رواية موسى (على دروب الحكايا) – الفصل السادس والستون
الفصل السادس والستون(سيفرحه أم يحطّمه؟)
اذكروا الله…
صلوا على رسول الله…
“وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنْصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ”
🇵🇸
نبدأ بسم الله…
________
-في البدءِ كانتْ دهشةُ الخطوةِ الأولى،
ومنها وُلدَ الطريقُ والحُلمُ معًا.
”
أدونيس
”
_____________
وقفت في غرفة المعيشة تغمرها حالة من الحماس والحنين، تتحرك بخفة بين الطاولة والمطبخ، تضع الأطباق بدقة كمن يهيئ المكان لطقسٍ مقدّس.
كانت تعدّ الدقائق منذ أن اتصل بها قبل ساعة يخبرها بأنه في طريقه إليها، ولم تهدأ منذ تلك اللحظة، ترتّب وتعيد الترتيب، وكأنها تحاول أن تصبغ كل زاوية من المنزل بانتظاره.
ثم دوّى في أرجاء الصمت صوت المفتاح وهو يدور في الباب، فارتجف قلبها قبل أن
تتوقف فجأة، كأن الزمن تجمّد عند تلك اللحظة المنتظرة، حدّقت في الباب وهو يُفتح ببطء، ليطلّ منه وجهه الذي حفظت ملامحه عن ظهر قلب، وابتسامته تتسع شيئًا فشيئًا حتى تملأ المكان دفئًا.
ترك حقيبته على الأرض، ووضع قبعة زيه الرسمي فوقها برفق، ثم رفع ذراعيه نحوها بحنينٍ لم يفلّ الزمن حدّته.
لم تتردّد لحظة، اندفعت نحوه كمن وجد نصفه الضائع، وذابت بين ذراعيه في عناقٍ طويل أعاد لكلٍّ منهما أنفاسه.
اقترب منها وانحنى برفق نحو أذنها، وصوته الدافئ ينساب في الهواء كنسمةٍ حنونة:
“وحشتيني… وحشتيني أوي.”
تراجعت قليلاً، وعيناها تتأملان وجهه، ثم همست بابتسامةٍ دافئة:
“وأنت وحشتنا… وحشتنا أوي.”
عندها، اتسعت ابتسامته أكثر، تحولت إلى ضحكةٍ خفيفة صادقة، وانحنى برأسه ناظرًا إلى بطنها، ثم رفع يده ومسح عليها بحنانٍ غامر، وقال بصوتٍ متهدّجٍ بالحب:
“فاكرة لما قولتلك إني بحب رجوعي للبيت أوي بسببك؟… دلوقتي بحبه علشانكم.”
ضحكت بخجلٍ محبّب، ثم رفعت يديها لتحتضن وجهه بين كفيها، عيناها تلمعان بحنانٍ، وقالت بصوتٍ يختلط فيه الفخر بالحب:
“دلوقتي أنا بس اللي بجري عليك وبحضنك… بعد كام سنة، هتلاقي ٣ بيتسابقوا على حضنك.”
انفجر ضاحكًا، تلك الضحكة التي تعرفها جيّدًا، العميقة المليئة بالصدق والسكينة، ثم قال وهو يضمها أكثر:
“مستني اليوم ده بفارغ الصبر.”
ضحكت عيناها، وارتجف قلبها من فرط الامتنان، كأن اللحظة تُحاول أن تحبس الزمن كي لا تمضي، وبينما لا يزال صوتهما متشابكًا
في ضحكةٍ واحدة، تذكّر فجأة وقال بابتسامةٍ ماكرة:
“يلا
بقى… علشان تشوفي هدية عيد ميلادك.”
ارتسمت على ملامحها مزيج من الفضول والحماسة، تلك النظرة التي تجمع بين الترقب والامتنان، وظلت تتابعه بعينيها وهو ينحني قليلاً ليلتقط الحقيبة التي وضعها بجواره منذ دخوله.
ثم التفت نحوها بابتسامةٍ خفيفة، وبلطفٍ يليق بصوته الهادئ قال وهو يشير إلى الأريكة المقابلة:
“تعالي اقعدي.”
أومأت، ثم تقدمت بخطواتٍ بطيئة وجلست على الأريكة، في اللحظة التي وضع هو الحقيبة على المنضدة الصغيرة أمامها، وبدأ بفتحها بحذرٍ يشبه من يفتح قلبه لا حقيبته.
قال وهو ينظر إليها بعينين يملؤهما دفء:
“بما إنك حامل، فعيد ميلادك المرة دي مختلف… علشان كده فكرت كتير، وقررت أجيب هديتين… واحدة ليكِ، وواحدة لولادنا.”
تسارعت أنفاسها، امتزج في داخلها الحماس بعاطفةٍ غامرة لا توصف، بينما تابع هو كلامه وهو يمد يده داخل الحقيبة ويخرج منها
صندوقًا مستطيلاً أنيقًا
، كان مغلفًا بعنايةٍ، كأن بين يديه شيئًا ثمينًا لا يُقدّر بثمن.
مدّه نحوها بابتسامةٍ هادئة وقال بصوتٍ دافئٍ يخفي بين طبقاته حنان العالم كله:
“كل سنة وأنتِ طيبة.”
تناولت الصندوق برفق، ولم تُزل عينيها عنه لحظة، فتحت الغطاء ببطء وكأنها تخشى أن تُفلت منها لحظة السحر، فإذا بداخل الصندوق
قلادة ذهبية على شكل قلبٍ صغير
يتلألأ تحت ضوء المصباح.
تجمّدت للحظة بين الدهشة والفرح، بينما اقترب صوته منها بنغمةٍ خافتةٍ محببة:
“اقلبيها.”
بيدين ترتجفان من التأثر، قلبت القلادة لتجد على ظهرها محفورًا بالإيطالية اسمها:
“Dallal.”
تجمدت الكلمات على شفتيها، كأن المشاعر ازدحمت في صدرها فلم تجد طريقًا للخروج، واكتفت بأن ترفع عينيها نحوه نظرةً تفيض بكل ما لم يُقَل.
كانت نظرتها تلك وحدها رسالة حبٍّ ممتدة، مليئة بالامتنان والدفء، لكنّه لم يمنحها الوقت لتتكلم، إذ مدّ يده من جديد داخل الحقيبة وأخرج صندوقًا آخر، أكبر حجمًا هذه المرة، وهو يقول بابتسامةٍ خفيفة تتسلل منها ملامح الفخر:
“وده لولادنا.”
ناولها الصندوق بعنايةٍ كأنّه يحمل بداخله قطعة من المستقبل، مدت هي يديها تتلقّاه بحذر، وفتحت الغطاء ببطء، وما إن انكشف ما في داخله حتى اتسعت عيناها بذهولٍ ناعمٍ خالطته الدهشة والفرح.
كان هناك
زوجان صغيران من الأحذية الجلدية
، مصنوعان يدويًا بإتقانٍ واضح، يعبقان برائحة الجلد الجديد ودفء الحرفي الذي صنعهما، كأنهما يحملان في ثناياهما أولى خطوات الحلم الذي لم يولد بعد.
تأملتهما بصمت، أصابعها تمرّ عليهما برقةٍ كما لو كانت تلمس وجنتي طفليها للمرة الأولى، بينما ارتسمت على وجهه ابتسامة فخرٍ لا تُخفى، وعيناه تلتمعان بترقب صادق وهو يقول بنبرةٍ يغمرها الدفئ والحنان:
“استغليت إني في إيطاليا وحبيت أجيبلهم حاجة مميزة… إيه رأيك؟”
رفعت نظرها نحوه، تغمرها تلك الموجة الدافئة التي لا تُوصف، عيناها تلمعان بخيوط دموعٍ شفافة ترفض السقوط، وشفتاها ترتجفان بابتسامةٍ يختلط فيها الحب بالامتنان.
ثم تمتمت بصوتٍ خافتٍ لكنه مفعم بالصدق، كأن كل كلمة تخرج من أعماق قلبها لا من لسانها:
“رأيي إنك أحسن زوج في الدنيا… وهتبقى أحسن وأحن أب في العالم… أنا بحبك أوي يا طارق.”
ظلّ صوتهـا عالقًا بينهما للحظةٍ كأن الزمان توقف احترامًا لصدقها، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة صافية، صادقة، نقية من كل زيف الدنيا، وأخيراً، مدّ ذراعيه نحوها دون كلمة، دعوة صامتة لمكانه المفضل في العالم.. بين أحضانها.
تقدمت نحوه بخطوةٍ واحدةٍ كانت كافية ليختفي كل شئ، ويتلقاها بين ذراعيه، ضمّها بقوةٍ كأنه يخشى أن تفلت منه، أن تذوب وتتركه وحيدًا.
كانت أنفاسهما تتداخل، ودقات قلبيهما تتحد، حتى همس بصوته الرخيم عند أذنها، صوته الذي يشبه وعد الأمان:
“وأنا بموت فيكِ… يا وطني، ويا كل ما ليا.”
انسابت كلماته على جلدها كدفءٍ أبدي، فابتسمت بعينين مغمضتين، وكأنها أخيرًا عادت إلى مكانها الأول… قلبه.
ساد بينهما صمتٌ جميل، صمت لا يحتاج إلى تفسير، فكل شيء قيل دون كلمات، اكتفى كلٌّ منهما بأن يضمّ الآخر أكثر، وكأن العناق وعدٌ جديد لا يفنى، وعد بالبقاء، مهما ابتعدت المسافات أو تغيّر الزمان.
في تلك اللحظة، لم يكن في العالم سواهما… هو وهي، ودفء بيتٍ امتلأ بالحب.
_________________
“موسى…”
توقف موسى عن الضحك، لكنه لم يفقد خفته، بينما أضاف حسين، بنبرة بسيطة وواضحة، كأنها تصدم الجميع بلا مقدمات:
“أنا عايز أتجوز بنت عمك.”
تجمّد كل شيء في اللحظة ذاتها، حتى الهواء بدا وكأنه توقف عن الدوران…
حدّق موسى فيه بدهشة تامة، ثم عقد حاجبيه ساخرًا:
“بنت عمي مين يالا؟ دول كلهم متجوزين ومخلفين كمان.”
ابتسم حسين ببرودٍ وأجاب ببساطة:
“يبقى بنت عمتك.”
هنا تحركت نظرة حسن نحوه بحدة، وارتفعت أنفاسه في ترقّبٍ حذر، كأنه يخشى أن يسمع اسمًا بعينه، لكن ما إن نطق حسين:
“مِسك… عايز أتجوز مسك.”
حتى أغمض حسن عينيه بتنهيدة راحة، كأن حملًا أزيح عن صدره، في المقابل ضحك موسى بخفةٍ مصطنعة، ثم قال وهو يهز رأسه:
“بلاش هبل يا حسين، مسك مين؟ أنت شوفتها فين أصلاً علشان تقول إنك عايز تتجوزها؟
”
ضيّق حسين عينيه كمن يستحضر ذكرى بعيدة، ثم قال بهدوء:
“يوم فرحك… لا، يوم عزالك، شوفتها يوم ما كنا بنطلع العزال بتاعك.”
تطلّع إليه موسى لثوانٍ، محاولًا أن يلتقط في ملامحه أي أثر للمزاح، قبل أن يتمتم بنبرة متوترة:
“بلاش هزار يا حسين، لحقت تحبها إمتى؟”
ابتسم حسين ابتسامة بالكاد ترى، وأجاب ببرود:
“هو أنا لازم أحبها؟”
انفجر كارم ضاحكًا بصوتٍ عالٍ، بينما تجمّد وجه موسى في مكانه، وكأن الكلمة أصابته في صميمه، ثم التفت نحو سامي في محاولة لإنقاذ الموقف وقال بعصبية:
“ماتقول يا حاجة يا كبيرنا!”
ضحك سامي، وهو يحاول كبح صوته:
“أنا مش شمتان، بس مبسوط أوي… حسين بيخلص اللي عملته فيا زمان.”
ارتفع حاجبا موسى بدهشة واستنكار، وبدأ ينظر حوله يبحث عن دعم بين الوجوه، ليجد كارم ومحسن يضحكان بلا رحمة، بينما رفع حسن يده كمن يعلن براءته من الفوضى.
أما حسين، فبقي جالسًا في مكانه بثباتٍ مستفز، عيناه هادئتان وابتسامته بريئة كطفلٍ لا يدرك كم يثير غضب من أمامه، ثم قال أخيرًا بنبرة ثابتة:
“ها، قولت إيه؟”
تلعثم موسى قليلًا، وهو يردد ببلاهة:
“في إيه؟”
رد حسين ببرودٍ قاتل:
“في الجواز… هتقولها وهتقول لأهلها ولا إيه؟”
حاول موسى أن يلمّ شتات نفسه وهو يقول بحنقٍ واضح:
“أيوه… أنت عايز إيه بالظبط؟”
تدخّل كارم ضاحكًا، وصوته يملأ الغرفة بخفةٍ لاذعة:
“ياعيني… ده اتصدم!”
انفجرت ضحكات سامي ومحسن تتردد في أرجاء المكان، صافية ومفعمة بالسخرية، بينما ظل موسى متيبس الملامح، يحدق في وجه حسين الذي قابله ببرودٍ مدهش، نظرة ثابتة لا تَشي بشيء، قبل أن يعيد سؤاله بجمودٍ متعمّد:
“هتقولهم ولا إيه؟”
ضغط موسى شفتيه في محاولةٍ لاحتواء انفعاله، ثم زفر زفرةً طويلة خرجت منها كل دهشته واستسلامه معًا، وقال بنبرةٍ مشوبة بالتهكم:
“ماشي، هوصل رسالتك حاضر… بس ماليش دعوة لو رفضوك.”
لم يرمش حسين وهو يجيبه بثقة هادئة، وكأن الرفض احتمال لا يخصه:
“أنا بترفضش.”
توالت الضحكات من جديد، حتى حسن الذي كان أكثرهم اتزانًا، ضحك وهو يحرك رأسه بيأس من تصرفات توأمه.
أمّا موسى، فبقي يحدق في حسين لحظةً طويلة، قبل أن ينهض بتثاقلٍ واضح، ويقول بنبرةٍ تجمع بين الإحباط والسخرية:
“أنا همشي… علشان حاسس إن دراعي الشمال بقى تقيل.”
ارتفعت ضحكة سامي حتى كادت تُغرق المكان، فالتفت نحوه موسى متهكمًا وقال وهو يشير إليه بإصبعه:
“اضحك، اضحك… مبسوط إنت فيا؟”
أجابه سامي على الفور، والابتسامة لا تفارق وجهه:
“أوي… أوي.”
طالعه موسى بغيظٍ واضح، حاجباه معقودان ونفسه يتسارع كمن يحاول كبح انفجارٍ وشيك، ثم التفت مغادرًا بخطواتٍ حادة، تخفي في وقعها خليطًا من الغضب والغيظ.
وخلفه، كانت الضحكات ما تزال تتعالى، ساخرة، متشابكة النغمات كأنها تُحيي فوضى صغيرة.
أما حسين، فظل جالسًا في مكانه، يتابعه بنظرةٍ هادئة، واثقة، وكأنه لم يُلقِ حجرًا في ماءٍ راكد… بل كان ينتظر الموجة التالية فقط.
_________________
خرجت من المطبخ بخطواتٍ هادئة، تحمل كوب الماء بكل عناية، وانعكاس الضوء يلمع على سطحه الساكن.
اقتربت من غرفة المعيشة حيث جلس مصطفى، مدت له الكوب بابتسامة دافئة وقالت برقة:
“اتفضل يا خالو.”
ابتسم لها مصطفى، تلك الابتسامة التي تجمع بين الحنان والإرهاق، وتناول الكوب قائلاً:
“شكرًا يا حبيبة خالو.”
سألته مسك وهي تميل برأسها قليلاً:
“أحضرلك العشا؟”
أجاب وهو يضع الكوب على المنضدة برفق:
“لأ، أنا اتعشيت مع أدهم برّه، تسلمي يا حبيبتي… جدك نام؟”
“لأ، قاعد بره في البلكونة.”
أومأ مصطفى وقال وهو يهمّ بالوقوف:
“تمام، أنا هطلع له بقى.”
ردّت بابتسامةٍ خفيفة:
“ماشي.”
تحرّك بخطواتٍ بطيئة نحو الشرفة، لكن صدى جرس الباب اخترق سكون البيت، فتوقف في منتصف الطريق، ونظر نحوها مستفسرًا بعينيه.
بادرت مسك بالقول وهي تتقدم نحو الباب:
“أنا هفتح.”
اقتربت بخطواتٍ ثابتة نحو الباب، وضعت يدها على المقبض، وفتحته بهدوءٍ لتفاجأ بوجه موسى يطل من خلفه، بملامحه المعتادة التي تجمع بين العناد والسخرية.
ابتسم ابتسامةً جانبية وقال بنغمةٍ خفيفة فيها بعض العبث:
“مساء الخير يا فنانة.”
ردّت عليه سريعًا، وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها:
“أهلاً يا سوسة.”
تبدلت ملامحه في لحظة، وقطّب حاجبيه قائلاً بغيظٍ خفيف:
“تعالي ورايا يا بت.”
رفعت حاجبها بتحدٍ ساخر، ثم خطت أمامه قائلة بنغمةٍ لاذعةٍ لطيفة:
“قصدك أجي قدامك.”
تبادل الاثنان نظراتٍ سريعة، فيها ما يشبه المبارزة الصامتة المعتادة بينهما، قبل أن يتدخل مصطفى بصوتٍ يحمل مزيجًا من الحزم والحنان، وهو يهز رأسه بيأس:
“لا حول ولا قوة إلا بالله، مش كبرتوا على الحاجات دي؟”
أشارت مسك بيدها نحو موسى الذي جلس على الأريكة متصنعًا الهدوء وقالت بجديةٍ مصطنعة:
“قوله الكلام ده يا خالو، هو اللي بيستفزني.”
حوّل مصطفى نظره إلى موسى وسأله بنبرةٍ متزنة:
“خير يا موسى؟ فيه حاجة حصلت؟”
رد موسى بعد لحظة صمتٍ قصيرة، وصوته هذه المرة أقل خفةً وأكثر جديةً:
“في حاجة حصلت… بس مش عارف إذا كانت خير ولا لأ.”
تجهم وجه مصطفى قليلًا وقال بقلقٍ واضح:
“قلقتني، في إيه؟”
عندها، التفت موسى نحو مسك، ثم نطق ببطءٍ وحذرٍ كمن يضع قنبلة على الطاولة:
“حسين… عايز يتقدّم للفنانة.”
اتسعت عينا مسك فجأة، واتسع فمها بدهشة حقيقية وهي تردد بصوتٍ مرتفع قليلاً:
“حسين مين؟”
ردّ موسى ببرودٍ ساخر وهو يرفع حاجبيه:
“هيكون حسين من يعني؟ نعرف كام حسين إحنا؟”
تجهمت ملامحها وهي تقول بحدةٍ لا تخلو من استغراب:
“قصدك الواد النعسان ده اللي أنت مصاحبه؟”
انفجر موسى ضاحكًا، ثم ابتلع بقايا الضحك وقال مازحًا:
“حلو أوي الواد النعسان ده! أهو الواد النعسان ده عايز يتجوزك… ليه؟ والله ما أعرف!”
في تلك اللحظة، تحرّك مصطفى من مكانه بخطواتٍ ثابتة واقترب منهما، ونظره ثابت في وجه موسى وهو يسأله بنبرةٍ جادةٍ:
“إنت بتتكلم جد يا موسى؟”
توقف موسى عن الضحك تدريجيًا، ثم أجابه بصدقٍ هذه المرة:
“هكون بهزر في الموضوع ده يا عمي؟”
وقبل أن يضيف أحدهم شيئًا، فُتح باب الشرفة، وظهر محمد، الذي كان حديثهم قد وصل إلى مسامعه، فدخل بخطواتٍ واثقة وصوته يحمل وقار القرار:
“وماله يا موسى.”
التفتت الأنظار كلها نحوه في لحظةٍ واحدة، حتى الهواء في الغرفة بدا وكأنه توقف انتظارًا لما سيقول.
تابع محمد وهو يتقدم ببطءٍ نحوهم، نبرته ثابتة ومطمئنة كعادته حين يحسم الأمور:
“هنبلّغ عمتك وعمّك كمال دلوقتي، وبعدين نحدد ميعاد علشان ييجوا يقابلونا هنا إن شاء الله… بدل ما نروح إسكندرية.”
لمعت الدهشة في عيني موسى، لم يتوقع أن يلقى قبولًا بهذه السرعة، أما مسك فقد كانت الصدمة تشتعل في وجهها، رفعت يديها بتوتر وقالت بحدةٍ ممزوجة بالرفض:
“بس أنا مش موافقة يا جدو! مش عايزة أتجوز دلوقتي!”
اقترب محمد منها أكثر، وقف أمامها، ثم قال بنبرته العميقة التي تجمع بين الحنان والحسم:
“استني الأول لما تقابليه، وساعتها ابقي قرّري هترفضيه ولا لأ… أنتِ رافضة لحد دلوقتي تلاتة من غير حتى ما تقابليهم، أمك قايلالي.”
انخفضت نظرات مسك بخجلٍ مرتبك، تاهت عيناها بين أطراف السجادة وكأنها تبحث عن مفرٍّ من صرامة صوته الهادئ.
بينما رفع محمد يده ووضعها على وجنتها برفقٍ، وقال بصوتٍ دافئٍ مطمئن:
“هو أنتِ يعني لو وافقتي على عريس، هتتجوزيه تاني يوم؟ لأ طبعًا… مش هتتجوزي غير لما تخلصي كليتك، وتشتغلي لو عايزة، وماحدش هيقدر يجبرك على حاجة أنتِ مش عايزاها… خليكِ فاكرة ده يا حبيبة جدك.”
ارتجف قلبها تحت نبرته المطمئنة، وضمت شفتيها في صمتٍ طويل قبل أن تومئ بخفة، وعينيها تلمعان بامتنانٍ خافت، ابتسم محمد عندها، وربّت على وجنتها بحنانٍ صادق، كأنه يطبع الأمان على ملامحها.
وفي الخلف، كان موسى يراقب المشهد كله بدهشةٍ لا تخفى، عيناه تتنقلان بين جده والأخيرة، وفمه مفتوح قليلًا كمن يعجز عن استيعاب ما يرى، ثم تمتم بصوتٍ منخفضٍ كأنه يكلم نفسه:
“هي دي أحلام العصر؟؟؟ حسين ومسك؟!!… يع.”
_________________
في جهة أخرى…
دوّى صوت الزغاريد في أرجاء الشقّة كطلقة فرحٍ مفاجئة، هزّت السكون وأغرقت المكان ببهجةٍ غامرة.
كانت أمّه أوّل من تلقّى الخبر منه، وما إن فهمت معناه حتى انطلقت زغرطتها الأولى من قلبها قبل شفتيها، صافيةً، عفويةً، تحمل كل مافي الدنيا من فرحٍ أموميّ.
راحت تردد بفرحٍ صادق وهي تمسك وجهه بكلتا يديها وتقبّله على وجنتيه:
“علشان كده إنت حبيبي… أنا قلت مفيش غيرك هيفرحني! حبيب قلب أمّه يا ناس، اللي هيتجوّز!”
كانت كلماتها تتدفق كنبع حنانٍ لا ينضب، بينما هو يبتسم في ارتباكٍ لطيف، بين دهشة الموقف ودفء يدَيها على وجهه.
وخلفها، وقف
حسن
و
محسن
صامتين، يتبادلان نظراتٍ فيها مزيجٌ من العطف والدهشة، يراقبان المشهد كما لو كان لقطةً من فيلمٍ عاطفيّ لا ينتمي تمامًا إلى الواقع.
ابتعدت الأم أخيرًا وهي تمسح دموع الفرح التي علقت في عينيها، وتقول بحماسٍ لا يُكبح:
“هروح أتصل بأبوك وأبلّغه بالخبر!”
وغادرت بخطواتٍ سريعة بحثاَ عن الهاتف، لتُخبر زوجها الذي لا يزال في المسجد، بينما بقي الصمت الثقيل في أعقابها يملأ الغرفة.
جلس
حسين
على أقرب أريكة، تنفّس بعمقٍ وترك كتفيه يسترخيان
، بينما
اقترب منه
محسن
بخطواتٍ خفيفة، وجلس إلى جواره، ثم مال نحوه مبتسمًا بخبثٍ أخويّ وقال بسخريةٍ محبّبة:
“كسبت رضى أمّك كده يا سِحس… برافو عليك.”
لم يرد حسين، واكتفى بابتسامةٍ قصيرةٍ جانبية، قبل أن يقترب
حسن
هو الآخر بخطواتٍ جادّة، يقف أمامه بثباتٍ ونبرته تختلف تمامًا عن نغمة أخيه، إذ قال بجدّيةٍ واضحة وصوته يحمل ما يشبه التحذير:
“حسين…”
رفع
حسين
عينيه نحو شقيقه الذي قال بجديةٍ حازمة:
“خلينا نتكلم جد يا حسين… أنت عايز تتجوزها ليه؟ وجاوبني بصراحة، من غير لف ولا دوران.”
مال حسين بجسده إلى الخلف، استند إلى ظهر الأريكة، وأطلق زفرةً طويلة قبل أن يجيب ببساطةٍ أربكت الجو كله:
“علشان أكلها حلو.”
انتفض جسد
محسن
من مكانه وراح يضحك بلا تحفّظ، بينما ظل وجه
حسن
متيبسًا، يرمقه بعدم تصديق:
“أنا قلت نتكلم جد، يا حسين.”
رفع حسين حاجبيه باستغرابٍ خفيف وقال ببرود:
“وأنا بتكلم جد يا حسن، من إمتى وأنا بهزر في الحاجات دي؟”
تدخّل محسن وهو يحاول حبس ضحكاته:
“معلش بس سؤال بريء… دُقت فين أكلها علشان تعرف إذا كان حلو ولا لأ؟”
لم يلتفت إليه حسين، واكتفى بالقول بنبرةٍ كأنه يسترجع طعماً قديماً:
“في عزال موسى… كانت عاملة رز بلبن، من يومها والطعم لسه في بقي.”
أغمض
حسن
عينيه، وهز رأسه ببطء كمن يحاول أن يستوعب حجم العبث الذي سمعه لتوّه، ثم قال بنبرةٍ متحملةٍ للغضب بصعوبة:
“يعني أنت عايز تفهمنّي إنك اخترت الإنسانة اللي هتكمل معاها حياتك… بناءً على طبق رز بلبن؟!”
رفع
حسين
كتفيه بخفة، وعلى وجهه ملامح اللامبالاة المعتادة، ثم قال بهدوءٍ أقرب إلى العبث منه إلى الجدية:
“آه… أنا عايز واحدة أكلها يكيّفني، وهي أكلها كيّفني.”
ابتعد
حسن
بعينيه عنه كأنه يخشى أن يستمر في النظر إلى هذا المنطق المثير للغيظ، ثم مرر كفه على وجهه في تعبٍ صامت وقال:
“أستغفر الله وأتوب إليه، إنه كان غفّاراً…”
زفر ببطء، كمن يحاول استجماع صبره المتبقي، ثم التفت إليه مجددًا بنبرةٍ أكثر هدوءًا ولكن مشحونة بالعقل والقلق:
“حسين، ده جواز يا حبيبي… حياة كاملة، مش نزهة، حضرتك عايز تبنيها على أكلة؟ ده كلام مايقولهوش حتى عيل صغير لسه بيسنّن!”
رد حسين ببساطةٍ باردةٍ جعلت الدم يصعد إلى وجه أخيه:
“بس أنا قولته… وعادي.”
ظل
حسن
يرمش مرتين متتاليتين في محاولة لاستيعاب الرد، بينما انفجر
محسن
ضاحكًا وهو يشير إلى حسين قائلًا:
“أقسم بالله أخوك بيفكر ببطنه مش بعقله!”
لكن
حسن
لم يضحك، بل تنهد بثقلٍ ثم قال بنبرةٍ خافتة لكنها مشبعة بالجدية:
“بُص يا حسين… أنت كبير، آه، بس مش عاقل… لازم تعقل وتفهم يعني إيه علاقة أصلاً، الجواز مش لعبة، ده مسؤولية وحياة كاملة بتتبني على وعي مش على مزاج، بس يمكن… يمكن ربنا ليه حكمة في اللي بيحصل، ويمكن الجوازة دي تكون سبب إنك تعقل وتشيل مسؤولية أخيرًا… بدل اللامبالاة اللي عايش فيها دي… الله أعلى وأعلم.”
توقفت عيناه عند وجهَي
محسن
و
حسين
لثوانٍ طويلة، وكأنه يريد أن يطبع في ذاكرتهم ما قاله، قبل أن يزفر أخيرًا ويقول بصوتٍ هادئٍ كختامٍ لنقاشٍ أثقل روحه:
“تصبحوا على خير.”
ثم
تحرك من مكانه بخطواتٍ بطيئة واتجه نحو غرفته، تاركًا وراءه صمتًا كثيفًا لا يقطعه سوى صوت أنفاسهم المتتابعة.
تبادَل الأخوان نظرة قصيرة، ثم عاد
حسين
ليسند رأسه إلى ظهر الأريكة، يحدّق في السقف بعينين ساكنتين متظاهراً باللامبالاة، لكن… كانت كلمات الأخير تتردد داخله بلا صوت… كأنها تركت أثرها، كندبة صغيرة بدأت لتوّها في التشكل على صفحة قلبه.
_________________
بعد ثلاثة أيام…
وتحديدًا في مساء الخميس، اكتسى بيت الحاج محمد بأجواءٍ مزيجةٍ من الترقّب والدفء، كأن الجدران نفسها تنتظر ما سيُقال وما سيتقرر.
اجتمع الجميع في غرفة المعيشة؛ من جهةٍ جلس حسين إلى جوار والده وأخويه، يحمل ملامح هادئة تخفي اضطرابًا خفيًّا، ومن الجهة المقابلة جلست عائلة مسك: والداها، وشقيقتها، وأعمامها الأربعة، وجدها الذي لم تفارق ملامحه الوقار المعتاد، إضافةً إلى موسى ودلال اللذين جلسا متجاورين يتبادلان النظرات المترقبة.
بعد كلماتٍ تمهيدية قصيرة من الشيخ سالم، تم الاتفاق بين العائلتين على أن يجلس حسين ومسك معًا ليتحدثا قليلًا، “فإن وجد القبول بينهما، تُقرأ الفاتحة”، كما قال الشيخ بصوته الهادئ الحازم.
نُقلت الأنظار كلها نحو الشرفة التي فُتح بابها على اتساعه، بحيث يرى الجميع ما يدور هناك، تطبيقًا للعادات المرعية في مثل هذه المواقف.
جلست مسك أولًا على المقعد المقابل للباب، تتحاشى النظر إلى الداخل حيث الوجوه المترقّبة، ثم تبعها حسين بخطواتٍ ثابتة ظاهريًا، لكنه شعر بأن دقات قلبه تسبق خطواته بسبب التوتر.
تبادلا نظرةً سريعة مرتجفة، كأنّ كلاً منهما يحاول أن يقرأ الآخر في صمتٍ قبل أن تبوح الكلمات بما تخفيه العيون.
ساد سكونٌ قصير بينهما، سكون لم يقطعه سوى نسمةٍ خفيفة داعبت ستائر الشرفة وأوراق الورد المزروع في الركن، فانتشرت رائحته الهادئة كأنها تمهّد لولادة حديثٍ لا يعرفان كيف سيبدأ، ولا إلى أين سينتهي.
تنفّس حسين بعمق، كمن يستجمع شجاعته الأولى، ثم قال بنبرةٍ واثقةٍ، هادئة:
“خليني أعرّفك على نفسي بالتفصيل…”
أومأت له مسك برأسها، فتابع وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا قدر استطاعته:
“أنا حسين سالم حجازي، عندي خمسة وعشرين سنة، بشتغل كول سنتر في شركة سفر وطيران… معنديش شقة حالياً، بس ناوي أشتري إن شاء الله في المكان اللي تحبيه، و… وبس، مش لاقي حاجة أقولها غير كده بصراحة.”
ابتسمت مسك بخفةٍ لم تدم طويلًا، ثم قالت بهدوءٍ:
“تمام… أنا مسك كمال يونس، عندي واحد وعشرين سنة، في كلية فنون جميلة، فاضلي سنة وأتخرج إن شاء الله، وحلمي إن لوحاتي تتعرض في معارض كبيرة، وتتعرض في كل العالم… نفسي أبقى مشهورة زي بيكاسو ودافنشي.”
نظر إليها حسين بإعجابٍ صادق وقال ببساطةٍ خالية من التكلّف:
“إن شاء الله، مفيش حاجة بعيدة عن ربنا.”
ساد صمتٌ جديد، لكنه هذه المرة لم يكن ثقيلاً، بل كأنه مساحة للتفكير، قبل أن تسأله بنبرةٍ حذرةٍ ولكنها جادّة:
“أنت عندك مشكلة إني أكمل في الرسم بعد الجواز؟”
رفع حاجبيه بدهشةٍ خفيفة ثم أجابها بثقةٍ ودفءٍ غير مصطنع:
“أبداً… ده شغفك، وحاجة بتحبيها، بالعكس أنا هدعمك فيها، وهفتخر بيها كمان.”
رفعت مسك نظرها نحوه للحظة، تتأمل ملامحه التي اتسمت بالهدوء والصدق أكثر مما توقعت، ثم قالت بنبرةٍ أقرب للدهشة:
“يعني مش هتطلب مني أسيب الكلية ولا الرسم؟”
ابتسم حسين بخفة، ابتسامة خالية من التكلّف، وقال بصوتٍ منخفض لكنه ثابت:
“لو الرسم جزء منك، يبقى تسيبه ليه؟ بالعكس، نفسي تبقي اللي نفسك تكونيها… وأنا أبقى فخور إنك مراتي.”
تسللت كلماته إليها بهدوءٍ يشبه دفء المساء، ذلك الهدوء الذي لا يعلو صوته لكنه يترك أثره في القلب.
شعرت للحظة وكأنها تسمع وعدًا لا يشبه الوعود التي اعتادت سماعها، ومع ذلك ظلّت الحذرَة التي بداخلها تقاوم ذلك الإحساس، فقالت بنبرةٍ متزنة تخفي خلفها ارتباكًا طفيفًا:
“كلهم بيقولوا كده قبل الجواز… وبعد الجواز كل ده بيتبخّر.”
ردّ عليها فورًا، بعينين ثابتتين وصوتٍ يحمل يقينًا بسيطًا لكنه قاطع:
“أنا مش من كلهم.”
ضحكت بخفّةٍ قصيرة على طريقته في الرد، لكنها سرعان ما استردّت هدوءها، وأمالت رأسها قليلًا وهي تقول:
“بتعرف تطبخ؟”
قطّب حاجبيه بدهشةٍ لم يستطع إخفاءها، وردد بارتباكٍ خفيف:
“إيه؟”
أعادت السؤال بنفس الجدية:
“بتعرف تطبخ؟”
ورغم غرابة السؤال بالنسبة له، إلا أنه أجابها بسرعةٍ، ظانًا أنها تريد التعرف على اهتماماته أكثر، أو ربما لتقارن بين ذوقيهما في الطعام:
“آه، آه بعرف… أنا مش بطبخ كتير، بس بعرف… والحقيقة، كل اللي داق أكلي قال عليه حلو.”
ابتسمت بخفّة، وأخفضت عينيها للحظة وهو تومأ، كأنها تحاول أن تخفي ابتسامتها الحقيقية، فيما ظل هو يراقبها بصمتٍ غريب… صمت لم يكن مشوبًا بالحيرة، بل كان ملئًا بإدراكٍ عميق، إدراكٍ مفاده أن هذه اللحظة قد تغيّر كل شيء.
ربما يجلس الآن أمام من ستغيّر إيقاع حياته بالكامل، وربما… إذا وافقت، ستبدأ حياة جديدة، صفحة لم تُكتب بعد، تنتظر خطواتهما الأولى نحوها.
_________________
“أمين.”
ترددت الكلمة في أرجاء البهو بعد أن انتهوا من قراءة الفاتحة، وكأن صداها يختلط بخفقات القلوب، فقد وافقت
مِسك
، مخالفةً كل التوقعات، وأولهم توقعات
موسى
الذي وقف مذهولًا، عينيه تتسعان وكأن عقله لم يستوعب ما يحدث أمامه، وكأنه غاب عن الواقع للحظة قصيرة.
لكن سرعان ما عاد إلى وعيه على صوت
دلال
، التي دفعت ذراعه برفق وقالت:
“موسى…”
نظر لها مذهولًا، فقالت بنبرة محملة بالدهشة:
“روحت فين يا بني؟ ما قرأتش معانا الفاتحة ليه؟”
ارتبك
موسى
، وعيناه تتسعان قليلاً وهو يرفع حاجبيه قائلاً بصوتٍ مشوب بالدهشة:
“فاتحة إيه؟”
ردّت عليه
دلال
بنبرة سريعة، وكأنها تحاول إدراك ما يحدث معه:
“فاتحة إيه؟ أنت كنت نايم ولا إيه؟ ما سمعتش كمال لما قال إنها وافقت ولا إيه؟”
تلعثم موسى، وسألها مستغربًا وهو يحاول استيعاب الحدث:
“هي بجد وافقت… يعني اللي أنا فيه ده حقيقة، مش حلم؟”
رفعت دلال يدها لتلمس جبينه، وعينها مليئة بالقلق والاستغراب في آنٍ واحد، وقالت:
“مالك يا بني؟ أنت سخن؟”
تنهد موسى بحيرة، ثم أجاب بصوتٍ خافت لكن مليء بالذهول:
“لأ… أنا مصدوم، مصدوم يا دلال، مش متخيل لحد دلوقتي إن… إن حسين ومسك، مسك وحسين… بجد، إيه العلاقة دي؟”
ابتسمت
دلال
بخفة، وعيناها تتجولان نحو
حسين ومسك
اللذين جلسا متقابلين، وقالت بنبرة هادئة:
“مالهم يا بني، مالايقين مع بعض أهم.”
نظر
موسى
إليهما بعينين متسعتين، وصوته يحمل مزيجًا من الدهشة والتعجب:
“لايقين على بعض من أي ناحية؟ قوليلي، حسين عامل زي حيوان الكسلان اللي بيصحى من نومه عشان ياكل وبعدين يرجع ينام… ده بيكسل حتى يتكلم، ومسك حيوية وبتحب الحركة أوي، غير إنها دلوعة ومحتاجة حد يدلعها… وحسين آخره ياخدها على قد عقلها.”
تنهدت دلال، وهي تحاول أن تزرع الطمأنينة في قلبه، وقالت بابتسامة هادئة:
“ماجايز ربنا كتبلهم يكونوا لبعض عشان يتغيروا؟ وكل واحد يصلح اللي فيه عشان التاني… وبعدين دي قراية فاتحة لسه، ليه محسسني إنهم اتجوزوا خلاص؟”
ظل موسى صامتًا للحظة، عيناها تتابعان الحركتين المتقابلتين لكلاهما، وكأن عقله يحاول استيعاب أن ما يبدو له الآن غريبًا ومتناقضًا، قد يكون في الحقيقة بداية لحكاية تُعيد ترتيب قلوب الجميع.
خرج من أفكاره على صوت
دلال
مجددًا، تقول بنبرة حماسية مخلوطة بالغموض:
“صح، أنا عايزة أتكلم معاك من زمان في موضوع ومش عارفة أتلم عليك.”
ارتفع حاجباه بدهشة، وقال:
“موضوع إيه؟”
أمسكت
دلال
بذراعه برفق، وسحبته قليلًا نحو الشرفة، قائلة:
“تعالى معايا.”
خرجا معًا، والنسيم المسائي يمر بينهما، وقفا يراقبان الأفق، قبل أن يسألها مجددًا بفضول:
“ها، فيه إيه؟؟”
تنهدت دلال، وابتسامة صغيرة ترتسم على وجهها، قبل أن تقول بحماس:
“عندنا ثنائي جديد.”
ارتفع حاجباه مرة أخرى، وكأنه يحاول أن يستوعب كلامها:
“أيوه… اللي قروا فتحتهم دول صح؟”
هزت رأسها بخفة، وكأنها تحب أن تجعل الأمر أكثر إثارة:
“لأ…”
قفز الفضول في قلبه، وعيناه اتسعتا، وصوته ارتفع بحنق ممزوج بدهشة:
“مين تاني؟ هو موسم الارتباط ولا إيه؟”
رفعت
دلال
يدها بسرعة ووضعتها على فمه، محاولةً منع صوته من الإرتفاع، وقالت بخفة:
“بس يا فضحية، محدش يعرف… وطي صوتك.”
أومأ بالايجاب، فأبعدت يدها عن فمه، وحينها لم يستطع كبح فضوله، وسألها بنبرة مترقبة ومليئة بالسخرية:
“مين الثنائي… يلا اجلطيني!”
ابتسمت دلال ابتسامة صغيرة، وكأنها تستمتع بتعذيبه قليلاً، ثم قالت بهدوء:
“بصراحة… هما لسه مابقوش ثنائي، بس إن شاء الله يبقوا… الموضوع إنه هي بتحبه، بس مش عارفين هل هو بيحبها ولا لأ.”
ارتجف قلبه قليلاً، وعيناه تشع فضولاً، وهو يصرخ:
“هي مين؟ وهو مين؟ انجزي!”
ضربته بخفة على ذراعه وهي تضغط على أسنانها، وقالت بنبرة تهديدٍ مرحة:
“وطي صوتك وإلا أرميك من هنا.”
ابتسم هو بسخرية خفيفة، وردّ وهو يرفع حاجبه:
“أنتِ اللي بطلي تشويق… قولي من دول قبل ما أبعتك لفوق.”
عضّت شفتيها بغيظ، وزفرت بقوة، ثم قالت دون تردد:
“لينا وحسن.”
تجمد للحظة، ثم أخذ يومأ برأسه، وهو يردد ببطء:
“آاااه…”
حدقت فيه بدهشة، وسألته:
“مالك؟”
تنهد وأجاب بصوت هادئ لكنه صادق وإن لم يخلو من المرح:
“لأ… بس كنت متوقع بصراحة، أصلاً أنا ملاحظ النظرات اللي بينهم من البداية… اللي قدامك خبير في الحب وبيفهم في النظرات.”
ابتسمت وهي ترفعه بتلميح من عينيها، وقالت بنبرة مليئة بالحماس والمغامرة:
“طالما أنت خبير في الحب بقا… فاحنا عايزين نعرف إذا حسن بيبادلها المشاعر ولا لأ، ودي مهمتك يا بطل… عشان لو آه، نبقى بنعمل خير ونفوق راسين في الحلال.”
رفع حاجبه بامتعاض، وقال بصوت حانق ممزوج بالاستنكار:
“هو أنا هشتغل خاطبة، كل يومين حد يجيلي علشان أوفق راسين في الحلال.”
ضحكت دلال بخفة، وقالت:
“أعمل خير… عشان يتردلك.”
رفع حاجبه مرة أخرى بتساؤل ساخر:
“يتردلي في مين؟”
ابتسمت بخفة، وأجابته وهي تميل عليه قليلًا:
“في عيالك.”
تنهد وهو يهز رأسه، وقال بنبرة مازحة:
“مش هجوزهم… هقعدهم جنبي.”
اقتربت منه خطوة، وعيناها تحملان لمسة من الحزم والود في آن واحد، وقالت بنبرة شبه توسل:
“موسى…”
نظر إليها بطرف عينه، وقال:
“نعم…”
ابتسمت بخفّة، ونظرت إليه بعينين ملؤهما الحنان، وقالت:
“علشان خاطري.”
طلعه نظرَةٍ قصيرةٍ إليها، ثم تلاشى عناده كدُخانٍ يبهت أمام الهواء، وتنهد بلا حيلةٍ قبل أن يهمّ بالكلام:
“المفروض أعمل إيه؟”
ضحكتْ دلال انتصارًا، وامتلأت ملامحها بسعادةٍ طفولية، ثم نادت عليه بأمرٍ يبدو بسيطًا لكنه حاملةٌ لثقل المهمة:
“جسّ نبضه، يعني حاول تعرف إذا كان واقع ولا لأ… مش صعب عليك يا موسى، ده أنت موسى.”
لم تستغرق الكلمات حتى كسرت الحاجز الأخير في صدره، فابتسم بلا وعيٍ وقال وهو يستعيد جزءًا من كبريائه:
“مظبوط… مش صعب عليّا، أنا موسى.”
اقتربت منه ووضعَت يدها على كتفه بحنانٍ ودعابةٍ في آنٍ، ثم همّت بالأوامر اللاحقة:
“لما تنفّذ المهمة بلغني على طول بالنتيجة.”
التفت نحوها بطرف عينه، والابتسامة تجرّها السخرية على فمه:
“أديكِ تحية عسكرية دلوقتي ولا إيه؟”
قهقهت وهي تضربه بخفة على كتفه، فابتعد خطوة ممسكًا بذراعه متصنعًا الألم وقال:
“إيدك بقت طويلة كده ليه؟ مش كفاية كان لسانك؟”
أشارت له بيدها مهدّدة، وقالت بحنق:
“طب امشي من قدامي بقى، علشان إيدي ما تطولش أكتر من كده وتروح لمراتك قطع.”
ضحك بصوت عالٍ وهو يلوّح بيده مستسلماً:
“أعوذ بالله، ده أنا المفروض أخاف على خالو منك!”
أنهى جملته وهو يولي ظهره لها ويدلف إلى الداخل، بخطواتٍ تحمل خفة ساخرة واستخفافًا متعمدًا، كأنه يهرب من معركةٍ صغيرة انتصر فيها بالكلام لا بالفعل.
تبعته بعينيها للحظة، حاجباها مرفوعان بضيقٍ يختلط بدهشةٍ غير مصدقة، ثم أفلتت منها زفرةٌ متوترة تبعتها ابتسامة نصفها غيظ ونصفها رضا، كأنها تستسلم في كل مرة لذلك الجنون الذي يجمعهما.
هزّت رأسها ببطء، وهمست بتهكمٍ دافئ وهي تولج خلفه:
“احنا مجانين والله…”
وكانت صادقة، فهما بالفعل كذلك… مجنونان بطريقتهما الفريدة.
يضحكان حين يُفترض أن يغضبا، ويتشاجران على أتفه الأمور كأنهما طفلان، ثم لا يلبثان أن يتآمرا معًا على الدنيا بأكملها.
أحيانًا يتفقان، وأحيانًا يختلفان حدّ الصخب، لكن شيئًا واحدًا لم يتبدّل قط: حبهما، ذاك الرابط العميق الذي يطفو فوق كل خلافٍ ويعيدهما في النهاية إلى نفس النقطة… إلى بعضهما.
_________________
في اليوم التالي…
كان موسى بالقرب من الجامع، يترقب خروجه بعينٍ متيقظة وملامحٍ توحي بأنه جاء لهدفٍ واضح.
كان يعرف تمامًا أن دروسه تنتهي في هذا الوقت عادةً، لذا انتظره وهو يحدّق في ساعته بين الحين والآخر، كأن الدقائق تتثاقل عمداً لإطالة انتظاره.
وأخيرًا، لمح حسن يخرج من باب الجامع بخطواتٍ وئيدة، هادئةٍ كما اعتاد، تحيط به سكينة المكان ورصانة الوقار التي لا تفارقه حتى في أبسط تحركاته.
تحرك موسى نحوه بخفةٍ مترددة، ثم ناداه بصوتٍ مسموع:
“حسن!”
توقف حسن والتفت إليه بابتسامة خفيفة ودودة، وقال:
“إيه أخبارك؟”
اقترب موسى أكثر، وسار بجواره وهو يجيب:
“الحمد لله… أنت إيه أخبارك؟ خلصت مع العيال؟”
هزّ حسن رأسه إيجابًا، وقال بنبرته الهادئة التي تحمل دومًا شيئًا من السكينة:
“أيوه، خلصت من شوية… أومال أنت جاي منين؟”
سكت موسى لبرهة، عيناه تلمعان بخفة ماكرة، ثم قال بصوت هادئ يحاول إخفاء ابتسامته:
“كنت عند عمتي سهير… أصل في واحد عايز يتقدم للينا.”
اختفت ابتسامة حسن مباشرة، وتحفز جسده بشكلٍ لا يخفيه، وكأن كل تفاصيله استيقظت فجأة على تهديدٍ محتمل.
لاحظ موسى ذلك وابتسم لنفسه قبل أن يواصل بهدوء:
“ظابط شغال مع عمي فاروق، شافها مرة وهي رايحة تزور عمي، وأعجب بيها… ومن يومين طلب من عمي ييجي يتقدم.”
تجمد حسن للحظة، صوته منخفض لكنه مشحون بالفضول والجدية:
“ووافقتوا؟”
أجاب موسى وهو يهز رأسه قليلًا مبتسمًا بخفة:
“لا… لسه بيفكروا، بس غالبًا هيبقى فيه قبول… الشاب مش بطال، محترم، وابن ناس، وكمان تلميذ عمي.”
ظل حسن صامتًا للحظة، عيناه تحدقان نحو الأمام دون أن ينبس بكلمة، بينما موسى يراقب ملامحه الجامدة، ثم تنهد حسن أخيرًا وقال بصوت منخفض لكنه حاد:
“وهي… موافقة؟”
ابتسم موسى ابتسامةٍ جانبية، وكأنه يختبر صبر حسن، وقال:
“لسه… بتفكر.”
تجمد حسن للحظة، وزن كل كلمة بعناية، وكتم صوته الداخلي بينما حاول أن يبدو هادئًا قدر الإمكان:
“يعني… ممكن يحصل قبول؟”
ابتسم موسى بخفة، وقال بهدوء يحاول ألا يخلو من لعبٍ خفي:
“الله أعلم، بس بنسبة كبيرة ممكن يحصل.”
ابتلع حسن ريقه، محاولًا ألا يظهر ارتباكه، ثم رفع شفتيه في ابتسامة هادئة، وقال بنبرة طبيعية قدر الإمكان:
“عامةً… ألف مبروك، امبارح مسك والنهاردة لينا.”
تفاجأ موسى بردّه، لكنه قرر مجاراته، فهز رأسه وقال:
“معاك حق… تحس إن مسك فتحت الباب ليهم.”
ابتسم موسى بخفة، وربت على كتف حسن بيدٍ واثقة، وأكمل بصوت ودود ممزوج بالمرح والخبث:
“وعقبالكم أنت ومحسن، حسين فتح الباب عليكم أهو… مفيش واحدة خطفاك يا شيخ حسن كده ولا كده.”
توقف حسن عن السير، ورفع نظره إليه للحظات، بينما موسى يراقبه بدهشة خفية وكأنه ينتظر أن ينتطق اسمها ويعترف أخيرًا.
لكن حسن كسر توقعاته بابتسامة بسيطة ونبرة هادئة:
“لسه…”
ابتسم موسى بخفة، وربت على كتف حسن مرة أخرى، صوته يلمس الهواء بينهما بخفة دعابة تختلط بودّ:
“ربنا يبعتلك نصيبك ونفرح بيك قريب يا شيخنا.”
ابتلع حسن ابتسامة الامتنان، لكن داخله كان عالمًا آخر؛ بحر هائج من المشاعر والأفكار التي لا تعرف السكون.
كل كلمة قالها موسى ضربت موجة في قلبه، وأثارت أسئلة لم يجرؤ على مواجهتها من قبل: هل هذا الغضب الخفيف الذي يعتصره من مجرد ذكر اسمها لشخص آخر، ليس إلا حبًا؟ هل كل ما يشعر به من ارتباك هو صدى قلبٍ وقع فعلاً؟
ظل عالقًا بين الإدراك والخوف، يحاول تفكيك مشاعره، بينما موسى يراقبه بابتسامة خبيثة،
كأنه اكتشف الجواب قبل أن يُقال
…
فتلك
النظرة وحدها
هي إجابة صريحة، دليل على قلبٍ بدأ يميل، على مشاعر بدأت تكبر، وعلى حبٍ لم يعد يمكن إنكاره.
_________________
في جهة أخرى….
وكانت المقصودة من ذلك الحديث تجلس في غرفتها، وقد انشغلت عيناها بمشهد الفوضى الدائر أمامها.
مزيج من الأصوات يعلو ويتشابك: صراخ، تبرير، وضحكات متقطعة من قبل ضحى تتخلل التوتر.
كانت تينا تقف في منتصف الغرفة كعاصفةٍ صغيرة، شعرها المبعثر ويديها تتحركان في الهواء وهي تصرخ بكل غضبها:
“يعني إيه؟ يعني إيه تخوني العهد وتوافقي؟ مش كنتِ قايلة مش هتتجوزي دلوقتي؟ ومش هتقبلي أي عريس زيّنا؟! اشمعنا ده؟ في إيه مميز علشان توافقي يا خايِنة العهد؟!”
كانت ضحى في المنتصف، تحاول أن تحتوي الغضب وتخفف من حدة المشهد، تمد يدها نحو تينا بين الحين والآخر كأنها تحاول تهدئة بركانٍ على وشك الانفجار، فيما وقفت مسك بثقةٍ، تلقي بكلماتها ببرود مستفز ووجهٍ لا يخلو من التحدي:
“بيعرف يطبخ، هلاقي فين راجل بيعرف يطبخ؟ أنا كان أهم حاجة في جوزي المستقبلي إنه يبقى بيعرف يطبخ، علشان محسوبتك ما بتعرفش تقلي بيضة!”
انفلتت تينا من بين ذراعي ضحى محاولة الانقضاض على
مسك
، وهي تصيح بغضبٍ عارم، وجهها محمرّ وعيناها تقدحان شررًا:
“ماأنا ياما قلتلك اتعلمي تطبخي! كل مرة كنتِ بتاخديني على قد عقلي، وادي النتيجة أهي… هتتجوزي حسين اللي كنا بنتريق عليه من يومين!”
اتسعت عينا مسك قليلاً من الحرج، بينما لم تفوّت لينا الفرصة لتلقي سهمها الساخر بصوتٍ متهكمٍ هادئ:
“صحيح، من عاب على شيءٍ ابتُليَ به.”
لكن لم يلتفت إليها أحد، إذ كانت تينا ما تزال تغلي، ومسك تبرر بلهجةٍ تجمع بين الدفاع والاعتراف:
“ماأنا حاولت أتعلم بس فشلت، مفيش أمل مني، ده أنا يوم ما دخلت أقلي بطاطس كنت هولع في الشقة كلها!”
قذفتها تينا بكلمةٍ لاذعة، تقطع الهواء كالسهم:
“علشان فاشلة!”
لكن لينا، تدخلت من جديد قائلةً وهي تميل نحو تينا بنبرةٍ لاذعة:
“ياسلام! على أساس إنك أنتِ اللي شاطرة أوي في الطبخ؟ ده أنتِ لسه حارقة صينية الجلاش امبارح!”
احمرّ وجه تينا أكثر، وتحركت نظرتها بين مسك ولينا بحدةٍ، قبل أن تصرخ مجددًا وهي تشير نحو مسك:
“احنا مش فيّا أنا دلوقتي! احنا في البِت دي… اللي خانتنا!”
ابتعدت ضحى هنا عن تينا بخطوةٍ غاضبة وهي ترفع يديها في الهواء قائلة بصوتٍ انفلت من صبرها:
“هو اللي خانتنا! هي اتحالفت ضدنا مع العدو! ده هتتجوز، وكلنا في الآخر هنتجوز.”
رفعت تينا رأسها بعنادٍ حادٍّ، عيناها تبرقان كبريق السيوف، وقالت بصلابةٍ خالية من أي تردد:
“أنا مش هتجوز.”
ابتسمت ضحى ابتسامةً قصيرةً تحمل مزيجًا من سخريةٍ وواقعية، ثم أمسكت بذراع مسك وقالت بثقةٍ هادئة:
“براحتك، إحنا هنتجوز.”
بدت الصدمة على ملامح تينا، كأنها تلقت طعنةً أخرى من أقرب الناس إليها، فشهقت بدهشةٍ متألمة وصاحت:
“هتخونيني انت كمان؟! مين في حياتك؟ انطقي!”
التفتت ضحى نحو
مسك
بدهشةٍ يائسة ثم أشارت نحو تينا قائلةً بصوتٍ يرتجف بين الغضب والضحك:
“أقسم بالله البنت دي مجنونة!”
لكن تينا تجاهلتها تمامًا، واستدارت نحو لينا التي كانت جالسة تتابع المشهد بعينٍ مراقبةٍ متحفزة، وقالت ببطءٍ يحمل تهديدًا خفيًا:
“وأنتِ… ناوية تخونيني إنتِ كمان؟”
تصلبت لينا في مكانها، كأن الوقت توقف للحظة، ثم بدأت العيون كلها تتجه نحوها… مسك تبتسم بخفوت، وضحى تحدق فيها باستفهام، بينما تينا تترقب الإجابة بشغفٍ غاضب.
ارتبكت لينا، وارتفع صدرها مع أنفاسٍ مضطربة، ثم وقفت وابتسمت ابتسامةً مصطنعة وأسرعت لتكسر التركيز عنها قائلة:
“استهدوا بالله يا بنات… احنا ماكناش كده، ماكنش حسين اللي دخل بينا!”
ارتفعت يد مسك بخفة وهي ترفع ذقنها في كبرياءٍ مشاكس، وقالت بنبرةٍ هادئة، لكنها تحمل تلك اللمسة المبطنة التي تشعل غضب تينا:
“معلش يا جماعة… اسمه
خطيبي
من النهاردة
.”
ما إن انتهت الكلمة من فمها حتى انفجرت تينا بردٍ سريعٍ وحادّ:
“لسه ما بقاش خطيبك!”
أجابت مسك بثقةٍ خفيفة وهي تميل برأسها مبتسمة:
“بس هيبقى… كلها عشر أيام ونتخطب يا قلبي.”
أطلقت تينا ضحكةً قصيرة ساخرة، ثم قالت بنبرةٍ تقطر سخريةً وشفقةً في آنٍ واحد:
“والله أنا شفقانة عليكِ…
حسين
! في الآخر هتتجوزي حسين!”
تبدلت ملامح مسك فجأة، واشتعلت ملامحها غضبًا، فتقدمت بسرعة وأفلتت يدها من
ضحى
، ثم اقتربت من
تينا
خطوة بخطوة وهي تقول بصوتٍ حادٍّ ومهدد:
“لا، ما اسمحلكيش تغلطي فيه!”
لم تكد تكمل جملتها حتى كانت تينا قد رفعت يدها فجأة، تمسكت بها، ودون تفكيرٍ دفعتها بقوةٍ جعلتها تسقط على الفراش وهي تهتف بانتصارٍ غاضب:
“تعاليلي بقى… أخيرًا وقعتي تحت إيدي!”
شهقت
ضحى
بخوف، واندفعت تحاول فضّ الاشتباك، تمسك بيدٍ هذه وتبعد الأخرى، بينما الغرفة امتلأت بصوت صراخهما وضحكاتهما المتوترة، ووسائد تتناثر في الهواء كأنها تشارك في المعركة.
أما لينا، فظلت جامدة في مكانها، عيناها متسعتان وأنفاسها مضطربة، تتابع المشهد كمن يرى انعكاس مصيره أمامه، إذ تخيلت نفسها مكان مسك، وتيقنت أن لحظة انكشاف أمرها لتينا لن تكون كهذه فقط… بل ربما أشد قسوة.
_________________
مع مرور الوقت…
كان موسى يجلس في غرفة المعيشة، ضوء الشاشة ينعكس على وجهه، وأصابعه تتحرك بخفة على لوحة المفاتيح بينما يمسك هاتفه باليد الأخرى، صوته يخرج ثابتًا، مفعمًا بثقة يعرفها جيدًا:
“اطمني يا دلال، أنا شوفت إزاي ملامحه اتغيرت أول ما سمع بالخبر، الواد ده واقع من الدور العاشر، بس هو بطبعه خجول وهادي، مش هيعبر بسهولة، إنما بسبب الكدبة اللي أنا قلتها، أظن هيتشجع… مش هيتأخر كتير قبل ما يعترف ويقول إنه عايز يتجوزها.”
جاءه صوت دلال من الطرف الآخر، في صيدليتها، يختلط في الإعجاب بخفة دمها المعتادة:
“طلعت مش سهل يا سوسة أنت.”
ضحك موسى بخيلاءٍ خفيف وقال:
“عيب عليكِ… مش أنا موسى؟ يابخت اللي أنا في حياته يا بنتي.”
قهقهت دلال وهي ترد بنبرة مازحة مغموسة بالسخرية:
“انزل شوية يا أستاذ في غرورك… إحنا عندنا سقف هنا مش عايزين نكسره.”
انطلقت ضحكاته الساخرة بحرية، تلحقها ضحكاتها الرائقة على الطرف الآخر، ضحك حقيقي دافئ، حتى خفت الصوتان تدريجيًا، وساد سكون لطيف سبقه زفير متقطع من بقايا الضحك.
ثم قالت هي، بنبرة دافئة تحمل في طياتها مزيجًا من العتاب والودّ:
“يلا علشان ما أعطلكش عن شغلك أكتر من كده، لو حصل أي جديد ابقى بلغني، أوكي؟”
“حاضر.”
“باي باي.”
“باي.”
انتهت المكالمة، وساد الصمت من جديد…
وضع موسى الهاتف على المنضدة، وعاد إلى تركيزه على شاشة الحاسوب أمامه، لكن لم تمر سوى لحظات حتى اخترق الصمت صوت خطواتٍ خفيفة، تلتها همسةٌ هادئة باسمه:
“موسى…”
رفع رأسه فورًا، عينيه التقت بعينيها، فردّ بنبرة عفوية تنساب منها الحميمية:
“عيونه…”
اقتربت فيروز بخطواتٍ بطيئة حتى وقفت أمامه، ثم جلست إلى جواره بهدوءٍ، وملامحها ساكنة،
لكن عينيها فيهما ارتباكٌ واضح.
ظلّ يراقبها للحظات، حدّق في عينيها محاولًا قراءة ما خلفهما، ثم سأل بصوتٍ خافتٍ تخلله اهتمام صادق:
“عايزة تقولي حاجة؟”
أومأت بخفة، ثم ردّت بصوتٍ مائل للهمس:
“آه… بس أوعدني إنك ماتتوترش.”
رفع حاجبه بابتسامةٍ خفيفةٍ شابها التوجس وقال سريعًا:
“لا خلاص، أنا اتوترت.”
نظرت له بجدية وهي تنطق اسمه في محاولةٍ لتهدئته:
“موسى…”
رد بنفس الجدية الساخرة:
“والله اتوترت، في إيه؟”
لم تجب…
سكتت لثوانٍ ثقيلةٍ تقطر توترًا، وعيناه تتنقلان بين ملامحها في قلقٍ صامت، وهو يشعر أن قلبه بدأ يبطئ ضرباته استعدادًا لخبرٍ لا يعرف إن كان سيفرحه أم يحطّمه.
#يتبع….
الفصل التالي: اضغط هنا
يتبع.. (رواية موسى (على دروب الحكايا)) اضغط على اسم الرواية لتجد الفهرس كاملاً بجميع الفصول.