رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الحادي والثلاثون 31 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الحادي والثلاثون

الفصل الحادي والثلاثون(أين هي؟؟)

الفصل الحادي والثلاثون(أين هي؟؟)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

في غرفة أحد الضباط المسؤولين،جلسوا الخمسة في انتظار ضلعهم السادس،الذي ألقى بنفسه إلى هذه الهاوية للمرة التي فقدوا القدرة على عدّها.

كان الصمت يخيّم عليهم،إلا أن التوتر كان واضحًا في ملامحهم جميعًا،كأنهم يعرفون مسبقًا أن القادم لن يكون بالأمر السهل.

فُتح الباب،ودخل أحد العساكر وهو يقود كارم إليهم قبل أن يغلق الباب خلفه ويتركه في مواجهة نظرات أصدقائه المتحفزة،وقف الخمسة دفعة واحدة وكأنهم في محكمة على وشك إصدار الحكم،ليرفع سامي حاجبه بسخرية ويهتف فور رؤيته:

“يا لهوي على روقانك ياأخي! إحنا محروق دمنا بسببك،وأنتَ بتحرق في التبغ اللي في إيدك؟!”

لم يكلف كارم نفسه عناء الرد المباشر بل اكتفى بأن يبتسم له باستفزاز،بينما يقترب منهم بخطوات واثقة والسيجارة لا تزال بين شفتيه،لم يكد أن يصل حتى أضاف موسى بنبرة حانقة تحمل شيئًا من التعجب:

“هو مش المفروض بياخدوا حاجتك منك قبل ما تدخل الحجز؟ جبت السيجارة دي منين بقى؟”

أطفأ كارم السيجارة في منفضة السجائر على مكتب الضابط،ثم قال ببرود وكأن الأمر لا يستحق اهتمامًا:

“الجماعة تحت عاملين حفلة…اللي معاه حتة،واللي معاه صباع،ده أنا سايب واحد بيشرب شيشة تحت.”

رفع سامي حاجبيه بسخرية أكثر ثم ردّ بتهكم:

“وما شربتش معاهم ليه بقى؟!”

“لا،أنا ملتزم مع السجاير،وطالما التزمت مع حاجة مش بخونها.”

طالعه سامي بنظرة جمعت بين السخط والصدمة من رده البارد،بينما ظل كارم ثابتًا،كأنما يتلذذ برؤية انفعالاتهم،حتى وزع نظراته عليهم سألهم:

“صحيح هو انتوا عرفتوا ازاي إني هنا؟؟”

أجابه حسن برتابةٍ،والذي كان أهدأهم كالعادة:

“سامي لما اتصل بيك،عسكري رد عليه وقال إنك هنا،فرن علينا واحد واحد لحد ما اتجمعنا كلنا،وبعدها استنينا بره لحد ما موسى جاب عزت وجِه.”

رفع كارم حاجبه باهتمام بسيط،ثم سأل وهو ينظر حوله:

“إنتوا جبتوا عزت كمان؟ أومال هو فين؟”

أجابه موسى وهو يشير بإصبعه للخارج:

“واقف بره مع المحامي…محامي الزفت مديرك،بيحاول يفهم إيه المشكلة لحد ما الضابط ييجي

..،

المهم دلوقتي فهمنا بقى إيه اللي حصل وخلاك توصل لحد هنا؟”

ساد الصمت للحظة،قبل أن يتنهد كارم ببطء،وكأنه يستعد لسرد القصة التي يعرف مسبقًا أنها لن تعجب أحدًا،لكنه لم يكن في مزاج يسمح له بالخوض في التفاصيل أو تبرير موقفه،لذا قرر اختصار كل ما حدث بثلاث كلمات فقط،نطقها بنبرة هادئة كأنها أمر عادي تمامًا:

“ضربت فوزي كُفتة.”

وكما توقع،لم يكن وقع الجملة عاديًا عليهم،حيث تجمدت تعابيرهم جميعًا بصدمة واضحة،وكأن عقولهم رفضت تصديق ما سمعته للتو،كانت نظراتهم تحمل مزيجًا من عدم التصديق والإحباط،حتى انفجر محسن هاتفًا بدهشة:

“تاني؟!”

أومأ له كارم ببساطة،وكأنه يخبره بأنه شرب قهوة وليس أنه تسبب في كارثة جديدة ثم أضاف بنفس الهدوء المستفز:

“آه، كسرّت له مناخيره.”

كرر محسن كلمته من جديد، لكن هذه المرة بنبرة أقرب إلى الذهول:

“تاني؟!”

هزّ كارم رأسه،وقرر أن يكون أكثر دقة هذه المرة،كي لا يظن أحدهم أنه مجرد اعتداء بسيط:

“لا،المرة اللي فاتت كان مجرد التواء،أما المرة دي…ده كسر بجد.”

ساد الصمت مرة أخرى،حتى انفجر سامي وقد نفد صبره تمامًا،وهتف بحنق واضح:

“منك لله يا أخي! أنت مش هاتتهد غير لما تتسجن…أنت عارف دي المرة الكام اللي يتقبض عليك فيها؟!”

ضيق كارم عينيه قليلًا،كأنه يحاول استرجاع الرقم ثم قال بتردد:

“الثالثة…؟”

لم ينتظر سامي طويلًا قبل أن يصحح له،بعد أن رمقه بنظرة تحمل مزيجًا من الإحباط والغضب:

“دي الخامسة…مرة بسبب خناقة المطوة مع الواد بتاع الجامعة،ومرة بسبب خناقة الراجل بتاع العربية،ومرتين معانا، الأولى بسبب الخناقة مع عاصم، والتانية خناقة الماتش… ودي الخامسة ياأستاذ.”

وبدلًا من أن يبدو عليه أي تأنيب ضمير،ارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة،وكأن الرقم الجديد إنجاز شخصي بالنسبة له،ثم نظر إلى موسى وقال بنبرة خفيفة مستفزة:

“كده بقيت أزيد منك بواحدة!”

اتسعت عينا سامي بصدمة قبل أن يهتف بانفعال أكبر:

“يخرب بيت تناحتك! أنت معندكش دم يلا؟!”

رفع كارم كتفيه بلا مبالاة وردّ ببساطة:

“أكيد عندي،هما قالولنا في المدرسة إن الإنسان عنده دم.”

التقط موسى طرف الحديث وسخر منه قائلًا:

“طب ده الإنسان،أنت مالك؟”

نظر سامي إلى موسى سريعًا،قبل أن يرفع يده مشيرًا نحوه ويقول بجديّة:

“والله أول مرة تقول حاجة صح!”

التفت إلى كارم مجددًا،ليواجهه مباشرة بنبرة أكثر جدية،مليئة بالضيق والخذلان:

“أنت فعلاً مش بني آدم…لأن البني آدم بيحس،بيخاف،بيفكر قبل ما يتحركلكن أنت؟ معدوم الإحساس…معدوم العقل…ما فكرتش في اللي هيحصل فيك بعد المصيبة دي؟ ما فكرتش هيكون رد أبوك إيه لما يعرف؟!”

وكان ذكر اسم والده كفيلًا بجعله يعيد ترتيب ملامحه قليلًا،لنظر إليهم جميعًا بنظرة جادة هذه المرة ثم يقول بصوت منخفض لكن حازم:

“على سيرة أبويا…إياكم حد فيكم يجيب له سيرة عن اللي حصل،إياكم! فاهمين؟!”

كانت نبرته تحمل تحذيرًا صريحًا،جعلهم جميعًا يتبادلون النظرات فيما بينهم،قبل أن يردّ حسن بهدوء:

“كارم…دي حاجة مش في إيدينا،حتى لو عايزين نخبي مش هنعرف”

“لا هتعرفوا،لو اتصل بيكم قولوا أي حاجة،قولوا إن عندي شغل إضافي وهتأخر أو إني هبات عند واحد فيكم النهاردة،اتصرفوا..مش صعبة عليكم”

تدخل حسين سريعًا،محاولًا العودة إلى أرض الواقع:

“مش هتبقى صعبة لو أنت هتقعد ليلة هنا،أما بقى لو زادت فهنتقفش يا باشا على طول.”

لوّح كارم بيده كأنه يزيح كلام حسين جانبًا وقال:

“ده حل مؤقت،لحد ما أفكر في حل تاني…بس أهم حاجة،أبويا مايعرفش،الراجل صحته على قده..،أقسم بالله لو حد فيكم قاله حاجة،لا هيبقى صاحبي ولا أعرفه.”

كانوا يفهمون تمامًا ما تعنيه معرفة والده بهذا الأمر،ويدركون مقدار خوفه عليه،لذا لم يكن أمامهم خيار سوى الإصغاء إليه.

رفع سامي يده وربت على كتفه،محاولًا تهدئته تزامناً مع قوله:

“ماشي يا كارم،مش هنقوله…خلينا دلوقتي فيك،فهمنا اللي خلاك تعمل كده؟!”

بمجرد أن سمع ذلك السؤال،حتى اتسعت عيناه في صدمة مفاجئة،حين تذكرها،تذمر أنها أتت معه عندما ألقت الشرطة القبض عليه…!

التفت إليهم بقلق وهتف:

“هي بره!”

انعقدت حواجبهم في حيرة،وسأله موسى:

“مين؟!”

ازدرد ريقه بسرعة،قبل أن يجيب بتوتر واضح:

“في…في زميلة ليا،جات معايا لما البوليس جه خدني…هي بره،حد فيكم يطلع ويقنعها إنها تمشــ”

لكن قبل أن يكمل جملته،قاطعه محسن بجملة جعلت قلبه يسقط للحظة:

“محدش بره.”

ارتفع حاجباه في ارتباك:

“إيه؟!”

هز محسن رأسه بتأكيد،وقال بجدية:

“محدش قاعد بره،مفيش غير العساكر بس…وواحد كده مش مظبوط،مفيش بنات ولا الكلام ده.”

ثبتت نظرات كارم عليه للحظات،بينما يحاول استيعاب الأمر…أين ذهبت؟ هل تركته ورحلت حقاً؟ أم أن شيئًا آخر قد حدث؟!

ورغم أنه لم يُظهر ذلك،إلا أن شيئًا داخله كان يغلي،استياء لم يشعر به منذ وقت طويل،لم يكن يدري ما السبب الحقيقي لهذا الشعور،لكنه كان هناك،يتفاقم مع كل ثانية تمر…لم يستطع منع الفكرة من التسلل إلى رأسه:

“تركتني…وبسهولة.”

حاول أن يدفع الفكرة جانبًا،لكن عقله أبى أن يتجاهلها،إلى أن انتزعته من شروده نبرة موسى المتسائلة:

“هي تخصك في حاجة؟”

نظر إليه كارم للحظات قبل أن يسأل بجمود:

“مين؟”

رفع موسى حاجبه وقال بوضوح أكثر:

“البنت دي تخصك في حاجة؟”

استغرق كارم لحظة قبل أن يجيب،وكأنه يحتاج وقتًا ليحدد رده ثم قال بلهجة خالية من الاهتمام:

“لا..ماتخصنيش،هي جات معايا بس،وكويس إنها مشيت.”

لم يكن يعلم حقاً إن كان يحاول إقناعهم أم إقناع نفسه.

تبادلوا النظرات فيما بينهم،قبل أن يسأله سامي بنبرة مليئة بالشك:

“متأكد؟”

أومأ كارم،ورغم ذلك،لم تغب عنهم التغيرات الطفيفة في وجهه،الانقباضة الخفيفة في ملامحه،الجمود الذي تسلل إلى نبرته،وحتى التغير الطفيف في مزاجه منذ أن أدرك أنها لم تكن بالخارج،لكن لم لهم خيار سوى احترام رغبته وعدم الإلحاح عليه.

في هذه اللحظة،فُتح الباب ودخل عزت قائلاً بجدية:

“كويس إنك هنا،خلينا نفهم اللي حصل منك.”

تقدم عزت إلى كارم،ونظر في عينيه مباشرة ثم سأله:

“إيه اللي حصل بقى؟”

أجاب دون اكتراث:

“ضربته..ضربت فهمي.”

حدق عزت فيه للحظة ثم سأله بتركيز:

“ليه بقى؟ شتمك؟ ضــ”

قاطعه كارم  وكأن الجواب لم يحتج تفكيرًا:

“معملش حاجة…أنا ضربته لما استفزني بالكلام.”

رمقه عزت بنظرة طويلة قبل أن يقول ببطء:

“اللي بتقوله ده مش في صالحك خالص.”

هز كارم رأسه بلامبالاة:

“ده اللي حصل..ضربته قدام الشركة كلها،ولو نكرت،كلهم يشهدوا ضدي.”

لم تكن هذه الحقيقة كاملة،لكنه قرر أن يخفي الجزء الخاص بها،لم يكن يريد أن يورطها معه،طالما قررت هي مسبقًا أن تبتعد عن المشاكل.

تنهد عزت ببطء،وكأن ثقلًا وضع على عاتقه ثم نظر إلى البقية وقال بجدية:

“كده مش قدامنا حل غير إننا نطلعه بكفالة،لحد ما نلاقي طريقة نقنع اللي اسمه فهمي ده بالتنازل عن المحضر،وإلا كده هيتحبس رسمي،ومش هنقدر نعمله حاجة..في شهود ضده،ومفيش سبب مقنع للي عمله،دي واقعة مع سبق الإصرار…فاهمنّي؟”

رمشوا جميعًا ببطء،قبل أن يلتفت سامي إلى عزت ويقول بنبرة ساخرة:

“هو إحنا لو كنا بنفهم في القانون،كنت هتلاقينا كل شهر عاملين زيارة للقسم؟”

ضحك عزت بخفة رغم الموقف،قبل أن يهز رأسه بيأس،أما موسى فاقترب منه وربّت على كتفه من الخلف،قائلاً بثقة:

“اعمل اللي شايفه صح يا زيزو،وإحنا معاك.”

________________

_

مع مرور الوقت…

دخل إلى المنزل بخطوات متثاقلة،يجرّ خلفه بقايا يومٍ لم يكن ليتمنى أن يتكرر أبدًا،دفع الباب بمفتاحه،وفي اللحظة التي أوصده خلفه،أطلق زفرة طويلة ظنّ أنها ستُسقط عن كاهله بعضًا من التعب الذي أثقل صدره.

كان كل ما يتمناه هو أن ينتهي هذا اليوم،أو على الأقل أن يدفنه في زاوية بعيدة من ذاكرته وكأنه لم يكن،لكنه كان مخطئًا،فهناك جحيم كان بانتظاره داخل المنزل.

بمجرد أن خطا للداخل،وجد والديه واقفين هناك برفقة شقيقته،وكأنهما في استقباله،لكن ليس بالترحاب الذي اعتاد عليه بل بوجوه يكسوها مزيج من الخوف والقلق والغضب المتشابك في آنٍ واحد.

كان والده هو أول من تحرك نحوه،يختزل في خطواته المتوترة كل المشاعر التي تشتعل داخله، قبل أن ينفجر بصوته الجهوري:

“تاني يا كارم؟! هو أنت ما حرمتش يا بني؟!”

ارتفع حاجباه في دهشة،ولم يستطع منع نفسه من الرد باستغراب حقيقي:

“فيه إيه يا بابا؟ إيه اللي حصل؟!”

لكن والده لم يكن في مزاج يسمح له بالصبر،فردّ بصوت أكثر انفعالًا،مشيرًا إليه بإصبع اتهام وكأنه قد قبض عليه متلبسًا:

“فيه إيه؟! هتستعبط؟! هو أنت مش جاي من القسم دلوقتي؟!”

شعر كارم بقلبه يهوى أرضاً،واتسعت عيناه في صدمة حقيقية،ليس من الاتهام بحد ذاته،بل من حقيقة أن والده يعرف ما حدث.

ظل كارم محدقًا في والده،محاولًا استيعاب الأمر،لكن عقله كان أشبه بآلة معطلة،غير قادر على مجاراة تسارع الأحداث.

تردد للحظة،وكأن الزمن تجمد حوله قبل أن يتمتم بصوت خافت،تتخلله نبرة ارتباك واضحة:

“هو حضرتك عرفت منين؟”

لم يكن سؤالًا بريئًا بل كان محاولة بائسة لفهم كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد،وكيف انكشف أمره بهذه السرعة،لكن والده ‘عبد الله’ لم يكن في حالة تسمح له بالصبر على تبريراته،فردّ بصوت مشحون بالغضب،ناظره يشتعل بنيران خيبة الأمل:

“ده كل اللي همّك تعرفه؟!”

لم يجد كارم ردًا،فقط شعر بأن حنجرته انعقدت،بينما نظر إلى والدته التي كانت واقفة على بُعد خطوات،تحتضن يديها في قلق،وعيناها الزائغتان تتابع الحوار بصمت مؤلم،ثم عاد إلى والده وسأله بصوت جاد:

هو حد من صحابي كلمك؟”

ضحك والده بسخرية حادة،لكنها لم تكن ضحكة تحمل أي متعة بل كانت أقرب إلى إحباط شديد قد بلغ ذروته:

“محدش فيهم كلمني،طول اليوم أنا وأمك بنتصل بيهم،واللي يرد علينا يقول إنك في الشغل وهتتأخر،وشوية واحد تاني يقول إنك معاه،فقلقنا وعرفنا إنك في مصيبة!”

توقفت الكلمات للحظة،وكأن الصمت نفسه أصبح ثقيلاً في الهواء قبل أن يتابع عبدالله بنبرة غاضبة،محمّلة بحزن لم يستطع إخفاءه تمامًا:

“اتصلت في الشغل عندك من شوية،ولسه عارف إن حضرتك اتقبض عليك…علشان اتهورت تاني وضربت مديرك!”

تجمدت أنفاس كارم في صدره للحظة،وشعر وكأن الجدران تضيق عليه شيئًا فشيئًا،لم يكن يتخيل أن والده سيكتشف الأمر بهذه السرعة،بل كان يمني نفسه بأن يمر هذا اليوم الثقيل دون أن يصل الخبر إلى المنزل،لكن الواقع لم يمنحه هذا الترف.

كان الصمت بينهما أشبه بحبل مشدود على وشك الانقطاع،ثقيلًا،مشحونًا بالكثير من الكلمات التي لم تُقال بعد،حدّق كارم في وجه والده،في عينيه اللتين كانتا تشتعلان بالغضب لكن خلف ذلك الغضب كان هناك شيء آخر،شيء أشد وطأة وأقسى وقعًا…خيبة أمل لم يكن قادرًا على احتمال رؤيتها.

ثم نظر إلى والدته التي وقفت خلف والده بقليل،ملامحها متجمدة بين الصدمة والخوف،وكأنها لا تعرف ماذا عليها أن تفعل،هل تعاتب؟ أم تواسي؟ أم تكتفي بالصمت؟

شعر بثقل أنفاسه،وأجبر نفسه على سحب نفس عميق قبل أن يخرج بصوت خافت لكنه واضح:

“أنا آسف…”

كلمة قصيرة لكنها حملت في طياتها الكثير أو هكذا ظنّ…غير أن والده لم يبدُ متأثرًا بها،على العكس نظر إليه نظرة لم تكن مجرد غضب بل كانت أشد قسوة…نظرة حملت كل الخيبات القديمة،كل الانكسارات التي تسبب بها له قبل أن يهتف بصوت هادئ على غير عادته لكنه كان أثقل وأشد مرارة من أي صراخ:

“آسف على إيه ولا إيه؟! آسف إنك كل يوم بمشكلة شكل؟ ولا آسف على قهرتنا عليك كل ما تقع في مصيبة؟ ولا آسف على شكلنا اللي بقى قدام الناس زي الزفت بسببك؟! آسف على إيه بالضبط يا كارم؟!”

أصابته كلماته في مقتل لكنه لم يسمح لنفسه بإظهار ذلك،خفض رأسه قليلًا،يعتصر كفيه في جيوبه،وكأنه يبحث بين أصابعه عن إجابة تُرضي والده،تُسكن الغضب المتفجر في عينيه، لكن أي إجابة قد تنفع الآن؟ أي كلمة قد تمسح كل ما حدث؟

كان هناك صوت آخر في رأسه،صوت لم يكن خافتًا بل كان يصرخ داخله،يطالبه بأن ينفجر،بأن يرد على كل ذلك كما يفعل مع البقية،لكنه كبح ذلك الصوت،دفنه في صدره، وأخرج بدلًا منه زفرة طويلة قبل أن يقول بنبرة متماسكة،لكنها تحمل بعض الاستسلام:

“آسف على كل حاجة يا بابا…آسف كمان إني ابنك،وحقك عليَّ…مش هأوعدك إن اللي حصل مش هيتكرر،لأني بصراحة مش ضامن نفسي،ولا ضامن الدنيا…كل اللي بإيدي أعمله دلوقتي هو إني أعتذرلك…آسف.”

التفت نحو والدته،ونظر إليها للحظة ثم عاد ببصره لوالده،وأضاف بصوت هادئ لكن فيه نبرة غريبة،نبرة قرار نهائي:

“أنا هروح عند عمتي يومين،أرتب أفكاري وأفضّي دماغي شوية،وبالمرة أسيب حضرتك تهدأ علشان أقدر أتكلم معاك وأفهمك اللي حصل بالظبط،وأفهمك موقفي..عن إذنكم.”

لم ينتظر ردًا،لم يكن يريد سماع أي شيء آخر،فقط استدار واتجه إلى غرفته مغلقًا الباب خلفه بهدوء،لكن أثر كلماته ظل معلقًا في الهواء،يثقل الصمت الذي خيّم على المكان.

أما والده،فقد شعر أن كل طاقته قد استُنزفت دفعة واحدة،فسقط جالسًا على الأريكة،ونكس رأسه بين يديه،وكأنه يحاول أن يستوعب ما حدث،أن يستجمع شتات مشاعره المتناقضة.

سارعت والدته_فاطمة_ بالتوجه إلى ضحى،التي كانت تتابع المشهد بصمت مرتبك،وقالت بسرعة:

“جيبي كوباية مية لأبوكِ والدوا.”

أوم

أت ضحى برأسها،وردّت بهمس:

“حاضر.”

اتجهت إلى المطبخ بخطوات سريعة،بينما تبعتها فاطمة بنظراتها للحظة،قبل أن تستدير وتتجه إلى غرفة كارم.

فتحت الباب لتجده مشغولًا بحزم حقيبته،يضع أغراضه دون أن ينظر إليها،وكأنه قرر أن يعزل نفسه عن كل شيء.

راقبته بصمت،قبل أن تضغط شفتيها بأسف ثم قالت بنبرة تحمل العتاب أكثر من الغضب:

“يعني فوقيها غلطان ومقموص؟!”

ترك كارم الثياب من يده،تلك التي كان ينوي وضعها في الحقيبة،وكأن كلمات والدته أوقفت كل شيء للحظة.

استدار نحوها واقترب منها بهدوء ثم لثم جبينها بلطف،كأنه يواسيها دون أن تحتاج إلى طلب ذلك.

“ولا مقموص ولا حاجة يا بطة،تقدري تقولي إني بس مش رايق،اليوم كان صعب ومعنديش طاقة إني أتكلم مع الحاج وأفهمه اللي حصل بهدوء، لو كنت فضلت أكتر من كده،كنت فقدت أعصابي واتعصبت،وعليت صوتي عليه،وأنتِ عارفة إني بابا آخر واحد ممكن أعلّي صوتي عليه.”

راقبته فاطمة بصمت،تتفصحه بنظراتها وكأنها تبحث عن صدق كلماته في ملامحه ثم قالت بنبرة تحمل شيئًا من العتاب الخفيف:

“طول عمرك بتحب أبوك أكتر مني.”

ضحك كارم بخفة،تلك الضحكة التي رغم خفتها حملت شيئًا من الإرهاق ثم قال مازحًا:

“شايفة ده وقت مناسب للغيرة بذمتك يابطة؟!”

ضحكت هي الأخرى بخفوت،وهزت رأسها نافية ثم نظرت إلى الحقيبة التي لم تكتمل بعد،قبل أن تعود إليه قائلة بصوت هادئ:

“مصمم تمشي؟”

“معلش،محتاج يومين أهدا وأفكر في اللي جاي..وبعدين ما تخافيش عليَّ،هو أنا مسافر يعني؟ ده أنا رايح عند عمتي اللي على حدود المحافظة بس.”

أطلقت فاطمة زفرة خفيفة،وكأنها تحاول قبول الأمر ثم قالت بابتسامة دافئة:

“طب أحضرلك أنا الشنطة،تكون أنت استحميت وغيرت هدومك.”

أشار بيده نافيًا ثم ردّ بنبرة مطمئنة:

“لا مالوش لزوم،أنا مش هاخد حاجات كتير أصلًا وقربت أخلص…المهم اطلعي أنتِ لأبويا،وخليه ياخد دواه ويرتاح شوية،ولو حصل أي حاجة..ابقى كلميني.”

سكتت قليلاً ثم قالت برتابةٍ وحنوٍ:

“حاضر…ربنا يخليك ويهديك لنا.”

ابتسم له بمحبة،فبادلته الابتسامة ثم استدارت لتغادر،تاركة له مساحة لإنهاء ما يفعل،أغلقت الباب خلفها بهدوء،لكنه ظل يحدق به للحظات،كأنه يحاول أن يستجمع أفكاره أو ربما يهرب منها.

عاد إلى الحقيبة،لكنه شعر فجأة بثقل غريب يجثم على صدره،جلس على الفراش بتعب،دفن وجهه بين كفيه لثوانٍ ثم تنهد بعمق وكأنه يحاول دفع كل الأفكار بعيدًا.

أمسك بهاتفه،ومرر إصبعه على شاشته،انتقل بين الأسماء حتى توقف عند رقمها،بقي هكذا،عينيه معلقتان بالشاشة وإصبعه متردد بين الاتصال والتراجع،لم يكن يعرف أيهما القرار الصحيح،لكن بعد لحظات من الصراع الداخلي…قرر التراجع.

أغلق الهاتف وألقاه جانبًا ثم استلقى على الفراش،وحدق في سقف الغرفة،بينما تخرج أنفاسه ببطء،وكأنها تحمل معها شيئًا من الإرهاق والمرارة العالقة في صدره،تلك التي لا تريد أن تزول.

_________________

مع انقضاء النهار وحلول الليل،تزينت السماء بنجومها اللامعة،وبدا المشهد كأنه لوحة مرسومة بدقة.

وقف كلٌّ منهما في شرفته،تفصل بينهما المسافة ولكن تجمعهما الأحاديث التي لا تنتهي، يتبادلا أطراف الحديث عن يومهما،وكأنهما يكتبان معًا فصلًا جديدًا من قصة ألفها الزمن ونسجت تفاصيلها الحياة.

هتفت

هي

بصوت يملؤه الحماس بينما تحاول استرجاع تفاصيل نهارها المزدحم:

“جبنا حاجات كتير أوي للمطبخ،وكمان طقم حلل…مش فاكرة اسمه،بس عموماً خالتي عبير هي اللي اختارته وعجبني شكله.”

سردت له قائمة المشتريات وكأنها تحاول أن تنقل إليه كل لحظة عاشتها اليوم،التفاصيل الصغيرة التي ربما لن تهمه،لكنها كانت تعرف أنه سيصغي إليها بابتسامة،تمامًا كما فعل الآن…كانت ابتسامته الصافية أشبه بضوء خافت يبدد وحشة المساء،يعكس استمتاعه بكل كلمة تقولها.

“ماما قالتلي إنكم جبتوا خلاط كمان.”

ارتبكت لوهلة كأنها تذكرت أمرًا غير سار ثم أومأت برأسها مجيبة بضيق:

“آه صح،ده كان الحاجة الوحشة في يومنا.”

رفع حاجبيه مستفسرًا فتابعت بعد زفرة خفيفة:

“ماما وخالتي اتخانقوا بسببه،كل واحدة كانت مصرة على نوع معين،فضلوا يتخانقوا لحد ما أنا وليلى اخترنا نوع تالت خالص.”

ضحك موسى بخفة ثم قال بنبرة ساخرة:

“أنتِ لسه شوفتي حاجة! ده لسه لما تدخّلوا في التقيل وتروحوا تشتروا الأساسيات،هينسوا إنهم قرايب ومش هيفتكروا غير إنهم نسايب وبس.”

حدقت به للحظات بدهشة قبل أن تهتف بمزاح:

“لا ده ربنا يكون في عوني بقى!”

شاركها الابتسامة،تلك الابتسامة الصافية التي ترسم على الوجه دوت تكلف،خيم الصمت للحظات بينهما لكنه لم يكن صمتًا مزعجًا بل ذلك النوع الذي يمنحك مساحة لتلتقط أنفاسك قبل أن تغوص في حديث جديد.

“يلا،قولّي أنتَ بقى،إيه اللي حصل في يومك؟”

ظل صامتًا للحظات ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة مرحة قبل أن يجيب ببساطة:

“ولا حاجة! من البيت لعمّي،قعدت معاه في المحل،فضلت أستفزه لحد ما كلّم أبويا علشان يمشيني،ولما كنت همشي جاله اتصال إن يُمنى بتولد،فاخدني في إيده وطلعنا على المستشفى.”

“يمنى ولدت؟!”

أومأ بإيجاب،لكن هدوءه الغريب لم يكن متناسبًا مع وقع كلماته عليها،ثم تابع حديثه كأنما يخبرها بأمر اعتيادي،بينما هي كانت لا تزال تستوعب الخبر

:

“ولدت وجابت علي كمان،المهم وأنا معاهم،أخوكِ اتصل بيا وقالي إن كارم اتقبض عليه،فدخلت خدت عزت من وسطيهم وطلعنا على القسم،وما رجعناش غير المغرب…يوم مليء بالمغامرات!”

لكنها لم تسمع سوى جملة واحدة…”كارم اتقبض عليه.” تجمدت ملامحها للحظات،واتسعت عيناها بصدمة جلية،كأن عقلها توقف عند تلك الكلمات ولم يستطع المضي قدمًا.

رمشت عدة مرات،ثم ابتلعت ريقها قبل أن تهتف مستنكرة:

“قسم إيه؟! وقبض إيه؟! أنتَ بتهزر صح؟!”

ضحك موسى بحبور،وهز رأسه نافيًا وهو يرد بمرح:

“تفتكري ممكن أهزر في حاجة زي دي؟”

نظرت إليه بدهشة متوجسة قبل أن تسأله بتوجس:

“طيب..طب إزاي؟”

ابتسم ابتسامة جانبية،وكأنه يخبرها بأمر عابر لا يستحق الدهشة ثم قال ببساطة تتنافى مع وقع كلماته:

“ضرب مديره في الشغل،كسرله مناخيره.”

اتسعت حدقتاها في ذهول ورمشت ببطء،محاولة استيعاب ما سمعته للتو قبل أن تنطق أخيرًا بعد إدراك متأخر:

“إيه؟؟”

رفع موسى حاجبيه قليلاً،وكأنه يمنحها فرصة لتستوعب ثم كرر بلهجة واثقة وكأن الأمر لا يحتاج إلى تأكيد:

“ضرب مديره والله،ومش أول مرة يعملها،عملها قبل كده بس ربنا سترها معاه،بس المرة دي ماسبهوش غير لما اتأكد إن مناخيره اتكسرت”

كانت طريقته الهادئة في سرد الحدث تناقض تمامًا وقع كلماته العنيفة،فبقيت مذهولة للحظات،تحاول استيعاب ما سمعته،ولم تستطع سوى التحديق به بصمت.

التقط هو سؤال في عينيها فأجاب بلا تأخير:

“ما تخافيش،هو دلوقتي كويس،إحنا طلعناه بكفالة ورجع من ساعتها.”

ازدادت حيرتها،فسألته بلهجة لم تخلُ من الريبة:

“إنتَ بتتكلم بجد؟ طريقتك مش لايقة مع اللي بتقوله خالص يا موسى!”

أجاب بجدية ظاهرية زادتها عيناه اللامبالية تهكمًا:

“والله العظيم بتكلم بجد،وده اللي حصل بالظبط.”

لكن عقلها ظل يدور في حلقة من التساؤلات فتمتمت بارتباك:

“أنا برضه مش فاهمة…إمتى رُحتوا القسم ورجعتوا؟ وإمتى حصل كل ده؟ ومن غير ما حد فينا يعرف لحد دلوقتي؟”

ابتسم موسى ببطء ثم مال بجسده على السور،مرتكزًا بمرفقيه عليه وقال ببساطة ساخرة:

“لا ده موضوع طويل،في تفاصيل كتير محتاجة قعدة طويلة.”

تشنجت ملامحها للحظة،لكنها سرعان ما استوعبت سخريته فابتسمت بخفوت ثم سارت نحوه،وارتكزت بدورها على السور قبل أن تقول بثقة:

“مش ورايا حاجة،يلا قول.”

نظر إليها بطرف عينه ثم سألها بمرحٍ يحمل في طياته خبثًا واضحًا:

“يعني نسهر؟”

أومأت برأسها إيجابًا في حركة بسيطة تزامنت مع قولها الهادئ:

“يلا.”

لكن فجأة،وقبل أن يبدأ موسى في الحديث،اخترق سؤالٌ فاجأهما أذنيهما،جاء من صوت يعرفانه عن ظهر قلب،صوت حمل نبرة مستاءة بعض الشيء:

“يلا فين؟”

بشكل غريزي،رفع كلاهما رأسه تلقائيًا للأعلى،لتقع أعينهما على

سامي

،الذي كان يقف في شرفة شقته،يوزع نظراته المتفحصة بينهما بضيق لا يخفى،وعيناه تعكسان استياءً صامتًا لم يخطئاه.

تنفّس سامي بصوت مرتفع ثم قال بحنقٍ وهو يلوّح بيده:

“هو أنا كل ما أقرر أطلع أشم هوى ألاقيكم في وشي متشعلقين في البلكونات! هو أنتوا ما سمعتوش عن حاجة اسمها موبايل؟!”

ضحك موسى بسخرية،بينما وضعت فيروز يدها على فمها لتخفي ابتسامتها الخجلة،أما سامي فقد نكس رأسه ونظر إليها من الأعلى ثم هتف بحدة:

“ما هربتش يعني زي كل مرة وسيبتيه؟!”

طالعته فيروز بنظرات بريئة وهي تجيبه ببساطة وكأنها تخبره بأمر بديهي:

“ما هو بقا جوزي خلاص.”

أطلق موسى ضحكة عالية،جعلت سامي ينظر إليه بضيق قبل أن ينبس الأخير بسعادة مفتعلة:

“سامع؟! جوزي! طالعه منها عسل ازاي”

أغمض سامي عينيه بغضب ثم زفر بقوة وهو يمرر نظراته عليهما تباعًا قبل أن يقول بنبرة جمعت بين الامتعاض والاستسلام:

“أنا معنديش مشكلة إنكم تتكلموا،بس ليه من البلكونات كده؟ ليه الناس اللي معدية تسمع أحاديثكم؟ أنا مش فاهم! ليه كل ما أطلع أشوفكم قدامي؟ ليه؟؟ ما كل واحد يمسك تليفونه ويكلم التاني،أسهل والله!”

لم يفكر موسى طويلاً بل رد بمشاكسة وهو يشير بطرف عينه نحو فيروز،التي كانت في أوج خجلها:

“أنا بحب أشوف الوش القمر ده…face to face كده”

هتف سامي سريعًا بنبرة لا تخلو من الضيق:

“كلمها فيديو كول يا أخويا! سهلة،والله سهلة!”

زفر بقوة ثم نظر لشقيقته وقال بنبرة حاول أن يغمّسها بالهدوء:

“ادخلي يا فيروز…ادخلي قبل ما أنزل أدخلك أنا!”

نظرت فيروز صوب موسى،الذي أشار لها بطرف عينه للدخول،قبل أن يغمغم مبتسمًا:

“نبقى نكمل على التليفون..ونتكلم براحتنا من غير ما حد يقلق راحتنا.”

أنهى جملته وهو ينظر إلى سامي نظرة مستفزة،في حين ضحكت فيروز بخفوت ثم ولجت إلى الداخل،تاركة خلفها نظرات نارية متبادلة بين شقيقها وزوجها.

زفر سامي بقوة،ثم لوّح بيده وهو يهتف بضيق:

“يلا ادخل أنت كمان!”

هز موسى رأسه نافيًا وهو يبتسم بخبث:

“لا براحتى أنا بقا،أنا مش أختك أنا.”

سكت للحظة،وكأنه يمنح سامي أملًا في استجابته ثم تابع بتمهل زاد من استفزاز الأخير:

“ولا بقولك هدخل علشان أكلم أختك،تصبح على خير!”

أنهى جملته بابتسامة مستفزة،ثم ولج إلى الداخل هو الآخر،ليردف سامي من خلفه بغيظٍ مكتوم:

“يحرق استفزازك يا أخي!”

تنهد بثقل،ثم رفع رأسه للأعلى،يتأمل السماء التي تناثرت نجومها على تلك الستارة السوداء،تتلألأ كأنها تهمس بأسرار الليل.

شعر بنسمة هادئة تداعب وجهه،كأنها تحمله بعيدًا عن كل شيء،ليجد نفسه يبتسم تلقائيًا،قبل أن يهمس بخفوت:

“باين كده الخريف بيرحب بينا…والشتاء جاي بعديه وأخيرًا.”

ظل محدقًا في السماء،وابتسامته الصافية تزين وجهه،غارقًا في سكون الليل،حتى شعر بشيء يجذب طرف بنطاله، نظر للأسفل تلقائيًا،ليجد

يزيد

يقف أمامه،يرمقه بعينيه البريئتين قبل أن يقول بجملته الطفولية المتعثرة:

“ماما…الأكل تامي.”

كانت هذه الكلمات الثلاث فقط مفهومة من جملته كلها،لكن سامي لم يحتج إلى أكثر من ذلك ليعرف المقصود،فابتسم وهو ينحني قليلًا نحوه قائلاً برفق:

“ماما بعتاك علشان تناديني وتقولي إن العشا جهز،صح؟”

أومأ يزيد بحماس،وارتسمت على وجهه ابتسامة طفولية نقيّة،جعلت سامي يبتسم بدوره قبل أن يحمله بين ذراعيه بسهولة قائلاً بحنان:

“طب يلا ندخل،وآكلك بنفسي يا روح تامي أنت.”

أنهى جملته وهو يطبع قبلة دافئة على وجنته الناعمة ثم دلف إلى الداخل،حاملاً معه دفء اللحظة،ليتناول الشعاء مع عائلته الصغيرة.

_________________

اقتربت من المنضدة بجوار الفراش،والتقطت هاتفها لتطلب رقمه،ويستكملا حديثهما،لكن قبل أن تفعل،اهتز الهاتف بين يديها،وظهر على شاشته اسم لطالما امتعضت منه،اسم كان كفيلاً بإفساد مزاجها في لحظة.

تشنجت ملامحها للحظات،قبل أن تزفر بحدة وتغلق الهاتف بلا تردد،تنهي الاتصال ببرود لم تعتد عليه،لم تكتفِ بذلك فقط بل فتحت قائمة الإعدادات بحزم،وضغطت دون تفكير على

“حظر الرقم”

،لتضع بذلك حدًا نهائيًا لتلك الصفحة التي لم ترغب في أن تُفتح من الأساس.

تنهدت فيروز الصعداء ثم حركت رأسها نافية كأنها تطرد آخر بقايا ذلك الشعور المزعج،قبل أن يصدح صوت رنين هاتفها مرة أخرى.

رفعت الهاتف بسرعة وقبل أن تنظر إلى الشاشة كانت تتوقع أن يكون اتصالًا آخر مزعجًا،لكن عينيها اتسعتا قليلاً حين رأت الاسم الذي ظهر أمامها.

هذه المرة،لم يكن اسمًا يزعجها،بل كان

اسمه

…من يهواه قلبها قبلها.

تسللت ابتسامة تلقائية إلى وجهها،كأنها انعكاس فوري لمشاعرها،وسرعان ما مررت إصبعها على الشاشة لتجيب بصوت ناعم لم تستطع إخفاء سعادته:

“ألو…”

وبهذه الكلمة،

أُعلنت بداية حديث سيطول

،حديث بلا حواجز،بلا تصنع،وبلا شعور بالوقت..حديث بين

طرفين لا يملّان من بعضهما

،مهما طال الكلام بينهما،بل كل جملة تفتح بابًا لجملة أخرى،وكل ضحكة تحمل خلفها ضحكات أكثر.

حديث حيث لا شيء ثقيل،ولا صمت محرج،فقط

راحة صافية

،وكأن الكلمات خُلقت خصيصًا لتُقال بينهما.

_________________

في صباح اليوم التالي…

في جو هادئ وصافٍ،بين الأراضي الخضراء الممتدة والأشجار التي تتمايل مع نسمات الهواء العليلة،

وقف كارم يمسك برأس حصانه،ذلك الرفيق الذي لم يكن مجرد دابة يمتطيها بل كان امتدادًا لروحه،ظلًّا يتجسد في شكل آخر،انعكاسًا لطباعه بكل ما فيها من صخب وسكون.

مرر يده على رأسه بحنوٍّ،بينما كانت يده الأخرى فكانت تجوب جسده بلمساتٍ يملؤها الودّ وكأنها تطمئنه بأنه عاد،بأنه هنا..أخيرًا.

رسمت شفتاه بسمة هادئة،لكنها كانت أشبه بستارٍ يخفي خلفه عاصفةً من الأفكار،زوبعةً من المشاعر المتشابكة التي تعصف بذهنه دون رحمة،كان يعلم أن حصانه العزيز يشعر بذلك،يفهمه دون حاجةٍ للكلمات كما اعتاد دومًا.

تنهد ثم همس بصوتٍ يحمل بين نبراته الاعتذار والشوق:

“وحشتني،طوّلت عليك المرة دي..بس حقك عليا،الدنيا دخلتني في دوامة وفضلت تاخذني من حاجة لحاجة…وماكنتش بلحق حتى أخد نفسي،بس المهم إني جيت دلوقتي.”

تراجع خطوة للخلف ثم وضع يده على سرج الحصان وهو يبتسم ابتسامةً أكثر صدقًا كمن وجد أخيرًا منفذًا للهروب من كل ما يُثقل صدره،شدّ لجامه قليلًا وكأنما يعقد اتفاقًا صامتًا بينهما ثم همس بحماسٍ خافت:

“خلينا نعوض اللي فاتنا يا موج…خلينا نسبق الريح وننسى الدنيا!”

وبلمح البصر كان قد قفز على ظهره،وانطلقا معًا،يذوبان في الأفق،كأنهما جزءٌ منه…كأنهما العاصفة ذاتها.

جالا في حلقةٍ دائرية من السياج أشبه بحلبةٍ واسعة لكنها في الحقيقة لم تكن سوى مزرعة خاصة للخيول يمتلكها زوج عمته.

كانت الأرض تهتز من تحتهم مع وقع حوافر موج القوية،والهواء يصفّر حولهما كأنما يشجع انطلاقتهما.

شدّ كارم قبضته على اللجام أكثر،وثبت نفسه جيدًا،لكن عينيه رغم ذلك ظلتا جامدتين،مثبتتين نحو الأمام،لا ترفّان،لا تتحركان..غير أن ما كان يتحرك في داخله كان أعمق وأشدّ اضطرابًا…ذكرياته معها.

تدفقت إلى ذهنه دون وعي…كلماتها،صوتها،نظراتها،حتى ابتسامتها التي كانت دائمًا تشبه شمسًا خجولة في صباحٍ بارد،كل شيء منها كان حاضرًا بقوة،حاول أن يركّز على الطريق،على صوت الحصان،على الريح التي تعصف بوجهه،لكنه لم يستطع.

كانت هناك،في عقله،في قلبه،تطارده كظلٍّ لا يفارقه.

وفي أوج غرقه في تلك الذكريات انتفض فجأة وكأنما عاد إلى الواقع دفعةً واحدة،ليجد نفسه أقرب مما ينبغي إلى السياج الخشبي،شدّ اللجام بقوة في اللحظة الاخيرة ليوقف موّج قبل الاصطدام.

ارتفع الحصان قليلاً على قائمتيه الخلفيتين،يرسل صهيلاً قصيرًا قبل أن يستقر في مكان،بينما ظل كارم في مكانه للحظات،أغمض عينيه محاولًا استعادة أنفاسه،وكأنما يحاول طرد تلك الذكريات بالقوة.

زفر نفسًا عميقًا ثم فتح عينيه ببطء ومد يده إلى رقبة موج،ربّت عليها برفقٍ كمن يحاول تهدئته أو ربما تهدئة نفسه من خلاله،فرك رقبته بأصابعٍ دافئة وهمس بصوتٍ يحمل شيئًا من الأسف:

“حصل خير…حقك عليا.”

زفر بقوة وكأنه يحاول إخراج كل ما يعتمل في صدره من ثقل ثم رفع رأسه نحو السماء،عيناه تتأملان الفراغ الممتد فوقه كأنما يبحث فيه عن إجابة،عن راحة،عن معنى لكل ما يشعر به.

همس بصوتٍ بالكاد يسمعه حتى هو وكأن الكلمات خرجت رغمًا عنه،اعترافًا لم يكن يريد قوله لكنه في النهاية تسلل من بين شفتيه:

“جايز نكون قربنا زيادة عن اللزوم،لدرجة إني افتكرت إني بقيت قريب وعزيز…”

كانت نبرته مزيجًا من السخرية والخذلان وكأنه أدرك متأخرًا أن قربه لم يكن كافيًا أو ربما لم يكن مرحبًا به كما ظن.

بقي على هذه الحال للحظات ثم أسدل جفنيه وكأنما يحاول أن يغلق على نفسه باب التفكير،لكنه كان يعلم جيدًا أن ذلك لن يجدي نفعًا فبعض المشاعر لا يمكن إغلاقها ككتابٍ انتهى لأنها تظل مفتوحة في القلب،تؤلم بقدر ما تمنح من دفء.

سرعان ماخرج من شروده على صوتٍ يحفظه عن ظهر قلب،صوتٍ لطالما كان ملاذه حين يضيق صدره،صوت صندوق أسراره وأحن يد قد تربت عليه.

“مش كفاية بقى؟ أنا ما لحقتش أقعد معاك،هو أنت جاي لموج ولا جاي ليا؟”

التفت كارم نحوها،وبمجرد أن وقعت عيناه عليها،ارتسمت على وجهه بسمة خفيفة وكأن حضورها وحده كان كفيلًا بتخفيف ثقل أفكاره.

ضحك قليلًا ثم نزل من فوق موج ممسكًا بلجامه،واقترب منها بخطواتٍ هادئة حتى وقف أمامها ثم قال بنبرة مازحة تحمل في طياتها تلك الألفة التي لا تحتاج إلى تصنع:

“بصراحة؟ أنا جايلكم انتوا الاتنين…ما أنتِ عارفة أنا متجوزكم من ورا أبويا وأمي.”

ضحكت من قلبها،ضحكة صافية ملأت المكان بحبورٍ نادر ثم ضربته بخفة على ذراعه وهي تهز رأسها باستنكارٍ مصطنع:

“يا واد اختشي!”

ضحك كارم بخفة،بينما استعادت هي ثباتها ثم قالت بنبرة دافئة تحمل حنينًا لا يخفى:

“رجّع موج الإسطبل وتعالَ نقعد شوية وسط الزرع،نشرب لنا كوبيتين شاي ونتكلم،بقالنا زمان ما قعدناش مع بعض يا واد،وحشتني قعدتك.”

نظر إليها كارم وابتسم بحنو،تلك الابتسامة التي لا تحتاج إلى كلمات لتخبرها أنه يبادلها الشعور نفسه،ثم قال بصوتٍ يفيض مودة:

“وأنا كمان وحشتني قعدتك والله…وأنتِ وحشتِيني شخصيًا يا تُونة.”

ضحكت وهزت رأسها قائلة بنبرة آمرة لكنها تحمل دفء وحنان لايُخفى:

“طب يلا،رجع موج الإسطبل وحصلني.”

“عيوني يا تُونة.”

التفتت لتغادر،متجهة إلى المكان الذي حددته،بينما وقف هو يراقب أثرها للحظات،عيناه تتابعان خطواتها وكأنما يسترجع سنواتٍ من الذكريات في لحظةٍ واحدة،ثم زفر بابتسامةٍ خفيفة،وأدار وجهه نحو موج،ومرر يده على رأسه برفق قبل أن يهمس له بصوتٍ منخفض لكنه محمل بوعدٍ غير معلن:

“نبقى نكمل في وقت تاني بقا يا موج.”

أخرج زفيرا هادئا ثم قاد حصانه بهدوء نحو الإسطبل،استعدادًا للذهاب لها كما طلبت،وكما أرادت.

.

.

.

جلس برفقتها على مقعدٍ خشبي في الجهة الخلفية من البيت حيث يمتد أمامهما منظر الحقول الخضراء بلا نهاية،وكأن الأفق يفتح ذراعيه ليحتضن الأرض،كان الشاي الساخن بين يديهما يبعث دفئًا يتناقض مع نسمات الهواء التي تداعب وجهيهما برفق.

كان هو ينظر إلى الأمام،عيناه معلّقتان بالمشهد البعيد لكن إحساسه لم يكن غافلًا عن نظراتها،شعر بها قبل أن يراها،وحين استدار قليلاً ورآها تتأمله بصمت،أخرج زفيرًا هادئًا ثم قال بنبرة تعرفها جيدًا،نبرة تنم عن استسلامه لحديثٍ قادم لا مفر منه:

“طلّعي اللي في قلبك يا تُونة.”

رمشت قليلاً كأنها لم تتوقع أن يكشف توترها بهذه السهولة ثم تظاهرت بالاستغراب:

“إيه؟”

رفع حاجبه وعاد لينظر للأمام وهو يرد بهدوء شديد:

“قولي اللي عايزة تقوليه بدل ما أنتِ مش قاعدة على بعضك كده.”

أخذت نفسًا قصيرًا ثم وضعت كوب الشاي على الصينية بينهما،اعتدلت في جلستها وكأنها كانت تنتظر هذه الفرصة منذ وقتٍ طويل ثم سألته مباشرةً:

“عملت كده ليه وزعلت أبوك منك ليه؟”

رفع كارم حاجبيه قليلًا ثم أدار رأسه ببطء ونظر إليها مباشرةً وهو يرد بشيء من التحفّظ:

“أمي كلمتك مش كده؟”

أجابت بسرعة دون أن تمنحه فرصة للهروب من السؤال:

“مالكش دعوة كلمتني ولا لأ،يلا جاوبني على سؤالي.”

ظل صامتًا للحظات،ثم ضم شفتيه كأنه يختار كلماته بحذر،قبل أن يزفر بخفوت ويقول بصوتٍ يحمل أكثر مما تنطق به الكلمات:

“أنا ماكنتش أقصد أزعله يا تُونة،أنتِ عارفة كويس إني أبويا الوحيد اللي ماقدرش أزعله…لو كان لساني زِفر على الكل،باجي بقا عند أخوكِ وماقدرش أعلى صوتي حتى،أكتر واحد بحترمه،وأكتر واحد بخاف على زعله،والوحيد اللي شايله في عيني وفي قلبي وفوق راسي”

نظرت إليه مطولًا كأنها تزن كلماته ثم قالت بنبرة جمعت بين العتاب والقلق:

“طالما بتخاف على زعله ليه مصرّ توقّع نفسك في مشاكل يا ابني؟”

ابتسم كارم بسخرية خفيفة، ثم أدار كوب الشاي بين يديه قبل أن يرفع نظره إليها ويرد بنبرة تحمل شيئًا من المزاح، لكنه مزاحٌ يحمل داخله مرارة:

“أنا مش بوقّع نفسي في مشاكل، أنا المشاكل بتجري ورايا، أول ما بتلمح طيفي بتجري ورايا على طول!”

رمقته فاتن بنظرة ثابتة،نظرة امرأة تعرفه أكثر مما يعرف نفسه ثم ردّت بحزمٍ هادئ:

“ما تكدبش عليّ أو على الأقل ما تكدبش على نفسك،أنت في إيدك تتفادى المشاكل دي كلها،تبعد عنها وتاخد ساتر منها،بس أنت مصمم تغرق فيها…وتغرق أبوك وأمك الغلبانين فيها.”

رفع كارم حاجبه قليلًا وكأن كلامها أصابه في موضعٍ لم يكن مستعدًا للاعتراف به،لكنه سرعان ما استعاد هدوءه،وزفر ببطء قبل أن يقول:

“أنا عمري ما دخلتهم في مشاكل يا عمتي،يمكن مرة واحدة بس…لما الأذى طال الكل،لكن غير كده أنا كنت دايمًا شايل مسؤولية نفسي كاملة،وأنتِ شاهدة على ده،أنا كنت بتخانق ويتقبض عليا وأخرج،وبعدها بأسبوع ولا حاجة أبويا يعرف”

سكت للحظة كأنه يختار كلماته بعناية ثم قال بصوتٍ أكثر ثباتًا،لكن نبرته كانت تحمل شيئًا أعمق،شيئًا يشبه الاعتراف:

“آخر حاجة ممكن أعملها إني أغرقهم معايا أو أشيلهم فوق طاقتهم،أنتِ عارفة كويس معزّتهم عندي إيه وعارفة أنا بعمل إيه علشان أعوّضهم عن تعبهم معانا طول السنين دي،نفسي أعيشهم أحلى عيشة،وأخليهم دايمًا مرفوعين الراس…مش العكس،إذا كان أبويا أو أمي،هما الاتنين فوق راسي أقسم لك بالله يا تُونة.”

تنهد بثقلِ ثم أكمل بصوتٍ حمل بداخله خليطًا من الحب والامتنان والوجع الذي لا يعرف كيف يعبّر عنه:

“أنا أكتر واحد عارف هما تعبوا في تربيتنا إزاي،علشان نكون اللي إحنا عليه دلوقتي،علشان نتعلم أحسن تعليم ونعيش أحسن عيشة ويفضل راسنا مرفوع،فمتجيش دلوقتي وتقولي إني مش بخاف على زعلهم،أو إني غاوي أوجع قلبهم.”

كانت نبرته صادقة،نابعة من قلبه مباشرةً وكأنما أراد أن يضع كل شيء أمامها بلا مواربة،بلا أعذار.

طالعته بحنان وابتسمت بحنوِ لأنها تعرفه،تعرف كيف يشعر،وتعرف أن ما يقوله لم يكن مجرد محاولة للخروج من الموقف،بل كان الحقيقة التي يحملها داخله دائماً.

تنهدت فاتن بخفوت،وكأنها تجمع كلماتها بعناية قبل أن تقول برزانة:

“ليه ماتقلهمش الكلمتين دول وخلاص؟ ليه ماتقولهمش إنك بتحبهم وبتخاف على زعلهم؟ ولا بتتكسف يا واد؟”

ضحك كارم ضحكة خافتة لكنها كانت مجرد غلافٍ هشّ لما يشعر به، ألقى عليها نظرة جانبية ثم نبس بسخرية وهو يشير إلى وجهه بيده:

“بذمتك دي خلقة تتكسف؟”

ضحكت فاتن بدورها،لكن ضحكتها حملت دفئًا أكثر مما حملت سخرية،مدّت يديها وأحاطت وجهه بين كفيها برفق ثم أردفت بمرح:

“ومالها الخلقة يعني؟! ما هو زي العسل أهو! هو بس ضارب وش خشب ومش عايز يقولي على السبب.”

أشاح كارم بوجهه بعيدًا،وكأنه يهرب من عينيها،من فضولها الذي اعتاد أن يكشفه رغم محاولاته الفاشلة في التهرب،زفر بنبرة مستسلمة:

“قصري،وفسرلي عايزة تقولي إيه يا تونة؟”

رفعت حاجبيها بإصرار وهي تتأمله ثم قالت بثقة:

“عايزة أعرف إنت متضايق ليه،وماتقوليش علشان أبوك،دي مش أول مرة تتخانق معاه،وبلاش تقولي علشان الشغل،الكلمتين اللي قلتهم لي امبارح مش داخلين دماغي خالص، أصل يعني…فرقت إيه المرة دي عن المرة اللي فاتت؟ المرة اللي فاتت لما سبت الشغل كنت فرحان ومش مهتم،أما المرة دي…”

توقفت قليلًا لتتفحص ملامحه ثم أردفت بصوت أكثر هدوءًا:

“أما المرة دي،عامل شبه اللي ميت له حد.”

لم ينظر إليها كارم هذه المرة بل أبعد عينيه عنها تمامًا،وكأنه يخشى أن يفضح نفسه أمامها،ثم راوغ بصوت محايد:

“ولا زعلان ولا حاجة يا تونة،أنا زي الفل أهو.”

هزّت رأسها بيقين وهي تضيق عينيها نحوه،ثم قالت بحزم:

“كذّاب! في حاجة مضايقاك وشاغلة بالك،وهي اللي مخلياك في الحالة دي…”

توقفت لحظة وكأن فكرة ما ضربت رأسها،ثم نظرت إليه نظرة طويلة قبل أن تقول ببطء وهي تدرس رد فعله:

“وعموماً،الحاجة الوحيدة اللي ممكن تخلي الراجل في الحالة دي هي…”

صمتت قليلًا قبل أن تضيّق عينيها أكثر وتقول فجأة:

“بصلي كده يا واد!”

نظر إليها كارم أخيرًا،مترددًا،لكنها لم تمنحه فرصة للهروب فسألته بحدة:

“إنت بتحب يا واد؟!”

كانت الضربة مباشرة،فلم يستطع إخفاء توتره للحظة،لكنه تدارك نفسه سريعًا فحرك رأسه نافيًا بعنف وأبعد نظره عنها وهو يرد بضحكة خاوية:

“حب إيه بس يا حجة اللي بتقولي عليه! قال بحب قال! ضحكتيني وما كانش على بالي أضحك.”

لم تبتلع فاتن كذبته،بل نظرت إليه بشكٍ واضح ثم ضمت شفتيها وسألته بنبرة أكثر جدية:

“أومال في إيه بقى؟ إيه اللي مضايقك كده؟”

نظر إليها من جديد،تلك النظرة التي تحمل مزيجًا من العتاب والهروب ثم أردف بضيق مفتعل كأنه يحاول إنهاء الحديث قبل أن يصل إلى مكان لا يريد الوصول إليه:

“مش مضايق،أنا تمام خالص،ولا لازم أقوم أرقص دلوقتي علشان تصدقي إني تمام؟ ولا أقوم أمشي خالص؟”

لم تكن فاتن من النوع الذي تنطلي عليه هذه المراوغات بل ابتسمت ابتسامة صغيرة،كأنها تقرأ ما خلف كلماته بسهولة ثم قالت بنبرة دافئة وكأنها تحاول طمأنته بدلًا من مواجهته:

“تقوم تمشي فين بس؟ ده اليومين اللي بتيجي تقعد معايا فيهم بيبقوا أحلى يومين في السنة والله! ده أنت الوحيد اللي بتفتكرني يا واد،ودايماً بتتصل وتطمن عليا…مش زي أختك ضحى اللي ما تكلمنيش غير من العيد للعيد.”

ضحك كارم ضحكة قصيرة،لكنها كانت خالية من المرح الحقيقي ثم هز رأسه وهو يقول بسخرية هادئة:

“لا سيبك من أختي ضحى…ده أنا اللي عايش معاها في نفس البيت ما بشوفهاش غير ساعة الأكل!”

ضحكت فاتن بخفة،بينما أخرج كارم يده من جيب بنطاله،ممسكًا بعلبة سجائره،أخرج إحداها ثم أخرج قداحته لكن قبل أن يشعلها،تلقى ضربة خفيفة على ذراعه من فاتن،جعلته يتوقف في منتصف الحركة،وهى تهتف باستنكار:

“هتشرب سجاير قدامي ولا إيه؟ دخلها يا واد!”

نظر إليها كارم نظرة ساخرة،والسيجارة لا تزال بين شفتيه قبل أن يجيب بنبرة متململة:

“هو أنا أسيب موسى هناك ألاقيكِ هنا؟!”

لم تهتم فاتن بسخريته بل التقطت الخيط سريعًا عندما سمعت اسم موسى،فابتسمت وقالت بلهجة طبيعية:

“على سيرة موسى…أنا عرفت من أمك إنه كتب كتابه.”

توقف كارم للحظة ثم زفر ببطء قبل أن يعيد السيجارة إلى العلبة دون أن يشعلها،ويقول وهو يهز رأسه:

“أيوه،كتبه من أسبوعين على فيروز…حب الطفولة.”

ابتسمت فاتن وكأنها كانت تتوقع هذا الخبر قبل أن تومئ برأسها وتقول بثقة:

“ما أمك قالتلي…بس ما تفاجئتش بصراحة،ماهو أنا ياما قلتلكم لما كنتوا بتيجوا وانتوا صغيرين، إن موسى وفيروز زي الحلة اللي لقت غطاها…والاتنين هيبقوا لبعض من غير نقاش.”

نظر إليها كارم للحظة ثم ضحك ضحكة خفيفة وكأنه يعترف ضمنيًا بصدق كلامها،أمال رأسه قليلًا ونطق بنبرة مغمورة بالمديح:

“الله وأكبر عليكِ،بتفهمي أنتِ في الحاجات دي!”

رفعت فاتن حاجبيها بفخر مصطنع ثم ردت بثقة وهي تضع يدها على صدرها بتمثيل درامي:

“أومال إيه يا واد! أنا متجوزة عن حب،فبفهم في الحاجات دي من نظرة…عمتك أستاذة يا واد!”

ضحك كارم أكثر وهو يهز رأسه بإعجاب قبل أن يرد بصدق:

“يا بخت عمي صلاح بيكِ والله…أخد كنز!”

ابتسمت فاتن بسعادة صافية،نظرة من يعرف قيمة الحب حين يكون متبادلًا بصدق،لم تحتج إلى التفكير كثيرًا قبل أن ترد بنبرة دافئة وكأنها تستعيد شيئًا عزيزًا عليها:

“ما هو دايماً بيقول كده برضه…إني كنزه.”

ساد بينهما لحظة من الصمت،لكنها لم تكن ثقيلة بل حملت نوعًا من الألفة،كان هو يراقب تعبيرات وجهها وهي تتحدث عن زوجها،ذلك التوهج في عينيها الذي لم يخفت رغم السنوات،فكر للحظة…هل سيكون له نصيب أن يتبادل تلك المشاعر ما أحدهم يوماً؟؟ هل سيجد من ينظر له بتلك الطريقة،بعينين تلمعان بالدفئ والحب؟؟

ابتلعته دوامة الأفكار،وكاد يضيع داخلها لولا صوت بوق سيارة عالٍ اخترق أذنيه فجأة فانتفض قليلًا ورفع رأسه ناظرًا أمامه مباشرة، وما إن وقعت عيناه على السيارة التي توقفت أمامه حتى شعر بتلك الدفقة المألوفة من الارتياح…كان يعرف هذه السيارة جيدًا،تمامًا كما يعرف أصحابها،وجوه لا يملّ منها أبدًا،بل يجد نفسه دائمًا يعود إليها.

لم تمضِ سوى لحظات حتى انفتح باب السيارة،وخرج منها موسى بوجهه الذي يفيض بالحيوية المعتادة ليعبر المسافة بينهما بسرعة،وصوته يسبق خطواته وهو يهتف بمرح:

“بقى يا خاين! سايبنا بنشم التراب هناك،وإنت جاي تشم نفسك هنا؟!”

لم يكد كارم يبتسم حتى جاء صوت محسن ليكمل الجملة بنبرة لا تقل مرحًا وهو يلوح بيده بتأنيب مصطنع:

“ما كانش العشم خالص يا صاحبي!”

نظر كارم إليهم جميعًا تباعًا،تتنقل عيناه بين الوجوه التي يعرفها كما يعرف نفسه،بينما اقترب الخمسة منه ومن فاتن،التي ألقوا التحية عليها أولًا باحترام واضح قبل أن يلتفت موسى إليه ويشير نحوه بمرح وعتاب مصطنع،قائلًا وهو يهز رأسه:

“يرضيكِ يجيلك من غير ما يقولنا؟ كان عايزك تدلعيه لوحده الأناني!”

ضحكت فاتن بخفة ثم نظرت إلى كارم بمكر قبل أن ترد:

“لا ما كانش ينفع بصراحة! بس والله وما ليك عندي حلفان أنا كنت هخليه يتصل بكم علشان تيجوا ونتغدى سوا؟!”

وضع سامي يده على كتف كارم وهز رأسه بتمثيل مصدوم قبل أن يقول:

“شايف؟! عمتك بتحبنا أكتر منك…عيب يا أخي بجد!”

زفر كارم ضحكة خافتة وهو يهز رأسه قائلاً بسخرية خفيفة:

“يا أخي الواحد مش عارف يغيبله ساعة،إلا ويلاقيكم طالعين له من تحت الأرض! هو أنتم عرفتوا إني هنا إزاي أصلًا؟!”

رد عليه حسن بنفس رتابته المعتادة، دون أن يتخلى عن ملامحه الهادئة:

“عمي عبدالله اللي قالنا لما سألنا عليك،وأول ما عرفنا إنك هنا،بلغنا بعض واتفقنا وجينا على طول.”

أكمل حسين جملة شقيقه بابتسامة واسعة:

“معلش،أصل مش هينفع أسيبك تاكل الفطير لوحدك!”

انفجر الجميع في الضحك على تعليق حسين هذا،الذي لم يكن خافيًا على أحد مدى عشقه

للفطير،وللطعام ككل.

وسط الضحكات،هتف محسن وهو يحاول السيطرة على نفسه:

“تخيل إن حسين ما نامش وإحنا جايين زي كل مرة،علشان بس متحمس إنه ياكل فطير!”

انطلقت ضحكة أخرى جماعية،بينما كان حسين ينظر إليهم جميعًا،رافعًا حاجبه وكأنه لا يجد أي مشكلة في اعتراف محسن ثم قال بثقة مصطنعة:

“وهو في سبب يستحق إني أتخلى عن النوم غير الأكل؟!”

زاد الضحك أكثر،بينما نظر حسين إلى فاتن بعينين تلمعان بالحماس وسألها بلا تردد:

“هتعملي لنا فطير،صح؟”

لم تمضِ سوى لحظة حتى تلقى لكزة قوية في مرفقه من حسن،الذي نظر إليه بتحذير صامت،لكن حسين كعادته لم يتراجع بل هتف بحنق وهو يفرك ذراعه:

“ما تبصليش كده! أنا جاي المشوار ده كله أصلاً علشان الفطير!”

تعالت ضحكات أصدقائه على صراحته الفجة،باستثناء حسن الذي اكتفى بهز رأسه بقلة حيلة وكأنه فقد الأمل في تعديل طباع شقيقه،أما فاتن فقد توقفت عن الضحك بعد لحظات ثم قالت بابتسامة دافئة:

“من عينيَّ يا حسين،هتاكلوا أحلى فطير.”

لكنها لم تلبث أن صمتت لثوانٍ قبل أن تبتسم بمكر وتضيف بدهاء:

“بصوا،أنتم خدوا راحتكم لحد ما أرتب شوية حاجات وأرجع لكم،مش هطول عليكم.”

التفتت عقب جملتها تلك،وولجت إلى منزلها تاركة خلفها الستة ينظرون إلى أثرها بصمت،حتى وضع سامي يده على كتف حسين وقال بنبرة ساخرة:

“المفروض أعاتبك على بجاحتك،بس عارف إنك مش هتهتم باللي هقوله أصلاً.”

هز حسين كتفيه بلا اكتراث قبل أن يرد ببرود:

“كويس إنك عارف.”

ضحك الجميع مجددًا على رده البارد،بينما زفر سامي بقوة ونظر إليه بضيق،قبل أن يقطع محسن الصمت بحماسة مفاجئة وهو يلوّح بيده:

“خلينا نروح الإسطبل يا كارم! منير وحشني.”

أشار لهم كارم بالتحرك وهو يردد ببساطة:

“يلا، تعالوا.”

تحركوا جميعًا نحو الإسطبل،يسيرون معًا كما اعتادوا دائمًا،وبينما كانوا في طريقهم،ارتفع صوت موسى الساخر فجأة وهو يقول بتهكم:

“في حد يسمّي حصانه…منير؟! هتودّينا في داهية وهنتفهم غلط لو حد سمعك منك لله!”

التفت محسن إليه في الحال،وكأن أحدهم اتهمه بشيء عظيم،واستدار ليواجهه قائلًا بجدية مصطنعة:

“عاجبني منير،يا بتاع فجر!”

توقف موسى للحظة ثم التفت بطرف عينه إلى سامي،وابتسم بخبث قبل أن يهتف بنبرة ذات مغزى وابتسامة عريضة:

“لا،أنا بتاع فيروز.”

ساد الصمت لثوانٍ ثم انفجر الجميع في ضحك صاخب،بينما نظر سامي إلى موسى نظرة تحذيرية،لكن الأخير لم يكترث،بل اكتفى برفع حاجبه بمكر وهو يواصل طريقه بكل ثقة دون الالتفات للأخير الذي أراد في تلك اللحظة وبشدة الهجوم عليه وإفتراسه.

_________________

في الجهة الأخرى…

تجهزت فيروز بعناية للخروج،راعت في اختيارها لملابسها كل تفصيلة،فبدت كعادتها في غاية الأناقة،جمالها الهادئ ينساب بسلاسة مع تنسيقها المتقن.

التقطت حقيبة يدها وهاتفها بخفة ثم خرجت من غرفتها واتجهت إلى الباب وهي تهتف:

“أنا خلصت يا ماما،عايزة حاجة؟”

خرجت نادية من المطبخ،يسبقها عطر السكر المغلي،قائلة بابتسامة دافئة:

“عايزة سلامتك يا روحي.”

بادلتها فيروز ابتسامة خافتة ثم سألتها وهي ترتدي حذاءها الرياضي الأبيض:

“هتطولي؟”

“لا،نص ساعة كده وأحصلك،أخلص بس شوية المربى دول وهاجي على طول.”

“ما قلتلك أساعدك علشان نروح مع بعض.”

“لا مالوش لزوم،دول شوية مربى صغيرين مش مستاهلين مساعدة،روحي أنتِ اقعدي مع يمنى والبنات وباركلها،وأنا نص ساعة ولا ساعة بالكثير وهكون معاكم.”

تقدمت فيروز خطوة،ثم لثمت وجنة والدتها قائلة بحنو:

“هستناكِ…يلا عايزة حاجة؟”

“عايزة سلامتك يا قلب أمك.”

استدارت فيروز لمغادرةل وهي تلوح بيدها:

“باي.”

“باي باي.”

خرجت من المنزل،تاركة خلفها دفء والدتها ورائحة المربى التي تغمر الأجواء،ترجل من على الدرج بخطوات هادئة،حتى اهتز هاتفها بين أصابعها،فالتفتت إليه وأبصرت الشاشة المضاءة برقم مجهول جعلت حاجبيها ينعقدان لكنها أجابت في النهاية:

“ألو؟”

أتتها نبرة مألوفة،نبرة لطالما كرهتها وتمنّت ألا تسمعها مجددًا،ومع ذلك اخترقت مسامعها بسهولة:

“فيروز؟”

توقفت فيروز عن السير،وكأن ذلك صوت قد شلّ حركتها للحظات،تجمدت في مكانها بينما تشنجت ملامحها،وارتفع الهاتف قليلاً عن أذنها دون وعي منها.

كانت تعرف هذه النبرة جيدًا،تحفظها عن ظهر قلب،تمامًا كما تحفظ مشاعر الضيق والاشمئزاز التي تثيرها بداخلها كل مرة تسمعها.

بلعت ريقها بصعوبة قبل أن تعيد الهاتف إلى أذنها،ونطقت باسمه بصدمة لم تستطع كبحها:

“خالد؟!”

جاءها صوته مجددًا،بنفس الثقة القديمة التي لطالما أزعجتها:

“أيوه خالد…أنا بقالي كتير بتصل بيكِ،وأنتِ مابترديش،وساعات بتفصلي في وشي،وبعدين بقى تليفونك مقفول! حتى عمي يحيى نفس النظام،هو في إيه بجد؟ من ساعة ما نزلتوا مصر وأنتِ ما كلمتنيش خالص يا فيروز.”

زفرت فيروز بصمت،وأغمضت عينيها للحظة في محاولة لاستجماع نفسها،ثم نبست بصوت ثابت:

“وماكنتش هرد لولا إنك اتصلت من رقم غريب”

ساد الصمت للحظات على الطرف الآخر،قبل أن يأتيها صوته مستفسرًا وإن كان يحمل شيئًا من الانزعاج:

“مش فاهم؟؟ تقصدي ايه”

أغلقت فيروز عينيها مجددًا،وأخذت نفسًا عميقًا ثم قالت بنبرة هادئة لكن قاطعة:

“أقصد اللي سمعته ياخالد،أنا ماكنتش هرد عليك علشان كنت عايزة أقطع علاقتي بيك،اللي بالمناسبة كنت مغصوبة عليها،وعلى العموم لو عايز تفاصيل اتصل باللي عرفك عليا وخليه هو يشرحلك كل حاجة،أسفة بس مضطرة أقفل”

أبعدت الهاتف عن أذنها غير عابئة بما قد يقوله بعد ذلك،يكفي أنها نطقت بما في قلبها،بما خبأته طويلًا تحت وطأة المجاملات والقيود.

لكن، قبل أن تضغط على زر إنهاء المكالمة،جاءها صوته فجأة مشحونًا باللهفة،بحافة من التوسل الممزوج بالإصرار:

“أنا تحت،أنا تحت بيتك يا فيروز.”

تجمدت أنفاسها،وتعثر نبضها للحظة كأن كلماتها القاطعة التي ألقتها منذ قليل تبعثرت فجأة،وتبددت مع الريح،شهقت بصدمة لم تحاول إخفاءها،ورددت بذهول:

“إيه؟!”

“زي ما سمعتي،أنا واقف تحت بيتك،ولو ما نزلتيش دلوقتي وفهمتيني إيه اللي بيحصل،مش هيحصل طيب…صدقيني.”

كانت كلماته الأخيرة بمثابة إنذار أكثر منها رجاءً كأنها قنبلة موقوتة على وشك الانفجار

،

أصبحت هي كالمعلقة في الهواء،كان أمامها خياران لا ثالث لهما: إما أن تنزل وتواجه،تُنهي كل شيء وجهًا لوجه،تضع حدًا لهذه الفوضى التي تلاحقها،أو تدير ظهرها وتعود للمنزل،لتنتظر العاصفة القادمة،أيًا كان شكلها.

_________________

على الجهة الأخرى…

وسط الساحة الفسيحة،حيث الأرض تمتد بلا نهاية والسماء تعكس زرقتها فوق رؤوسهم،انطلق السباق بشغف متقد،مدفوعًا بروح المنافسة والصداقة.

قبل لحظات فقط،كان وحده يجوب المكان ممتطيًا حصانه الوفي،مستمتعًا بالحرية التي تمنحها الرياح العاصفة حوله،لكن الآن لم يعد وحيدًا بل تحيط به أصوات أصدقائه،هتافاتهم وضحكاتهم تتردد بين أصداء الخيل المسرعة وهم يخوضون السباق الأخير بين جولاتهم المحددة.

بخبرته العميقة في الفروسية كان كارم في المقدمة،يوجه حصانه “موج” بثقة وقوة، بينما موسى الذي لم يكن ينوي التنازل عن الصدارة بسهولة،لحق به عن قرب عازمًا على تضييق الفارق،يهمس لحصانه “فجر” بحماسة يحثه على بذل المزيد، خلفهما كان سامي ومحسن يتبادلان المواقع كأنهما في صراع صامت،نظراتهما المليئة بالتحدي تحكي قصة منافسة خاصة بينهما، أما حسين فكان في المركز الرابع ورغم اجتهاده لم يتمكن من تجاوزهما،في حين بقي حسن في الخلف،يقاتل أكثر مع نفسه ومع الحصان منه مع السباق نفسه،إذ لم تكن هذه الرياضة ملعبه الأقوى.

اتصفع الرياح وجوههم،وأصوات حوافر الخيول تمتزج مع دقات قلوبهم حتى اقتربوا من خط النهاية،في اللحظة الحاسمة كان كارم هو أول من عبر،رفع يديه عاليًا منتصرًا ثم انحنى نحو رأس “موج”،وربت عليه بفخر وقال بحماسة متوهجة:

“هو ده،برافو يا موج!”

لم يكد يلتقط أنفاسه حتى تبعه موسى،الذي أوقف حصانه بجواره مباشرة،وعيناه تعكسان إحباطًا ممزوجًا بالإعجاب فغمغم بضجر وهو يرمقه بنظرة متحفزة:

“كان فاضل تكة!”

ابتسم موسى ثم مال على عنق “فجر”، مرر يده فوق رأسه بلمسة تقدير وهمس له:

“ولا يهمك يا فجر،تتعوض يا غالي.”

بعد لحظات،وصل سامي ومحسن معًا،يتنفسان بصعوبة،يضحكان رغم الإرهاق،تلاهما حسين،وأخيرًا حسن الذي بالكاد تمكن من إنهاء السباق دون أن يقع عن حصانه.

نظر إليه كارم بتهكم وهو يهز رأسه مستنكِرًا:

“والله عيب يا حسن تبقى الأخير،ده حتى حسين سبقك،عيب يا راجل!”

رفع حسين حاجبه بسخرية،بينما اكتفى حسن بفرك رقبته بخجل،قائلاً بنبرة لا تخلو من الدعابة:

“ما أنت عارف إني مش قد كده في الرياضة دي،كويس إن وصلت سليم!”

تعالت ضحكاتهم جميعًا،وهم يترجلون عن خيولهم،يصفعون بعضهم على الأكتاف،يتبادلون كلمات المزاح والتحدي من جديد،وكأن السباق لم يكن إلا ذريعة أخرى لتوثيق صداقتهم،ولحفر لحظة أخرى لا تُنسى في ذاكرتهم.

وسط ضحكاتهم ومشاعر الانتصار التي ما زالت متوهجة في عيونهم،قطعت اللحظة المفعمة بالحماس بقدوم فاتن،التي تقدمت نحوهم بخطوات واثقة قبل أن تهتف بنبرة مرحة:

“كويس إنكم خلصتوا..”

وقبل أن تكمل جملتها قاطعها حسين الذي اقترب منها بسرعة،وعيناه تتقدان بشغف طفولي:

“خلصتِ الفطير؟”

اتسعت ابتسامتها وهي ترى لهفته ثم ضحكت بحبور قائلة بنبرة متعمدة الإثارة:

“لسه،بس خلصت تحضير كل حاجاته،مافضلش غيركم.”

تجمدت ملامح الستة في لحظة واحدة،وتبادلوا النظرات فيما بينهم بريبة،وكأنها ألقت أمامهم لغزًا غامضًا، ثم بعد ثوانٍ من الصمت المحمل بالترقب،هتف محسن بسخرية وهو يحدق بها مستنكرًا:

“هو أنا سمعت صح؟ هي قالت مافضلش غيركم؟ يعني ناوية تحشي الفطير بيننا ولا إيه؟”

لم تستطع فاتن كتم ضحكتها،فاهتز كتفاها بخفة ثم لوّحت بيدها قائلة بمكر:

“تعالوا بس وتفهموا كل حاجة.”

تبادلوا النظرات فيما بينهم مرة أخرى،هذه المرة بفضول ممزوج بالحذر قبل أن يومئوا بالإيجاب، دون تردد قاد كلٌّ منهم حصانه نحو الإسطبل،عاقدين العزم على العودة سريعًا لفهم مقصدها ومعرفة ما الذي ينتظرهم بالضبط.

أكانت مفاجأة سعيدة أم مأزقًا جديدًا؟ لا أحد يعلم،لكن المؤكد أن فضولهم لن يترك لهم خيارًا سوى اكتشاف الأمر بأنفسهم.

_________________

بينما كانت الغرفة تعج بالهمسات الدافئة والابتسامات التي تعكس الفرحة،ولجت نادية برفقة عبير متجهة نحو يمنى التي كانت تحتضن مولودها الجديد وسط الفتيات المتحلقات حولها.

اقتربت نادية بعينين تشعان بالمودة ومدت يديها بحنان لتحمل الصغير بين ذراعيها،تهزه برفق وكأنها تحاول أن تملأه بحبها قبل كلماتها،ثم ابتسمت وهمست بحنو:

“بسم الله ما شاء الله،قمر ربنا يحميه،ألف ألف مبروك،يتربى في عزك أنتِ وأبوه،وتفرحي بيه هو وأخوه يا رب.”

رفعت يمنى رأسها نحوها،وعيناها تلمعان امتنانًا ثم أجابتها بصدق:

“الله يبارك فيكِ يا خالتي،وعقبال ما تشيلي خلف سامي وفيروز.”

أومأت نادية برفق هامسة دعاءً قصيرًا:

“يارب يا بنتي.”

استمرت في هز الصغير برفق،تمرر أناملها فوق ملامحه البريئة كأنها تحفظ تفاصيله،بينما الفتيات من حولها يراقبنها بابتسامات دافئ، وكأن اللحظة قد جمدت الزمن للحظات من الصفاء،لكن شيئًا ما قطع هذا الصفاء حين رفعت نادية رأسها فجأة،نظرت حولها كأنها تبحث عن شيء ما ثم سألت بنبرة متسائلة:

“صحيح…هي فين فيروز؟”

عقدت الفتيات حواجبهن في آن واحد،قبل أن تجيبها يمنى باستغراب:

“فيروز مش هنا يا خالتي؟”

تبدلت تعابير نادية في لحظة،وظهر على ملامحها شيء يشبه القلق ثم قالت بنبرة مستنكرة:

“مش هنا إزاي؟! ده خرجت من ساعة وكانت جاية لكم.”

تبادلت الفتيات النظرات بينهن،بينما بادرت نورهان بالرد سريعًا:

“ما جتش يا خالتي والله،لو كانت جات كنا أكيد هنشوفها.”

قطبت نادية جبينها،وعادت لتقول بصوت أكثر حدة،كأنها تحاول إقناع نفسها قبل الآخرين:

“لو ماجتش،هتكون راحت فين؟ دي ما تعرفش حد غيركم هنا!”

في تلك اللحظة،لاحظت عبير توتر نادية فاقتربت منها برفق،وتناولت الصغير من يديها بحرص ثم سلمته إلى والدته قبل أن تمسك بكتفيها،ناظرة في عينيها محاولة تهدئتها:

“اهدئي يا نادية،أكيد راحت تجيب حاجة”

لكن بدأ القلق يتسلل إلى الجميع،فالتفتت عبير نحو نورهان وقالت بجدية:

“اتصلي بيها يا نورهان.”

أومأت نورهان بسرعة،وأخرجت هاتفها متلهفة لإجراء الاتصال، بينما بقيت نادية تراقبها بعينين ممتلئتين بالقلق،وتتمتم بصوت مضطرب:

“لو كانت عايزة تجيب حاجة،كانت قالت لي.”

ربتت عبير على كتفها مجددًا،وقالت بنبرة مطمئنة رغم التوتر الذي بدأ يخيم على الأجواء:

“اهدئي،هنعرف هي فين.”

ساد صمت ثقيل للحظات،لم يكن يسمع سوى صوت ضربات قلب نادية المتسارعة،قبل أن ترفع عبير رأسها وتسأل بترقب:

“ها،ردت يا نورهان؟”

أبعدت نورهان الهاتف عن أذنها ثم قالت:

“مش بترد”

“طب حاولي تاني معلش”

رفعت نورهان على أذنها،انتظرت…وانتظرت…ثم زفرت بضيق وهي تهز رأسها:

“برضو مش بترد.”

اتسعت عينا نادية،وعقدت يديها أمام صدرها بقلق واضح قبل أن تردف بصوت مختنق:

“إزاي مش بترد؟ ده حتى مش من عادتها.”

كان القلق يتصاعد في الأجواء كدخان خفي،يتسلل إلى القلوب بلا استئذان،ربتت عبير على كتفها بحنان،لتحاول أن تطمئنها رغم أنها هي ذاتها لم تستطع أن تبقى على هدوئها تمامًا:

“ما تقلقيش،يمكن تليفونها صامت،أو الشبكة عندها وحشة.”

لكن كلماتها لم تبدُ كافية لتبديد التوتر،إذ رفعت نادية يديها بقلق،وعادت تقول بإصرار:

“طب هي فين أصلًا؟ مهو لازم أعرف! حتى دلال مش هنا علشان أقول إنها راحتلها.”

جاء صوت يمنى سريعًا كأنها تحاول أن تجد تفسيرًا منطقيًا للأمر قبل أن يتفاقم القلق أكثر:

“يمكن مع موسى.”

التفتت إليها عبير وأجابت بجدية لتقطع هذا الاحتمال تمامًا:

“موسى هو كمان مش هنا،نزل مع صاحبه من بدري البلد عند عمة كارم.”

ساد صمت غريب في الغرفة،صمت لم يكن مريحًا بل كان مشبعًا بالتوتر والريبة،تبادلت الفتيات النظرات فيما بينهن،وكل واحدة منهن كانت تدرك أن الأمر بدأ يأخذ منحًى غير مريح.

حاولت نورهان مجددًا الاتصال بفيروز،ضغطت على الرقم وانتظرت،لكن لا إجابة،لا شيء سوى رنين طويل فقط،وكأن الهاتف ذاته يرفض أن يمنحهن أي طمأنينة.

وحين بدأ الجميع يفقد هدوءه،وحين صار القلق هو السيد في الغرفة،حتى عبير التي كانت تحاول أن تبقى متماسكة،لم تستطع أن تخفي اضطرابها،فتقدمت بسرعة وهتفت بحزم:

“أنا هتصل بموسى.”

أخرجت هاتفها لتفعل ما قالته،بينما لم تجد نادية أمامها سوى أن تفعل الشيء ذاته،فسارعت تهاتف ابنها سامي،علّ أحدهما يكون لديه إجابة تريح هذا القلق المتزايد في صدرها.

والسؤال الذي يدور في العقول أجمع :”أين هي؟؟”

_________________

على الجهة الأخرى…

-الحلوة دي قامت تعجن في البدرية

والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية

يلا بنا على باب الله ياصنايعية

يجعل صباحك صباح الخير ياسطا عطية

صبح الصباح فتح ياعليم

والجيب مافيهش ولا مليم

بس المزاج رايق وسليم

باب الأمل بابك يارحيم

الصبر طيب عال

ايه اللي غير الأحوال

ياللي معاك المال

برضه الفقير له رب كريم

الحلوة دي قامت تعجن في البدرية

والديك بيدن كوكو كوكو في الفجرية

يلا بنا على باب الله ياصنايعية

يجعل صباحك صباح الخير ياسطا عطية.

تعالت أصواتهم جميعًا في تناغم ساحر،يرددون الكلمات كأنهم شخص واحد،بنفس الحماس،بنفس الروح،وكأن اللحن وحد بينهم في لحظة من الصفاء الخالص.

في قلب المطبخ،حيث امتزجت رائحة العجين الطازج بنكهة الدفء والمودة،كانوا يعملون معًا،يضعون أياديهم في الطحين،يعجنون،يرقّون،يشكّلون الفطائر بحماس الأطفال،كل منهم يشارك بحصته من الجهد،ولكن الأهم،بحصته من الضحك والمرح.

بينما كانت فاتن واقفة في المنتصف،تتابعهم بعين خبيرة،توجههم بين الحين والآخر،تعطي التعليمات بإيقاع يتناغم مع أغنيتهم الجماعية،كأنها مايسترو يقود فرقة موسيقية من الخبازين المبتدئين،لم تستطع منع نفسها من الابتسام وهي تراقبهم،فقد كانوا أقرب إلى لوحة نابضة بالحياة،تجمع بين الجدّ واللعب،بين الحماس والفوضى المنظمة.

هتف محسن وهو يحاول فرد العجين بطريقة مضحكة:

“أنا حاسس إني بصنع معجزة،مش فطيرة!”

ضحك حسن وهي تمرر له المزيد من الطحين:

“المعجزة الحقيقية إن الفطير ده يطلع قابل للأكل.”

قهقه الجميع،لكنهم واصلوا العمل بنفس الإيقاع المرح،يتبادلون المزاح،يرشّون الطحين على بعضهم كأنهم في معركة صغيرة،بينما الأغنية لا تزال تتردد،تملأ الجو بطاقة من الحنين والبهجة.

كانت تلك اللحظة من اللحظات النادرة التي لا يُفكر فيها أحدهم بشيء سوى الاستمتاع بالحاضر،بعيدًا عن القلق والأسئلة التي كانت تشغل بعضهم منذ ساعات.

وسط أجواء المرح التي غمرت المطبخ،صدح صوت فاتن بنبرة تحمل حزمًا مصطنعًا،وكأنها تحاول أن تبث فيهم روح الجدية وسط فوضى العجين والطحين:

“شدوا شوية يا رجالة،عايزين نخلص الفطير ده قبل ما عمكم صلاح يرجع!”

استدارت نحو حسين،الذي كان منغمسًا في العمل بحماسة،وأشارت إليه قائلة:

“اتعلموا من حسين،الواد خلّص فطيرتين وانتوا لسه في أول واحدة!”

التفتت عيون الخمسة نحوه دفعة واحدة،كأنهم اكتشفوا فجأة أنه كان في سباق وحده،ثم انفجروا ضاحكين،بينما كان حسين يرمقهم بنظرة انتصار خفيفة لم يستطع إخفاءها.

اقتربت منه فاتن وربّتت على كتفه بحنان،قائلة بنبرة تجمع بين الإعجاب والمزاح:

“جدع يا حبيبي،كمل! يا بخت أمك بيك،ويا بخت اللي هتكون من نصيبك.”

لم يكد تنهي جملتها حتى ارتفعت الضحكات من جديد،في حين هتف موسى بمرح،مستغلًا الفرصة لإشعال المزيد من الدعابات:

“حسين حبيب أمه،وحسن حبيب أبوه!”

أطلق حسن ضحكة قصيرة وهو يهز رأسه،بينما التفت موسى إلى محسن،وسأله بمكر:

“وأنت يا محسن؟”

رفع محسن رأسه من فوق العجين،نظر إليهم جميعًا نظرة درامية ثم تنهد قائلاً بنبرة تمثيلية مفعمة بالأسى:

“أنا؟ لا،أنا حبيب البطة السودا.”

لم يتمالك أحدهم نفسه،فتعالت الضحكات في المكان،لتصبح تلك اللحظة واحدة من اللحظات النادرة التي تجمعهم بروح خالصة،بعيدًا عن أي هموم أخرى،حيث كانت البساطة وحدها كافية لصنع السعادة.

في لحظة حماسية مفاجئة،نهض موسى من مجلسه والتقط الفطيرة من على

“الطبلية”

بحركة خاطفة،ثم هتف بحماس ومرح عاقدًا العزم على استعراض مهاراته أمام الجميع:

“بصّوا بقى الحركة دي!”

التفتت العيون نحوه باهتمام،بينما اعتدل الجميع في جلستهم،يراقبونه بترقب،وكأنهم على وشك مشاهدة عرض حي لمهارة نادرة،بدأ هو بتحريك الفطيرة في الهواء بخفة،مقلدًا حركات المختصين في إعداد الفطير،يلوّح بها برشاقة كأنه محترف حقيقي،وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة فخر لا تخفى.

“شايفين الشغل؟ اتعلـــ”

لكن فخره لم يدم طويلًا،إذ ما إن بدأ في نطق كلمته الأخيرة حتى فقد السيطرة على الفطيرة،لتطير في الهواء بشكل غير متوقع…قبل أن تهبط مباشرة

على رأس سامي!

ساد صمت لثانية واحدة فقط،قبل أن ينفجر الجميع في موجة ضحك لا تُقاوم،حتى أن بعضهم انحنى من شدة الضحك،أما سامي فقد تجمّد في مكانه،مغمضًا عينيه للحظة،قبل أن يرفع يده ببطء ليزيل الفطيرة عن رأسه،وهو يرمق موسى بنظرة تهديد هادئة،توحي بأن الانتقام قادم لا محالة.

حدّق موسى فيه للحظات،وكأن عقله يحاول استيعاب ما حدث للتو،لكنه سرعان ما صرف نظره عنه بلامبالاة،وكأن شيئًا لم يكن،ثم التفت إلى حسن قائلًا بنبرة طبيعية تمامًا:

“حد يجيب السمنة علشان أفردها على فطيرة حسن.”

وصله صوت سامي من خلفه،يحمل نبرة تهديد خافتة ولكن واضحة:

“لينا حساب…بس مش دلوقتي.”

لكن تجاهل موسى كعادته الأمر تمامًا،وكأنه لم يسمع شيئًا،وبدأ في فرد السمن البلدي على الفطيرة بكلتا يديه بحركات فوضوية،وكأنه يرسم لوحة مجردة على سطحها،بدا المشهد مقززًا لسامي،الذي كان يراقبه بعينين ضيقتين،قبل أن يهتف بسخرية مشوبة بالقرف:

“حد يفكرني ماكلش من الفطير ده خالص.”

تعالت ضحكات الجميع من جديد،بينما واصل موسى العبث بفطيرة حسن بلا هوادة،ضاربًا بكفيه المشبعين بالسمنة فوق سطحها وكأنه يُمعن في إثارة غيظ سامي أكثر، زادت ابتسامته اتساعًا وهو يرفع حاجبيه للأعلى وينخفض بهما في رقصة استفزازية موجهة خصيصًا لصديقه،الذي كان يراقبه بنظرة متوعدة،محاولًا كتم غضبه.

لكن وسط أجواء الضحك والفوضى،قطع صوت

رنين هاتف

صاخب تلك اللحظة،مما جعل الجميع ينتبهون إليه للحظة،وكان محسن هو أول من لاحظ فأشار قائلاً:

“في موبايل بيرن.”

نظرت العيون تلقائيًا نحو الطاولة التي وُضعت عليها الهواتف،ليهتف كارم بعدما لمح مصدر الصوت:

“ده تليفونك يا موسى.”

لكن موسى،الغارق في لعبته الاستفزازية،لم يعطه أي اهتمام،فضحكت فاتن بخفة وهي تهز رأسها في استسلام ثم قالت بحنو ساخر:

“أنا هجيبه له.”

اقتربت من الطاولة والتقطت الهاتف،لكنها لاحظت شيئًا آخر جعلها تتوقف للحظة،كان هناك

هاتفٌ آخر يهتز!

رفعت حاجبيها باستغراب ثم التفتت نحوهم قائلة:

“في تلفون كمان بيرن.”

نظرت إلى الشاشة قبل أن ترفع الهاتف ليتمكن الجميع من رؤيته،فتعرف سامي عليه على الفور،ليقول مباشرة:

“ده تليفوني.”

لم يفوت موسى الفرصة،فأردف سريعًا بنبرة سخرية مرحة وهو ينظر لسامي:

“إيه الصدفة العجيبة دي؟! هما اللي بيتصلوا متفقين ولا إيه؟!”

ضحك البعض،لكن الضحك لم يدم طويلًا،فقد اقتربت فاتن منهم ووضعت كل هاتف على أذن صاحبه،قائلة بحزم لطيف:

“خلّيني أمسكهم لكم علشان إيديكم”

أجاب الاثنان معًا على المكالمة،كلٌ منهما بأسلوبه المعتاد:

“أيوه يا ماما.”

“أيوه يا ست الكل.”

ولكن لم تمر سوى

لحظات معدودة

حتى انقلبت أجواء المرح رأسًا على عقب،فقد وصلت إليهما

جملة واحدة

من الطرف الآخر،كان لها وقع غريب على ملامحهما،في

لحظة واحدة

،اختفت الابتسامات وتجمدت تعابيرهما وانقبضت وجوههما بصدمة واضحة،ثم في آنٍ واحد،هتف الاثنان بصوتٍ حمل خليطًا من الذهول والقلق:

“أنتِ بتقولي إيه؟؟!”

#يتبع…

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق