رواية موسى (على دروب الحكايا) الفصل الخامس والستون 65 – بقلم امل بشر

رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل الخامس والستون

الفصل الخامس والستون(طلب غير متوقع)

الفصل الخامس والستون(طلب غير متوقع)

وما البيتُ إلا حيثُ يسكنُ قلبُنا

إذا ضمَّنا حُبٌّ، يطيبُ المَكانُ

إبراهيم

ناجي”

___________

توقف أمام باب الشقة المغلق، مرر أنفاسه ببطء كأنه يحاول ضبط نبضه المتسارع، ثم رفع يده وضغط على جرس الباب.

لحظات قصيرة بدت له دهورًا، حتى تحرك المقبض وانفرج الباب قليلًا، كاشفًا عن وجه طالما حفظ تفاصيله.

كانت ابتسامتها أول ما استقبله، ابتسامة صافية صادقة أذابت شيئًا من التوتر الذي تلبّسه، قبل أن يأتي صوتها الدافئ، يحمل اسمه كأغنية مألوفة أعادته دفعة واحدة إلى يقين الأمان:

“موسى…”

ارتسمت ابتسامة فورية على شفتيه، وبصوت يحمل اعترافاً خجولاً قال:

“أسف إني جيت في وقت زي ده… بس كان لازم أقولك: كل سنة وأنتِ طيبة.”

ضحكت، ضحكة قصيرة دافئة، فيما هو تابع بنبرةٍ محمّلة بالصدق:

“بقالي أكتر من عشر سنين ماعيدكيش في عيد ميلادك… من ساعة ما علاقتنا باظت وأنا بتجنب حتى الكلمة ديد بس السنة دي غير… السنة دي اتصالحنا، ورجعنا زي الأول، فكان لازم أجي وأقولها لك بنفسي: كل سنة وأنتِ بخير، كل سنة وأنتِ جنبي… عمتي وصاحبتي وأختي وأمي، وسكر حياتي، اللي مهما اتكلمت عنها، وعن قد إيه بحبها، عمري ما هوفيها.”

لمعت عيناها ببريق الدموع، وابتسامتها ازدادت إشراقًا حتى غلبتها ضحكة صغيرة خرجت بين فرحتها وارتباكها.

بينما تنهد موسى، كأنه يفرغ ما ظلّ عالقًا في صدره سنين، ثم أكمل بهدوء:

“مهما حصل مش هنبعد تاني… وعد، أنا مش هكرر اللي عملته زمان.”

سكت لحظة، ثم خفض صوته وهو يرمقها بنظرة ممتزجة بالمزاح والجدّ:

“وعلى فكرة… أنا مبسوطة إنك حامل، وأكيد إنتِ عارفة،

عارفة إني بستظرف.

ضحكت بخجل وهي تخفض رأسها قليلًا، فتابع:

“بس بجد والله يا دلال… أنا مبسوطة أوي إنك هتبقي أم، وإن خالو هيبقى أب، بس… في حاجة صعبة عليا شوية، إني أتأقلم إن ولادك هيبقوا زي إخواتي، الموضوع تقيل على عقلي إنه يستوعبه، لكن… اللي أقدر أوعدك بيه، إن لو ربنا رزقني وخلّفت، ولادك وولادي هيبقوا أعزّ من الإخوات، هعلمهم يحبوا بعض من غير حدود، ومايكرروش غلطتي ولا يسيبوا بعض… هخليهم يبقوا دايمًا زيّنا أنا وأنتِ.”

أدمعت عيناها أولًا، ثم سرعان ما تساقطت دموعها رغماً عنها، كأن قلبها لم يجد وسيلة أخرى ليُعبّر.

مدت يدها تمسح الدموع لكن سبقها موسى بخطوة، اقترب أكثر، ورفع كفيه برفق ليمسح دموعها واحدًا واحدًا، وصوته خرج هادئًا، حانيًا، كأنه يحاول أن يربتّ على قلبها قبل عينيها:

“لا… ماتعيطيش، أنا ماقلتش الكلام ده علشان تعيطي.”

ضحكت بخفة وهي تمسح بقايا الدموع بطرف كفها وقالت محاولة التخفيف:

“الهرمونات بس.”

ابتسم، ثم انطلقت منه ضحكة قصيرة صافية، هزّ رأسه وكأنه صدّق عذرها وهو يعرف أنه ليس السبب الوحيد.

نظر إليها بعدها، بعينين يملؤهما حنو وصدق، وقال:

“كل سنة وأنتِ طيبة… مرة تانية.”

توقف، مرر كفه أسفل رقبته بعفوية وهو يشعر بالحرج، ثم قال:

“و… أسف لأني ماجبتلكيش هدية، أنا كنت ناسي… ومالحقتش أجيب حاجة، بس وعد…  النهاردة هتكون عندك.”

ودون أدنى تردّد، انطلق صوتها بنبرة دافئة، صافية، تحمل من الصدق ما يهزّ القلب أكثر من أثمن الهدايا:

“كلامك ده… أجمل من مية هدية ممكن تجيبها لي، مش قادرة أوصف لك قد إيه أنا سعيدة دلوقتي… أنا بحبك أوي.”

اقترب أكثر، رفع يديه واحتضن وجهها بين كفيه، يطيل النظر في عينيها كأنه يحفر لحظتها بداخله، ثم قال بصدق يفيض:

“وأنا بموت فيكِ… وربنا يخليكِ ليا ومايحرمنيش منك أبداً.”

رفعت يديها تحتضن وجهه هي الأخرى، عينيها تلمعان بامتنان دافئ، وردّت:

“ويخليك ليا يا أحن أخ في الدنيا.”

ابتسم ابتسامة هادئة، ثم جذبها إليه ليغمرها بعناق صادق، عناق أخويّ عميق امتلأ بالسكينة والدفء، كأنهما يستعيدان كل السنوات التي ابتعدا فيها عن بعض.

وبعد لحظات، ابتعدت قليلاً، تمسح على ذراعه بخفة قبل أن تقول بحماسة لا تخلو من دعابة:

“استناني هنا ثانية…”

نظر إليها وهو يبتسم، يتأمل حركتها بخفة فيما ولجت إلى الداخل، ولم تكد تمر لحظات حتى عادت بخطوات متحمسة، تحمل بين يديها شيئًا مربعًا صغيرًا مغلفًا بعناية.

ضحك موسى فور أن رآه، وهز رأسه قائلاً بنبرة مازحة يغلفها شعور حقيقي بالذنب:

“طب والله عيب… كده هتخليني أحس بالذنب أكتر إني ماجبتلكيش هدية.”

ابتسمت وهي تناوله العلبة، وقالت ببساطة ودفء:

“ابقى جيبلي الهدية في أي وقت… المهم دلوقتي افتح وشوف أنا جيبتلك إيه.”

أومأ لها بابتسامة دافئة، ثم مد يده يتناول العلبة من بين يديها، وما إن بدأ يزيل الغلاف الورقي حتى ازداد ترقّبها، عيناها معلقتان بحركاته الصغيرة كأنها تنتظر رد فعل سيُكتب في ذاكرتها طويلاً.

وحين تكشّف الغلاف أخيرًا، ظهرت ساعة حائط خشبية أنيقة، مصنوعة بحرفية يدوية دقيقة، يتوسطها نقشٌ يحمل رمزه المميز:

MF

.

تجمّدت ملامحه لحظة، ثم ارتفع حاجباه في انبهار حقيقي، رفع عينيه إليها وابتسامة مدهوشة تسبق كلماته:

“تحفــة يا دلال… تحفة أوي.”

اشتعلت ملامحها بالسعادة وسألته بلهفة طفولية:

“بجد عجبتك؟”

ضحك بخفة، وصوته مشبع بالصدق:

“من إمتى وأنتِ بتجيبي حاجة ماتعجبنيش؟ أنتِ مميزة دايمًا في اختياراتك… بجد روعة، هعلقها في المكتب قدامي بالظبط علشان أفضل شايفها على طول.”

اتسعت ابتسامتها أكثر، عينان تلمعان بالفخر والسرور، ثم قالت ممازحة وهي ترفع حاجبها بدلال:

“أول مرة تمدحني كده… هتخليني أتغرّ بنفسي.”

قهقه بخفة وهو يومئ برأسه:

“وماله، اتغرّي… حقك.”

اقتربت منه قليلًا، وقالت وهي تمد الهدية أكثر تجاهه:

“كل سنة وأنت طيب يا موسى.”

أخذ نفسًا عميقًا، وكأن الكلمات لامست قلبه بصدق، ثم ردّ بابتسامة لا تخلو من الحنان:

“وأنتِ طيبة يا سُكر حياتي… وإن شاء الله لما أرجع من الشغل، هتكون هديتك عندك… وهتكون أحلى من هدية طارق كمان.”

انفجرت ضاحكة وقالت وهي تميل برأسها بخفة:

“أنت تعرف طارق جاب لي إيه أصلًا؟”

ابتسم بثقة ورد فورًا:

“معرفش… بس برضه هديتي هتبقى أحلى منه.”

تجددت ضحكتها من جديد، ثم رفعت كتفيها بدلال، وقالت:

“لما نشوف… كده كده طارق لسه ماجبش هدية علشان سافر امبارح الصبح، ولما يرجع النهاردة بالليل هنقارن… ونشوف هديتك ولا هديته اللي هتكسب.”

رفع حاجبه بمرح وقال بثقة:

“هديتي أنا طبعًا.”

ضحكا معًا من قلبهما، ضحكة تشبه التصفيق الذي يعلن عن انتصار اللحظة…

وما هي إلا ثوانٍ حتى توقفت هي فجأة، مدّت يديها وأمسكت وجنتيه بخفة، تداعبه بمرحٍ محبب:

“كبرتي يا بيضة… وبقيت ستة وعشرين سنة.”

قطّب حاجبيه بتصنّعٍ ساخر، ونظر لها بنظرة ضيق مفتعل وهو يزفر:

“فصلتيني.”

تعالت ضحكاتها أكثر، ضحكة صافية ملأت الأجواء بخفة ودفء، بينما موسى، رغم محاولته في الحفاظ على جديته، لم يستطع أن يمنع ابتسامة صغيرة من أن تتسلل إلى وجهه، لتفضحه وتكشف عجزه الأبدي أمامها.

كانت لحظة عابرة في ظاهرها، لكنها عميقة في معناها، كأنها تُعيد لهما ذكريات الطفولة، حين كانا يتشاكسان بنفس الطريقة ثم تنتهي الأمور بالضحك لا أكثر.

وها هي ذكرى جديدة تُضاف إلى رصيدهما كإخوة، ذكرى جميلة ربما يرويانها فيما بعد لبقية العائلة، أو يتذكرانها سويًا في لحظة صفاء، فيضحكان من القلب بنفس البراءة التي جمعت بينهما منذ البداية.

_________________

عاد إلى المنزل، محطته الأخيرة لليوم، مرر بصمة إبهامه على اللوحة الإلكترونية، فانفتح الباب بانسياب مألوف، ودلف إلى الداخل، يستنشق عبق البيت الذي يحبه

لكن سرعان ما عقد حاجبيه بدهشة؛ فالأضواء كلها مطفأة على غير العادة.

أول ما تبادر إلى ذهنه أنها ربما نامت، فساوره شعور خفيف بالخيبة، غير أن ابتسامة صغيرة سرعان ما ارتسمت على وجهه، عندما جالت برأسه فكرة أنها ربما تُحضّر له مفاجأة.

وبالفعل لم يخب حدسه، إذ فجأة أضاء نور خافت من زاوية المكان… كان ضوء شمعة وحيدة تعلو قالب حلوى صغير، تحمله يدان رقيقتان، ووراءها وجه باسم وصوت دافئ بدأ يغني له لحنًا يعرفه جيدًا، أغنية عيد الميلاد.

– Happy birthday to you,

Happy birthday to you,

Happy birthday to you,

Happy birthday to you!

ومع نهاية الغناء، كانت قد توقفت أمامه، تحمل قالب الحلوى بين يديها، وعيناها تلمعان بدفء يطلب منه بصمت أن يطفئ الشمعة.

ابتسم موسى بخفة، ثم مال قليلًا للأمام، ونفخ برفق، لتخبو شعلة الشمعة في هدوء تاركة خلفها دخانًا رقيقًا يتراقص في الهواء.

ارتفعت ضحكة فيروز الصافية مع انطفاء النور الصغير، ضحكة امتزجت بالراحة والرضا، قبل أن تقول بنبرة محبة مليئة بالصدق:

“كل سنة وأنت طيب.”

ابتسم لها موسى ابتسامة صافية، كأن قلبه كله ينعكس في ملامحه، ثم رد بصوت عميق، يحمل وعدًا أكثر من مجرد تهنئة:

“وكل سنة وأنتِ في حياتي… هنا، في قلبي، وفي بيتي.”

كانت كلماته بمثابة اعترافٍ خفي بأن وجودها إلى جواره هو الهدية الأجمل، وأن الحياة معه لا تكتمل إلا بها.

ارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة لا توصف، ابتسامة تحمل مزيجًا من الحب والسكينة، ثم تحركت بهدوء.

وضعت قالب الحلوى على منضدة قريبة بحرصٍ شديد، قبل أن تمتد أصابعها نحو زر الإضاءة وتشعل الأجواء بدفء إضافي، ثم استدارت إليه بخفة وعيناها تلمعان، وقالت بصوتٍ مفعم بالحماس الخفي:

“جاهز تشوف هديتك؟”

رفع رأسه نحوها، وبدت في عينيه لمعة فضول ممزوجة بلهفة طفل، فأجاب بابتسامة قصيرة:

“جاهز.”

ابتعدت بخطواتٍ رقيقة، وكأنها تخبئ خلفها سرًا كبيرًا، ثم ولجت إلى غرفتهما. دقائق معدودة _لكنها بالنسبة له بدت دهورًا_ قبل أن تعود بخطواتٍ هادئة، تحمل في يديها شيئًا مغلفًا بعناية، كأنها تحمل سرًا مقدسًا.

قالت وهي تقترب منه، في نبرة امتزجت فيها الدعابة بالحنان:

“فكرت كتير أوي أجيب لك إيه… حتى فتحت الدولاب وقعدت أبص وأشوف إيه اللي ناقصك علشان أجيبهولك، بس اكتشفت إن عندك كل حاجة، في الآخر ما لقيتش غير دلال اللي تنقذني، اتصلت بيها وقعدنا ساعات نفكر سوا… لحد ما أخيرًا لقينا حاجة حلوة… وكريتيف.”

مدت يديها بالعلبة نحوه، وعينيها تتابعان ارتسام ملامح الفضول على وجهه، بينما نظر هو إليها للحظة، ثم مد يده وتناولها برفق، قبل أن يرفع عينيه إليها ويقول بابتسامة تعكس مزيجًا من الشوق والتقدير:

“شوقتيني أعرف إيه هي.”

وضع هدايا أصدقائه وهديّة دلال على المنضدة القريبة بحرصٍ كأنها أمانات، ثم مد يده الأخرى نحو هديتها هي تحديدًا.

لمس الغلاف بأصابعه أولًا، كأنه يستشعر قيمته قبل أن يفتحه، ثم بدأ يزيل الغلاف بهدوء، لم يكن هناك حماس صاخب، بل فضول داخلي صامت يختلط بتوقّع غامض، وما إن انزاح الورق، حتى تكشّف أمامه كتاب كبير، أو بالأحرى ألبوم صور مُعتنى به بعناية لافتة.

فتح الصفحة الأولى، وإذا بطفولته تطلّ عليه من بين الألوان الباهتة وملامح الوجوه القديمة.

قلب الصفحة التالية، فابتسم دون أن يشعر، ومع كل صورة، ازدادت لمعة عينيه، كأن الألبوم لم يكن مجرد أوراق وصور، بل نافذة صغيرة تُعيده إلى أحضان زمن مضى.

وكانت هي تراقبه بصمتٍ ناعم، يملؤها شعور بالرضا لأنها رأت الدهشة البريئة مرسومة على وجهه، ثم اقتربت قليلًا وقالت بصوتٍ متدرج بين الفخر والحنان:

“روحنا أنا ودلال النهارده وبدأنا نجمع الصور دي… لقينا شوية عند ماما عبير، والباقي _والأكتر كمان_ كانوا عند جدو محمد، تيتا سندس كانت محتفظة بيهم في صندوق قديم فوق الدولاب… جمعناهم، وقعدنا نرتبهم واحدة واحدة، لحد ما طلع معنا الألبوم ده.”

أشارت إلى آخره بابتسامة خفيفة، وكأنها تحفظ له وعدًا:

“وسبنا كام صفحة فاضية… علشان نحط فيهم باقي ذكرياتنا، أو خليني أقول بصراحة: صورنا مع أولادنا إن شاء الله.”

رفعت نظرها إليه، تترقّب وقع كلماتها، بينما هو ظلّ يقلب الصور ببطء، لكن هذه المرة لم يكن يراها وحده… بل كان يراها بعينيه وبقلبه معًا.

وأخيرًا رفع نظره إليها، وعيناه تتوهّجان بموجة صادقة من الحب، حدّق فيها كأنه يكتشفها لأول مرة، ثم قال بصوت مبحوح بالصدق:

“بعشقك… والله بعشقك.”

لم تكن كلمات عابرة، بل كانت بمثابة اعتراف يفيض من قلبه دون حواجز، ودون انتظار ثانية إضافية، جذبها إلى صدره في عناقٍ دافئ، عناقٍ لم يكن فيه مجرد قرب، بل احتواء كامل.

ضحكت هي بخفة، والفرح يتسرّب من ملامحها، بينما راحت تمرر كفها برفق على ظهره كأنها تربّت على قلبه نفسه.

وبعد لحظات، ابتعدت قليلًا لترى وجهه من جديد، رفعت بصرها إلى عينيه التي مازالت تحمل بريق الاعتراف، وقالت بابتسامة هادئة:

“تيجي نتفرج عليهم سوا؟”

ابتسم وهو يمرر أنامله على وجنتها، ثم رد بخفّة ممزوجة بالدفء:

“أغير هدومي بس… وأجيلك فورًا.”

.

.

.

.

وها هي الدقائق قد مضت، وها هما يجلسان معًا في الغرفة، بينما النجوم تتلألأ فوقهما بوضوح من خلال السقف الزجاجي، وكأن السماء تشاركهما هذه اللحظة الخاصة.

كان هو يمسك الألبوم بين يديه، يتنقل بين صفحاته بتركيزٍ مشوب بالحنين، فيما كانت هي ملتصقة به، تميل برأسها على كتفه في هدوء، يراقبان معًا الصور… أو بالأحرى الذكريات التي تعيش من جديد بين الصفحات.

ابتسم وهو يشير إلى إحدى الصور قائلاً بنبرة يغلبها شيء من الدهشة والاعتزاز:

“دي أول صورة ليا لما اتولدت.”

ضحكت بخفة، عيناها تلمعان وهي تحدق بالصورة:

“كنت كيوت أوي.”

التفت لها بنظرة مازحة، وهو يرفع حاجبيه:

“ودلوقت إيه؟”

تألقت ضحكتها أكثر، ثم مدت يدها برفق، أمسكت بذقنه ورفعته قليلًا نحوها، لتقول بنبرة صادقة تحمل كل الحب:

“كنت كيوت… بس دلوقت بقيت كيوت وعسل وقمر، وكل حاجة حلوة.”

انفجر ضاحكًا، وضحكت هي الأخرى، ثم التفتت وأشارت بإصبعها نحو إحدى الصور قائلة بعفوية:

“أنت ودلال أهو.”

أطرق للحظة، يتأمل الصورة قبل أن يبتسم ويقول:

“آه، دي كان يوم في المدرسة على ما أتذكر… زي ما أنتِ شايفة كنا رايحين في منتهى الأناقة والشياكة، بس رجعنا في الآخر زي ولاد الشوارع.”

لم تتمالك نفسها فانطلقت ضحكاتها عالية، تردد صداها في الغرفة، بينما هو استمر في تقليب الصفحات.

وفجأة توقفت يده حين أشارت هي لصورة أخرى:

“دي يوم ما خلصت الابتدائية… شوف! كان شعرك طويل وكيرلي إزاي.”

لكن ابتسامته ذابت على ملامحه شيئًا فشيئًا، وحل محلها صمت غريب، نظرت هي له متعجبة، لم تفهم تغيره المفاجئ، حتى همست بتردد:

“لا… اوعى تقول إنك لسه زعلان إنك قصيته.”

تنفس ببطء، وصوته حمل بقايا وجع لم يُمحَ بعد:

“مش أنا اللي قصيته… هما قصوهولي غصب عني.”

رفعت حاجبيها باستغراب، ثم قالت محاولة التخفيف:

“ما هو علشان كان نازل على عينك، كان ممكن يدخل فيها وتوجعك.”

ابتسم بمرارة، وهز رأسه نافيًا:

“ما كان يدخل فيها عادي… ده شعري، ودي عيني، هما كانوا بيحبوا يقربوا من بعض.”

ضحكت بخفة على كلماته، لكن ضحكتها انطفأت حين أنهى جملته بصوتٍ ممتزج بالأسى:

“بس للأسف بقا… خسرته، منه لله اللي كان السبب.”

تسمرت نظراتها عليه، ثم خرج صوتها منخفضًا وجادًا:

“مين اللي كان السبب؟”

هز كتفيه بهدوء، هزة خفيفة تحمل استسلامًا أكثر مما تحمل غضبًا، ثم أجاب وهو يشيح بوجهه كأنه يتحدث عن شيء مات بالفعل:

“معرفش… بس أيًّا كان مين، منه لله.”

لم تستطع أن تمنع ضحكة قصيرة أفلتت منها رغم جدية الموقف، ضحكة كسرت ثقل اللحظة، بينما هو استرسل بنبرة تمزج بين المزاح والمرثية:

“أنتِ ماتعرفيش هو كان عزيز عليّا قد إيه… أنا كنت بحبه أوي، ده أنا فضلت عامل حداد عليه أسبوع كامل بعد ماقصيته، وحاولت أكتر من مرة بعد كده أطوّله تاني، بس كل مرة بياخدوني غصب ويقصوهولي… لحد ما فقدت الأمل واستسلمت.”

ابتسمت هي برفق، تنظر له بحنوّ بينما هو تابع، وصوته صار أهدأ وكأنه يحكي عن قصة قديمة من حياة أخرى:

“وبعدين ستّي الله يرحمها جابتلي طاقية هدية… فبقيت ألبسها علشان أداري شعري، علشان القصة ماكنتش عاجباني… ومع الوقت، من غير ما أحس، لقيت نفسي اتعلقت بيها… وبقيت بحب ألبسها في كل مكان، يعني أنا بدأت ألبسها من قبل ما تسافري بفترة قصيرة… ولحد دلوقتي لسه بلبسها، أي نعم مش دايماً، بس لسه بلبسها.”

هز رأسه ببطء، ثم ابتسم ابتسامة حزينة صغيرة وقال وهو يشيح ببصره عنها كأنه يخفي وجعه:

“بس مع ذلك… لسه زعلان على شعري اللي راح ضحية نوايا ناس عديمين الرحمة، لو كان في جمعية تحمي حقوق الشَعر، كنت أول واحد يبلّغ عنهم من غير تردد.”

ضحكت هي هذه المرة بصوت أعلى، ضحكة محبّة امتزجت بالحنين، وهو لم يقاطعها، تركها تضحك كما تشاء بينما يكتفي بالابتسام لها، وكأن فرحها هو المكافأة الأجمل.

وحين هدأت أخيرًا، قالت وهي تمسح دمعة صغيرة سالت من فرط الضحك:

“أنت مش معقول… للحظة اتأثرت، وبعدين خلتني مش قادرة.”

أجابها بخفة، كمن يبرر نفسه:

“بفضفضلك.”

أمالت رأسها وهي تبتسم:

“ده أنت شايل أوي، وكمان مش ناسي حاجة.”

رفع حاجبيه وهو يعدّد بنبرة ساخرة:

“لا أنا ما بنساش… ما عدا عيد ميلادي اللي نسيت إنه النهاردة، وما عدا اللبن اللي نسيته امبارح وغرّق البوتجاز، وما عدا كذا مناسبة كنت واعد أحضرها وما حضرتش، وما عدا…”

قاطعته وهي تلوّح بيدها بخفة، تردّد بسخرية لطيفة:

“خلاص خلاص، واضح إنك فعلًا مابتنساش.”

انفجر ضاحكًا بقوة، ضحكة صافية جعلتها تبتسم وهي تميل برأسها على جانب رقبتها في دلال هادئ، قبل أن تقول وهي ترمقه بنظرة جانبية:

“بس في حاجة كمان أنت ناسيها.”

ارتسمت علامات استغراب على وجهه، عقد حاجبيه وسأل بجدية طفولية:

“إيه هي؟”

ترددت قليلًا، ثم همست بنبرة مقصودة، تحمل غموضًا رقيقًا:

“حاجة كنت قايلالك إني بحبها زي ما بحبك بالظبط.”

اتسعت عيناه فجأة، وكأن تيارًا كهربيًا مرّ في جسده، ثم صرخ بانفعال مضحك:

“الأغنية… يا نهار أبيض! إزاي نسيت؟! إز… إزاي حصل كده؟!”

ضحكت وهي تقول بخفةٍ لا تخلو من عتاب رقيق:

“أهو حصل.”

مرّر كفه في شعره وتنهد قائلاً:

“الشغل والفرح والتجهيزات… كل ده خلاني أنسى.”

أجابته بابتسامة مُطمئنة:

“عادي، بتحصل… ولا يهمك.”

اعتدل قليلًا في جلسته، ثم مال حتى أسند رأسه برفق على فخذها، ينظر لها من أسفل بنظرة طفل مدلل وهو يقول بنبرة هادئة، أشبه بالرجاء:

“طب يلا… غنّهالي.”

“في وقت تاني.”

هز رأسه سريعًا وهو يبتسم بمكر:

“لأ، كل مرة بتقولي في وقت تاني… المرة دي مش هينضحك علياد يلا.”

أطال النظر إليها، كأنه يُمسك بها بعينيه وحدهما، لا يترك لها مجالًا للتملص.

كان يُصرّ على طلبه بإلحاح صامت، في حين كانت هي تكتم ضحكتها بصعوبة، تعرف أن عناده لن يلين هذه المرة، لقد انتظرها طويلًا، يترقب تلك اللحظة منذ شهور، والآن يريد أن يسمعها، أن يلمس من صوتها ما ظل حبيسًا في قلبها.

تنهّدت بخضوع، وكأنها تُسلّم له زمام قلبها في تلك اللحظة، ثم

انطلق صوتها دافئًا، مرتجفًا قليلًا في البداية، لكنه ما لبث أن اكتسب ثقة كلما اندفعت الكلمات من قلبها قبل أن تخرج من فمها، وكأنها تسرد أمامه مذكرات قلبٍ عاش الغربة، يتنقّل بين الذكرى والحنين.

غنّت وهي تستحضر تلك الليالي في غربتها عندما أدركت أنها لم تعد تراه كجوارٍ عابر، بل كنبضٍ يسكنها حتى الذوبان.

كانت كلمات الأغنية أشبه باعتراف، لا يقال بعبارات صريحة، بل يتخفّى خلف اللحن:

من حُبّي فيك يا جاري… يا جاري من زمان،

بخبّي الشوق وأداري… لا يعرفوا الجيران.

من حبي فيك يا جاري، يا جاري من زمان

بخبّي الشوق وأداري، لا يعرفوا الجيران

وحياة حبك ما شبكنا غير شباكك وشباكنا

وعيون تنده وتشاور وتدوّب شوقها ببسمة

وأنا قلبي فيك محتار يا جاري من زمان

بخبّي الشوق وأداري، لا يعرفوا الجيران

ليل ونهار على بالك، وإزاي أقول وأنا جنبك؟

مش قادر أخبي غرامي، ولا أقول يا حبيبي بحبك

خلّي الهوا يوصّل أسرار الهوى

ويقول للجيران يا جاري من زمان

بخبّي الشوق وأداري، لا يعرفوا الجيران

وفي كل مقطع كان صوته الداخلي يجاوبها دون أن ينطق، يبتسم حين تصف الشرفات، وتبتسم عينيه حين يسمع حكاية حبّهما مرسومة في نغمة، وأنها، وإن غنّت كلمات كتبها غيرها، فهي تترجم بها قلبها هي.

وحين انتهت، خيّم صمت ناعم، كأن الزمن توقف احترامًا…

وبقي صدى صوتها معلقًا في الهواء بينهما، ممزوجًا بأنفاسهما ونبضاتهما المتلاحقة، حتى صار من الصعب التمييز: أهو صدى الأغنية، أم رجع صدى قلبيهما؟

كانت النظرة في عينيه كافية لتُخبرها بأنه لم يسمع لحنًا فحسب، بل سمعها هي، سمع قلبها وهي تسلمه إياه طائعًا، دون حواجز، دون خوف.

كان عاشقًا على طريقته، كل ما فيه يبوح بحبه لها…

نظرته تلك لم تحتوِ إلا على الحب، لم يكن فيها شغف عابر ولا رغبة، بل حبّ صافٍ يزداد اتساعًا كلما رمقها، حبّ يفيض به صدره حتى تكاد أنفاسه تعجز عن حمله.

ظل ينظر إليها وكأنه يحاول أن يحفظ ملامحها، نغمة صوتها، تلك اللحظة كما هي، ليخزنها في ذاكرته للأبد.

لاحظت هي ارتباكه الجميل، نظراته التي تائهة في وجهها أكثر من اللازم، فضيّقت عينيها بابتسامة صغيرة وسألته بنبرة دافئة:

“مالك؟”

لم يتردد، لم يبحث عن الكلمات، وكأنها كانت تنتظر على طرف لسانه، فقال بصوتٍ خافت لكنه مشحون بالصدق:

“بحبك… كل خلية فيّا بتحبك.”

ابتسمت وهي تشعر أن قلبها يذوب، ثم مالت نحوه ببطء، تُقبّله قبلة حانية على جبهته، قبلة تشبه وعدًا وسكينة، وقالت بصوتٍ يشبه الهمس:

“وأنا بموت فيك.”

وفي تلك اللحظة، لم يكن بينهما لحن ولا أغنية فقط، بل نبضان متوازيان في صمت المساء، يكتملان ببعضهما كما يكتمل الصدى بصوته.

فما الدنيا، في جوهرها، إلا قلبٌ يُحِبّ وقلبٌ يُحَبّ، ويا لروعة الحياة حين يكون الحب متبادلًا، لا يسير في اتجاه واحد، بل يتنفس بين روحين تتقابلان في المنتصف.

كانا مثالًا لذلك الحب النادر، الذي لا يشتعل فجأة فيحترق سريعًا، بل ينمو على مهل، كزهرة تنبت من تربة صبر، تُسقى بالحنين، وتُظلّلها المودة.

حبّهما لم يأتِ بعاصفة، بل بخطوات هادئة وواثقة، تتكئ على العشرة، على التفاهم، على تلك التفاصيل الصغيرة التي تبني بين اثنين وطنًا آمنًا.

لقد نضج حبّهما كما تنضج الثمار في ضوء الصباح، لا بعجلةٍ ولا بخوف، بل بيقينٍ أن ما يزرع بالصدق لا تذروه الرياح.

لذا صار حبّهما حُبًّا لا يُكسر، لا يتصدّع أمام تعب الأيام، بل يزداد صلابة وبهاء، حتى غدا صورةً حيةً للحب الحقيقي، ذاك الذي لا يملّ، ولا يملأه الضجر، بل يزداد إشراقًا كلما مرّ عليه الزمن.

_____________

____

في صباحٍ صافٍ يتسلّل إليه الضوء برفق من خلف الستائر، كانت

شمس

واقفة في المطبخ، يعبق المكان برائحة الخبز الطازج والجبن الأبيض، يعلو صوت الملاعق وهي تترتب على الطاولة، حركةٌ صغيرة لكنها تشبه النبض الذي يمنح البيت حياة.

كانت تُحضّر الفطور بعنايةٍ أمٍّ تعرف أدقّ ما يحبّه أبناؤها، وبين انشغالها بوضع الأطباق، وصلها صوت ابنها

أدهم

من الغرفة المجاورة، صوته يحمل استعجال الشباب المعتاد:

“تمام ماشي، هنزل أهو.”

رفعت رأسها نحوه فور خروجه من غرفته، الهاتف في يده ينزلق إلى جيب بنطاله بخفة.

سألته باهتمامٍ أموميٍّ ممزوجٍ بالقلق المعتاد:

“هتنزل دلوقتي؟ مش هتفطر الأول؟”

اقترب منها، التقط قطعة خبز من على الطاولة وهو يردّ بابتسامةٍ خفيفة تُحاول طمأنتها:

“هاخد سندوتش عالسريع، وابقى أكمل في المكتب إن شاء الله، علشان متأخر وموسى هيعدّي عليّا.”

لكن قبل أن تردّ، جاء صوت

عالية

من خلفهما، حادًّا وقاطعًا، كأنّه طعنة في هدوء الصباح:

“موسى تاني؟”

التفت الاثنان نحوها، كانت تقف بملامح مشدودة وعينين تشعّان استنكارًا، تقدّمت ببطء، وواصلت نبرتها الجادة:

“إنت لسه بتتعامل مع البني آدم ده؟”

زفر

أدهم

بنفاد صبر، وضع قطعة الخبز على الطاولة وقال بحدةٍ محكومة:

“أنتِ عايزة إيه يا عالية؟ عايزاني ما أروحش معاه؟ أقوله معلش يا موسى مش هروح معاك الشعل بس هاشتغل عندك عادي؟”

تقدّمت خطوة أخرى نحوه، عيناها تتّقدان بالرفض، ونبرتها ارتفعت قليلًا وهي تقول بثباتٍ لا يخلو من رجاء:

“ولا تروح معاه، ولا تشتغل معاه يا أدهم، أنا عايزاك تقطع علاقتك بيه، بل بكل اللي في العمارة… لحد ما نتنيّل ونِمشي من هنا.”

ساد صمت ثقيل، سرعان ما قطعه صوت

شمس

وهي تقول بحدّةٍ حاولت أن تجعلها حازمة أكثر من كونها غاضبة:

“عالية!”

كانت تحاول أن توقف احتدام الموقف قبل أن يتفاقم، لكن

أدهم

قطع حديثها بهدوءٍ مهذب، صوته ناعم لكنه يحمل قرارًا داخليًا واضحًا:

“معلش يا ماما… آسف علشان بقاطعك.”

ثم حوّل نظره مباشرةً إلى أخته الكبرى، ونبرة صوته اكتسبت ثباتًا غير معهود، كأنه استجمع كل ما فيه من اتزان كي يواجهها دون أن ينفجر:

“مش هقطع علاقتي بحد يا عالية، ولا بموسى ولا أهل موسى، ولا حتى عمو مصطفى… الناس دول مغلطوش فينا علشان نقطع علاقتنا بيهم.”

حدقت

عالية

فيه بعينين تملؤهما الذكرى والغضب، تقترب منه خطوة بخطوة، كأنها تريد أن تثبت له شيئًا بالقرب أكثر من الكلام، وصوتها هذه المرة خرج أعمق:

“أمال اللي كان جاي يطلب إيد أمك من كام يوم ده إيه؟ هتتعامل معاه عادي كده؟”

تصلبت قسماته للحظة، لكنه ظل ثابتًا، يحاول ألّا يجعل كلامها يستفزه، ثم رفع رأسه قليلًا وردّ:

“آه… أنا حر، أتعامل مع اللي أنا عايزه، وأنتِ كمان حرة… وماما برضه حرة، كل واحد حر يا عالية… مش هنتحكم في بعض على آخر الزمن.”

كان صوته لا يحمل تحديًا، بل مزيجًا من

وعيٍ ونضجٍ ومسؤولية

، كأنّه يحاول أن يعلّمها دون أن يعظ، أن الحرية لا تكتمل إلا حين نحترم اختيارات الآخرين.

أما

شمس

فظلت واقفة بينهما، تتقلّب نظراتها بين ولديها، قلبها ممزق بين رغبةٍ في تهدئة الأمور وبين خوفٍ من أن تتسع الهوة أكثر، إلى أن التفت إليها

أدهم

فجأة وقال بصوتٍ هادئ، لكنه هذه المرة محمّل بمعنى أكبر من مجرد خبرٍ عابر:

“وعلى فكرة يا ماما… أنا روحت كتب كتاب كارم مع عمو مصطفى، والنهارده خارجين، هنروح عند الدكتور وبعدين ممكن نتغدى سوا.”

اتسعت عينا

عالية

بذهولٍ حاد، بينما تجمّدت

شمس

في مكانها، و

أدهم

فقط ظل واقفًا بثبات، ألقى نظرة قصيرة على شقيقته التي بدت كبركانٍ على وشك الانفجار، ثم أعاد نظره لوالدته وقال بصدقٍ لا يخلو من رجاءٍ خفيّ:

“عمو مصطفى راجل طيب ومحترم، وبصراحة أنا بحبهد يعني أنا ما شفتش منه حاجة وحشة لحد دلوقتي، والراجل في قمة الاحترام معانا… وأعتقد إنك يا ماما عارفة ده أكتر مني.”

كانت كلماته هذه أكثر من مجرد دفاع، كانت

رسالة خفية

،

في كل حرفٍ قاله، كانت

شمس

تسمع ما وراءه… إذ لم يكن يحدّثها عن مصطفى فقط، بل كان يخبرها ضمناً أنه

لا يمانع عودتها إليه

، وأنه يرى في ذلك الرجل أمانًا وعوضاً لها.

وفهمت هي الرسالة، ورأت في عينيه تفهّمًا عميقًا لم تظن أن ابنها امتلكه بعد، بينما

عالية

وقفت تراقبهما بوجهٍ يشتعل غضبًا، إذ لم تستطع أن تحتمل تلك النظرات التي مرّت بين أمها وأخيها… نظراتٍ لم تكن مجرد تفاهم، بل اعتراف صامت بأمرٍ لم ترغب يومًا أن يحدث.

وقبل أن تنفجر الكلمات من فمها، قطع

أدهم

الموقف بتنهيدةٍ هادئة، ثم قال وهو يلتقط الشطيرة من على الطاولة:

“أنا همشي بقى علشان ما أتأخرش… وماتعملوش حسابي على الغدا.”

قالها ومضى بخطواتٍ ثابتة نحو الباب، تاركًا خلفه صمتًا أثقل من الكلام.

وقفت

عالية

تنظر لأمها بعيونٍ تفيض بالأسئلة والاعتراض، بينما كانت

شمس

تتابع ابنها وهو يبتعد، يعتصرها مزيج من الحنين والخوف؛ صور الماضي تتزاحم في ذهنها، تتقاطع مع ملامح الحاضر، وتغمرها رهبة أن يُعاد الماضي، ولكن هذه المرة…

بقسوةٍ أكبر.

_________________

في جهة الأخرى…

كانت تقف أمام المرآة تُعدّل حجابها بعناية، ما زالت خطواتها فيه مترددة، وكل محاولة تحتاج منها صبرًا ووقتًا لتبدو كما تريد.

وبينما كانت تركز في طيّات القماش، دوّى صوت بوقٍ مألوف… صوت دراجته النارية.

تجمّدت لثانية، ثم ارتسمت على شفتيها ابتسامة عفوية، خفيفة، تُشبه ارتياح القلب حين يلتقي ما ينتظره.

أسرعت تلتقط حقيبتها الصغيرة، ثم خرجت من غرفتها بخفة، تهبط الدرج بخطواتٍ تكاد تلامس الهواء، حتى فتحت الباب وخرجت، وهناك كان يقف… يستند إلى دراجته، بانتظارها، وعيناه تتبعان خطواتها كأنها المشهد الأجمل في صباحه.

ألقى السيجار أرضًا وكأنه يُسقط معه كل ما كان يشغله قبل لحظة، ثم فتح ذراعيه لها، يعلن استقبالها بابتسامة واسعة وصوتٍ دافئ:

“يا أهلا باللي خطفت قلبي، وخلتني أُسَلِّم لها… ألف مرحب بالبسكوته.”

وكالعادة ختم جملته بغمزة مشاكسة، فارتسمت على وجهها ضحكة تلقائية وهي تركض نحوه بلا تردد، ليتلقفها في حضنه كما لو أنه كان ينتظر هذه اللحظة منذ عمرٍ بأكمله، ويستنشق عبيرها العذب قبل أن يهمس:

“صدق اللي قال: يا جمال الحضن الحلال.”

ضحكت برقة كطفلة، ثم ابتعدت قليلًا، فظل يطالعها بعينين تمزج بين الجد والمزاح قبل أن يقول بنبرة ساخرة:

“هو أنا مالي بقيت رومانسي كده ليه؟ ماكنتش كده على فكرة.”

أجابته بابتسامة واثقة، امتزجت بالخجل:

“يمكن سحرتك.”

ردّ وهو يميل برأسه قليلًا وكأنه يعترف دون أن يقصد:

“جايز… أصل كنت عابرًا بلا وجهة، بس لما شوفتك بقيت أسير هواكِ بلا رجعة.”

كان صوته هذه المرة يخرج من أعماقٍ لم يطرقها من قبل، بلا خفة ولا تلاعب، بل بصدقٍ نادر يشبه الاعتراف أكثر مما يشبه المزاح، اعتراف رجلٍ أدرك أن في وجودها تكمن وجهته، وأن قلبه الذي طال التيه قد وجد أخيرًا معنى البقاء.

ابتسمت بخجلٍ كالمعتاد، فقد تسلّل دفء كلماته إلى قلبها على حين غفلة، فآثرت الصمت كي لا تُفسد لحظةً بهذا الصفاء.

التقط هو ملامح ارتباكها وابتسم بخفةٍ تُعيده إلى طبيعته المرحة، قبل أن تتسلل إلى أذنه خطوات قادمة.

رفع رأسه تلقائيًا، ليجد “جنة” تقترب بابتسامتها الهادئة التي تحمل ألف معنى، وقالت بصوتٍ مفعم بالودّ:

“إزيك يا كارم؟”

أجابها بهدوء:

“الحمد لله، حضرتك عاملة إيه؟”

“بخير، الحمد لله.”

بادلها ابتسامة قصيرة، فيما كانت نظراتها تتنقل بينه وبين ميرنا، ثم قالت بنبرةٍ عفوية:

“رايحين الشغل؟”

ردّ سريعًا، وقد تسابق لسانه مع فكره:

“لا، مزوغين… أقصد، لأ، مش رايحين.”

ضحكت ميرنا بخفةٍ جعلت الجوّ يلين، بينما تابعت “جنة” وهي تكتم ابتسامتها:

“خارجين يعني؟”

أومأ كارم برأسه وهو يردّ بابتسامةٍ نصف جادة:

“أه.”

ابتسمت “جنة” بهدوءٍ دافئ وهي ترفع يدها لتداعب وجنة “ميرنا” بحنوٍّ أموميّ، قائلة بنبرةٍ يملؤها الاهتمام:

“طب خدوا بالكم من نفسكم.”

أومأت “ميرنا” برأسها، وتبعها “كارم” بابتسامةٍ صغيرة وهو يرمق تبادل النظرات بين الاثنتين قائلاً بخفةٍ ممزوجة بالجدية:

“حاضر.”

ردّت “جنة” بابتسامةٍ لطيفة، ثم وجهت نظرةً قصيرة لكلٍّ منهما قبل أن تستأذن وتغادر.

تقدّمت بخطواتٍ رزينة نحو سيارتها التي كان سائقها ينتظرها، جلست في المقعد الخلفي، ولوّحت لهما بيدها قبل أن تنطلق السيارة مبتعدة.

ظلّا واقفَين يراقبانها حتى غابت عن الأنظار، قبل أن يلتفت كارمإلى ميرنا بابتسامةٍ جانبية وهو يقول:

“شايف إن في تطوّر.”

ابتسمت بخفة وهزّت كتفيها بلا تعليق، فقهقه هو وهو يضيف:

“لأ، في تطوّر فعلاً… وأنا شايف إنّك حابّة التطوّر ده، هي تستحق تقربي منها… في غيرها لأ.”

كانت كلماته الأخيرة تحمل تلميحًا واضحًا، فالتقطت “ميرنا” معناه فورًا وقالت بسرعة:

“سافرت… ريناد سافرت.”

رفع حاجبيه بدهشةٍ صادقة، وهو يردد:

“بجد؟”

أومأت وهي تجيب بهدوء:

“أه، سافرت النهارده الصبح.”

ابتسم وهو يقول بارتياحٍ لا يخفيه:

“عظيم… تصدقي فرحت؟ وشايف إنك كمان فرحانة.”

ترددت لحظة قبل أن تجيب بصدقٍ هادئ:

“عايز الصراحة؟ آه… فرحانة، وجودها بيخليني مش مرتاحة… بعدها أمان بالنسبالي.”

نظر إليها مطولًا، كأنه يقرأ ما بين سطورها، ثم اقترب خطوةً حتى صار قريبًا بما يكفي لأن يضع كفيه على وجنتيها برفقٍ حانٍ وقال بصوتٍ منخفضٍ كالوعد:

“إذا كانت قريبة أو بعيدة… أنا هنا، أمانِك الجديد.”

تجمّدت نظراتها بين يديه لثوانٍ بدت أطول من الزمن ذاته، كأنها تسمع كلماته لا بأذنها، بل بقلبٍ بدأ يؤمن أن الطمأنينة يمكن أن تتجسد في رجل… فيه هو تحديدًا.

كانت نظراته تغمرها بالسكينة، تتشابك مع أنفاسها في لحظةٍ تداخل فيها الدفء بالعجز عن النطق.

لكن فجأة، ضاق عينيه بخبثٍ مألوف وقال بنبرةٍ مشاكسة كسرت ثقل اللحظة:

“إنتِ مُزّة أوي.”

انفجرت ضحكتها بعفويةٍ ناعمة، فضحك هو بدوره، مائلًا نحوها قليلاً وقد عادت إلى ملامحه تلك الثقة الممزوجة بالدلال، قبل أن يهمس بخفةٍ فيها دفء وجرأة:

“حاسس إني قليل الأدب… بس عادي.”

ثم أردف وهو يرفع حاجبه بمكرٍ طفولي:

قليل الأدب بس حنين والله،

هديكِ العلقة وبعدين هصالحك.”

ضحكت مجددًا، ضحكةً دافئة خفيفة، كأنها تحتمي بها من فيض المشاعر التي بعثرتها كلماته الأولى، لكنها _دون أن تدري_ كانت تغرق أكثر في صدق الرجل الذي استطاع أن يبدّل ارتباكها بالطمأنينة، وصمتها بالضحك، والخوف بالحب.

تأمّلها للحظاتٍ بصمتٍ مبتسم، حتى هدأت ضحكاتها الصغيرة، فقال بنغمةٍ دافئة:

“نمشي؟”

أومأت له بالإيجاب، فبادلها ابتسامة خفيفة وهو يشير نحو الدراجة، التقط الخوذة الإضافية وثبّتها على رأسها بعنايةٍ تفيض رفقًا، كأن لمسته تحمل حنانًا أكثر من كونها حركة عادية، ثم ارتدى خوذته وصعد، لتلحق به هي وتجلس خلفه، وتتمسك بمعطفه.

ثم جاءها صوته وهو يلتفت قليلًا:

“مرتاحه؟”

ابتسمت، وأومأت برأسها بخجلٍ رقيق، ثم شدّت قبضتها على معطفه، فابتسم هو بدوره واتسعت ابتسامته تلك التي تراها حتى من دون أن تراه.

ثم انطلقت الدراجة تشقّ الطريق، الرياح تعبث بحجابها وتدفع طرفه إلى الخلف كأنها تدفعها هي نحو الحرية.

الهواء يصفع وجهيهما بخفةٍ لاذعة، والدنيا من حولهما تتحول إلى خطوطٍ باهتة؛ لا شيء واضح سوى إحساسها بأنها تُحلّق، وأنها آمنة.

كانت المرة الأولى التي تركب فيها دراجة نارية، والمرة الأولى التي تثق في شيءٍ بهذه السهولة، ورغم الخوف الذي حاول أن يزحف إلى قلبها، إلا أن وجوده أمامها، ودفء صوته في أذنها، كانا كافيين ليمحوا كل خوف، ويتركا مكانه إحساسًا واحدًا… هو الفرح.

وكما حلقا بالدراجة على الطريق، حلقا بعد ساعات فوق صهوات الخيل في حلبة المزرعة، حيث الهواء يختلط بصهيل الخيول وضحكاتهما.

انطلقا معًا، كتفين متوازيين، يسبقها تارةً فتتبسّم بخبثٍ جميل، ثم تسرع لتتقدمه، فيضحك بصوتٍ يملأ المكان دفئًا وحياة.

كانت الحلبة تضجّ بالحركة، والريح تعانق وجهيهما، والخيول ترفس الأرض بقوةٍ كأنها تعرف أن فوقها قلبين عاشقين يتسابقان لا للفوز، بل للفرح.

ارتفعت ضحكاتهما بين نَفَسٍ وآخر، بين سباقٍ وسباق، وكأن الزمن توقف احترامًا لتلك اللحظة النادرة التي يلتقي فيها الحب بالحرية.

في النهاية، لم يكن ما بينهما مجرد لهوٍ أو سباقٍ عابر، بل كان تأكيدًا خفيًّا أن كليهما وجد ضالّته في الآخر؛ هو لم يجد فيها حبيبةً أو زوجة فحسب، بل

وجد الحب الحقيقي الذي يملأ كيانه،

وهي لم تجد فيه حبيباً وزوجًا فقط، بل أمانًا يسكن روحها.

_________________

على الجهة الأخرى…

كانت واقفة في الصيدلية، يديها ترتبان الأدوية بعناية على الرفوف، حين اقتحم صوت محرك سيارة هادئًا المكان، ليقاطع هدوء لحظتها.

رفعت رأسها ببطء نحو الباب، لتتفاجأ بموسى وهو يترجل من سيارته، يلتف حولها بخطوات واثقة، ويخرج صندوقًا كبيرًا بعض الشيئ يغمره الغموض.

تقلص حاجباها بدهشة، وامتزج الاستغراب بحيرة لطيفة في عينيها، وهي تراقبه وهو يحمل الصندوق وكأنه يحمل سرًا صغيرًا، وابتسامة دافئة تختبئ بين الشفاه، ترتسم على وجهه بدهاء لطيف، كما لو كان يعلم شيئًا لا تعرفه هي.

وضع الصندوق على الطاولة الزجاجية بعناية، ثم التفت نحوها، لتلتقي عيناه بعينيها، فتشعر بوهج فضولي يغمرها.

ثم همست بصوت خافت ممزوج بالدهشة:

“ايه ده؟”

ألقى نظرة سريعة على الصندوق، كأنها لحظة تأمل قبل أن يكشف عن سر صغير، ثم نظر إليها مباشرة، وقال بابتسامة دافئة تحمل نبرة سرية:

“هدية عيد ميلادك.”

ابتلعت شفتها السفلى قليلاً، وعيناها تتسعان بدهشة خفيفة، قبل أن تسأله بفضول متوهج:

“كل دي! ليه جايبلي فيها ايه؟”

رمق الصندوق بنظرة حانية، ثم همس بدهاء خفي يثير الفضول:

“افتحي… وأنتِ تعرفي.”

طالعته لثوانٍ، قلبها ينبض بخفة، قبل أن تقترب ببطء من الصندوق، وتبدأ بفتحه بحذر، بينما وقف هو يراقبها بترقب واضح، عينيه تلمعان بانتظار رد فعلها، كأن كل ثانية تمر تثقلها حماسة خفية.

وعندما كشفت أخيرًا عن محتوياته، اتسعت عيناها بدهشة خالصة، تنظر إليه وكأنها لا تصدق ما ترى، وتهمس بصوت منخفض، ممزوج بالفرح:

“مش معقول.”

ابتسم موسى ببساطة مرحة، نبرة صوته تحمل الطمأنينة والمرح في آن واحد:

“لأ، معقول.”

ضحكت، ضحكة خفيفة، تملأ المكان بدفء مفاجئ، ثم أعادت نظرها إلى الصندوق، وبدأت تسحب منه المحتويات واحدة تلو الأخرى.

كانت الملابس صغيرة الحجم، دقيقة التفاصيل، كل قطعة تحمل لمسة حب واضحة، وقد أتى باثنان من كل شيء.

رفعت قطعة ملابس صغيرة بفرحة عارمة، عيناها تتلألأ، وهي تردد بلا توقف:

“تحفة.”

وضعت الملابس جانبًا برفق، ثم أخرجت دميتين صغيرتين، ومعهما ألعابًا أخرى، وحاجيات صغيرة خاصة بالأطفال حديثي الولادة.

شعرت بدفء غامر يملأ قلبها، وكأن الفرحة تتسرب إلى كل جزء من جسدها، تملأها إحساسًا بالحنان والدهشة معًا.

ظلت يداها تغوصان بين محتويات الصندوق، تخرج واحدة تلو الأخرى، تلمس كل قطعة بفرح ودهشة، ثم رفعت نظرها لتلتقي بعينيه، فوجدته يبتسم، صوته يخرج ممتلئًا بالمرح والاعتراف الصادق:

“قعدت أفكر وأقول ياواد يا موسى، تجيب لها إيه؟ تجيب لها ايه؟ لحد ما افتكرت إنك حامل.”

رفعت حاجبها بضيق، محاولة كبح ابتسامة صغيرة، لكنه ضحك بخفة، ثم تابع:

“المهم، بعد استشارة فيروز، قعدنا نختار بقى الحاجات اللي التوأم هيحتاجوها أول ما يجوا، فاختارنا الحاجات دي وروحت اشتريتهم… أتمنى هديتي تبقى عجبتك.”

ابتسمت وهي تلمس الدمى الصغيرة والملابس، وعيناها تتلألأ بامتنان:

“عجبتني إيه بس؟ دي تحفة يا موسى… أنا وطارق لسه ما اشترناش حاجة ليهم، يعني أنت أول واحد تجيبلهم حاجة.”

ارتسمت على وجهه ابتسامة فخر هادئة، تحمل رقة ومرحًا في الوقت نفسه، وقال بنبرة لم تخلو من المزاح:

“عظيم، كده أبقى مميز عندهم… ولما يكبروا أبقى أفكرهم بده.”

ضحكت على كلماته، وضحك هو الآخر معها، حتى توقفت فجأة وهي تمسك بالملابس الصغيرة بين يديها، وعيناها تلمعان بفضول ممزوج بالحيرة:

“بس إيه اللي خلاك تجيب لولد وبنت؟ احنا لسه ماعرفناش جنس المولود… ممكن يبقوا ولدين وممكن يبقوا بنتين.”

ابتسم، ثم قال وكأنه يشاركها تفكيره الداخلي:

“ماأنا قعدت أفكر كتير، وكنت محتار أوي، لحد ما قلت خير الأمور الوسط… وروحت جيبت لولد وبنت.”

ضحكت مجددًا، ضحكة صغيرة، رقيقة، ممتلئة بالفرح، بينما ظل هو يراقبها، متأملاً سعادتها بتلك البساطة، بتلك اللحظة الصغيرة التي تلمع فيها البراءة والمرح.

ثم توقفت فجأة، اقتربت خطوة منه، وتوقفت أمامه مباشرة، عيونها مليئة بالمكر المعتاد، ورفعت يدها ببطء، ناوية مداعبة وجنته كما تفعل دائمًا لإثارة غيظه.

لكنه كان أسرع هذه المرة، عرف نواياها قبل أن تصل، ابتعد خطوة صغيرة، مع ابتسامة ماكرة على وجهه، وقال بنبرة محببة لكنها حازمة:

“مش كل مرة لأ.”

انطلقت ضحكتها من جديد، خفيفة ومرحة، تتردد في أرجاء المكان، بينما ظل هو يراقبها بغيظ مصطنع، لكنه سرعان ما انفجر هو الآخر بالضحك، لتملأ ضحكاتهما الدافئة المكان، وكأنها لحظة صغيرة من السعادة الخالصة

.

وعندما بدأ الصدى يتلاشى شيئًا فشيئًا، دخلت “لينا” المكان، وعينيها تتلألأ بالفضول، فأشارت لها دلال بالاقتراب، بابتسامة عريضة:

“تعالي يا لينا، تعالي شوفي موسى جايبلي إيه في عيد ميلادي.”

تملك الفضول لينا، واقتربت ببطء من دلال، لتبدأ الأخيرة بعرض محتويات الصندوق واحدة تلو الأخرى، فتنبهر عيناها بما تراه، وتعلّق بود وحماسة:

“ياكوتي، إيه الحلاوة دي!”

ضحك موسى مازحًا، وعيناه تلمعان بالمداعبة:

“أكيد هيبقوا حلوين… ده أنا دافع فيهم دم قلبي.”

نظرت له دلال، عيناها تختلط فيها الدهشة بالدفء، وقالت بصوت خافت، ساخر:

“تصدق، كنت مستنية أسمع منك الكلمتين دول منك من ساعتها.”

ضحكت لينا على تعليق دلال بخفة، بينما أطلق موسى ضحكة قصيرة مشوبة بالسخرية، ثم أشار نحو الصندوق بعينين تلمعان بالمرح، وقال ببساطة:

“أسيبكم أنا بقى تتفرجوا براحتكم… وآه، لفي بيه على كل العيلة، وقوليهم موسى اللي جايبهم.”

أنهى كلامه وغادر المكان تحت نظراتهم المزيجة بين الدهشة والسخرية، وفي اللحظة التي غادر فيها، تحولت نظرات لينا وملامحها تمامًا، عندما سمعت صوته يهتف من بعيد:

“حسن، خدني معاك!”

التفتت لينا تلقائيًا نحو الباب، وكأنها تنتظر أن تراه، لكن بالطبع لم يحدث ذلك.

ومع ذلك، لم تخف لهفتها على وجهها عن دلال، التي ضيّقت عينيها قليلًا، قبل أن يدور في رأسها لحظة إدراك مفاجئة، فتوجهت إليها بحذر ونبرة نصف مزحة:

“ماتقوليش اللي في بالي.”

ارتجفت لينا قليلاً، وخجل يتسلل إلى وجنتيها، فأسرعت بالنفي:

“قصدك إيه؟؟”

ابتسمت دلال ابتسامة نصف محققة، نصف متفهمة، وقالت بصوت هادئ وحاد قليلًا:

“لأ، أنتِ فاهمه قصدي كويس… أنتِ تقعدي دلوقتي وتقوليلي حصل كده إزاي وامتى؟”

.

.

.

.

ضربت دلال كفيها ببعضهما، وعينيها تلمعان بمزيج من الفضول والدهشة، وهي تردد بنبرة شبه مستهجنة وملؤها الدهشة:

“أتارى سهير! كل ما تكلمني، تقول البنت متغيرة… بقت ملتزمة في الصلاة وبتقرأ قرآن على طول، وغيرت استايل لبسها، ده حتى بقت تقعد في البلكونة تسمع خطبة الجمعة من أولها لآخرها… وأنا بقولها بتحصل، مسيرها لما تكبر تعقل، أتارى البنت عقلت… عشان بتحب!”

خفضت لينا عينيها بخجل، قلبها ينبض بسرعة، وابتسامتها تكاد تختفي بين خجلها وإحساسها بالحرج، بينما استمرت دلال بنبرة لا تخلو من الحدة والفضول، لكنها مليئة بالحنان أيضًا:

“بتحبي الشيخ حسن يا قطة؟”

تنهدت لينا بخفة، محاولة تخفيف التوتر، وهمست:

“خلاص بقى يا خالتو… هتخليني أندم إن حكيتلك.”

لكن دلال لم تتركها تهرب، عيناها تتقدان بالفضول، صوتها يختلط بالحرص والرغبة في المعرفة:

“هو اللي حكيته يعتبر حاجة، أنا عايزة أعرف كل التفاصيل… عايزة أعرف وقعك إزاي الأستاذ ده… ده عمره ما رفع عينه على واحدة!”

سكتت لينا لحظة، عيونها تائهة بين الخجل والتردد، قبل أن تهمس بصوت خافت وكأنه يكاد يختفي:

“ما أنا قولتلك يا خالتو… هو كان جنبي في فترة العلاج مع موسى.”

رفعت دلال حاجبها بفضول، مبتسمة بطريقة تشجعها على الاسترسال:

“أنتِ حكيتلي النقطة دي… غيره بقى، بعد كده ايه اللي حصل؟”

ارتجفت لينا قليلاً، وغرقت في خجلها، عيناها تتجنب نظرات دلال، بينما ابتلعت ريقها بصعوبة، ثم ترددت بصوت خافت كنسيم رقيق:

“معرفش ده حصل إزاي والله يا خالتو… فجأة كده بقى قلبي يدق كل ما أشوفه، كل بس ألمحه أو تيجي سيرته أو أسمع صوته قلبي بيرتعش… يعني… مش عارفة… بس هو بجد إنسان جميل… يعني محترم ومهذب، وزي ما قلتي عمره ما رفع عينه على واحدة… وطريقته في الكلام سلسة أوي وبتريحك… يعني، في كل موقف حصل بينا كنت بنجذب ليه ولشخصيته أكتر.”

ابتسمت دلال، وعيناها تعكس تقديرها الصادق لما تصفه لينا، وقالت بهدوء واعتراف:

“هو للحق شخصيته حلوة… ما أقدرش أقول في حقه حاجة.”

سكتت قليلًا، تنهدت ببطء، وكأنها تزن الكلمات قبل أن تنطق، ثم قالت بحذر:

“بس أنتِ قربتِ ربنا علشانه؟”

هزّت لينا رأسها بسرعة، وصوتها يختلط بالخجل والاعتراف:

“لأ… أنا قربت علشان نفسي… بصي، هو في مرة سألني إذا كنت بصلي ولا لأ، فانا قولتله إني مش ملتزمة أوي… وهو ساعاتها كان عارف، فبصراحة كنت محروجة جدًا، ومضايقة أوي من نفسي… يعني هو غريب ولاحظ حاجة زي دي… فبجد كنت محرجة… علشان كده قررت ألتزم، وشوية فشوية فعلا التزمت، وبقيت أسمع videos تحفزني، وبدأت أخصص وقت من يومي علشان أقرا قرآن… وأخيرًا قررت أغير من استايلي.”

رفعت دلال حاجبها، عيناها مليئتان بالفضول والدفء، وقالت بابتسامة خفيفة:

“والخطبة؟”

أجابتها لينا، وهي تبتسم بخجل وتخفض رأسها قليلًا:

“لأ، دي كنت بسمعها… علشانه بصراحة.”

انطلقت ضحكة دلال الدافئة، عميقة ومليئة بالمرح، ثم قالت بخبث يلمع في عينيها:

“طب، وعلى كده بقا… شيخنا واقع ولا؟”

رفعت لينا كتفيها بخفة، صوتها مختلط بالخجل والارتباك:

“معرفش.”

ابتسمت دلال بابتسامة خفيفة، ثم سألتهما بنبرة ماكرة:

“طب، ما لاحظتيش حاجة عليه؟”

أجابت لينا بسرعة، محاولة كبح ابتسامتها:

“لأ.”

سكتت دلال قليلاً، تومأ برأسها وكأنها تفكر مليًا، عيونها تتأمل، ثم قالت بصوت منخفض وابتسامة خفية:

“سيبي الموضوع ده عليا… أنا وشريكي.”

وفي تلك اللحظة بالذات، كان شريكها نفسه، يصعد إلى شقته بخطوات هادئة، حتى شعر باهتزاز خفيف يصدر من هاتفه، يعلن عن وصول رسالة جديدة.

توقف موسى عند باب شقته، أخرج الهاتف ليقرأ الرسالة ببطء، وعيونه تتسع بدهشة مفاجئة، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة، ورفع حاجبيه بعجب، وقال بصوت مختلط بالدهشة والسخرية:

“لأ…”

_________________

مع مرور الوقت…

دخل كارم إلى السيبر حيث تجمع أصدقاؤه، وعيناه تلمعان بدهشة ساخرة، وصوته يرتفع في مزيج من الفضول والمرح:

“أول ما شوفت الرسالة، قلت والله لأجي، رغم إني كنت تعبان من المشوار… بس حدث زي ده ما ينفعش يتفوت، مش كل يوم حسين يطلبنا علشان يتكلم معانا في حاجة مهمة!”

ضحك أصدقاؤه، ما عدا حسين، الذي ظل صامتًا، يراقبهم ببرود.، أما موسى فمال إلى جانب المرح، وقال بابتسامة نصف ساخرة:

“إنه يتكلم أصلا دي معجزة… وفي حاجة مهمة، معجزة تانية.”

انطلقت ضحكاتهم من جديد، ضحكات عالية ومليئة بالحيوية، حتى كارم الذي ألقى بجسده بجوار حسين، الذي ظل يرمقهم بنظرة ثابتة، صامتة، وباردة بالطبع.

ثم، بعد لحظة من الصمت، تحدث بصوت هادئ لكنه حازم، عيناه مثبتتان على موسى:

“موسى…”

توقف موسى عن الضحك، لكنه لم يفقد خفته، بينما أضاف حسين، بنبرة بسيطة وواضحة، كأنها تصدم الجميع بلا مقدمات:

“أنا عايز أتجوز بنت عمك.”

#يتبع…

________________

_

كتابة/ أمل بشر.

أتمنى يبقى الفصل عجبكم، ومستنية رأيكم وتوقعاتكم طبعاً💙.

دمتم بخير… سلام.

الفصل التالي: اضغط هنا

يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.

أضف تعليق