رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثلاثون 30 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثلاثون

الفصل الثلاثون (موجة باردة)

الفصل الثلاثون (موجة باردة)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

نبدأ بسم الله…

_________

“إنَّ الشرورَ وإنْ طافتْ مسالكُها

ففي نُفوسِ الورى داءٌ هو الداءُ”

-إيليا أبو ماضي.

_____________

ما أجمل قضاء الوقت مع من تحب! مع من يسكن قلبك بطمأنينة،ويملأ روحك دفئًا لا يضاهى…معه،لا تسأل عن الوقت،ولا تراقب عقارب الساعة،بل تنساب اللحظات بينكما كما تنساب النسمات الرقيقة في ليلة صيفية هادئة…تمضي الساعات كأنها ومضات عابرة،لا يثقلها الانتظار،ولا يعكّر صفوها قلق الرحيل.

جلس كلاهما على طاولة زجاجية في إحدى زوايا المطعم،حيث اختار هو المكان بعناية في وقت سابق،ليليق بموعدهما الأول..كونهما زوجين،وليس مجرد صديقين.

“اشمعنا المطعم ده؟؟”

أطلقت فيروز هذا السؤال له،ببسمة هادئة تُزين ثغرها تعكس سعادتها الداخلية التي باتت واضحة في ملامحها وجهها أجمع،حتى في بريق عينيها البنية.

رفع هو رأسها قليلاً وطالعها،بينما مازالت يده تعمل على إعداد “الجمبري” ليأكلاه كليهما:

“ماله المطعم؟؟، مش أنتِ بتحبِ ال sea food؟؟”

رفع حاجبيه بإستنكار ثم أضاف بترقب:

“ولا ليكون ذوقك في الأكل اتغير؟؟”

حركت رأسها بالنفي سريعاً،قبل أن تجيبه بصوت دافئ يحمل في طياته سعادة كبيرة:

“لأ،ماتغيرش،لسه زي ماهو”

عقد حاحبيه وسألها مستفسراً:

“أًمال ايه بقا؟؟ مش عاجبك المطعم؟؟”

“لا عاجبني،بس يعني حساه غالي شوية”

ضحك بخفوت على جملتها،قبل أن يعود لما يفعله وهو يردد بمشاكسة وبسمة عابثة:

“مفيش حاجة تغلى عليكِ،أنا لو أطول أجيبلك نجوم السما أجيبهالك،كله سهل وعادي قدامك ياغالي”

ضحكت بحبور على حديثه هذا،الذي أنهاه بغمزة لا تخلو من المشاكسة كالعادة.

ابتسم فور ما رأي ابتسامتها التي تهز كيانه بدون مجهود يُذكر،ثم أخفض رأسه قليلاً وأمسك بطبقه ووضعه أمامها مردداً بصوت هادئ:

“اتفضلِ،ألف هنا وصحة على قلبك ياقلبي”

ضبط وضع الطبق أمامها،بينما هى عقدت حاجبيها بإستغراب قبل أن ترفع عينيها إليه وتسأله:

“وأنت؟؟”

“هاكل سمك،علشان أنا ذوقي اتغير في الأكل ومابقتش أحب الجمبري”

سكتت للحظة كأنها تدرك كلماته،قبل أن ترفع حاجبيها قليلاً وتقول بضيق واستنكار واضح:

“يعني أنتَ مارضتش تخليني أنضف الجمبري،وطلعت في الأخر مش هتاكل منه!!”

“يعنى أخليكِ تتعبي نفسك في تنضيفه وأنا موجود،وبعدين يعني ليه محسساني إني نضفت شقة،دول يدوب كما جمبرياية كده ياروحي..عادي،وبعدين أصلا لازم تتعودي،علشان دي هتكون معاملتي الدايمة ليكِ بعد مانبقى في بيت واحد..إن شاء الله”

اختفت علامات الضيق من على وحهها شيئاً فشيئاً،بل وتبدلت إلى سعادة كبيرة،عبرت عنها ببسمة صغيرة مع نظرات مطولة،موجه له هو فقط،في صمت طويل أثار ريبته.

عقد موسى حاحبيه وأومأ بالنفي بخفوت،ثم سألها:

“سكتِ ليه؟؟ في ايه؟؟”

ضمت شفتيها برقة ثم تنهدت بعمقٍ،كأنها تتلذذ نسائم الهواء،قبل أن تردف بصوت دافئ يفيض بالسعادة والشجن:

“بصراحة مش عارفة أقول ايه،في كل مرة بتثبتلي إن ربنا بيعوضني بيك عن كل وحشة عدت عليا في حياتي،في كل مرة بتكلم فيها معاك،بتعلق بيك أكتر ياموسى،وكل لحظة وأنا وياك،بتبقى أحلى لحظات في حياتي…بجبك”

ظهرت ابتسامته رويدًا رويدًا،كزهرة تتفتح على مهل،حتى اتسعت تمامًا،يزينها بريق عينيه المتقد بالمشاعر.

بدون وعي،ارتكز بمرفقه على الطاولة،وأسند وجنته على كف يده،غارقًا في تأملها بشجن،وكأن عينيه تكتب قصيدة صامتة من الإعجاب.

كانت اللحظة تنساب بهدوء،مليئة بتلك الطمأنينة التي لا تحتاج إلى كلمات،لكن اتسعت عيناه بشكل مفاجئ،كمن تذكر شيئًا غاب عن باله تمامًا.

رفع رأسه ببطء،واستقرت عينيه على كف يده الذي يستقر عليه قفاز أسود بلاستيكي،ذلك القفاز الذي كان يرتديه قبل لحظات أثناء تنظيف الطعام.

بينما كانت هى تراقبه عن كثب،تترقب رد فعله،بينما تحاول منع ضحكتها من الانسياب.

حوّل نظراته إليها بحركة بطيئة،ثم أشار بسبابته على وجنته وقال بصوت خافت،يحمل سخرية لاذعة:

“خَدّي أكل قبلي”

ضحكت على سخريته تلك،بينما كان هو يمد يده نحو عبوة المناديل المعطرة الموضوعة على الطاولة،بادر لالتقاط إحدى المناديل لكن يدها سبقته،حينما تحركت بخفة وأخذته قبله.

ابتسمت برقةٍ ثم أردفت بصوت دافئ:

“خليني أساعدك أنا.”

لم يعترض واكتفى بتركها تقترب لتفعل ماتريده،رفعت يدها بحرص،وأخذت تمسح وجنته برفق شديد،كأنها تلامس شيئًا هشًا تخشى كسره.

أما هو،فلم يزح عينيه عنها بل كان يراقبها بتركيز،بابتسامة دافئة تلاعب شفتيه،وعيناه تلمعان بمزيج من الشغف والشجن،كأنه يراها للمرة الأولى.

ضحكت بخفة حين لاحظت نظراته المثبتة عليها لكنها لم تقل شيئًا،فقط استمرت في لمساته الخفيفة،حتى انتهت أخيرًا واعتدلت في جلستها،قبل أن تضع المنديل جانباً،وترفع عيناها لتلتقي بعينيه مرة أخرى،وتردف بصوت خافت:

“خلصت.”

أومأ لها بخفوت،و اتسعت ابتسامته قليلًا وهو يراقبها بنظرة لم تخلُ من دعابة مستترة،ثم سألها بصوت هادئ،لكنه يحمل في طياته شيئًا من المرح:

“تمامًا يعني؟”

لم تتردد للحظة،بل أجابته فورًا بثقة وابتسامة واثقة تعلو شفتيها:

“تمام وعسل أوي.”

ضحك ببهجة،وكأن عبارتها قد لمسته بطريقة لم يتوقعها،ثم هز رأسه بخفة قبل أن يقول بنبرة خبيثة بعض الشيء:

“هتعود على فكرة؟”

رفعت حاجبها،لكنها لم تفكر كثيرًا قبل أن ترد:

“اتعود.”

أمال رأسه قليلاً وهو يردد بنبرة ذات مغزى لاتخلو من المرح:

“نتعود.”

ضحك كلاهما..تلك الضحكة الخفيفة التي تأتي بلا تكلف،بلا تفكير مسبق،فقط لأنها وليدة لحظة صافية بين اثنين.

ساد بينهما صمت خفيفاً كان ممتلئًا بنظرات متبادلة حملت ما لم تستطع الكلمات أن تصفه.

لم يكن بحاجة لكسر هذا الصمت بطريقة درامية،فكل ما قاله بعد ذلك،كان ببساطة:

“يلا ناكل.”

هزت رأسها وابتسمت وهي تردد بمرح:

“يلا.”

بدأ كلاهما بتناول الطعام في هدوء،كل واحد منهما يستمتع بالطعام الذي يفضله.

كانت هي تأكل بارتياح،بينما هو يتناول طعامه على مهل،لكن ما بين اللقمة والأخرى،كانت النظرات المسروقة تتكرر بينهما.

عيناها تلاحقه بين الحين والآخر،وشفتيها ترسمان ابتسامة خفيفة كلما التقت نظراتهما. أما هو،فكان يراقبها بشغفٍ،كأنما يحفظ ملامحها بين التفاصيل الصغيرة لهذه اللحظة.

لكن ما لم يدركاه،هو أن هناك عيونًا أخرى تراقبهما،تتابع كل إيماءة بينهما من بعيد،من إحدى الطاولات القريبة.

كانت فتاتان تجلسان هناك،إحداهما تمسك هاتفها،وتتفحص شيئًا بينما تنقل نظراتها بينه وبين الشاشة،كأنها تطابق الصورة أمامها مع شيء ما.

مالت على رفيقتها قليلًا وهمست بلهفة:

“هو؟”

أجابتها الأخرى دون أن ترفع عينيها عن الهاتف بنبرة تحمل مزيجًا من الذهول والتأكد:

“هو…حتى نفس اللبس اللي لابسه في الفيديو.”

تبادلت الفتاتان النظرات بابتسامات خافتة،ثم بدون تردد أو تفكير طويل،نهضتا من مكانهما وسارتا باتجاه الطاولة الخاصة بموسى وفيروز.

توقفتا بجوارهما،وهتفت إحداهما بصوت حيوي لجذب انتباههما:

“لو سمحت!”

رفع كل من موسى وفيروز رأسيهما في آنٍ واحد،وتلاقت نظراتهما سريعًا قبل أن تتحولا نحو الفتاتين الواقفَتين أمامهما.

لم يكد موسى أن ينطق حتى بادرت الأخرى بالسؤال،بنبرة متحمسة لكنها حذرة في الوقت ذاته:

“هو حضرتك موسى عمــ عمران،MF؟”

انعكست لمعة إدراك خاطفة في عينيه،ثم ألقى نظرة سريعة على فيروز،قبل أن يعيد تركيزه إلى الفتاتين ويجيب ببساطة،وكأن الأمر لا يحمل مفاجأة كبيرة له:

“آه أنا”

في لحظة،انفرجت أسارير الفتاتين،وتبادلا نظرة سريعة قبل أن تهتف إحداهما بحماسة لم تستطع كبحها:

“إحنا من الـ fans بتوعك! بنتابعك من زمان أوي،ولسه شايفين الفيديو اللي نزلته،ولما شفناك دلوقتي ماكناش مصدقين الصدفة الغريبة دي،وإنك فعلاً قدامنا!”

لم تستطع فيروز منع نفسها من رفع حاجبها باندهاش خفيف،ونظرت إلى موسى لتقرأ تعبيراته،بينما هو اكتفى بابتسامة صغيرة،تُخفي سعادة كبيرة خلفها.

حينها هتفت الفتاة الأخرى بلهفة:

“ممكن نتصور معاك؟”

ألقى موسى مجدداً نظرة سريعة على فيروز،التي كانت تبتسم بهدوء يحمل في طياته فخر وسعادة به.

عاد هو ببصره إلى الفتاتين،ثم أومأ بإيماءة بسيطة،مرددًا بهدوء:

“ومالو.”

نهض من مجلسه،فاقتربت الفتاتان أكثر بحماسة واضحة،ووقف كل واحدة منهما على جهة منه.

في تلك اللحظة،نهضت فيروز بدورها،وقبل أن يُطلب منها،خطت خطوة للأمام ومدّت يدها قائلة بهدوء ولطفٍ:

“جيبي، أنا أصوركم.”

دون تردد،ناولتها الفتاة هاتفها،فقبضت عليه فيروز برفق ورفعت الكاميرا،وتابعت عيناها المشهد أمامها بتركيز صامت.

التُقطت الصورة الأولى…ثم الثانية…

ولكن قبل أن تلتقط الثالثة،تحركت يد إحدى الفتاتين،واستقرت على كتف موسى في حركة تلقائية،غير مدروسة ربما،لكن تأثيرها كان واضحًا وفوريًا.

اتسعت عينا فيروز،وتحولت نظراتها في لحظة من الهدوء إلى التوتر،لم تحاول التفكير أو ضبط انفعالها،فقط رفعت يدها فورًا وأشارت للفتاة،ونبست بصوت مخفض لكنه كان يحمل حدّة لا تخفى:

“ممكن تنزّلي إيدِك؟”

لم يكن طلبًا،بقدر ما كان أمرًا نابعًا من غيرتها عليه.

أبعدت الفتاة يدها عنه دون أي اعتراض،وكأنها أدركت أنها تجاوزت حدًا غير مسموح به.

أما هو،فلم يستطع كبح الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه رغمًا عنه،وكأنه استمتع بردة فعلها أكثر مما يجب.

زفرت فيروز بضيق واضح،لكنها لم تقل شيئًا آخر،فقط عادت والتقطت صورة إضافية بسرعة،ثم خطت خطوة حاسمة نحو موسى،ومدّت يدها بالهاتف للفتاة،ولكن ليس فقط لتعيده،بل لتبعدها في حركة غير مباشرة،وتجبرها على تغيير مكانها.

والنتيجة؟ أصبحت هي الآن تقف بجواره مكان الفتاة التي كانت قبل لحظات قريبة منه أكثر مما ينبغي.

تناولت الفتاة الهاتف منها،لكن نبرتها لم تخلُ من الامتعاض وهي تردّ ببرود:

“شكرًا.”

شبكت فيروز ذراعها بذراع موسى بإحكام،ولم تكلف نفسها عناء تخفيف توتر الموقف بل أجابتها بثبات وبنظرة واثقة:

“العفو.”

سادت لحظة من الصمت،قبل أن تقترب الفتاة الأخرى من صديقتها،وعيناها تتحولان بين موسى وفيروز،وكأنها تحاول فك شفرة العلاقة بينهما،ثم نبست بصوت يحمل فضولًا خالصًا،وسألت فيروز مباشرة:

“هو حضرتك أخته؟”

لم تتردد ولم تفكر للحظة،لم تحتج حتى إلى النظر لموسى قبل أن تجيب،بل أجابت بنبرة حاسمة وقاطعة،لا تحتمل الجدال:

“مراته…أنا مراته.”

ألقى موسى نظرة سريعة عليها ثم رفع يده ليخفي ابتسامته التي اتسعت،لكنه توقف قبل أن يفعل،عندما وقعت عيناه على القفاز الذي يرتديه،رفع حاجبيه للحظة ثم أزاح يده برفق وأعاد النظر إليها،متأملاً ملامحها باستمتاع واضح،وكأنه وجد متعة خفية في غيرة لم تحاول إخفاءها.

أما الفتاتان،فقد تجمدتا لثوانٍ،وكأن عقولهن لم تستوعب ما سمعته للتو،لكن سرعان ما استعادت إحداهن توازنها،وهتفت بذهول لم تستطع كتمه:

“ما توقعتش إنك تكون متجوز! شكلك صغير.”

التفت موسى إليها بهدوء ثم أجاب ببساطة وكأنه يلقي بمعلومة عابرة:

“ما احنا لسا كاتبين كتابنا من أسبوع.”

أومأت الفتاة بإيجاب،وكأنها الآن فقط استوعبت ثم ابتسمت بخفة قبل أن تقول:

“فهمت…شكرًا على الصور،عن إذنكم.”

أمسكت بذراع صديقتها وسارت مبتعدة،لكن لم تحرك فيروز عينيها عنهما،نظراتها كانت كأنها تشتعل بشرر صامت،تتابع خطواتهما وكأنها تتأكد أنهما لن تعودا.

أما موسى،فلم يكن يراقبهما بل كان يراقبها هي،مستمتعًا بكل تفصيلة صغيرة في رد فعلها،حتى أنه لم يستطع كتم ضحكته أكثر،فانفجر ضاحكًا فجأة.

التفتت إليه فيروز بسرعة،بينما عيناها تضيقان بحدة وهي تردف بتهكم:

“بتضحك على إيه؟!”

لم يحاول إخفاء ضحكته،بل ازداد مرحًا وهو يقول بمزاح واضح:

“بضحك،علشان طلعتِ بتغيري يا قمر!”

كتمت تنهيدة ضيق وجلست في مكانها مرة أخرى،قبل أن تضم ذراعيها أمام صدرها بجدية وتقول بثبات:

“أه بغير عليك،ومش بستحمل أشوف واحدة بتقرب منك.”

زادته كلماتها استمتاعًا،فجلس هو في مكانه بدوه،وابتسم بخبث:

“بس غيرتك طلعت حلوة أوي،ده إنتِ كان فاضلك ثانية وتاكليها.”

لم تتردد لحظة قبل أن ترد بغيظ حقيقي:

“كنت هعمل كده لو كانت فضلت حاطة إيدها على كتفك، كنت زماني أكلتها بدل الجمبري!”

ضحك موسى مجددًا،ثم أراح ظهره إلى الوراء،وكأنه يستعد لإلقاء قنبلة،وقال بخبث:

“بس لازم تتعودي على ده كمان،أنا كشفت عن نفسي خلاص،والـ fans بتوعي بقوا عارفين شكلي،والموقف ده هيتعاد كتير.”

ضيّقت عينيها في تحذير،ثم قالت بضيق حقيقي:

“إنت بتغيظني؟”

ضحك أكثر،ثم رد بسخرية وهو يرفع حاجبيه بمزاح مستتر:

“اهدِي بقى ما تضيقيش،هاتخفى علشان ما حدش يشوفني،أو…هتنقب،أيهما أقرب!”

نظرت إليه بحدة،لكنه لم يتأثر بل انفجر ضاحكًا مجددًا،وكأن استفزازها بات لعبته المفضلة.

أما هي،فلم تستطع سوى أن تزفر بقوة،متظاهرة بالضيق،ثم لوّت شفتيها بضيق واضح،لكن الحقيقة؟ لم تستطع البقاء غاضبة أمامه طويلًا.

كأن ملامحه وحدها كانت كفيلة بتبديد أي ضيق داخلها،فبدأت ابتسامتها تتسلل تدريجيًا إلى وجهها،بدون تكلف،بدون تفكير،فقط لأنها لم تستطع المقاومة.

في تلك اللحظة،استنشق هو نفسًا عميقًا،ثم قال بمرح وهو يتأملها بإعجاب واضح:

“أيوه كده،اضحكي…خلي الدنيا تضحكلي.”

ضحكت،فازداد بريق عينيه وضحك هو الآخر…كأن هناك شيء في ضحكته جعلها تشعر بدفء غريب،وكأن اللحظة بأكملها تحولت إلى شيء خاص بهما وحدهما.

تبادل كلاهما نظرات هائمة،تحمل في طياتها الكثير من المشاعر،شجن خفي،وشيء من اللهفة التي لم تهدأ بعد.

لم تمر ثوانٍ،وعاد كل منهما إلى طعامه،ليستمتعان حقًا،ليس فقط بالطعام،بل بالرفقة،بالوجود معًا،بلحظة لن تُنسى بسهولة.

_________________

على الجهة الأخرى…

خرجت من المطبخ تحمل صينية الضيافة،تسير بخطوات واثقة لكن عقلها لم يكن بنفس الهدوء…لم تكن تتوقع هذه الزيارة المفاجئة،ولم تكن تعرف نوايا صاحبتها بعد.

دخلت غرفة المعيشة،فوجدت تلك الضيفة مسترخية على الأريكة تجول بنظرها في أنحاء المنزل،تتفحصه بإمعان.

وضعت نادية الصينية أمامها برفق ثم قالت بنبرة هادئة متزنة:

“اتفضلي.”

رفعت المرأة عينيها نحوها،وابتسمت ابتسامة خفيفة وهي ترد بلهجة تحمل شيئًا من الود الزائف:

“ماكانش ليه لزوم يا حبيبتي.”

جلست نادية على الأريكة المقابلة وحافظت على اتزانها المعتاد ثم أجابت بنفس الهدوء:

“ده الواجب اللي بنقدّمه لضيوفنا يا مدام…”

سارعت الأخيرة في إكمال جملتها حين تدخلت بسرعة وقالت:

“كوثر…اسمي كوثر.”

توقفت نادية للحظة وكأنها تختبر وقع الاسم في أذنها ثم رسمت ابتسامة باهتة على شفتيها وأردفت:

“عاشت الأسامي يا مدام كوثر.”

ورغم أن الكلمات خرجت بنبرة مجاملة،كان هناك شيء خفي في عيني نادية،شيء أشبه بالحذر.

أما الأخيرة فقد التزمت الصمت للحظات وكأنها تختار كلماتها بحذر ثم تنهدت بخفوت وقالت:

“أنا آسفة علشان جيت كده فجأة،بس يعني…ماكنش هعرف آخد معاد.”

أومأت نادية برأسها بإيماءة خفيفة وأجابت بنبرة هادئة متزنة:

“لا عادي،ولا يهمك…المهم ما تبقيش توهتي وإنتِ جاية.”

ابتسمت كوثر ابتسامة صغيرة وهي تردف:

“لا خالص،أنا أول ما سألت في المنطقة على بيت الأستاذ سامي،ألف واحد دلّني عليه،وسمعت عنه كل خير.”

ارتسمت لمحة فخر واضحة على ملامح نادية وكأنها تتلقى شهادة تقدير على سنوات من التربية فردّت بنبرة تحمل اعتزازًا متعمدًا وإشارة مبهمة للأخيرة:

“الحمد لله،ابني طيب وابن حلال ويشهد الكل بأخلاقه وتربيته.”

ابتسمت لها كوثر ابتسامة متحفظة،لكنها لم تستطع أن تخفي بها الامتعاض الذي تسلل إلى ملامحها بعدما فهما لتلك الإشارة،ثم قالت بنبرة لا تخلو من الجدية المتعمدة:

“وأنا علشان عرفت إنه طيب وابن حلال،مارضتش ينضحك عليه زي ابني.”

لمعت عينا نادية بوهجة استنكار،لكن قبل أن تعترض أكملت كوثر حديثها وكأنها تقطع عليها أي فرصة للرد:

“أنا ابني كمان طيب على فكرة والله،واللي عمله آخر مرة كان غصب عنه…هو أب وكان عايز يشوف ابنه وياخده في حضنه.”

تقلصت نظرة نادية،وكأنها تحاول ضبط أعصابها،ثم قالت بصوت لم يخلُ من تهكم خفي:

“وطيبة ابنك دي تخليه يجيب رجالة ويتهجم على ستات قاعدين لوحدهم؟”

ردت كوثر بلهجة واثقة دون أن يطرف لها جفن:

“والله كان غصب عنه…عاصم طيب،عيبه الوحيد إنه عصبي شوية،وعلى فكرة بقى،هو ماكنش قاصد يأذي حد يومها،هو بس كان عايز ياخد ابنه،ولمؤاخذة يعني أي حد مكانه ماكنش هيأمن على ابنه يعيش وسط ناس غريبة.”

سكتت لحظة،وكأنها تمنح نادية فرصة لهضم كلامها،ثم تابعت بنبرة أكثر جدية:

“وعلى العموم أنا مش جاية أتكلم عن الموضوع ده،أنا جايه علشان موضوع تاني خالص يخصك إنتِ وابنك.”

لم تستطع نادية إخفاء الدهشة التي ارتسمت على وجهها فقالت بحذر:

“أنا وابني؟”

أومأت كوثر برأسها قبل أن تقول بصوت مفعم بالتلميحات:

“آه…وزي ما قلتلك من شوية،أنا هنا علشان عرفت إن ابنك طيب وابن حلال،علشان مش عايزاه ينضحك عليه زي ابني،ولا عايزاكِ إنتِ كمان ينضحك عليكِ…وتقعوا في شباك اللي ما تتسماش.”

تصلب وجه نادية وقطعت حديثها بلهجة حادة:

“ليلى…اسمها ليلى.”

ارتسمت ابتسامة باهتة على وجه كوثر قبل أن ترد ببرود:

“أنا فاهمِاكِ عمومًا…علشان أنا في يوم كده كنت زيك برضه،كنت بدافع عنها ومابسمحش لحد يغلط فيها،علشان كنت فاكراها طيبة وغلبانة…بس الحقيقة إنها طلعت بمية وش وماتتعاشرش،بتمثل الطيبة وهي مفيش أخبث منها.”

اقتربت قليلًا من الأخيرة وخفضت صوتها وكأنها تهمس بسر خطير:

“إنتِ دلوقتي شايفاها ملاك،بس بعدين هتظهر على حقيقتها،وهتتأذوا منها زي ما أنا وابني اتأذينا.”

رمقت نادية بحذر وراقبت وقع كلماتها على ملامحها قبل أن تضيف بنبرة ذات مغزى:

“أنا مش عايزة ده يحصل…علشان كده جيت أنصحك،علشان ما يحصلش فيكم اللي حصل فينا…علشان ابنك اللي سيرته على كل الناس بالخير،ما تتقلبش بالشر والسوء زي ما حصل مع ابني…بعد ما اللي اسمها ليلى افترت عليه،وقالت إنه كان بيضربها،وإني قال إيه كنت بحرضه عليها!”

ضحكت كوثر بسخرية ممزوجة بالمرارة ثم أضافت بصوت منخفض:

“وأنا كنت بعاملها زي بنتي…وأكتر،بس نقول إيه؟ في ناس كده،نفوسهم سودا من جوا…مهما تعامليهم بالحسنى يردهولك بالشر.”

ساد الصمت للحظات،ولمعت عينا كوثر بمكر بينما كانت تنتظر رد فعل نادية…والذي لم يطل حتى أتاه ببسمة خافتة،بدت ساخرة،مما جعل عينيها تتسع باستياء واستنكار.

لتجيبها نادية بصوت متزن لم يخالطه أي ارتباك:

“بجد مش عارفة أرد على كلامك ده إزاي،أشكرك على نصيحتك ولا…”

ترددت لحظة وكأنها على وشك التفوه بكلمة قاسية لكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة وقالت بلهجة أكثر هدوءًا لكنها لم تخلُ من الحدة:

“مش مهم…المهم دلوقتي خليني أرد عليكي صح.”

سكتت لوهلة ثم اعتدلت في جلستها وأجابت بثبات وعيناها تتطلعان إلى الأخيرة بثقة لا تقبل الجدل:

“لو أنتِ فاكرة يا مدام كوثر،إن بعد ما أسمع الكلمتين دول منك،هصدّق وأتقلب على مرات ابني،وساعتها تستغلوا الموضوع في القضية وتاخدوا الواد منها،تبقي غلطانة…أنا آخر حاجة ممكن أصدقها،هي كلام الناس على اللي يخصوني.”

رمقتها بنظرة باردة ثم استطردت بحزم:

“لو جه أي حد أيًّا كان مين وقالّي كلمة كده ولا كده على حد من أهلي،عمري ما هصدقه…علشان على رأي اللي قال ‘الكلام ببلاش!’ كل من هبّ ودبّ بيتكلم على خلق الله من غير حساب…زيّ ما أنتِ جاية مخصوص علشان تفترِي على البنت الغلبانة،وتشوهِي صورتها قدامي،بحجة إنك خايفة علينا من الفضيحة! بس أحب أقولك إن زيارتك دي مالهاش ستين لازمة يا مدام كوثر.”

تجمدت ملامح كوثر وتشنج جسدها لكنها لم تقاطعها بل ظلت تحدق فيها بنظرة متصلبة بينما تابعت الأخيرة حديثها بنفس النبرة القوية:

“وأحب أقولك برضه،إن أنا ربنا رزقني بولدين…ولد وبنت،لكن يوم ما ليلى دخلت البيت ده على إنها مرات ابني،بقت بنتي هي كمان،وبقى عندي ولد…وبنتين”

أخذت نفسًا هادئًا ثم أكملت بنبرة صادقة مليئة بالقناعة:

“وبرضه مش هنكر عليكِ…أنا أول ما عرفت إن ابني عايز يتجوزها،ماكنتش موافقة..مش علشان هي وحشة ولا حاجة،لا..بس علشان ماكنتش عايزاه يشيل مسؤولية كبيرة زي دي وهو في السن ده،بس هو أصر على كلامه فواقفت وقلت أروح وأشوفهاوأول ما شفتها بقيت فخورة بابني أكتر،علشان عرفت إنه عرف يختار بنت الحلال اللي هتصونه،وهتحافظ عليه وعلى بيته.”

لمحت كيف ارتجفت أنفاس كوثر لكنها تجاهلت ذلك وأكملت بثقة تامة:

“وبعد ما دخلت بيتي اتأكدت أكتر إنها بنت حلال،وتستاهل كل خير…وماكنتش تستاهل اللي حصلها.”

توقفت لحظة ثم نظرت مباشرة في عيني كوثر وأردفت بصوت حمل في طياته إصرارًا حازمًا:

“علشان كده،بحاول أعوضها…وأكون ليها أم مش حما ! وربنا يقدرني،وأقدر أحسسها بده،ويقدر ابني كمان إنه يعوضها خير،ويبارك فيهم هما التلاتة.”

ساد الصمت مرة أخرى…لكنه هذه المرة كان مختلفًا،لم يكن صمت ترقب،بل صمت سقوط…سقوط كوثر في فخ كانت هي من نصبته،دون أن تدرك أن نادية لن تكون لقمة سائغة،ولن تسمح لأحد أن يهدم بيت ابنها،أو أن يعبث بحياة تلك التي أصبحت في نظرها ابنتها.

تشنج جسد كوثر وكأن دلوًا من الماء البارد قد سُكب فوقها،وقد تأكدت تمامًا من فشلها في تحقيق ما جاءت من أجله.

لم تجد أمامها سوى الهرب من هذا الموقف الذي أصبح خانقًا بالنسبة لها،فنهضت بتوتر واضح مستعدة للمغادرة.

لكن نادية التي لم تفوّت لحظة استمتاعها بانتصارها،نهضت هي الأخرى بهدوء وقالت بنبرة لم تخلُ من السخرية اللاذعة:

“ما شربتيش الشاي…ولا حتى أكلتِ حلويات طب؟”

رمقتها كوثر بنظرات مغتاظة امتزج فيها الاستياء بالعجز،بينما رسمت نادية ابتسامة انتصار متعمدة،وازدادت وضوحًا عندما لم تجد الأخرى ردًا مناسبًا تلقيه عليها.

لكن قبل أن يتحول الصمت بينهما إلى مواجهة صامتة طويلة،قُطع المشهد فجأة بصوت الباب حين انفتح،ليكشف عن ليلى التي ولجت منه بهدوء مستخدمة المفتاح الذي أعطاها إياه زوجها.

توقفت ليلى للحظة عند المدخل،وانتقلت نظراتها بين نادية وكوثر،محاولة استيعاب طبيعة اللقاء الذي بدا أنه لم يكن عاديًا على الإطلاق.

وما إن وقعت عيناها على كوثر،حتى ظهر عليها الاضطراب والتوتر،وكأن الماضي الذي لطالما حاولت الفرار منه قد عاد ليطاردها من جديد.

كيف لا،وهي أمام المرأة التي كانت يومًا ما بمثابة كابوس يقض مضجعها؟ المرأة التي لم تر منها سوى القسوة والاتهامات والظلم…

ساد صمت ثقيل بينهما،نظرات متبادلة تحمل الكثير مما لم يُقل…كانت نظرة كوثر مشتعلة مليئة بحدة لم تحاول إخفاءها،بينما نظرة ليلى كانت متوترة مشوبة بالحذر وكأنها تنتظر أي لحظة لتهبّ العاصفة من جديد.

لكن قبل أن يطول هذا الصمت أكثر،قطعت نادية اللحظة بلمحة من الدفء،حينما التفتت نحو ليلى وأشارت إليها بالاقتراب،مرددة بصوت هادئ لكنه يحمل معاني كثيرة:

“تعالي يا حبيبتي،سلّمي على جدة ابنك…تعالي.”

لم تكن كلماتها مجرد دعوة عادية،بل كانت إعلانًا واضحًا…إعلانًا بأنها ليست وحدها،بأنها مهما حاولت كوثر زعزعة مكانتها،ستظل فردًا من هذه العائلة…ابنة لها،قبل أن تكون زوجة ابنها.

امتثلت ليلى لطلبها واقتربت منها،فاحتوتها الأخرى بذراعها،وكأنها تحميها من أي هجوم محتمل ثم التفتت نحو كوثر التي كانت لا تزال تنظر إليها بنظرات مشتعلة،وقالت بنبرة هادئة لكن حازمة:

“جدة ابنك كانت جاية تنصحني نصيحة وتحذرني منك…بس ما تخافيش،أنا عرفت أرد عليها كويس…أصل أنا برضه مش هسمع حد بيتكلم على بنتي بالوحش وأسكت.”

نظرت صوب ليلى بلمحة دهاء قبل أن تتابع بخبث مقصود:

“المهم،هي كانت ماشية…وصليها بقى للباب،وتعالي يلا نكمل الأكل مع بعض،علشان طفيت عليه لما جت وما عرفتش أكمله.”

اشتدت غيظ كوثر أكثر،فيما ارتسمت بسمة صغيرة على شفتي ليلى،لم تكن سوى علامة شكر لنادية على ما تفعله لأجلها..شعرت الأخيرة بذلك،فابتسمت وربتت على ظهرها بحنو، وكأنها تخبرها بصمت

“أنا معكِ.”

تنهدت ليلى بثقل،لكنها هذه المرة لم تتراجع…لأول مرة،تستجمع شجاعتها،وتقف ثابتة وواثقة أمام تلك المرأة التي طالما أرعبتها،ثم قالت بنبرة واثقة،وبسمة مستفزة زادت من اشتعال غضب كوثر:

“اتفضلي معايا يا…مدام كوثر.”

زفرت كوثر بضيق شديد قبل أن تستدير وتسير نحو الباب بخطوات غاضبة،فيما لحقتها ليلى وتسير خلفها بثبات.

وعندما بلغت الأخيرة الباب،لم تفوّت كوثر الفرصة لإلقاء نظرة مستاءة نحو كلٍّ من ليلى ونادية،وكأنها تحفظ وجهيهما في ذاكرتها بحنق.

أما نادية،فلم تتراجع بل أطلقت ضحكة خافتة،ضحكة انتصار كانت كفيلة بجعل كوثر تشعر بهزيمتها أكثر.

وحين خرجت كوثر أخيرًا،أغلقت ليلى الباب خلفها بقوة،وكأنها تخبرها بلا كلمات:

“لا عودة لكِ إلى هنا مجددًا.”

تنفست بارتياح ثم التفتت نحو نادية،التي كانت تبتسم لها بحنو،قبل أن تشير إليها بالاقتراب وتقول بصوت هادئ:

“مش عايزة تعرفي إيه اللي حصل؟”

حركت ليلى رأسها نفيًا،وهي تجيب بثقة لم تعهدها في نفسها من قبل:

“لأ…واثقة إنك دافعتي عني يا ماما.”

ابتسمت نادية بسعادة وكأن قلبها امتلأ دفئًا ثم قالت بمزاح لطيف:

“والله كلمة ‘ماما’ طالعة من بُقك زي العسل…قوليها كتير بقى،علشان بحب أسمعها،الواد سامي بيقولها كل سنة مرة!”

ضحكت ليلى بخفة،فابتسمت نادية بدورها،مستمتعة بلحظة الصفاء هذه قبل أن تتذكر شيئًا فجأة،فتغيرت ملامحها قليلًا وقالت باهتمام:

“المهم…يلا اقعدي،وقوليلي إيه اللي حصل في الجلسة؟”

_________________

“زي ماتوقعنا وزي ماالمحامي قالنا،حاول يقلب التربيزة علينا ويبيّن إن ليلى أم فاشلة ومش هتعرف تاخد بالها من ابنها،وخاصة بعد مااتجوزت،وإنه هو اللي أب مظلوم ومحروم من ابنه،وإنه وو خاد حضانته هيتهم بيه وهيربيه احسن منها بكتير”

ساد الصمت للحظات في غرفة السايبر بعد كلمات سامي تلك،قبل أن تظهر علامات الاستنكار والغضب على وجوه رفاقه الخمسة…بدا واضحًا أن ما سمعوه أثار فيهم مشاعر الغيظ والرفض،حتى سأل موسى بلهجة قلقة:

“وطب القاضي كان ميال لمين؟”

تنهد سامي،ثم أجاب بنبرة لم تخلُ من القلق:

“مقدرش أجزم…بس كان واضح إنه متأثرش بكلام عاصم العاطفي…على العموم،إحنا قدمنا كل اللي عندنا،ومحامينا وضح إن ليلى أم كويسة ومفيش حاجة حصلت تخلي الحضانة تتاخد منها…وكمان بيّن إن عاصم رافع القضية دي بحجة إن ليلى اتجوزت،بس زي ما هي اتجوزت،هو كمان اتجوز ومراته على وشك الولادة…فإيه يضمن إنه بعد ما يخلف،مايهملش ابنه وما يهتمش بيه؟”

تبادل الأصدقاء النظرات فيما بينهم،وكأنهم يحاولون تحليل الموقف،قبل أن يضيف سامي بصوت متعب:

“بس مع ذلك،مفيش حاجة باينة لسه…الجلسة الجاية آخر الشهر،وإن شاء الله خير.”

ساد الصمت مجددًا،لكن هذه المرة لم يكن صمتَ استنكار،بل صمت تفكير…وكأن الجميع بدأوا يدركون أن معركة صديقهم لم تنتهِ بعد،وأن القادم قد يكون أصعب مما توقعوا.

زفر كارم بقوة وهتف بنفاد صبر:

“وكان ليه وجع القلب ده كله يا صاحبي؟! ما أنا قلتلك نلم الرجالة ونروح نديله علقة محترمة تخليه يتخرس خالص،وما نسمعش صوته تاني ولا نلمح خلقته العِكرة!”

زفر سامي بيأس ثم قال بنبرة حازمة:

“وماله،كنا نروح نديله علقة محترمة زي ما بتقول،وندخل السجن! بدل ما نحلها بالأدب،نبقى رد سجون وقلالات الأدب؟”

قطّب كارم حاجبيه ورد بعناد:

“ونبقى رد سجون ليه؟ هو حد كان هيبلغ عنّا؟ وحتى لو بلغوا،فيها إيه يعني؟ ديتها يومين ونطلع،هي أول مرة ندخل الحجز أو نروح القسم؟”

قهقه موسى بسخرية،وأردف وهو يرمقه بنظرة ماكرة:

“على رأيك،هي أول مرة؟! إحنا بالصلاة على النبي كلنا نورنا القسم قبل كده،وأنت بزيادة عننا حبتين!”

ضحك الجميع على حديثه،بينما زمّ كارم شفتيه بضيق،قبل أن يرفع حاجبيه بغرور ويقول بثقة زائفة:

“ده حاجة أفتخر بيها والله!”

زفر سامي بيأس،ثم مرر نظره على البقية وقال:

“سيبكم منه وخلينا في اللي اتجمعنا علشانه…حد فيكم تابع الفيديو؟”

أومأ الجميع له بالإيجاب ماعدا موسى،ورد كارم بلهجة جامدة:

“أنا شايف إن الردود نسبيًا حلوة،في شوية زبالة،بس الباقي حلو.”

أضاف حسن برتابة:

“أنت لاحظت إن الأغلبية بيدعمونا بصراحة؟ مظبوط زي ما قال كارم،فيه شوية سلبي،بس ده المتوقع يعني.”

تأمل سامي الكلمات للحظة،قبل أن ينظر صوب موسى ويسأله بنبرة متفحصة:

“وأنت يا عم موسى…ما لاحظتش حاجة؟”

رد عليه موسى بنبرة باردة متعمدة:

“لا بصراحة،ماكنتش فاضي أبص في الموبايل…ما أنت عارف،علشان كنت خارج مع أختك.”

تجمّدت ملامح سامي للحظة،قبل أن يرميه بنظرة غيظ،ثم عض طرف شفتيه بضيق واضح،وتمتم بتحذير مكبوت:

“حسابك معايا بعدين…أنا مش ناسي.”

لم يتأثر موسى بتهديده بل رسم على شفتيه ابتسامة مستفزة زادت سامي حنقًا.

زفر الأخير بقوة محاولًا ضبط أعصابه،ثم عاد إلى صلب الموضوع قائلاً بجدية:

“المهم…أنا شايف إننا في الأمان…زي ما قلتوا،في ردود فعل سلبية بس الأغلبية الحمد لله،بيدعمونا ولسه معانا،وده عامل مشجع جدًا…غير إن معظم العملاء بتوعنا لسه مكملين معانا،والأمور إلى حد ما تمام،وأحسن مما كنا متوقعين كمان.”

في تلك اللحظة،صدح صوت كارم يهتف بمرح،رافعًا يديه كمن يحتفل:

“طب الحمد لله! ده علشان نيتنا بيضة والله!”

التفت إليه سامي سريعًا،قبل أن يجيبه بسخرية لاذعة:

“كلنا نيتنا بيضة…ما عدا أنتَ.”

انفجر الجميع ضاحكين،بينما اكتفى كارم بهز كتفيه بلا مبالاة،وكأنه لا يعترض على التهمة…وربما،لأنه يعلم أنها ليست بعيدة عن الحقيقة.

.

.

.

بعد دقائق…

وقف موسى مع حسن أمام المحل بعد إغلاقه،بينما كان باقي الأصدقاء قد سبقوهما إلى المسجد لأداء صلاة العشاء.

تنهد موسى وهو ينظر إلى صديقه بامتنان حقيقي ثم قال بنبرة صادقة:

“والله مش عارف أقولك إيه يا حسن…حقيقي كتر خيرك،تعبتك معايا النهاردة أوي.”

ابتسم حسن بهدوء وربّت على كتف موسى قائلاً:

“ولا تعب ولا حاجة يا موسى…،أنا معملتش غير الواجب وبس…،بس يارب اللي بتعمله يجيب فايدة.”

أومأ موسى برأسه وهو يزفر بارتياح طفيف:

“يارب يا حسن…أنا لسه قافل مع الدكتورة قبل ما آجيلكم،والحمد لله طمّنتني…قالتلي إنها اتكلمت وفتحت قلبها ليها أكتر من المرة اللي فاتت،وإن اللي في الجلسات الجاية إن شاء الله هتعبّر أكتر وتتحسن مع الوقت.”

أشرق وجه حسن بالأمل وهتف بإخلاص:

“إن شاء الله،هي طيبة وربنا هيجبر بخاطرها…صدّقني.”

أغمض موسى عينيه للحظة كأنه يرفع دعاء صامتًا ثم قال بنفس الرجاء:

“يارب يا حسن…يارب.”

في تلك اللحظة ارتفع أذان العشاء،ليقطعا الحديث ويتبادلا نظرات متفاهمة قبل أن يهمس موسى:

“يلا…خلينا منتأخرش ونروح نصلي العشا،علشان الجماعة ما يسألوش كتير.”

ضحك حسن بخفة،ثم سار الاثنان معًا نحو المسجد،حيث ينتظرهما الهدوء والطمأنينة التي يمنحها الوقوف بين يدي الله.

_________________

مع مرور الوقت…

“السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… السلام عليكم ورحمة الله.”

أنهت سهير صلاتها بهذه الكلمات،ثم رفعت يديها وأطالت الدعاء،وكأنها تودع في كلماتها كل همومها،راجية أن تُحمل إلى من لا تغفل عينُه ولا تنام.

وعقب انتهائها مسحت وجهها بكفيها،ثم عملت على طيّ سجادة الصلاة ووضعها على إحدي المقاعد في غرفة المعيشة،وبمجرد أن التفتت التقت عيناها بجسد ابنتها التي جلست مسترخية على الأريكة،كأن لاشئ في هذا العالم يشغل بالها.

تنهدت بضيق،ثم قالت بنبرة ممتلئة بالاستياء:

“يعني العشاء أذنت والناس خلصت صلاة،وأنتِ لسه قاعدة على المحروق اللي في إيدك؟!”

رفعت تينا عينيها عن الهاتف بملل،ونظرت إلى والدتها للحظة ثم عادت إلى شاشتها بلا اكتراث وكأن كلمات سهير لم تلامسها حتى؛مما جعل الأخيرة تفقد صبرها،وتلتقط وسادة صغيرة بجانبها وتلقيها نحو ابنتها قائلة بحزم:

“سيبي اللي يتحرق ده وقومي صلي،ده مش هينفعك في آخرتك يا عين أمك!”

أطلقت تينا تأوهًا مستنكرًا وهي تلوي شفتيها بامتعاض،ثم تمتمت بحنق:

“كنت هقوم على فكرة،ماكنش ليه لازمة العنف يا مدام سهير!”

لم تردّ سهير رغم ضيقها على تعليق ابنتها،بل راقبتها وهي تضع هاتفها جانبًا بتثاقل،ثم نهضت أخيرًا إلى الصلاة،لكن قبل أن تغادر سألتها بصوت متوجس:

“المحروسة التانية فين؟”

ردت تينا بلا مبالاة وهي تمضي إلى المرحاض في الردهة:

“من ساعة ماتغدينا وهي في أوضتها،ما طلعتش.”

زفرت سهير بضيق وهي تتمتم بيأس:

“تلاقيها هي التانية قاعدة على المحروق وما قامتش تصلي،ما هو بقى داء منتشر.”

تقدمت نحو غرفة ابنتها الثانية،وطرقت الباب بخفوت قبل أن تشرع بفتحه وهو تردف بنبرة آمرة:

“سيبي اللي في إيدك وقومــ…”

توقفت كلماتها على عتبة لسانها،واتسعت عيناها بذهول وهي ترى ابنتها جالسة على سجادة الصلاة،بيما يستقر المصحف بين يديها،تقرأ وتردد أياته في خشوع.

رفعت سهير حاجباها بعدم تصديق،ثم رمشت عدة مرات وهي تمتم بذهول:

“هو أنا بحلم ولا إيه؟”

في تلك اللحظة،أغلقت لينا المصحف برفق،وكأنها تخشى أن تبعثر سكينته،ثم تصدّقت بصوت خافت،صوت بالكاد اخترق السكون لكنه حمل يقينًا هادئًا كما لو أنها وجدت أخيرًا ما كانت تبحث عنه.

رفعت رأسها نحو والدتها وعيناها تضجان بهدوء غريب،ليس هدوء الاستسلام بل هدوء من أدرك الطريق بعد طول تيه.

نظرت إلى سهير بعفوية ثم سألتها بلطف:

“في حاجة يا ماما؟”

لم تجد سهير إجابة للحظة فقط هزّت رأسها نفيًا بلا وعي،كأنها لا تزال تحاول استيعاب المشهد ثم تمتمت بصوت صادق،دافئ:

“لا يا روح ماما،مفيش حاجة…ربنا يثبتك.”

ابتسمت لينا بخفوت،ابتسامة تشبه نسيم الفجر حين يتسلل بخفة إلى قلب الليل،بينما أومأت سهير لها برضا،وكأنها لا تريد إفساد هذه اللحظة بكلمات زائدة.

أغلقت الباب بهدوء،لكن قبل أن تغادر توقفت عنده للحظة ونظرت إليه بدهشة ثم تمتمت وكأنها تحدث نفسها أكثر مما تسأل:

“هو أنا دخلت أوضة غلط ولا إيه؟!”

أما في الداخل…

فقد تنهدت لينا بخفوت،ثم أزاحت عينيها عن الباب وعادت تتأمل المصحف بين يديها..مررت أصابعها على صفحاته بحنو،بينما تتردد الكلمات في عقلها…كلماته،تلك التي ما زالت تتردد على خاطرها منذ أن سمعتها،تلك الكلمات التي استجابت لها بدون وعي،على عكس الكثير قبلها.

أغلقت عينيها للحظة ثم همست لنفسها وكأنها ترد على صوته الذي لم تسمعه سوى روحها:

“جايز كنت محتاجة زقة…للطريق الصح.”

________________

_

في جهة أخرى….

“استنى…خلصت.”

أطلقت دلال تلك الكلمات بإيقاع هادئ،لتعلن بها انتهاءها من تغيير الضمادة على الجرح.

رفع هو طرف قميصه الأزرق ببطء ليغطي مكان الجرح،ثم اعتدل في جلسته مسترخيًا،بينما ابتعدت هي عنه قليلًا،وجمعت الضمادات والقطن في عبوة الإسعافات،قبل أن ترفع عينيها نحوه وتسأله باهتمام:

“ها؟ بعد ما طلعتوا من المطعم،عملتوا إيه؟”

تراخت ملامحه قليلًا،وكأن السؤال استدعى ذكرى خاصة،فابتسم بتلك الابتسامة التي تحمل بين طياتها ألف قصة ثم قال:

“خدتها وطلعنا على محل القصب اللي على الكورنيش…اللي كنا بنروحه بعد المدرسة وإحنا صغيرين،فاكراه؟”

أمالت رأسها قليلًا وهي تسترجع الصورة في ذهنها،ثم هتفت بتذكر:

“آه،بتاع عمو زكريا.”

أومأ بالإيجاب وهو يضيف بابتسامة دافئة:

“عمو زكريا كبر خلاص،ابن أخوه هو اللي ماسك المحل دلوقتي….المهم،شربنا العصير على الكورنيش،وبعدين أكلنا فريسكا،اللي جبتلك منها وبلعتيها.”

ضربته بخفة على ذراعه وهي تردف بغيظ مصطنع:

“إيه! ما أنت عارف إني بحبها!”

ضحك بخفة،مستمتعًا بانفعالها الطفولي ثم قال بنبرة هادئة تحمل بعض الدهاء:

“ما هو علشان عارف إنك بتحبيها،جبتلك منها.”

لم تستطع منع نفسها من الابتسام،تلك الابتسامة التي تحمل شكرًا غير منطوق،ثم وكأنها ترد له الجميل،أشارت نحو الكوب الموضوع على الطاولة وقالت برقة:

“وأنا عملت لك عصير جوافة،علشان عارفة إنك بتحبه،يلا اشربه لحد ما أدخل دي جوه علشان عندي خبر حلو أوي عايزة أقولهلك.”

ارتفع حاجباه بفضول وهو يردف بنبرة مستفسرة:

“قوليه.”

نهضت من مجلسها وأمسكت بعبوة الإسعافات،ثم رمقته بنظرة لعوبة وقالت:

“لما أجي.”

غادرت تاركة خلفها فضوله الذي بدأ يتصاعد،فيما هو تناول كوب العصير واحتساه دفعة واحدة دون تفكير،ثم وضع الكوب على الطاولة في اللحظة التي عادت هي فيها من الداخل.

رفع رأسه نحوها وراقب اقترابها ببسمة مبهمة،ليضيق عينيه بحذر قبل أن يسألها بنبرة ماكرة:

“يلا،إيه الخبر الحلو بقى يا سكر؟”

اقتربت أكثر وجلست بجواره على الأريكة،قبل أن تميل نحوه قليلًا وتقول بحماس لا تخفيه:

“طارق عملي مفاجأة حلوة أوي النهاردة.”

ضحك بخفة ثم هتف بثقة:

“مستحيل تبقى أحلى من المفاجأة اللي عملتها لمراتي.”

قهقهت بخفة،ثم ضربته مجددًا على ذراعه وهي تردف بضيق مصطنع:

“لا أحلى!”

نظر إليها بغيظ حقيقي هذه المرة وكأنه لم يعد يحتمل تشويقها،فهتف حينها بحنقٍ واضح:

“إيه هي يا أختي؟ إيه المفاجأة؟”

أغلقت شفتيها للحظة،وكأنها تتلذذ بإثارته ثم ابتسمت بحماسة وعيناها تتلألآن وهي تهتف:

“هنقضي شهر عسل تاني! وخمن فين؟؟…فرنسا! هنِسافر أنا وطارق لفرنسا!”

تجمدت تعابيره لثانية،وكأن عقله يحتاج للحظة إضافية لاستيعاب كلماتها،ثم رفرف بأهدابه عدة مرات قبل أن يسألها مستنكراً:

“ايه؟!”

ضحكت دلال بخفة،ثم أعادت كلماتها بوضوح وحماس أكبر،وكأنها تخشى أنه لم يسمعها جيدًا:

“إيه إيه؟؟ بقولك هنسافر أنا وطارق لفرنسا،وتحديدًا باريس..أتاري إنه كان بيخطط لده من زمان،وكان عايز يعملي مفاجأة وكده.”

ظل يراقبها بنظرة غير مقروءة،وكأن الكلمات لم تتسلل إلى عقله بعد،ثم مال بجسده للأمام قليلًا وسألها بجدية هذه المرة:

“أنتِ بتتكلمي بجد؟”

رفعت حاجبيها باندهاش،ثم أردفت:

“أيوه بتكلم بجد،أُمال هاهزر في حاجة زي دي إزاي؟”

توقفت فجأة،وحدقت فيه قليلاً قبل أن تضيق عينيها بشك:

“وبعدين…أنت مالك مصدوم كده ليه؟ ماشي،هو الموضوع يفاجئ بس مش للدرجة دي!”

ظل صامتًا للحظة أخرى،ونظر لها وعيناه تحملان مزيجًا غريبًا من الامتعاض والتسلية،قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا،ويغمغم بعبثٍ:

“ده الواد طارق ده ماطلعش سهل بجد.”

زفرت دلال بضيق ثم بدون تفكير رفعت يدها مجددًا وضربته بقوة أكبر هذه المرة،هاتفة بانزعاج:

“اتلم! إيه واد طارق دي؟ ده خالك!”

زم شفتيه بانزعاج قبل أن يضع يده على كتفه موضع ضربتها ويتظاهر بأنه يتألم،ويهتف بحنقٍ مفتعل:

“إيه بقا! لمي إيدك دي،دي تالت مرة تضربيني فيها!”

رفعت حاجبها بسخرية وردّت ببرود مستفز:

“ماهو أنت اللي بتقل أدبك،اتلم علشان ما أمدش إيدي عليك تاني.”

نظر إليها شزرًا،وكأنه يوشك على الرد بشيء ما،شيء من شأنه إشعال حرب كلامية بينهما،لكن قبل أن ينطق بحرف،فُتح الباب فجأة،وقبل حتى أن يلتفتا،صدح صوت طارق وهو يهتف بنبرة مزيج من الاستغراب والانزعاج:

“فيه إيه؟؟ صوتكوا عالي ليه؟!”

استدار كلاهما نحو الباب في آنٍ واحد،حيث وقف طارق عند المدخل بملامح متسائلة،بيننا انعقد حاجبيه وهو ينظر إليهما بنظرة تحمل مزيجًا من الحيرة والاستنكار.

وقبل أن يتمكن موسى من الرد،بادرت دلال بعبوس واضح،وهي تشير بإصبعها إلى الأخير قائلة:

“هو! هو السبب،هو اللي بيستفزني!”

رفع طارق حاجبيه بإستغراب،ونظر صوب موسى مباشرة،والذي نهض من مجلسه واقترب منه مردداً بنبرة يغلفها التحدي:

“هتسافروا باريس ياطاروقه؟؟”

رمقها

طارق

سريعًا قبل أن يجيب على الأخير ببسمة هادئة،وكأنه كان يتوقع هذا السؤال:

“أه يا سيدي،هنسافر بعد أسبوعين إن شاء الله.”

توسعت عينا

موسى

قليلًا وهو يقترب أكثر،متسائلًا بحيرة:

“إزاي؟؟ طب الباسبور..والتأشيرة؟”

لم يتأخر طارق في الرد بل جاء صوته واثقًا،مرتبًا كما اعتاد دائمًا:

“أولًا،أنا ماشي في الإجراءات من زمان…ثانيًا،دلال عندها الباسبور بتاعها،افتكر…اللي كانت عاملاه أيام العُمرة اللي طلعتها مع جدك،والتأشيرة هنروح نقدم عليها بكرة إن شاء الله.”

ابتسم

موسى

بمكر،ومال نحوه وهو يومئ بتقدير ساخر:

“ده أنت مرتب ومظبط أوي!”

لم يتراجع

طا

رق بل زادت ابتسامته اتساعًا وهو يبادله بنبرة مماثلة:

“أُومال فاكر إيه؟ مش لوحدك اللي بتعرف تعمل مفاجآت.”

عقد

موسى

ساعديه أمام صدره،ثم رفع ذقنه ببطء قبل أن يقول بتحدٍّ واضح:

“يعني أنت بتعلّي عليا؟؟ ماشي يا خالو،والله لأعلّي عليك وهقضي شهر عسل ما حصلش مع مراتي…شهر كامل،30 يوم ها؟ وفي مكان ما حصلش،هفكر فيه وهقولكم.”

رمقه

طارق

بدهشة واضحة،في نفس اللحظة التي تقدمت فيها

دلال

لتقف بجواره،لتشاركه الاستغراب ذاته،قبل أن تنفجر ضاحكة على تصرفات

موسى

الطفولية.

أما الأخير،فقد زفر بقوة وكأنه يحاول ضبط نفسه،ثم قال بحسم:

“أنا ماشي،تصبحوا على خير.”

أنهى جملته ثم التفت ليلتقط هاتفه من على الطاولة،وقبل أن يمنحهما فرصة للرد،كان قد غادر المكان،تاركًا خلفه أثرًا من الدهشة والتساؤل.

تبادل

طارق

و

دلال

النظرات،ثم ضيق الأول عينيه متسائلًا:

“ماله ده؟”

هزت

دلال

كتفيها بلامبالاة،وردت ببساطة وكأنها اعتادت على ذلك:

“موسى…ده طبع موسى.”

ضحك

طارق

بخفة،وهز رأسه بيأس،بينما انفجرت

دلال

في ضحكة أخرى،قبل أن تلتفن وتنظر إلى الباب الذي اختفى خلفه الأخير،غير مستغربة من تصرفاته بقدر ما هي مستمتعة بوجوده في حياتهم…وبالأخص في حياتها.

_________________

بعد أسبوعين”

جلس على مكتبه في المحل،يقلب القلم بين أصابعه وهو يمرره على الأرقام المسجلة في صفحات الدفتر أمامه.

أخرجت من حالته تلك ذلك الفتى الذي كان يتنقل بين الأرفف يختار بعض الأشياء بعناية،تابع أحمد تحركاته بعين عابرة ثم ما لبث أن استقام ليأخذ منه المشتريات ووضعها في حقيبة بلاستيكية،تناول منه الثمن قبل أن يعيد إليه الباقي بإيماءة خافتة.

غادر الفتى سريعًا، عاد الأخير ليغوص مجددًا في دفاتره،محاولًا استعادة تركيزه.

لم يدم هدوؤه سوى لحظات،قبل أن يتجمد القلم بين أصابعه،حينما دخل إلى المحل من يخشاه..لم يكن بحاجة إلى رفع رأسه ليراه،فقد عرفه من صوته،من تلك التحية التي يلقيها دائمًا بنفس النبرة المستفزة:

“السلام عليكم.”

رد أحمد التحية وهو يرفع رأسه لتقع عيناه عليه…كان يتحرك بين الأرفف والثلاجات،يختار بعض الأشياء كعادته،يلتقط ما يشتهي دون اكتراث،كما لو أن المكان كله مُلكٌ له.

راقبه عن كثب وعيناه تتابعانه بحذر حتى اقترب الأخير من المنضدة والتقط أربع عبوات من البسكويت،ليجلس بعدها بلا تردد على المقعد على يمينه،وليضع مشترياته_ إن جاز تسميتها بذلك_على المقعد المقابل له.

وببساطة،فتح إحدى العبوات وبدأ يتناول منها بأريحية تامة،دون أن يلقي حتى نظرة واحدة على عمه الذي وصل إلى أوج غيظه في هذت اللحظة.

أطلق أحمد زفرة ثقيلة خرجت منه رغمًا عنه قبل أن يهتف بحنق وهو يرمقه بنظرة ضيق:

“دكان أبوك هو؟!”

رفع موسى رأسه ونظر إليه حينها،وابتسم بخفوت ثم رد ببساطة مستفزة:

“لأ،دكان أخو أبويا.”

رمقه أحمد بملامح مقتضبة قبل أن يرد بنبرة جامدة تخفي وراءها ضيقًا متراكماً:

“يا أخي ليه دايمًا بتخليني أندم إن أخو أبوك؟”

لم يبدُ على موسى أي تأثر بكلماته بل واصل مضغ البسكويت في فمه قبل أن يرد بنبرة تحمل براءة مصطنعة:

“ليه بس؟ هو أنا عملت إيه دلوقتي؟”

أجابه عمه بنبرة ممتعضة:

“بتعمل اللي محدش بيعمله غيرك! مفيش حد في العيلة كان بيدخل المحل وياخد كل ده مرة واحدة،ده حتى ولادي نفسهم ماكانوش بيعملوا كده.”

رفع موسى حاجبه قليلًا ورمق عمه بطرف عينه ثم قال باستنكار مصطنع:

“أنا عرفت دلوقتي أنا طلعت بخيل لمين؟”

ضيق أحمد عينيه بضيق واضح ثم زفر بغيظ قبل أن يشير إليه بيده في حدة:

“قوم،خدهم وقوم من قدامي أنا مش فايق لك الساعة دي!”

لم يتحرك موسى من مكانه بل أمال رأسه قليلًا ونظر إليه بدهشة مزيفة وهو يردف ببساطة:

“مش فايق لي ليه يا عمي؟ ده أنا جاي علشان أسلّيك،بدل ما أنت قاعد لوحدك كده زي الكئيب!”

“جاي تسلّيني ولا تتسلى بيا؟”

أشاح موسى بنظره بعيدًا في حركة مسرحية،وكأنه قد كُشف أمره وأدرك أن عمه أصابه في مقتل.

أما أحمد فقد ضحك بسخرية وهو يراقب ردة فعله قبل أن يردف في انتصار:

“سكت ليه؟ علشان معايا حق،صح؟!”

حمحم موسى قليلًا وهو يشيح بوجهه للحظة،وكأنه يستعد لاعتراف خطير ثم عاد لينظر إلى أحمد قائلاً بنبرة ماكرة:

“عايز الحق ولا ابن عمه؟”

“الحق طبعًا.”

أومأ موسى برضا ثم اعتدل في جلسته وألقى نظرة سريعة على البسكويت الذي بين يديه قبل أن يردف ببراءة زائفة:

“تمام،أنا يا سيدي جاي أسليك…وأتسلى كمان بالحاجات دي.”

ضيّق أحمد عينيه في شك وهو يحدّق في ابن أخيه بنظرة تحمل من الريبة أكثر مما تحمل من الغضب ثم قال بتوجس:

“طب خدهم وروح سلّي أبوك،هو أولى بيك.”

“أبويا نزل دمياط من بدري.”

لم يبدُ أحمد متفاجئًا،بل اكتفى بالتقاط قلمه مجددًا ومرره بين أصابعه وهو يقول:

“طب روح عند جدك.”

رفع موسى حاجبيه ببرود قبل أن يرد ببساطة:

“جدي نايم دلوقت،ولو روحت وقومته من نومه مش هيدخلني الشقة تاني.”

رفع أحمد نظره إليه مجددًا وتأمله للحظة قبل أن يرد بدهاء:

“طيب،روح اعمل زيارة لمراتك،إيه رأيك؟ أكيد وحشتك…قوم يلا.”

تنهد موسى ببطء ثم نظر إلى عمه وكأنه يخبره أن الأمر خارج عن إرادته قبل أن يقول بأسف:

“وحشتني والله،بس للأسف أمي وخالتي نادية خدوها هي وليلى مرات سامي ونزلوا السوق يجيبوا شوية حاجات لزوم تجهيزاتها وكده.”

ساد الصمت لوهلة قصيرة قبل أن يزفر أحمد بخفوت وهو يحاول العثور على حل أخير:

“معندكش شغل تعمله؟؟”

“لسه مخلصه وباعته لسامي من شوية”

“طب روح اقعد مع عمك مصطفى.”

لم يمنحه موسى الفرصة حتى لالتقاط أنفاسه بل أجابه مباشرة:

“عمي مصطفى نزل مع عمي محمود المصنع النهاردة.”

بدأ الاخير يشعر وكأنه في اختبار عقيم لا نهاية له،فتراجع في مقعده قليلًا وهو يحدّق في موسى بملامح فارغة قبل أن يقول بصوت أبطأ من المعتاد وكأنه يحاول إقناعه بأي طريقة:

“طب قوم روحلهم المصنع.”

جاءه الرد أكثر إحباطًا من كل ما سبق:

“مكسل بصراحة أروح…خسارة البنزين اللي هخسره في المشوار.”

لم يستطع أحمد منع نفسه من التحديق فيه بدهشة حقيقية،كأن عقله يرفض تصديق هذه السلسلة من الأعذار المتتابعة،وقبل أن يجد الكلمات المناسبة للرد،سبقه موسى وهو يرفع يده كأنه يوقف أي محاولة للنقاش ثم أردف بنبرة شبه رسمية:

“وقبل ما تسألني على صحابي،يؤسفني أقولك إن كل واحد فيهم في شغله ومش فاضيين،وولادك وولاد عمي محمود نفس الحكاية.”

أمال رأسه قليلاً وأكمل بتهكمٍ واضح:

“وللأسف،دلال كمان مش هنا زي ما أنت عارف،زمانها دلوقت قاعدة قدام برج إيفل،هي والأستاذ طارق.”

ارتفع حاجب أحمد قليلًا وهو يرمقه بصمت،قبل أن يتنهد ويضع القلم على الدفتر،ثم رفع نظراته نحو الأخير بتعب ظاهر،قبل أن يقول بنبرة مزيج من الضيق والاستسلام:

“يعني أفهم من كل ده إن مفيش غيري اللي فاضي لك،صح؟”

هزّ موسى رأسه بتأكيد مصحوب بابتسامة عريضة،قبل أن يرد ببساطة وكأنه لم يفعل شيئًا خاطئًا:

“بالظبط”

لم يملك أحمد سوى أن يحدّق فيه لثوانٍ كأنما يعيد التفكير في كل قرارات حياته التي أوصلته إلى هذه اللحظة،ثم زفر بخفوت وأسند ظهره إلى الكرسي وهو يغمغم في استسلام:

“والله أنا اللي غِلط من الأول،كان لازم أنزل وسط بلد النهاردة بدل ‘عوض’ وأرتاح،بدل ما ألاقيك واقع على دماغي كده.”

ابتسم موسى بخبث ثم تناول قطعة أخرى من البسكويت وكأنه لم يسمع شيئًا،قبل أن يردف وكأنه يواسيه:

“ما تزعلش،أنا مش هقعد كتير،ساعة بالكتير وهقوم.”

نظر إليه أحمد بريبة وسأله بشك:

“ساعة؟!”

أومأ موسى برأسه وهو يلوك طعامه بلا مبالاة:

“أيوه”

زفر أحمد بضيق قبل أن يرد بسخرية ممتعضة:

“والله ما هاأقدر أستحمل ساعة،ولا المحل يقدر يستحمل.”

أنهى كلماته وهو يلتقط هاتفه من على المنضدة،ثم مرر إصبعه بسرعة على الشاشة عازمًا على طلب النجدة.

وضع الهاتف على أذنه،ولم تمر سوى ثوانٍ حتى جاءه صوت شقيقه داود مستفسرًا بقلق:

“أيوه يا أحمد؟”

رد أحمد فورًا بنبرة حملت مزيجًا من الاستغاثة والامتعاض:

“أيوه داود،الله يبارك لك، الحقني!”

جاءه الرد من الطرف الآخر بنبرة ذعر:

“في إيه بس؟ إيه اللي حصل؟ أنت كويس؟”

مرر أحمد يده على وجهه بإحباط ثم قال وهو يرمق موسى بنظرة طويلة:

“لحد دلوقتي آه،بس مش ضامن بعد شوية هفضل كويس ولا لأ.”

زاد قلق داود فرد بإلحاح:

“طب فهمني بس بالله عليك في إيه؟!”

نظر أحمد صوب موسى،الذي كان قد التقط عبوة العصير من فوق المقعد وبدأ يحتسيها بكل هدوء وكأن الدنيا في أمان تام،ثم أجاب شقيقه بلهجة متأججة بالغضب واليأس:

“المحروس ابنك…جاي يقعد معايا بعد ما قفلت في وشه الدنيا،وما لاقاش غيري يقضي عنده وقته،جه ولم نص المحل قدامه،وشغال ياكل…هيخربلي بيتي لو فضل شوية كمان،وهيموتني مشلول ياأخويا!”

سمع أحمد ضحكة مكتومة من الطرف الآخر لكن سرعان ما تحولت إلى ضحكة صريحة،قبل أن يحاول داود التظاهر بالجدية ويقول:

“طب…طب اديهولي.”

نظر أحمد إلى موسى بملامح مقتضبة ثم مد يده بالهاتف إليه قائلاً:

“كلم.”

لم يتحرك موسى فورًا بل أنهى آخر رشفة من العصير ثم مسح فمه بيده ونظر إلى عمه وسأله ببراءة مفتعلة:

“أنت خايف مني كده ليه ياعمي؟؟”

كتم أحمد أنفاسه للحظة حتى لا ينفجر ثم لوّح بالهاتف أمامه قائلًا بحدة:

“كــلــم!”

ابتسم موسى بسخرية وهو يتناول الهاتف من يد عمه ثم وضعه على أذنه وأجاب ببساطة:

“أيوه يا حج؟”

جاءه صوت والده يجيبه برتابةٍ لم تخلُ من الضيق:

“اهدَى على عمك شوية يا موسى،احنا عايزين الراجل.”

أطلق موسى ضحكة خفيفة ثم رد ببراءة مصطنعة:

“والله ما عملت له حاجة يا بابا،أنا قاعد مؤدب…باكل بس.”

“ما هي دي المشكلة يا حبيب أبوك،إنك بتاكل بس…من غير ما تدفع،يعني هتخرب له بيته وهترفع له ضغطه.”

“سهلة،ادفع له حق الحاجات أنتَ.”

سمع أحمد ضحكة داود الخفيفة من الطرف الآخر قبل أن يجيبه بقلة حيلة:

“ماشي هدفع له،بس يلا قوم وسيبه يكمل شغله،وروح شوف حاجة تعملها بدل ما أنت قاعد تتسلى عليه.”

سكت موسى لوهلة وكأنه يفكر،ثم قال بنبرة مدروسة:

“حاضر،هسيبه…بس عندي شرط،أو طلب.”

“قول يا سيدي.”

“مش أنت في دمياط؟ جيب لي مشبّك معاك.”

رفع أحمد حاجبه في استنكار واضح بينما انطلقت ضحكة داود من جديد،ثم قال بموافقة سريعة:

“حاضر يا سيدي،هاجيب لك.”

لم يكتفِ موسى بذلك بل أردف بجدية زائفة:

“بس بحبحها علشان أنا حبايبي كتير وعايز أوزّع عليهم كلهم”

ضحك داود مرة أخرى وهو يرد بمرح:

“حاضر،هبحبحها من عينيَّ،هعمل حساب حبايبك كلهم…بس يلا قوم وسيب لنا الراجل حي.”

ابتسم موسى بمكر ثم قال وهو ينهض أخيرًا:

“طالما هتجيب لي مشبّك…هسبّ لك أخوك حيّ.”

مد موسى يده بالهاتف لعمه وهو يقول بإستفزاز:

“اتفضل يا عمي.”

تناوله أحمد منه وهو يرمقه بضجر قبل أن يرفعه إلى أذنه ويجيب بسخرية لاذعة:

“شكرًا يا أخويا علشان أقنعت ابنك يسيبني حي.”

لم يستطع داود كتم ضحكته لكنه سرعان ما تمالك نفسه وقال بمواساة خفيفة:

“معلش،استحمِله علشاني أنا على الأقل.”

“والله كلنا مستحملينه علشانك ياداود.”

تنهد أحمد بعمق،وكأنه يحاول استجماع ما تبقى من صبره،ثم أضاف:

“المهم،هقفل أنا بقى علشان ما أعطلكش أكتر من كده،يلا مع السلامة.”

أنهى المكالمة عند هذا الحد،ثم وضع الهاتف على المنضدة،ورفع رأسه ليجد موسى منشغلًا بوضع مشترياته في الحقيبة البلاستيكية،وبمجرد أن انتهى،سأله أحمد بنبرة تحمل بقايا الغيظ:

“خلصت؟”

لم يكلف الأخر نفسه عناء النظر إليه ليجيبه بل تحرك نحو إحدى الثلاجات قائلاً:

“لا لسه.”

تابعه أحمد بنظراته،وراقبه وهو يلتقط عبوة تلو الأخرى من مشروب الجوافة المفضل لديه حتى بدأ وجهه يتشنج بالغضب،لكنه لم يتفوه بكلمة..فقط بقي يحدّق به،يراه يتجول بين الأرفف بارتياح وكأن المحل ملكه،يلتقط ما يشاء بلا اكتراث.

وفجأة،كُسر الصمت على وقع رنين هاتف أحمد،فرفعه إلى أذنه وأجاب دون أن يشيح نظره عن موسى:

“ألو،يا عزت؟”

جاءه صوت متوتر من الطرف الآخر،جعل جسده ينتفض بقوة وهو يهتف بذهول:

“إيه!! يمنى بتولد؟!!…أنتوا في مستشفى ايه؟!…ماشي،أنا جاي حالًا،هبلّغ الباقي وأجيلكم.”

أغلق الهاتف بسرعة،وقبل أن يستوعب موسى ما يحدث،أمسك أحمد بذراعه بقوة،ودفعه نحو الخارج بلهجة حازمة متوترة:

“تعالَ معايا،بنتي بتولد!!”

رمقه موسى بدهشة قبل أن ير ببرود مستفز:

“وأنا مالي،هي بنتي أنا؟؟”

لم يكن هناك مجالٌ للغضب أو الجدال،فقد كانت الأخبار التي تلقاها أحمد لتوّه أكبر من أن يلتفت لسخافات موسى المعتادة…لكن حتى في أشد اللحظات توترًا،لم ينسَ الأخير كيف يستفزّه بردوده اللامبالية.

توقف أحمد للحظة وحدّجه بنظرة مشتعلة ثم هتف بنبرة لم تحتمل الاعتراض:

“لأ مش بنتك،بس بنت عمك ياحمار،ولازم تيجي معانا علشان عربيتي مش هتكفينا”

لم يُعطِه فرصة للرد بل شدّه من ذراعه بقوة وكأنه كان يخشى أن يفرّ منه في اللحظة الأخيرة.

أما موسى،فرمقه باستغراب ثم رفع يديه مستسلمًا قبل أن يتنهد ويقول ببرود:

“حاضر حاضر،هاجي معاك،بس ماتشدّنيش كده كأني عروستك”

لم يضيّع أحمد لحظة أخرى بل خرج مسرعًا من المحل،فيما تبعه موسى بخطوات أقل توترًا،وكأنه لا يدرك بعد حجم الموقف الذي همّ كلاهما على مواجهته.

_________________

على جهة أخرى…

كان يجلس على مكتبه،يراقب شاشة الحاسوب أمامه بتركيز شديد،تنتقل عينيه بين الأرقام والبيانات بينما تتحرك أصابعه بسلاسة فوق لوحة المفاتيح.

اعتاد هذا الهدوء وهذه السكينة التي تمنحه القدرة على إنجاز عمله بكفاءة كعادته كل يوم.

لكن لم تدم سكينته طويلًا،حين تسلل إلى أذنيه صوت مألوف،صوت يعرفه جيدًا،كان خافتًا في البداية لكنه تصاعد شيئًا فشيئًا،كأنه موجة غضب تتجمع قبل أن تضرب.

لم يكن واضحًا بما يكفي ليدرك ما يحدث،لكنه حمل في نبرته ما جعله يشعر بأن شيئًا ما ليس على ما يرام.

أغلق الحاسوب بتروّ ثم نهض من مجلسه،وخرح من مكتبه بخطوات ثابتة واتجه نحو مصدر الضجيج،وما إن اقترب حتى وقع بصره على تجمع من الموظفين،واقفين في دائرة متوترة،وأمامهم كان

فهمي

في المركز تقريباً،يهتف بصوت منفعل متأجج::

“أنتِ هنا شغالة عندي،يعني اللي أقولك عليه يتنفذ من غير ما تفتحي بقك بكلمة! أخرك تقولي حاضر وبس،مش تناقشيني وتتكلمي بمبررات فارغة!”

توقفت خطوات

كارم

عند حدود الدائرة،ومسحتا عيناه المشهد بسرعة،قبل أن يعقد حاجبيه في انزعاج واضح،ثم يهتف بصوت جهوري حمل نبرة حازمة لم تحتمل التأجيل:

“ايه اللي بيحصل هنا؟؟”

كأن صوته اخترق جدار الواقع،مجلجلًا وسط الصمت الذي استوطن اللحظة…تجمدت الأجساد،وانحبست الأنفاس،فيما التفتت إليه الأنظار بحدة،وكأنها تنتظر تفسيرًا لما يحدث. حتى فهمي،رغم الغضب المتأجج في ملامحه،التفت بنصف جسده ليكشف عن الحقيقة التي لم يكن كارم يتوقعها.

رآها

كانت هناك،خلف فهمي،وجهها متورد كأن الدم صعد إليه دفعة واحدة،وعبراتها متشبثة بأطراف جفنيها،تتأرجح بين الصمود والانهيار. نظرتها،التي تلاقت مع عينيه للحظة،حملت أكثر مما قد يحتمله قلبه في موقف كهذا.

هوى قلبه في هاوية من الذهول.

اتسعت عيناه حتى بدت كأنهما ستبتلعان المشهد،وسرت قشعريرة باردة في أوصاله،وكأن جسده أدرك شيئًا لم تصل إليه أفكاره بعد. انحبست أنفاسه،وتباطأ الزمن حوله،حتى أصبحت الضوضاء مجرد طنين بعيد. ومع ذلك،وجد نفسه يتقدم.

خطواته كانت ثقيلة…وكأنها تحمل أوزار كل الأسئلة غير المنطوقة.

وقف أخيرًا أمام المذكور،لكنه لم ينظر إليه،بل بقيت عيناه معلقتين بتلك النظرة التي أربكته أكثر مما توقع. شيء ما في أعماقه كان يصرخ،يطالب بإجابة،يطالب بفهم…لكنه لم يكن واثقًا مما يخشاه أكثر،الإجابة أم الغموض؟

ابتلع ريقه،ثم نطق مجددًا،بصوت أكثر حدة،وأكثر جمودًا،وكأنه يخشى أن تهتز كلماته فتفضح اضطرابه:

“إيه اللي بيحصل؟!”

التفت فهمي له بجسده كاملاً هذه المرة،مشحونًا بالتحدي،ونظر إليه مباشرة قبل أن يرد بحدة:

“مالكش دعوة،روح كمل شغلك.”

لم يكن كارم في مزاج يسمح له بتلقي الأوامر. كانت نظراته مشتعلة بغضب مكبوت،عينيه تضيقان بتركيز يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة. لم يزح بصره عن الأخير وهو يرد بصوت جاد،خرج متحشرجًا من بين أسنانه:

“إيه اللي حصل؟ ليه بتزعقلها؟!”

ارتفع حاجب فهمي بسخرية،قبل أن يرد بصوت لا يخلو من الاتهام:

“عملت زيك كده،رفضت تسمع كلامي،تقريبًا كده أنت كنت بتدربها على قلة الأدب مش الشغل.”

لم يتغير تعبير كارم،لكنه اقترب أكثر،حتى بات بينهما مسافة تُحسب بالأنفاس، ورد بصوت بارد كحد السيف:

“وأنت الصادق،أنا كنت بعلمها الشغل اللي أنتَ ما تعرفش حاجة عنه.”

أنهى كلماته ثم تجاهل وجود الأخير تمامًا،وكأن الهواء أصبح شفافًا أمامه،وأدار وجهه نحوها. هذه المرة،لم يكن في عينيه ذلك الغضب المنذر بالانفجار،بل شيء آخر…شيء أقرب إلى القلق الخفي. انخفض صوته بشكل واضح وهو يسألها:

“إيه اللي حصل؟”

ترددت…كانت نظراتها تتنقل بينه وبين فهمي،ويداها تتشابكان ببعضهما،كأنها تحاول جمع شتات نفسها. ظل كارم يراقبها بصبر، حتى أشار لها بإيماءة صغيرة،وتحركت شفتاه بالكاد ليهمس بكلمة واحدة:

“قولي.”

استجمعت شجاعتها أخيرًا،وابتلعت ريقها قبل أن تبدأ الحديث،وعيناها مسمرة على فهمي:

“أنا كنت قاعدة في مكتبي،وحضرته جه إداني ملف علشان أخلصه وأجبهوله،وأنا قولتله إن معايا شغل دلوقتي،بس هو أصر إن الشغل اللي ادهولي أهم،فمارضتش أجادله ووافقت…”

توقفت للحظة،وكأنها تتأكد مما ستقوله بعد ذلك،ثم تابعت بصوت أكثر هدوءًا:

“بس هو طلب بعدها إني أقوم أعمله فنجان قهوة وأجبهوله على مكتبه. حاولت أفهم حضرته بكل ذوق إن ده مش شغلي،بس هو على صوته عليا، وضــ-”

قطعت جملتها فجأة. شفتاها انفصلتا عن بعضهما لكنها لم تُكمل. لم يكن الأمر بسبب الخوف،بل لأنها رأت ملامحه…ملامح كانت أسوأ من تلك التي رأتها ذلك اليوم على “كورنيش النيل”.

كانت عيناه متسعتين،لكن ليس بالدهشة،بل بغضب أشبه بالجحيم المتقد. نظراته أصبحت قاتمة،مظلمة،كأن ظلًا ما امتد داخلها. لم يكن بحاجة لسماع ما لم يُقال،لأن عينيه انحدرتا تلقائيًا إلى الأرض،وهناك رأى الفوضى…الأوراق المبعثرة،متناثرة في كل اتجاه،وكأن يدًا غاضبة ألقت بها بعنف.

فهم…

لم يحتج لأي تبرير،لم يكن بحاجة إلى سماع باقي الجملة منها..’

هو ألقى الملف في وجهها’.

قبض كارم على يديه بقوة حتى برزت عروقه،كأن الدماء فيه لم تعد تسري بل تغلي،متأججة بنيران لم يكن له يد في إشعالها،لكنها الآن تحرقه من الداخل. كانت كفاه ترتجفان،ليس من الخوف،بل من الغضب العارم الذي اجتاحه بلا رحمة.

لكن كل هذا تضاعف في اللحظة التي رأى فيها تلك الدمعة…تلك اللعينة التي فرت من عينيها قبل أن تتمكن من كبحها. دمعة واحدة،لكنها كانت كفيلة بإشعال فتيل لا رجعة فيه.

وفي غمضة عين…

في لحظة لم يدركها أحد…

اندفع كارم إلى الأمام،بلا تفكير،بلا تردد،وكأن جسده تحرك من تلقاء نفسه،مدفوعًا بشيء أعمق من الغضب،أعمق من المنطق.

ارتطم رأسه بوجه

الأخير

بعنف.

ضربة واحدة،لكنها كانت كفيلة بجعل الهواء نفسه يرتجف…الصوت الذي انبعث من الاصطدام كان أشبه بصاعقة انطلقت في ليلة صامتة،جافًا،مدويًا،ممتلئًا بغضب لم يعرف صاحبه كيف يكبته.

لم يُتح للأخير حتى فرصة استيعاب الألم الذي انفجر بين ملامحه،قبل أن تتبعه ضربة أخرى-

سريعة،خاطفة،مباشرة إلى منتصف معدته.

شهق فهمي بصوت مختنق،تكور جسده على نفسه من شدة الصدمة،وتشبثت أصابعه بلا شيء،كأن الهواء ذاته خانه،ولم يستطع الحفاظ على توازنه،فتراجع رغماً عنه،قبل أن

يهوي بقو

ة…

تحت قدميها مباشرة

.

شهقت ميرنا بقوة،وكأن الهواء علق في صدرها للحظة،بينما تراجعت إلى الخلف خطوة غريزية فور سقوط الأخير عند قدميها.

كانت أنفاسها متسارعة،ويديها قد تجمدتا في مكانهما،غير قادرة على استيعاب ما يحدث أمامها،ولم تكد أن ترفع نظرها عنه إلا ووجدت كارم يتقدم نحو الاخير بثباتٍ بارد،وعينيه تضيقان بخطر واضح.

انحنى كارم بجسده قليلًا،وأمسك بتلابيب الرجل الملقى أرضًا،غرز أصابعه بقوة في قماشة ثيابه ثم رفعه بعنف،كما لو كان مجرد وزن زائد لا يستحق التمهل.

لم يترك له فرصة لالتقاط أنفاسه،ولم يمنحه حتى لحظة لاستيعاب ما يجري،فما إن كاد يستفيق من السقطة الأولى حتى عاجله بضربة أخرى،أكثر وحشية،برأسه مباشرة نحو منتصف وجهه-وتحديدًا أنفه.

دوى صوت الاصطدام في الأجواء،كأنه ارتطام صلب بصخرة،تبعه أنين مكتوم وسقوط مترنح ثم شهقة مرتعبة أخرى من ميرنا،وقد تجمدت عيناها على المشهد أمامها.

بينما كان فهمي يتهاوى بين يديه،وجسده يرتخي كدمية فقدت خيوطها،وأنفه ينزف بغزارة،السائل القاني ينسكب على ثيابه بينما يتلوى وجهه تحت وطأة الضربة.

بدا وكأن عظامه قد تحطمت تحت عنف الاصطدام بالأرض عند سقوطه،وكأن الهواء قد اُنتزع من رئتيه بقسوة جعلت صوته لا يخرج سوى كأنين متقطع،ضعيف عاجز حتى عن التعبير عن ألمه.

أما كارم،فوقف ينظر إليه من عليائه باشمئزاز،نظرة جمعت بين النفور والغضب الصريح،وكأنه وحش انتهى للتو من فريسته،غير عابئ بما تبقى منها.

عيناه كانتا تحملان قسوة باردة لا تعرف الرحمة،بينما فكه مشدود وكأن غضبه لم يفرغ بعد كأن كل ذلك لم يكن كافياً لإطفاء النيران التي تتأجج بداخله.

أما هي،فقد وجهت نظرها نحوه بذهول،عيناها متسعتان بصدمة جمدت أطرافها في مكانها…كانت نظرتها تحمل الذعر الخالص،بينما كان جسدها متصلبًا،وأنفاسها متقطعة،وكأنها تخشى أن يأتي الدور عليها،رغم أنها تعلم تمام العلم أنه لن يمسها بسوء…لكنه كان مرعبًا،مرعبًا بطريقة لا تصدق.

_________________

مع مرور الوقت…

كان يقف في منتصف الغرفة في المستشفى،يحتضن صغيره بين ذراعيه بحنان أبوي،يراقب ملامحه الغضة وكأنه يحاول أن يحفرها في ذاكرته للأبد.

كانت الغرفة تعج بأفراد العائلة رغم عدم قدوم البعض لظروف خاصة،كانت زوجته مستلقية على السرير بملامح مرهقة،وحجاب غير مهندم يخفي شعرها،بينما تحيط بها نظرات الحب والفرحة من الجميع.

لثم وجنة صغيره الناعمة بلطفٍ،ثم ناوله إلى والدته

هبة

،التي تلقته بسعادة غامرة،بينما كان والده

محمود

يحمل “منذز” على ذراعه،الذي كان يطالع شقيقه بفرحة شديدة.

كانت الفرحة تملأ المكان،تتنقل بينهم كما تتنقل نظراتهم المحملة بالحب،يتبادلون الابتسامات،يتناقلون الصغير بينهم ويتأملونه بعيون مليئة بالدهشة والسرور،وكأن هذا الحدث أعاد شيئًا من الدفء إلى العائلة بأكملها.

لكن هذا المشهد لم يدم طويلًا…

حين اقتحم موسى الغرفة فجأة بخطوات سريعة أشبه بموجة تضرب الشاطئ بلا إنذار.

رمق الجميع بنظرة خاطفة،وهو يقول بلهجة جادة:

“مبروك ما جالكم.”

وقبل أن يسمع حتى ردهم عليه،كان قد تجاوزهم جميعًا مقتربًا من

عزت

مباشرةً،لينظر إليه نظرة ثابتة ثم يسأله بجملة قصيرة جعلت الجميع يندهشون:

“شوفت ابنك؟؟؟”

أومأ عزت برأسه بخفوت،وأجاب بصوت هادئ:

“آه.”

لم يمنحه موسى فرصة لإضافة أي شيء آخر،بل أمسك بذراعه وأردف بنفس النبرة الجادة:

“حلو،تعالَ معايا بقا”

لم تبقَ ذراع عزت في قبضته سوى لحظة،إذ أفلتها على الفور بحركة تلقائية،وخطا خطوة للخلف فصلت بينهما،قبل أن يرفع رأسه نحوه،ويسأله بهدوء لا يخلو من الريبة:

“أجي معاك لفين؟”

التفت إليه موسى بنظرات تحمل هدوءًا غريبًا لا يتناسب مع وقع كلماته التالية،إذ نطق بجملة بسيطة،لكنها جاءت كالقنبلة التي فجرت الصمت،وألقت بظلال ثقيلة على الغرفة:

“للقسم،أصل كارم اتقبض عليه.”

ساد السكون للحظة،قبل أن تبدأ الملامح بالتحول…

الفرحة التي ملأت الأجواء منذ قليل تراجعت،والدهشة بدأت تتسرب إلى العيون،وكأن كلماته كانت موجة باردة أطفأت دفء الاحتفال في لحظة واحدة.

#يتبع….

_________________

كتابة/أمل بشر.

الفصل الأطول لحد الأن أتمنى

يبقى عجبكم وماتنسوش تقولولي رأيكم وتوقعاتكم للجاي.

وأسفة جداً على التأخير،بس والله غصب عني،احنا في رمضان والوقت حقيقي ضيق،غير الكلية والمذاكرة وكده،فمش بلحق أكتب حاجة بجد،فاعذروني الفترة دي معلش.

وبس..

حاولو بقا تتوقعوا اللي هيحصل لكارم لحد ما الفصل الجاي ينزل.

دمتم بخير..سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق