رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل التاسع والعشرون
الفصل التاسع والعشرون(حِمل مفاجئ)
صلوا على رسول الله…
اذكروا الله…
تفاعلوا فضلاً ياحلوين،في فرق كبير بين عدد القراء واللي بيتفاعلوا.
نبدأ بسم الله…
_________
“لا تجعل ماضيك يحدد مُستقبلك”
-مقتبس
________________
“أنتِ بتردهالي يعني؟!”
أطلق كارم تلك الكلمات بتهكم واضح،بينما كان مستندًا بظهره إلى الكرسي،يعاين الطعام أمامه بنظرة ساخرة،بينما تتلاعب شفتاه بابتسامة جانبية تنمّ عن انزعاجه المكتوم. لم يكن الأمر متعلقًا بالمكان أو الجلسة،بل بالمأدبة غير المتوقعة التي وُضعت أمامه.
رفعت ميرنا حاجبيها في حيرة،ثم وضعت العصيّ جانبًا ونظرت إليه بعدم فهم:
“مش فاهمة..”
أشار بعينيه نحو الأطباق التي تتوسط الطاولة،ففهمت قصده واتسعت عيناها بدهشة،قبل أن تهتف مستنكرة:
“ثانية،هو انت مش بتحب السوشي؟”
لوّح بيده في استهجان،قبل أن يرد بصوته الأجش،بنبرة تجمع بين السخرية وعدم التصديق:
“لأ مش بحب السوشي،هو أنا علشان أكلتك سمك مملح هتأكليني سمك نيّ؟!”
انتفضت رأسها سريعًا تنفي الاتهام،مصحوبة بتلويحة طفيفة من يدها:
“لأ،أنا ماكنتش بفكر كده! أنا افتكرت إنك بتحب السمك.”
ضاقت عيناه وهو يميل برأسه للأمام قليلاً،وكأنّه يزن كلماتها،ثم قال ببطء:
“أنا بحب السمك فعلاً..بس أكله مشوي،مقلي،مش محشي.”
تجعد جبينها وهي تعيد كلماته في عقلها،قبل أن تردد بعدم تصديق:
“سمك محشي!؟”
أشار نحو الطبق بعينيه،قبل أن يؤكد:
“آه،سمك نيّ محشي رز،ومعجن كمان! وأنا ماليش فيه بصراحة..تقدري تاكليه أنتِ،بألف هنا وشفا”
ألقى كلماته الأخيرة وهو يعود بجسده للخلف،كأنه يعلن انتهاء النقاش،لكنها لم تكن مستعدة لإنهاء الحديث بهذه السهولة،فردت بسرعة:
“بس أنا عزماك،ماينفعش أكل لوحدي!”
ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة،قبل أن يرد بنبرة تحمل شيئًا من العبثية:
“اعتبريني أكلت يا ست البنات.”
لم يعجبها جوابه،فعدّلت جلستها وأردفت بحدة لطيفة:
“بس أنا المرة اللي فاتت أكلت حاجات مش بحبها،ولا حتى جربتها قبل كده،علشان انت طلبت مني..ودلوقتي مش موافق تاكل معايا؟”
لم يبدُ كارم متفاجئًا من استنكارها،بل فقط راقبها للحظات،قبل أن يخرج زفيرًا هادئًا ويقول بنبرة متروية:
“هاكل..بس حاجة تانية،بحبها وواثق إنك هتحبيها.”
رفعت حاجبها بشيء من الفضول:
“إيه هي؟”
اتكأ على مرفقه،ثم أشار لها بإيماءة خفيفة:
“خلصي أكل وهتعرفي.”
تأملته للحظات،كأنها تدرس مدى جديته،ثم أومأت موافقة،قبل أن ترد بابتسامة صغيرة:
“ماشي،بس أنا اللي هحاسب.”
انتشر على شفتيه ما يشبه نصف ابتسامة،بينما أمال رأسه قليلاً وهو يكرر بصوت منخفض:
“ماشي..ابقى حاسبِ.”
لم يكن الأمر مجرد كلمات،كانت طريقته في قولها،إيقاع صوته،النظرة التي رافقتها…كل شيء فيه كان يعبث بفضولها. ومع ذلك،لم يكن هناك خوف،لا ذرة قلق،ولا حتى إحساس بالرهبة مما قد ينتظرها معه.
وهذا بالتحديد…كان أكثر ما يثير غرابتها. كيف لشخص غريب عليها،جديد في إطار حياتها،أن يكون الشيء الوحيد الذي تشعر معه بالأمان؟
_____________
سارت بخطوات هادئة نحو بوابة الجامعة،تدفع حقيبتها بثبات على كتفها،بينما الشمس تلقي بوهجها الخافت على ملامحها المتعبة. أخرجت هاتفها من الحقيبة بحركة تلقائية،وما إن أضاءت شاشته حتى تجمدت في مكانها. عشرات المكالمات الفائتة من موسى!
ارتسمت على وجهها ملامح القلق،وعقدت حاجبيها وتساءلت في سرها:
“ايه كل المكالمات دي ياموسى؟”
دون تردد،مرّرت أناملها فوق الشاشة استعدادًا للاتصال به،لكن قبل أن تضع الهاتف على أذنها، التقطت عيناها هيئة مألوفة تتقدم نحوها.
كان هو..حسن
!
كان يسير بخطوات هادئة،ملامحه كما هي،لا تكشف الكثير،وعيناه – كعادته – لا تفارق الأرض. شعرت بنبضها يتسارع،والهواء من حولها كأنه صار أثقل،بلعت ريقها بصعوبة،بينما هو توقف على بعد مترين منها تقريباً،ثم نبس بصوته الرخيم:
“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”
كأن الزمن توقف عند هذه اللحظة،تجمدت نظراتها عليه،وشيئاً فشيئاً أدركت الأمر،فابتلعت ريقها ثم قالت بنبرة جاهدة لتخرج طبيعية:
“وعليكم السلام”
“أظن،إن موسى اتصل بيكِ وايداكِ علم إن هاجي أرافقك للدكتورة”
ظلت صامتة للحظة،كأنها تحاول استيعاب كلماته،بعدما تجمد عقلها لثانية. ثم حركت رأسها بالنفي سريعًا وقالت بصوت هادئ:
“لأ..هو اتصل بيا،بس كنت في المحاضرة وكان الموبايل على الصامت.”
أجابها حسن بصوته الهادئ،المعتاد:
“تقدري تتصلي بيه وتتأكدي لو حابة؟”
حركت رأسها سريعًا بالنفي،مؤكدة له ثقتها بكلامه:
“لا،مالوش لزوم،أنا مصدقاك والله.”
“تمام..نمشي؟”
أومأت موافقة،ثم أضافت:
“أوكي،بس نشوف تاكسي الأول.”
استدار نصف استدارة،وأشار بيده نحو سيارة أجرة متوقفة على جانب الطريق،قبل أن يقول:
“التاكسي هناك.”
اتسعت عيناها في لحظة استيعاب صامتة،كأنما احتاج عقلها ثانية إضافية ليترجم وجود السيارة أمامها. طرفت سريعًا قبل أن تومئ برأسها إيجابًا،حركة بسيطة لكنها حملت في طياتها إدراكًا متأخرًا.
كان هو قد لمح استجاباتها الخافتة،لكنه لم يرفع عينيه عن الأرض،بل اكتفى بالإشارة للسائق بيده،ثم تحرك بخطوات هادئة نحو السيارة،وكأن المسافة بينهما وبينها يجب أن تُقطع دون استعجال.
عند وصولهما،توقف للحظة،ثم مد يده بتمهل ليفتح لها الباب الخلفي بحركة خالية من التكلف. لم يقل شيئًا،لكنه انتظر حتى جلست،متأكدًا من راحتها قبل أن يدور حول السيارة ويتجه إلى المقعد الأمامي. جلس إلى جوار السائق،وبمجرد أن شدّ حزام الأمان حوله،امتدت يده تلقائيًا نحو المرآة الأمامية،وعدّلها قليلًا بحركة تكاد تكون لا إرادية،لكنها محسوبة بدقة.
لم يكن بحاجة إلى النطق،فقد باتت تحفظ عادته تلك،وكأنها أصبحت جزءًا من لغة صمته. التقطت الإشارة سريعًا،ثم مالت بجسدها قليلاً بعيدًا عن زاوية المرآة،مانحة إياه راحته دون أن يكون مضطرًا للطلب.
لم تمضِ سوى ثوانٍ قليلة حتى كانت السيارة تنطلق بهما نحو وجهتهما المحددة. جلس هو في مكانه بثبات،عينيه معلقتان بالطريق أمامه،يراقب المشهد وهو ينساب أمامه بسكون معتاد،وكأن عقله غارق في أفكار لا تتطلب حديثًا.
أما هي،فقد تسللت نظراتها إليه دون وعي،عيناها تتفحصان ملامحه في تأمل طويل. لم تكن تدرك في البداية أنها تراقبه،فقط كانت تحدق بصمت،تتابع تفاصيله في ضوء الشارع المتغير،تدرس قسماته التي باتت مألوفة أكثر مما ينبغي.
لكنها فجأة استوعبت ما تفعله،وكأنها استيقظت من غفوة قصيرة،فسارعت بإبعاد عينيها عنه،عندما تذكرت أن النظر إليه خطأً يجب تصحيحه فورًا. أدارت وجهها سريعًا نحو النافذة،تحاول أن تلهي نفسها بانسياب المدينة من حولها،لكن قلبها كان يدرك جيدًا أن تلك الثواني رغم بساطتها،لم تمر مرور الكرام.
_________________
جلست على مقعدٍ حديدي على كورنيش النيل،لا يفصلها عن المياه سوى ذلك الحاجز الأسمنتي الصلب،كخطٍ رفيع بين ثبات الأرض وانسياب النهر.
تنفست ميرنا الصعداء ببطء،كأنها تحاول أن تملأ رئتيها بنقاء اللحظة. عيناها معلقتان بضوء الشمس المتراقص فوق سطح المياه، ذلك الانعكاس الذهبي الذي يبدو وكأنه يهمس للنهر بأسراره.
امتدت أشعة الشمس لتداعب ملامحها برفق،تتسلل إلى بشرتها من بين طيات الهواء الذي يعبث بخصلاتها بخفة،فيراقصها كما لو كان يحمل رسالة غير مرئية. كانت نظارتها الشمسية تعكس بريق الضوء،بينما تتلاعب النسمات الدافئة حولها،تمنحها إحساسًا غريبًا بالتحرر،وكأن كل شيء في تلك اللحظة يتواطأ لمنحها لحظة صفاء نادرة.
وازداد شعور الراحة يتغلغل داخلها، كأن الهواء العليل قد حمل معه سكينة غير مألوفة. لم تكن بحاجة إلى التفكير أو البحث عن سبب،فقد أدركت فورًا مصدر ذلك الإحساس، بمجرد أن التقطت أذناها صوته المألوف يخترق سكون اللحظة.
“أحلى كشري..لملكة البنات وأحلاهم من غير مجاملات!”
هتف بها بصوته المرح،مشاكسًا كعادته،وكأن كلماته جاءت لتمحو أي أثر للشرود أو التفكير العميق. لم تستطع منع نفسها من الابتسام،تلك الابتسامة التي تسللت على ملامحها دون استئذان،وكأنها استجابة طبيعية لصوته الذي بات يحمل معه نوعًا خاصًا من الطمأنينة،حتى وإن جاء مغلفًا بالمرح والمشاكسة.
التفتت نحوه ببطء،عيناها تلمعان بمزيج من الدهشة والراحة،بينما قلبها يخبرها بأن اللحظة قد أصبحت أكثر دفئًا بحضوره.
اقترب كارم منها بخطوات هادئة،ثم جلس بجوارها على المقعد ذاته،تاركًا بينهما مسافة صغيرة،وضع بها الحقيبة البلاستيكية وكأنه بذلك يحافظ على تلك الحدود بينهما.
بتلقائية،أخرج من الحقيبة عبوتين كبيرتين من الكشري،مع الإضافات المعتادة التي لم ينسَها كما كل مرة. حرص على ترتيب كل شيء بعناية قبل أن يمد يدًا نحوها بإحدى العبوتين،مقدمًا لها حصّتها.
“هتعرفي تحطيهم ولا أحطهملك أنا؟”
قالها بصوته المعتاد،مازجًا بين الجدية والمزاح،بينما تناولت منه الأشياء بحركة سلسة،ووضعتها أمامها قائلة بثقة خفيفة:
“لأ،أنا بعرف أحطهم.”
أومأ لها بإيجاب خفيف،وكأنه كان يتوقع ردها،ثم بدأ في فتح عبوته وإضافة المكونات عليها. في المقابل،شرعت هي أيضًا في ترتيب وجبتها على طريقتها،تضع الإضافات بدقة وكأنها تؤدي طقسًا مألوفًا.
رفع نظره نحوها فجأة،متأملًا ملامحها قبل أن يهتف بأسلوبه المرح المعتاد،وقد تسلل إلى نبرته بعض الفضول:
“إيه رأيك بقى في العزومة اللي ما كلّفتش ١٠٠ جنيه؟ سعره حنين وطعمه يجنن!”
ضحكت بخفة وهي تحرك الإضافات أمامها،ثم رفعت عينيها إليه قائلة:
“حلوة بجد،بس ما توقعتش إنك هتأكلني كشري!”
اتكأ على المقعد براحة،مداعبًا إياها بنبرة مليئة بالمكر:
“مش أحسن من السمك المحشي؟ ولا عندك رأي تاني؟”
هزّت رأسها نافية،ثم أجابت بحماس خفيف:
“لا،مش أحسن منه…الكشري أحسن طبعًا!”
ضحك على ردها العفوي،لكن فضوله لم يهدأ،فسألها فجأة،وقد أصبح صوته أكثر جدية:
“صحيح؟ هو أنتِ أكلتِ كشري قبل كده؟”
رفعت نظرها إليه،أومأت إيجابًا،ثم أجابت بنبرة تحمل لمحة من الذكريات البعيدة:
“آه،أكلته مرة قبل كده من كام سنة.”
رفع حاجبه بدهشة،وكأنه لم يستوعب إجاباتها بعد:
“مرة بس؟!”
“آه.”
نظر إليها وكأنه يواجه أمرًا غير منطقي تمامًا،ثم قال مستنكرًا بمبالغة متعمدة:
“إزاي يا بنتي تبقي عايشة في مصر وما تاكليش الكشري غير مرة واحدة بس؟!”
ضحكت على حيرته المبالغ فيها،ثم رفعت كتفيها بلا اكتراث وقالت:
“أهو الله حصل بقى!”
رمقها بنظرة مليئة بالمرح،ثم أشار نحو طبقها بإيماءة خفيفة وهو يقول:
“طب،جربي ده وقوليلي،مين فيهم أحسن؟ ده ولا اللي دُقتيه زمان؟”
أومأت له بابتسامة صغيرة،وكأنها قبلت التحدي بصمت. مرت لحظات،كان كل منهما منشغلًا بإعداد طبقه على طريقته،يضيف لمساته الخاصة،يخلط المكونات وفقًا لذوقه.
وحين انتهيا،تبادلا نظرة سريعة،نظرة تحمل في طياتها سعادة صامتة،قبل أن يرفع كل منهما الملعقة إلى فمه،متذوقًا لقمة أولى تأخذهما في رحلة من النكهات. رحلة مألوفة له،جديدة تقريباً لها،لكنها مع ذلك،حملت مذاقًا خاصًا لكليهما.
استمر هو في تناول ملعقة تلو الأخرى،يندمج مع المذاق الذي يعرفه جيدًا،حتى انحرف نظره نحو طبقها،ولاحظ طريقتها في الأكل،ليجد نفسه يعقد حاجبيه تلقائيًا،وكأن ما يراه أمامه أشبه بجريمة غير مبررة.
لم يستطع كتم استنكاره أكثر،فسألها بصدمة واضحة:
“بتعملي إيه؟!”
رفعت نظرها إليه بعفوية،عيناها تعكسان تساؤلًا بريئًا،وكأنها لا تفهم ما الخطأ الذي ارتكبته. لكنه، وبحركة سريعة،أشار بعينيه نحو طبقها، قبل أن يضيف بحدة خفيفة ممزوجة بالذهول:
“أنتِ من الناس اللي بتعامل الكشري على إنه رز وبسلة؟!”
توقفت عن الأكل للحظة،تنظر إليه بعدم فهم،ثم رفعت حاجبها مستغربة:
“مش فاهمة؟!”
أشار إلى طبقها بسبابته،متحدثًا بنبرة تحمل مزيجًا من الجدية والمرح:
“الكشري مش بيتاكل كده! مش تحطي الصلصة والإضافات فوقيه وتاخدي أول بأول…الطريقة دي غلط. صحيح في ناس بتاكله كده،بس برضه غلط!”
ثم أشار إلى طبقه،مستعرضًا طريقته بثقة واضحة،قبل أن يضيف وكأنه يلقنها درسًا في فنون الاستمتاع بالكشري:
“الكشري لازم يتقلّب،زي ما أنا عامله كده. علشان لما تاخدي معلقة،تحسي بكل المكونات مع بعض،وتتمزجي بيها…كده بس تحسي بطعمه الصح!”
نظر إليها بنظرة ماكرة قبل أن يسألها بلطف مفاجئ:
“تسمحيلي أعملهولك بنفسي؟”
لم تفكر كثيرًا،بل أومأت له دون وعي،كأن كلماته اخترقت عقلها دون أن تترك لها مجالًا للرفض. شعرت للحظة بأنها قد تكون مخطئة فعلًا في طريقتها،وأنه ربما،فقط ربما،عليه أن يريها بنفسه ما الذي تعنيه “تجربة الكشري الصحيحة.”
ابتسم برضا حين لاحظ موافقتها الصامتة،ومدّ يده بهدوء ليتناول طبقها. أمسك بالمعلقة وبدأ في مزج المكونات معًا، يتعامل مع الأمر بمهارة من اعتاد على هذا الطقس،وكأن الكشري بالنسبة له ليس مجرد طعام،بل تجربة تستحق الاحترام.
وأثناء ذلك،لم يستطع منع نفسه من إضفاء نبرة مرحة على كلماته وهو يعلّق،دون أن يرفع عينيه عن الطبق:
“كده بقى،هتتمزجي بكل لقمة تمام…استعدي لأحلى كشري أكلتيه في حياتك!”
وبعد لحظات قليلة،أنهى مهمته،ورفع الطبق نحوها وهو يبتسم،تلك الابتسامة التي تحمل خليطًا من العبث واللطف في آن واحد،قبل أن يردد بنبرة خفيفة،وكأنه يقدّم لها هدية ثمينة:
“اتفضلي يا قمر.”
لم تستطع منع نفسها من الابتسام بدورها،وهي تنظر إلى الطبق ثم إليه،متسائلة في داخلها…هل حقًا سيختلف الطعم؟ أم أن طريقته،بكل تفاصيلها،كانت جزءًا من النكهة؟
تناولت منه الطبق وبدأت في الأكل،تحركت الملعقة بين أصابعها بتلقائية،لكنها هذه المرة كانت أكثر وعيًا بتجربة الطعم،كأنها تحاول اكتشاف ما قصده. أما هو،فكان يراقبها بصمت،ترقب واضح في عينيه،وكأنه ينتظر رد فعلها بفارغ الصبر.
وحين وجدها توشك على هضم أول لقمة،لم يستطع تمالك نفسه، فسألها بحماس طفولي:
“إيه رأيك بقى؟”
رفعت عينيها إليه، وابتلعت ما في فمها،ثم ابتسمت بلطف وهي تجيبه بصدق:
“بقى ألذ.”
رفع حاجبه بمزيج من الرضا والتفاخر،ثم لوّح بيده في الهواء قائلاً بنبرة واثقة تحمل بعض المرح:
“عيب عليكِ! هو أنا جديد في الموضوع؟ ده أنا باكله بقالى أكتر من 20 سنة! ويعتبر الأكلة المفضلة عندي،اللي لازم ولابد أكلها كل أسبوع مرة، كمكافأة شخصية ليّ!”
ضحكت بخفة على حماسه،وأومأت له إيجابًا بابتسامة هادئة،بينما هو تناول لقمة أخرى بتلذذ، وكأن كل قضمة بالنسبة له تحمل ذكرى قديمة.
ثم نظر إليها فجأة،وكأن فكرة خطرت له للتو،وقال بنبرة تحمل لمحة من التشويق:
“تعرفي إن الكشري الأول أصلًا كان بيتباع في كيس؟”
رفعت حاجبيها باهتمام،ثم حركت رأسها بالنفي قائلة بفضول:
“لأ،ماكنتش أعرف…بس كان بيتاكل إزاي في الكيس؟!”
صمت لوهلة،وكأنه يزن كلماته،ثم مال نحوها قليلًا وقال بنبرة ماكرة:
“بصراحة،خايف أشرحلك تقرفي…بس خلاص،هقولك!”
تراجعت قليلًا دون أن تشعر،بينما واصل حديثه بحماس طفولي،مستخدمًا يديه ليجسّد المشهد وكأنه يعيده للحياة من جديد:
“كان كيس بلاستيك طويل،فيه كل حاجة…مكرونة،عدس،صلصة،كل المكونات متجمعة مع بعض،ولما كنا بنيجي ناكله كنا بنقطع جزء من تحت بس جزء كبير،علشان الأكل ينزل بسهولة،ومن هناك بقى على طول على بوقنا! مفيش معالق،مفيش لف ودوران…هو عارف سكته لوحده!”
لم تستطع منع نفسها من التشنج،وتجمدت ملامحها للحظة قبل أن تبدأ برفرفة أهدابها سريعًا،في محاولة لاستيعاب ما سمعته. انعكست الصدمة الممتزجة بالاشمئزاز على وجهها بوضوح،مما جعله ينفجر ضاحكًا،ببهجة خالصة في عينيه وهو يرى رد فعلها المتوقع.
ثم أضاف بمشاكسة،ناظرًا إليها بمكر:
“بس والله،كان طعمه خيال! تعرفي،لو كان لسه بيتباع بالطريقة دي،كنت خليتك تجربيه!”
نظرت إليه بدهشة،ثم هزت رأسها بقوة،قائلة بحزم ساخر:
“ولا في الأحلام!”
ضحك أكثر،بينما هي،رغم كل شيء،لم تستطع منع نفسها من الابتسام،تدرك في قرارة نفسها أنه،بطريقة ما،يضيف عليها وعلى حياتها المملة شيئاً مختلفاً،شيئا لم تشعر به منذ مدة..شيئاً من البهجة والمرح،من العفوية التي كادت تنساها وسط رتابة الأيام.
_________________
في الجهة الأخري…
كانت جالسة داخل الغرفة،تواجه طبيبتها النفسية للمرة الثانية،تتحدث بانسياب،كما فعلت في الجلسة السابقة،علّها هذه المرة تفلح في الكشف عن ذاك الثقل الذي يسكن صدرها، ذلك العبء الذي لم تستطع البوح به لأحدٍ سواها.
“يعني كل حاجة بدأت من الثانوية العامة؟”
كان هذا سؤال الطبيبة،التي نبسته بنبرة جمعت بين التأمل والبحث عن الخيط الأول في متاهة الألم. لم تجب لينا بالكلمات،فقط أومأت برأسها بخفة،فيما انخفضت عيناها نحو الأرض،وكأنها تخجل حتى من الاعتراف بذلك أمام نفسها.
تنهدت الطبيبة بعمق،محاولة استيعاب الأمر،ثم علّقت بنبرة هادئة:
“أهلك كانوا بيضغطوا عليكِ؟”
رفعت لينا رأسها سريعًا،كأنها ترفض مجرد الفكرة،ثم قالت بحزم ممزوج بالدهشة:
“أبدًا! بابا وماما عمرهم ما ضغطوا عليّ ولا على أختي،كانوا دايمًا بيسيبونا على راحتنا،بيدعمونا،وبيشجعونا إننا نكمل ونسعى علشان نحقق أحلامنا.”
دونت الطبيبة بعض الملاحظات،عيناها ثابتتان على لينا،تحلل كلماتها كما لو كانت تفك شفرة روحها. ثم رفعت رأسها ونظرت إليها مباشرة،وسألتها بنبرة هادئة لكنها محمّلة بالكثير:
“كان حلمك إيه؟ يعني دخلتِ الكلية اللي كان نفسك فيها؟”
شردت لينا للحظات،وكأن السؤال سحبها إلى الماضي،إلى تلك اللحظة التي شعرت فيها بأن أحلامها تتهاوى كقصور من رمل. لم تحتج إلى وقت طويل قبل أن تحرك رأسها بالنفي،كان الجواب جاهزًا،مغلفًا بطبقة ثقيلة من الحزن والانكسار:
“لأ… للأسف لأ.”
ابتلعت ريقها بصعوبة، كأنها تحاول أن تجرع مرارة الذكرى من جديد،ثم أضافت بصوت خافت لكنه مشحون بالألم:
“أنا كنت علمي علوم،وكان نفسي أدخل طب وأتخصص في جراحة المخ والأعصاب،بس..بس في الآخر،بعد الجهد الكبير اللي بذلته لمدة سنة كاملة…جبت ٧٥٪، ودخلت تجارة.”
ساد الصمت لثوانٍ،حتى قطعته الطبيبة بسؤال بدا عاديًا،لكنه اخترق قلب لينا على حين غرة:
“وأختك؟”
تجمدت ملامحها لوهلة،لأنها لم تكن تتوقع أن تمتد الأسئلة لتشمل شقيقتها،لكن لا مفر من الإجابة.
تنفست ببطء ثم قالت بصوت متردد:
“أنا وهي كنا مستوانا واحد…أو أنا كنت فاكرة كده،هي كانت أدبي وجابت ٩٧٪،ودخلت سياسة واقتصاد.”
سقطت الكلمات من شفتيها كأنها تعترف بشيء لم تجرؤ على الاعتراف به من قبل،بشيء أعمق من مجرد درجات ونسب مئوية،شيء يشبه الخيبة التي لم تجد لها اسمًا بعد.
بينما دونت الطبيبة ملاحظاتها كعادتها،ثم رفعت رأسها وسألتها بصوت متزن،كأنها تحاول سبر أغوار مشاعرها بدقة:
“حسيتي بإيه اليوم ده؟”
سكتت لينا للحظات،وكأنها تحاول استجماع شتات شعورها في ذلك اليوم المشؤوم. ثم تنهدت بعمق،قبل أن تنطق بصوت يحمل بين طياته مرارة لا تخطئها الأذن:
“حسيت إن أحلامي كلها ضاعت…إني خلاص،ماعنديش هدف أعيش علشانه. سنين من عمري ماركزتش فيهم غير على مذاكرتي علشان حلمي…،١١ شهر من التعب النفسي والجسدي،من قلة النوم،من التفكير الزايد،ومن الخوف والتوتر،١١ شهر،كأنوا أتقل شهور عدوا عليّ،شهور لسه فاكرة كل يوم فيهم بتفاصيله…”
توقفت لبرهة،وكأنها تعيد استحضار مشهد من فيلم محفور في ذاكرتها،ثم أكملت بصوت مبحوح،مثقل بالوجع:
“لسه فاكرة إزاي كنت بنزل الساعة ٨ الصبح،وما أرجعش غير المغرب،أقعد مع أهلي على السفرة،آكل من غير نفس،علشان شايلة هم المذاكرة اللي ورايا. أول ما أخلص،أدخل الأوضة وأفضل سهرانة لحد الفجر تقريبًا،علشان أخلص اللي ورايا…،بس…”
توقفت مجددًا،هذه المرة لتبتلع ريقها بصعوبة،وكأن الكلام نفسه صار عبئًا على لسانها. ثم تابعت بنبرة مختنقة،أقرب إلى الاعتراف منه إلى السرد:
“بس بقى في الشهور الأخيرة،قبل الفاينل،بدل ما كنت بسهر علشان أذاكر…كنت بسهر أبص على الكتاب اللي قدامي بس،علشان ماكنتش مش عارفة…ماكنتش عارفة أعمل إيه. أذاكر المتراكم،ولا أذاكر الجديد،ولا أبدأ أراجع،ولا أعمل إيه بالظبط؟! ماكنتش عارفة…”
أخذت نفسًا مضطربًا قبل أن تكمل بصوت منخفض،كأنها تبوح بسر أخفته طويلًا:
“كنت بفضل قاعدة قدامه،ونفسي أعيط،بس مش قادرة،مش عارفة..كنت بفضل قاعدة في أوضتي لوحدي،وأول بس ما أحس إن حد قرّب من الباب،فورًا أمثل إني بذاكر،وكله تمام..بس للأسف،ماكانش في حاجة تمام…خالص.”
ساد الصمت بينهما للحظات،صمت لم يكن فارغًا،بل ممتلئًا بكل ما لم يُقال،بكل الدموع التي لم تجد طريقها للخروج،وبكل الأحلام التي لم تجد سبيلها للتحقق.
دونت الطبيبة بعد الملاحظات
من جديد،ثم نظرت لها وسألتها برزانة:
“ودلوقت في الكلية،بتحسي بإيه؟؟”
سكتت لينا لوهلة،ثم تنهدت بثقل وقالت بصوت مختنق:
“بحس إني اتظلمت،وإن ده مش مكاني،كل مابص للكتاب بفضل أقول إن ده مش اللي حلمت بايه،مش ده اللي كنت عايزه،بفضل أفكر وأفكر،لحد ماأستسلم وقوم،علشان…،علشان معنديش نفس إن أذاكر كلمة واحدة،معنديش رغبة ولاشغف أساساً لأي حاجة في الكلية دي”
اومأت الطبيبة بإيجاب خفيفة،ثم
تنهدت بعمق،متأملة كلمات لينا،ثم سألتها بصوت هادئ لكنه يحمل في طياته اهتمامًا حقيقيًا:
“ليه ماحاولتيش تتكلمي مع أهلك،وتفضفضي ليهم؟”
ترددت لينا قليلًا،وتلاعبت بأطراف أصابعها وهي تفكر في إجابة،ثم رفعت عينيها ببطء وقالت بصوت منخفض،كأنها تخشى أن يسمعها أحد غير الطبيبة:
“ماكنتش عايزة أظهر قدامهم ضعيفة،ماكنتش عايزة أزّعلهم عليا”
أومأت الطبيبة برأسها بتفهم،ثم سألتها بلطف:
“وخبيتي عليهم اللي بقى يحصل لنفس السبب؟”
أغمضت لينا عينيها للحظة،ثم فتحتها وأومأت بالايجاب وهي تهمس بإقرار مؤلم:
“آه…لنفس السبب
.”
تركت الطبيبة قلمها أخيرًا،وكأنها تخلت عن دور المراقب لتتحدث معها مباشرة دون حواجز.
وضعت يديها المشبوكتين على الطاولة،ثم نظرت إلى لينا بنظرة هادئة لكنها حازمة،قبل أن تبدأ بالكلام بنبرة متزنة:
“أنت عارفة ايه مرضك الحقيقي صح؟؟”
ابتلعت لينا ريقها بغصة،ثم أومأت بالإيجاب ونبست بصوت منخفض:
“قلة ثقة في النفس”
“مظبوط،كل اللي حصلك ده علشان ثقتك في نفسك قليلة،كنت بتقارني نفسك بأختك ودايما شايفها أحسن منك علشان هي واثقة من نفسها عنك…،كنت دايما حاطه عينك على المستقبل وخايفة منه،ركزتِ في مستقبلك،وخوفت منه وخوفت من الفشل،وخوفت من إنك تخذلي اللي بتحبيهم،ونسيت حاضرك،و
نسيتِ إنك لازم تتعبي علشان يبقى مستقبلك ده يبقى أحلى من اللي في خيالك
،وطبعا الخوف ده جه معاه قلق وتوتر واضطراب في المشاعر،وفوق كل ده رُحت كاتمه كل حاجة جواكِ من غير ماتعبري عنهم،فكانت النتيجة اللي وصلتِ له دلوقتي”
تنهدت الطبيبة ثم تابعت بنفس الرتابةٍ:
“كل ده لأنك ركزتِ على السلبيات واستسلمتِ للضغوطات والتوتر. ولما ماعرفتيش تسيطري عليهم أو تعبرّي عنهم بطريقة مناسبة بإرادتك،خرجوا غصب عنك في الفعل اللي بقيتِ تعمليه ده.”
توقفت للحظة،وكأنها تزن كلماتها بدقة،لتختار الطريقة الأنسب لإيصال ما تريد،ثم واصلت بصوت أكثر وضوحًا:
“ببساطة،فترة الثانوية معروفة إنها مرحلة صعبة في حياة أي شخص،وبتسيب تأثير كبير عليه. وهي فعلًا تركت أثرها عليكِ…أثرت فيكِ جدًا،وكانت صعبة عليكِ لدرجة إنها ضغطتك،أرهقتك،ونقدر نقول إنها دمرت نفسيتك. لأن وقتها،بدل ما تحاولي تبعدي عن التوتر ده أو تهدي أعصابك وتطمني نفسك،كتمتِ كل حاجة جواكِ. فضلتِ رافضة تعبرّي عن مشاعرك،لحد ما تراكمت فوق بعضها وانفجرت،وخرجت دون إرادة منك على شكل فعل…أنتِ مدركة إنه غلط،بس مش قادرة تبطليه.”
ساد الصمت للحظات بعد كلمات الطبيبة،كأنها منحت لينا مساحة لاستيعاب الحقيقة التي طالما تهربت منها. لم يكن الأمر مجرد فشل أو ضغط دراسي،بل كان أعمق من ذلك…كان صراعًا خاضته وحدها،وخسرته بصمت.
لكن الطبيبة لم تتوقف عند هذا الحد،بل تابعت بنفس الوتيرة،نبرتها لم تتغير،لكنها هذه المرة حملت إصرارًا أقوى:
“يعني دلوقتي علشان تقدري تتعالجي وتتجاوزي المرحلة دي، لازم تتعلمي تعبّري عن مشاعرك. ما تكمتيش حاجة جواكِ، امتى ما تحسي إنك عايزة تعيطي، عيطي. امتى ما تحسي إنك عايزة تصرخي من قلبك، اصرخي. عايزة تتكلمي وتواجهي، اتكلمي.”
كانت كلماتها مباشرة،لا تحتمل المراوغة،كأنها تدفع لينا لأن تواجه نفسها بصدق. ثم أضافت بنبرة أكثر ثباتًا:
“لو فعلًا عايزة تخفي، لازم ماتكتميش مشاعرك…خالص. ولازم كمان تتعلمي تتجاوزي آلامك وأحزانك، لأن واضح جدًا من كلامك إنك لسه متأثرة باللي حصل. لازم تفهمي إن الماضي خلص… مهما قعدتِ تفكري فيه، مش هيتغير. الحل الوحيد هو إنك تتجاوزيه، تتخطيه بكل اللي حصل فيه، وتركزي بس في مستقبلك. تركزي في رسم طريق وحلم جديد، وترمي كل اللي فات ورا ضهرك،ولازم تعرفي إن الثانوية مش نهاية العالم،هي مجرد مرحلة من حياتنا بنبدأ بعدها رحلة جديدية،رحلة ربنا اللي اختارها لنا وأكيد كاتب لنا الخير فيها،زي ما أكيد كتبلك الخير في رحلتك دي،وعلشان تبدأي صح لازم تتعلمي من اللي فات،وماتكررهوش تاني،ركزي بس في المستقبل اللي مستنيكِ،ارسمي حلم جديد واسعي علشان تحقيقه..وأنا معاكِ،هساعدك علشان تبدأي صح”
كانت كلماتها تحمل دفئًا غير معتاد،دفئًا شق طريقه إلى روح لينا التي طالما أحاطت نفسها بجدران الصمت. شعرت وكأنها لأول مرة تسمح لنفسها بأن تصدق أن هناك طريقًا آخر غير الحزن،طريقًا لم تفكر في السير فيه من قبل. لم تنطق بكلمة،لكن عينيها عكستا صراعًا داخليًا بين الخوف والرغبة،بين التردد والأمل.
كانت تلك اللحظة أشبه بنقطة تحول خفية،لم تكن صاخبة، لكنها حملت بذور التغيير، وكأن الكلمات التي قيلت قد بدأت تتسلل ببطء إلى أعماقها، تزيح بعضًا من الركام الذي أثقل قلبها طويلًا.
________________
_
على الجانب الآخر…
كانا لا يزالان جالسين على المقعد المطل على كورنيش النيل،يستمتعان بالنسيم العليل الذي يلامس وجهيهما برفق،بينما يحتسيان مشروب القصب المنعش بعد وجبتهما الشهية.
نظر كارم إليها من خلف نظارته الشمسية،عاقدًا ذراعيه في استرخاء قبل أن يبتسم بمكر ويقول،بنبرة مازحة تحمل شيئًا من الفخر:
“كده الحلو كمل،أصل معروفة…تاكل كشري،تشرب قصب!”
ضحكت وهي تبعد الكوب عن فمها للحظة،ثم قالت وعيناها تتألقان بانبهار حقيقي:
“طعمه تحفة بجد! ساقع ومنعش أوي.”
هزّ رأسه بثقة،ثم رد بنبرة واثقة وكأنه خبير في هذه الطقوس العريقة:
“طبعًا هيبقى تحفة! ده أنا شاريه من أحلى محل بيبيعه،خبرة أكتر من 30 سنة!”
ضحكت بخفة على حديثه المرح،ثم عادا كلاهما للاحتساء في هدوء،بينما تتجول أعينهما بين القوارب الصغيرة التي تشق طريقها فوق مياه النيل في سلاسة.
كانت اللحظة صافية،لا يشوبها شيء سوى صوت حركة الماء،وصوت الحياة من حولهم،ممزوجًا بأصوات السيارات والمارة،وصدى الموسيقى القادمة من قوارب النزهة التي تعبر النهر ببطء. كان المشهد كله ينبض بالحياة،لكنه في الوقت ذاته يحمل سكونًا مريحًا،كأن المدينة بأكملها تراقبهم بصمت،تمنحهم هذه اللحظة الخالصة دون أي تدخل.
بعد لحظات قليلة،انتهى كارم أولًا من مشروبه،ضغط على العبوة بيده بقوة حتى انكمشت،ثم وضعها بجانبه على المقعد. مرر يده على شعره في حركة عفوية قبل أن ينزع نظارته الشمسية،كأنه أخيرًا قرر مواجهة الضوء.
في تلك اللحظة،التفتت إليه هي،عيناها تحركتا إليه لا إراديًا،لكن ما رأته جعلها تتوقف،تجمدت نظراتها عليه للحظات قبل أن تبعد كوبها عن فمها،وتعقد حاجبيها في دهشة حقيقية،ثم هتفت بذهول:
“عينيك!”
التفت إليها تلقائيًا،بينما حاجباه انعقدا قليلًا وهو يسألها باستغراب:
“مالهم؟”
تأملته للحظة،وكأنها تحاول استيعاب ما تراه أمامها،قبل أن تهمس بدهشة صادقة:
“ملونين.”
ضحك بخفة،إمالة بسيطة من رأسه،كأنه لم يأخذ الأمر على محمل الجد،ثم أبعد نظره عنها وهو يجيبها بنبرة مازحة:
“ملونين إيه بس؟ ده علشان الشمس مش أكتر.”
لكنها لم تقتنع،ما زالت عيناها معلقتين به،تبحث عن تفسير لما لاحظته لتوها. عندها،عاد لينظر إليها،وكأنه يمنحها الجواب الذي تبحث عنه،هذه المرة بوضوح أكثر،بنبرة هادئة لا تحمل أي تلاعب:
“أنا عيني عسلي.”
حدقت فيه لثوانٍ،كأنها ترى ملامحه من زاوية جديدة تمامًا،ثم همست وكأنها تتحدث مع نفسها أكثر مما تخاطبه:
“أول مرة أخد بالي.”
أجابها وهو يبتسم بمزاج هادئ،وكأن حديثها قد راقه:
“ماهو مش باين أوي غير من قريب،وفي الشمس تحسيهم أخضر على
ذهبي
…تحسي إني أحول.”
ضحكت بخفة على طريقته في الوصف،لكن عينيها ظلتا متعلقتين به،تتأملان تفاصيله مجدداً. ليس فقط لون عينيه،بل طريقة حديثه،إيقاع كلماته،عفويته تلك التي تجعل كل شيء يبدو بسيطًا رغم تعقيده.
هزّت رأسها بابتسامة صغيرة،ثم رددت بنبرة هادئة،كأنها تستوعب اكتشافها الجديد:
“عسلية…بس متغيرة مع الشمس.”
نظر إليها للحظة،كأن كلمتها أصابته في موضع لم تتوقعه. صدمة خفيفة ارتسمت على وجهه،ثم كرر الكلمة بذهول مستنكر،مصحوبة بضحكة قصيرة لم تخلُ من نبرة ذكريات قديمة:
“عسلية!!…رجعتِني لأيام فاتت،عادةً ما بحبش أفتكرها.”
تأملته مطولًا باستغراب،غير قادرة على استيعاب ما قصده تمامًا. هل كان يمزح؟ أم أن هناك قصة أعمق خلف كلماته؟ لكنه لم يترك لها مجالًا للتساؤل طويلًا،إذ ضحك بخفة،ومال نحوها قليلًا،نبرته كانت مرحة لكن شيئًا في صوته أوحى بأنها ليست مجرد دعابة:
“بيني وبينك،وأنا صغير كانوا عيال الحتة بينادوني بـ(عسلية) علشان عينيَّ،لحد ما بقيت بكره العسلية نفسها! وبقيت لما بسمع حد بيناديني باللقب ده بمسح بكرامته اللي خلفوه الأرض،تقدري تقولي سببولي عقدة.”
اتسعت عيناها قليلًا،وابتلعت ريقها ببطء،كأنها لم تعرف بعد كيف تتلقى ما قاله. لم يكن يبدو غاضبًا،لكن طريقته في الحديث جعلت القشعريرة تتسلل إلى أوصالها دون وعي. التقط هو ذلك الخوف الطفيف الذي مر بعينيها،فضحك مرة أخرى،لكن هذه المرة ضحكة أكثر دفئًا،ثم أردف ليطمئنها:
“ما تخافيش،مش هعملك حاجة…عقدتي اتفكت،والدليل إن لما سمعتها منك،ضحكت عادي.”
ساد بينهما صمت مريح للحظة،شعرت براحة غريبة بعد اعترافه هذا. لكن فجأة،تبدل شيء في نبرته،وأصبحت أكثر جدية وهو يضيف،هذه المرة بوضوح لا يقبل التأويل:
“بس ما تعيدهاش تاني.”
كانت كلماته واضحة،لكنها لم تكن تهديدًا…بل أشبه بحد فاصل بين الماضي والحاضر،بين ما يمكن أن يُقال وما لا يجب المساس به.
لكن مجددًا،ضحك عندما رأى تعبير الخوف العابر على وجهها. هذه المرة،لم يحاول نفي جديته بمزاح كما فعل من قبل، بل اكتفى بالإشارة نحو الكوب في يدها قائلاً بنبرة هادئة لكنها آمرة بطريقة ما:
“كمّلي.”
لم تستطع تحديد إن كانت كلمته أمرًا عفويًا أم وسيلة غير مباشرة لإنهاء الحديث. راقبته وهو يتراجع بجسده على المقعد،مستندًا إلى ظهره،وكأنه أغلق صفحة الحديث تمامًا. عادت عيناه إلى مياه النيل،متأملًا الموجات الصغيرة التي تتراقص بفعل نسيم الليل،بينما هي…ظلت تحدق به بنظرات مذهولة،تتأمله وكأنها تحاول فك شيفرة شخصيته المتقلبة. كيف يمكن لشخص أن يتحول في ثوانٍ بين الجد والمزاح،بين الخفة والصرامة،بين الضحك والحدود التي لا يسمح لأحد بتجاوزها؟
كانت على وشك أن تسأله شيئًا،ربما عن ماضيه،أو ربما عن سبب تلك الجدية المختبئة خلف كلماته العابثة، لكن فجأة،وسط لحظة الصمت تلك،اخترق أذنيهما صوت من لخلف،نبرة مشاكسة تحمل عبثًا واضحًا:
“مش حرام يبقى معاك الحلاوة دي كلها لوحدك؟”
التفت الاثنان في ذات اللحظة،وبينما كانت هي تعقد حاجبيها في استغراب،كان هو يطالعه بجمود تام،كأن ملامحه تجمدت للحظات تحت وطأة تقييم صامت. لكن فجأة،ارتسمت على شفتيه بسمة…لم تكن دافئة،لم تكن مرحة،بل كانت مريبة،تحمل شيئًا غامضًا،شيئًا لم تستطع تحديده تمامًا. نهض من مجلسه ببطء،حركة هادئة لكنها تحمل في طياتها شيئًا غير متوقع،ثم قال بصوت خالٍ من أي توتر، وكأنه يناقش أمرًا عاديًا:
“تصدق معاك حق…تحب تاخدلك حتة؟”
شعرت وكأن قلبها توقف للحظة. حدقت فيه بذهول،وأفكار سوداء خطرت في ذهنها كأنها ومضات سريعة لا تستطيع السيطرة عليها. هل كان يمزح؟ هل يمكن أن يكون جادًا؟ لكنها لم تجد الوقت لتفسير الأمر،لأن الفتى الآخر، الذي بدا وكأنه لم يصدق ما سمعه،ضحك بسعادة وهتف بلهفة:
“إنت بتتكلم بجد؟”
اقترب كارم منه أكثر،خطواته كانت محسوبة،ثابتة،حتى وقف أمامه تمامًا. لم تكن هناك مسافة تُذكر بينهما،عيناه ركزتا على عيني الآخر بحدة مريبة،ثم مد يده،وربّت على كتفه بطريقة لا تحمل أي حميمية،قبل أن يقول بصوت هادئ لكنه حمل في طياته معنى مختلفًا تمامًا:
“تدفع كام؟”
كلمات بسيطة،لكنها سقطت على مسامعها كالصاعقة. توسعت عيناها أكثر،شعرت بقلبها يخفق بقوة،بشيء أشبه بالخوف يتسلل إلى أوصالها. ماذا يقصد؟ هل كان جادًا؟ أم أنه يختبر شيئًا؟ لكن الفتى لم يكن يشاركها ارتباكها،على العكس،كانت ملامحه تفيض بالحماس،عيناه لمعَتا وهو يلقي عليها نظرة خاطفة،قبل أن يعود لينظر إلى كارم مجددًا ويجيب بحماسة مفرطة:
“اللي تقول عليه.”
ابتسم كارم،لكن ابتسامته هذه المرة لم تكن مريبة فقط…بل كانت مخيفة. ظلت ترتسم على شفتيه للحظة،قبل أن ينطق أخيرًا،بنبرة باردة خالية من المزاح،نبرة جعلت الهواء حولهم يثقل،كأن المكان بأكمله تجمّد للحظة واحدة:
“عمرك.”
ولم تمر سوى لحظة بعد كلمة كارم تلك، إلا وصرخة عالية شقت سكون المكان،صرخة ارتفعت من فم الفتى عندما وجد نفسه يتراجع بعنف،جسده يترنح،ويداه تتخبط في الهواء بحثًا عن شيء يستند إليه. لم يدرك حتى اللحظة الأولى ما حدث،لكن الألم الحارق في منتصف وجهه لم يترك له مجالًا للتفكير.
حين ما وجه كارم إليه ضربة خاطفة برأسه،مباشرة إلى منتصف وجهه،بقوة جعلت الفتى يتراجع متألمًا،أنفه ينزف بغزارة،وملامحه تنكمش تحت وطأة الصدمة والوجع. لم يكن يتوقع ذلك،لم يكن أي شيء في نبرة كارم أو تعابيره يوحي بأنه سيفعلها…وهذا ما جعل الضربة أكثر إيلامًا.
ارتجفت أصابع الفتى وهو يرفع يده إلى أنفه،يلمس الدم الدافئ الذي بدأ يتدفق بغزارة،قبل أن يرفع رأسه إلى كارم،عينيه متسعتين بذهول،وغضب بدأ يتأجج بداخله.
لكن كارم؟
كان واقفًا تمامًا كما كان،لم يتراجع خطوة،لم يبدُ عليه أي ندم أو تردد. عيناه كانتا ثابتتين،لا تحملان أي تردد أو تسلية هذه المرة،بل كان بهما شيء أكثر حدة…شيء جعل الفتى،رغم ألمه،يشعر للمرة الأولى بأن المواجهة قد لا تكون في صالحه.
أما هي،فقد انتفضت من مجلسها بقوة،وكأن صدمة المشهد أخرجتها من حالة الجمود التي كانت فيها. حدقت بما يجري أمامها بعينين متسعتين،أنفاسها تتلاحق كأنها كانت هي من تلقى الضربة،لكنها في الواقع تلقت ما هو أعنف-صدمة جديدة،صورة أخرى لذلك الرجل الذي لم تكف عن محاولة فهمه،عن فك شيفراته التي تتغير كل مرة بطريقة تجعلها تفقد إحساسها بأي ثبات تجاهه.
لكن لم يكن لديها الوقت الكافي لاستيعاب الأمر،لأن ما حدث بعد ذلك كان أسرع مما توقعت.
تجمع الناس حولهم،بعضهم وقف على بعد،يراقب بحذر،وبعضهم اقترب بخطوات مترددة، بينما كارم…لم يكن مكترثًا بأي منهم. كانت خطواته هادئة،واثقة،لا تحمل أي عجلة ولا أي تردد،كأن كل شيء تحت سيطرته بالكامل.
وعندما أصبح على مقربة من الفتى،رفع ساقه فجأة،وركله بقوة في منتصف معدته. شهقت هي بعنف،كأن الهواء قد سُحب منها للحظة، بينما الفتى أطلق أنينًا مكتومًا وهو يهوى أرضًا،يتلوى من الألم،يضغط على معدته وكأنه يحاول استيعاب الصدمة التي اجتاحت جسده بالكامل. لكن كارم لم يمنحه فرصة للراحة أو الاستيعاب،بل انحنى قليلًا نحوه،ونظر إليه من علٍ بنظرة جعلت الهواء من حولهما يثقل،قبل أن يهمس بصوت خافت لكنه حمل من الوعيد ما جعل كل حرف يترسب في عقل الفتى كالخنجر:
“لما تشوفني بعد كده،ابقى غير طريقك. علشان لو شفت خلقتك دي قدامي تاني…هدفنك في أرضك.”
تصلب جسد الفتى،وأدرك في تلك اللحظة أن الأخير لم يكن يبالغ،لم يكن يهدد من فراغ. كان يعني كل كلمة نطق بها،وكان مستعدًا لتنفيذها بلا أدنى تردد.
ثم،كما لو أن كلماته السابقة لم تكن كافية،أضاف بصوت خافت،لكنه هذه المرة حمل نبرة مختلفة،نبرة لم تكن مجرد تهديد،بل أشبه بتحذير بارد من شخص يعرف تمامًا ما يتحدث عنه:
“وخدها نصيحة مني…مش كل حاجة تسمعها تصدقها.”
صمت لثوانٍ،ثم رفع رأسه قليلًا،وكأن الأمر لم يكن يستحق أكثر من ذلك،قبل أن ينطق بكلمة واحدة،جافة،قاطعة،وكأنها أمر نهائي:
“طير.”
لم يحتج الفتى لسماع المزيد،لم يحاول حتى استجماع كرامته المبعثرة على الأرض،بل نهض متحاملًا على ألمه وهرول بعيدًا،يترنح كأنه يحاول الهروب من ظل كارم نفسه،وكأن مجرد بقائه هنا للحظة إضافية قد يكلفه أكثر مما يحتمل.
أما كارم، فلم يتحرك،لم يتبع هروبه بنظرات ساخرة أو كلمات إضافية،فقط ظل يراقب الجسد المبتعد بنفس التعابير الجامدة،كأنه مشهد مألوف،كأنه شيء لا يستحق أي اهتمام إضافي.
ثم فجأة،كما لو أنه قلب الصفحة تمامًا،التفت إلى الحشود التي تجمعت حولهم،رفع يديه للأعلى،وهتف ببساطة مرحة تتنافى كليًا مع جديته المخيفة منذ لحظات:
“خير يا جماعة؟ كلب وقطعت له ديله…وانتهى خلاص.”
كانت كلماته،على بساطتها،كافية لإنهاء كل شيء. كأنها جرس إنذار بإسدال الستار عن هذا المشهد العنيف،فبدأ المتفرجون يتفرقون واحدًا تلو الآخر،بعضهم يهمس بتعليقات مشوشة،وبعضهم يراقبه بحذر قبل أن يبتعد.
وحين انصرف الجميع،لم يبقَ سواه…وسواها.
استدار نحوها،والتقى نظره بنظراتها التي لم تكن مجرد اندهاش،بل مزيج من الذهول والحيرة،وربما شيء آخر أعمق لم يكن سهلًا قراءته. كانت لا تزال متصلبة في مكانها،كأن عقلها يحاول استيعاب التحولات السريعة التي شهدتها في شخصيته خلال الدقائق الماضية.
بينما هو،زفر بهدوء،وكأن المشهد بأكمله لم يكن يستحق حتى مجهود التبرير،ثم بخطوات هادئة،توجه نحو مقعده السابق وجلس كما لو أن شيئًا لم يحدث. رفع رأسه قليلًا،أشار لها بعينيه أن تجلس،فامتثلت دون كلمة،لكن نظراتها ظلت معلقة عليه،تراقب كل حركة منه،وكأنها تحاول فهم هذا اللغز الذي يجلس أمامها.
أما هو،فبدا وكأنه غير مكترث بنظراتها،أخرج عبوة سجائره من جيب سترته،التقط واحدة،وأشعلها بهدوء،ثم أطلق الدخان من فمه ببطء،قبل أن يهمس بصوت هادئ،لكنه حمل معنى أعمق من مجرد الكلمات:
“أنا الاتنين.”
قالها ببساطة،كأنها إجابة على كل الأسئلة التي لم تسألها بعد،كأنها تفسير لكل تلك التناقضات التي رأتها فيه منذ أن التقت به.
نظر إليها بعينين تحملان مزيجًا من الهدوء والحسم، ثم قال بصوته الرتيب، دون أن يغير نبرته أو يحاول تلطيفها:
“أنا الاتنين يا ميرنا. بارد…بس عصبي،هادي…بس خِشِن،باختصار،أنا كارم عبدالله شاهين.”
توقف لوهلة،وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يضيف بصوت أخفض لكنه أكثر ثقلًا:
“اللي دايمًا إيده بتسبق في الكلام،ولسانه بيكوي اللي قدامه. واللي يعرفني…شاف الجانب ده مني،كلهم شافوه. بس العزاز عليّا…القريبين بجد،هما اللي شافوا بعدها هدوئي وحنيّتي.”
مال بجسده قليلًا نحوها،نظر في عينيها مباشرة،وكأنه يفسر لها ما لم تستطع استيعابه بعد:
“أما أنتِ بقى…حصل لك استثناء. شُفتِ الجانب التاني مني الأول،وبعدين شُفتِ الأول،عشان كده اتفاجأتي،وده بسبب إني قابلتك في موقف غريب،وكنت وقتها في وضع صعب بسبب الفيزا”
قال كلماته كأنه يوضح أمرًا بسيطًا،لكنه في الحقيقة لم يكن بسيطًا أبدًا. لم يكن مجرد تفسير…بل كان كشفًا لحقيقة نادرة،حقيقة لم يكن يكشفها لأي أحد.
فهمت الأمر أخيرًا،أو على الأقل جزءًا منه،فابتسمت وهي تومئ بإيجاب خفيف،ثم قالت بصوت يحمل بقايا دهشتها:
“كده فهمتك…شوية.”
لم يستطع كارم تمالك نفسه،فضحك بقوة على جملتها،ضحكة حقيقية لم تشبها سخرية أو استهزاء،ثم قال بنبرة مرحة لكن عميقة في معناها:
“معلش،بكرة تفهميني أكتر…بس أهم حاجة تثقي فيَّ،وتكوني متأكدة إني مستحيل أاذيك،ولا أرضى إن حد يأذيكِ.”
كان في كلماته وعدٌ غير منطوق،كأنه يمدّ إليها جسرًا خفيًا من الثقة،يطالبها ضمنيًا بأن تعبره دون خوف. لم يكن الأمر مجرد تبرير أو تطمين،بل كان رسالة أعمق من ذلك،رسالة يخبرها بها دون أن ينطق بها صراحة…أنه ليس ذلك الشخص الذي يجب أن تخشاه،ليس ذلك الظل الغامض الذي تتوجس منه. أو على الأقل…ليس لها.
استوعبت ميرنا ما يرمي إليه،فابتسمت اعتذارًا،وكأنها تخبره أنها فهمت،أنها أدركت فداحة الشك فيه ولو للحظة. ثم ظلّت تطالعه مطولًا،تراقب ذلك الشخص الذي يتغير أمامها كما لو أنه كتاب تفتحه صفحة بعد أخرى.
لكن قبل أن تُغرقها أفكارها،أشار فجأة نحو الكوب في يدها،وقال بسخرية خفيفة:
“عصير القصب جاله هبوط.”
نظرت للكوب،لتكتشف أن لونه قد تغير تمامًا بفعل الزمن،لم يعد ذلك العصير المنعش الذي شربته منذ قليل،بل تحول إلى ظل باهت مما كان عليه.
ضحكت ميرنا بسعادة،ضحكة نقية لم يمسّها التكلّف،وكأنها نسيت للحظة كل شيء حولها سوى تلك اللحظة البسيطة التي جمعتها به. ضحك معها هو أيضًا،لكن سرعان ما توقف….توقف لأنه كان يتأملها.
نظرة طويلة،ليست عابرة ولا بدافع الفضول،بل نظرة تأمل اكتشف فيها حقيقة لم يدركها من قبل…
أنها أرق مما تخيّل.
أنها أشبه بقطعة حلوى صغيرة،هشة،قد تنكسر من أقل لمسة،قد تذوب لو طالها الدفء قليلًا…
وحينها،دون أن يدرك،انساب همسه في الهواء بصوت لم يصل إليها،بالكاد سمعه هو نفسه:
“بسكوتاية.”
كلمة خرجت دون تفكير،دون تخطيط،بلا حسابات،فقط لأنها كانت الحقيقة الوحيدة التي رآها في تلك اللحظة…الحقيقة التي لم يكن بوسعه إنكارها.
________________
_
في جهة أخرى..
كان يقو
د السيارة بثقة نحو وجهته المرسومة في ذهنه،بينما جلست هي إلى جانبه،تنظر إليه بين الحين والآخر بملامح يغمرها المرح. يرددا معًا كلمات الأغنية التي شغّلها بصوت واضح:
–
وإنت معايا ميشغلنيش الناس
فرق الإحساس أجمل بكتير
وإنت معايا بشوفك أحلى الناس
دي حقيقة خلاص مفيهاش تغيير
باين حبيت أيوه أنا حبيت
حبيت
الدنيا اللي بتضحكلي معاك على طول
باين حبيت أيوه أنا حبيت
وبشوف في عينيك الفرحة اللي تخليني بقول
إتأكدت إن أنا مقدرش أعيش غير وأنا وياك وهقولك إيه
ده مفيش ثانية تعدي ماتوحشنيش
وإرتحت معاك طب أسمي ده إيه
باين حبيت أيوه أنا حبيت
حبيت
الدنيا اللي بتضحكلي معاك على طول
باين حبيت أيوه أنا حبيت
وبشوف في عينيك الفرحة اللي تخليني بقول
.
ضحكاتهما تخللت نغمات الموسيقى،يشيران لبعضهما بمشاكسة مرحة،وكأن العالم كله تقلص ليصبح مجرد مقصورة السيارة التي تحملهما. وحين أوشكت الأغنية على الانتهاء،خفت صوته قليلًا،وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة تحديدًا،فمالت نحوه قليلًا وهمست بمكر:
“ماتقلع الطاقية دي؟ وحشني شكلك من غيرها.”
رمقها بنظرة جانبية،ضيّق عينيه بشك واضح،لكنه عاد يُركز على الطريق وهو يجيبها ببرود متعمد:
“ماأنا حاضر كتب الكتاب من غيرها.”
لم تُفوّت الفرصة،فرفعت حاجبيها بمكر،مستندة إلى ظهر المقعد وهي تقول بثقة:
“أنت كنت هتلبسها يومها،لولا إن دلال خبت طاقياتك كلها.”
التفت إليها سريعًا بصدمة،وكأنها أفشت سرًا خطيرًا، سألها بحذر:
“هي قالتلك على دي كمان؟”
ضحكت بمكر،ووضعت كفها أسفل ذقنها في استرخاء مُدّعٍ:
“أنا ودلال بيست فريند يا حبيبي،مش بنخبي حاجة عن بعض.”
مرر على حديثها بسطحية،لكنه لم يتمكن من تجاوز كلمة واحدة علقت في ذهنه،ارتسمت ابتسامة هادئة على زاوية شفتيه قبل أن يلتفت إليها ويسألها بصوت خافت مليء بالدهشة:
“أنتِ قلتي ‘يا حبيبي’؟”
احمر وجهها للحظة،لكنها تماسكت وضحكت بخفة وهي تومئ له،وكأن الأمر عادي تمامًا،لكن بالنسبة له؟ لم يكن عاديًا على الإطلاق. ارتفع حاجباه بسعادة،وكأنها للتو منحته هدية لم يكن يتوقعها،ثم حول نظره للطريق مرددًا بحماس:
“ده أنا في قمة سعادتي النهاردة،أنتِ مدلعاني أوي،علشان كده هدلعك أنا كمان، جاهزة؟”
نظرت إليه بحذر،حاجباها معقودان في ريبة:
“لإيه؟”
أجابها بنبرة يملؤها التحدي:
“للدلع.”
تململت في مقعدها بحماس خفيف وسألته باهتمام:
“أيوه،هتعمل إيه؟”
ألقى عليها نظرة جانبية خاطفة وهو يجيب بثقة:
“هنتفسح يا غالية،هفسحك فسحة ما عملتهاش لحد قبلك ولا هعملها.”
اتسعت عيناها بفضول طفولي:
“هنروح فين؟”
“خليها مفاجأة.”
حاولت إخفاء ابتسامتها لكن الحماس كان واضحًا في نبرتها حين علّقت:
“أنا متحمسة وكل حاجة،بس احنا كده هنتأخر.”
هز رأسه مطمئنًا:
“ماتخفيش،أنا أخدت الإذن خلاص.”
ضاقت عيناها بشك:
“من مين؟”
لم يُبعد عينيه عن الطريق،لكنه ألقى عليها نظرة سريعة وهو يجيب بلا مبالاة:
“أخدته من سامي.”
زاد فضولها،فسألته باستغراب:
“إمتى؟”
ضحك بخفة وهو يجيبها بصراحة لا تخلو من المرح:
“بعتله رسالة وإحنا طالعين.”
انتظرت لحظة قبل أن تسأله السؤال الأهم:
“وهو رد عليك قالك إيه؟”
ضحك ضحكة قصيرة،وكأنه توقع سؤالها،ثم قال بسخرية محببة:
“لا،ما هو ماردش…علشان مش فاتح نت.”
انفجرت ضاحكة،وهو تبعها بضحكته،بينما السيارة تمضي بهما نحو مفاجأة لم تكن تتوقعها،ولكنها على يقين بأنها ستكون ذكرى جميلة تضاف إلى حكاياتهما التي لا تنتهي.
_________________
أسفل المبنى الذي تقع فيه عيادة الطبيبة، وقفا معًا، يحتميان تحت ظل المساء الهادئ، في انتظار سيارة الأجرة التي تكفّل هو بطلبها. كانت لحظة صمت بينهما،صمت ثقيلًا ومُحرجًا لكليهما.
وفجأة،في تزامن غريب،وكأن أفكارهما قد التقت دون تخطيط،التفتا إلى بعضهما في اللحظة ذاتها،عاقدين العزم على كسر الصمت.
قالا معًا،بصوت متداخل،بنفس التردد ونفس الارتباك:
“ممكن..”
“شُكــ”
توقفت لينا عن إكمال جملتها وأشارت له بالتحدث بقولها الهادئ:
“اتفضل أنت الأول”
نظر حسن إلى الأرض سريعاً،وأجابها بخجلٍ غير معلن:
“لا..اتفضلِ أنتِ الأول”
لم تصر،ابتسمت بقول وهمست:
“ماشي..”
تنفست بعمقّ،ثم تابعت بصوت هادئ،لكنه محملاً بالاهتمان الحقيقي:
“أنا كنت عايزة أشكرك،لأنك تعبت نفسك وجيت معايا”
ردّ عليها حسن ببساطة وهدوء،كعادته،نبرة صوته لم تحمل أي تكلّف أو انتظار لمقابل:
“الشكر لله، أنا ماعملتش غير واجبي كصديق.”
ابتسمت لينا برقة وقالت:
“على كل حال،شكرًا جدًا.”
لم يعلّق،فقط أغمض عينيه للحظة وأومأ برأسه إيجابًا بخفة،وكأنه يتقبل شكرها دون حاجة للكلمات. أما هي،فظلت تنظر إليه،تتأمل ملامحه الهادئة التي تشبه البحر في سكونه قبل أن تهتف بنبرة فضولية:
“كنت عايز تقول حاجة، اتفضل.”
صمت للحظة،وكأنها منحته الإذن الذي كان بحاجة إليه. ابتلع ريقه،تنفس بعمق،ثم قال بصوت متزن،لكنه حمل في طيّاته شيئًا من التردد غير المعتاد عليه:
“كنت…عايز أسألك سؤال؟”
رغم أنها لم تكن تعرف ما السؤال،شعرت بانقباض خفيف في قلبها،وكأن حدسها يهمس لها بأنه لن يكون سؤالًا عابرًا. ومع ذلك،حاولت الحفاظ على هدوئها فقالت:
“أكيد،اتفضل.”
أخرج حسن زفيرًا هادئًا،وكأنه يحاول تبديد التردد الذي يحاصره،ثم أخيرًا،طرح سؤاله بصوت واضح،بسيط،لكنه حمل من العمق ما جعلها تشعر وكأنها أمام مفترق طرق غير متوقع:
“أنتِ بتصلي؟”
توسعت عيناها قليلًا،فهذا السؤال لم تكن تتوقعه أبدًا…
شعرت وكأن الهواء من حولها قد أصبح أثقل،وكأن الإجابة التي ستنطق بها ستحمل وزنًا أكبر مما تتخيل.
حدّقت في ملامحه محاولة أن تستشفّ السبب وراء سؤاله،لكنها لم تجد سوى الهدوء ذاته،النظرة الصافية التي لم تحمل اتهامًا أو استفهامًا مُلحًّا،فقط انتظار صادق لإجابة لا تعرف إن كانت تملكها.
“أنا…”
ترددت،شعرت بأن عقلها يحاول انتقاء الكلمات بعناية،لكن لم يكن هناك ما يمكن قوله سوى الحقيقة.
ابتلعت ريقها وقالت بصوت هادئ لكنه متردد:
“مش دايمًا…”
لاحظت كيف غابت أي ملامح مفاجأة عن وجهه،وكأنه كان يتوقع تلك الإجابة أو ربما لم يكن ينتظر إجابة معينة،بل أراد فقط أن يسأل.
تنفست بعمق وسألته بفضول حذر:
“ليه بتسأل؟”
أشاح ببصره قليلًا،كأنه يحاول ترتيب أفكاره، ثم قال بهدوء:
“مجرد سؤال…كان شاغل بالي.”
لكنها لم تقتنع تمامًا،فالتفتت إليه وسألته بنبرة أقرب للاستفهام الحقيقي منها للفضول العابر:
“ليه؟ أقصد…ليه شاغل بالك؟”
تردد قليلًا،وكأنه يختار كلماته بعناية،ثم زفر بهدوء وقال بصوت متزن،لكن في نبرته شيء من الصدق الذي لا يحتاج إلى تزيين:
“بصراحة…أنا كنت عايز أنصحك بحاجة.”
رفعت حاجبيها قليلًا،لكنها لم تقاطعه،فتابع بنبرة أكثر وضوحًا:
“أنا بفهم شوية في علم النفس،وفهمت إن اللي بيحصلك بسبب التوتر والضغط النفسي وكده، ولما سألتك عن الصلاة،كنت متوقع إجابتك لأسباب معينة.”
توقّف للحظة،وكأنه يمنحها فرصة لاستيعاب ما قاله،ثم أكمل بحزم رقيق، يحمل في داخله رغبة حقيقية في المساعدة:
“بس خليني ما أطولش عليكِ،وأقول اللي عايز أقوله…واللي هو إنك لازم تقرّبي من ربنا.”
نظرت إليه بصمت،وكأنها تحاول استيعاب كلماته،بينما تابع بنبرة أكثر دفئًا،نبرة لم تكن آمرة ولا واعظة،بل نابعة من رغبة صادقة في أن يراها بخير:
“التزمي في الصلاة،ما تضيّعيش فروضك،صلّي الفجر في معاده،وحاولي ما تجمعيش الصلوات. أكيد في جامع في الكلية،تقدري تتوضي وتصلي بين المحاضرات. اقري قرآن،وخلي ذكر الله على لسانك دايمًا. صدقيني،لما تعملي كده،توترك هيقل وهترتاحي نفسيًا وجسديًا.”
أنهى كلماته بابتسامة هادئة،لم تكن نظراته تلحّ عليها،ولم يكن في صوته إلحاح أو إجبار، فقط هدوء يشبه نسمة خفيفة في يوم مشمس،تهبّ برفق دون أن تفرض نفسها.
كان يدرك تمامًا أنها وحدها من تستطيع اتخاذ القرار،لذا لم يحاول دفعها،فقط فتح أمامها بابًا،وترك لها حرية العبور من خلاله أو البقاء حيث هي…لكن،رغم ذلك،شيء ما في كلماته ظل يتردد داخلها،كصدى خافت لا ينطفئ.
لم تكن مجرد كلمات عابرة،بل كانت رسالة صادقة وصلت إلى أعماقها،فلامست شيئًا بداخلها لم تكن تعلم أنه بحاجة للمسة من النور. شعرت بالراحة…بالاقتناع،لم يكن الأمر إجبارًا ولا ضغطًا،بل دعوة بسيطة حملت في طياتها اهتمامًا حقيقيًا.
ابتسمت له بلطف،وكأنها تُقرّ بذلك الشعور الذي اجتاحها،ثم همست بهدوء:
“شكرًا.”
أومأ برأسه إيجابًا،لم يقل شيئًا آخر،وكأن كلماته السابقة كانت كافية،لا تحتاج إلى تأكيد.
وفي تلك اللحظة،وصلت سيارة الأجرة،فرفع نظره عن الأرض أخيرًا،وأشار نحو السيارة وهو يقول بصوته الهادئ المعتاد:
“العربية وصلت.”
نظرت إليه للحظة،ثم تنفست بعمق قبل أن تتجه نحو السيارة. لم تكن تعلم لماذا شعرت أن هذه اللحظة،رغم بساطتها،تحمل وزنًا أكبر مما يبدو.
أما هو،فظل واقفًا لثوانٍ،زفر بهدوء وكأنه يتخلّص من أثر الحديث داخله،ثم سار خلفها بخطوات ثابتة،كهدوئه،كثباته المعتاد الذي لا يهتز بسهولة.
_________________
في جهة أخرى…
كانت تطهو في المطبخ بينما تدندن بعض الأغاني القديمة التي تحفظها،مستغرقة تمامًا في إعداد الطعام،وكأنها تنسج مع كل حركة إيقاعًا خفيًا من الراحة والاعتياد.
رائحة التوابل تملأ المكان،وصوت تقليب الملعقة في القدر ينسجم مع صوتها وهي تردد كلمات الأغنية بصوت خافت،لا تفكر في شيء سوى أن تنتهي من طهوها كما تفعل كل يوم.
لكن فجأة،قُطع تركيزها بصوت طرقات على الباب،تلاه صوت رنين الجرس المتكرر،كأن الطارق لم يكتفِ بالطرق بل أراد التأكيد على وجوده.
رفعت نادية رأسها نحو الباب باندهاش بسيط،مسحت يديها سريعًا في المريول،واتجهت نحوه بخطوات مستعجلة وهي تقول بصوت نصف مرتفع:
“ثانية، ياللي على الباب…جاية أهو!”
زمت شفتيها بضيق وهمست بانزعاج:
“الواد هيصحي،ياللي بتلعب بالجرس!”
كان الطرق متكررًا،متعجّلًا،كأنه لا ينوي التوقف حتى تفتح. تقدّمت نحو الباب بخطوات سريعة،تمسح يديها في المريول مجدداً،وهي تتوقع أن يكون أحد الجيران بحاجة لشيء،أو ربما يكون أحد أفراد عائلتها.
لكن ما إن فتحت الباب حتى وجدت أمامها أحدًا آخر تمامًا…
امرأة خمسينية،متشحة بالسواد،بملامح هادئة لكن نظرتها لم تكن مألوفة،بل مشوبة بشيء غامض،ريبة خفيفة ربما،أو ودّ مصطنع. ابتسمت لها المرأة،فشعرت نادية بانقباض بسيط،دفعها لأن تسأل بحذر:
“مين؟”
لم تتأخر المرأة في الرد،بل قالت بصوت ناعم لكنه يحمل ثقل موقف لم يتضح بعد:
“ده بيت الأستاذ سامي الشافعي؟”
“أيوه،أنا والدته…أفندم؟”
في تلك اللحظة،اتسعت ابتسامة المرأة،وكأنها وصلت أخيرًا إلى الخطوة التي أرادتها، ثم قالت بنفس النبرة الموزونة:
“أهلًا يا مدام نادية،أنا والدة عاصم…طليق مرات ابنك،ليلى.”
كلماتها سقطت كصخرة ثقيلة في هدوء اللحظة،تموجت في الهواء كاضطراب مفاجئ في بحر ساكن،تخترق جدار السكون بحدة لم تألفها الأذن من قبل. ترددت في أذن نادية كصدى غير متوقع،كضربة جرس في ممر فارغ،تهتز في عقلها قبل أن تستقر في صدرها كحمل مفاجئ…
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.