجأة،تذكر أمر ما،أمر رسم على وجهه بسمة جانبية تحمل مزيجًا من الحماس والمفاجأة. نظر إليها بعينين يملؤهما المرح،ثم سألها بصوت هادئ لكنه يحمل في طياته وعدًا بشيء مميز:
“تسمحيلي أخلّي فرحتك فرحتين؟”
نظرت إليه بعدم فهم،حاجباها معقودان قليلًا،مما جعله يسارع في التوضيح قبل أن تسبقها الأسئلة:
“تعرفي أنا سفريتي الجاية لفين؟”
هزّت رأسها نفيًا وأجابته ببساطة:
“لا،أنتَ ماقلتليش.”
اتسعت ابتسامته أكثر،وأردف بنبرة هادئة لكن مفعمة بالحماس:
“أديني هقولك…سفريتي الجاية لفرنسا،وتحديدًا باريس..مدتها خمس أيام،يوم رايح،ويوم جاي،وثلاثة أيام في النص..وأنا كنت مقرّر إني آخدك في أسبوع عسل يكون أحلى وأجمد من اللي قضيناه بعد فرحنا.”
توقّف للحظة،يتأمل رد فعلها قبل أن يضيف بنبرة أكثر دفئًا:
“ولما عرفت بالسفرية دي،قلت ده المكان المناسب،فجهّزت ورتّبت كل حاجة علشان تروحي معايا. وكنت ناوي أقولك النهاردة…وماكنتش هلاقي فرصة أنسب من دلوقتي علشان أقولك.”
لمعت عيناها باندهاش،وكأن كلماته لم تصل إلى عقلها بعد،بل ارتطمت بقلبها أولًا. ظلّت تحدّق فيه دون أن تنطق،كأنها تحاول استيعاب الأمر بالكامل. أما هو،فابتسم أكثر وهو يرى دهشتها،ثم أضاف بنبرة ماكرة:
“إيه؟ مش مصدّقة؟”
رمشت عدة مرات،ثم استقامت في جلستها وقالت بصوت متردد لكنه يحمل بين طياته فرحة خجولة:
“أنتَ بتهزر،صح؟”
ضحك طارق وهو يربّت على يدها بحنو،ثم قال بثقة:
“لأ،مش بهزر،دي حقيقة،وإحنا مسافرين خلاص..كل حاجة
جاهزة
،جواز سفرك،حجوزات الطيران والفندق،حتى خطة الرحلة..،فاضل بس التأشيرة،لو موافقة هنروح بكره نعملها.”
اتسعت عيناها أكثر،وشعرت بقلبها يخفق بسرعة. في في النهاية لم تكن تتوقع هذا على الإطلاق. السفر إلى باريس؟ رحلة خاصة لهما؟ وكأنها عادت لعروس جديدة مرة أخرى،لم تصدّق أن هناك “شهر عسل” جديد ينتظرها. وضعت يدها على فمها،ثم همست بذهول ممزوج بسعادة غامرة:
“أنا…أنا مش عارفة أقول إيه!”
اقترب طارق منها أكثر،ورفع حاجبه بمكر قبل أن يردّد بصوت عميق،وكأنه يدفعها للقول:
“قولي…موافقة!”
ضحكت بخفة وهي تهز رأسها غير مصدّقة،ثم هتفت أخيرًا باندفاع طفولي:
“طبعًا موافقة!”
ابتسم طارق بانتصار،ثم قال بمرح:
“بس كده…استعدّي،لأنّكِ هتشوفي باريس بعينيَّ أنا!”
وفي تلك اللحظة،شعرت دلال وكأنّها تعيش حلمًا جميلًا،حلمًا لم تتوقعه لكنها كانت مستعدة تمامًا للغرق فيه بكل سعادة
،طالما هو شريكها فيه.
___________________
في جهة أخرى…
جلست على ركبتيها في غرفة طفلها،ترتب له ملابسه وتسرّح خصلات شعره الناعمة بحنان،حتى انتهت،نظرت إلى ملامحه الطفولية البشوشة،فابتسمت بسعادة خالصة،ثم اقتربت ولثمت وجنته الصغيرة قبلة دافئة،وكأنها تنقل له كل حبها وحنانها في تلك اللحظة.
بينما كان الصغير
يضحك بخفة،مستمتعًا بلمساتها،وفي تلك الأثناء،ولج سامي إلى الغرفة بخطوات هادئة،وألقى نظرة عليهما،ثم سأل بنبرة ودودة:
“خلصتوا؟”
رفعت ليلى رأسها إليه بابتسامة،بينما كان الصغير يصفّق بسعادة،كأنه يجيب عن السؤال بطريقته الخاصة. ضحك سامي من تفاعلهما،ثم اقترب منهما وجثا بجانبهما،قبل أن يمرر يده على رأس صغيره بحنان،ويردف بصوت دافئ:
“ما شاء الله،الأمير الصغير متحمس علشان هيروح عند تيتا!”
نظرت إليه بعينين تحملان مزيجًا من الحب والامتنان،وكأنها تتشبث به كملاذها الوحيد. ثم عادت تتأمل طفلها الصغير،الذي بدا متحمسًا بطريقته البريئة،غير مدرك لما ينتظرهم.
في تلك اللحظة،شعرت أن هذه اللحظات البسيطة،بكل ما تحمله من دفء وسعادة،كانت بمثابة استراحة قصيرة قبل العاصفة.
ابتلع سامي ريقه بصمت،وكأنه يلتقط أنفاسه قبل أن يواجه الحقيقة القادمة،ثم نظر إليها وسأل بنبرة هادئة، لكنها محملة بالجدية:
“جاهزة؟”
تلاشت ابتسامتها تدريجيًا،وعقدت أصابعها ببعضها،ثم همست بصوت خافت،لكنه صادق:
“هكذب لو قلت آه.”
راقبها للحظة،وعيناه تضجان بالثقة والطمأنينة،قبل أن يجيب بصوت ثابت،يحمل يقينًا لا يتزعزع:
“طبيعي تبقي متوترة…بس ما تخافيش،أنا معاكِ.”
ورغم بساطة كلماته،شعرت بها تسري في قلبها كسريان الدفء في الجسد المرتجف،وكأن وجوده بجانبها وحده كافٍ ليحميها من كل ما هو آتٍ. كان كلماته درعًا يقيها،وصوته ملجأً تطمئن إليه،وكل نظرة منه تبعث في داخلها إحساسًا بالأمان،لم تعرفه يومًا قبل أن تلتقي به.
أومأت له بإيماءة بسيطة،تزينها ابتسامة ممتنة،فبادلها هو بابتسامة دافئة قبل أن يلتفت إلى يزيد،ويقول بنبرة يغلفها الحنان:
“يلا بينا يا بطل ننزل لتيتا.”
أنهى جملته وهو يحمل الصغير بين ذراعيه،ثم اعتدل واقفًا بثبات،بينما وقفت هي الأخرى بجواره،وكأنها تستمد قوتها من وجوده. تقدمت نحو الفراش،والتقطت حقيبتها التي سبق وأعدتها،ثم خطت إلى جانبه كأنهما يعبران بوابة غير مرئية،لكن ينتظرهما الكثير خلفها.
سارا جنبًا إلى جنب بخطوات متزنة،لكن بين الحين والآخر،كانت عيونهما تسرق النظرات…نظرات عابرة،لكنها تحمل بين طياتها آلاف الكلمات غير المنطوقة،وكأنهما يحاولان طمأنة بعضهما البعض دون الحاجة إلى الحديث. في تلك اللحظات،لم يكن هناك حاجة للكلمات،فوجودهما معًا كان يكفي.
___________________
مع مرور بعض الوقت…
كان يجلس في مكتبه،يحرك أصابعه بخفة على لوحة المفاتيح،بينما عينه تجوب شاشة الحاسوب بسلاسة،متفرسةً في تفاصيلها،كأنها تبحث عن شيء أبعد من مجرد كلمات وأرقام… لقد ارتدى ثوب الجدية،متحولًا إلى ذلك الشاب المتقن لعمله،الذي لا يدع تفصيلة تفلت منه دون مراجعة وتدقيق.
استمر كارم في عمله،غارقًا في عالمه،حتى قطعت رتابة اللحظة طرقات خفيفة على الباب. رفع رأسه تلقائيًا،ليجدها تقف خلف الزجاج،ملامحها تعكس تردّدًا بسيطًا،لكن عينيها تحملان يقينًا ما. ارتسمت ابتسامة عفوية على شفتيه،وأشار لها بالدخول وهو يقول بنبرة مرحبة:
“تعالي.”
امتثلت دون تردد،فتحت الباب،وخطت للداخل بخطوات واثقة.
تقدمت نحو مكتبه،ثم وضعت حاسوبها أمامه،ناظرة إليه بعينَي من تطلب إجابة لشكٍّ يراودها، تخللت أناملها خصلاتها في حركة عفوية قبل أن تقول بصوت هادئ،لكنه يحمل جديّة واضحة:
“كنت عايزة أتأكد من حاجة من حضرتك.”
نظر إليها كارم بإيماءة مشجعة،وأجاب فورًا:
“أكيد طبعًا،تفضلي.”
أمالت ميرنا حاسوبها قليلًا في اتجاهه،مشيرة بإصبعها إلى نقطة محددة على الشاشة،ثم تابعت بنبرة حائرة:
“أنا حضرت التقرير ده،بس مش متأكدة من النقطة دي،ممكن حضرتك تشوفها؟”
أخذ كارم الحاسوب منها،وانحنى قليلًا ليتأمل الشاشة بتركيز. عينيه تتحركان بين السطور،حاجباه ينعقدان لوهلة قبل أن يعودا إلى وضعهما الطبيعي. ظل صامتًا لثوانٍ،ثم أدار الشاشة قليلًا نحوها وأشار بإصبعه قائلاً:
“النقطة دي محتاجة تعديل بسيط،هنا فيه تكرار لنفس الفكرة،ممكن نصيغها بطريقة أوضح.”
اقتربت ميرنا قليلًا لتنظر إلى ما يشير إليه،ثم أومأت بتفهم وقالت:
“معك حق،هاأعيد صياغتها.”
رفع رأسه إليها وابتسم بخفة،ثم أرجع الحاسوب إليها قائلاً بنبرة مشجعة:
“باقي التقرير ممتاز، شغل متقن كالعادة ياقمر”
شعرت ميرنا بالفخر من كلماته،وبالخجل في نفس الوقت،ثم استقامت بجسدها وقالت بابتسامة صادقة:
“شكرًا لحضرتك،هأعدّلها فورًا.”
راقبها وهي تستدير لتخرج،متابعًا خطواتها بنظرة خاطفة قبل أن يعيد تركيزه إلى عمله،لكن بسمته الصغيرة لم تفارق ثغره،وكأن حضورها ترك أثرًا خفيفًا،لا يحتاج إلى تفسير.
لكن هدوء اللحظة لم يدم طويلًا،فقد شعر فجأة بتوقف خطواتها،كما لو أن شيئًا ما أعادها عن قرارها.
رفع رأسه مرة أخرى ليجدها تستدير نحوه،ملامحها مترددة،وعيناها تحملان شيئًا لم تفصح عنه بعد.
سألها بنبرة فضولية وهو يميل قليلاً إلى الأمام:
“في حاجة تاني؟”
ابتلعت ريقها بتوتر،كأنها تحاول جمع شتات أفكارها،ثم احتضنت الحاسوب بيديها في حركة لا إرادية،قبل أن تجيب بصوت مضطرب،لكنه يحمل خجلًا طفيفًا:
“بصراحة،أنا عايزة أعرض على حضرتك حاجة،بس أتمنى ما ترفض؟”
لم يبدُ كارم متفاجئًا،بل راقبها بتمعن قبل أن يرد بنبرة هادئة،محاولًا كسر جمود اللحظة:
“أسمعه الأول،وبعدين أقرر.”
ترددت قليلًا،ثم زفرت بهدوء قبل أن تنطق بما أرادت قوله منذ البداية:
“أنا كنت عايزة أعزم حضرتك على الغداء،زي ما عزمتني قبل كده.”
تبدلت ملامحه سريعًا من الترقب إلى ابتسامة خفيفة،وكأن الأمر اتضح أمامه فجأة. تنهد بخفة ثم عقّب بنبرة حملت مزيجًا من الفهم والمزاح:
“فهمت،أنتِ مش من النوع اللي مابيحبش يكون عليه ديون لحد.”
أومأت برأسها مع ابتسامة صغيرة،قبل أن تقول ببساطة:
“حاجة زي كده.”
تأملها للحظة،ولا تزال ابتسامته مرسومة على شفتيه،ثم أجاب بثبات:
“أوكى موافق،بس الأهم تكون أكلة حلوة،تستاهل العزيمة.”
اتسعت ابتسامتها ببجهة خفيفة،وقالت بنبرة واثقة:
“تستاهل،إن شاء الله هتعجبك.”
“أوكى،نخلص شغل ونطلع.”
أومأت له بالإيجاب بابتسامة هادئة،ثم استدارت هذه المرة لتخرج دون تردد،وكأنها قد أفرغت ما في جعبتها أخيرًا. لكنه لم يعد إلى عمله فورًا،لم ينظر حتى إلى شاشة الحاسوب أمامه،بل ظل يراقبها وهي تتحرك مبتعدة،عيناه تتبعان خطواتها دون وعي،تحملان نظرة مبهمة،لم تعلن عن شيء واضح…لكنها بالتأكيد لم تكن نظرة عابرة،بل نظرة شغوفة،تفيض بشيء لم يكن قد أدركه تمامًا بعد.
وحين اختفت من أمامه،زفر بهدوء،وهز رأسه بابتسامة خفيفة،وكأن شيئًا بداخله بدأ يتشكل،ملامحه غير واضحة بعد،لكنه موجود… ينمو بصمت.
___________________
في جهة أخرى..
وقف كل من موسى وفيروز في الشقة الصغيرة الخالية من الأثاث،برفقة السمسار الذي كان يستمع لفيروز وهي تشرح له بعض المواصفات التي تبحث عنها. كان الرجل يميل برأسه وهو يقلب في هاتفه،حتى قرر أخيرًا أن يعطيها إياه لتتصفح الخيارات المتاحة،فربما تجد ما يناسبها ليذهبوا لرؤيته.
في تلك اللحظة،ابتعد السمسار قليلًا نحو إحدى الغرف ليتفقد النوافذ،واستغل موسى الفرصة ليبتعد هو الآخر عن فيروز بضع خطوات. أخرج هاتفه بسرعة،ومرر أنامله على الشاشة،قبل أن يضعه على أذنه ويبدأ مكالمة قصيرة:
“أيوة يا لينا،كويس إنك ردّيتِ على طول.”
جاءه صوتها من الجهة الأخرى،نبرتها محايدة لكنها تحمل بعض الفضول:
“في إيه؟”
تنهد موسى بثقل،وكأنه يستعد لشرح أمرٍ قد لا يروق لها:
“عندك معاد عند الدكتورة النهاردة الساعة 12، صح؟”
“آه،أنا عارفة،مش أنت هتيجي تاخدني؟”
مرر موسى يده في شعره،ثم أجاب بصوت هادئ لكنه محبط بعض الشيء:
“كان المفروض،وكنت عامل حسابي على كده،بس أنا دلوقتي مع فيروز بنشوف شقة مناسبة للعيادة، المفروض نخلص من بدري علشان ألحق آجي لك لكن السمسار اتأخر علينا ويبدو إننا هنطوّل شوية،فقلت أتصل بيكِ قبل ما أكلم الدكتورة وأأجل الموعد، علشان تقوليلي على ميعاد مناسب أظبطه معاها.”
جاءه رداً مختلفًا من لينا عمّا كان يتوقعه،إذ قالت بسرعة:
“لا، ما تأجّلش حاجة،أنا ممكن أروح لوحدي عادي.”
قطّب موسى حاجبيه،واعترض فورًا:
“مش هينفع،لازم حد يكون معاكي.”
أجابته سريعاً بنبرة هادئة،محملة بمرح خفي:
“أنا كبيرة على فكرة، وهقدر أروح لوحدي،ما تقلقش وما تشغلش بالك،ركّز مع فيروز دلوقتي…وبالمناسبة،ما تنساش تخرجها بعد ما تخلصوا،خروجة حلوة كده،مش زي اللي خرجتهالي!”
ارتفع حاجب موسى باندهاش من تعليقها الأخير،لكنه لم يستطع منع نفسه من الابتسام،ثم زفر بسخرية خفيفة قبل أن يرد بنبرة مزيج من المزاح والتحدي:
“طيب،عيوني ستي،بس دلوقتي،خليما في موضوعنا”
“موضوعنا،زي ماقلت ياموسى،أنا اروم لوحدي ماتقلقش عليا”
زفر موسى بيأس ثم اردف بقلة خيلة:
“تمام روحي،بس لو حصل أي حاجة كلميني،ولما تخلصي برضه كلميني،ممكن أعرف أجي أخدك”
“حاضر… يلا بقا علشان أنا داخلة المحاضر،باي”
أغلق المكالمة وهو يهز رأسه بابتسامة جانبية،ثم عاد بنظره إلى فيروز ليجدها لا تزال مشغولة بالهاتف في يدها،تتصفح الصور والمواصفات بإمعان،غير منتبهة لما يدور في رأسه. زفر بهدوء،ثم نظر للأمام مجددًا،مستغرقًا في التفكير،وكأن عقله يعيد ترتيب الأمور. لم يكن مرتاحًا لفكرة أن تذهب لينا بمفردها،لم يستطع تقبل ذلك ببساطة.
وبعد لحظات من التردد،حرك رأسه بالنفي بحزم وهمس لنفسه:
“مش هينفع أخليها تروح لوحدها…لأ.”
ابتلع ريقه،ثم أنزل نظره إلى هاتفه في يده،يقلبه بين أصابعه،وكأنما يبحث عن حل سريع. لم يكن أمامه سوى خيار واحد، شخص وحيد يستطيع مساعدته الآن. زفر ببطء قبل أن يتمتم:
“هو…مفيش غيره اللي هيقدر يساعدني.”
وبلا تردد أكثر،بدأ في طلب الرقم،منتظرًا أن يأتيه الرد،ولم يطل انتظاره كثيراً فسرعان مابدأت المكالمة بينه وبين الطرف الاخر،فنبس سريعاً:
“ألو…”
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.