رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل السادس والعشرون 26 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السادس والعشرون

الفصل السادس والعشرون(عتاب وصُلح)

الفصل السادس والعشرون(عتاب وصُلح)

“كانت ولازالت..الأقرب والأوفى والأحنّ..لي ولقلبي”

“هي فيروز ماجتليش ليه؟؟”

انطلقت كلماته على عجل،لكنها حملت في طيّاتها قلقًا خفيًا لم يستطع إخفاءه،وكأن عقله الباطن كان يدرك أن غيابها وعدم ظهورها إلى الأن أمر غريب

،فكيف لما تأتي للإطمئنان عليه بعد ما حدث!!

توقف أقدام سامي الذي كان يصعد لشقته أثناء هذه المكالمة،ثم ابتسم بهدوء وأجاب ذلك المضطرب بصوت متزن ورتيب:

“فيروز عندك ياموسى؟؟”

رفع موسى حاحبه وأر،ف بإستنكار:

“ايه؟!”

وصلت صوت الأخير يجيبه بسلاسة:

“فيروز عندك،لما كنت أنا والشباب طالعين كانت هي وماما داخلين،ممكن تبقى قاعدة ما بنات عمك بره”

توقف الكلمات في حلقه للحظة،ثم ابتلع ريقه وقال:

“طالما هي قاعد بره،ليه مادخلتش تشوفني؟؟”

“تتوقع ليه مثلا؟؟”

سكت للحظات،يرتب أفكاره داخل عقله،وسرعان ماأدرك الأمر فأنهى المكالمة سريعاً مع الاخير ثم كرر أصابعه على شاشة هاتفه وبدأ مكالمة جديدة،لكن معها هي هذه المرة.

انتظر وانتظر دون إجابة منها،عاد يحاول مرة أخرى حتى فتحت عليه وأخيراً،فأردف بصوت مضطرب:

“تعالي يافيروز،تعالي بدل ماأطلعلك أنا قدام الكل…”

.

.

.

على الجهة الأخرى…

ولج سامي إلى شقته بخطوات ثقيلة،وأدار المفتاح في القفل قبل أن يدفع الباب برفق. كان يتوقع استقبالاً من الفراغ والهدوء،لكن ما إن رفع رأسه حتى ارتجفت أنفاسه واتسعت عيناه بدهشة. هناك،في منتصف الغرفة،كانت هي جالسة على الأرض،تلاعب طفلها الصغير.

لكن دهشتها هي كانت أعظم عندما وقعت عيناها عليه.

ثيابه كانت ملوثة بالدماء،يكسوها الغبار،وكدمات واضحة زينت وجهه ويديه. شهقت بفزع،ونهضت من فورها، تتقدم نحوه بخطوات سريعة،وقلبها يعصف بأسئلة ملؤها الخوف:

“إيه اللي حصل؟؟ إنت كويس؟؟”

رفع سامي يديه في محاولة لتهدئتها،وصوته الهادئ يحمل بقايا تعب مستتر:

“أنا كويس،ماتقلقيش.”

لكن عينيها لم تصدق كلماته،نظرت إلى بقع الدماء على ثيابه،ثم رفعت إصبعها لتشير إليها، تسأله بارتباك:

“أومال الدم ده ايه؟؟”

مرر سامي يده فوق بقع الدم،كأنها ستزول بمسحة يده،قبل أن يجيب بنبرة محملة بثقل لا يخفى عليها:

“مش دمي،متخافيش…”

رفعت عينيها إليه،تساؤلها الصامت كان أبلغ من الكلمات،فأدرك ما تريد معرفته وأجاب بحزن خافت:

“ده دم موسى…اتخانقنا أنا وهو مع واحد من الحتة،واتغز للأسف…بس هو كويس دلوقتي.”

رفعت يدها إلى صدرها،كأنها تحاول تهدئة نبضات قلبها،لكنها لم تستطع منع نفسها من أن تسأله مجدداً،بصوت مبحوح من القلق:

“طب وإنت؟ أنت كويس؟”

ابتسم سامي رغم إرهاقه،رغم الألم الذي ينهش أطرافه،رغم آثار الضرب على جسده،ابتسم فقط لأنها سألته. أومأ لها مطمئناً:

“أنا كويس،محصليش حاجة،اطمئني.”

أغمضت عينيها للحظة،تأخذ نفساً عميقاً قبل أن تزفره بهدوء. نظرت إليه،ثم أومأت بامتنان. ابتسامته اتسعت بحب وهو يتأملها بصمت،لكن سرعان ما كسره بقوله:

“صحيح…إنتوا جيتوا بدري ليه،أنا كنت جاي أغير هدومي وأروح أجيبكم.”

“بابا جاله مشوار مهم،فقلتله ياخدنا في طريقه.”

أومأ سامي متفهماً،لكنه لم يستطع منع نبرة الاعتذار من التسلل إلى صوته وهو يقول:

“أنا آسف لو كنت اتأخرت عليكم…كنت واعدتكم إني أجي أخدكم.”

هزت رأسها سريعاً وهي ترد،وكأنها تخشى أن يظن أنها غاضبة منه:

“لا خالص! بالعكس،أنا اللي آسفة،علشان مااتصلتش بيك وماطمنتش عليك.”

“عادي،ولا يهمك…اليوم كان دوشة أصلاً،وتلفوني ما هداش،حتى لو كنتِ اتصلتي،ما كنتش هعرف أرد عليكي غير دلوقتي.”

ابتسمت،ثم قالت بصوت دافئ:

“المهم إنه عدى على خير،وإنت وموسى كويسين.”

أومأ موافقاً،لكن عينيه ظلت معلقة بها،متأملاً تفاصيل وجهها الهادئة،وكأنها ملاذه الوحيد في هذا العالم الصاخب. شعر بقلبه يخفق بجنون،كما لو كان يحاول الهروب من بين أضلعه.

فجأة،شعر بشيء يجذب بنطاله نحو الأسفل،فنكس رأسه ليرى الصغير “يزيد” ينظر إليه بعينيه البريئتين،يحاول لفت انتباهه.

ابتسم سامي بحنان،وانحنى ليحمله بين ذراعيه،ثم رفعه ليجلسه على كتفه،لكن قبل أن ينطق بكلمة،وجد يد الطفل الصغيرة تلامس الجرح القريب من شفته العليا،وهو يتمتم بكلمته الطفولية:

“أوفّا؟”

ضحك سامي ببهجة،يدرك معنى الكلمة التي تعبر عن تعاطف الطفل العفوي،وقال مطمئناً:

“آه،بس مش بتوجعني خالص،ماتخفش.”

رفع يزيد يده وربت على كتف سامي الصلب،ثم تمتم بصوته الطفولي وكلماته المبعثرة:

“معلت (معلش) …معلت تامي.”

تجمدت ملامح سامي للحظة،واتسعت عيناه بصدمة،ثم ابتلع ريقه ونظر إلى ليلى التي كانت تبتسم بسعادة،وسألها بذهول:

“هو قال تامي؟؟ هو نطق اسمي؟!”

ضحكت ليلى وأومأت مؤكدة:

“فيروز كانت بتقعد معاه الفترة اللي فاتت وكانت بتعلمه يقول أسامينا كلنا،حتى النهاردة عند بابا كان طول اليوم بيردد اسمك وبينادي عليك،تقريبًا وحشته.”

ارتجف قلب سامي،وشعر بحرارة غريبة تغمره،شيء ما بداخله انفجر فرحاً لم يستطع احتواءه. ابتسم،ثم انفجر ضاحكاً ببهجة خالصة،قبل أن يلتفت للصغير قائلاً بسعادة غامرة:

“ده أحلى حاجة حصلت لي في يومي كله…دي حلاوة اليوم بالنسبالي! تامي! قوله تاني كده!”

ضحك الصغير بحماس،ثم كرر الاسم بطريقته:

“تامـي!”

ازدادت ضحكات سامي وهو يعانقه بحب،يهمس له بصدق:

“أحلى مرة أسمع فيها اسمي.”

ضحكت ليلى بسعادة،وهي تراقب كيف يمكن لكلمة صغيرة أن تضيء وجهه بهذه الطريقة. كان يبتسم،ابتسامة واسعة،حقيقية،كما لو أن العالم كله قد تلاشى ولم يتبقَ سوى تلك اللحظة.

أبعد سامي يزيد قليلاً ونظر إليه بمكر قبل أن يقول بحماس:

“وبما إنك قلت أحلى كلمة،فأنا هجيبلك أحلى حلويات…هغير هدومي وأصلي العصر،وبعدين أخدك وأدلعك يا أحلى يزيدو!”

التفت إلى ليلى،وعيناه تلمعان بحب ثم تابع:

“بس طبعًا لازم ناخد إذن ماما الأول!”

ابتسمت له،وغمغمت بموافقة دافئة:

“طبعًا،تقدر تاخده في أي وقت.”

نظر إليها للحظات،لم يقل شيئًا،فقط ترك عينيه تتحدث بدلًا منه،تحمل في بريقها كلمات لم يجرؤ على نطقها. كأن الصمت بينهما كان أكثر وقعًا من أي اعتراف مسموع.

ثم التفت إلى يزيد،وطبع قبلة دافئة على وجنته الصغيرة،هامسًا بحب،بصوت مسموع:

“حبيب قلبي…”

لكن في عقله،كان هناك صوت آخر،صوت لم يتجرأ على البوح به،لكنه تردد داخله بكل وضوح وهو ينظر إليها بطرف عينه،يراقبها وهي تبتسم بحنو:

“وهـي قـلـبـي…”

كتم أنفاسه للحظة،كأن قلبه قرر أن يتوقف عن الخفقان حتى لا يفضح ما بداخله. نظر إليها سريعًا،قبل أن يصرف بصره عنها،يخشى أن يراه أحد وهو يغرق في حبها أكثر مما ينبغي.

لكنها،رغم صمته،ورغم حذره،رأت كل شيء في عينيه.

___________________

في الجهة الأخري…

“يعني قاعدة بره من ساعتها،ومادخلتيش تشوفيني!!”

نبس جملته تلك الكلمات بينما كان يجلس على سريره،يتكئ بظهره إلى الوسادة،لكن نظراته كانت مسمرة عليها،حيث جلست على الأريكة أمامه،عيناها تتفادى عينيه عمداً،وصوتها حين نطقت كان مختنقًا،كأنها تحاول كبت مشاعر ثقيلة تثقل صدرها:

“ماكنش ليا عين أدخلك بصراحة.”

زم شفتيه بضيق،ثم أردف بحدة، ساخرًا:

“بصيلي كده!!”

رفعت عينيها نحوه تلقائيًا،وما إن تلاقت نظراتهما حتى أردف بصوت ساخر لكنه يحمل عتبًا دفينًا:

“عينيكِ الاتنين موجودين أهو،وأحلى من بعض كمان.”

قطبت حاجبيها بامتعاض،ثم علقت بضيق:

“إنتَ فاهم قصدي كويس،وعارف أنا بتكلم عن إيه.”

زفر بضيق مماثل،ثم قال بنبرة جادة،تحمل صدقًا خالصًا:

“للأسف عارف،عارف بتتكلمي عن إيه،وعلشان كده مضايق،مضايق علشان مضايقة.”

خفضت بصرها،ثم تمتمت بصوت يحمل تأنيبًا ذاتيًا واضحًا:

“أنا مضايقة علشان اللي حصلك ده بسبــ”

لم يدعها تكمل،قطع حديثها بحدة قاطعة،حاسمة:

“ماتكمليش،علشان اللي هتقوليه مش صح،اللي حصل ده مش بسببك.”

رفضت كلامه بعناد،ونطقت بغضب ليس منه،بل من نفسها،من إحساسها بالعجز:

“لأ بسببي! أنا ماكنش المفروض أقولك اللي حصل معايا،لو ماكنتش قولتلك،ماكنش زمان ده حالك دلوقتي!”

ارتفع صوته عن قصد هذه المرة،كأنه يريد أن يدفع عنها ذلك الذنب الذي تحمله بلا مبرر:

“لأ مش بسببك يا فيروز! اللي حصل فيا مش بسببك! ده بسبب الكلب اللي أبوه معرفش يربيه،الكلب اللي عمال يضايق بنات الناس في الرايحة والجاية،الكلب اللي اتجرأ وحط عينه عليكِ وضايقكِ! واللي نفسي أقوم دلوقتي أكسر عضامه على كل اللي عمله،بس محترم نفسي علشان خاطر أبويا،اللي قالي إنه هيجيب لي حقي وحقك! وعلى فكرة لوكنت خبيتِ عني الموضوع وعرفت بعدين،كنت هزعل وأضايق منك جامد”

ساد الصمت بينهما،ولم تجد ما تقوله،كأن الكلمات تجمدت في حلقها،بينما تجمعت العبرات في مقلتيها،مما جعل قلبه يلين فورًا،وزال غضبه بلمح البصر. نكس رأسه،ثم زفر نفسًا طويلاً،قبل أن ينطق بصوت هادئ،متناقض تمامًا مع حدة نبرته السابقة:

“هتخليني أقوم أجيب المأذون يكتب الكتاب،علشان أعرف أحضنك وأواسيكِ.”

رفرفت عيناها نحوه في صدمة،وابتلعت ريقها بصعوبة،قبل أن ترد بصوت مبحوح يفيض غصة:

“ماهو إنتَ اللي عليت صوتك عليا.”

ابتسم بخفة،وكأنه يعاتبها بحنان وهو يقول:

“ماهو إنتِ اللي بتلومي نفسك على حاجة مالكيش ذنب فيها…ومع ذلك،فحقك عليا،أنا ماكنتش أقصد أعلّي صوتي عليكِ…ماتعيطيش بقى،دموعك غالية عليا والله،أغلى مما تتخيلي.”

تمتمت بصوت طفولي دون أن تدرك،بنبرة ملؤها العتاب الرقيق:

“وأنا مش غالية عليك؟”

ضحك موسى بخفة،وكأنها طفلة صغيرة تتحدث لا فتاة يافعة. تأملها بحنان،ثم أردف بنبرة عابثة،لكنها صادقة:

“ده أنتِ نور العين،وأغلى الغاليين…مفيش حد بغلاوتك عندي يا فيروز،حتى قلبي يشهد على الكلام ده.”

ضحكت رغماً عنها،كيف لا تضحك أمام طريقته اللطيفة في طمأنتها؟ لطالما امتلك القدرة على سرقة ابتسامة منها حتى في أصعب اللحظات.

أما هو،فابتسم بسعادة وهو يتأملها،يراقب ملامحها التي كانت سببًا في أن ينسى كل آلامه. كأن الوقت توقف في تلك اللحظة،كأن الله ترك له مساحة ليتأمل أجمل ما رأت عيناه…

هي فقط.

لكن سرعان ما انتُزع من شروده على صوت رنين هاتفٍ اخترق سكون اللحظة،كان هاتفها هي. التفتت نحوه دون أن تنبس بكلمة،وفي لحظة انعكاس ضوء الشاشة على ملامحها،انقبض وجهها بضيق واضح ما إن وقعت عيناها على اسم المتصل،وكأن ثقلًا انساب إلى صدرها فجأة. لم تتردد،وأغلقت الهاتف بسرعة،كأنها تطرد بذلك شخصًا غير مرحَّب به،ثم رفعت رأسها وعادت إلي الأخير،وابتسامة مصطنعة تتسلل إلى ملامحها،تحاول أن تبدد أي تساؤلات قد تلوح في ذهنه.

بينما هو رمقها بنظرة لم تفلح في تجاهلها،ثم سأل بصوتٍ هادئ،لكنه كان يحمل في طياته اهتمامًا لم تستطع إنكاره:

“ماردتيش ليه؟”

لم تتزحزح ابتسامتها،لكنها لم تصل إلى عينيها،وكأنها تحاول إخفاء أمر ما خلف قناع التهاون. تظاهرت بعدم الاكتراث وهي ترد بخفة متصنعة:

“حد مش مهم،ما تاخدش في بالك.”

لكن الصمت الذي تلا كلماتها لم يكن مطمئنًا،بل كان مشحونًا بما لم يُقل. ظلت تتأمله للحظات،تتفحص ملامحه كما لو كانت تحاول اختراق ذلك الهدوء الذي يحيط به كدرع حصين. ثم،وبصوت خافت لكنه محمَّل بقلقٍ صادق، سألت:

“بيوجعك،صح؟”

طرف بعينيه،كأنه احتاج للحظة حتى يستوعب سؤالها،ثم هز رأسه سريعًا،ونطق بصدق وابتسامة تتسلل إلى وجهه دون استئذان:

“إيه؟!..لأ،أول ما شُفتك نسيت كل وجعي.”

رفعت حاجبيها بدهشة طفيفة،قبل أن تعلق بمرح عابس:

“مشاكس!”

أجابها بنفس النبرة،مزهوًا بنفسه وكأنها أهدته لقبًا يفتخر به:

“أوي!”

ضحكت،فضحك هو الآخر،كأن ضحكتها معدية،بل كأنها الدواء الوحيد القادر على محو أي ألم يشعر به. ملأت ضحكاتهما الغرفة،جاعلة المكان ينبض بالحياة،ثم جاء الصمت من بعد ذلك،لكن لم يكن صمتًا فارغًا،بل كان محمّلًا بالكثير.

تبادلا النظرات،نظرات لم تكن بحاجة إلى أي كلمات،فقط أعينهما كانت تتحدث،تخبر كل منهما ما تعجز شفاهما عن قوله. في تلك اللحظة،لم يكن هناك سوى صوت واحد يُسمع بوضوح…صوت

قلوبهما،وهي تخفق بحبٍ وسعادة.

لكن فجأة في تلك اللحظة،وأثناء تأمله إياها بتلك النظرات العاشقة والابتسامة هادئة،وجد جملة ذلك الشاب تتردد في ذهنه،دون سابق إنذار:

“كل ده علشان عاكست خطيبتك،وفيها ايه يعني؟؟،ما أنا زيي زيك أصلاً،أنت يدوب خطيبها مش جوزها،أنا غريب وأنت غريب،واحنا اللي الاتنين بنعبر عن اعجابنا بيها،والبنت حلو وتستاهل المعاكسة بصراحة”

تعكر صفو تفكيره بشكل كامل،فور أن أتت تلك الجملة على خاطره،لتجعله يدرك أمراً غاب عليه

أو تناسى وجوده طيلة الوقت الماضي.

___________________

ترجل من على الدرج،بينما يحمل الصغير بين ذراعيه بحذر،ممسكًا به وكأنه أثمن ما يملك. كان يتحدث معه بمرح طفولي،وكأنهما متساويان في العمر،بل وكأنه هو الطفل وليس يزيد:

“هننزل نجيب شوية حلويات ليك تتساهلك،يا حلو يا جميل،بس قولّي عايز حاجة معينة؟”

أخذ يزيد يفكر قليلًا،قبل أن يهتف بصوته الطفولي العذب:

“شبشي!”

ضحك سامي بخفة،ثم صحح له سريعًا بابتسامة عريضة:

“شبسي؟”

أومأ له الصغير بفرحة،فابتسم سامي،ثم قال بمكر لطيف:

“أحلى شبسي لأحلى يزيد! بس الأول اديني بوسة وقولي ‘تامي’ تاني.”

أشار على وجنته مشجعًا:

“يلا،جيب بوسة!”

لم يتردد يزيد لحظة،بل احتضن رقبة سامي بقوة صغيرة،ثم لثم وجنته بحنان طفولي،قبل أن يبتعد عنه وهو يقول بحماس:

“تامي حلو!”

انفجرت ضحكة سامي،بينما اجتاح قلبه شعور غامر بالسعادة،وكأنه لم يكن بحاجة إلى شيء آخر في العالم سوى هذا المشهد البسيط،فردّ بمرح:

“والله إنتَ اللي حلو! حلاوتك دي عايزة تتوزع على محلات الحلويات.”

طبع قبلة حنونة على وجنة الصغير،مستمتعًا بهذا الدفء،لكنه فجأة لمح بطرف عينه والده يصعد الدرج،فالتفت إليه،وسأله سريعًا بنبرة تحمل عتابًا مستترًا:

“حضرتك كنت فين طول اليوم يابابا؟”

اتسعت عينا يحيى بذعر عندما رأى وجه ابنه،وهتف بخوف حقيقي:

“سيبك أنا كنت فين…وقولي إيه اللي حصل في وشك؟!”

كاد سامي أن يجيبه،لكنه تجمّد في مكانه عندما اندفع يزيد للأمام بحماس طفولي،مادًا ذراعيه نحو يحيى وهو يهتف بسعادة صافية:

“جدو!”

ولكن على عكس ما توقعه الصغير،ابتعد يحيى برد فعل تلقائي،يطالعه بشيء من الضيق والاستياء،وكأنه تراجع غريزيًا قبل أن يدرك حتى ما فعله. تلك اللحظة،التي ربما كانت مجرد ثانية عابرة في نظر يحيى،كانت كافية لتوقد نارًا في صدر سامي،نارًا لم يكن بحاجة إلى وقود إضافي ليشعلها أكثر.

حدّق في والده بنظرات مشتعلة،صراعات كثيرة تدور في داخله،بين رغبة في الصراخ،وبين كبح جماح غضبه الذي كان يهدد بالخروج عن السيطرة. زفر بحدة،محاولًا ضبط أعصابه بصعوبة،لكنه لم يستطع منع صوته من أن يخرج حانقًا،محملًا بغضب مكبوت يكاد ينفجر في أي لحظة:

“موسى اتغز…ابقى روح شوفه،زي ما الكل راح.”

قالها بصوت بارد،كأنها طلقة أطلقها مباشرة نحو قلب والده،ثم التفت بعيدًا،وابتعد بخطوات ثقيلة،متشبثًا بالصغير،كأنه يتمسك بقطة من روحه.

ترجل على الدرس وهو يسمع صوت والده خلفه،يناديه ليوقفه،لكنه أبى أن يتوقف. لم يلتفت حتى،بل استمر في الابتعاد،كأنه يهرب، ليس فقط من المكان،بل من كل شيء،من غضبه،من استيائه،ومن خيبة أمل جديدة لم يكن بحاجة إليها.

لم يتجاهل صوت والده فحسب،بل تعمد فعل،لأنه كان يعلم…كان يعلم أنه إذا التفت،فلن يسيطر على نفسه،وسيلقي بنيرانه عليه دون رحمة.

___________________

في المساء…

جلس كما هو على الفراش،يضع الهاتف على أذنه ويتحدث مع عمته على الهاتف بينما يوزع نظراته على كل من والدته وعمته سهير التان جلستا أمامه على الأريكة.

“والله أنا كويس ياعمتي،مفيش لزوم إنك تيجي….،صديقني أنا كويس،متتعبيش نفسك….،آه والله كويس….،حاضر هاخد بالي من نفسي حاضر…،ماشي…،ماشي ياعمتي ابقى تعالي يوم الجمعة….،تمام،تمام ماشي ياعمتي…،مع السلامة،مع السلامة”

بمجرد أن أنهى المكالمة،أطلق زفيرًا بطيئًا كأنه كان يحبس أنفاسه طوال الوقت،ثم ناول الهاتف إلى سهير قائلاً ببرودٍ ساخر:

“اتفضلي يا عمتي التلفون.”

نهضت سهير وأخذت الهاتف منه بحركة ثقيلة،بينما عيناها تضيقان بأسى،قبل أن ترد بحسرة:

“هات يا حبيبي هات…هات اللي واخد عين فلقتك نصين.”

اتسعت عينا موسى في ذهول،وحدق فيها للحظات كأنها تحدثه بلغةٍ غريبة،ثم انفجر ساخرًا:

“يا ساتر يا رب،هو أنا كنت في مبارزة سيوف؟!”

عادت سهير إلى مقعدها بجوار عبير التي لم تتوقف عن النحيب،وهي تهز رأسها بأسى وكأنها فقدت عزيزًا:

“ما كانش يومك يا ابني…ما كانش يومك يا حبيبي…حسدوك،حسدوك يا حبيبي!”

أيدت سهير كلامها بحماسٍ شديد:

“محسود! قلتلك يا عبير،لازم تبخريه كل يوم…الواد العين بقت عليه،أهو شفتي اللي حصل؟”

“شوفت يا أختي،شوفت…شوفت ويارِتني ما شوفت!”

رفع موسى يديه وصفق كفيه ببعضهما في إحباط،وهو يحدق فيهما باستسلام:

“لا حول ولا قوة إلا بالله! أنتوا عايزين جنازة وتشبعوا فيها لطم! أقسم بالله،ما أنا كويس قدامكوا أهو،شايفيني مشلول؟ مبتور؟! اتقوا الله واهدوا شوية وصَلوا على النبي،وكفاية أغاني عن الحسد!”

تبادلت المرأتان النظرات قبل أن ترددا معًا:

“اللهم صلِ وسلم على سيدنا محمد.”

لكن سهير لم تتوقف،بل تابعت بإصرارٍ محذر:

“الحسد مذكور في القرآن يا بني…يعني موجود!”

ألقى موسى رأسه للخلف في إرهاقٍ وهو يغمغم:

“موجود،موجود…بس ده مش معناه إن كل حاجة تحصل لنا تبقى بسبب الحسد! ده قضاء وقدر ربنا،محدش ليه دخل فيه…اللي ربنا عايزه هو اللي هيحصل،فبلاش الحكايات دي،لأني مش مقتنع بيها خالص.”

التفتت سهير إلى عبير وقالت بتهكمٍ:

“ابنك دماغه ناشفة.”

زفرت عبير وهي تهز رأسها بأسى:

“حجر يا أختي،حجر…مش عارفة طالع لمين،ده حتى داوود بيلين عادي!”

تنهد موسى في ضيقٍ،وأخذ يمسح وجهه بيديه كأنما يزيح عن نفسه عبء هذا الحوار العقيم،لكنه لم يكد يلتقط أنفاسه حتى دلفت دلال إلى الغرفة،لتجذب انتباه الجميع عندما نادت:

“سهير!”

رفعت سهير نظرها نحوها مستفسرة:

“نعم؟”

“لينا وتينا قالولي أقولك إنهم هيمشوا.”

أشارت سهير بلا مبالاة:

“ماشي،خليهم.”

أومأت دلال برأسها والتفتت للمغادرة،لكن صوتًا هادئًا،مشوبًا بشيءٍ ما،أوقفها عند الباب:

“دلال!”

توقفت،والتفتت ببطء،وعيناها تحاولان قراءة كلماته قبل أن ينطق بها بينما اتخذت ملامحها حيادًا غامضًا.

في تلك اللحظة،التفتت سهير نحو عبير،ثم وضعت يدها على قدمها وهمست بمكرٍ:

“تعالي نشوف الأكل اللي على النار.”

قطبت عبير حاجبيها في استغرابٍ وهمست بصوتٍ مسموع:

“مفيش أكل على النار!”

لكن سهير لم تفقد رباطة جأشها،بل أرسلت لها نظرةً ذات معنى قبل أن ترد بتصنعٍ واضح:

“آه صح،أنا نسيت…سايبة البتاع على النار،تعالي نشوفه.”

“يلا يا حبيبتي.”

وبدون تردد،نهضت كلتاهما وغادرتا،تاركتين الغرفة خلفهما وكأنهما تمهدان لمواجهة لا مفر منها.

بينما ظلّت دلال على وقفتها عند الباب الذي أُغلقَ،لم تتحرك خطوة للأمام ولا للخلف،وكأن قدميها مغروستان في الأرض،كأنهما ترفضان التورط في هذه اللحظة. رمقته بنظرة باردة،لكن عينيها كانتا تحكيان أكثر مما نطقت به شفتاها حين سألته بحزمٍ:

“عايز إيه؟!”

لم يتردد،لم يلتف أو يراوغ. جاء رده سريعًا،بسيطًا،لكنه حمل ثقلاً لا تخطئه الأذن:

“عايزك.”

ارتفع حاجبها بإستنكار،وضمّت يديها إلى صدرها كدرعٍ يحميها من كلماته،من حضوره،من كل شيءٍ لم ترد مواجهته الآن،أو بالاحرى لم تكن مستعدة. لكنه لم يتراجع،بل زاد صوته هدوءًا،يلفه عتابٌ خفي،لا يضغط لكنه يوجع:

“يعني كله جه شافني معداكي…زعلانة مني ولا زعلانة عليا؟”

كان السؤال بسيطًا،لكنه شقّ طريقه إلى داخلها بسهولة. شعرت بشيءٍ يخنقها،بشيءٍ لم تعرف كيف تصيغه أو حتى تواجهه. لم ترد،لم تستطع الرد،فقط زفرت ببطءٍ كأنها تحاول التخلص من شيءٍ ثقيلٍ جثم على صدرها.

رآها،فهمها،لم يكن بحاجة إلى سماع الإجابة بصوتها،كانت حركتها تكفي،كانت أنفاسها المرتبكة تفضحها. فابتسم ابتسامة شاحبة،وغمغم بصوتٍ خافت كأنه يحدّث نفسه أكثر مما يخاطبها:

“يبقى الاتنين.”

.

.

.

جلست على الفراش،ملامح وجهها عابسة وكأنها تحاول أن تخفي خلف صمتها ما كان يعكر صفوها. عيناها لم تفارقا وجهه،لكنها كانت تُنصت له بصمتٍ قاتل. أتاح لها فرصة أن تتحدث أو حتى أن تصمت،لكنه بدأ هو بالحديث أخيرًا،صوته كان يعكس قلقًا خفيًا رغم محاولاته لإخفائه:

“فيه إيه؟ مالك؟ أنا بقالي كام يوم حاسس إنك واخدة جنب مني،ومضايقة،حتى لما بتتكلمي معايا بتبقى متعصبة وزهقانة،فيه إيه بجد؟ أنا عملت إيه لكل ده؟!”

نظرت إليه بحذرٍ،ثم جاء ردها كالسهم،حادًا،وكأنها لم تجد في نفسها القدرة على الاحتفاظ بالكلمات أكثر من ذلك:

“المفروض تعرف لوحدك.”

ابتسم بسخرية،محاولًا تبديد اللحظة الثقيلة التي خيمت بينهما،لكن سخريته كانت أكثر مرارة من المتوقع:

“لا،ماأنا مش جوزك علشان تقوليلي الحبيتين بتوع “لو كنت مهتم كنت عرفت”.

لحظات من الصمت مرّت بينهما،لكنه كان يراقبها بعينيه،بينما كانت هي تستجمع كلماتها. رفعت عينيها نحوه،ثم ردت بصوتٍ منخفض لكن حازم:

“تصدق إني غلطانة لما وافقت أسمعك.”

أنهت جملتها كمن تكتشف أنها لا تملك القدرة على التراجع،وكانت عازمة على النهوض ومغادرة المكان. ولكن حركته المفاجئة كانت أسرع منها.

أمسك بيدها بشكل مفاجئ،محاولًا منعها من الرحيل،وتسبب هذا التحرك في ألمٍ مفاجئ له،مما جعله يطلق تأوهًا مكتومًا. عندها،شعرت هي بحركة قلبها تتسارع،فاقتربت منه بفزع وقلق:

“فيه إيه؟…وجعك؟”

حاول أن يضبط تنفسه،وكل حركة كانت مليئة بالتوتر،ثم نظر إليها،وتسللت ابتسامة خبثية إلى وجهه،وهو يرد بنبرةٍ تحمل الكثير من الغموض:

“ما أنتِ خايفة عليا أهو.”

ابتعدت دلال عنه ببطء،وضمت يديها إلى صدرها في محاولة لحماية نفسها من مشاعرها التي بدأت تكتسحها. عيناها كانت تهربان منه،لكنها أجبرت نفسها على أن تتحدث بجمودٍ،وكأنها تقنع نفسها قبل أن تقنعه:

“آه،بخاف عليك مش ابن أخويا.”

نظر إليها موسى بنظرة مليئة بالاستفهام،وكأن الجملة التي خرجت من فمها كانت أقل من أن تشرح ما كان بينهما. فتساءل بعنادٍ،وفي صوته كان شيء من الخيبة:

“بس؟”

أخرجت زفيرًا هادئًا،محاولة أن تُخفي ما كان يتطاير من قلبها أمامه،ثم عادت إليه بنظرة ثابتة،ولكنها كانت أكثر تصميماً على الاستمرار في الحديث:

“آه،بس.”

أجابها بنبرة قاسية،وكأنه يرفض أن تكون هذه هي الإجابة الوحيدة:

“كدابة.”

أجابت على الفور،وقد ارتسمت على وجهها ملامح العتب،وسألت بنبرة تألمٍ:

“حد يقول لعمته كده؟”

لم يتردد هو في الرد،وكأن كلامه هذا كان النتيجة النهائية لما كان يشعر به من داخل قلبه:

“أنتِ مش عمتي…أنتِ عارفة كويس إني عمري ما اعتبرتك عمتي. طول عمرك كنتِ صاحبتي،أختي،توأم روحي. أول واحدة بلجألها بعد ربنا لما الدنيا بتيجي عليا.”

توقف موسى عن الكلام فجأة،وكأنما الكلمات ثقيلة على لسانه. كان صوته يحمل معاني أكبر من مجرد كلمات،بينما كانت هي تراقب كل حركة من حركاته بعينيها،وكان الصمت بينهما يُثقل المكان. شعرت وكأن كل كلمة يقولها لها تدق قلبها بشدة.

بينما هو أضاف بصوت منخفض لكنه مليء بالمشاعر:

“أكتر واحدة بتفهمني من غير ما أتكلم حتى،أكتر واحدة برتاح لما بتكلم معاها،أكتر واحدة عرفاني وحفظاني،أكتر واحدة قريبة من قلبي،وبعتبرها أختي بجد. أختي اللي ربنا رزقني بيها وكانت ولازالت أحلى وأغلى هدية منه”

كانت كلماته أشبه بسكاكين حادة في قلبها،فهي لم تتوقع أن يُعبّر عن مشاعره بهذا الشكل في لحظة كهذه.

تنفست بصعوبة،وكأن الصدمة قد مسحت كل مشاعرها. ولم تستطع إلا أن تسأله بصوت ممزوج بالدموع والحزن:

“وطالما كنت كل ده بالنسبة لك…ليه بعدت عني؟ ليه دمرت علاقتنا؟ ليه تخليت عني يا موسى؟”

كانت كلماته كسهم مسموم،لا يخطئ هدفه. اخترق كل الحواجز التي بناها حول قلبه،جرف معه كل ما حاول دفنه لسنوات،ليصبح عارياً أمامها،بلا أقنعة،بلا حواجز. انفجر غضبه أخيراً،خرجت كلماته متتابعة،متدفقة كالسيل الجارف،ليهتف بانفعال كأنه يحاول تمزيق الصمت الذي طالما كبّله:

“علشان مابقاش منافق…علشان مابقاش منافق يا دلال!”

كان صوته عالياً،مشحونًا بما يكفي ليصل إليها،ليخترق مسامعها بلا استئذان،وليرتد صداه إلى الخارج حيث تردد في أرجاء المكان. لكن رغم ذلك،لم يجرؤ أحد على التدخل،وكأن الغرفة أصبحت عالماً منفصلاً،يخصهما وحدهما.

حدقت فيه بعينين متسعتين،غير قادرة على استيعاب ما نطق به للتو. كانت الكلمات أكبر من أن تستوعبها في لحظة،لكنّه لم يمنحها وقتًا للتفكير،لم يسمح لها بالهرب من وقع صدمتها،بل أضاف،ليهوي بكلماته الثقيلة على روحها:

“أنا اخترت أبعد عنك وأفضل أتمنالك الخير،بدل ماأكون قريب منك وجوايا حتة بتحسدك على كل نجاح بتحققيه…،أنا ماكنتش عايز أبقى منافق يا دلال! عمري ما كنت هبقى فرحان وأنا غيران من نجاحك،وأنا بضحك في وشك وجوايا عكس كده تجاهك! كنتِ هتحبي أبقى منافق معاكِ؟؟ جاوبيني!”

لم تجب،لم تجد الكلمات التي قد تواسيه أو تواسي نفسها،كأن الحروف خانتها،كأن صوتها تخلى عنها،لكنها لم تكن بحاجة للكلام؛فقد اجتمعت كل ردودها في مقلتيها،حيث تجمعت الدموع قبل أن تسقط.

هو الآخر شعر بذلك الثقل في صدره،فأخرج زفيرًا هادئًا في محاولة يائسة لتهدئة نفسه،قبل أن يضيف بصوت منخفض،لكنه كان محمّلًا بأثقال حملها لسنوات:

“أنا قلتها قبل كده قدام الكل وقدامك،إن بعدت عنك غصب عني…لما بدأوا يقارنوني بيكِ في كل حاجة،بدأت أضايق منهم…ومنك،وده زعلني جامد. وفي نفس الوقت خوفني…خفت بعدين بسبب مقارنتهم دي أكرهك،أحقد عليكِ،أكره نجاحك…وده لو كان حصل،كنت هكره نفسي!”

سكت للحظة،كأنه يستجمع قواه من جديد،قبل أن يتابع بصوت مختنق،يحمل صدقًا عاريًا من أي زيف:

“ولما بدأت أحس إن ده فعلاً بدأ يحصل،وإن بدأت فعلاً أغير منك،قررت أبعد. قررت أحط حواجز بينا،علشان أفضل أحبك…علشان أفضل أتمنالك الخير، مش العكس. أنا كنت عايز أفضل أحبك زي ما أنا…ماكنتش عايز أحس للحظة إني كرهتك…فهماني؟”

كانت عيناه تتوسلان إليها لتفهم،لم يكن يطلب منها تسامحًا،ولم يكن ينتظر منها عزاءً،بل كان يريد فقط أن تستوعب،أن ترى الأمور من خلال عينيه، أن تدرك أن بنائه لتلك الحواجز لم يكن خيارًا بقدر ما كان ضرورة،قيدًا اضطر أن يلفّه حول قلبه حتى لا ينفلت منه ما هو أسوأ.

أرادها أن تعلم أنه لو لم يفعل،لو لم يبتعد،لو لم يضع بينهما تلك المسافة الفاصلة،لكان الآن غارقًا في حقده عليها، لكانت كل تلك المشاعر الدافئة التي يكنّها لها قد تلاشت منذ زمن، لتحل محلها كراهية لم يكن ليسامح نفسه عليها.

كان كل ذلك بسبب مقارنة دائمة،مقارنة لم يسعَ إليها،لكنها لاحقته في كل زاوية،في كل نظرة،في كل تعليق عابر. كان دائمًا في المرتبة الثانية،دائمًا ظلًا لما تحققه هي،ودائمًا ما كان يشعر أن نجاحها يسلبه حقه في الفخر بنفسه. لم يكن الغضب منها،بل من أولئك الذين جعلوه يشعر بأنه لا شيء أمامها،بأن قيمته لا تكتمل إلا عندما يكون ندًا لها،وكأنه وُجد ليكون مجرد معيار يقاس به تفوقها.

كل ذلك كان أكبر من احتماله،كان يهدد بأن يسلبه نقاء مشاعره تجاهها،وكان يدرك أن اللحظة التي سيكرهها فيها،ستكون اللحظة التي سيفقد فيها جزءًا من نفسه. لذا،اختار الحل الأصعب،الحل الذي كسره من الداخل لكنه حافظ على ما تبقى منه…اختار أن يبتعد.

ظل يحدّق فيها،ينتظر منها أي إجابة،أي استجابة،لكنه لم يجد شيئًا. ظل الصمت بينهما كثيفًا،مشحونًا بكل ما لم يُقال،حتى أغمض عينيه بتعبٍ،وكأن حمل السنين أثقل جفونه. وعندما فتحهما مجددًا،وجدها تقترب منه،وعيناها اللامعتان تخبرانه بما لم تستطع الكلمات أن تنطق به،حتى جاءه صوتها الباكي،مرتجفًا،متغلغلًا في صدره كطعنة غير مرئية:

“بس أنتَ بعدت أوي يا موسى!”

ارتفع حاجباه قليلاً،وشعر بشيء يخترق صدره مع كل نبرة انكسار في صوتها،لكنه لم يستطع النطق،ظل يراقبها بصمت،بينما تابعت هي بنبرة لم تقل وجعًا عن سابقتها:

“أنت بعدت أوي عني،بعدت وحرمتني من حاجات كتير كان نفسي أعملها معاك،حاجات من وأنا صغيرة كان نفسي أشاركها معاك أنتَ وبس،علشان أنا زيك،أنا كمان كنت بعتبرك أخويا،توأمي،اللي من أول ما وعيت على الدنيا لقيت إيدي ماسكة في إيده…وكان نفسي تفضل إيدي دايمًا في إيده.”

توقفت للحظة،زابتلعت ريقها بغصة مريرة علقت في حلقها،كأنها تحاول أن تقاوم سيل الذكريات التي اجتاحت عقلها،ثم استجمعت شتات صوتها وأكملت،وكأنها تخرج كل ما احتجزته في قلبها لسنوات:

“كان نفسي تشاركني الأحداث الكبيرة في حياتي،زي يوم نجاحي في الثانوية…كان نفسي تيجي وتباركلي زي ما الكل عمل،كنت عايزة أشوف فرحتك بيا،بس أنتَ…أنتَ غبت اليوم كله بره البيت،ولما رجعت قلت إنك كنت في سايبر والوقت سرقك،وحتى لما قالولك على نجاحي ما كلفتش خاطرك وجيت وباركتلي…استنيتك،بس أنت ماجتش.”

تأملها ورأى الدموع تتلألأ في عينيها،لكنه لم يستطع أن ينطق،لم يستطع أن يبرر،فقط ظل يستمع،بينما هي تابعت بنفس الوتيرة الموجوعة:

“كان نفسي تكون معايا في أول يوم ليا في الجامعة،توصلني الكلية بنفسك،

تيجي تاخدني وأتباهى بيك وأقول ده ابن أخويا اللي في مقام أخويا،وتوأم روحي،بس ده ما حصلش…كان نفسي تكون معايا في يوم تخرجي،تحتفل وتفرح معايا في يوم زي ده، بس أنتَ معملتش كده،فضّلت واقف بعيد زيك زي أي حد غريب،وكل اللي طلع من بُقك وقتها كانت كلمة واحدة…’مبروك’ وبس.”

ارتعشت شفتيها قليلًا،واهتز صوتها وهي تتابع،وكأن الوجع بلغ ذروته داخلها:

“كان نفسي أوي تكون معايا في اليوم اللي أي بنت بتستناه،يوم فرحي…كنت عايزاك تبقى معايا،ما تسبنيش،تفضل جنبي طول اليوم،تيجي معايا للسيشن،نتصور مع بعض،ترقص وتفرح معايا،وأتشارك فرحتي معاك…بس كل ده ماحصلش،ماحصلش يا موسى.”

توقفت أخيرًا،وكأنها فقدت القدرة على الاستمرار،بينما ظل هو واقفًا في مكانه،متجمدًا،كأن كلماتها سحبت الهواء من حوله،كأنها نزعت منه ثباته الذي تشبث به طويلًا.

أبعدت عينيه عنها،كأنه يخشى أن يرى في عينيها ما قد يكسره أكثر،ثم مسح عينيه بيده،محاولًا إخفاء الدموع التي تجمعت هناك رغمًا عنه. زفر بهدوء،كأنه يحاول ترتيب أفكاره قبل أن يعود إليها،ويرد بصوت خافت،لكنه محمّل بكل ما كتمه لسنوات:

“ومين قال إني ماكنتش عايز أكون معاكِ في كل المناسبات دي؟! أنا كنت عايز أكون معاكِ في كل لحظة من دول،وغيرهم كمان. كنت عايز أفرح معاكِ،بس ماكنش عندي الشجاعة إني أعمل كده…كنت هعمل كده إزاي وأنا خلاص كنت بنيت الحواجز بينا؟ وماكنش ينفع أهدّها فجأة،زي مابنتها فجأة…ماكنش ينفع أقرب منك بدون مقدمات كده بعد ما بعدت عنك فجأة.”

سكت للحظة،كأنه يستعيد أنفاسه بعد كل ما قاله،ثم تنهد بثقل،وواصل بصوت متعب لكنه صادق:

“وعلى فكرة،أنا كنت فرحان لك في كل لحظة من دول،شاركتك فرحتك بس من بعيد…يوم نتيجة الثانوية بتاعتك،أنا والعيال في السايبر وزعنا عصير على المنطقة باسم أبويا، كنت لسه قابض مبلغ محترم لشغل ليا في إعلان،ولما عرفت إنك نجحتي وجبتي مجموع كبير،ماقدرتش أمسك نفسي ولا محفظتي،وروحت صارف ومبحبحها على الآخر،بس من غير ما حد يعرف…”

نظر إليها سريعًا،كأنه يريد أن يرى تأثير كلماته عليها،لكنها ظلت صامتة،فتابع بصوت دافئ يحمل ندمًا دفينًا:

“وأول يوم في الجامعة،صحيت بدري وكنت ناوي أروح مع عمي أحمد أوصلك بالعربية بحجة إني عندي مشوار، بس لقيتكم سبقتوني،فأخدت تاكسي وطلعت وراكم…فضلت واقف لحد ما شوفت إنك دخلتِ،واستنيتك طول اليوم في كافيه قدام الجامعة لحد ما خلصتِ وطمنت إنك ركبتِ…أما يوم تخرجك،فأنا كنت ماسك نفسي بالعافية،علشان كنت هموت وأرقصلك،وكنت عايز أحضنك وأشيلك وألف بيكِ وأقول ‘دي الدكتورة بتاعتي،دلال،أختي!'”

لم يستطع أن يمنع نفسه من الابتسام قليلًا،ابتسامة صغيرة لكنها أضاءت وجهه المتعب،وكأن مجرد تذكر تلك اللحظات خفّف ولو قليلًا من عبء السنين،ثم تابع،هذه المرة بنبرة دافئة،لكنها تحمل وجعًا خفيًا:

“أما يوم فرحك بقا،فده كنت مضايق فيه على قد ما كنت فرحان. كنت فرحان طبعًا علشانك،بس كنت زعلان طبعًا علشان هتسبيني…علشان هتمشي وتسيبيني في البيت الكبير والعريض ده لوحدي،وإن مش هلاقي حد أتخانق وأشد معاه،ولا أستفزه ويستفزني…حد كان مخلّي لحياتي طعم تاني…أنتِ…”

نظر إليها نظرة طويلة،نظرة قالت كل ما لم يستطع لسانه أن ينطقه،ثم أكمل بصوت محمل بشجن ناعم،وبابتسامة ذابلة لكنها صادقة:

“أنتِ سكر حياتي والله..يادلال.”

ساد الصمت بعدها،لكنه لم يكن الصمت الثقيل المعتاد بينهما…كان صمتًا دافئًا،محمّلًا بذكريات كثيرة،وألمٍ أجمل ما فيه أنه كان صادقًا.

تبدد التوتر من جسدها شيئًا فشيئًا،وبدأت الابتسامة تشق طريقها إلى وجهها رغم محاولتها للمقاومة،بعدما نجح بتلك الكلمات في التأثير بها.

ابتسم هو بدوره فور أن رآها تبتسم،ثم ضحك بخفة وقال بصوت صادق،لا يحمل أي مزاح:

“والله سكر حياتي يا ناس،حتة من قلبي ماأقدرش أستغنى عنها،اللي حافظاني ومعاها كل أسراري.”

لم تكد كلماته تستقر في أذنها حتى انقبضت ملامحها،وزالت الابتسامة من وجهها فورًا،وحلّ محلها ضيق واضح، قبل أن ترد بتهكم:

“طب ماتكدبش،علشان أنا ماكنش معايا كل أسرارك،علشان حضرتك خبيت عني أهم سر في حياتك!”

رفع حاجبيه بإندهاش،قبل أن يقول بعدم فهم:

“مش فاهم؟”

رمقته بنظرة ساخرة قبل أن تتابع،وهي تنطق لقبه بطريقة لم تخلُ من السخرية:

“مش فاهم إزاي؟! مش عارف بتكلم عن إيه يا…MF؟!”

ضحك بخفة على طريقتها في نطق اللقب،ثم قال بمزاح:

“فهمت،يعني أنتِ مقموصة علشان خبيت عنك إني MF وعرفتِ زيك زي الكل؟”

اقترب منهه،وجلست أمامه على الفراش،ثم قالت بنبرة عتاب واضحة:

“آه زعلانة،علشان كنت فاكرة إني مميزة عندك،وإنك مش مخبي عني حاجة،

بس طلعت مخبي عني أهم سر في حياتك.”

هزّ رأسه سريعًا،قبل أن يرد بجدية مفاجئة:

“غلط.”

رفعت حاجبها قليلًا،لكن قبل أن تسأله،تابع هو بنفس الجدية:

“غلط يا دلال. أنتِ معاكِ أهم سر في حياتي،السر اللي محدش كان عارفه غيرك…وهو حبي لفيروز.”

بدت ملامحها متفاجئة قليلًا،لكنه أكمل بإصرار:

“أما بقا شغلي وMF،فده مش مميز أوي ولا مهم أوي بالنسبة لي. وغير كده،كنت مشاركه مع صحابي كلهم،على عكس السر اللي كان معاكِ،اللي محدش كان يعرفه غيري وغيرك،واللي هو كان أهم سر في حياتي،واللي احتفظت بيه مع سكر حياتي.”

ساد الصمت للحظات،لكنه لم يكن صمتًا عاديًا،بل كان محملًا بحقائق جديدة،حقائق جعلتها تعيد النظر في كل شيء اعتقدته سابقًا،جعلتها ترى الأمور من منظور مختلف. لحظات قليلة كانت كافية لتُشرق ابتسامة واسعة على وجهها،ابتسامة حملت معها فرحًا خالصًا،وكأنها حصلت لتوها على جائزة ثمينة لم تتوقعها.

رآها تبتسم بهذه الطريقة،فهتف بمرح وهو يراقبها بسعادة:

“أيوه كده، فكيها…خلي الدنيا تفكها عليّا.”

ضحكت بخفة على جملته العفوية،بينما أضاف هو بابتسامة دافئة:

“اتصافينا كده؟!”

لم ترد مباشرة،بل صمتت للحظة،تفكر في شيء ما،ثم تنهدت قبل أن تقول بنبرة جادة،ولكن دافئة:

“مش قبل ما توعدني بشوية حاجات.”

هزّ رأسه باهتمام،وقال دون تردد:

“أنا تحت أمرك.”

رفعت يدها،وعدّت على أصابعها وهي تتحدث بحزم لطيف:

“أولًا:مش هنبعد عن بعض تاني مهما حصل،ولو حد فينا اتضايق من التاني،هييجي يقوله بدل ما يهرب.”

“ماشي.”

“ثانيًا:مفيش أسرار تاني بينا،محدش فينا هيخبي حاجة عن التاني.”

“موافق.”

“ثالثًا:هنحاول نعوض اللي فات،ونقعد ونتكلم كتير مع بعض زي زمان.”

“عيوني.”

“رابعًا:هنبطل نتخانق على أتفه الأسباب،ونشد مع بعض كأننا عيال صغيرين،وكمان نبطل نستفز بعض.”

ظهر تردد واضح على وجهه عند الجملة الأخيرة،قبل أن يقول بمكر وهو يرفع حاجبيه:

“أنا موافق على الشق الأول،بس الشق التاني مش واثق إني هقدر ألتزم بيه…أصله موضوع الاستفزاز ده حساس شوية عندي.”

ضحكت بخفوف،ثم فكرت قليلًا،كأنها تراجع حديثه،قبل أن ترد بصدق:

“معاك حق،ولا أنا هعرف ألتزم بيه…نلغيه أحسن؟”

هزّ رأسه موافقًا بسرعة:

“أنا بقول كده.”

“تمام،هنلغي الشق ده،بس هنلتزم بالباقي،اتفقنا؟”

مدّت يدها إليه في نهاية جملتها لتصافحه،فابتسم لها بحرارة،ثم صافحها بحزم وهو يردد بثباتٍ وإخلاص:

“اتفقنا…يا سُكر.”

ابتسمت ببهجة صادقة،وكأنها تستقبل فجرًا جديدًا خاليًا من العتاب،بينما هو بادلها الابتسام،لكن نظرته حملت شيئًا أعمق…وكأنهما أخيرًا وجدا طريق العودة لبعضهما بعد تيهٍ طويل. لم يكن اتفاقهما مجرد كلمات تُقال،بل كان وعدًا حقيقيًا،بداية جديدة تُمحى فيها المسافات،وتُهدَم فيها الحواجز،لتعود العلاقة بينهما نقية كما كانت…وربما أقوى.

___________________

مع مرور الوقت

كان يستلقى على الفراش يطالع سقف الغرفة بأعين شاردة،بعدما فشل في طرد تلك الجملة عن رأسه،والتي أخذت تترد على

خاطره منذ أن بقي وحده،ورغم حديثه الأخير مع دلاد وفرحته بصفحته الجديدة معها،إلى أنه لم يستطع ألا يفكر في تلك الجملة

،والتي أضحت كأنها تحاصره.

ولج إليه جده في تلك اللحظة بعد مغادرة أفراد العائلة وعودتهم إلى منازلهم،وقف على

الباب يطالع جسده المُستلقى على الفراش،ثم

أخرج زفيراً خفيفاً،ثم سأله بصوت حاني لكنه يحمل بعض القلق:

“حاسس بإيه دلوقتي؟؟”

انتبه له موسى ثم

أجابه بصوت هادئ،ليطمأنه:

“الحمد لله،أحسن ياجدي”

ابتسم محمد قليلاً وهو يلاحظ تحسن حالته،ثم قال بلطفٍ

:

“طب ريح شوية بقا،وكفاية زيارات النهاردة كده،يلا تصبح على خير”

التفت عقب كلماته تلك لكي يغادر الغرفة،لكن قبل أن يخطو خطوة واحدة،أوقفه صوت الأخير،يناديه:

“استني ياجدى”

استدار محمد إليه من جديد وبدت عليه علامات الإستغراب،ولكن قبل أن يتفوه بحرف،سبقه الأخير وأردف بجدية واضحة:

“عايز أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم…ماينفعس يتأجل خالص”

#يتبع…

___________________

كتابة/أمل بشر.

أتمنى يبقى البارت عجبكم،وماتنسوش تقولولي رأيكم ياحلوين.

دمتم بخير…سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق