رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الثاني والثلاثون 32 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الثاني والثلاثون

الفصل الثاني والثلاثون(الثمن حياته)

الفصل الثاني والثلاثون(الثمن حياته)

اذكروا الله…

صلوا على رسول الله…

ولاتنسوا الدعاء لإخواتنا في الدول العربية.

نبدأ بسم الله…

________

“خليليَّ، إنَّ الدَّهرَ يُحدثُ بعدنا

نوىً واشتياقًا، فارجعا وارجعا بها



فما أنا مَن يحيا بعيشٍ مُنعَّمٍ



وقد فارقتني من أُحبُّ ومن أهوى



ألا يا حمامَ الأيكِ، بالله فاخبرنْ



إذا نُزِعَتْ نفسي، فأينَ تكونُ؟!


-قيس بن الملوّح.

______________

توقفت السيارة أمام المنزل بفرملة حادة،تردد صداها في الهواء كجرس إنذار،وما إن هدأت حتى انفتحت أبوابها دفعة واحدة،ليترجل منها خمستهم كالرصاص المنطلق من ماسورة بندقية،وكأن الأرض ترفض أن تحتجزهم لحظة إضافية.

في اللحظة ذاتها،انحرف كارم بدراجته النارية،محدثًا صريرًا حادًا قبل أن يقفز عنها بانسيابية متمرس،ليندفع خلفهم دون تفكير.

لم يكن هناك وقت للتردد،فمجرد أن وصل إليهم الخبر كالصاعقة،فسحقوا كل شيء كانوا منشغلين به تحت وطأة الضرورة،وأطلقوا العنان لأقدامهم وعجلاتهم متجهين نحو المدينة بسرعة تكاد تنافس الزمن ذاته.

لم يكن بالنسبة له _خصيصاً_ سباقًا ضد عقارب الساعة وحسب بل كان سباقًا ضد الموت،الذي كاد أن يلامسهم أكثر من مرة في طريقهم،الطرقات لم تكن سوى امتداد لجنونه،والريح لم تستطع اللحاق بأنفاسه المتلاحقة.

صعدوا على الدرج بخطوات متسارعة،وكأن الأرض تحترق تحت أقدامهم،وكان موسى وسامي في المقدمة،يبتلعان المسافة بينهما وبين الطابق العلوي بلهفة تشبه الجنون،بينما تبعهم البقية كظلال طيفية،تتراقص على وقع اندفاعهم المحموم.

وصلوا إلى الطابق الثاني،ذاك الذي يخص الجد حيث اجتمع أفراد العائلة،يترقبون عودتهما بعيون يملؤها القلق والتساؤل

، وكذلك كان ليلى من بينهم،والتي علمت بالخبر عندما تواصلوا معها ظننا منهم أن الأخيرة قد تكون برفقتها.

كان المكان مشحونًا بالصمت المتوتر،يتقاطع مع أنفاس متوترة وعيون تبحث عن إجابة، الجميع كانوا ينتظرون بصيص أمل،أي خيط يقودهم إليها،فقد كانا كل من موسى وسامي الأمل الأخير في فك هذا اللغز،في إيجاد وسيلة للوصول إليها،في معرفة أين تكون

؟؟؟؟

توقفوا عند أعتاب الشقة،وأنفاسهم متلاحقة وصدورهم تعلو وتهبط تحت وطأة الترقب، أعينهم تجولت بسرعة تبحث في وجوه المجتمعين عن إجابة،عن أي علامة قد تبعث الأمل.

كانت هناك أمٌ جاثية،عيناها المغرورقتان بالدموع تحكيان عن قلب محترق على ابنته،وأصدقاء يحملون فوق أكتافهم ثقل القلق،وجو خانق مشبع بصمت يشبه الاعتراف بالعجز.

وسط هذا السكون المثقل بالوجع،انطلق صوت موسى كصرخة في الظلام،مرتفعًا،متحشرجًا،متشبثًا بذرة رجاء أخيرة:

“معرفتوش حاجة؟!”

لم يكن السؤال مجرد كلمات بل كان استغاثة،أملًا يرفض أن يتبدد،وقلوبهم جميعًا التقطت هذا الرجاء.

انتفضت نادية وعبير وكأن صوت موسى دفعهما للحركة،توجهتا نحوه على عجل كلٌّ منهما تبحث عن إجابة تائهة وسط دوامة الحيرة.

وقفت نادية أمام ولدها سامي،بينما توقفت عبير عند موسى الذي كرر سؤاله مرة أخرى بصوتٍ كاد يختنق بالرهبة:

“معرفتوش أي حاجة؟!”

حركت له والدته رأسها نفيًا،بيأسٍ ثقيل كالجبل،ليتراجع خطوة ويغمض عينيه بقوة،ثم مرر يده على وجهه بعنف وكأنه يحاول محو قلقه أو استعادة رباطة جأشه،وقبل أن يتمكن اليأس من التسلل إليهم أكثر،جاء صوت سامي هادئًا لكنه مشحون بتوتر خفي:

“هو إيه اللي حصل بالظبط؟!”

حبست نادية دموعها وتكورت الكلمات في حلقها،لكنها أجبرتها على الخروج فكان صوتها متحشرجًا وهي تسرد التفاصيل:

“هي صلّت الظهر ولبست وقالتلي إنها هتسبقني وتيجي على هنا عشان تبارك ليمنى وتقعد مع البنات شوية،وبعد ساعة لحقتها بس لما جيت وسألتهم عليها قالولي إنها ماجتش ومحدش شافها…ومش عارفة هي ممكن تكون راحت فين؟! هي ماتعرفش حد غيرهم هنا…”

كان في صوتها ارتباكٌ وخوفٌ لم تستطع إخفاءه،وكأنها تحاول أن تجد تفسيرًا يُسكِّن روعها.

تقدمت نورهان خطوة،وقالت بصوت يحمل القلق ذاته:

“رنيت عليها أكتر من مرة وماردتش،حتى فريدة حاولت،بس نفس الحكاية…بيرن ومحدش بيرد.”

صمت للحظات،وكأنهم جميعًا يستوعبون فداحة الأمر قبل أن يضع سامي يده على فمه ويقول:

“إحنا كمان رنّينا عليها أكتر من مرة وماردتش،ورنيت كمان على صاحب العمارة اللي في عيادتها على أساس إنها هتكون راحت هناك،بس قالي إن ماحدش جه خالص”

زفر بثقل وتابع بيأس:

“هتكون راحت فين بس؟!”

في تلك اللحظة،تجمدت ملامح موسى وتسارعت أنفاسه،توترت أصابعه ثم فجأة وكأنه أفاق على فكرة طارئة،هتف بسرعة:

“فين اللابتوب بتاعي؟!”

لم ينتظر ردًّا بل اندفع نحو غرفته كعاصفة،تاركًا وراءه نظراتٍ مدهوشة،لكن سامي لم يحتمل الترقب،فلحق به ومعه والدته وعبير.

داخل الغرفة،التقط موسى الحاسوب من على الفراش بلهفة وفتح شاشته،انقضت أصابعه على لوحة المفاتيح بخفة،تتحرك بسرعة وكأنه يحاول كسر عقارب الزمن.

تبادلت نادية وعبير نظرات القلق،بينما تساءل سامي مستفسرًا:

“بتعمل إيه؟!”

لم يرفع موسى عينيه عن الشاشة،واكتفى بالردّ بصوتٍ متسارع:

“افتكرت إن من فترة قريبة،أنا وفيروز عملنا

linked our location

(ربط لمواقعنا) على Google Maps،علشان كل واحد يتابع التاني وما نقلقش على بعض لما نغيب.”

تقدمت نادية خطوة للأمام،وكأنها تتشبث بأي بصيص أمل وسألت بلهفة:

“يعني هتقدر تعرف مكانها؟!”

توقف للحظة وزفر ببطء ثم قال:

هقدر أعرف مكان موبايلها…فأتمنى يبقى معاها.”

ثم همس لنفسه بصوتٍ خفيض بالكاد يُسمع:

“ومايكنش اللي في بالي حقيقي…”

عاد يُحدق في الشاشة،ويضغط الأزرار بنهم،يلاحق الإحداثيات بعينيه وثوانٍ فقط مرت، لكنها بدت كأنها الدهر قبل أن يهتف أخيرًا:

“لقيته…عرفت موقعها!”

انتفضت نادية وعبير ونظرتا لبعضهما بدهشة ممزوجة بارتياح،لكن سامي الذي لاحظ شيئًا لم يعجبه عقد حاجبيه وقال:

“بس هي بتعمل إيه في المكان ده؟!”

لم يلتفت موسى بل قال بسرعة:

“هنعرف لما نوصل.”

أغلق الحاسوب وألقاه جانبًا ثم انتفض واقفًا كمن لا يريد أن يضيع ثانية واحدة،تبعه سامي على الفور وكذلك نادية وعبير،وكأنهم جميعًا روح واحد واحدة،وبالأصح متعلقين بروحٍ واحدة.

وفي طريقه للخروج،وصله صوت جده ينهتف من الخلف:

“عرفت حاجة؟!”

التفت موسى نصف التفاتة وردّ بسرعة:

“عرفت مكانها…ادعيلنا نلاقيها يا جدي.”

لم يكن لجده ولا لأي أحد من العائلة سوى الدعاء بصمت،قلوبهم تخفق بترقب وألسنتهم تلهج برجاءٍ واحد: أن تعود سالمة.

أما هو،فخرج كالعاصفة،يهبط الدرج بسرعة وخلفه سامي وأصدقاؤهما الأربعة،هرولوا جميعًا لمساندتهما كأنهم جميعًا يرفضون أن يتركوهما يواجهان هذا المجهول وحدهما.

كان الهواء يصفع وجهه بقوة لكنه لم يكترث،لم يكن يرى أمامه سوى شيء واحد..الوصول إليها فقط.

أما نبضه،فقد كان يدوي في أذنيه كطبول حرب،يعلو مع كل خطوة يقطعها،وكأن قلبه نفسه يركض بجانبه..لا داخله.

وبينما كان يركض،كانت هناك أفكار سوداء تلوح في الأفق يحاول طردها،لكن خوفه كان يغذيها،كان يرفض حتى أن يسميها كأن مجرد التفكير فيها قد يجعلها حقيقة.

همس لنفسه بصوتٍ خافت لكنه كان يحمل كل ما في قلبه من توسل:

“يا رب…يا رب…”

كانت رجاءً،وكانت خوفًا،وكانت كل ما يملك الآن.

_________________

بعد ما يقارب النصف الساعة،وصل موسى إلى الموقع الذي رآه على الحاسوب،ترجل من سيارته برفقة الأربعة،ونزل كارم كذلك عن دراجته.

وقف الستة على جانب الطريق الدائري،وأخذت عيونهم تمسح المكان بتوتر،يبحثون عن أي علامة تدل على وجودها.

أما هو،فكان يمسك بهاتفه،يتفحص الموقع مرة أخرى قبل أن يقول بصوت يحمل توترًا مكبوتًا:

“الموقع بيشير لهنا.”

نظر سامي حوله مجددًا،تفحَّص الطريق الممتد أمامهم،السيارات القليلة التي تعبر بين الحين والآخر،ومحطة البنزين الوحيدة التي تقبع على الجانب الآخر،ثم استدار نحو موسى وقال ببطء:

“مفيش حاجة حولينا غير محطة البنزين دي.”

في تلك اللحظة،لمعت عينا موسى فجأة وكأن فكرة قد انبثقت في ذهنه ثم قال بجدية:

“تعالوا نسأل فيها.”

تحرك بسرعة،وكأن جسده يسبق تفكيره،وخلفه تبعه الآخرون كأنهم انجذبوا إلى يقينه بأن هناك إجابة تنتظرهم خلف تلك الأبواب.

عبر موسى الطريق بخطوات سريعة،لم يكن هناك مجال للتردد،لم يكن هناك وقت للشك،خلفه كان سامي وكارم والبقية،وجوههم مشدودة بتوتر لم يفلته أحد منهم.

حين دخلوا محطة البنزين،استقبلهم ضجيج خافت لمحركات السيارات المتوقفة،ورائحة الوقود التي ملأت الهواء،تقدم موسى مباشرة نحو أحد العاملين،كان رجلًا خمسينيًّا بملامح متعبة،ينظف زجاج إحدى السيارات بلا مبالاة.

لم ينتظر موسى كثيراً بل اندفع يسأل بصوت مشحون بقلق لم يستطع كبحه:

“لو سمحت،مفيش بنت عدت من هنا؟ هي محجبة وطولها متوسط و…”

قاطعه الرجل بنبرة جادة قبل أن يكمل جملته،لكن مشبعة بالأسف:

“معلش والله يا ابني،بس أنا واقف من صباحية ربنا،مفيش بنات خالص جت هنا.”

ازدرد موسى ريقه،وشعر بشيء ثقيل يسقط في قلبه،بينما لم يستسلم سامي وسأل بإصرار:

“متأكد يا حج؟ أصل إحنا تتبعنا موقعها،والإشارة بتدلنا على هنا.”

توقف الرجل للحظة ثم قال وهو يلتفت نحو شاب آخر كان يقف عند ماكينة الوقود:

“طب استنى…ممكن حد غيري شافها

نادى بصوت مرتفع على الشاب:

“يا علاء!.. تعالى كده.”

اقترب الشاب منهم،وهو يمسح يديه في بنطاله،ثم نظر إليهم بفضول قبل أن يسأله الرجل الكبير:

“في بنات عدت من هنا النهاردة يا ابني؟”

أخذ علاء لحظة يفكر ثم هز رأسه قائلاً:

“لأ…مفيش غير عربيات عدّت من هنا وبس.”

كان هذا الرد كفيلًا بأن يزيد من ارتباك موسى وسامي،لكن الرجل الكبير لم يتوقف وأردف موضحًا لعلاء:

“أصلهم بيقولوا إنهم تتبعوا ولا مش عارف راقبوا موقعها،والإشارة جابتهم هنا.”

رفع الشاب حاجبيه بدهشة خفيفة،ثم سأل موسى:

“هو أنتوا تتبعتوا موقعها من على موبايلها؟”

“آه.”

صمت علاء للحظة،وكأن فكرة قد طرأت في ذهنه ثم أخرج شيئًا من جيب بنطاله ومده أمامهم،وهو يقول ببطء:

“هو بصراحة لما كنت بفوّل لعربية،لقيت التليفون ده مرمي على الطريق هنا من شوية،فأخدته…ده تليفونها؟”

تجمدوا للحظة،وكأن الهواء نفسه توقف عن الحركة ثم خطف موسى الهاتف سريعًا وعيناه تتفحصانه بجنون:

“أيوه هو.”

نظر سامي نحو الشاب وحاجباه معقودان بشدة ثم سأله بحدة:

“إحنا بنرن من ساعتها عليه،ليه ما رديتش وقلت إنه معاك؟!”

لكن قبل أن يجيب الشاب،جاء الرد من موسى نفسه،وهو يتفحص الهاتف بعينيه المضطربتين:

“علشان جاب شاشة.”

التفت سامي نحوه بسرعة،فرآه يشير إلى الهاتف قائلاً بصوت مثقل بالضغط:

“التليفون جاب شاشة،هتسمع الرنة بس مش هتعرف ترد…تقريبًا اترمى على الطريق جامد.”

أغمض سامي عينيه بتعب وزفر بضيق وكأنه يحاول كتم إحباطه،بينما ابتلع موسى ريقه،وعيناه ما زالتا مثبتتين على الهاتف،وكأن مجرد النظر إليه قد يوصله لإجابة

،

ثم رفع رأسه فجأة نحو علاء وسأله بنبرة يائسة:

“طب ما شُفتش حتى اترمى منين؟”

هز الشاب رأسه بأسف:

“للأسف لا والله،أنا كنت واقف بفوّل لعربية،وفجأة جات عيني عليه،روحت أخدته ولقيته زي ما أنت شايف كده.”

تدخل كارم في الحديث وسأل بصوت حازم:

“هو مفيش كاميرات هنا؟”

أجاب الرجل الكبير على الفور،مشيرًا بيده إلى إحدى الجهات:

“هو في واحدة هنا أهي،بس للأسف بقالها كام يوم عطلانة.”

تصلب جسد موسى في تلك اللحظة كأن صاعقة قد ضربته،شعر بأن أنفاسه أصبحت ثقيلة،وكأن كل شيء يقف ضده.

و

لم يكن سامي أفضل حالًا منه،فقد شعر وكأن يدًا خفية تسحبهم نحو العجز،وكأن شيئًا مظلمًا يحيط بهم،يمنعهم من الوصول إلى إجابة.

غرقا في دوامة من الأفكار السوداء،كأنهما ينجرفان في بحرٍ هائج لا شاطئ له،كان كلاهما غارقًا في نفس الألم،لكن بطريقتين مختلفتين…أحدهما يخشى فقدان

حبيبته وزوجته

،والآخر يخشى فقدان

شقيقته ونصفه الآخر

.

تقدم حسن خطوة في تلك اللحظة،ناظراً للرجال أمامه ثم أردف بنبرة ممتنة:

“ألف شكر يا رجالة،وأسفين على الإزعاج.”

هز الرجل رأسه بتفهم،ثم رد بصوت هادئ يحمل دعوة خالصة:

“ولا يهمك يا ابني،ربنا يرجعهالكم بالسلامة ويعتركم فيها.”

“تسلم يا حاج.”

“عن إذنكم…تعالى يا علاء.”

انصرف الرجل برفقة علاء،تاركين الستة في أماكنهم،بلا حراك،كأنهم جزء من هذا الفراغ الثقيل الذي يحيط بهم،تبادلوا نظراتٍ مضطربة،حائرة،كل واحد منهم يبحث في عيون الآخر عن إجابة لم تكن لديهم.

لكن سرعان ماقطع كارم هذا الصمت الحابس بنبرة حادة تحمل توترًا متزايدًا:

“بقولكم إيه…إحنا مش هنضحك على نفسنا في حاجة غايبة عننا ولازم نعرفها..الموضوع ده فيه إنّ.”

لم يكن موسى بحاجة إلى سماع ذلك،فقد كان الشعور ينهش داخله منذ اللحظة الأولى،التفت نحو كارم،وعينيه تضيقان بقلق لم يستطع إخفاءه،ثم أردف بنبرة تحمل استياءً ممتزجًا بالخوف:

“ما هو الحاجة دي عمالة تدور في دماغي من ساعتها بس بحاول أطردها…وفي نفس الوقت وجود الموبايل هنا ما يدلش غير على الحاجة دي.”

كان يحاول التمسك بأي خيط منطقي،لكن كل الطرق كانت تؤدي إلى نفس الاحتمال الذي لا يريد أحدهم التفكير فيه…هو أن غيابها عنهم ليس بإرداتها.

تدخل حسن،محاولًا الحفاظ على توازنه وسط هذه الفوضى،مرددًا برتابة:

“مش لازم نروح لأسوأ احتمال بالطريقة دي.”

لم يعد موسى قادرًا على كبح قلقه،فانفجر بانفعال مكبوت:

“ما هو مفيش غير الاحتمال ده يا حسن! التليفون ده هيبقى وصل لهنا إزاي؟! بيمشي لوحده يعني؟!”

ساد الصمت للحظة،قبل أن يتنهد حسن محاولًا كبح أي تصعيد،فقد كان يعرف أن القلق سيطر عليهم جميعًا،لكن الذعر لن يفيدهم الآن،لذا أردف بصوت أكثر هدوءًا،لكنه حازم:

“أنا مدرك اللي بتفكر فيه يا موسى بس إحنا لازم نهدى ونفكر بالعقل،من رأيي نتقسم فريقين،فريق هينزل الحارة ويسأل هناك،جايز حد يكون شافها أو لاحظ حاجة غريبة تفيدنا،والفريق التاني يسأل المحلات اللي على الطريق هنا،جايز حد لاحظ حاجة أو الكاميرات سجلت حاجة كده ولا كده،واللي يوصل لأي حاجة يبلغ التاني فورًا.”

نظر إليهم جميعًا،وعيناه تنتقل بين وجوههم المتوترة ثم سأل بجدية:

“ها…قولتوا إيه؟”

تبادلوا النظرات فيما بينهم،ثم عادوا ونظروا صوب حسن،ليقطع سامي الصمت بنبرة واثقة لكنها تحمل قلقًا مستترًا:

“نتقسم…أنا وموسى وأنت،هنروح نقدم بلاغ في القسم وبعدين نرجع ونسأل المحلات والناس اللي على الطريق.”

حول نظره إلى كارم والبقية محسن ثم تابع بنبرة أكثر جدية:

“وأنتوا تنزلوا الحارة تسألوا بطريقتكم…ولو عرفتوا أي معلومة بلغونا فورًا.”

أومأ الثلاثة برأسهم،دون أن ينبسوا بكلمة،فبادلهم سامي الإيماءة ثم زفر بخفوت وهو يقول:

“توكلنا على الله…ربنا يسترها…يلا!”

لم يكن هناك وقت لمزيد من التفكير أو القلق،فقط التحرك هو ما يهم الآن.

توجه موسى نحو سيارته بخطوات سريعة وسامي وحسن خلفه،صعدوا إليها وأغلقوا الأبواب دون تردد،بينما توجه كارم نحو دراجته ليصعد خلفه كل من محسن وحسين.

وما هي إلا لحظات معدودة،حتى كانت المحركات تهدر بصوت مرتفع،وكأنها تعلن بدء سباق ضد الزمن،انطلقوا بسرعة كأن الأرض نفسها تدفعهم للأمام،ولم يتركوا خلفهم سوى الغبار المتطاير…وقلوبهم التي تنبض بقلق لا يعرف الراحة،وخاصة ذلك الحبيب وذلك الشقيق.

_________________

مع مرور الوقت…

كان الطابق الثاني يغرق في أجواء الكآبة،تملؤه الوجوه الشاحبة والعيون الممتلئة بالقلق،حيث اجتمعت النساء والأطفال بعد انتشار الخبر،ليصبح المكان أشبه بمأتم صامت.

أتت سهير مع بناتها،وكذلك زوجات أبناء العائلة وأطفالهن،يتهامسون بين الحين والآخر بينما تتسع دائرة القلق مع مرور الوقت.

أما في الشرفة،فقد استقر جسد محمد على مقعد خشبي،عيناه تراقبان الطريق أسفله  حيث تتحرك الأقدام في توتر،تتزايد مع الوقت وتسرع أكثر فأكثر،وكأنها تبحث عن شيء لا تعرف إن كانت ستجده.

تولى كارم والتوأم البحث منذ البداية،يجوبون أزقة المنطقة كما اتفقوا،وسرعان ما انضم إليهم أبناء العائلة،بلال وعزت وكريم،الذين تركوا أشغالهم وأتوا على الفور بمجرد سماعهم الخبر.

سألوا أصحاب المحلات والمارة،نقّبوا في الوجوه،بحثوا عن أي ضيف غريب مرّ بالمكان،عن أي حدث مريب منذ الصباح…لكن لا شيء.

مرّت ساعة كاملة من الركض واللهاث،حتى وقف كارم برفقة التوأم أمام أحد المتاجر،كان قد سأل صاحبه للتو،لكنه لم يحصل على أي معلومة ذات قيمة.

زفر بقوة ورفع يده إلى رأسه يعبث بخصلاته بانفعال قبل أن يقول بإحباط:

“أنا حاسس إننا بنلف في دايرة مقفولة،بنوصل لنفس النقطة كل مرة!”

رفع حسين كفه ومسح على وجهه بإرهاق،بينما قال  محسن بنبرة ضجر:

“سألت كل واحد في المنطقة وما حدش شاف حاجة،لو كان فيه غريب عدّى من هنا كانوا لاحظوه، بس ولا أثر لأي حاجة!”

ألقى كارم نظرة على الشارع الممتد أمامه،مرر عينيه على المحلات والمنازل،تأمل المشهد للحظات قبل أن يقول باستغراب ممزوج بالاستياء:

“أنا مش فاهم إزاي فاتحين محلات زي دي ومستخسرين يحطوا كاميرا في مكان عدل!”

رد عليه حسين بحنق:

“هما بيحطوا الكاميرات جوه المحل مش بره،لو كان حد مركّب واحدة برا كان ممكن نلاقي حاجة تفيدنا!”

ساد الصمت للحظات،حتى ابتسم محسن فجأة،وكأن فكرة قد لمعت في ذهنه،فهتف بحماسة:

“أنا عارف مكان كاميرا،وواثق إنها سجلت حاجة!”

التفت الجميع إليه بترقب،فسأله كارم بحدة:

“فين؟”

ازدادت ابتسامة محسن دهاءً قبل أن يجيب بكلمة واحدة:

“توحه.”

تشنج وجه كارم للحظة،كأن الاسم استثار فيه ذكريات أو شكوكًا،لكنه سرعان ما ابتسم هو الآخر وقال بحماس:

“صح،مفيش غيرها…يلا بسرعة نروح لها!”

وبلا أي تردد،انطلقوا معًا كأن شيئًا ما في الداخل كان يدفعهم للحركة أسرع،وكأن تأخرهم لدقيقة أخرى قد يعني ضياع الفرصة للأبد،كانوا يتمنون في أعماقهم أن تكون هذه الخطوة هي المفتاح،أن تكون الخيط الذي يقودهم للمفقودة.

_________________

على الجهة الأخرى…

كان الثلاثة لا يزالون يجوبون الشوارع_بعدما انتهوا من تقديم البلاغ للشرطة_انسابت السيارة عبر الطرقات كما لو كانت تفتش بين الظلال،تبحث عن خيط، أي خيط يقودهم إليها، كانوا يتوقفون عند محطات الوقود،أمام المتاجر الكبرى،يتابعون اللقطات التي سجلتها الكاميرات،يحدقون في الشاشات بعينين مرهقتين،يطاردون أي تفصيلة،أي حركة غير مألوفة قد تمنحهم الأمل في الوصول إليها.

لكن الدقائق تمر،والفراغ يزداد.

على مقعد السائق جلس هو،كان يضغط بإحدى يديه على المقود،بينما الأخرى مستندة إلى صدره،كأنها تحاول تهدئة نبضات قلبه التي باتت تضرب في ضلوعه بقوة، الهواء من حوله صار ثقيلًا،يضغط على صدره،يهدده بخنقه في أي لحظة، كلما تأخروا دون أن يعثروا عليها.

“ماذا لو كانت في خطر؟ ماذا لو احتاجته الآن ولم يكن هناك؟”

كان عقله يرفض التفكير في السيناريوهات الأسوأ،لكنها كانت تفرض نفسها عليه كوحوشٍ تتربص به.

إنها فيروز.

ليست فقط زوجته،ولا فقط حبه الأول…إنها روحه.

كيف يمكن للحياة أن تستمر دونها؟ كيف يمكنه حتى استيعاب فكرة أنها قد تكون في مكان ما،وحدها، خائفة، وهو لا يستطيع الوصول إليها؟

أما سامي،الذي كان يجلس بجانبه،فقد بدا هادئًا ظاهريًا لكن أصابعه التي انقبضت بشدة داخل راحته كانت تكشف عكس ذلك، كان يحاول أن يتمالك نفسه،أن يبقى قويًا، لكنه داخله كان ينهار بنفس القدر.

إنها

شقيقته

توأم روحه،الجزء الأجمل في حياته.

لطالما شعر بها دون أن تحتاج إلى النطق،فهم صمتها قبل كلماتها،كان يعرفها كما يعرف نفسه…والآن،لا يعرف أين تكون،أو كيف تشعر.

ابتلع موسى ريقه بمرارة،وأغمض عينيه للحظة قبل أن يعود بنظره إلى الطريق أمامه،ثم سأل بصوت مبحوح،يوشك أن يخذله:

“تفتكر حصلها حاجة؟”

لم يجد سامي إجابة لثانية،تلاقت أعينهما، وكان الصمت بينهما مليئًا بما لا يقال،قبل أن يشيح سامي بنظره،يتنهد ببطء،ويقول بصوت منخفض لكنه محمّل برجاء أكثر منه يقينًا:

“تفاءل…إن شاء الله خير.”

خيم الصمت عليهم من جديد،صمت لم يكن مجرد غياب للكلمات بل كان ثقيلاً،مشحونًا بكل ما لم يُقال، لم يكن هناك حاجة للكلام،فالخوف كان يملأ السيارة،يتغلغل بينهم كضيف ثقيل لا يريد الرحيل.

وسط هذا السكون،مرر حسن أنظاره عليهما،ثم تنفس بعمق قبل أن ينبس بصوته الرخيم،كأنه يلقي بطوق نجاة وسط بحر من القلق:

“قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.”

تردد صدى كلماته داخل السيارة،كأنها لم تكن مجرد آية بل رسالة أراد أن يوصلها إليهما،

لم يحتج الاثنان إلى تفسير،فقد تبادلا نظرات صامتة قبل أن ينطقا معًا،بصوت واحد نابع من الإيمان أكثر من التلقين:

“صدق الله العظيم.”

أحسّا بشيء من الطمأنينة يتسلل إلى قلوبهم رغم كل شيء،وكأنهم كانا بحاجة إلى هذا التذكير ليعيدوا ترتيب أفكارهم ويثبتوا أقدامهم على طريق التوكل..لا الخوف.

زفر حسن بهدوء ثم قال برتابة:

“توكلوا على الله، خير بإذن الله.”

زفر كلاهما ببطء،كأنهما يحاولان طرد التوتر الذي خنق صدريهما كأن هذا النفس العميق هو الطريقة الوحيدة لاستعادة بعض السيطرة وسط الفوضى التي تحيط بهما، تبادلا نظرة صامتة،نظرة حملت كل ما لم يستطيعا قوله ثم همسا معًا بصوت خافت لكنه ممتلئ باليقين:

“ونِعْمَ بالله.”

تردد صدى كلماتهما داخل السيارة،وكأنه منح المكان دفئًا لم يكن موجودًا قبل لحظات. لم يتلاشَ القلق تمامًا،لكنه أصبح أكثر احتمالًا، ربما لأنهما أدركا أن الأمر لم يعد بأيديهما،وأن كل ما يمكنهما فعله الآن هو المضي قدمًا…والتوكل على الخالق _عزّ وجل_.

مرّت دقائق أخرى من الصمت،بينما تتحرك السيارة ببطء على الطريق، تتنقل أعينهم بين جانبيه، يفتشون عن أي كاميرا مراقبة قد تكون سجلت شيئًا، أي تفصيلة صغيرة قد تقودهم إلى فيروز، لكن كل شيء بدا كأنه متآمر على إخفاء الحقيقة،وكأن المدينة نفسها ترفض أن تمنحهم الإجابة.

وفجأة،قطع صوت رنين الهاتف هذا السكون المشحون، التفت موسى سريعًا إلى الشاشة في السيارة،رأى اسم المتصل ثم مرر يده ليجيب على المكالمة القادمة من عمه فاروق:

“أيوه يا عمي.”

جاءه صوت فاروق على الجهة الأخرى،محمّلًا بالقلق:

“وصلت لحاجة يا موسى ولا لسه؟”

حرك موسى رأسه بيأس وقال بانفعال طفيف:

“للأسف لسه،مفيش أي فايدة من اللي بنعمله حرفيًا،كل اللي وصلناله تلفونها وبس.”

ساد الصمت للحظة على الطرف الآخر،قبل أن يرد فاروق بتوجس:

“وصلتوا لتلفونها بس إزاي؟ ده معناه إن في حاجة…”

قاطعه موسى بنبرة مشحونة:

“بالظبط يا عمي،في حاجة وحشة حصلت.،في احتمالين مالهمش تالت…ياإما تلفونها اتاخد منها وده احتمال بعيد…”

توقّف قليلًا،وشَدّ قبضته على عجلة القيادة،شعر بأن الهواء يضيق في صدره،ثم تابع بصوت هادئ لكنه مفعم باليأس:

“يا إما…هي اللي اتاخدت يا عمي.”

ساد صمت ثقيل للحظة،ثم جاء صوت فاروق أكثر جدية هذه المرة:

“طب أنتوا قدمتوا بلاغ؟”

“آه قدمنا.”

“كويس،أنا هوصى عليكم ضابط أعرفه وإن شاء الله خير، بس أهم حاجة دلوقتي إنك لو وصلت لأي حاجة تبلغني على طول..مفهوم؟”

“حاضر.”

“تمام…حاول تهدى وإن شاء الله خير يا بني.”

انتهت المكالمة عند هذا الحد، وعاد موسى للغرق في قلقه من جديد،كأن كل ما حوله يتلاشى ولا يبقى سوى أفكاره التي تنهشه بلا رحمة، لم يلبث أن يلتقط أنفاسه حتى صدح صوت رنين هاتفه من جديد، قطع شروده كالسيف، جعل قلبه يقفز في صدره للحظة…نظر إلى الشاشة بسرعة،وهذه المرة كان المتصل

كارم

.

ضغط على زر الإجابة فورًا،متشبثًا بأي أمل،ورد بلهفة تكاد تخترق الهاتف:

“أيوه يا كارم،وصلتوا لحاجة؟!”

أتتهم كلمة واحدة فقط، مختصرة لكن غامضة، من الجهة الأخرى:

“توحه.”

تجمد موسى لثانية ثم التفت إلى سامي الذي كان قد سمع الكلمة بدوره، تبادلا نظرة مستغربة قبل أن يقطب سامي حاجبيه،وينظر إلى الهاتف بحدّة ثم يردّ بانفعال واضح:

“مش وقت هزارك البايخ خالص يا كارم!”

لكن لم يكن الأخير ليمزح في مثل هذا الوضع،فجاءهم صوته ثابتًا وإن لم يخلُ من حماس خفي:

“هزار إيه بس يا باشا؟ بقولك توحه! توحه حبيبتنا،أحسن كاميرا مراقبة في المنطقة! الست اللي بيتها جنب بيتك يا سيمو،واللي دايمًا مراقبة الداخل والخارج،وعارفة مين دخل ومين خرج ومين اتأخر ومين استعجل!”

ساد الصمت للحظات بعد كلمات كارم،وكأنهم جميعًا بحاجة لاستيعاب ما سمعوه،وسرعان مافهموا المغزى من حديثه،فكان موسة أول من قطع هذا الصمت،حين سأل بسرعة،محاولًا الإمساك بأي خيط يقودهم إلى الحقيقة:

“طب ها؟ عرفتوا حاجة منها؟!”

تنفس كارم ببطء ثم قال بنبرة أكثر جدية:

“فتحوا ودانكم معايا واسمعوني كويس…في الأول ماكانتش راضية تتكلم خالص،لحد ما أبوك جه ورضاها بكرسي جديد تحطه في البلكونة،علشان تبقى مرتاحة وهي بتراقب، المهم بعد ماخدت اللي عايزاه قالت اللي شافته.”

سارع سامي بسؤاله،كأن قلبه لم يعد يحتمل المزيد من التمهيد:

“واللي هو إيه بقى؟!”

جاء رد كارم واضحًا:

“قالت إن في عربية غريبة جات ووقفت قدام بيتك ييجي دقيقتين كده،عربية أول مرة تشوفها في المنطقة،وكان راكب فيها اتنين رجالة غُراب عن المنطقة برضه، المهم هي بتقول إن فيروز نزلت من بيتكم،بصّت حواليها شوية،وبعدين ركبت معاهم، فضلوا واقفين دقيقة بس وبعدها العربية طارت بيهم.”

ضغط موسى على المكابح فجأة بقوة،فتوقفت السيارة في منتصف الطريق،غير عابئ بصوت احتكاك الإطارات بالأرض أو بالسيارات التي أطلقت أبواقها غاضبة، التفت إلى سامي بصدمة،وعيناه تعكسان اضطرابًا لم يمر به من قبل.

كان سامي في نفس حالته لكن صوته خرج أهدأ كأنه يحاول استيعاب الأمر:

“ده معناه إنها ركبت معاهم بإرادتها.”

جاء صوت كارم مؤكدًا، وإن لم يخلُ من الريبة:

“ده الواضح…وواضح كمان إنها تعرفهم،وإلا ما كانتش ركبت معاهم كده ببساطة.”

مرر موسى كفيه على وجهه بعنف ثم قال بحدة كأنه يرفض قبول هذا المنطق:

“بس هي تعرف مين غير اللي في الحارة؟ مستحيل تكون لحقت تتعرف على حد في الفترة دي!”

تبادل النظرات مع سامي، الذي كان صامتًا للحظة، قبل أن ينطق فجأة،ببطء كمن يصل إلى استنتاج:

“جايز تعرفهم من زمان…تعرفهم من قبل ما ترجع.”

حدّق موسى فيه وحاجباه مرفوعان بدهشة خفيفة،لكن الأهجخير أكمل بصوت أكثر جدية وكأن كل الأمور بدأت تتضح أمامه:

“ولو كده…فده معناه كمان إن

هو

يعرفهم.”

كان واضحًا من نبرة صوته من يقصد،لم يكن هناك مجال لسوء الفهم،كان يتحدث عنه

.

فهم موسى على الفور ولم يحتج إلى تفسير إضافي،لم يضِع وقتًا في الحديث بل مد يده بسرعة إلى المفتاح،وأدار المحرك من جديد،تزامناً مع قول سامي له:

“خلينا نرجع الحارة يا موسى…بسرعة.”

وهكذا،انطلقت السيارة مرة أخرى،تشق الطريق أمامها بسرعة جنونية متجهة إلى من قد يكون معه طرف الخيط المطلوب.

_________________

كان يجلس على مقعده الهزاز في الطابق الأول من منزله،ممسكًا بالجريدة الصباحية بين أنامله، كان يمرر عينيه على العناوين الرئيسية،لا يقرأها بتمعن بل يتصفحها كما اعتاد أن يفعل عندما يهاجمه الملل، مُنعزل تمامًا،غير مدرك لما يجري في الخارج من مصائب.

لكن فجأة،قطع هذا الهدوء صوت

طرق صاخب

على الباب،طرقات عنيفة،غير مألوفة..انتفض من مجلسه،وأسقط الجريدة جانبًا دون اهتمام،ثم نهض متجهًا نحو الباب وهو يهتف بصوت مرتفع:

“ثانية واحدة!”

ما إن أدار المقبض وفتح الباب حتى اندفع

سامي وموسى

إلى الداخل بخطوات سريعة،بينما بقي حسن واقفًا عند العتبة برفقة إخوته و

كارم

،الذين التقوا بهم أمام البيت قبل لحظات.

وقف سامي أمام والده مباشرة بملامح متوترة،بينما خرج صوته جاداً رغم محاولة صبغه بالهدوء:

“فيرو تعرف مين هنا غيرنا يا بابا؟”

قطب يحيى حاجبيه،وانعقدت نظراته بدهشة واضحة، حدق في وجه ابنه مستغربًا وسأله:

“إيه مناسبة السؤال ده؟!”

زفر سامي بقوة ثم قال مباشرة بصوت حادّ كأن كل حرف منه يصفع الهواء:

“مناسبته إن بنتك مختفية من الصبح،ومش عارفين عنها حاجة غير إنها ركبت عربية مع اتنين رجالة غُراب  عن المنطقة..،ولقينا موبايلها مرمي على الطريق ومكسور.”

سقطت كلماته كالصاعقة على يحيى،لم يكن وقعها عاديًا بل جاء ثقيلاً، جعل يحيى يحدّق فيهم للحظات وكأنه لم يستوعب بعد.

تراجع يحيى خطوة للخلف،كأن الهواء ضاق فجأة حوله،هزّ رأسه نافيًا،متمتمًا بصوت متقطع،بالكاد يُسمع:

“إنت بتقول إيه…؟!”

لم يمنحه سامي وقتًا لاستيعاب الصدمة بل اندفع صوته بحدّة غير معهودة، صوت مملوء بالقلق والغضب على حد سواء:

“بقول اللي سمعته يا بابا، وياريت تجاوبني بسرعة لو سمحت! فيروز تعرف مين هنا؟ مين اللي قريب منها لدرجة إنها تركب العربية وتمشي معاه برغبتها؟”

رفع يحيى يده إلى وجهه،وكأنه يحاول تجميع أفكاره،عيناه شاردتان، وكأن عقله يركض في محاولة يائسة لتجميع أي خيط قد يساعده على الفهم، لكن لم يحتمل سامي صمته أكثر، فهتف بانفعال،بصوت جعله يبدو كأنه يوشك على الانفجار:

“جاوبني يا بابا؟!”

لكن الرد لم يأتِ سوى همسًا متلعثمًا:

“مش قادر أجمع حاجة…”

زفر سامي بعصبية،لم يكن الوضع يسمح بالمزيد من الضياع،فتقدم خطوة أخرى واقترب أكثر من والده ثم قال بصوت أكثر ثباتًا لكنه يحمل مرارة قاسية:

“لا، حاول! حياة بنتك متعلقة بيك،إحنا ما نعرفش حالتها إيه دلوقتي! حاول تفتكر…مين يعرفها؟ مين ممكن…”

توقف للحظة كأنه يخشى أن ينطق الكلمة التالية،لكن لم يكن هناك مفر، ابتلع ريقه بصعوبة ثم تابع بصوت منخفض لكنه أشد وقعًا:

“مين ممكن يأذيها؟”

اتسعت عينا يحيى،وصدى الكلمة ارتطم بجدار عقله كضربة قاسية، كررها بذهول:

“يأذيها؟!”

أومأ سامي بسرعة ثم قال دون أن يمنحه فرصة للتفكير كثيرًا:

“آه! بقولك لقينا تليفونها مرمي ومكسور على الطريق،ومن الظهر ما رجعتش،ولا نعرف عنها حاجة!”

ساد الصمت للحظات،صمتًا أشبه بذلك الصمت يسبق العاصفة،صمتًا مثقلًا بالرهبة،وبالأسئلة التي لا إجابة لها حتى الآن.

شعر يحيى بضغط هائل يجثم على صدره،فوضع يده على موضع قلبه،حاول استجماع أنفاسه الثقيلة قبل أن يتراجع خطوة إلى الخلف،وكأن الحقيقة التي يوشك على التفوه بها تزن من الثقل ما لا يستطيع حمله.

قال بصوت متقطع،بالكاد يخرج من بين شفتيه:

“هي…هي ماكانش عندها صحاب شباب،ما تعرفش شباب خالص…”

لكن صوته انخفض أكثر عند آخر كلماته،وكأنها تخنقه من الداخل ثم تابع بعد لحظة صمت مترددة،بنبرة أبطأ وكأن كل حرف يخرج منه يجر خلفه طوفانًا من الذكريات والألم:

“غيره…”

لم يحتج موسى لأكثر من هذه الكلمة ليندفع نحوه بخطوات متسارعة،وعيناه متسعتان بلهفة وريبة في آنٍ واحد،قبل أن يسأله بسرعة:

“مين؟!”

تلاقت نظرات يحيى المضطربة مع موسى للحظة ثم ابتلع ريقه بصعوبة وقال بصوت بالكاد يسمع:

“خالد.”

تشنجت ملامح موسى وضاقت عيناه بريبة قاتمة لجهله  هوية صاحب ذلك الاسم،بينما اتسعت عينا سامي على آخرهما،كأن صدمة اعتراف والده صفعته بقوة

،ثم

قال بصوت متحشرج،غير مصدق لما يسمعه:

“نفس خالد اللي أنتَ…؟!”

قاطعه يحيى سريعًا،قبل أن تكتمل الجملة،وكأن النطق بها يجعل الأمر أكثر واقعية،وأكثر رعبًا:

“آه…هي ما تعرفش غيره،بس هو ما رجعش…أو رجع؟ ماعرفش…”

تنهد بعنف،وكأنه يحاول إخراج ثقل الكلمات من صدره ثم أضاف بصوت مليء بالحيرة والندم:

“كان بيتصل بيا كتير،بس أنا ماكنتش برد…ماكنتش عارف أقوله إيه.”

لم يكن سامي مستعدًا لسماع المزيد من التردد، تشنج فكه وكأن صبره قد نفد تمامًا،وهتف بحنق متفجر، مقاطعًا حديث والده:

“وأكيد كان بيتصل بيها هي كمان! أكيد كان لسه وراها يابابا!”

كانت أنفاسه تتسارع،وغضبه يتفاقم لكنه حاول كبحه وهو يخطو خطوة حادة نحو والده، ثم قال بحدة لم تخلُ من رجاء يائس:

“اتصل بيه فورًا…رن عليه حالًا!”

ارتعشت يد يحيى وهو يخرج هاتفه من جيبه،بينما لم تفارق عيون الستة وجهه للحظة، تنفس ببطء كأنه يحاول تهدئة ضربات قلبه،ثم بدأ يقلب في قائمة الأرقام بحثًا عن الرقم الذي تجنبه طويلًا.

ضغط على زر الاتصال،ووضع الهاتف على أذنه،وانتظر…

رن الهاتف مرة…مرتين…ثلاثًا…لم يكن أحد يجيب.

تصلّب جسد موسى،وضغط أسنانه بغيظ وهو يخلع قبعته بحركة حادة،يقبض عليها بقوة كأنها السبيل الوحيد لكبح غضبه المتفجر، لم يكن يعرف من هو خالد هذا،ولماذا يربطون اسمه باسم زوجته، لكن مجرد ذكر اسمه في هذا السياق كان كافيًا ليشعل في صدره نيرانًا لم يشعر بها من قبل.

وأخيرًا،صدح الصوت من الجهة الأخرى…هادئ بشكل مستفز،لكنه مشحون بشيء خفي، شيء لا يمكن تحديده تمامًا لكنه بالتأكيد ليس جيدًا:

“أخيرًا يا عمي…أخيرًا قررت ترد.”

تشنجت قبضة موسى تلقائيًا على قبعته،بينما التقت نظراته القلقة بنظرات سامي،

الذي كان قلبه يخفق بعنف.

أما يحيى،فقد ابتلع ريقه،محاولًا أن يبقي نبرته ثابتة قدر الإمكان،رغم أن ارتجاف أنفاسه فضح ارتباكه:

“فين فيروز يا خالد؟”

ساد الصمت للحظة على الطرف الآخر،الذي ابتسم بخبثٍ قبل أن يجيب أخيرًا،بصوت كفحيح الأفعى،صوت يقطر تهكمًا وسُمًّا:

“معايا… مع جوزها المستقبلي ياعمي.”

تجمّدت الدماء في عروقهم للحظة،وتجمد الزمن معهم،بينما كان خالد في الجهة الأخرى يبتسم ببرود،يتأمل تلك المستلقية أمامه على الفراش،مكبلة اليدين والفم، ترمقه بأعين اتسعت بالشر،والدموع تسيل منها بغضب وقهر.

أما هنا،فقد اتسعت أعين الجميع بصدمة،وشعروا بأن الهواء في الغرفة أصبح أثقل،بينما انفجر يحيى بغضب لم يعهده من نفسه:

“بس فيروز متجوزة يا خالد!!”

ضحك ضحكة باردة جعلت الدم يتجمد في عروقهم أكثر قبل أن يرد بنبرة ساخرة، مشبعة بالجنون:

“ماأنا عرفت منها…بس عادي،كده كده المأذون على وصول،هكتب عليها…وبعدين أجيلكم وأطلقها من العبيط التاني.”

كانت يدا موسى ترتجفان،لكن ليس من الخوف،بل من الغضب العارم الذي تفجّر في صدره كبركان ثائر، لم يدرك متى تحركت يده،ولا كيف خطف الهاتف من بين أصابع يحيى،لكنه في اللحظة التالية كان الهاتف على أذنه،وصوته يهدر بانفعال غاضب:

“العبيط ده هيجي يكسر دماغك…وهيدفنك حيّ!…إياك،سامع؟ إياك تقرب منها!”

لم يتلقَّ إجابة مباشرة،بل جاءه من الطرف الآخر صوت ضحكة…ضحكة باردة،ساخرة، بدأت منخفضة ثم أخذت ترتفع تدريجيًا،كأن صاحبها يستمتع بتأجيج نيران الغضب في قلبه،حتى توقف فجأة ونطق بلهجة متهكمة، وهو يرمق فيروز المستلقية أمامه:

“ده اللي فضلتيه عليّا؟!…ده باينُه مجنون.”

أرادت أن تصرخ،أن ترد،أن تصب جام غضبها عليه،لكنها لم تستطع…لم يسمح لها القماش الملتفّ حول فمها،تمامًا كما لم يسمح لها الخوف والاشمئزاز المتصاعد في صدرها من هذا الوغد القذر.

لم تستطع أن تخبره أنه المجنون الحقيقي هنا..

المجنون الذي يعتقد أن بإمكانه امتلاكها بالقوة،أن بإمكانه إجبارها على شيء لم ولن يكون له الحق فيه أبدًا.

ارتجف الهاتف قليلًا في يد موسى من شدّة قبضته عليه،كان الغضب المتفجر في صدره يكاد يخرج على هيئة نيران تحرق كل شيء أمامه، لم يعد يرى،لم يعد يسمع سوى أنفاسه الغاضبة وصوت ذلك الوغد على الطرف الآخر وهو يتحدث وكأن فيروز

ملكٌ

له،وكأنها

شيءٌ

يمكنه امتلاكه.

صرخ بصوت زلزل المكان حوله:

“هجيلك…أقسم بالله لأعرف مكانك وأجيلك،حتى لو كنت تحت الأرض! وساعتها مش هرحمك،وحياة مراتي ما هرحمك!”

على الجهة الأخرى،كان خالد يضغط على أسنانه بقوة حتى كادت تُطحن بعضها ببعض،الدماء تغلي في رأسه،كرهه لموسى يزداد في كل ثانية،كرهه لأنه خطفها منه،كرهه لأنها اختارته بدلاً منه.

قال بصوت متشنج،محمّل بالجنون والغضب الهائج:

“مراتك؟! مراتك أنتَ؟! لا…دي مراتي أنا،بتاعتي أنا،ليا أنا وبس! ماحدش ليه حق فيها غيري…كلها كام دقيقة وتبقى من حقي رسمي!”

كانت فيروز تشعر بالغثيان من كلماته،من صوته،من ابتسامته التي تحمل جنونًا مرعبًا، حدّقت فيه بأعينها المليئة بالرفض والاشمئزاز،تحاول بعناد أن تخفي ارتجافة جسدها، أراد أن يراها خائفة،أن يراها ضعيفة، لكنها رفضت منحه هذا الرضا.

تقدم نحوها ببطء،وعيناه تلمعان بشيء مريض،شيء جعل أنفاسها تتسارع رغمًا عنها،لكنه لم يهتم بذلك،بل مال برأسه قليلًا وهمس بصوت خافت مغموس بالسعادة المهووسة،ولايزال الهاتف بالقرب من أذنه:

“سامعة يا زوزة؟ أنا وأنتِ هنتجوز كمان شوية…وبعدها هنسافر،هنكمّل حياتنا هناك مع بعض،ومش هنرجع هنا تاني أبدًا.”

ابتلعت ريقها بصعوبة،كأن حلقها صار صحراء جافة،بينما تسللت القشعريرة إلى عمق جسدها،لا من البرد بل من الرعب والاشمئزاز، أنفاسه الساخنة لامست وجهها،محمّلة برائحة الجنون والهوس،فشعرت برغبة عارمة في التراجع،في الهروب،في الاختفاء من هذا المكان الذي صار زنزانة مظلمة تسحقها…لكنها لم تستطع.

أما موسى،فكانت يده قابضة على الهاتف بقوة حتى أبيضّت مفاصله،وكأن ضغطه عليه قد يعيده إليها،قد يسحبها من براثن هذا المسعور.

ثم سمعها…سمع أنفاسها المضطربة…

شهقة صغيرة،بالكاد مسموعة،لكنه عرفها فورًا،ميزها على الفور.

شعر أن قلبه ينفجر،أن روحه تتمزق وهو لا يستطيع الوصول إليها،جف حلقه،واحترقت عروقه بنار العجز،قبل أن يهمس أخيرًا،بصوت مفطور،مكسور،لكن مشبع بالحب والرجاء:

“فيروز!”

كان اسمها،لكنه حمل كل شيء…كل الشوق،كل الحب،كل الرعب،كل الألم،وكل الوعد…وعدٌ بأنها لن تكون وحيدة،بأنه سيجدها…حتى لو كان الثمن حياته.

#يتبع…

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق