رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الرابع والستون
الفصل الرابع والستون(ما لا يُشترى)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
و
ماتنسوش الدعاء لإخوتنا في الدول العربية.
نبدأ بسم الله…
________
-أُحبُّ بدايةً فيها حياةٌ *** تُجدِّدُ في الفؤادِ هوىً جميلا
”
محمود درويش
”
____________
كان البهو يعجّ بالأنفاس المتلاحقة، والأنظار كلها مسمّرة على الطاولة حيث جلس المأذون متأهّبًا، يفتح أوراقه بعناية في انتظار لحظة البدء.
الحشود الملتفّة حوله بدت كبحرٍ صاخب من الوجوه المتلهّفة، تتأرجح بين الدعاء والفضول، وبين نظراتٍ حائرة نحو الدرج، حيث يفترض أن تهبط العروس بخطواتها الأولى نحو مصيرها الجديد.
لكن عوضًا عن ذلك، كان المشهد مختلفًا تمامًا…
ظهرت على الدرج صورتان مألوفتان،
دلال
و
ضحى
، تهبطان معًا بوجوهٍ متماسكة تخفي ما يعتمل في دواخلهما.
ساد البهو لحظة صمتٍ مربك، اختلط فيها الانتظار بالدهشة، قبل أن تشق صوت فاطمة الناعم أجواء الترقّب وهي تسأل:
“أُمال فين العروسة؟”
تبادلت دلال وضحى النظرات لثوانٍ… وأخيرًا، ثبتت دلال بصرها على الحاضرين، وعيناها تعكسان مزيجًا من التردّد والحسم، ثم نطقت بجملةٍ وقعت كالحجر في ماء راكد:
“العروسة مش نازلة…”
لحظة واحدة كانت كافية لتجمّد الوجوه وتقطع الأنفاس…
ارتج المكان بصدمة صامتة، وسارع توفيق، وقد غلّف صوته قلق واضح، يسأل بلهفة:
“مش نازلة إزاي؟ هي كويسة؟”
توجّهت كل الأنظار نحو دلال وضحى، غير أن عينَي كارم كانتا أشدّ وطأة، تحدّقان في شقيقته كأنهما تستجوبانها بصرامة دون كلام.
وبسرعة بادرت ضحى بالجواب، لتخفف وقع اللحظة:
“هي كويسة، ماتقلقوش… إحنا والبنات بس قررنا إننا ماننزلش دلوقتي.”
وقبل أن تتسع الشكوك أكثر، أضافت دلال بابتسامة مرنة، بصوتها الذي حاول أن يكسو الجو بخفة:
“هننزل لما يتم الجواز… هنتفرج من فوق كلنا، ولما ييجي وقت التوقيع، هننزل مع العروسة.”
ارتفعت الحواجب دهشة، وبدت ملامح الحيرة على الوجوه، وقد سألت جنة، محاولة أن تجد منطقًا فيما سمعت:
“طب وليه فوق؟ ما تنزلوا تقفوا معانا تحت.”
ردت دلال وهي ما زالت تحتفظ بابتسامتها الناعمة وإن لم تخلو من دهاء لطيف:
“لأ… المشهد من فوق أحلى، وبعدين احنا حابّين نعمل حاجة مختلفة كده، فكرة جديدة.”
لم يقنع التفسير الكثيرين، وتسللت الشكوك إلى قلوب البعض، وعلى رأسهم كارم الذي لم يفارق ضحى بنظراته المتسائلة، لكن توفيق بعد أن تبادل مشورة سريعة مع جنة وكارم وعائلته، أومأ بالموافقة أخيرًا.
حينها فقط، ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهي دلال وضحى، ابتسامة تحمل في طياتها سرًّا لا يعلمه سواهما، ثم استدارتا بخطواتٍ وئيدة وصعدتا إلى الأعلى، تاركتين خلفهما جوًا مثقلاً بالريبة والانتظار، كأنّ الصمت يخيّم على القلوب قبل الألسنة.
لكن هذا الثقل لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما اخترقه صوت محسن، الذي ارتفع عاليًا وهو يحاول أن يردّ الروح إلى الأجواء:
“فيه إيه يا جماعة؟ إيه السكوت ده؟ أنا حاسس الجو نايم شوية… محتاجين نسمع زغرودة تهز الدنيا!”
انطلقت ضحكات متفرقة من بين الحضور على دعابته، وسرعان ما لبت النساء النداء، فتداخلت أصوات الزغاريد العالية، حاملة معها موجاتٍ من البهجة التي سرعان ما غمرت المكان.
ارتج البيت بأصداء الفرح، حتى وصل صداها إلى الطابق العلوي حيث ميرنا والفتيات، اللواتي أسرعن إلى باب الغرفة وخرجن متجمّعات عند الدرابزين، يلتصق بعضهن ببعض في صف واحد، يرقبن المشهد من الأعلى.
وفي الأسفل، كان صوت المأذون ينساب كنسيمٍ مهيب، يملأ القلوب بمزيجٍ من الرهبة والسكينة، معلنًا رسميًا بداية عقد القران… اللحظة التي اجتمع لها الجميع، لحظة تختلط فيها الأنفاس المرتبكة بخفقاتٍ متسارعة لا يعرف أصحابها هل هي من الفرح أم من شدة الترقّب.
الرجال والنساء اصطفوا في الأسفل، يحيط بهم الأطفال بضحكاتٍ صغيرة تنسج خيوطًا من البراءة وسط جوّ يغمره الاحتفال.
أما في الأعلى، فقد اجتمعت الفتيات متلاصقات عند الدرابزين، عيونهن تلمع شغفًا وابتساماتهن لا تكاد تفارق وجوههن.
وبينهن، وقفت ريناد على مسافةٍ قليلة، ليست بعيدة جدًا ولا قريبة كفاية، تتابع المأذون كما يفعلن، لكن ملامحها لم تكن كسائر الوجوه: قسوة متوارية خلف ستار من الثبات، وعينان يختبئ فيهما بريق خبث ودهاء.
وما هي إلا دقائق حتى انطلقت الكلمات الرسمية، يتبع توفيق المأذون جملةً بجملة، وكارم يردد بدوره، والشاهدان سامي وموسى يؤكدان حضورهما.
لحظة تلو أخرى كانت تدنو من ذروتها، حتى ختم المأذون بصوته المجلجل الذي اخترق القلوب:
“بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير.”
انفجر المكان بالفرح، ابتسامات واسعة تتفتّح على الوجوه، وأصوات التهاني تتعالى من كل صوب، أيدٍ تتسابق نحو العناق والمصافحات، وزغاريد تشق الهواء لتعلن اكتمال الفرح.
وسط هذا المشهد، كان كارم في الأسفل، يتلقى التهاني بوجهٍ متألق، عيناه تلمعان بفرحةٍ صادقة، بينما في الأعلى، تحيط الفتيات بميرنا، يعانقنها ويباركن لها بعيونٍ دامعة من السعادة.
لكن بعيدًا قليلًا عن دائرة الفرح، ارتسمت على شفتي ريناد ابتسامة خبيثة، أعمق وأبرد من أن تكون صادقة.
مرّرت نظراتها ببطء بين كارم الغارق في التهاني، وميرنا التي تتوسّط أحضان صديقاتها، وكأنها تزن اللحظة بميزانٍ لا يعرف الرحمة… لحظة فرحهم، التي تراها هي بداية خطتها لانهيارهم.
ظلت تتابع الفتيات وهن يتبادلن الابتسامات والتهامسات، حتى انسحبن ببطء وابتعدن عن ميرنا، تاركات لها مساحة خالية
عند الدرابزين وكأنهن منحنها إذنًا غير معلن بالظهور.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها، ثم خطت بثقة نحو الدرج، تنزل بخطوات محسوبة، كل خطوة منها تحمل وقعًا أشبه بجرسٍ خفي لا يسمعه سوى من يراقبها
،
وخلفها… وقفت الفتيات في صفّين متوازيين على جانبي الدرج، يبدين كحاشيةٍ ترافق ملكتها.
وفي الأسفل، كان كارم محاطًا بدائرة من أصدقائه، الضحكات تتعالى بينهم والتهاني تتقاطع، والجو يزداد صخبًا مع كل كلمة.
ومحسن، كعادته، ألقى تعليقًا ساخرًا زاد من ضحكاتهم:
“كده عندنا تلاتة متجوزين، وتلاتة سينجل بائسين.”
ضحك كارم معهم بصدق، لكن الضحكة سرعان ما جمدت في حلقه، وصار قلبه يخفق بعنفٍ غير مسبوق، حين وقعت عيناه على المشهد الذي لم يكن يتخيّله… ميرنا.
كانت تتهادى بخطواتٍ واثقة من على الدرج، جسدها مكسوّ بالسكينة ورقتها تفوح من كل التفاتة… لكن ما جعل قلبه يتوقف ويكاد يسقط من بين ضلوعه لم يكن سوى الحجاب الذي زيّن رأسها، بل روحها بأكملها.
الفستان الأبيض يكسوها بهدوء ووقار، والحجاب الأبيض يكمل الصورة، يمنحها جمالًا من نوع آخر، جمالًا صادقًا عميقًا، جمالًا يلامس الروح قبل العين.
لم تكن جميلة فقط… كانت مضيئة.
العالم كله انطفأ من حوله… لم يعد يسمع ضحكات، ولا يرى وجوهًا، ولا يشعر بوجود أحد… سوى هي، تتهادى نحوه بخطواتٍ رقيقة كأنها نُسجت من خيال.
شعر للحظة أن الزمن توقف، أنه وحده في عالم مكتمل بها وحدها…
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مزيج من الدهشة والفرح والانبهار، عيناه لم تتركا تفاصيلها.
انتبه أصدقاؤه لتغير ملامحه، فتبادلوا النظرات بدهشة، ثم التفتوا جميعًا نحو الاتجاه الذي يحدّق فيه، ليجدوا ميرنا وقد توقفت عند نهاية الدرج، والفتيات مصطفّات خلفها كجدار من الدعم والبهجة.
ابتسم البعض بدهشة، وبعضهم بسعادة، لكن الأغلبية لمحت ما في عيني كارم… ذلك اللمعان الذي لا يراه إلا عاشق.
حينها فقط، خطا كارم للأمام، يتقدّم نحوها، بخطواتٍ تحمل بين كل ثانية وأخرى معنى جديدًا من السعادة والدهشة، وعيونه مشتعلة بكل معاني الفرح التي لم يعرفها من قبل.
وأخيرًا توقف أمامها، وسط أنظار الجميع الذين التفتوا بغير وعي ليتابعوا ما يحدث…
القاعة التي كانت تضجّ بالضحكات والتهاني لحظة واحدة، بدا كأنها صمتت في إجلال للمشهد.
أخذ كارم نفسًا عميقًا كأنه يحاول أن يصدّق ما تراه عيناه، ثم تمتم بصوت منخفض لكنه وصلها بوضوح، محمّلًا بدهشة صافية:
“إنت… إزاي؟”
رمشت بعينيها في ارتباك، حاجباها انعقدا بخفة محاولة أن تفهم ما يقصده، فتابع هو فورًا، كأن الكلمات تقفز من قلبه قبل لسانه:
“لا بجد… إزاي؟ إزاي ممكن حد يكون بالجمال والرقة دي؟”
ابتسمت بخجل، والدمعة تلمع في عينيها لكنها قاومتها بضحكة صغيرة، رقيقة، لكنها كانت كفيلة بأن تسقط ما تبقّى من حصونه.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مذهولة، اقترنت بلمعة في عينيه، ثم أضاف بصوت خافت أقرب إلى الاعتراف:
“أقسم بالله… إنتِ أيقونة.”
كأن الكلمة لم تخرج منه بل من أعماق قلبه، فارتجف شيء في داخلها، وارتفعت حرارة وجنتيها في خجلٍ لم تستطع إخفاءه.
وهنا انطلقت ضحك خافتة من دلال، ثم قالت بصوتٍ مرح أخرج الجميع من حالة الصمت:
“علشان كده خلينا نزولها بعد كتب الكتاب… عارفين حضرتك مابتعرفش تمسك لا لسانك ولا نظراتك، ونوفّر على روحك شوية ذنوب.”
ارتفعت موجة من الضحكات الخفيفة بين الحضور، فيما غمز بعض الأصدقاء لكارم مازحين.
أما هو، فقد أطرق برأسه للحظة ضاحكًا بدوره، قبل أن يرفع عينيه إليها مجددًا، ونظراته مشدودة إليها كأنها لا تعرف الفكاك.
“كويس إنكم عملتوا كده…”
قالها بصوتٍ صادق، لم يخلُ من الانبهار، ثم أضاف مبتسمًا:
“ماكنتش هقدر أقاوم الحلاوة دي.”
ضحكت ميرنا بخجل، وأسدلت نظراتها إلى الأرض للحظة، قبل أن تعود وترفعها نحوه وقد غلبتها بسمة حية.
وبهدوءٍ خالٍ من أي تردّد، مدّ كارم يده إليها… لم يكن مجرد حركة عابرة، بل دعوة علنية أمام الجميع، دعوة لمشاركة الطريق من هذه اللحظة.
ترددت عينُها في يده للحظة، ثم وضعت يدها في يده، يد صغيرة تستقر في كفّه بطمأنينة عجيبة.
ابتسم كارم وهو يشد على يدها بخفة، ثم خطا بها بخطوات واثقة نحو الطاولة حيث يجلس المأذون، والأنظار جميعها تتبعهم… كأنهما يسيران في ممرّ من نور.
وهناك، أمام أعين الجميع، جلسا إلى جوار المأذون… الأوراق البيضاء التي تحمل ثِقَل العهود كانت ماثلة أمامهما، والقلوب تخفق مع كل حرف يُكتب وكل بصمة تُوضع.
مدّ كلٌ منهما يده ليوقّع… ثم ليضع بصمته، وكأنها ليست مجرد حركة، بل ختم أبدي على قصة تُكتب الآن بمدادٍ لا يُمحى.
وما إن انتهيا، حتى تعالت التصفيقات من كل جانب، زغاريد اخترقت القلوب وأشعلت الفرح في الأرجاء.
لكنهما، وسط ذلك الضجيج الجميل، لم يريا سوى بعضهما… نظرات متشابكة تحمل في داخلها سعادة لا توصف، كأن العالم بأسره قد انسحب، ولم يبقَ إلاهما.
ابتسم كارم ابتسامة عريضة، ثم رفع يدها بين يديه بحركة بطيئة تحمل من الحنان أكثر مما تحتمل اللحظة.
مدّ يده بخفة، نزع خاتمها من يدها اليمنى ببطءٍ مقصود، ثم ثبّته في يسراها، ابتسمت هي بخجل، وعيناها تلمعان كطفلة وجدت لعبتها المفضلة، ثم أعادت له الحركة نفسها، نزعت خاتمه من يده اليمنى، وغرسَته في اليسرى بحنوٍّ صامت.
حينها رفع رأسه إليها، وأماله قليلًا وهو يقول بنبرةٍ امتزج فيها المزاح بالحقيقة الصافية:
“كده أعلن إني اتخطفت رسمي.”
انفجر المكان بالضحكات والزغاريد، بينما احمرّت وجنتاها في حياءٍ رقيق زادها جمالًا.
اقترب هو منها ثانية، أمسك يدها من جديد، وأطبق عليها بضغطٍ خفيف يوحي بالطمأنينة، ثم مال برأسه، وطبع قبلة دافئة على ظهر يدها.
قبلة لم يرها الحضور مجرد حركة عابرة، بل إعلانًا جليًّا أن هذا العهد ليس ورقًا يُوقَّع، بل بداية حياة، طريق واحد يمشيانه معًا، وكل الخطوات لا تؤدي إلا لبعضهما.
رفع رأسه إليها بعد القبلة، غمز لها بمشاكسةٍ مألوفة منه، فارتفعت ضحكتها بخفةٍ عفوية، كأنها انطلقت من قلبٍ ممتلئ… ولحظتها، بدأ أفراد العائلة يقتربون واحدًا تلو الآخر ليباركوا من جديد، وكأن الفرح لا يريد أن ينتهي.
كانت البداية مع عائلة كارم ثم توفيق، وتبعتهم جنة… التي توقفت أمامهما.
حدّقت بكارم للحظة، وابتسامة رقيقة تستقر على ثغرها، ثم قالت بصوتٍ هادئ تلمع فيه محبة صافية:
“مبروك.”
أومأ لها كارم وهو يبادلها ابتسامة صادقة:
“الله يبارك فيكِ.”
التفتت نحو ميرنا، وبكل الحنان الذي يحمله قلبها، همست لها:
“مبروك يا حبيبتي.”
ترددت ميرنا لثوانٍ، عيناها مثبتتان على جنة بصمتٍ مُربك، شعرت أن شيئًا عالقًا في حلقها، شيء أقرب إلى غصّة قديمة تمنعها من الانطلاق… لكن عندها فقط، التقطت إيماءة كارم، ابتسامة مشجّعة خرجت منه كأنه يقول بلا صوت:
“فقط اتبعي قلبك.”
استسلمت ميرنا لتلك الإشارة، فارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة، خجولة، ثم همست بصوتٍ بالكاد يُسمع:
“الله يبارك فيكِ.”
في تلك اللحظة، لمعت عينا جنة أكثر، كأنها كانت تنتظر هذه اللحظة منذ وقتٍ طويل…
لم تمنحها فرصة للتراجع، فتحت ذراعيها واحتضنتها بقوة، احتضانًا دافئًا، صادقًا، يحتويها كأم وصديقة في آن واحد، ثم همست في أذنها، بصوتٍ مغموس بالحنان:
“مبسوطة لكِ أوي… ربنا يسعدك ويجعل أيامك كلها حلوة زي النهاردة.”
تجمدت ميرنا، وكأنها لم تتعلم بعد كيف تستسلم لقُربٍها من جديد… لحظة صراع داخلي بين قلبٍ يريد وعقلٍ يتردد.
ثم ببطء، كأنها تسلّم نفسها لأول مرة… استسلمت.
بادلتها العناق، لا مُجاملة ولا تردّد… بل بكامل إرادتها، وقد كان هذا أول عناقٍ تمنحه ميرنا لها بإرادتها منذ زمنٍ طويل، وكأنه إعلان خفي: أن الجدار بينهما بدأ يتصدّع أخيرًا.
وبعد عناقٍ دام لثوانٍ، ابتعدت ميرنا وجنة عن بعضهما، وكلٌّ منهما تبتسم للأخرى بابتسامة صافية، كأن شيئًا في داخل الأولى انكسر ليُفتح الطريق أمام نورٍ جديد.
لكن تلك اللحظة لم تكتمل… إذ اندفعت ريناد فجأة بخطواتٍ سريعة نحو ميرنا، دون أي تمهيد، وأحاطتها بذراعيها في عناقٍ بدا قسريًا، وهي تقول بنبرةٍ مفعمة بالمبالغة:
“مبروك يا ميرو.”
تلاشت ابتسامة ميرنا دفعة واحدة، كأنها انطفأت تحت ثقل ذلك العناق.
تجمّد جسدها في مكانه، عاجزة عن رفع ذراعيها لترد، كأن روحها تقاوم شيئًا تعرف زيفه.
وريناد، من جانبها، ظلت متشبثة بها، تُكمل تمثيليتها بابتسامة عريضة تفتقد إلى الصدق، ابتسامة لاحظها كارم بوضوح، وقد ضاقت عيناه وهو يراقبها، وانقبض وجهه بضيقٍ لم يحاول إخفاءه، كأن قلبه أدرك أن وراء تلك الكلمات والعناق ابتسامة مسمومة تخفي ما هو أكثر مما تظهر.
وأخيرًا، ابتعدت ريناد عنها، كأن ثقلًا أُزيح عن صدر ميرنا، التي لم تفعل سوى أن أشاحت بنظرها بعيدًا، تتجنب مواجهة تلك الابتسامة المسمومة، لكن سرعان ما شعرت بلمسةٍ دافئة تحيط بيدها، لمسة كارم التي تحمل وعدًا صامتًا بالحماية، وحين رفعت عينيها وجدته يبادلها ابتسامة حنونة أعادت إليها ملامح الطمأنينة المفقودة.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة بدورها، نابعة من قلبها، وكأنها تشكر حضوره بصمت.
لم يفُتها ريناد المشهد، فانعكست الغيرة جليّة على ملامحها، لكن وبمهارةٍ متقنة أعادت رسم قناعها المعتاد، وابتسمت ابتسامة مصطنعة وهي تقول بنبرة خادعة:
“طالعة قمر بالحجاب.”
لم تمهلها جنة وقتًا لزرع سمّها، بل التفتت نحو ميرنا بخطوةٍ حانية، وضعت كفها على وجنتها برفقٍ أموي، وقالت بصوتٍ يغمره الدفء:
“ميرنا طول عمرها قمر… ربنا يثبتك يا حبيبتي.”
ارتجف قلب ميرنا على وقع كلماتها، وابتسمت بخفوتٍ، ابتسامة تفيض امتنانًا أكثر مما تفيض فرحًا.
وفي تلك اللحظة، تقدّم توفيق نحوها، عيناه تحملان دهشة صادقة وإعجابًا عميقًا، تأملها للحظة قبل أن يقول بنبرة يغلبها الفخر:
“فاجأتيني بالخطوة دي… بس ربنا يثبتك.”
لم تحتمل ميرنا حينها، بل ارتمت في حضن والدها، وعانقته بقوةٍ، فبادَلها توفيق العناق بكل ما في قلبه من حنوّ أبوي، يربّت على كتفها بحبٍ صادق.
أما جنة، فظلت تراقب هذا المشهد بعينين تلمعان بالعاطفة، تمرر يدها على رأس ميرنا بلمسةٍ رقيقة، كأنها تدعو لها بالخير دون أن تنطق بكلمة أخرى.
وكارم يراقب المشهد، عيناه معلقتان بوجه ميرنا، تفيض ملامحه بابتسامة صافية تنبض بالرضا والامتنان، وكأن العالم بأسره لا يساوي شيئًا أمام هذه اللحظة.
أما ريناد… فالمشهد بالنسبة لها كان خنجرًا مغروسًا في صدرها، نظراتها لم تحمل أي دفء، بل كانت تغلي غيرةً وحقدًا، تتلظى بكرهٍ لا يجد سبيلًا للخروج إلا عبر تمني الخراب.
كانت ترى في ضحكاتهم، في دفء العناق، في الطمأنينة التي تظللهم، قيدًا يخنقها كلما اتسعت السعادة حولها، تمنّت لو بإمكانها أن تمد يدها وتبدّد كل ذلك النور، أن تُسقط ابتساماتهم أرضًا، أن تقتلع فرحتهم من جذورها… لكنها تماسكت، تكتم الغليان بابتسامة مشقوقة كقناع هشّ، بينما في أعماقها تعصف نيران لا تُرى.
ثم، بخطوات بطيئة محسوبة، بدأت تنسحب من بين الحشود، كأنها ظل يتوارى عن الضوء، لم يلتفت إليها أحد، أو هكذا خُيّل لها… صعدت الدرج متسللة، خطوة بعد خطوة، حتى ابتلعها الطابق الأعلى.
كانت تظن أنها أفلتت من أعين الجميع، لكن الحقيقة… أن هناك عينًا تابعتها من البداية، عينًا لم تخطئ حركة واحدة، رصدت ارتباكها، وابتلعت ابتسامتها المزيّفة وهي تختفي عن الأنظار.
_________________
دخلت غرفتها وأغلقت الباب خلفها، ألقت بجسدها على الفراش كمن يخطط لمعركة، مدّت يدها إلى الحاسوب وفتحته ببطء، وفي عينيها بريق يقطر مكرًا.
ابتسمت بخبث وقالت بصوت هامس كمن يستمتع بلحظة انتقام طال انتظارها:
“يلا نبدأ أحلى فيلم إثارة…”
انفرجت شفتاها بابتسامة ساخرة، أصابعها راقصة فوق لوحة المفاتيح، فتحت الملف وأعدّت الرسالة، وكل شيء يسير وفق خطتها الملتوية.
لكن قبل أن تضغط زر الإرسال توقفت فجأة، ارتسم على وجهها تفكير ماكر آخر وهمست لنفسها:
“لأ… الأحلى نشوف رد فعله لايف.”
أغلقت الحاسوب بعنف، ونهضت، خطواتها محمّلة بنشوة الانتصار الوشيك، عيناها تلمعان كالشرر… لكن، وقبل أن تضع قدمها خارج العتبة، ارتطمت بجدار بشري أمامها.
رفعت بصرها… فإذا بها تصطدم بوجه جنة، الصارم الهادئ في آن، والواقف كحاجز لا يمكن تجاوزه.
تسارعت أنفاس ريناد، واتسعت عيناها بدهشة وغيظ:
“في إيه؟!”
لم تُجب جنة مباشرة، بل دفعتها إلى الداخل دفعة قوية جعلت قلب ريناد يخفق بعنف، ثم أغلقت الباب خلفها بإحكام، قبل أن تتقدم منها بخطوات ثابتة ونبرة باردة كالسكين:
“كنت متأكدة… مستحيل اليوم يعدي على خير من غير ما تحاولي تنكدي علينا، خصوصًا على ميرنا.”
ارتبكت ريناد، ومحاولات الدفاع تتخبط على لسانها:
“أنتِ بتقولي إيه؟ إنتِ فاهمة غلط..”
لكن يد جنة كانت أسرع؛ انتزعت الحاسوب من بين يديها بعنف، فتحته أمامها، والعينان تتابعان محتواه.
صمت ثقيل خيّم على الغرفة، وريناد تتجمد مكانها، شفتيها ترتجفان من الصدمة والخوف، بينما جنة تحرك رأسها ببطء وإيماءة ثقيلة كمن توقّع كل شيء منذ البداية، وقالت ببرود قاطع:
“زي ما اتوقعت.”
لهثت ريناد محاولة إنقاذ الموقف:
“استني.. أنا كنت..”
لكنها لم تكمل؛ ففي لحظة خاطفة ألقت جنة بالحاسوب أرضًا بكل قوتها، ليتحطم بينهما في ارتطام مدوٍّ.
انكسرت الشاشة وتبعثرت القطع على الأرض، فيما شهقت ريناد كأنها ترى أمنيتها كلها تتحطم معها، اتسعت عيناها بالذعر، أما جنة فاكتفت بالصمت، ووقفت أمامها كجدار شاهق، عيناها تلمعان بصرامة لا تحتمل جدالًا.
وما هي إلا ثوانٍ من الصمت المطبق، كانت ريناد خلالها تحدّق في بقايا حاسوبها المتناثر على الأرض، عيناها متسعتان، ملامحها مشدودة بين الذهول والخوف، كأنها لم تستوعب بعد أن خطتها انكشفت وتحطمت.
رفعت بصرها فجأة، فوجدت جنة تتقدّم منها بخطوات هادئة لكنها ثقيلة، وكأن كل خطوة تحمل حُكمًا لا رجعة فيه.
توقفت أمامها، قريبة بما يكفي ليرتجف قلب ريناد من برودة حضورها، رفعت رأسها قليلًا ونطقت بلهجة صلبة، حادة لا تقبل نقاشًا ولا حتى تبريرًا:
“يومين… قدامك يومين بس علشان تمشي من هنا، مش عايزة أشوفك في البيت ده تاني.”
شهقت ريناد بصوت خافت، كادت أن تنطق، لكن جنة تابعت، تقطع عليها حتى مساحة الدفاع:
“بكرا تكلمي عمّك… وتقوليله إنك عايزة تمشي بأي حجة، وأنتِ ما شاء الله شاطرة في تأليف الأكاذيب، مش صعب عليكِ تلفّقي سبب يقنعه، أهم حاجة… إنك تختفي من هنا، مش عايزة أشوفك، ولا حتى أشوف ظلك.”
وقفت ريناد مشدوهة، محاصَرة بالكلمات كأنها قيود لا تُفكّ… وجنة فقط، بعينيها الصارمتين، أضافت ببطء قاتل وهي تقطع آخر خيط للهرب:
“ولا عايزة أشوفك قريبة من ميرنا… بأي شكل من الأشكال… ولا من كارم، ابعدي عنهم على قد ما تقدري، علشان ما أضطرش أفضحك قدام عمّك… وأخليه يشوف وش بنت أخوه الحقيقي.”
نزلت الكلمات الأخيرة كصفعة، وارتجف قلب ريناد كمن تلقّى الطعنة في كبريائها.
ثم مررت جنة عينيها عليها من أعلى لأسفل بنظرة مملوءة بالازدراء، كأنها لا ترى أمامها سوى قناعٍ مفضوح ووجهٍ مجرد من أي قيمة، وأردفت بنبرة قاطعة:
“يومين… بس.”
سقط الصمت بعدها ثقيلاً، لم يتبقَ سوى ارتجاف أنفاس ريناد وصوت قلبها المضطرب، بينما جنة استدارت بثبات، تاركة خلفها حضورًا كالجدار المنيع، كأن حكمها قد كُتب وانتهى.
والأخيرة تابعت أثر خطوات جنة حتى اختفت عن ناظريها، وفي اللحظة نفسها، تهاوى جسدها على الفراش كمن انهارت أعمدته الداخلية فجأة.
دفنت وجهها بين كفيها، وارتجفت شفتاها بمرارة مكتومة، ثم رفعت رأسها ببطء، تحدق ببقايا حاسوبها المحطم الملقى أرضًا.
طالعت الشاشة المكسورة بحسرة، وكأنها تنظر لفرصتها الضائعة، لصوتها الذي انكسر معها…
لكن فجأة، شيئًا ما بدأ يتغير في ملامحها…
تبدد الذهول شيئًا فشيئًا، وحل مكانه بريق خافت أخذ يلمع في عينيها… بريق لم يكن ضعفًا، بل نارًا صغيرة من الحقد والعناد، تكبر مع كل نبضة قلب.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة ملتوية، نصفها ألم ونصفها مكر، ثم همست بصوتٍ متقطع لكنه محمّل بوعدٍ مظلم:
“ماشي… يا مرات عمي… همشي.”
صمتت لحظة، وابتسامتها تتسع ببطء، قبل أن يشتعل البريق في عينيها أكثر، وتتابع بنبرة خافتة كمن يحلف عهدًا:
“بس… هرجع تاني.”
وألقت رأسها على الوسادة، غارقة بين مرارة الخسارة ونشوة مؤامرة جديدة تُخطط في صمت، وكأن الغرفة المغلقة شهدت ميلاد جولة أخرى من حربٍ لم تنتهِ بعد.
_________________
في الأسفل…
كانت الأجواء كما هي، الضحكات تتعالى هنا وهناك، مجموعات متفرقة تتبادل الأحاديث، والمكان يضج بحيوية خفيفة تبعث في النفس شعورًا بالبهجة.
وفي زاوية قريبة من حيث يتجمع بعض الشباب، كان الثلاثي الشهير _التوأم_ يقفون متجاورين، كل منهم منشغل على طريقته.
مرّ النادل بخطواته السريعة، وناولهم المشروبات بمهارة معتادة، تناول كل منهم كوبه، وما إن ارتشف حسن الرشفة الأولى حتى تجمد للحظة، وأبعد الكوب عن فمه عندما رأى كارم يقف بعيدًا، يحدّق فيه بعينيه بتركيز، ثم أشار له بيده أن يقترب.
لم يتردد حسن، ناول الكوب إلى شقيقه حسين الذي أمسكه ببساطة، وارتشف ما تبقى منه دون اكتراث، ثم أعاده إلى الطاولة القريبة.
في تلك الأثناء، كان حسن يتقدّم نحو كارم، الذي استقبله بابتسامة صغيرة وذراع وُضعت على كتفه كمن يهيئه لحديث خاص، ثم سحبه برفق إلى ركن جانبي أكثر هدوءًا، بعيدًا عن ضوضاء المكان.
بقي الشقيقان الآخران خلفهما، يتابعان أثرهما بنظراتٍ ثقيلة مشبعة بالفضول، قبل أن يشيح حسين بنظره بملل، ويترك الأكواب الفارغة على الطاولة القريبة منه، ثم مال برأسه للخلف على المقعد، وزفر بكسل واضح قبل أن يتمتم:
“إحنا هنروح إمتى؟”
ابتسم محسن بسخرية، ثم قال بضجر:
“إحنا لسه في أول السهرة يا حسين… نام مكانك لو عايز تنام.”
رفع حسين عينيه ببطء نحو شقيقه، وصوته خرج ببرود لا يخلو من جديّة:
“لا مش عايز أنام… أنا جعان.”
اتسعت عينا محسن بدهشة صافية، كأنه يسمع جملة غير متوقعة تمامًا، ثم انفجر قائلاً:
“إنت بتهزر؟! إحنا لسه واكلين يا بني.”
هز حسين كتفيه بلامبالاة، وردّ بجديّة أثارت غيظ أخيه:
“ده أكل أغنيا، ما ينفعش معايا… أنا عايز أعرف هنروح إمتى علشان ألحق أطلب أكل.”
ظل محسن يحدّق فيه للحظات، ثم مرّر يده على وجهه بتعب وكأنه يحاول استيعاب الموقف، وأخيرًا تمتم وهو يزفر:
“هتطلب إيه؟ بص… اعمل حسابي معاك.”
ابتسم حسين ابتسامة جانبية، عادت لتزيد غيظ أخيه، ثم سأله ببساطة:
“هتدفع كام؟”
ردٍ محسن بصوتِ هادئ، محاولاً استعطافه:
“إنت هتاخد فلوس مني؟!”
أجاب حسين ببرودٍ أكثر من ذي قبل، ونظراته مستقرة في عينيه:
“هتدفع كام؟”
حدّق محسن في شقيقه بدهشة حقيقية، ثم قال بنبرة ساخرة ممتزجة بالضيق:
“٢٠٠… هتجيب إيه بقا؟”
أجابه حسين ببرود، وهو يشيح بوجهه وكأنه لا يريد الدخول في تفاصيل:
“مالكش دعوة… إنت ليك تاكل وبس.”
أنهى جملته بلامبالاة واضحة، تاركًا محسن يرمقه بنظرة ممتلئة بالغيظ، لكن قبل أن يفتح فمه ليمطره بكلمات لاذعة، لاحظ ضيق عيني حسين المفاجئ وهو يركز نظره في اتجاه محدد.
قال ببطء، وعيناه لا تفارقان الهدف:
“هي دي… بنت عم موسى؟”
التفت محسن بسرعة ليتبع نظراته، فوجد
مسك
واقفة غير بعيد، تحمل هاتفها، تتكلم بخفوت، ومنسجمة في الحديث
، فقال:
“دي بنت عمته.”
نظر حسين له للحظة، ملامحه باردة كعادته، ثم قال وكأنه يقرّر أمرًا لا يحتمل نقاشًا:
“مع علينا… هي مش كان اسمها مسك؟”
ضاق محسن عينيه وهو يراقب تغيّر ملامح أخيه، ثم مال نحوه قليلاً وقال بحدةٍ متحفظة:
“إنت عايز إيه يا حسين؟”
لم يتردد الآخر، نطقها كأنها حقيقة بديهية:
“عايز أتجوزها.”
سقطت الكلمة على مسامع محسن بثقلٍ غير عادي، تجمّد لثوانٍ يحدّق في أخيه، يحاول أن يستوعب ما سمعه للتو… لكن سرعان ما ارتفعت ضحكة ساخرة من حلقه، ضحكة بدأت خافتة ثم علت تدريجيًا حتى غلّفت وجهه بسخرية واضحة.
مدّ يده وضرب كتف شقيقه بخفة وهو يقول:
“والله دمك خفيف يا سحس… اطلب لي بيتزا وسط سي فود بقا.”
قالها بمرحٍ مصطنع، قبل أن يستدير عنه بخفة متعمدة، تاركًا حسين يراقب ظهره بانقباض، وقد ارتسم الغضب في عينيه، لم يكن ضحك أخيه يزعجه بقدر ما كانت طريقته في الاستخفاف بما قاله، وكأن رغبته مجرد نكتة تافهة.
رمقه بضيق ثم عاد بنظره إلى حيث تقف
مسك
، عيناها منشغلتان بالهاتف، فتمتم لنفسه ببساطةٍ باردة كأنها قرار محسوم:
“وفيها إيه لما أتجوزها؟”
وفي الجهة الأخرى، كان محسن قد مضى بضع خطوات مبتعدًا، لكن سرعان ما توقّف حين اخترق سمعه صوتٌ مألوف يناديه بحزم:
“محسن!”
استدار فورًا، ليجد والدته واقفة، ملامحها جادة، فتقدم نحوها بخطواتٍ هادئة، وابتسامة مرحة، وقال ممازحًا بصوته المعتاد:
“أؤمري يا أم حسن.”
ردّت بابتسامة هادئة، ونبرةٍ تحمل معنى محدد:
“فين أخوك؟”
أمال رأسه قليلًا، ثم قال بنبرة خفيفة مشوبة باستفهام:
“أي واحد فيهم؟”
ردت مباشرة، وبلا تردد:
“حسن.”
تحرك الفضول في عيني محسن، لكنه أبقى صوته هادئًا وهو يسأل:
“مع كارم… عايزاه ليه؟”
ردت والدته بصدق صريح:
“كنت عايزاه يشوف البنت ضحى… يمكن يغير رأيه ويتشجع ويتقدملها، شايف البت قمر ازاي؟”
لم ينتبه محسن أنه انساق وراء غريزته القديمة، ولا أنه استجاب بعفوية، حينما التفت ناحية ما تشير إليه.
وهناك رآها… ضحى، واقفة بين الفتيات، وقد كانت ترتدي فستانًا أسود أضفى على ملامحها وقارًا وجمالًا آسرًا، حتى بدت وكأنها تضيء وسط الجمع.
ابتسم بلا وعي، وفي نبرة نصف جادة نصف ساخرة خرجت الكلمات منه قبل أن يلجمها عقله:
“معاكِ حق… طالعة زي القمر… صاروخ من الآخر.”
استفاق سريعًا من غفلته، شعر بالحرج كأنه ضبط نفسه متلبسًا، فهز رأسه وهو يحاول أن يستعيد وعيه، ثم التفت إلى أمه قائلًا بلهجة ممتزجة باللوم والسخرية:
“فيه إيه يا حجة؟ أنا ما صدقت أتلم… هتخليني أرجع تاني لقلة الأدب؟ ده أنتِ مرات شيخ، المفروض تبقي عارفة إننا لازم نغض بصرنا… دلوقتي بس عرفت أنا طلعت كده لمين.”
مدت يدها بلا تردد، وضربته بخفة على كتفه، وكأنها تؤدبه كما كانت تفعل في صغره، وقالت بحزم ساخر:
“اتلم يا أبو عين زايغة… وما تبصش.”
ضحك محسن بمرارة ممزوجة بالدهشة:
“الله! إنتِ اللي خلّيتيني أبص.”
قالت دون أن تفقد جديتها، وإن لم تخلُ نبرتها من الدهاء:
“بُص… بس من تحت لتحت.”
تسمرت عيناه فيها لحظة، كأنه لا يصدق ما سمعه، ثم هتف:
“أنا مش فاهم أبويا إزاي صابر عليكِ؟”
ابتسمت وهي ترد بنفس الحدة الساخرة:
“وأنا مش عارفة إزاي أنا خلفتك؟”
أشارت له بيدها كمن يطرده من حضرتها ثم أضافت:
“امشي من وشي يلا… وابعتلي حسين.”
قال بخفة ظل، وهو يبتعد خطوة:
“هدور له على عروسة.”
“آه… هدور للاتنين وأنتَ لأ.”
أمال رأسه بتصنّع الحزن، وقال بسخرية:
“تصدقي زعلت.”
أشارت له مرة أخرى، وكأنها تنهي الجدال:
“امشي يلا.”
ضحك محسن ضحكة يائسة، مزيج من السخرية والاستسلام، ثم خطا مبتعدًا عنها، بينما عادت هي لوظيفتها المفضلة، وهي البحث عن… عروس.
_________________
في جهة أخرى…
كان كارم يشق طريقه بخطوات ثابتة نحو ميرنا، بعد أن استأذنها قبل قليل لقضاء أمر عابر.
وها هو يعود إليها، يحمل في ملامحه ابتسامته المعهودة، تلك التي تُذيب الصمت من حوله وتُشعرها بشيء من الطمأنينة.
تبادل معها النظرات، فأهدته ابتسامة رقيقة، خجولة لكنها صافية كالماء، وحين توقف أمامها، سكن لحظة كاملة، كأنه يلتقط تفاصيلها بعينيه ليرسمها في ذاكرته، ثم بصوت هادئ يقطر دفئًا، تغلفه شاعرية صادقة، قال وهو يتأملها:
“لَبِسْتِ حِجابَ الطُهرِ فازدادَ وجْهُكِ بَريقًا
كأنَّ النورَ يَسري ويَجلو.
سُبحانَ مَن زادَ الجَمالَ وَقارَهُ
فما أجمَلَ الحِجابَ إذا تَحلَّى به الحُسْنُ.”
لم تكن كلماته مجرد شعرٍ، بل اعتراف خفيّ يفيض احترامًا وتقديرًا، جعل عيني ميرنا تخفضان خجلًا فيما ارتسمت ابتسامة صغيرة على محياها، كزهرة تفتحت بهدوء في صباح دافئ.
رفع كارم يده، كاشفًا عن الكلمات المدونة بخطّ حسن منذ قليل، وقال بنبرة يغلفها الحرج اللطيف:
“أتمنى بس أكون قلتها صح.”
تساقط ضحكها الرقيق على سمعه حين استوعبت ما حدث، فضحك بدوره، ضحكة نقية شاركته اللحظة حتى خفتت شيئًا فشيئًا.
وما إن هدأ كلاهما، حتى تسللت منها جملة خرجت بعفوية، لكنها محمّلة بشيء من الترقب:
“يعني بجد… طالعة حلوة؟”
لم يتردد لحظة، بل أجاب بثقة تخللها صدق عميق:
“أحلى من أحلى واحدة في العالم… ومن غير أي مبالغة.”
كانت كلماته كسهم من لطف، اخترق قلبها، فابتسمت بخجل وامتنان، تحاول أن تُخفي ارتباكها، لكنه التقطه بعينيه.
ابتسم لها بدوره، ثم قال وقد بدا عليه الفضول الصادق:
“بس… إيه اللي خلاكي فجأة تلبسيه؟”
سكتت قليلًا، تلتقط أنفاسها وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة، ثم رفعت بصرها نحوه، وفي عينيها بريق جديد، وابتسامة هادئة، رقيقة، تزين ثغرها:
“بصراحة… أنا نفسي ألبسه من زمان، بس ماكنش في حد يشجعني، ولا حد يشرح لي معناه بجد… لحد من كام يوم، وإحنا أنا والبنات في المول… كانوا بيختاروا لنفسهم، ودلال وفيروز قالولي أجرب ألبس، وجربت… وعجبني شكلي، ومن ساعتها فضلت أسألهم عن أهميته وليه نلبسه، وهما ماقصروش، فهموني كل حاجة، وقتها حسّيت إني عايزة أبدأ بجد… فقررت يكون النهاردة البداية.”
بينما كانت كلماتها تهدیء وتَصعد في آنٍ واحد، امتزجت نبرتها بالثبات والرهبة، بالحنين والإصرار، كأنها تُعلن أمامه عهدًا جديدًا مع نفسها… عهدٌ لا ترد عنه حتى لو تغيّرت الدنيا.
هو ظلّ يتأملها، عيناه ترويها بإعجابٍ دفين، فابتسم ابتسامته المعتادة التي تحمل للآخرين طمأنينة، ثم قال بصوتٍ هادئٍ ملؤه صدق:
“الحقيقة أنا كمان كنت نفسي تلبسيه، وحسيت إنك هتعمليها، خصوصًا بعد ما اتصاحبت على شلة البنات، بس برافو… خطوة جميلة.”
تخفّفت على وجهها ملامح الارتياح، ثم همست كأنها تبوح لجزءٍ من قلبها قبل أن تقوله له:
“حبيت تكون بداية حلوة لينا… وأعيش الشعور الجديد ده لأول مرة معاك.. في الحقيقة، أنا بعمل حاجات كتير لأول مرة معاك.”
ابتسمت الشفاه على حفيف صغير، وأجابه هو بنبرةٍ انجذبت بها روحه كلها إلى ما يقول:
“والحقيقة أنا كمان بعمل معاك حاجات كتير لأول مرة. أولهم، مثلاً… الحب، أول مرة أحب وأجرب الإحساس ده بعمق، عمري ما كنت متخيّل إني هاحب بالطريقة دي، لكن في النهاية… حبيت وعشقت. وإشمعنى أنتِ؟”
توقّف قليلاً، وكأن السؤال يطلب جوابًا يتخطى المنطق، فتابع بصراحةٍ طفوليةٍ تكشف عن قلبه على الملأ:
“أعتقد… علشان قلبي.”
كانت الجملة بسيطةً، قصيرة، لكنها حملت معهما كل ما يحتاجه الإنسان: اعترافٌ صادق بلا تكلف، وقرارٌ بأن يمنح هذا القلب من يستحقه.
وقفت لحظة، كأن الزمن تأنى ليستمع، ثم مدّ يدَه ببطءٍ نحو يدها.. التقت كفاها، دفءٌ عنيف سكنها، وصمتٌ لطيف لم يكن فارغًا، بل ممتلئٌ بوعدٍ أن تستمرّ كل أول مرة، معًا.
ابتسم له بابتسامة تمتلئ دفئًا، فأمال رأسه لها بمشاكسة لطيفة وغمزة عرفناها منه منذ البداية:
“تيجي نرقص؟”
ضحكت بخفة، وأومأت بكل رضا، فضغط على يدها ثم تسحبها برفق نحو منتصف البهو، حيث المساحة المفتوحة بين الدوائر والتهاني.
توقفت الأنفاس للحظة خفيفة بينهما، ثم بدأ الدِ جي يعزف المقطوعة التي اتفقا عليها سلفًا، وكأن الموسيقى كتبت خصيصًا لخطوةٍ تبدأ الآن.
أصوات الضحك حولهما تتلاشى تدريجيًا أمام نبض الإيقاع الذي صار أنعم كلما اقتربا أكثر، والكلمات تتساقط في الجو ثم تنساب الكلمات التي يعرفانها معًا، فتصبح كل كلمة فيها مرآة لصوتٍ داخلي:
-كله قالي اشمعنا هو
رد قلبي وقالي هو
ده اللي جوا القلب جوا
داللي داس عالناس بقوة
عقلي قالي استني ثانية
ليه هنغلط غلطة تانية
قومت قايماله و قايلاله
لا دا بقا دا في حتة تانية
حبيبي ده اللي أعيش عمري ليه
حبيبي نفسي أظل بين إيديك
وَأضمك ليا وأحس بيك
يا بختي يا حظي الحلو بيك
تلاعبت الموسيقى بأعماقهما، وكلمات الأغنية كشفت لهما عن شواطئ من الحنان… في حضنه شعرت أنها آمنة، وفي قربها شعر هو بأن الحياة كلّها قد اتسعت لتتسع لهما معًا.
رفعت يده ببطء لتلف حول خصرها، وردّت بتلقائية بمثله، وكأن كل حركة منهما تُترجم وعدًا صامتًا بأن «السنين اللي جاية» ستكون لهما معًا:
معاك بِنسي الدنيا وما فيها
ولو تزعل دا أنا أجيب عاليها واطيها
وهي الدنيا فيها جمال كدا
لا مفيش كدا
وكل بيتٍ من كلمات الأغنية كان يعيد تشكيل عالمهما: سنوات مقبلة، ووعود صغيرة، وإصرار على أن يبقيا معًا بلا تردد.
وحين وصل المقطع إلى ذروته، ارتسمت على وجهها ابتسامة خجولة، وعلى وجهه امتدادٌ لتلك السعادة البسيطة التي تصنعها النظرات.
حبيبي ده اللي أعيش عمري ليه
حبيبي نفسي أظل بين إيديك
وَأضمك ليا وأحس بيك
يا بختي يا حظي الحلو بيك
رقصا كما لو أن العالم وقف ليتيح لهما لحظة صِدق تخصهما فقط؛ ليس رقصة احتفالية فحسب، بل بداية لمعزوفة ستُعاد كلما مرّت الأيام: خطوات صغيرة، ويدان لا تفترقان، وقلبيْن قرّرا _بلا ضجيج_ أن يعيشان «الأول مرة» معًا، وكل مرة بعدها.
_________________
مع مرور الوقت…
هدأت الأجواء وانتهى الاحتفال، تفرّق الجمع كلٌّ إلى سبيله، بعضهم وصل منزله بالفعل، والبعض الآخر لا يزال يقطع الطريق عائدًا، كما كان الحال مع مصطفى وأدهم اللذين جمعتهما سيارة واحدة في طريق العودة أيضاً.
كان الصمت يخيّم على المكان، لا يُسمع سوى هدير السيارات المارّة وضجيج الشارع.
كلٌّ منهما كان يسرق نظرة خاطفة إلى الآخر، ثم يشيح بصره سريعًا وكأن شيئًا ما يثقل على لسانه.
قطع أدهم الصمت فجأة بنبرة هادئة لكنها واثقة:
“ممكن نقف هنا.”
التفت له مصطفى بقلق خفي، عيناه تفحّصتاه كما لو كان يخشى أن يخفي وراء كلماته تعبًا جسديًا أو ضيقًا عميقًا، فسأله:
“ليه؟ في حاجة؟ حاسس بتعب؟”
هزّ أدهم رأسه بابتسامة قصيرة مطمئنة:
“لأ خالص… بس فكرت نقف على الكورنيش شوية.”
لم يتردّد مصطفى، أجاب ببساطة وهدوء:
“ماشي… مفيش مشكلة.”
حرّك عجلة القيادة بانسيابية، وأوقف السيارة إلى جانب الطريق حيث يطل الكورنيش على النهر الممتد في صمته المهيب.
نزلا معًا، وخطا كلٌّ منهما ببطء حتى وصلا إلى السور الحديدي، فاستندا عليه، والريح العابرة تداعب وجهيهما.
كان المشهد كله يشي بمزيج من السكون والانتظار: أمواج تتكسّر بصوت رتيب، أضواء السيارات تنعكس على صفحة البحر في خيوط مضطربة، ورجلان يقفان جنبًا إلى جنب، يحمل كلٌّ منهما ما لم يبح به بعد.
وقد كان الصمت بينهما في تلك اللحظة أثقل من هدير الموج، صمتٌ يتخلله صفير الرياح العابرة، وارتطام المياه بالحجارة في الأسفل.
أدهم، بعينين تحملان كل ما لم يُقل، التفت فجأة نحو مصطفى وسأل بصوت خافت لكنه حقيقي، وكأن السؤال كان يحاول الخروج منذ زمن:
“حضرتك كنت بتحب ماما أوي؟”
تجمّد مصطفى للحظة، لم يتوقع أن يُلقى عليه هذا السؤال هكذا مباشرة، وقد رأى في عيني أدهم صدقًا، ونظرات تبحث عن إجابة مطمئنة، فتنفّس بعمق وقال بهدوءٍ يشبه الاعتراف:
“آه… كنت… ومازلت.”
ظلّ أدهم ينظر له لثوانٍ وكأنه يقيس صدقه، ثم حوّل بصره للأمام نحو الأفق حيث يمتد البحر بلا نهاية وقال بصوتٍ يشبه الهمس:
“تعرف؟ أنا من أول ما شفت حضرتك وأنا حبيتك… ارتحتلك… وحسيت معاك بإحساس حلو… دافي كده… ماحستش بيه من بعد ما بابا اتوفى.”
انحنى مصطفى قليلًا، عيناه انخفضتا إلى الأسفل، وملامحه انكسرت للحظة، لكن أدهم لم يتوقف… استدار نحوه أكثر وأكمل:
“على فكرة… عالية مش بتكره حضرتك، هي بس متعلقة ببابا شوية… يعني صعب عليها تتقبل فكرة إن حد ممكن ياخد مكانه.”
رفع مصطفى نظره أخيرًا، وكأن الكلمات اخترقت شيئًا في داخله، فسأله بهدوءٍ يشوبه حذر:
“وأنت متقبّل؟”
توقّف أدهم، حدّق فيه للحظة طويلة، ثم زفر ببطء وقال بصوتٍ فيه صراحة:
“مش عارف… بص… أنا كنت بقعد مع بابا كتير في البيت بسبب تعبي، يعني تقدر تقول قضيت معاه وقت أكتر من عالية اللي كانت مشغولة في دراستها، شوفت منه حاجات هي ماشفتهاش… وأهمهم معاملته لماما… اللي طبعًا كانت وحشة أويد أقل حاجة كان بيعملها إنه كان يقعد ساكت وأخوه بيزعق لماما علشان مراته اشتكت له منها وافترت عليها بحاجة ماعملتهاش، كنت ببقى قاعد ومستني يقوم ويمنع أخوه عن كده… بس ولا مرة… حرفيًا ولا مرة وقفله.”
ارتعشت نبرة صوته وهو يكمل:
“هو كان أب كويس جدًا… حنين وطيب… بس كان زوج… مش عارف، بس مش ده اللي كنت أتمنى لأمي تتجوزه، بغض النظر طبعًا عن تنازله عن الأملاك لأخوه… يعني من الآخر، أنا بحبه كأبويا… بس مش كزوج لأمي.”
ثم ابتسم ابتسامة صغيرة مكسورة، نظر لمصطفى وقال بصوتٍ فيه رجاء خفي:
“الحقيقة اللي أتمنى إن يكون ليها زوج… هو حضرتك.”
ارتجفت ملامح مصطفى في اللحظة نفسها، وكأن الكلمات التي سمعها لم تكن مجرد جملة، بل صاعقة هوت على قلبه، فزلزلت ما بداخله.
أما أدهم، فالتفت بكامل جسده نحو مصطفى، كأنه يريد أن يواجهه بكل صدق، وتنهيدة ثقيلة خرجت من صدره بعد صراع طويل، ثم قال بصوتٍ خافت لكنه ثابت:
“لو وعدتني دلوقتي إنك تعوضها عن كل اللي مرت بيه… وإنك مستحيل تزعلها وهتشيّلها في عينيك… أنا مستعد أساعدك ترجعوا لبعض، أنا موافق تتجوزها.”
كانت الكلمات كأنها مفتاح يفتح بابًا ظن مصطفى أنه أُغلق إلى الأبد…
ارتبك للحظة، ارتعشت يداه وهو يمد أصابعه لينزع نظارته. لم يكن يتوقع أبدًا أن يأتي هذا العرض من أدهم، من… ابنها.
أما أدهم فزاد من ارتباكه حين قال بصوت عميق ينضح بالصدق:
“عارف إني فاجأتك بكلامي… بس أنا عايزها تبقى سعيدة، وعارف إنك اللي تقدر تعمل كده، حضرتك بتحبها… وده باين في عينيك.”
شعر مصطفى للحظة أن الأرض تميد تحت قدميه، ابتلع ريقه بصعوبة، كأن الكلمات تُحرك داخله كل خوف وكل أمل دفين، ثم خرج صوته مبحوحًا، مترددًا بين التصديق والدهشة:
“أنت بجد… موافق؟”
أومأ أدهم بإيجاب صريح، وابتسامة صادقة تزين وجهه:
“آه.”
في تلك اللحظة، شعرت روح مصطفى وكأنها تسترد أنفاسها بعد اختناق طويل.
رسمت الابتسامة طريقها ببطء على شفتيه، ابتسامة لم يعرف مثلها منذ زمن، كأن كلمات أدهم أعادت له الأمل الذي اعتقد أنه دفنه… ثم فجأة، دون مقدمات، احتضنه بقوة، وكأن العناق وحده قادر أن يترجم فيض الامتنان والفرح.
بادل أدهم العناق بذات الصدق، ثم همس بخفة ممزوجة بابتسامة:
“هتيجي تطلبها مني أنا بقا؟”
ضحك مصطفى، ضحكة حقيقية نابعة من أعماق قلبه لأول مرة منذ سنوات، وقال:
“حاضر… بس نلين قلبها عليا الأول.”
أجابه أدهم بثقةٍ دافئة:
“سيب ده عليا.”
وهكذا، في تلك اللحظة التي جمعت بين وعد صادق واعتراف عاطفي، بدأت ملامح حياة جديدة تُرسم أمام مصطفى، حياة طالما تمناها، يريد أن يشاركها مع شمس… حبه الأول، وحبه الأخير.
_________________
انتهت تلك الليلة بما حملته من ثِقل ودهشة وأحلام جديدة، وأشرقت شمس يومٍ آخر يضج بالحياة، كأنها تبشر بصفحة بيضاء لم يُكتب فيها شيء بعد.
في مائدة الإفطار، جلست ميرنا بهدوءٍ مع والدها وزوجة أبيها “جَنّة”، التي جلست قريبة منها، بوجهٍ يفيض بالحنان، ولم تفارقها تلك البسمة الرقيقة التي ارتسمت منذ الأمس على ملامحها، وكأنها لا تزال تحت تأثير دفء العناق الذي جمعهما.
وبين حينٍ وآخر، كانت جَنّة تمد يدها لتضع شيئًا من الطعام أمام ميرنا، بلمسات أمٍّ مترددة لكنها صادقة، تحمل رغبة في أن تُرى وتُقبل.
وميرنا، على غير عادتها، لم تكتفِ بالصمت أو التجاهل؛ بل ابتسمت لها ابتسامة صغيرة لكنها صافية، وأخذت ما تقدمه بقبول عفوي، وكأنها بذلك تفتح نافذة صغيرة من الثقة.
تلك اللحظة العابرة، التي بدت بسيطة في ظاهرها، كانت بالنسبة لجَنّة أثمن من أي كلمة، فامتلأ قلبها بالبهجة حتى كادت تخفيها الدموع في عينيها.
أما توفيق، فقد اكتفى بالتأمل، وفي داخله امتزج الاطمئنان بالفخر، إذ رأى بين يديه بداية تقارب كان يحلم به منذ زمن.
كانت تلك المرة الأولى التي تُلين فيها ميرنا قلبها وتكسر الحاجز، لتسمح لجَنّة أن تدخل عالمها بخطوة صغيرة… لكنها بالنسبة لهما معًا كانت خطوة عظيمة، تُشبه وعدًا غير منطوق بأن الأيام القادمة قد تحمل سلامًا طال انتظاره.
وفجأةً، كُسر دفء اللحظة وصمتها بلحنٍ مزيفٍ حمله صوت ريناد وهي تهبط بخطوات واثقة من الأعلى، تُلقي بظلال حضورها على المكان.
ابتسمت ابتسامة مصطنعة وهي تقول:
“صباح الخير على أحلى عيلة.”
على الفور، تبدلت الملامح… ارتسم الضيق على وجه ميرنا، وانطفأت بسمة جَنّة، وحده توفيق الذي حافظ على دفئه، ابتسم لابنة شقيقه كعادته، كأنها الطفلة المدللة في عينيه، وقال بحنان صادق:
“صباح الخير يا حبيبة عمّو… اتأخرتي كده ليه؟”
سحبت ريناد مقعدًا بجواره وجلست بخفة،ثم أجابته ببساطة تخفي ما وراءها:
“كنت بكلم مامي بس.”
رفع حاجبيه بقلقٍ لطيف وسألها:
“هي كويسة؟”
بادرت بالرد سريعًا وكأنها حفظت الجواب مسبقًا:
“آه، كويسة… بتسلم عليك.”
ابتسم توفيق ابتسامة عميقة ارتسمت في عينيه أكثر من شفتيه، وأومأ لها بحنان قبل أن يعود لطبقه، كما فعلت ميرنا التي تابعت على مضض طعامها، بينما ظلت جَنّة تراقب ريناد بعينين صارمتين.
لم تحتج للكلام، كانت نظرتها وحدها كافية لتكشف إدراكها، تحمل تحذيرًا صامتًا، إشارة التقطتها ريناد على الفور.
ارتبكت، جف حلقها، وابتلعت ريقها على عجل، ثم بعد تردد، نظرت لتوفيق، ونادت بخفوتٍ متردد:
“أونكل توفيق…”
رفع رأسه إليها بحنو وقال:
“نعم يا روحي؟”
ترددت لحظةً، نظرت إلى جَنّة التي ما زالت تحدق فيها، ثم أعادت بصرها إلى عمها وكأنها تقف على حافة قرار.
تنفست بعمق وقالت أخيرًا:
“أنا… هسافر.”
ارتفعت علامات الدهشة على وجه توفيق، وعينيه تلمعان بالاستفهام، فيما انعكس نفس الأثر على ميرنا التي توقفت يدها عن الحركة، تحدق في ريناد غير مصدقة.
أما جَنّة فقد اكتفت بأن تحدّق فيها بثبات، نظرة تضغط على الصدر كأنها تقول ‘أكملي’،
لم تتأخر ريناد، بل التقطت الإشارة على الفور وقالت بنبرة مصطنعة الهدوء:
“في كورس لازم أحضره علشان الجامعة، فلازم أسافر بكرة.”
مال توفيق للأمام، حاجباه انعقدا وهو يردد:
“كورس مهم أوي علشان تسافري؟”
ترددت للحظة، تلعثمت، ثم أومأت بسرعة، كأنها تهرب من عمق نظرات جنة:
“آه… مهم أوي.”
لم يقتنع قلبه، لكن الحنو غلب على صوته وهو يقول:
“بس إنتِ ما لحقتيش تقعدي معانا…”
هنا تسللت جَنّة للتدخل، كانت نبرتها هادئة في ظاهرها، لكن تحمل تحتها مغزى لا يخفى:
“معلش يا توفيق، الكورس يخص جامعتها… دراستها أهم.”
نظرت إليها ريناد للحظة قصيرة، عيناها التقتا بعينيها، نظرةٌ كأنها معركة صامتة لا تحتاج كلمات، ثم أعادت وجهها نحو عمها وقالت بنبرة تحمل في طياتها أكثر مما تُظهر:
“مظبوط… بس ما تزعلش يا عمو، هرجع تاني وأحضر فرح ميرو.”
أنهت عبارتها وهي توجه بصرها نحو ميرنا، التي بقيت جامدة في مكانها، الدهشة لا تزال مرسومة على ملامحها، فهي لم تكن تتوقع هذا القرار المفاجئ؛ فقد اعتادت أن تبقى ريناد هنا حتى بداية الدراسة، لكن هاهي اليوم تعلن رحيلها سريعًا.
ورغم المفاجأة، إلا أن ميرنا في أعماقها شعرت براحة خفية، كأن عبئًا ثقيلاً انزاح عن كتفيها.
أما ريناد، فقد سمحت لنظراتها أن تنزلق نحوها للحظة، ثم حولتها فجأة إلى جَنّة، بعينين تضجان حقدًا وضيقًا… لكن جَنّة لم تُعر ذلك أي اهتمام، بل استقبلت تلك النظرات بابتسامة هادئة، راسخة في مكانها، ابتسامة لم تحمل سوى سكينةٍ متعمدة.
وتلك الابتسامة أشعلت في قلب ريناد نارًا لم تستطع إخفاءها، استفزازًا يغلي في عروقها… ومع ذلك، لم تسمح جَنّة لنفسها أن تنزل إلى ساحة المواجهة، بل مدت يدها بهدوء، التقطت كوب العصير ووضعته أمام ميرنا برقة وهي تقول بنبرة طبيعية، كأن شيئًا لم يحدث:
“يلا… كملوا أكل.”
وبالفعل عاد كلٌّ منهم إلى طعامه، محاولين استعادة ما تبقى من دفء اللحظة، حتى ريناد نفسها أطرقت رأسها، تتأمل طبقها بصمتٍ متعمّد.
لكن خلف ذلك الهدوء الظاهر، كان عقلها يعجّ بضوضاء أفكارٍ مظلمة؛ لم يكن ذهنها حاضرًا على المائدة بل في مكانٍ آخر تمامًا… في خططها، في حقدها، في نيتها التي لم تعد قادرة على كتمانها: ستعود…
حتمًا ستعود، ولن تترك لهم تلك السعادة التي يتوهمون أنهم حصلوا عليها بسهولة.
_________________
في جهة أخرى…
كان يقود السيارة بثبات، وملامحه تعكس هدوءه المعتاد، فيما جلست فيروز بجواره، يرافقها صمتٌ مريح اعتادت عليه معه.
وقد كانا في طريقهما إلى عملها، يوصلها كالعادة قبل أن ينطلق هو إلى مكتبه، طقس يومي صار جزءًا من تفاصيل حياتهما.
تأملته فيروز للحظات، عينها تتنقل بين ملامحه والطريق، ثم قالت بصوت خافت:
“هتتأخر النهاردة في الشغل؟”
ألقى عليها نظرة سريعة، قبل أن يعيد تركيزه إلى الطريق، مجيبًا بنبرة هادئة:
“لأ، يعني لو ماحصلش حاجة جديدة مش هتأخر إن شاء الله.”
ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجهها، وكأنها تطمئن لجوابه، ثم ردت وهي تبقي نظرها للأمام:
“كويس.”
لكن فضوله لم يسمح له أن يترك الأمر يمرّ ببساطة، فالتفت نحوها للحظة وسأل بنبرة مازحة:
“بتسألي ليه؟ في حاجة؟ محضّرة لي مفاجأة ولا إيه؟”
ضحكت ضحكة قصيرة تنفي ما قاله، وهزّت رأسها:
“لأ، بسأل بس.”
أومأ باقتناع ظاهري، وقال بابتسامة خفيفة:
“أوكي.”
عاد بعينيه للطريق، بينما بقيت هي تراقبه من طرف عينها، تبتسم بابتسامة دافئة رقيقة، كأنها تحتفظ بسرٍّ صغير في قلبها.
وفجأة، قطع الصمت رنين الهاتف المتصل بشاشة السيارة، فألقى هو نظرة عابرة نحوها، وقال وهو يقرأ اسم المتصل:
“ده سامي.”
مرر موسى إصبعه على الشاشة وأجاب بنبرة خفيفة، ودودة:
“صباح الخير يا سيمو.”
ارتفع صوت سامي مرحًا عبر السماعة:
“صباح النور يا برنس، إيه الأخبار؟”
ألقى موسى نظرة جانبية سريعة نحو فيروز، ثم عاد بعينيه إلى الطريق قائلاً:
“الحمد لله… رايح أنا وفيروز الشغل أهو.”
سكت سامي لحظة قبل أن يسأل باهتمام ممزوج بالسعادة:
“هي جنبك؟”
هذه المرة سبقت فيروز بالكلام، بصوتها الدافئ:
“آه.”
لم تمض ثوانٍ حتى وصلتهما ضحكة سامي المجلجلة التي ملأت السيارة بخفة، قبل أن يقول بعفوية محببة:
“حبيبة قلبي… وحشتيني أوي.”
أجابته فيروز بصدق يكسوه حنين:
“وأنت أكتر والله يا حبيبي.”
لم يترك موسى الموقف يمر دون أن يرمقها بنظرة جانبية سريعة، ثم علق بسخرية مشاكسة:
“إنت لسه شايفها امبارح… لحقت توحشك؟”
ضحك سامي بلا حرج، ورد بثقة:
“آه، وحشتني… مالكش دعوة.”
شد موسى على عجلة القيادة وأجاب بنبرة نصفها مزاح، ونصفها جادة:
“أنا جوزها.”
أتى رد سامي في لمح البصر، حادًا لكنه مغمور بالحب:
“وأنا أخوها.”
عندها ارتسمت على ملامح فيروز ابتسامة صغيرة، ابتسامة امتنان خفية لرجلين يختلفان في الدور، لكنهما يتشابهان في شيء واحد: حبّها الذي يسكن قلوبهما، كلّ على طريقته.
ولم تدم لحظة الصمت طويلًا حتى اخترق صوت سامي السماعة، يحمل مزيجًا بين الجد والمزاح:
“المهم، قبل ما أتخانق معاك… إنت فاضي بالليل؟”
أدار موسى المقود قليلًا وهو يسأله بفضول ساخر:
“آه، ليه؟”
جاء الجواب سريعًا، بنبرة رتيبة:
“أنا والشباب قلنا نسهر بالليل سوا على القهوة.”
ظل موسى لحظة يفكر، ثم قال بنبرة هادئة:
“مفيش مشكلة… نتجمع بعد المغرب.”
لكن سامي قاطعه بحسم، كأنه يضع النقطة الأخيرة في الجملة:
“لأ، خليها بعد صلاة العشا.”
ابتسم موسى ابتسامة مشاكسة وهو يلتفت بعينيه نحو فيروز، ثم قال موافقًا:
“ماشي، وماله… بس أنا مش هتأخر في السهرة علشان مراتي بتوحشني.”
ارتفعت ضحكة ناعمة من فيروز، مزيج من خجل ودفء، بينما جاء رد سامي السريع الحانق مازحًا:
“هتخليني أطلعلك من التليفون دلوقتي وأديك قلم على وشك.”
لم يستطع موسى أن يتمالك نفسه فانفجر ضاحكًا، وضحكت معه فيروز بخفة، وبمجرد أن توقفا
جاء صوت سامي مجددًا، هذه المرة أكثر هدوءًا:
“المهم.. نتقابل بالليل بقى.. أشوفك بعدين، سلام… سلام يا فيروز.”
بادرت هي بالرد بنبرة دافئة:
“سلام يا حبيبي.”
وانتهت المكالمة بتلك الكلمات الأخيرة، ليغمر السيارة صمت قصير لم يقطعه سوى ابتسامة ماكرة ارتسمت على وجه موسى وهو يلتفت نحوها، ثم قال بنبرة نصفها مزاح ونصفها جد:
“ساعات بحس إن أخوكي لسه مش راضي تماماً على جوازنا.”
لم تستطع فيروز أن تمنع نفسها، فانطلقت منها ضحكة صافية، عفوية، كأنها تخرج من أعماق قلبها لا من شفتيها فقط، وضحك موسى هو الآخر، ضحكة قصيرة لكنها دافئة، ثم أعاد عينيه إلى الطريق أمامه، وهي فقط ظلت تتأمله بنظرات حب صادق، لايحتاج إلى كلمات.
_________________
“يعني قولتولي نتجمع بعد العشا، قلت ماشي، اتصلتوا بيّا تقولولي أجّلها ساعة، قلت ماشي برضه، أهم حاجة مانتأخرش علشان الجماعة في البيت… وأدينا داخلين على الساعة اتناشر، وكل ما أقوم تقولولي أقعد… في إيه بقى؟ عايزين تقولولي حاجة ومكسوفين يعني ولا إيه؟”
انطلقت كلمات موسى بحدةٍ واضحة، تحمل في طياتها نفاذ صبرٍ وغضبٍ مكتوم، ولم تخلو من السخرية أيضاً، بينما هو يتأمل وجوه أصدقائه واحدًا تلو الآخر.
لكن كارم، بجسده المسترخي وملامحه الباردة، ردّ بنبرة متعمدة البرود وهو يشير إليهم جميعًا:
“بذمتك دي خلق تتكسف.”
زفر موسى بضيق، وقبل أن يرد، جاء صوت محسن وهو يتفحص شاشة هاتفه بعناية:
“اهدى… ما فضلش غير خمس دقايق.”
تجمدت ملامح محسن للحظة بعدما أفلتت الكلمة من بين شفتيه، كأنه استوعب متأخرًا ما قاله.
دار بنظراته القلقة بين وجوه أصدقائه وإخوته الذين كانوا على وشك الانقضاض عليه بالعيون وحدها، نظرات تحذير وصمت مشحون، ما عدا موسى الذي كان أكثرهم حيرة.
عقد حاجبيه بعدم فهم وقال بصوتٍ جاد:
“خمس دقايق على إيه؟”
التفت كارم نحوه، ابتسامة ساذجة ترتسم على وجهه كأنها محاولة بائسة لتغيير دفة الحديث، وقال:
“تشرب شاي؟”
رفع موسى حاجبيه في استنكار وهو يشير إلى الأكواب الفارغة المصفوفة أمامه على الطاولة:
“أشرب شاي إيه؟! أنا شارب لحد دلوقتي ٣ كوبيات شاي و٢ جوافة.”
تدخل سامي سريعًا، بعد أن ألقى نظرة حارقة على محسن جعلته يطأطئ رأسه، ثم قال بلهجة مازحة محمّلة بذكاء التغطية:
“يا عم اشرب… يعني أنت اللي هتدفع.”
قهقه موسى ساخرًا وهو يومئ بيده نحو الطاولة:
“يعني لو كنت هدفع… كنت شربت الكمية دي؟!”
انطلقت ضحكاتهم جميعًا، ضحكات حاولوا أن يخفوا وراءها ارتباكهم وتوترهم، وشاركهم موسى الضحك أيضًا، كأن الجو عاد عاديًا.
لكن سرعان ما توقف موسى عن الضحك وهو ينهض، يمسح على بنطاله وينظر إليهم قائلاً بحزم:
“يلا… أنا هقوم بقى، كفاية كده، اتأخرنا.”
لكن ما إن وقف موسى حتى وقف أصدقاؤه الأربعة دفعة واحدة، متماسكين كأنهم فرقة على أهبة الاستعداد، ما عدا حسين الذي ظل جالسًا في مكانه يتابع بصمت.
عندها قال سامي وهو يمد ذراعه نحو موسى ليوقفه:
“يا بني استنى… مستعجل كده ليه؟”
تطلع إليهم موسى بدهشة، عينيه تتحرك بين وجوههم المتحفزة، ثم قال بنبرة مشوبة بالريبة:
“إنتو اللي وراكم إيه؟! أنا حاسس إنكم مخبّيين حاجة عني.”
تبادلوا النظرات فيما بينهم، صمت قصير لكنه مُثقل بالمعنى، بينما ظل موسى يراقبهم بحذر، حتى وجد سامي ينظر إلى ساعته ثم يرفع عينيه نحوه بابتسامة صغيرة ويقول:
“يلا… مش هتفرق الدقيقة دي.”
عقد موسى حاجبيه أكثر، الحيرة تتملك منه وهو يتابع سامي ينادي بصوت مرتفع على الصبي في المقهى:
“جيب الحاجة يا حودة.”
تبع موسى نظراته نحو الباب، قلبه يدق بخفة غريبة، وهو يترقب ما الذي سيأتي به “حودة”.
مرّت لحظات قصيرة بدت كأنها دهور، قبل أن يظهر الصبي وهو يتقدم بخطوات ثابتة، بين يديه قالب حلوى كبير تزينه الشموع.
تسمرت قدما موسى في مكانه، اتسعت عيناه وفرغ فاهه بدهشة صامتة، ثم التفت نحو أصدقائه بدهشة أكبر، ليجدهم قد انفجروا بالتصفيق والغناء.
بل إن محسن لم يكتفِ بذلك، بل قفز فوق أحد المقاعد وراح يلوّح بيديه، يصيح مناديًا روّاد المقهى:
“يلا يا جماعة… شاركونا، النهاردة عيد ميلاد البرنس!”
وفي لحظة، امتلأ المكان بأصوات الغناء المتشابكة، ضحكات، تصفيق، وأغنية عيد الميلاد تتردد في الأجواء.
لم يكن الأمر مجرد مفاجأة… بل كان إعلان حب جماعي، التفاف صادق حول موسى الذي وقف في المنتصف، بين ذهوله وفرحه، عاجزًا للحظة عن الكلام.
وبعد لحظات قليلة بدأت الأصوات تهدأ تدريجيًا، كأن الموجة العالية من الفرح قد انحسرت لتترك دفئها خلفها.
وضع موسى يده على فمه، ضحكة مدهوشة تتسرب من بين أنفاسه، ثم قال بصوتٍ يختلط فيه التعجب بالفرح:
“النهاردة… النهاردة عيد ميلادي!”
التقط سامي طرف الحديث بسرعة، وابتسامة واسعة ترتسم على محيّاه وهو ينظر إلى ساعة يده قائلًا:
“أيوه… بما إن الساعة عدّت اتناشر، فآه، النهارده عيد ميلادك، عشرين ستة… كل سنة وأنت طيب يا برنس.”
ظل موسى يطالعهم للحظة، عيونه تدور بينهم بمشاعر لم يستطع أن يحددها، مزيج من الدهشة والامتنان والحنين، قبل أن يهمس بصوتٍ هادئ يكاد يتكسر:
“أنا… أنا كنت ناسي خالص… بس أنتو افتكرتوا؟ بجد؟”
اقترب كارم منه بخطوات واثقة، ثم وضع ذراعه على كتفه بحميمية خفيفة وقال مازحًا بصدق:
“ودي حاجة تتنسي برضه؟ ده عيد ميلاد الغالي… ولا إيه يا غالي؟”
وختم جملته بغمزة جعلت الضحكة تنفجر من قلب موسى، ضحكة صافية، صادقة، خرجت وكأنها شكر لا يحتاج إلى كلمات.
أخذ يدور بعينيه عليهم واحدًا تلو الآخر، ثم قال بصوتٍ مفعم بالعاطفة:
“أنا بجد مش عارف أقولكم إيه… بجد شكرًا… شكراً إنكم في حياتي.”
كانت تلك اللحظة
أعمق من مجرد احتفال، كأنها مساحة نقية اجتمعوا فيها على قلب واحد.
لم يكن بينهم سوى ابتسامات صافية ونظرات تنطق بما عجزت الكلمات عنه، وكان صمتهم آنذاك بمثابة عناق غير مرئي، يربط أرواحهم دون أن تلتقي الأيادي.
انكسر الهدوء فجأة بصوت محسن الذي قال بعفوية:
“يلا بقى علشان تطفي الشمع.”
ضحك حسين وأيد حديث أخيه، وهو يومئ بجديّة:
“أيوه علشان أكل التورتة.”
ترددت ضحكاتهم جميعًا، عفوية وخفيفة، كأنها تعزف لحنًا خاصًا بهم وحدهم.
وبين موجة الضحك، توقف موسى فجأة، رمقهم بنظرة فيها شيء من الدعابة، وقال بسخرية:
“طب مش عيب أبقى شحط كده وأطفي شمع؟”
انفجرت ضحكاتهم من جديد، فالتقط كارم طرف الخيط بنبرة تجمع بين الجد والهزل، وقد رفع حاجبه مازحًا:
“ايه رأيك أجيبلك مطوة وتغز الشمع؟”
ضحكوا أكثر، ليس لأن الكلمات مضحكة بقدر ما كان الجو مشبعًا بألفة لا تُشترى، لحظة صافية جعلت موسى يشعر أن وجوده بينهم وحده كان أعظم هدية في يوم مولده.
ووالله، إن كان قد نال في حياته هدية تستحق أن تُسمى كنزًا، فهي لم تكن شيئًا يُقتنى أو يُشترى، بل كانت هؤلاء الخمسة… كانوا دعامة قلبه، وملاذ روحه، والبرهان الحيّ أن العُمر لا يُقاس بالسنين بل بمن نُرزق بهم في الطريق.
_________________
مع مرور الوقت….
توقف أمام باب الشقة المغلق، مرر أنفاسه ببطء كأنه يحاول ضبط نبضه المتسارع، ثم رفع يده وضغط على جرس الباب.
لحظات قصيرة بدت له دهورًا، حتى تحرك المقبض وانفرج الباب قليلًا، كاشفًا عن وجه طالما حفظ تفاصيله.
كانت ابتسامتها أول ما استقبله، ابتسامة صافية صادقة أذابت شيئًا من التوتر الذي تلبّسه، قبل أن يأتي صوتها الدافئ، يحمل اسمه كأغنية مألوفة أعادته دفعة واحدة إلى يقين الأمان:
“موسى…”
#يتبع…
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.